فتقول في دلال: ولكنك لم تعد تقنع بلعب زمان! - اللعب يتغير بتغير العمر. - وله حدود لا يتعداها.
من ناحية أخرى راح هو يحذرني من الأخطاء، ويخاطب في الرجل الناشئ. تمنيت ولو فراقا مؤقتا، ولكنه احتقر رغبتي وقال لي: الحياة اقتحام وحذر، ولا مجال فيها للهروب.
الأمور تتعقد وتزداد عسرا، بل أضحت عذابا ومحنة. ولعله لم يبد لي منفرا كما يبدو الآن. ارتفع صوته درجات. قلت: إنه هراء في هراء، وإنه يتدخل فيما لا يعنيه، كأنه لم يمر بالشباب يوما، وكلما ظفرت معها بخلوة امحى وجوده تماما. أنا وهي كل شيء وهو لا شيء كأنه خرافة. غير أنها اعتصمت بحد لا تتعداه، حتى خيل إلي أن همسه قد انسرب إليها. وانفجر غضبي عليه فسخرت منه في كل مكان. واعتبرت نفسي ندا له أو أقوى. ولما تيقنت من موقفي الجديد خافتني وهربت مني، لعل ذلك بوحيه وتأثيره. وهالتني وحدتي وتخبطت في الفراغ، وشحنت برغبة دكناء في الانتقام، فاندفعت في اقتراف أخطاء كثيرة بتشف واستهتار. أتحداهما معا وأعبث بذكراهما معا، ولكني لم أنج من غشاء الوحشة الذي وقعت في شركه. وتوهمت أن الانفصال قد فرق بيني وبينه إلى الأبد، ولكن بدا أنه رغم صمته الظاهر لم يكف عن الاهتمام بأمري. هكذا تبدل الحال فظفرت بوظيفة في المجتمع، وعقد قراني بها في ليلة بيضاء. وحق علي أن أشكر فضله إلى الأبد، وأن أقر بأنه لولا هباته العديدة وإرثه القيم ما وسعني أن أسعد بما نلت. واستقللت بمسكن جديد، ومارست السيادة في مملكتي الصغيرة، انغمست في الحب والإنجاب والعمل. وكدت أنساه تماما لا تمردا عليه هذه المرة، ولكن انشغالا بالأعباء الجديدة. وبمرور الأيام تغيرت هي أيضا، صارت زوجة لا حبيبة، وأما وشريكة. لا تمسك عن المحاسبة والمطالبة والشكوى. وأتساءل أين الدلال والبسمات والكلمات العذبة؟ وهالني العبء المتصاعد فانزلقت قدمي من جديد في طريق الخطأ. وربما تمادى الخطأ، فساقني إلى ما لا تحمد عقباه. وفجأة وبعد انقطاع طويل تلفن لي في مكتبي، وذكرني بوصاياه القديمة قائلا: إن فوائدها لم تنعدم بعد.
يا للعجب! كدت أنسى أنه ما زال على قيد الحياة. ها هو يعيد الأسطوانة القديمة متناسيا أنني لم أعد طفلا، وأنني اليوم مثله تماما في الحرية واتخاذ القرار. ومضيت في سبيلي، ولكن شيئا من الحذر خالط سلوكي وأهدافي، وأطرح كل ثمرات الجهد تحت أقدام الأسرة؛ فتتلقفها دون كلمة شكر أو تقدير. وأقول لها: الشكر لا يهم ولكنني أرجو شيئا من الرحمة!
فتقول: إني أتعب مثلك وأكثر، ولكنك أناني.
وتبدى لي الزواج صيغة غريبة للتوفيق بين الحب والكراهية، بين حب الحياة وحب الموت، بين التضحية والرغبة في القتل. ولكن السفينة صارعت الأمواج حتى صرعتها ونجت من الغرق، ونال الآخرون استقلالهم كما نلنا يوما استقلالنا. لم يعد أحد منهم في حاجة إلي، ورجعت إلي الوحدة جارة معها أثقال العمر، ولكنني لم أستسلم للأسى. وطنت نفسي على تقبل قوانين الأشياء، وناجيت في وحدتي الرضا والسلام. ولم أقلل من قيمة المسرات الزائلة، ولا من سحر التحف والأغاني، ولا حتى من جمال الأطعمة الشعبية. وإذا بي أتذكره فجأة بعد طول نسيان. وكيف لا أتذكره ما دام على قيد الحياة؟! وهو من جيل معمر يغبط على طول عمره وسلامة صحته، ولو كان أصابه تلف لترامت إلينا أخباره في حينها، فلا شك أنه يمارس حياة طبيعية، وسيسعد برجوعي إليه مثل سعادتي وربما أكثر، وهيهات أن أنسى نواياه الطيبة ورحمته. أما عن رأيه في فلا أحسبه في صالحي، ولكن كان دائما أكبر من تقصيري وأعلى. اليوم يبدو لي على حقيقته أكثر من أي عهد مضى. ثم إنه أقام في القرية منذ عهد بعيد، وشد ما تهفو نفسي إلى الخضرة والهواء النقي. إنها أثمن في النهاية من أثاث بيتي وتحفه، وما جمعت من مال وبنين. سأمضي إليه، وليس في نيتي أن أعتذر أو أن أصوغ من سحر البيان جملة واحدة. سأمثل بين يديه باسما، وأقول هامسا ها أنا قد رجعت، مدفوعا بالشوق وحده، فاقض بما أنت قاض.
في غمضة عين
ما ظن يوما أن زوال محنته يعني انزلاقه إلى محنة جديدة. من أجل ذلك لم يستمتع طويلا بعطر الخريف وأماراته المشربة بالبياض الناعس التي تغازله في مجلسه بشرفة كافيتريا الجلوب. إلى جانبه وفي متناول مس منكبه جلست رافعة بروفيل وجهها الأسمر الصافي الذي تفانى في حبه على مدى سنوات طويلة. هيأ نفسه منذ اللحظات الأولى للقاء - كالعادة - للتشاكي، ولنفث نسمات الحب في مناخ الإحباط المحدق، وللحومان حول هموم المسكن والخلو والجهاز والمهر، ثم كيفية مواجهة تحديات المعيشة. استقلا معا قارب الحب منذ المرحلة الثانوية، وتلاعبت به أمواج الحياة المعاندة غير المواتية، ولكنهما ظلا مصممين على البقاء جنبا لجنب قابضين بشدة كل على مجدافه، رافضين الانهزام أمام العقدة التي تطوقهما. هذا الصباح تطالعه عيناها بمرآة جلية الصفاء، لا ينضح بياضهما النقي بفتور. لم يخل قط جمال نظرتها من كآبة خفية تتجلى حينا وحينا تستشف. وتاق قلبه لسماع أي خبر حسن، واحتسيا قدحي الجوافة على مهل في صمت حتى خرقه قائلا: الحلم يتضخم في رأسي، وغير بعيد أن يصبح واقعا.
فقالت بثقة جديدة كل الجدة: غير بعيد على الإطلاق.
حقا؟! اقترح ذات يوم أن يتزوجا بالفعل، وليكن ما يكون. أجل سيظل في بيت والده بالقبيسي، كما ستظل في بيت أبيها بالوايلي، ثم يبحثان عن حل وهما حاملان معا أمانة الزوجية. أبوه رغم كونه موظفا صغيرا ممن عجنهم الانفتاح؛ إلا أنه لم يرتح أبدا لاختياره ابنة حلاق. لتكن جامعية وموظفة، فأي قيمة لذلك اليوم؟ ولكن الفتى نشأ رجلا لا يتحول عن المطالبة بحقوقه الكاملة. تفرس في وجهها مأخوذا بتعليقها القوي، وقال: ماذا وراءك؟ .. لديك شيء جديد!
Page inconnue