قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله
(كامل) ولم يكن الرّشيد يخاف الله، وأفعاله بأعيان آل عليّ، وهم أولاد بنت نبيّه لغير جرم، تدلّ على عدم خوفه من الله تعالى، ولكنّ أبا نواس جرى في قوله على عادة الشّعراء.
ومنها العفو. عن الذنوب، وحسن الصفح عن الهفوات: وهذه أكبر خصال الخير وبها تستمال القلوب، وتصلح النيات، فمما جاء في التنزيل من الحثّ على ذلك قوله تعالى شأنه: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ ٢٤: ٢٢ [١]، وكان المأمون حليما حسن الصّفح معروفا بذلك، هجاه دعبل الشاعر بأشعار كثيرة من جملتها:
إنّي من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرّفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
فلما بلغه هذا القول لم يزد على أن قال: قاتله الله ما أشدّ بهتانه، متى كنت خاملا وفي حجر الخلافة نشأت وبدرّها أرضعت؟! ولمّا بلغه أن دعبلا قد هجاه قال من أقدم على هجاء وزيري أبي عباد [٢]، كيف لا يقدم على هجائي؟! وهذا الكلام ظاهره غير مستقيم، وهو يحتاج إلى تأويل، فإنّه عكس المعهود، قد كان ينبغي أن يقول الوزير: من أقدم على هجاء الخليفة كيف لا يقدم على هجائي ومعنى قول المأمون: أنّ من أقدم على هجاء أبي عباد مع حدّته وهوجه وتسرّعه- وكان أبو عباد كذلك- كيف لا يقدم عليّ في حلمي وصفحي؟!.
ولولا خوف الإطالة لذكرت جماعة من حلماء الملوك في هذا الموضع، ولكن ليس هذا الفصل موضوعا للسّمر وسيرد من ذلك ما يمنع- إن شاء الله- في الفصل الثاني.
_________
[١] سورة النور، الآية/ ٢٢/.
[٢] أبو عباد: ثابت بن يحيى بن يسار الرازيّ، هو الوزير الخامس ممّن استوزرهم الخليفة المأمون، وسوف تأتي سيرته مع وزراء المأمون.
1 / 26