ولقد قررت الصدق لجلالته؛ لأني أعرف أنه يعيش فيه
إنك «رع» والد الصدق ...
وإني لم آخذ رشوة للكذب
كما أني لم أقص الصدق لأجل الرجل العسوف.
ويجب أن نذكر هنا مرة ثانية - كدليل هام على تفاني «إخناتون» في الصدق - أنه لم يقصر فضيلة الصدق على السلوك الشخصي فحسب، بل أدخله كذلك في ميدان الفن، حيث صارت له فيه نتائج ذات آثار بارزة في التاريخ.
وعلى ذلك كان «رع» لا يزال في ذلك الانقلاب الذي قام به «إخناتون» المنشئ المعاضد للصدق أو الحق (ماعت)؛ أي لذلك النظام الخلقي والإداري كما كان الحال منذ أكثر من ألفي سنة مضت. وإذا كنا لم نسمع عن حساب الآخرة في مقابر «تل العمارنة»، فمن الواضح أن ذلك إنما يرجع إلى نبذ سحابة الآلهة وأنصاف الآلهة وعلى رأسهم «أوزير»، ممن كانوا يؤلفون هيئة المحاكمة في حساب الآخرة بشكلها الموضح في كتاب الموتى. فأولئك الآلهة قد بادوا الآن، واختفى - على ما يظهر - منظر المحاكمة التمثيلي باختفائهم، وإن كان من الواضح أن المستلزمات الخلقية في المذهب الشمسي - الذي نشأت فيه فكرة المحاكمة في الآخرة وانتشرت - لم تنته المطالبة بها في التعاليم الإخناتونية ولم تفتر.
وكذلك الحملة التي قام بها الكهنة على عالم الأخلاق بالعوامل السحرية الآلية لضمان براءة الميت فيما بعد الموت، فقد أقصاها «إخناتون» بداهة عن تعاليمه، فصارت الجعل القلبية (الجعارين)، التي كانت مألوفة من قبل، لا ينقش فوقها التعاويذ السحرية لإخماد وحي «الضمير» عند المتهم، بل صارت آنئذ ينقش فوقها أدعية بسيطة موجهة إلى «آتون» طلبا لحياة طويلة وعطف وطعام. وما ذكرناه عن «الجعل» (الجعارين) ينطبق تماما على الدمى (يوشبتي)، التي هي تماثيل صغيرة كان الغرض منها القيام بالأعمال بدلا من الميت إذا طلب لذلك فيما بعد الموت في الحياة الآخرة.
وإذا فكرنا مليا فيما ذكر نجد أن أمثال تلك التغييرات الأساسية تبسط أمامنا عظم المد الجارف، من الفكر والعادات والتقاليد الموروثة عن الأقدمين، الذي تحول عن مجراه على يد ذلك الملك الشاب الذي كان يقود ذلك الانقلاب، وأننا إنما نبدأ في تقدير قوة شخصية «إخناتون» العظيمة عندما ندرك هذه الناحية من حركته الدينية إدراكا واضحا؛ فقد كانت الوثائق الدينية قبل عهده تنسب عادة إلى الملوك القدامى والحكماء الأولين، وكانت قوة أية عقيدة ترتكز بوجه خاص على ما يعزى إليها من الأقدمية الساحقة وعلى قدسية العادة العريقة في القدم. وقد كان معظم تاريخ العالم حتى عهد «إخناتون» عبارة عن سير الحوادث بمجرد سطوة التقليد الذي كان سلطانه لا يعارض، وليس لدينا استثناء بارز في هذا المجال إلا ذلك الطبيب النطاسي والمهندس العظيم «إمحتب» الذي أدخل على فن العمارة البناء بالأحجار فأقام أول مبنى من الحجر، وهو ذلك القبر الهرمي الشكل الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد، وفيما عدا هذه الشخصية من المصريين الأقدمين لم يكن الناس سوى نقط من الماء في تيار الحياة الجارف العظيم.
فإذا استثنينا «إمحتب» هذا كان «إخناتون» أول شخصية مستقلة ظهرت في التاريخ، فإنه قد أحرز مكانته السامية بنفاذ بصيرته وحسن تدبيره وتفكيره العقلي، ثم نهض بنفسه علانية وقام في وجه كل التقاليد ونبذها ظهريا، ولم يلجأ في توطيد مذهبه الجديد إلى أية وسيلة من وسائل الأساطير والروايات العتيقة السائدة عن سلطان الآلهة، ولا إلى شيء من العادات القديمة التي اكتسبت قداسة بمر الدهور، بل اعتمد فقط على البراهين العتيدة الظاهرة الدالة بنفسها على سلطان إلهه وهي أدلة ظاهرة للعيان أمام الجميع.
وأما من جهة التقاليد، فإنه اجتهد في القضاء عليها أينما وجد في السجلات التي يمكن الوصول إليها أي مظهر مادي للآلهة الأخرى. على أن هذه السياسة، التي كان قوامها الهدم إلى هذا الحد، كان لا بد حتما من أن تصادف معارضة قوية فتاكة، وسنفحص الآن بعض عوامل تلك المعارضة.
Page inconnue