واحدا قد يبقى أثره إلى الأبد، ورب ساعة واحدة تنفع للمستقبل، والله عليم بكل من يقوم له بأية خدمة.» على أن محاولة الموازنة بين المادية والحاجات الأخلاقية ظاهرة في التصريح القيم الذي اقتبسناه فيما سبق عندما قال الملك المسن لابنه: «إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور الظالم، ومع ذلك قرب القربان للإله - ليكافئك بالمثل - ولتحفل به مائدة القربان، وكذلك بالنقوش؛ لأن ذلك هو ما يخلد اسمك، والله يعلم من يقرب له القربان.»
فنجد هنا اعترافا صريحا بقيمة الحياة الصالحة في نظر الإله، وهو الذي لا يقبل أن تقوم الهدايا عنده مقام الأخلاق، وهذا الاعتراف يفوق بمراحل كثيرة أعظم المثل العليا في عصر الأهرام. وبالرغم من ذلك فإن تقاليد الأجداد فيما يتعلق بقيمة الوسائل المادية، سواء أكان ذلك في العمارة أم في تقديم القربان، كانت لا تزال تجد قبولا عند ذلك الملك المسن، وبتصريحه هذا قد استخلص الملك نتيجة من ذلك - قد تكون بغير قصد منه - لا يمكن أن تترك هكذا معلقة ودون أن يفصل فيها، فكان كر القرون يثبت بدون هوادة بطلان الاعتماد على العوامل المادية البحتة للحصول على النعيم الأخروي لروح الإنسان، كما كان سير الزمان ينحسر بلا شفقة عن انهيار العقيدة المادية، وكذلك بدأت الظلال القاتمة التي تنم عن أقدم صورة لعدم الانخداع بالأوهام تخيم على سماء مصر.
على أن حكمة ذلك الحكيم الأهناسي المتوج لم تفقد تأثيرها بعد انقراض أسرته بزمن طويل، وقد رأينا صداها في ترجمة حياة أحد الأشراف كتبها لنفسه على شاهد قبره في عهد الأسرة الحادية عشرة؛ إذ يقول: «لقد سمعت أفواه الناس تنطق بتلك الحكمة التي توجد في أفواه العظماء: إن فضيلة الرجل هي أثره الباقي، ولكن الرجل صاحب السمعة الرديئة يصير نسيا منسيا.» والواقع أننا بعد انقضاء بضعة قرون على ذلك نجد ذكريات لعظات ذلك الملك الأهناسي وردت بعبارة واحدة تقريبا في نقش كل من مقبرتي شريفين نقشا عليهما تاريخ حياتهما، وكانا يعيشان في عهد الملك «سنوسرت الأول»؛ أي بعد سنة 2000ق.م
3
بجيل واحد، وكان أحدهما شريفا من أغنياء «أسيوط» رأى الفخر كل الفخر في أن يقول: «إنه كان إنسانا يفصل بين المتخاصمين دون محاباة؛ لأني كنت ثريا وما أكرهه هو الكذب، وكنت متزن العقل من غير ميل.»
وأما ترجمة حياة الثاني فإنها منقوشة على لوحة جميلة من الحجر الجيري الأبيض محفوظة الآن بمتحف المترو بوليتان للفن، وصاحبها هو الشريف «منتووسر» يقول فيها:
لقد كنت امرأ يستمع للقضايا حسب الحقائق دون إظهار محاباة لمن يحمل الهدية (يعني الرشوة)؛ لأني كنت صاحب ثراء أرفل في بحبوحة النعيم.
4
ونجد هنا حالة يكاد يحاول بها الإنسان أن يعتبر الثراء عونا على معاملة الناس بالحق في تصريف العدالة. على أن بطلان الاعتماد على العوامل المادية كان قد أخذ في الظهور للعيان بازدياد مطرد بعد انتهاء عصر الاتحاد الثاني؛ فإن ارتكان الملوك العظام الذين حكموا في عهد الأهرام على مثل هذه الوسائل المادية قد جعلهم يكافحون بلا طائل ضد الموت مدة قرون عدة، وهذا الكفاح قد أخذت آثاره المتداعية تدل في كل يوم على خيبة الطرق المادية في أداء الغرض منها. فقد كان صراع أولئك الجبابرة الذي استمر نحو خمسمائة سنة، يتمثل جليا أمام الأعين في هيئة سور عظيم من الأهرام يمتد نحو ستين ميلا على حافة الصحراء الغربية، وكأنه خط من الحصون الأمامية الصامتة يشرف على حدود الموت، وكان قد انقضى إذ ذاك ما يقرب من ألف سنة على بناء أول هرم منها، وكذلك قد انطوت قرون عدة منذ أن طوى رجال العمارة سجلاتهم البردية الحاوية لرسوم آخر هرم منها، وجمع طوائف العمال آلاتهم وانصرفوا إلى أوطانهم، كما هجر الكهنة منذ زمن بعيد تلك المعابد الفاخرة والأبواب العظيمة الأنيقة التي كانت مقامة على جانب الوادي حينما صاروا ولا عائل يعولهم، فأصبحت تلك الجبانة الهرمية التي يبلغ امتدادها ستين ميلا ثاوية في صمت مقفر مدفونة في الرمال إلى عمق كبير، يغطي نصف حجم مبانيها الخربة بما تحويه من تيجان الأعمدة الملقاء على الأرض والأعمدة المطروحة فوق أديم الغبراء، فهي خرائب مهجورة، لا يرى بينها إلا شبح ابن آوى المنقرض يتسلل بين دمنها، وكأن رؤية هذا الحيوان المقدس «لأنوبيس» إله الموتى العتيق تشير إلى فشل الحماية التي كان يقوم بها آلهة الصحراء الجنازيون القدامى.
على أنه حتى في يومنا هذا لا يجد الإنسان منظرا رائعا مثل منظر جبانات الأهرام المصرية القديمة في أية بقعة من بقاع العالم القديم، ونحن لا نزال نذكر ما شعرنا به من الاحترام الرهيب الذي تركته تلك الجبانات في نفوسنا عندما زرناها للمرة الأولى. ولكن هل كان ذلك التأثير الذي ألم بنفوسنا يحس به خلفاء بناة الأهرام بعد انقضاء بضعة قرون على تشييدها؟ وهل صارت تلك الأهرام من الآثار القديمة في نظر أولئك الأقوام الذين كانوا يعيشون في سنة 2000ق.م؟
Page inconnue