أصغ! لم يأخذ إنسان متاعه معه
ولم يعد إنسان ثانية ممن رحلوا إلى هنالك.
هكذا كان شعور بعض المفكرين المصريين عن ذلك العصر العتيد حينما كانوا يشرفون بأعينهم على مقابر أجدادهم ويدركون عدم فائدة جبانات أهرام الدولة القديمة الشاسعة الأرجاء، ونلاحظ هنا أنه حتى بعض أسماء الحكماء الذين عاشوا قبل ذلك العهد بألف سنة مثل «أمحتب» «وحردادف» اللذين صارت أقوالهما مضربا للأمثال، ونالا بذكرهما في الأنشودة تخليدا لذكراهما أكثر من تخليد الذكر بالقبور الضخمة، قد جاءت ثانية على لسان ذلك المغني. ومن الصعب أن نعتقد أن ذكر «أمحتب»، وهو أول الاثنين اللذين ورد ذكرهما على لسان المغني، كان من باب المصادفة المحضة؛ فإن «أمحتب» كان أول مهندس للعمارة أقام المباني بالأحجار في نطاق واسع؛ أي إنه أول منشئ للمباني الحجرية. فقد كان «أمحتب» مهندس العمارة للملك «زوسر» الذي عاش في القرن الثلاثين ق.م المشيد لأقدم مبنى كبير بالحجر لا يزال باقيا إلى الآن من آثار العالم القديم، وهو الذي يسمى «هرم سقارة المدرج». ومن المواضيع البارزة الغريبة في هذه الأنشودة أن يرجع المغني بالإشارة إلى مقبرة ذلك المهندس العظيم، ويذكر أنها في حالة خراب حتى صارت كأنها لم تغن بالأمس. والواقع أن مكانها لا يزال مجهولا إلى يومنا هذا، وكذلك نجد أن «حردادف» الحكيم الثاني الذي جاء ذكره أيضا في هذه الأنشودة كان ابن الملك «خوفو»، ولهذا كان له اتصال بالهرم الأكبر. وكون تخليد اسمي هذين الحكيمين أتى فقط عن طريق مداومة ذكرهما والتحدث عن حكمتهما دليل آخر على بطلان تأثير العوامل المادية التي كانت معتبرة وسيلة للخلود والبقاء، كما أن اختفاء أرواح أمثال هذين الرجلين في عالم آخر لا يرون فيه ولا يرجع إلى الدنيا منه أحد يحدثنا عن مصيره، يعد من أعظم النغمات المشجية الحزينة التي نراها في سطور تلك الأنشودة العتيقة، وكأننا نسمع تلك النغمة يتردد صداها ويتجاوب ترجيعها في الشرق (بعد أن انقضى على عهدها ثلاثة آلاف سنة) في بعض مواضع من رباعيات «عمر الخيام»؛ إذ يقول:
إنه أمر عجيب! أليس كذلك؟ حينما نرى أنه من عشرات الآلاف الذين مروا قبلنا بباب الظلمة لم يعد أحد منهم ليخبرنا عن الطريق التي إن أردنا أن نكشف عنها لا بد أن نمر فيها أيضا.
وهنا ينكشف لنا الغطاء عن عقيدة التشكك التي تشك في جميع الطرق، المادية وغير المادية، التي كان يرى أنها تؤدي إلى السعادة أو أنها على الأقل تؤدي للحياة بعد الموت. ولم يكن لمثل تلك الشكوك من جواب، بل كانت هناك طريقة واحدة فقط يستطيع بها الإنسان إزالتها من ذهنه مؤقتا؛ وذلك بأن ينغمس في الملاذ الشهوانية التي قد تغطي على أمثال تلك الشكوك وقتا ما ولو بنسيانها: «كل واشرب وكن فرحا؛ لأننا سنموت في الغد.»
وأما الرواية الثانية التي كتبت بها تلك الأنشودة فإنه قد عثر عليها في قبر كاهن آمون «نفر حتب» في «طيبة»، غير أنها لا تكاد تماثل الأولى ولا تعادلها في التأثير، ومما يؤسف عليه أنها ممزقة، ولكنها على أية حال تحتوي على بعض أسطر قيمة يجب الالتفات إليها، منها:
كيف يرقد هذا الأمير العادل؟
إن المصير الطيب قد نزل به
والأجيال من الناس تموت
منذ زمن الإله «رع»
Page inconnue