واندلعت فكرة في نفسي فقلت: أعتقد أن أمامي عملا متواصلا. - الطريق طويل، ومنازله كثيرة، وغايته ليس كمثلها شيء. - هل ترشدني ولو إلى الخطوة الأولى؟ - اعتمد على نفسك أولا وأخيرا.
وأخذ بيدي فقادني إلى بحيرة من نور في خميلة، وأمرني بإسلام نفسي إلى أمواج أنوارها. وصدعت بالأمر، فطفوت ثواني، ومضيت أغوص على مهل ودون توقف، حتى استقررت في أعماق أعماقها. وتسربت الأمواج إلى باطني فاجتاحته .. وانبسطت أمام ناظري سلسلة الهفوات والأخطاء التي كابدتها في حياتي الأولى. وكلما تطهرت من هفوة أو خطأ تلاشت مصحوبة بآلام متفاوتة، ويخف وزني بمقدار فأرتفع عن مستقري قليلا قليلا. وتواصل الاستحمام ساعات أو أياما أو أعواما، حتى طفوت فوق سطح البحيرة. وانتقلت إلى الأرض في خفة وانشراح، ودخلت بيتي، وارتديت ثوبي من السحاب الرائق. وقررت ألا أضيع وقتا بلا عمل، وفكرت وتأملت طويلا، ثم عزمت أخيرا على أن أبدأ بالهندسة لحاجة المسافر إلى إتقان الملاحة ورسم الخرائط. وانهمكت في العمل بعزيمة لا تعرف اللين أو التردد. وساعدني على ذلك جمال الجو وثباته، فهو معتدل دائما، لا يطرأ عليه ليل أو نهار، ولا تغيره الفصول. ولا تضعف المشكلات من قوة العزائم، ولا يعترينا الضجر أو اليأس. ومن صميم ذاتي ودون أي مساعدة من الخارج تراءى لي الطريق بطوله ومنازله؛ فاطمأن قلبي إلى اختياري الهندسة كمنطلق للعمل، وازداد شوقي إلى الغاية البعيدة التي راودت أحلامي الأرضية نفسها. غير أن طارقا طرق بابي فقطع علي العمل. دهشت حقا وأذنت له بالدخول، وإذا بها - هي هي - مقبلة نحوي بجمالها القديم، وسحرها النضير في ثوبها السحابي الجديد - ما تمالكت أن فتحت ذراعي فتلقيتها على صدري بحنان وشوق، وأنا أقول: ما كنت أتصور أننا سنجتمع مرة أخرى!
فقالت بصوتها العذب: وما أتصور أن نفترق بعد الآن.
فقلت بحماس: معا .. معا .. حتى منزل السجود.
ونظرت إلى عملي ثم تساءلت: بم تبدأ؟ - بالهندسة!
قالت بقلق: بدأت بالشعر.
وتبادلنا نظرة مترقبة. وهمست بأسى: لا نستطيع أن نمضي معا.
فتساءلت بحزن: هل نفترق باختيارنا بعد ما ذقنا من مرارة الفراق القديم؟ - لن نلتقي قبل الوصول إلى منزل الحب. - إنه بعيد في الطريق.
ولكننا سنبلغه على أي حال. - ألا تستطيع أن تفعل شيئا من أجلي؟ - لا يمكنني العمل إلا بالطريقة التي تناسبني، ولعلك أيضا كذلك؟ - نعم. - رغبتي مثل رغبتك أو أشد، ولكن لا حيلة لنا.
ولاذت بالصمت، فقلت بأسف: على أي حال؛ فاللقاء آت لا ريب فيه، ولا قيمة للزمن هنا.
Page inconnue