استدارت ومضت بقامتها الرشيقة. نسيت همومها في أداء واجبها اليومي، ولكنها لم تبد في حال حسنة. أكثر من بنت قالت: «أبلة عصبية اليوم!» ولما رجعت إلى مسكنها بأول شارع الهرم، غيرت ملابسها وجلست إلى مائدة الطعام مع أمها. نظرت الأم إلى وجهها، وتساءلت: خير؟
قالت بإيجاز: بدران، بدران بدوي، تذكرينه؟ عين ناظرا على مدرستنا. - ياه!
ثم بعد قليل من الصمت: لا أهمية لذلك على الإطلاق، تاريخ قديم منسي.
بعد الطعام أوت إلى حجرة مكتبها لتستريح وقتا، ثم لتصحح مجموعة من الكراسات. نسيته تماما. كلا، لم تنسه. يطوف بها بين زمن وآخر. كيف يمكن أن ينسى تماما؟! عندما جاء لأول مرة ليعطيها درسا خصوصيا في الرياضة كانت في الرابعة عشرة، بل لم تكن أتمتها. كان يكبرها بخمسة وعشرين عاما ، وفي سن المرحوم أبيها. قالت لأمها: شكله فوضى ولكن شرحه جيد. فقالت أمها: لا شأن لنا بشكله، المهم شرحه. كان غاية في المهارة. يبعث النشاط برواية النوادر اللطيفة. أنست به واستفادت من خبرته. ولكن كيف حصل ما حصل؟ لم تفطن في ملكوت براءتها إلى أي تغير في سلوكه لتأخذ حذرها. انفرد بها ذات يوم عندما ذهب والداها لعيادة عمتها. لم يداخلها شك في رجل اعتبرته أبا ثانيا. كيف حصل ما حصل؟ بلا حب ولا رغبة من ناحيتها حصل ما حصل. تساءلت في رعب: ما هذا؟ قال لها: لا تخافي ولا تحزني، احتفظي بسرك، وسوف أخطبك يوم تبلغين السن المعقولة، ووفى بوعده. جاء وخطب. كانت بلغت درجة من النضج أتاحت لها إدراكا لأبعاد مأساتها. لم تجد نحوه أي حب أو احترام، وكان أبعد ما يكون عن أحلامها، وما تخلقت به من نقاء ومثالية. ولكن ما الحيلة؟! أبوها رحل عن دنياها قبل ذلك بعامين، وذهلت أمها لجرأة ذلك الرجل، ولكنها قالت لها: أنا عارفة تمسكك باستقلالك الشخصي؛ ولذلك أترك لك الرأي.
شعرت بحرج مركزها. فإما أن تقبل وإما أن يغلق الباب إلى الأبد. يا له من موقف يدفع الإنسان دفعا إلى ما يكره! هي الجميلة الغنية التي يضرب المثل بنبل أخلاقها في العباسية كلها تتخبط في مصيدة محكمة، وهو يطل عليها بعينيه الشرهتين. كرهت قوته كما كرهت ضعفها، أن يعبث ببراءتها شيء، أما أن يتسلط عليها وهي في كامل عقلها؛ فشيء آخر. قال لها: ها أنا أوفي بوعدي؛ لأني أحبك.
وقال لها أيضا: إني أعرف حبك للتعليم، وسوف تكملين دراستك بكلية العلوم.
غضبت غضبا لم تشعر بمثله من قبل، رفضت الإرغام كما رفضت القبح. هان عليها أن تضحي بالزواج. رحبت بالوحدة، وقالت: إن الوحدة في رفقة الكبرياء ليست وحدة. وحدست أيضا أنه يطمع في مالها، وقالت لأمها بكل بساطة: لا.
فقالت الأم: إني أعجب كيف لم تقرري ذلك من أول لحظة!
واعترض الرجل طريقها في الخارج، وقال لها: كيف ترفضين؟ ألا تدركين المصير؟
فقالت له بحدة لم يتوقعها: أي مصير أحب إلي من الزواج منك!
Page inconnue