قال بعض الحكماء: الملك إذا كان خلوا من العلم كان كالفيل الهائج، لا يمرّ بشيء إلا خبطه، ليس له زاجر من عقل، ولا رادع من علم.
واعلم أنّه ليس المراد بالعلم في الملوك هو تصوّر المسائل المشكلة، والتبحّر في غوامض العلوم، والإغراق في طلبها، قال معاوية: ما أقبح بالملك أن يبالغ في تحصيل علم من العلوم! وإنّما المراد من العلوم في الملك، هو ألا يكون له أنس بها إلا بحيث يمكنه أن يفاوض أربابها فيها، مفاوضة يندفع بها الحال الحاضر ولا ضرورة في ذلك إلى التدقيق.
كان مؤيّد الدين محمّد بن العلقميّ وزير المستعصم [١]- وهو آخر وزراء الدّولة العبّاسية- يفاوض كلّ من يدخل عليه من العلماء مفاوضة عاقل لبيب محصّل ولم يكن له بالعلوم ملكة، ولا كان مرتاضا بها رياضة طائلة.
كان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، لكثرة مجالسة الأفاضل وخوضه في الأشعار والحكايات، يستنبط المعاني الحسنة على النّكت اللطيفة، مع أنه كان أمّيا لا يكتب ولا يقرأ.
وكان عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النّيسابوريّ [٢]﵁ لمجالسة أهل الفضل، ولكثرة معاشرتهم له، يتنبّه على معان حسنة، ويحلّ الألغاز المشكلة أسرع منهم، ولم يكن له حظّ من علم، وما كان يظهر للناس إلا أنّه رجل فاضل وخفي ذلك حتّى على الصّاحب علاء الدين، فإن ابن الكبّوش الشاعر البصري عمل بيتين في الصاحب ونسبهما إلى عبد العزيز وهما:
عطا ملك عطاؤك ملك مصر ... وبعض عبيد دولتك العزيز
تجازي كلّ ذي ذنب بعفو ... ومثلك من يجازي أو يجيز
(وافر)
_________
[١] هو محمّد بن أحمد بن العلقميّ، لقبه مؤيّد الدّين، وزير أديب أريب فاضل لآخر خلفاء العباسيين المستعصم. وثق به هولاكو بعد قتل الخليفة. توفي بعد شهور من سقوط بغداد عام/ ٦٥٦/ هـ.
[٢] عزّ الدين عبد العزيز بن جعفر النيسابورىّ، والصاحب علاء الدين، وابن الكبّوش ممّن لم تترجم لهم كتب الأعلام ويبدو أنهم من معارف المؤلف والمعاصرين له أو الملازمين لذاكرته.
1 / 24