مقدمة المعرب
تمهيد
مقدمة
إيضاح
1 - الأساس والماضي الجديد
2 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
3 - إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية
4 - العقيدة الشمسية ومكافحة الموت
5 - متون الأهرام وصعود فرعون إلى السماء
6 - المذهب الشمسي والآخرة السماوية
7 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني: أوزير
8 - نور الشمس والخضرة
9 - السلوك، والمسئولية، وظهور النظام الخلقي
10 - انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام
11 - الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية (التبشير)
12 - أقدم جهاد في سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية
13 - إقبال عامة الشعب على اعتناق مثل الآخرة الملكية وانتشار السحر
14 - الحساب في الآخرة والسحر
15 - السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد
16 - سقوط «إخناتون»
17 - مصادر إرثنا الخلقي
الخاتمة
الصور والأشكال
مقدمة المعرب
تمهيد
مقدمة
إيضاح
1 - الأساس والماضي الجديد
2 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
3 - إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية
4 - العقيدة الشمسية ومكافحة الموت
5 - متون الأهرام وصعود فرعون إلى السماء
6 - المذهب الشمسي والآخرة السماوية
7 - آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني: أوزير
8 - نور الشمس والخضرة
9 - السلوك، والمسئولية، وظهور النظام الخلقي
10 - انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام
11 - الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية (التبشير)
12 - أقدم جهاد في سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية
13 - إقبال عامة الشعب على اعتناق مثل الآخرة الملكية وانتشار السحر
14 - الحساب في الآخرة والسحر
15 - السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد
16 - سقوط «إخناتون»
17 - مصادر إرثنا الخلقي
الخاتمة
الصور والأشكال
فجر الضمير
فجر الضمير
تأليف
جيمس هنري برستد
ترجمة
سليم حسن
يعترف بفضل الرجل الذي يتخذ العدالة نبراسا له، فينهج نهجها.
من أقوال الوزير الأكبر «بتاح حتب» المنفي الأصل في القرن السابع والعشرين ق.م
إن فضيلة الرجل المستقيم أحب (عند الله) من ثور الرجل الظالم (أي من قربان الرجل الظالم).
من النصيحة الموجهة للأمير «مريكارع» من والده فرعون أهناسي الأصل عاش في القرن الثالث والعشرين ق.م
إن العدالة خالدة الذكرى، فهي تنزل مع من يقيمها إلى القبر ... ولكن اسمه لا يمحى من الأرض، بل يذكر على مر السنين بسبب العدل.
من قصة الفلاح الفصيح الأهناسي الذي عاش في القرن الثالث والعشرين ق.م
إن فضيلة الرجل هي أثره، ولكن الرجل السيئ الذكر منسي.
من شاهد قبر مصري عاش حوالي القرن الثاني والعشرين ق.م
قد يفرح أهل زمان الإنسان وقد يعمل ابن الإنسان على تخليد اسمه أبد الآبدين ... إن العدالة ستعود إلى مكانها والظلم ينفى من الأرض.
من أقوال «نفرروهو» وهو نبي مصري عاش حوالي عام 2000ق.م
يا آمون أنت أيها الينبوع العذب الذي يروي الظمأ في الصحراء، إنه لينبوع موصد لمن يتكلم ومفتوح لمن يتذرع بالصمت، فإنه حينما يأتي الصامت، تأمل! فإنه هنالك يجد الينبوع.
عن حكيم مصري قديم عاش حوالي 1000ق.م
مقدمة المعرب
مثل الباحث في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، كمثل السائح الذي يجتاز مفازة مترامية الأطراف، يتخللها بعض وديان ذات عيون تتفجر المياه من خلالها، وتلك الوديان تقع على مسافات في أرجاء تلك المفازة الشاسعة، ومن عيونها المتفجرة يطفئ ذلك السائح غلته ويتفيأ في ظلال واديها؛ فهو يقطع الميل تلو الميل عدة أيام، ولا يصادف في طريقه إلا الرمال القاحلة والصحارى المالحة، على أنه قد يعترضه الفينة بعد الفينة بعض الكلأ الذي تخلف عن جود السماء بمائها في فترات متباعدة، وهكذا يسير هذا السائح ولا زاد معه ولا ماء إلا ما حمله من آخر عين غادرها، إلى أن يستقر به المطاف في واد خصيب آخر، وهناك ينعم مرة أخرى بالماء والزاد. وهذه هي نفس حال المؤرخ الذي يؤلف تاريخ الحضارة المصرية القديمة، فالمصادر الأصلية لديه ضئيلة سقيمة جدا لا تتصل حلقات حوادثها بعضها ببعض، فإذا أتيح له أن يعرف شيئا عن ناحية من عصر معين من مجاهل ذلك التاريخ؛ فإن النواحي الأخرى لنفس ذلك العصر قد تستعصي عليه، وقد تكون أبوابها موصدة في وجهه؛ لأن أخبار تلك النواحي قد اختفت إلى الأبد، أو لأن أسرارها لا تزال دفينة تحت تربة مصر لم يكشف عنها بعد.
فالمؤرخ في مثل هذا الموقف الحرج، لا يجد مندوحة من أن يصول ويجول ويشفي غلته بما لديه من المعلومات عن الناحية المعروفة، ثم يمر مر الكرام بالنواحي المجهولة له، وقد يستعين أحيانا بما لديه من قوة الخيال، وما فطر عليه من تجارب على ملء ذلك الفراغ المقفر الذي يعترضه في طريقه، وهو في ذلك لا يأمن شر العثار، وبخاصة إذا تغالى في إرخاء العنان لخياله الخصب. ثم نرى هذا المؤرخ بعد التقدم في سيره في تلك الفجوة المقفرة، يستقر به المقام كرة أخرى في واد آخر تتفجر عيونه بالمعلومات الممتعة، فيتحفنا بها بقدر ما يجود به ماء ذلك الوادي، وهكذا يتابع المؤرخ السير من واد خصيب إلى واد غير ذي زرع، حتى يصل إلى نهاية المطاف.
على أنه عندما يتصفح مثل هذا المؤلف أحد المؤرخين المحدثين، أو الذين لم يجربوا الكتابة في التاريخ القديم وما فيه من فجوات كبيرة، لا يسعه إلا أن يكيل اللوم جزافا للمؤرخ القديم ويصب عليه جام انتقاداته، ويرميه بالتقصير في بعض المواضيع وفي التطويل في غيرها، وما شابه ذلك من الانتقادات التي يجب أن توجه بحق لمؤرخ التاريخ الحديث الذي لا عذر له في التقصير عن إيفائها حقها.
والواقع أننا لا نبالغ إذا قررنا أن المؤرخ الذي يؤلف في التاريخ القديم، يشبه من كان على سفر ليلا في مركبة بخارية تشق به المسافات الشاسعة في ظلمة حالكة يتخللها بعض أقباس ضئيلة من النور هنا وهناك، إلى أن يصل المسافر إلى محط مضاء بالأنوار الساطعة، فيستيقظ على ضوئه ويرى ما حوله من أناس ومبان وسلع، وبعد أن يقضي لحظة بها يتابع سيره ثانية في ظلمة حالكة إلى أن يصل إلى محط آخر، وهكذا حتى يلقي عصا تطوافه، فهذه الظلمة هي مجاهل التاريخ القديم، وتلك المحاط هي المعلومات التي جاء بها الزمن، وأبقى عليها الدهر.
وخلاصة القول: أن المؤرخ في التاريخ القديم، لا يستطيع أن يكتب كتابا متصلة أفكاره بعضها ببعض تمام الاتصال في تاريخ أية بلدة قديمة قد ضاعت معظم آثارها، أو كانت لا تزال دفينة تحت تربتها لم يكشف عنها بعد. وتنحصر براعة المؤرخ الذي يتصدى لكتابة تاريخ دولة قديمة في سعة اطلاعه وقوة خياله ، وقدرته على استنباط الحوادث العظيمة وربطها بما لديه من المعلومات الضئيلة الهزيلة التي أبقت عليها يد الدهر، فهو بتلك المقدرة يمكنه أن يتغلب على الفجوات التي تعترض سيره.
ولست مبالغا إذا قررت هنا أن خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر من ذلك الطراز هو كتاب «فجر الضمير» الذي وضعه الأستاذ «برستد» في عام 1934، وهو في الواقع مؤلف يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ بل في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية. وقد أخذ الأستاذ «برستد» يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام 525 قبل الميلاد. فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية التي وصلتنا عن العالم القديم إلى الآن، هي مهد حضارة العالم؛ وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ «برستد» قد هدم بكتابه الخالد هذا، النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين. على أن هذا الرأي لا يزال يعتنقه بعض من لم يقرأ كتاب «برستد» إلى الآن، وكأن هذا الأثري العظيم بكتابه هذا قد أظهر للعالم أجمع بأن المصدر الأصلي لكل حضارات الإنسانية، هي مصرنا العزيزة.
لذلك يخيل إلي أن «مصطفى كامل» حينما قال: «لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا» كان يحس في أعماق قلبه وفي دمه ما سيظهره الأستاذ «برستد» للعالم عما كان لمصر من السيادة المطلقة والقدم السابقة، في تكوين ثقافة العالم، وفي وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذي شع على جميع العالم. ولا غرابة في إحساس «مصطفى كامل» بهذا الشعور، وبتلك العزة القومية والعظمة النفسية التي عزز صدقها «برستد» عام 1934، وهو العام الذي ظهر فيه كتابه «فجر الضمير»؛ فإن البلاد العريقة في المجد كالشجرة المباركة الطيبة، تؤتي أكلها كل حين، وتنبت بين آونة وأخرى أفذاذا تجري في دمائهم قوة العزة القومية والمجد التليد؛ فيشعرون بعظمة بلادهم، وما كان لها من تاريخ مجيد ، فتنطلق ألسنتهم معبرة عن ذلك بالإلهام المحض.
والعظيم يقدر العظيم؛ فالأستاذ «برستد» قد شغف في بادئ حياته بدرس تاريخ الشرق القديم عامة، ولكن لما اشتد ساعده مال بكل نفسه وروحه لدرس تاريخ مصر وحضارتها، وأنفق في سبيل الوصول إلى معرفة مكانة مصر بين دول العالم القديم ما يربي على ألف ألف جنيه، جمعها من رجالات أمريكا الذين يشجعون العلم والبحوث القديمة. وقد انتهى به البحث بعد درس حضارات الأمم الشرقية القديمة كلها؛ إلى أن مصر أصل مدنيات العالم، ومنبت نشوء الضمير، والبيئة الأولى التي نمت فيها الأخلاق؛ فهو إذن رجل عظيم كشف عن ماضي أمة عظيمة.
ولعمري لقد قضى الأستاذ «برستد» بكتابه «فجر الضمير» على الخرافات والترهات التي كانت شائعة بين السواد الأعظم من علماء التاريخ القديم والحديث قضاء مبرما، ففريق منهم ظن أن الصين والهند ثم بلاد اليونان كانت مهد الحضارة العالمية وعنها أخذ العالم الحديث، والواقع أن مصر - كما ذكرنا آنفا - هي التي أخذ عنها العالم حضارته عن طريق فلسطين التي ليس لها فضل في ذلك سوى أنها كانت نقطة الاتصال بين الحضارة الأوروبية والحضارة المصرية.
على أن العبرانيين قد نقلوا الحضارة المصرية إلى أوروبا مشوهة بعض الشيء، ثم صقلها الأوروبيون بطورهم حسب أمزجتهم وألبسوها ثوبا جديدا كل نسجه من خيوط المدنية المصرية، فما نراه الآن من روائع المؤلفات اليونانية القديمة، وما نسج على منواله الكتاب الأوروبيون قديما وحديثا، يرجع في عنصره إلى أصل مصري قديم. كل ذلك قد شرحه الأستاذ «برستد» شرحا فياضا مستفيضا تدعمه الوثائق الأصلية القديمة مما لا يترك مجالا لأي ناقد يفهم الحقائق على وجهها الصحيح ولا يتعصب إلى فريق دون فريق.
إن الذي يتصفح كتاب الأستاذ «برستد»، وبخاصة الفصل الأول منه، يلحظ لأول وهلة أنه يريد أن يلفت نظر العالم إلى أهمية ضرورة البحث والتنقيب عن تاريخ الشرق القديم ووضعه أمام أعين العالم وتدوينه بصورة واضحة، حتى يكون وسيلة لمعرفة أصل الحضارة الحديثة. وفي الحق قد أفلح الأستاذ «برستد» فلاحا منقطع النظير بقدر ما وصلت إليه معلوماته في تجديد الماضي القديم وجعله حيا أمامنا يتكلم ويناقش، وسيجد القارئ أن الأستاذ هو أول من قسم تاريخ الإنسانية عصرين بارزين؛ الأول عصر كفاح الإنسان مع المادة والقوى الطبيعية والتغلب عليها نهائيا، والعصر الثاني هو عصر الكفاح بينه وبين نفسه الباطنة، وذلك حينما أخذ ضميره يبزغ وأخلاقه تتكون، ويقدر «برستد» زمن كفاحه المادي بنحو مليون سنة، أما عصر بزوغ ضميره فقد بدأ يحس به منذ أن عرف كيف يدون أفكاره بالكتابة، ويقدر عمره بنحو 5000 سنة تقريبا. ويعتقد الأستاذ «برستد» أننا لا نزال في مستهل عصر تكوين أخلاقنا، وأننا ما زلنا على أبواب مملكتها الشاسعة المترامية الأطراف، التي لم نرد مجالها بعد، وأنه بيننا وبين الوصول إلى نهاية حدود تلك المملكة أهوال ومصاعب شاقة ربما استغرق التغلب عليها مئات الآلاف من السنين، ويعني بذلك الوقت الذي يصل الإنسان فيه إلى التحلي بالمثل العليا من الأخلاق، ويقلع عن المادة وما يجلبه حب الاستحواذ عليها من المشاحنات والحروب والأحقاد التي يغلي مرجلها في كل نواحي العالم ولا يزال يشتد غليانه الآن.
ولعمري إذا سما الإنسان إلى تلك المرتبة المنشودة، فإن أرضنا تكون الجنة التي وعد بها المتقون، ولكن أنى للإنسان أن يصل إلى تلك المرتبة، ونحن كلما تقدمنا خطوة نحو الأخلاق الفاضلة رجعناها ثانية، بل تقهقرنا إلى ما وراءها! وهل نحلم بأن ننتقل إلى تلك المنزلة العالية التي تلحقنا بالملائكة ونحن لا نزال نتفنن في إجادة آلات القتل والفتك والتدمير؟ والواقع أن العالم الآن في درك خلقي مشين ونشاط مادي قتال، وأن أخلاقنا تنجذب بقوة نحو المادة والوحشية حتى ارتمت في أحضانهما، وسيبقى الحال كذلك إلى أن يتيح الله للعالم من يطفئ تغلغل نار المادة في قلوب الشعوب، ويمطرنا من فيضه سيلا من الأخلاق الفاضلة يسير بالعالم ويتقدم به في مجاهل مملكة الأخلاق والضمير الحي إلى أن يصل به إلى الغاية المنشودة.
ولا إخال القارئ الكريم بعد هذه المقدمة الطويلة إلا قد فهم القصد الذي من أجله ترجمت كتاب الأستاذ «برستد» هذا، وفضلا عما بينت من مناقب هذا الكتاب فإنه لو رزقني الله علم الأستاذ «برستد» وطول خبرته بدراسة أمم الشرق القديمة عامة، ودراسة آثار مصر خاصة، لما كان في وسعي أن أدون خيرا من هذا الكتاب في فصاحته وبيانه وانسجام عباراته وقوة منطقه وأخذه بتلابيب القارئ، حتى ليجعل مجاهل التاريخ المصري القديم المقفر من المعلومات كأنها رياض وحدائق غناء لا تسأم النفس قراءته، ولا يمل النظر تصفح فصوله.
وإذا قدر وكانت لي تلك الهبات العظيمة التي وهبها الله الأستاذ «برستد» في إخراج كتابه بما فيه من فصاحة وبيان وحسن تعبير وعلم فياض، فإني قد أتهم بمحاباة بلادي، ويكون كتابي لذلك موضع ريبة وشك عند جمهرة العلماء عامة ومن لا يميلون للمصرية أو يتنصلون منها خاصة؛ لأنه أتى على لسان من يحب بلاده فينسب إليها ما يرفع قدرها تعصبا منه ومحاباة وإشادة بذكرها وتغاليا في إعلاء شأنها. من أجل ذلك اعتقدت في قرارة نفسي أن أكبر خدمة أقدمها لوطني العزيز أن أترجم كتاب «فجر الضمير» للأستاذ «برستد» إلى لغتنا العربية، وأنا على علم بما سألاقيه من مشقة وجهد في إبرازه في ثوب عربي مقبول لا أخرج فيه عن الأصل الإنجليزي في معناه وثوبه الفلسفي.
وقد ساعدني على حل غوامض بعض فقرات هذا الكتاب وجم غفير من تعبيراته العويصة الملغزة دراساتي المصرية القديمة التي بدونها ما استطعت أن أصل إلى ترجمة هذا الكتاب، ولا يفوتني هنا أن ألفت النظر إلى أن القارئ الكريم إذا أراد أن يقرن بين الأصل الإنجليزي والترجمة العربية فإنه سيجد أحيانا بعض الفوارق الدقيقة قد حتمتها الفروق بين التعبير في اللغتين، أو قد يكون منشؤها أن الأستاذ «برستد» يشير إلى حوادث وأشخاص تاريخية لا يفهم كنهها إلا من له دراية بالآثار المصرية خاصة والآثار الشرقية القديمة عامة، ولقد حرصت دائما على شرح تلك الأشياء الغامضة في هوامش طويلة أو قصيرة حسب المقام.
وفي ختام هذه المقدمة أحب أن أذكر أن الأستاذ «برستد» قد قال في مقدمة كتابه:
إنه يجب على نشء الجيل الحاضر أن يقرءوا هذا الكتاب الذي يبحث في تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير في العالم المصري.
لذلك رأيت أنه إذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربي أن يقرءوا هذا الكتاب فإنه يكون من ألزم الواجبات على كل مصري مثقف أن يستوعب ما احتواه؛ لأنه تاريخ نشأة الأخلاق في بلاده التي أخذ عنها كل العالم.
وإني أرجو في النهاية أن أكون قد قمت ببعض ما يجب علي نحو بلادي، كما أرجو أن يهتم كل مصري يحترم نفسه ويقدر منزلة بلاده بقراءة هذا الكتاب؛ لعل في ذلك باعثا لإحياء الماضي المجيد الذي لا يزال العالم الغربي يرد مناهله ويسير على هداه منذ أقدم عهده حتى يومنا هذا دون أن يشعر أحد منا بذلك حتى أبرزه لنا الأستاذ «برستد» في «فجر الضمير»، أو كما أسميه «مصر أصل مدنيات العالم».
سليم حسن
يناير سنة 1956
تمهيد
لقد أصبح من الآراء العامة المؤسفة الشائعة بين أبناء الجيل الذي أعقب الحرب العالمية، أن الإنسان لم يتورع يوما ما عن استعمال قوته الآلية المتزايدة من الفتك بأبناء جنسه، وقد برهنت الحرب العالمية على إمكان وصول قدرة الإنسان الميكانيكية الهائلة على القيام بأعمال التخريب إلى حد مروع، فليست هناك إذن إلا قوة واحدة في استطاعتها أن تقف في وجه هذا التدمير: هي الضمير الإنساني. وهو شيء اعتاد نشء الجيل الحديث أن يعده مجموعة محددة من الوساوس البالية؛ إذ كل فرد يعلم أن قوة الإنسان الآلية المدهشة ليست إلا نتاج تطور طويل، ولكن لسنا كلنا ندرك أن هذه الحقيقة نفسها تنطبق كذلك على القوة الاجتماعية التي نسميها الضمير، مع التسليم بفارق واحد هام بينهما وهو: أن الإنسان بصفته أقدم المخلوقات صنعا للآلات، كان مجدا في صنع أسلحة فتاكة منذ نحو مليون سنة، في حين أن الضمير لم يبرز في شكل قوة اجتماعية إلا منذ مدة لا تزيد على خمسة آلاف سنة؛ أي إن أحد التطورين قد سبق الآخر بشوط بعيد؛ فأحدهما عتيق، والآخر وليد عهد قريب لا يزال أمامه ممكنات لا حصر لها. أليس في مقدورنا أن نعمل بجد لإنماء هذا الضمير الحديث الميلاد حتى يصير مظهرا من مظاهر حسن النية، ويصبح من القوة بحيث يخمد أنفاس القوة الوحشية الباقية في نفوسنا؟ إن القيام بهذا الواجب يكون بالطبع أقل صعوبة بكثير مما عاناه أجدادنا المتوحشون في هذا المضمار؛ لأنهم خلقوا ضميرا في عالم لم يكن فيه أول الأمر أي شعور بالضمير.
إن أعظم ظاهرة أساسية في تقدم حياة الإنسان هو نشوء المبادئ الخلقية وظهور عنصر «الأخلاق»، وهو تحول في حياة الإنسان، يدلنا التاريخ على أنه وليد الأمس فقط، وقد يكون من الخير أن نعيد الإشادة بتلك القيم القديمة التي أصبحت في زوايا الإهمال لاستخفافنا بها، وبخاصة في هذا الوقت الذي أصبح فيه الجيل الحديث ينبذ الأخلاق الموروثة ظهريا. ولكي نتمثل صورة حقة لقيمة الأخلاق الفاضلة وتأثيرها في الحياة الإنسانية يجب أن نجتهد في الكشف عن الطريقة التي وصل بها الإنسان للمرة الأولى إلى إدراك الأخلاق وتقدير قيمتها.
فحينما نلقي بنظرنا إلى الوراء في بداية وجود بني البشر ينكشف لنا في الحال أن الإنسان قد بدأ حياته متوحشا مجردا من الأخلاق، فكيف أصبح في وقت ما صاحب وازع خلقي؟ وكيف خضع في النهاية للوازع الخلقي عندما أحس به وتلقى وحيه؟ وكيف ينهض عالم خال من أي تصور للأخلاق إلى التمسك بالمثل الاجتماعية، ويتعلم أن يستمع باحترام إلى الأصوات الباطنة المنبعثة من قرارة نفسه؟ وكيف أنه رغم الفوائد الظاهرة الملموسة التي تفيدها الفتوح المادية ظهر الجيل الأول من الناس مدركين القيم الباطنة التي لا ترى؟ ولماذا لا يكون من واجب شباب اليوم رجالا ونساء أن ينبذوا المبادئ الأخلاقية الموروثة عن الماضي باعتبارها مبادئ؛ تلك المبادئ التي لا نعرف أي شيء عن أصلها؟
فالوثائق القديمة التي تمدنا بالجواب على هذه الأسئلة، وتكشف لنا عن أصول مثلنا الوراثية، قد عرضناها في هذا الكتاب مترجمة ومصحوبة بتعليقات وشروح تجعلها سهلة الفهم، إلى حد لا بأس به . والواقع أن هذه الوثائق تكشف لنا عن فجر الضمير ونشوء أقدم مثل للسلوك، وما نتج عن ذلك من ظهور عصر الأخلاق، وهو تطور لا تنحصر أهميته في كونه خلابا لمن يتتبعه خطوة فخطوة، بل لأنه يعد فضلا عن ذلك رؤيا جديدة للأمل في مثل زماننا هذا. وبعض هذه المصادر القديمة عبارة عن قصص شرقية مشوقة قد تجعل القارئ يتنقل في أرجائها براحة وبهجة وغبطة، وبعضها الآخر مصادر لا يمكن تناولها ولا هضمها بسهولة، فإذا كان القارئ الناشئ الذي وضع هذا الكتاب من أجله خاصة يجد نفسه متعثرا في سيره في تفهم هذه الأصول الأخيرة، ويجنح إلى التخلي عن متابعتها، فإني أقترح عليه أن يقرأ على الأقل الخاتمة التي قصد بها أن تضع التقدم الإنساني المدهش من حالة الوحشية إلى عصر الأخلاق - كما يظهر في هذا الكتاب - في موضعه الصحيح، وعلى أساسه التاريخي المناسب.
لقد حفظت في طفولتي مثل إخواني من الصبية «الوصايا العشر»، وعلمت أن أحترمها؛ لأنه أكد لي أنها أنزلت من السماوات على «موسى»، وأن اتباعها كان من أجل ذلك لزاما علي، وإني أذكر أنني كلما كذبت كنت أجد لنفسي سلوة في أنه لا توجد وصية تقول: «يجب عليك ألا تكذب»، وإن الوصايا العشر لا تحرم الكذب إلا في شهادة الزور فقط؛ أي عندما يؤدي الإنسان شهادة أمام المحاكم يمكن أن تضر بجاره. ولما اشتد ساعدي بدأت أشعر في نفسي بشيء من القلق، وأخذت أحس بأن قانون الأخلاق الذي لا يحرم الكذب هو قانون ناقص، وبقيت هذه الفكرة تجول بخلدي زمنا طويلا قبل أن أضع لنفسي السؤال الهام التالي: كيف ظهر في نفسي الشعور بهذا النقص؟ ومن أين حصلت بنفسي على المقياس الخلقي الذي كشفت به عن هذا النقص في الوصايا العشر؟ ولقد كان يوما أسود على احترامي الموروث للعقيدة الدينية القائلة «بنزول الوحي» حينما بدأت عندي تلك التجربة النفسية، بل قد ظهرت أمامي تجارب أشد إقلاقا لنفسي؛ وذلك عندما كشفت وأنا مستشرق مبتدئ أن المصريين كان لهم مقياس خلقي أسمى بكثير من الوصايا العشر، وأن هذا المقياس ظهر قبل أن تكتب تلك الوصايا بألف سنة.
على أن أمثال هذه التجارب الشخصية قد أصبحت الآن في مخيلتي من الذكريات الضعيفة كلما التفت إلى الوراء ناظرا إليها بعد أن قضيت أكثر من أربعين عاما في البحث محاولا تحديد الأدلة التي وصلت إلينا بين الآثار القديمة الشرقية عن هذه المسألة الأساسية الخاصة بأصل الأخلاق. وعندما تقدمت في هذه البحوث، ازداد اقتناعي بأن نتائج تلك البحوث ستصبح سهلة التناول لأي قارئ عادي، وأن الجيل الحالي من الشباب الذين قد يشغل بالهم بمثل تلك المسائل الأساسية كما حدث لي، يجب أن يكون في متناولهم وسيلة للتثبت من هذه الحقائق.
ولقد وضعت من وقت لآخر موجزات تاريخية عن ارتقاء حياة الإنسان المبكرة قبل ظهور أوروبا المتحضرة، وبخاصة عن الحقائق التي استقيتها من الآثار المصرية، ففي عام 1912 وضعت بعض هذه النتائج في صورة كتاب تاريخ للمدارس الأمريكية، ثم قدمت في نفس العام بحثا أنضج من سابقه عن التطور الأخلاقي والديني عند الإنسان القديم، إلى طلاب اتحاد المعهد الديني في محاضرات «مورس»
Morse Lectures
ثم إلى طلبة جامعة كورنل
Cornell university
في أبحاث تحضيرية عرفت بمحاضرات «مسنجر»
Messenger Lectures
تحت رعاية مؤسسة جديدة خصصت للبحث في «التطور» أسسها الدكتور «مسنجر». من هاتين السلسلتين من المحاضرات طبعت «محاضرات مورس» في ذلك الوقت.
وأخيرا أخذ المؤلف على عاتقه في كلية برين نور
Bryn Nawr College
في سلسلة دروس تمهيدية تحت رعاية مؤسسة محاضرات ماري فلكستر الجديدة بأن يقدم صورة أوسع من الصور السابقة عن الموضوع كله، غير أنها لم تطبع قط مثلها في ذلك مثل محاضرات «مسنجر» في «كورنل». ويجد القارئ في هذا الكتاب بعض النتائج الأساسية المستخلصة من تلك المحاضرات وبعض متون محاضرات «مورس» نفسها بدون نص على الاقتباس. وإني مدين هنا بالشكر دينا عظيما للدكتور إديث ويليمز وير
Edith Williams Ware
لما قام به من المساعدة في ترتيب تلك المواد القديمة، وفي وضع التصميم الإيضاحي، وفي تحضير الفهرس وقراءة تجارب الطبع وغير ذلك.
وقد سجل المؤلف اعتقاده من زمن يرجع إلى عام 1912 في محاضرات «مورس» أن مجموعة من ورق البردي المصري ألفت في العهد الإقطاعي حوالي 2000ق.م، تدل محتوياتها على أنها أكثر من إنتاج أدبي مزخرف الألفاظ، مخالفا في ذلك الفكرة التي كانت سائدة عن تلك الأوراق عند جمهرة علماء الآثار حتى ذلك الوقت. ويرى المؤلف أن هذه المقالات تحوي في ثناياها آراء اجتماعية تعتبر أقدم بحوث معروفة في الاجتماع كتبها مؤلفوها الأقدمون لتكون حملة دعاية لأول جهاد مقدس في سبيل العدالة الاجتماعية؛ ولذلك يعد مؤلفوها أول المصلحين الاجتماعيين. وقد قضى المؤلف أكثر من عشرين عاما في تأمل هذه الوثائق، فلم يزده ذلك إلا تثبتا من صدق رأيه، وأن قبول هذا التفسير الاجتماعي للمصادر المذكورة إنما هو بالنسبة لنظرية تطور المدنية المصرية مثل العمل الذي قام به منذ عهد بعيد النقاد المؤرخون المستنيرون الذين يطلق عليهم نقاد دار الكتاب المقدس في سبيل تطور الحضارة العبرانية، مع فارق واحد هو أنه في خدمة قضية تطور الحضارة العبرانية كان النقد التاريخي يسير ببطء نحو فهم وقبول هذه التصوير والتفسير الاجتماعيين.
ولقد كان الحال كذلك في تصوير المؤلف للتطور الاجتماعي في الديانة والمبادئ الأخلاقية بمصر القديمة، وبخاصة ما كان أساسه أوراق بردي العهد الإقطاعي السالفة الذكر. وعلى كل حال فإن تفسير المؤلف لما تقدم قد وجد صدرا رحبا في فرنسا؛ إذ قبل هذا التفسير واستعمله صديقه المأسوف عليه «جورج بنديت» أمين متحف اللوفر وعضو معهد فرنسا، وكذلك سار على نهجه وأتقن التعقيب عليه «إسكندر موريه» خلف «مسبرو» في كلية فرنسا وخلف «بنديت» في معهد فرنسا. ومما لا يتطرق إليه الشك أن هذا التفسير الاجتماعي للمصادر المصرية وتصوير الديانة المصرية تصويرا اجتماعيا بجعلها أقدم مصدر عرف حتى الآن عن تطور الأخلاق والمثل الاجتماعية، سينال ذلك القبول العام الذي ناله نظيره في تفسير التاريخ العبري.
ومنذ إلقاء المحاضرات التي نوهنا عنها فيما سلف كشف عن وثائق أثرية جديدة (وخاصة في مصر) لم تزد فقط في معلوماتنا زيادة ملموسة، بل إنها أثبتت لنا كذلك أهمية أوراق البردي الاجتماعية التي ترجع إلى العهد الإقطاعي. وقد كان أعظم كشف جاوز حد المألوف في هذه الناحية هو أننا عرفنا أن حكمة «أمينموبي» التي حفظت لنا في ورقة مصرية بالمتحف البريطاني، قد ترجمت إلى العبرية في الأزمان الغابرة، وأنه بذيوعها في فلسطين صارت مصدرا استقى منه جزء بأكمله من كتاب الأمثال في التوراة.
فكم من قس حديث طلب إليه أن يعظ جماعة من رجال الأعمال قد قوى موعظته باقتباسه العبارة التالية من كتاب الأمثال: «هل ترى رجلا جادا في التجارة، إنه سيحظى بالمثول أمام الملوك؟» على أنه ليس من المحتمل أن أي قس من هؤلاء قد مهد لعظته بملاحظة تدل على أن ما اقتبسه قد نقله ناشر الأمثال العبرية عن كتاب مصري في الحكمة الخلقية أقدم من التوراة بكثير. لقد أضاف هذا الكشف أهمية بعيدة المدى إلى الحقيقة القائلة بأن التقدم الحضاري في الممالك التي تحيط بفلسطين كان أقدم بعدة آلاف من السنين من التقدم العبري، ولقد أصبح الآن من الواضح الجلي أن التقدم الاجتماعي والخلقي الناضج الذي أحرزه البشر في وادي النيل الذي يعد أقدم من التقدم العبري بثلاثة آلاف سنة، قد ساهم مساهمة فعلية في تكوين الأدب العبري الذي نسميه نحن «التوارة». وعلى ذلك فإن إرثنا الخلقي مشتق من ماض إنساني واسع المدى أقدم بدرجة عظيمة من ماضي العبرانيين، وأن هذا الإرث لم ينحدر إلينا من العبرانيين، بل جاء عن طريقهم. والواقع أن نهوض الإنسان إلى المثل الاجتماعية قد حدث قبل أن يبدأ ما يسميه رجال اللاهوت بعصر الوحي بزمن طويل، وأن هذا النهوض نتيجة للخبرة الاجتماعية التي مارسها الإنسان نفسه، ولم يزج إلى هذا العالم من الخارج.
إن الحقيقة القائلة بأن أفكار الإنسان الأول الخلقية أتت نتيجة لخبرته الاجتماعية الشخصية تعد من أعمق المعاني لرجال الفكر في عصرنا؛ فالإنسان قد نهض إلى مرئيات الأخلاق من وحشية عصر ما قبل التاريخ على أساس تجاربه الشخصية، فإن ذلك العمل العظيم الذي أوجد على كرتنا الأرضية تلك الحياة المستمرة الرقي، سواء أكان ذلك في حياة الإنسان أم في حياة الحيوان، كان عمل انتقال من عالم يجهل الأخلاق إلى دنيا ذات قيم باطنة تسمو على المادة؛ أي إلى دنيا تشعر لأول مرة بمثل تلك القيم، ولأول مرة تحس بالأخلاق وتسعى للوصول إليها. وبهذا العمل العظيم وصل الإنسان إلى الكشف عن مملكة جديدة لم يرد مجاهلها بعد. على أن الكشف عنها في حد ذاته كان أصعب منالا بالنسبة إلى ارتياد مجاهلها المقبل، ويعد هذا الكشف حادثا قريب العهد، أما ارتياد تلك المملكة فإن الإنسان لا يزال في بدايته. فهو إذن منهاج لم يتم قطع مراحله بعد، ويجب أن تستمر فيه على يد كل جيل مقبل.
وعلى ذلك فإن ما نحتاج إليه نحن أبناء الجيل الحاضر أكثر من أي شيء آخر هو الثقة في الإنسان، وإني أعتقد أن قصة نهوضه تعتبر قاعدة لا مثيل لها للثقة التامة به. ويعد الكشف عن الأخلاق أسمى عمل تم على يد الإنسان من بين كل الفتوح التي جعلت نهوضه في حيز الإمكان. وقد انبثق عصر فجر الضمير والأخلاق على العالم دون أن يزج به من العالم الخارجي عن طريق منهاج خفي يسمى الإلهام أو الوحي، بل كان منشؤه حياة الإنسان نفسه، ويرجع ذلك الانبثاق إلى مدة ألفي سنة قبل بداية عصر وحي رجال اللاهوت، فأضاء ظلمة الحيرة الاجتماعية، والكفاح الباطني في نفس الإنسان، فكان بذلك دليلا قاطعا على قيمة الإنسان. ومهما قيل إن نورا سماويا ساقته القدرة الإلهية على فلسطين خاصة فإن ذلك لم يحرم الإنسان من التحلي بتاج فخار حياته الذي ناله على الأرض؛ وأعني بذلك التاج كشفه للأخلاق، فإنه يعد على ما نعلم أعظم كشف حدث في مجال حياة التطور البشري.
وقد حددت الآن مكانة العبرانيين في هذا التطور من الوجهة التاريخية، وسيحاول المؤلف في هذا الكتاب أن يجعل تلك المكانة أكثر وضوحا وجلاء.
ولهذه المناسبة يهم المؤلف أن يسترعي الأنظار إلى أمر واقع؛ وهو اهتمامه طول حياته بالدراسات العبرية ؛ فقد درس اللغة العبرية سنين عدة لفصول جامعية، ويوجد الآن من بين تلاميذه كثيرون ممن أصبحوا ربانيين (حاخامات)، وله من يهود الجيل الحاضر أصدقاء كثيرون من ذوي المكانة العالمية في المجتمع. لقد اعتمدنا في تدوين الآراء الخاصة بمكانة الحضارة العبرانية في التاريخ على استنباطات سليمة استنبطت من الوثائق القديمة؛ ولذلك نرى من الحكمة أن نشير هنا، وبخاصة في عصر لا يزال يوجد فيه بكل أسف شيء من التعصب ضد الجنس السامي، إلى أن هذا الكتاب قد ألف بروح خالية من كل شعور مضاد للساميين، بل على العكس من ذلك، قد كان إعجاب المؤلف بالأدب اليهودي الذي أخذ في دراسته منذ صغره عاملا مؤثرا في نفسه لدرجة أن حكمه عليه كان دائما تحت تأثير عامل المحبة دون أي عامل آخر.
إن في تاريخ الحضارة العبرانية القديمة دليلا ساطعا على تقدم الحياة البشرية، وعلى رقي الإنسان نحو مرئيات جديدة من الأخلاق والمثل العليا الاجتماعية، وعلينا الآن أن نتعرف منهاج التطور البشري في مداه الواسع الذي يسمو على الفواصل الجنسية - ذلك المنهاج الذي احتل فيه اليهود مكانة وسطى - وأن ندرك الأهمية العظمى للحقيقة التاريخية الثابتة؛ وهي أن الإنسان قد سما إلى تصور خلقي عال قبل أن تظهر الأمة العبرانية في عالم الوجود بألفي سنة.
جيمس هنري برستد
جبل يورو همستد نيومكسيكو
27 يونيو سنة 1933
مقدمة
أعتقد أن «ديدرو» هو الذي حاول أن يوضح لابنته الأصول الفلسفية للأخلاق الفاضلة حينما كانت تنتقل في مجال حياتها من مرحلة الطفولة إلى سن الشباب، فلما أخفق في كشف مثل هذه الأسس وجد نفسه في ورطة محيرة، ومع ذلك فإن «ديدرو» في ممارسته لشئون الحياة الواقعية لم يتنح عن اعتقاده الجريء في قيمة السلوك الفاضل.
ففي عصر كالذي نعيش فيه - وهو العصر الذي نجد فيه خلقا كثيرا لا ينكرون عقيدة «ديدرو» كل الإنكار، وإنما يتمسكون بمقاييسهم الشخصية للفضيلة - يشعر الإنسان بحاجته إلى وسيلة تمكنه من النظر إلى الوراء في الأجيال الغابرة من حياة البشر، ليتدبر بعين بصيرته بعض الأسس التاريخية التي بنيت عليها آراؤنا في السلوك الفاضل.
ولقد مرت على الإنسان فترة من الزمن كان لا يحس فيها مطلقا بعنصر السلوك، وذلك حينما كان كل ما يأتيه من الأعمال يأتي عن طريق الغريزة؛ لذلك يعد شعوره لأول مرة بالسلوك أو الأخلاق تقدما هائلا في حياة البشر، وقد صار هذا التقدم أعظم خطرا عندما سما الإنسان إلى درجة أدرك فيها أن من السلوك ما يستحسن وما يستهجن، فكان ظهور هذا الإدراك خطوة نحو انبثاق الضمير. فلما أخذ الضمير في النمو أصبح في النهاية قوة اجتماعية عظيمة، وصار له بدوره أثر في ذلك المجتمع الذي أخرجه من قبل إلى عالم الوجود.
ففي حياة الصياد في عصر ما قبل التاريخ الذي كان يكافح بين ذوات الثدي المتوحشة الهائلة التي كانت تحيط به، بدأ يسمع همسا من عالم جديد كان ينبثق فجره في باطنه، وكان هذا الهمس بمثابة بوق جديد يختلف عن همس ألم الجوع أو الخوف الذي يشعر به الإنسان للمحافظة على كيانه؛ إذ لم يكن يقتصر هذا البوق على تحريك إحساس واحد فحسب تاركا كل المشاعر الأخرى هادئة مطمئنة، بل حرك لأول مرة كل العوامل النفسية معا. فما هو المنبع الذي خرجت منه كل هذه الأصوات الباطنة؟ وكيف اكتسبت تلك القوة الآمرة في حياة الإنسان الفردية؟ وكيف أنها نهضت حتى أصبحت قوة راسخة مسيطرة في المجتمع الإنساني؟ لا شك أن ذلك كان تقدما عظيما وتغييرا أساسيا. ونحن نكرر هنا أن كل هذا التقدم كان رحلة اجتماعية تقع مراحلها الأخيرة في متناول مدى ملاحظاتنا؛ لأنها حدثت في العصر التاريخي؛ أي في العصر الذي ظهرت فيه الوثائق المدونة. وقد ساعدنا حل رموز اللغات الشرقية القديمة على قراءة ما وصل إلينا من السجلات المكتوبة، فكشفت لنا عن فجر الضمير، وعن الأطوار التي صار بها قوة اجتماعية، وتمخضت لنا عن عصر الأخلاق؛ ذلك العصر الذي ما زلنا نقف عند أول مرفأة فيه. والأرجح أن هذا التطور استغرق أمدا طويلا لا يقل عن مليون سنة، استطاع الإنسان في نهايته أن يبني تلك الحياة الراقية التي بدأ يبرز منها عصر الأخلاق. ولم يبلغ هذا الانتقال البطيء ذروته إلا بالأمس، وإن كان الإنسان في يومنا لا يشعر حتى الآن بأنه دخل حديثا جدا في مملكة جديدة لم يتعلم حتى الآن كيفية الاستيلاء عليها.
على أن إخفاق الإنسان في إدراك أنه يتجول في مملكة مجهولة له لم يدخلها إلا حديثا، يرجع بعض الشيء إلى مؤرخيه، فإنهم يعلمونه أن التاريخ البشري ينقسم إلى عصور عظيمة مثل عهد الملكية وعهد الإمبراطوريات وعهد الديموقراطيات إلخ. إن التقسيم على هذا النمط مفيد مهذب للأذهان، غير أنه مع ذلك لا يتعمق بعيدا في طبيعة حياة الإنسان السائرة نحو الرقي. ويوجد طراز آخر من المؤرخين يعترفون بأهمية «عصر الآلات وما يتبعه من الانقلاب الصناعي» في حين أن المهندسين المتحمسين ينشدون للحكم (الآلي) الميكانيكي؛ يلخصون رقي الإنسان بتعبيرات كلها تتعلق باستخدام القوة. ومن جهة أخرى يجد علماء الآثار أنه من السهل عليهم أن يقسموا تاريخ حياة الإنسان إلى عصور عدة: العصر الحجري، وعصر استعمال النحاس، وعصر استعمال الشبه (البرنز)، وعصر استعمال الحديد.
في حين أن مؤرخ علم الأحافير النباتية والحيوانية
بعد أن يعدد سلسلة عظيمة تشمل الأطوار المتتالية لحياة الحيوان الناهضة، ويقص علينا أننا نقترب الآن من ختام عصر ذوات الثدي، ومع أن هذه التقسيمات ملائمة أو ضرورية فإنها من غير شك لا تزال من بعض الوجوه سطحية، بل إن الاصطلاحين: «عصر الديموقراطية» و«عصر الميكانيكا» على حسنهما لا يدلان إلا على القليل من التحرر الفكري الذي كان سببا في وجودهما. أما التقسيمات التي تكون أكثر فائدة وأعظم أهمية، وتدل في آن واحد على أطوار التقدم الإنساني، فهي التي تكون على نحو «عصر الضمير والأخلاق» (الذي بدأ منذ نحو خمسة آلاف سنة)، وعصر العلوم الذي جاء به «جليليو» منذ أكثر من ثلاثمائة سنة.
والواقع أن كتابة التاريخ حتى الآن لم تعط سوى القليل من العناية لهذه التطورات الإنسانية الأساسية.
لقد صار الإنسان أول صانع للأشياء بين مخلوقات الكون كله قبل حلول عصر الجليد، والأرجح أن ذلك كان منذ مليون سنة، بل ربما قبل ذلك الأمد. وقد صار في نفس الوقت أول مخترع للأسلحة، وعلى ذلك بقي نحو مليون سنة يحسن هذه الآلات، ولكنه من جهة أخرى لم يمض عليه إلا أقل من خمسة آلاف سنة منذ أن بدأ يشعر بقوة الضمير إلى درجة جعلته قوة اجتماعية فعاله. أي إن القوة الجسمانية تشد أزرها قوة العلم السامية مدة الثلاثة القرون الأخيرة بقيت تعمل في صنع الآلات الحربية الدقيقة الصنع فيزداد تحسنها باستمرار، حوالي مليون سنة؛ في حين أن قوة الإنسان الباطنة التي تفوق تلك القوة المادية في رفعتها؛ وأعني بها القوة التي نهضت من التجارب الاجتماعية، لم تعمل في المجتمع إلا منذ حوالي خمسة آلاف سنة فقط. فلا شك إذن في أن عصر السلاح يبلغ عمره مليون سنة مع أن عصر الأخلاق قد شق طريق بدايته البطيئة تدريجا منذ نحو أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة. وقد حان الوقت الذي يجب فيه على العالم الحديث أن يدرك شيئا من أهمية هذه الحقيقة البالغة، بل يجب أن تصبح دراسة ذلك جزءا من التربية الحديثة. لذلك كان الغرض من هذا الكتاب هو إبراز الحقائق التاريخية، واستعراض المصادر القديمة الهامة التي استقيت منها أمام القارئ، فيظهر لنا بذلك أننا ما زلنا واقفين في غبش فجر عصر الأخلاق. لا بأس أن يكون ذلك قاعدة لأحلام ضحى لا يزال في الواقع بعيدا جدا عنا، ولكنه لا محالة آت وراء ذلك الفجر.
وبعد الفراغ من وضع هذا المؤلف فطنت إلى ملاحظة «إمرسون» في مقاله السياسي؛ تلك الملاحظة المتنبئة التي وضعتها على صفحة عنوان هذا الكتاب، وهي ملاحظة غابت عن ذاكرتي منذ عدة سنين مضت. ولقد أصاب «إمرسون» (قس مقاطعة نيو إنجلند) كبد الحقيقة بما أوتيه من قوة التصور الإلهامية بهذه الكلمة التي قالها، والتي تعد أبرز حقيقة في مدى الحياة العصرية قاطبة؛ وذلك أنه في عصر «إمرسون» كانت تلك الحقيقة التي فاه بها لا يمكن أن يدلل على صحتها بأكثر من كونها مجرد اعتقاد أو إحساس شخصي، ولكن منذ أن تواري ذلك الحكيم كشفت لنا بحوث تاريخ الشرق القديم أنها حقيقة تاريخية. ولذلك كان الغرض من هذا الكتاب أن يجعل في متناول القارئ المتوسط الاطلاع الأدلة التاريخية التي كانت أساسا لمعرفتنا الجديدة لهذه الحقيقة العظيمة الشأن.
إيضاح
عن ترجمة النبذ المقتبسة في هذا الكتاب
لقد كان هم المؤلف أن يضع في هذا المجلد الترجمة الإنجليزية لكل المصادر الهامة التي أخذ عنها، أو ترجمة النبذ التي وجدت ضرورية لتدعيم التدرج التاريخي اللازم. على أن القارئ لم يثقل كاهله في معظم الكتاب بذكر أسماء المصادر، وفيما يختص بمتون الأهرام العظيمة فإن القارئ الذي يريد أن يرجع إلى تحقيق مصادرها فإنه يجدها في «محاضرات مورس» المطبوعة للمؤلف. وقد أخذ عنها المؤلف بكثرة دون أن يضع علامات اقتباس، ويجب على القارئ أن يلاحظ في الترجمة الإنجليزية ما يأتي:
الكلمات التي وضعت بين نصفي قوسين [هكذا] تدل على أن معناها ليس محققا في الأصل.
الكلمات التي وضعت بين قوسين تعتبر تصحيحا مفروضا فيه، إما أنه قد كان موجودا في الأصل ثم فقد الآن، وإما أن يكون هو المعنى الذي يفهم من الأصل بالتغليب.
الكلمات التي توضع بين شرطتين هي تفسيرات من عند المؤلف ولا وجود لها في الأصل.
الفصل الأول
الأساس والماضي الجديد
تطالعنا الصدف أحيانا في بعض بقاع أوروبا بوجود أثرين متجاورين - بصورة تدعو إلى الغرابة - أحدهما ينتسب إلى أقدم عصور متوحشي ما قبل التاريخ، والثاني ينتسب إلى ما يسمى المدنية الحديثة، وكلا الأثرين يمثل تاريخ الجنس البشري في عصره. فأولهما يمثل التاريخ القديم وثانيهما يتحدث عن التاريخ الجديد؛ أي أقدم عصر وأحدث عصر يمكن اقتفاؤهما في مجال حياة بني البشر. ففي شمال فرنسا وعلى أديم تلك التلال المشرفة على «نهر السوم» والتي كانت مسرحا لكثير من المواقع الحربية، انغرست الألوف من شظايا قذائف الفولاذ على عمق كبير في المنحدرات والمستويات التي مهدها النهر لنفسه منذ أزمان خلت، واليوم بعد أن سكتت المدافع الضخمة التي كانت ترمي تلك القذائف، يستطيع المرء بعد أن يعمل بفأسه بضع دقائق في حافة الوادي، أن يرى «البرت» (البلطة) المصنوعة من الظران، وهي من أقدم ما خلفه الإنسان من الأسلحة تجاور نثارا من شظايا مسننة، لقذائف الفولاذ المفرقعة، فبالآلة الأولى كان يستطيع أول أجدادنا المتوحشين أن يهشم جمجمة خصمه فيودي بحياته، وبالمهلكات الثانية اعتاد نسله المتحضر أن ينسف عدوه ويمزقه إربا.
وفيما بين الجارتين (البرت والشظايا) يقع تاريخ حياة بني الإنسان، وهو قصة لا يقل عمرها عن عدة مئات من آلاف السنين، بل ربما بلغ مليون سنة. وقد كان المجهود البشري خلال هذه السنين يسير بالإنسان من طور إلى طور حتى انتقل من الطرق الفطرية للهلاك إلى تلك الطرق البالغة حد التفنن في السحق والتدمير.
إن تاريخ حياة الإنسان هو في الغالب قصة التغلب على القوى المادية بتدابير منوعة لا حصر لها من الآلات والعدد، ولكن لا ننسى بجانب ذلك النتائج الصناعية والاجتماعية والسياسية والفنية والعقلية التي نجمت عن اختراعها؛ فأسطوانة الآلة البخارية أو آلة الغاذولين هي رمز العصر الحاضر، كما أن «البرت» المصنوعة من الحجر هي العلامة الدالة على حياة العصر الحجري الذي يرجع عهده إلى ألف ألف سنة على الأرجح،
1
على أن العثور على تاريخ الماضي بهذا المعنى الواسع يحتاج إلى بحاثة من طراز جديد، بحاثة عالمي يجمع إلمامة بين علم الإنسان وعلم الآثار وعلم الأجناس وعلم الديانة المقارن، ويكون مع ذلك متضلعا في الفن والأدب متفقها في كل من اللغات القديمة من أوروبية وشرقية.
وعلى الرغم مما يقتضيه تكوين عالم من هذا الطراز من جهود مضنية وسنين كثيرة في الدرس والتعليم، فإنه يوجد الآن بعض علماء من هذا النوع يقومون بهذه البحوث فعلا، فتطلع علينا جهودهم المخلصة بقصة ذلك المنهاج الطويل العمر الذي أفضى في النهاية إلى حلول مداخن المعامل الحديثة، وكل ما نتج عنها من أمراض اجتماعية واقتصادية، محل تلك الأحراج الفطرية التي كان يجول فيها صياد العصر الحجري. ومع ذلك فإن المجهود الجدي في البحث عن تاريخ ماضي الإنسان لم يكد يتعدى مراحله الأولى، فإنه لم يمض قرن على عثور «بوشيه دي برت»
Boucher des perthes
2 - الذي يعد طليعة الباحثين في علم الآثار ما قبل التاريخ - في حصباء نهر «السوم» على «البرت» الذي يرجع تاريخها إلى أقدم إنسان أولي متوحش، وبجانبها عظام بعض الحيوانات الهائلة من ذوات الثدي التي انقرضت منذ زمن سحيق، فأعلن «دي برت» إذ ذاك أنها معاصرة لتلك البرت المصنوعة من الظران. ومنذ جيلين تقريبا زار العلماء الإنجليز «هكسلي»
Huxley ،
3
و«برستويتش»
و«السير شارلس ليل»
Sir Charles Lyell
4
وغيرهم وادي «السوم»، وتأكدوا من الحقائق التي لاحظها «بوشيه دي برت»، وكانت نتيجة هذه الزيارة أن نشر «ليل» مجلده الذي يعد بداية عصر جديد وسماه «قدم الإنسان»
The antiquity of Man ، وقد ظهر أثناء حروب أمريكا الأهلية
American Civil war . وكلنا يعرف الهزيمة التي ألحقها «هكسلي» بأساقفة الإنجليز على أثر الاعتراف بعظم قدم عمر الإنسان؛ لأن بعضنا قد قرأ المناقشة في أيامنا الأولى في المجلات السائرة.
ومن الأشياء الحديثة كذلك إماطة اللثام عن التاريخ الشرقي لعدة آلاف السنين الخوالي مما لم يكن معروفا من قبل عن الشرق القديم.
فلا يزال كتاب التاريخ القديم الذي ألفه رلن
5
Rollin Ancient History
معروضا للبيع في المكتبات مترجما إلى الإنجليزية مع أنه لم يكن بين يدي مؤلفه كثير من المصادر فوق تاريخ «هردوت» والتوراة، وفي حداثة سني كان هذا الكتاب لا يزال يقرأ بكثرة. ونسخة والدي من كتاب «ليرد»
6
نينوه وبابل
Leyard, Nineveh and Babylon
التي أدهشني منها في طفولتي ما رسم على غلافها من الثيران الرمزية المجنحة ذات الرأس الآدمي - أخذت مكانها في مكتبته سنة 1869 كما ينبئ بذلك التاريخ المكتوب على ورقة الغلاف، على حين كانت صفحة عنوان الكتاب تحمل تاريخ سنة 1859م.
وكان حل رموز الخط المسماري للبابلية والآشورية قد تم قبل ذلك التاريخ ببضع سنين فقط، أما أول نقش مصري فقد حل عام 1822؛ أي قبل حل الخط المسماري بنحو ربع قرن. والحقيقة أن معرفتنا بهذه اللغات ونظم كتابتها لا تزال بعيدة عن حد الكمال، وإن كانت تسير في سبيل التقدم المطرد كما يبرهن على ذلك حل رموز الخط المسماري الحيثي حديثا، والتقدم المحسوس كذلك في فك هيروغليفي الحيثيين. وبذلك أصبح فحص الوثائق القديمة الكثيرة العدد والتي بدأ العالم يفهمها بسهولة، والحفائر التي أحيت فصولا بأكملها من حياة الإنسان، مصدرين يكشفان الآن بوضوح متزايد عن رواية تمثيلية خطيرة في تاريخ التقدم البشري. وهكذا قد أزيح الستار في أيامنا تقريبا وبسرعة مدهشة فتيسر لنا النظر إلى الوراء في أعماق ماض متغلغل في القدم لم يتسن للفكر ولا للتعليم حتى الآن أن ينسجم معه. ولندع الآن أبصارنا تسبح في هذا المدى الرهيب من التقدم البشري الذي كشف لنا عنه البحث في إنسان ما قبل التاريخ، وفي مدنيات الشرق التي كنا قد فقدناها.
ويكاد كل امرئ يعرف قدرتنا الآن على تعقب الخطوات التي خطاها أقدم إنسان في أوروبا إلى الأمام خلال آلاف من السنين قضاها في نضال مع دنيا المادة، فالغطاء الجليدي القطبي الذي انحدر أربع مرات على الجانب الشمالي للبحر الأبيض المتوسط فأجلى متوحشي أوروبا أهل العصر الحجري القديم إلى الجنوب، ثم تقهقر بعد ذلك ببطء نحو الشمال ثانية، وهكذا في كل من الدفعات الأربع جعل هذه الظاهرة في نظرنا بمثابة ساعة جيولوجية هائلة يدل تذبذب (رقاصها) الضخم أربع مرات متتالية منتظمة على مرور فترة عظيمة من الزمن ظهر فيها ذلك التحسن المتدرج في أسلحة الإنسان الحجرية وآلاته وتقدمه البطيء في قطع الطريق الطويل من الوحشية إلى المدنية.
على أن الخيال يقف حائرا أمام هذه الكشوف التي تنبئنا عن المعركة الطويلة الأمد التي خاض غمارها جدنا المتوحش، وذلك حينما نرى في تغلبه البطيء على القوى التي تحيط به مشهدا دنيويا يملؤنا بنفس العاطفة الدنيوية التي نشعر بها أمام حدوث ظاهرة عظيمة من ظواهر الطبيعة.
وإذا فرضنا أن كثيرا من المتعلمين في عصرنا يعرفون الحقائق البارزة الآنفة الذكر فإنه من غير المعلوم لدى الجميع أن كشوف السنين القلائل الأخيرة قد أماطت اللثام عن تفاصيل حياة العصر الحجري التي وجدت حول جميع البحر الأبيض وانتشرت على شواطئه كما انتشرت حكومة الدولة الرومانية حوله بعد ذلك بآلاف من السنين، فكانت على ذلك تشمل شمال أفريقيا وغرب آسيا.
7
وعلى ذلك كانت هناك «دنيا شرق أدنى» شاسعة لإنسان العصر الحجري القديم، تشمل شمال أفريقيا وغرب آسيا مكونة بذلك مسرحا شاسعا تمتد جبهته من البحر الأسود شمالا مخترقة سوريا وفلسطين إلى الشلالات النائية في أعالي النيل جنوبا، وأما الجزء الخلفي لهذا المسرح فتحده الجبال الفارسية.
وهذه الصورة عميقة في القدم عمقها في المساحة؛ إذ لا يقل عمرها عن مئات الآلاف من السنين، وقد يصل إلى ألف ألف سنة، منذ بدأ الغطاء الجليدي القطبي يزحف جنوبا على أوروبا، وكان الناس قد بدءوا فعلا يعيشون عيشة الصيد على مسرح الشرق الأدنى هذا. وإذا جاز لنا أن نحكم من شكل إنسان ما قبل التاريخ الذي كان يعيش في شرق آسيا قريبا من «بكين» الحالية؛ فإن مخ صيادنا الغربي كان أقل حجما بمقدار الثلث من مخ سلفه الذي عاش في العصر التاريخي في نفس الإقليم، وقد ترك أسلحته الحجرية منتشرة على سطح الأرض في الشمال الشرقي من أفريقيا، وعلى تلال آسيا المجاورة ووراء جبال فارس.
وحري بفترات الزمن التي تضمها هذه العهود أن تقاس بمراحل جيولوجية لا بالسنين، فأولى مراحل هذه العصور الجيولوجية كان عصر تكوين أودية الأنهر العظمى للإقليم، ولا شك أن أناس الشرق الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ كانوا بطبيعة الحال يجهلون أنهم يرقبون تكوين وادي النيل ووادي الدجلة والفرات في وقت كانت فيه دلتا النيل الحالية لا تزال خليجا للبحر الأبيض المتوسط، كما كان الخليج الفارسي يمتد شمالا فوق ما هو معروف الآن بسهل «بابلون» إلى خط عرض الركن الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
أما ثاني تلك المراحل الزمنية فقد تحدد لنا الآن (وقد كان يسير جنبا لجنب مع تقدم حياة الإنسان) ونعني به عصر «نضوب الماء»؛ ذلك النضوب الذي كان ينتشر تدريجا، فالصحارى المعروفة لنا تمام المعرفة في هذه الأقطار لم تكن قد ظهرت بعد؛ إذ كان كل شمال أفريقيا إقليما ذا أمطار غزيرة ونباتات وفيرة مكونا ميدان صيد أنموذجيا، وقد عثرت على ثلاثة قوارب نيلية لصيادي الهضبة محفورة على الصخور الواقعة في مجاهل صحراء النوبة فيما وراء «أبو سنبل»، وقد كشف حديثا الدكتور «سندفورد» مدير مساحة المعهد الشرقي أسلحة الظران التي كان يستعملها هؤلاء الصيادون مبعثرة في أقاصي الصحراء الجنوبية على مسافة ألف ميل أو أكثر من النيل، ولا تزال هذه الآلات والأسلحة الحجرية الملقاة حيث فقدها أصحابها منذ مئات الآلاف من السنين شاهدا صامتا على المجال الفسيح الذي كان يرتع فيه الصيادون والحيوانات التي كانوا يقتفون أثرها في وقت كان فيه جميع شمال أفريقيا ممرعا خصب الجناب. ولا يغرب عن ذهننا أن الأماكن التي توجد فيها تلك الأدلة الصامتة عن حياة الإنسان الغابر، هي الآن مناطق منعزلة قاحلة موحشة لا يجسر أي صياد حديث أن يدلف إليها في الصحراء؛ لأنه لا يأمل أن يعود على قيد الحياة بعد أن يخترق تلك المجاهل الماحلة.
وقد كان منتصف زمن العصر الحجري القديم مبدأ انحسار المطر، وفي أثره حل الجفاف العظيم الذي حول هضبة شمالي أفريقيا الخصبة إلى تلك البيداء الشاسعة التي نسميها الآن «الصحراء العظمى».
8
ولقد كانت العوامل الجيولوجية في ذلك الوقت آخذة منذ زمن بعيد تعد موطنا جديدا أكثر ملاءمة وأحسن موقعا لصيادي العصر الحجري في الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا، فهنا كانت أفريقيا الحارة تمتد عبر الصحراء إلى الركن الجنوبي الشرقي من البحر المتوسط، وهو ممر خصب منبطح زاخر بالأعشاب النضرة وبحيوان أفريقيا الداخلية مما أعطى صيادي العصر الحجري مأوى لا تنفد موارده في موقع لا مثيل له من الأمن والحماية من الدخلاء المغيرين.
ولا بد أن حيوانات أفريقيا الشمالية الشرقية بعد أن طردها من الهضبة تناقص الطعام المستمر عندما أصبحت النباتات قليلة جدا لا تكفي دفع غائلة الجوع وحفظ الحياة، قد لجأت إلى شواطئ النهر العظيم عند الجزء السفلي من وادي النيل، فجعلت منه مرتعا للصيد منقطع النظير، وجنة الخلد هذه الواقعة في الجزء السفلي من وادي النيل، والتي نسميها الآن مصر، كانت تجذب إليها أحيانا منذ البداية صيادي العصر الحجري الذين كانوا يسكنون هضبة شمال أفريقيا، ولكن لما اضطرهم الجفاف في النهاية إلى اقتفاء حيوان الصيد في هذا الاتجاه بدءوا يتخذون وادي النيل الضيق موطنا مختارا لهم. وقد أقام الجفاف في النهاية حول جنة الصياد هذه حاجزا منيعا من الصحراء لا يمكن اختراقه من ثلاثة جوانب من حدود مصر - الشرق والغرب والجنوب - وحول وادي النيل الأسفل إلى معمل اجتماعي منعزل لا مثيل له في سائر بقاع العالم؛ لأن النيل هو النهر الوحيد على كرتنا الأرضية الذي ينبع من المناطق الحارة وينساب نحو الشمال مخترقا نحو 700 ميل في «المنطقة الإقليمية» التي ظهرت فيها أول النظم القومية العظيمة، وهي المنطقة المعتدلة للدول القديمة بين خطي عرض 25، 45 شمالا، وفيها نمت،
9
كل العاهليات القديمة، هذا فضلا عن أن وادي النيل في عصور ما قبل التاريخ كان يتمتع بمزية فريدة؛ إذ لم يكن معرضا لشدائد عصر الجليد، بل كان منفصلا عنها ومحتميا منها بمياه البحر الأبيض المتوسط الملطفة الواسعة الأرجاء، على حين أن حياة صيادي العصر الحجري الأوروبي في شماله قد عاقها عن التقدم الرياح القطبية واندفاع الثلوج التي لا تقاوم.
ولقد كان غربي آسيا على تمام النقيض من مصر، تحوط دائرته الشمالية تلك الهضبة الجبلية الممتدة من البوسفور حتى بلاد إيران، فكان معرضا بدرجة عظيمة لأخطار ذوبان الجليد المخربة وزمهرير برده القارس، وقد ترجع قصة الطوفان العام التي ورد ذكرها في «بابل» ثم في التوراة إلى فيضان جليدي من هذا النوع. ولقد كانت هذه القوة الطبيعية المزعجة المغيرة من المرتفعات الشمالية الواقعة في غرب آسيا نذيرا لغارات بشرية متتابعة كانت كذلك تنزح من هذه المرتفعات وتغمر الإقليم في دورات معلومة؛ فتقلب النظام الاجتماعي والحكومي القائم. ولذلك كان التقدم البشري في الإقليم إذا خطا خطوته الأولى نحو التطور الاجتماعي لا يلبث أن يعثر وتزل به قدمه، فيرجع إلى سيرته الأولى فيحاول النهوض مرة أخرى ويعاني نفس العملية المرة بعد المرة. بمثل هذا تناوبت القوى المغيرة من طبيعية وإنسانية على وقف التطور الاجتماعي في بابل، وقد كان لزاما علينا أن نعتبر دوافع الغزو الأجنبي قوة مجددة لولا ما ظهر لنا من أن تلك الفكرة قد غالى في تقديرها بعض المؤرخين؛ فالشجرة الضخمة تقف في وجه الرياح بفضل قوة تلك الحلقات الصلبة التي تنمو في جذعها سنويا، والتي ربما كانت تنمو فيها منذ قرون وتبقى متأصلة في داخل تركيب جذعها العظيم، فالقوة في مثل هذه الشجرة يمكن أن تتخذ مثالا لتوضيح نمو النظام القومي الذي اكتسب زيادة قوته بالبناء المستمر، ولكن الشجرة التي تعصف بها الريح مرارا وتزعزعها من الأرض أحيانا تبقى دائما قصيرة عارية. ولم يكن من باب الصدفة أن سقوط المدنية البابلية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وغزوها على يد الدولة الكاسيلية بعد أن بلغت قوتها في عهد أسرة «حمورابي» أعقبه نضوب ثقافي استمر مدة ألف سنة أو يزيد.
وعلى العكس من ذلك نرى - كما أسلفنا - أن الجفاف الذي حدث في شمال أفريقيا قد جعل وادي النيل في معزل، وكون منه ذلك الممر الضيق المحمي الذي لا مثيل له على سطح عالمنا، وهو يمتد شمالا وجنوبا، فأحد طرفيه في المناطق الحارة، والطرف الآخر يشرف على بحر داخلي عظيم في المنطقة المعتدلة، وكان يتمتع بميزات طبيعية فريدة في نوعها، فقد كان منعزلا ومحميا بشكل جعل التطور البشري فيه سهلا؛ ذلك التطور الذي رغم بعض الغزوات الأجنبية ظل مستمرا آلافا من السنين دون أي عائق جدي. وفي أيامنا هذه تتكشف التربة المصرية على حدود الصحراء عن قبور أقدم الجبانات المعروفة في العالم كله، ونجد في هذه القبور خلف صيادي العصر الحجري في وادي النيل عندما كانوا في بداية الانتقال إلى عصر المعادن، وذلك قبل 4000 سنة ق.م بزمن يذكر، ومن الجائز أن يكون قبل هذا العهد بكثير، وكانوا قد استأنسوا أهم الحيوانات المنزلية، وانتقلوا إلى دور حياة الفلاح.
والدلائل تؤيد رأي من قال إن هؤلاء المصريين الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ المدفونين في أقدم الجبانات، هم وأجدادهم كانوا أقدم مجتمع عظيم على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاء ثابتا باستئناس الموارد البرية من نبات وحيوان، على حين أن تغلبهم على المعادن فيما بعد وتقدمهم في اختراع أقدم نظام كتابي، قد جعل في أيديهم السيطرة على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة.
فيتضح مما تقدم أن وادي النيل المعشب الواقع شرقي أرض الصحراء لم يجذب إلى داخل جدرانه الصخرية المنكمشة صيادي ما قبل التاريخ المشتتين على ساحل أفريقيا الشمالي فحسب، بل هيأ لهم مجتمعين التسلط على كل الموارد اللازمة للتقدم الإنساني في أحوال حسنة جدا، لدرجة جعلت الجماعات المحلية التي كانت تتألف منها البلاد تتوحد تدريجيا، حتى أصبحت أول مجتمع عظيم مؤلف من عدة ملايين يحكمهم ملك واحد وفي أيديهم كل الأسس الرئيسية اللازمة للحضارة. ففي القرون التي تقع بين 5000، 3500ق.م قامت أول دولة متحضرة كبيرة في وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربي آسيا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادي العصر الحجري.
والأرجح أن أول اندماج تألفت به أمة واحدة حدث في وقت لا يتجاوز سنة 4000ق.م، وقد كان من نتائجه أن بقيت البلاد متحدة مدة بضعة قرون أطلق أنا عليها الآن اسم «الاتحاد الأول». وكان من نتيجته تأسيس حكومة مركزية قوية تعد أقدم نظام إنساني معروف يضم عدة ملايين من الأنفس.
10
ولما تألف «الاتحاد الثاني» فيما بعد بدأ تطور قومي في شكل هائل في نظام الحكم ونواحي الاقتصاد والاجتماع والدين والعمارة والفن والأدب، أخذ يسير بخطى ثابتة مدة ألف سنة من القرن الخامس والثلاثين إلى القرن الخامس والعشرين ق.م. وهذا العصر البالغ ألف سنة هو مرحلة فريدة في حياة الإنسان على الأرض؛ لأنه يوضح لنا أن أول فصل في تقدم الحياة البشرية إنما هو عملية اجتماعية، تكشف لنا عن مبدأ ظهور العوامل الاجتماعية وتأثيرها في المجتمع الإنساني. ومن المهم أن نؤكد كلمة «فريدة» التي استعملناها في العبارة السابقة؛ لأنه لم يكن في هذا العصر البعيد نمو مطرد متعاقب في أية بقعة أخرى من بقاع العالم القديم، وإن مدة الألف السنة هذه هي التي وضعت مصر من الوجهة الخلقية والثقافية في مرتبة تفوق بكثير ما كان في بابل، حيث كانت الشحناء قائمة بين بعض المدن وبعضها الآخر؛ تلك المدن التي كانت تؤلف ممالك صغيرة تناضل عن شئون محلية ضئيلة، واستغرق نضالها مدة الألف السنة السابقة بعينها، بل بقي بعضها على هذا النحو بعد ذلك مدة طويلة. ولقد كان الاتجاه الرئيسي في معترك الحياة فيما قبل السنين الألف المذكورة التي تعد أساسية وهامة في التقدم الاجتماعي، هو العمل على تقدم الإنسان في التغلب على عالم المادة، وعلى ذلك يكون وادي النيل في نظرنا هو أول مسرح اجتماعي يمكننا أن نلاحظ فيه الإنسان خارجا منتصرا من كفاح طويل مع الطبيعة، وداخلا مسرح العوامل الاجتماعية الجديدة ليبدأ كفاحه الشاق بينه وبين نفسه، وهو كفاح لم يكد يتخطى بدايته حتى يومنا هذا.
وإنا معشر الأمريكيين على استعداد خاص لندرك ونقدر الانقلاب العجيب الذي جعل من الأرض القاحلة أرضا ذات مدن زاهرة ... فإن آباءنا الذين قامت مجهوداتهم بإنشاء مدن عظيمة ثرية على طول أراضينا الشاسعة، إنما تسلموا الفن والعمارة والصناعات والتجارة والتقاليد الحكومية والاجتماعية بطريق الوراثة عن أجدادنا الأوروبيين، ولكن في ذلك العصر السحيق الذي نحن بصدده بدأ الانتقال من الوحشية إلى المدنية بكل مظاهره الخارجية في الفن والعمارة من لا شيء. وليست أهمية ظهور المدنية في وادي النيل منحصرة في بهاء مبانيها فحسب، بل لأنه كان أيضا تطورا اجتماعيا مستمرا دون أي عائق أكثر من ألف سنة، أشرق لأول مرة على كرتنا الأرضية، مقدما لنا أول برهان على أن الإنسان الذي هو أرقى المخلوقات الفقرية التي ظهرت على وجه البسيطة أمكنه أن يخرج من الوحشية إلى المثل الاجتماعي الأعلى، ويظهر الحياة الإنسانية بمظهر لم ير الكون كله - على ما نعلم - أرقى منه.
وفي أيامنا يدخل السائح وادي النيل وكأنه دخل أرض العجائب، على أبوابها تلك الأهرام الضخمة التي طالما تخيل منظرها منذ نعومة أظفاره. وعندما يصعد في الوادي مع النهر يرى فيها وراء الشواطئ الي تحفها النخيل أسوار معابد واسعة توصل إليها من الشاطئ طرق مزينة بتماثيل أبي الهول، ويشرف عليها مسلات ضخمة شاهقة الارتفاع وقاعات وعمد فخمة، ولكن قلما يخطر ببال ذلك السائح أنه في أمريكا ووادي النيل سواء بسواء يسبق القفر كل ما يرى من فن وعمارة. فحيث تقوم الآن هذه الآثار الحجرية العظيمة كانت تمتد يوما ما تلك الغابات الكثيفة التي كانت تمتد في أودية النيل الضيقة، وكانت خالية من السبل آلافا من السنين، اللهم إلا مسالك الصيادين الضيقة التي كانت ترى ملتوية بين الأعشاب ومؤدية إلى حافة الماء. ولم يكن لسكان وادي النيل في عصر ما قبل التاريخ أجداد متحضرون يرثون منهم أية ثقافة، ولا بد أن تجد أن في خبرة هؤلاء القوم التي كانت آخذة في التعمق، وفي أفقهم الذي كان آخذا في الاتساع؛ ذلك السحر الذي حول هؤلاء الصيادين السذج ومساكنهم الصغيرة المصنوعة من الطين وأخصاص من الخوص إلى مجتمع عظيم يسيطر عليه رجال ذوو سلطان وخيال واسع وأصحاب آمال ضخمة، أحرار لم تغل أيديهم التقاليد فعمرت تلك البقاع التي كانت يوما غابة، ولم يكتفوا بنشر هذه الآثار فيها على طول النهر وعرضه، بل أدركوا كذلك المعنى السامي لقيم الأشياء الاجتماعية والأخلاق البعيدة عن الأنانية، مما لم ينبثق فجره على العالم من قبل. وإن الذي يعرف قصة تحول صيادي عصر ما قبل التاريخ في غابات النيل إلى ملوك ورجال سياسة وعمارة ومهندسين وصناع وحكماء وأنبياء اجتماعيين في جماعة منظمة عظيمة مشيدين تلك العجائب على ضفاف النيل في وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش في همجية العصر الحجري، ولم يكن فيها من يعلمها مدنية الماضي؛ من يعرف كل هذا يعرف قصة ظهور أول مدينة على وجه الكرة تحمل في ثناياها صورا خلقية ذات بال.
فالمدنية في أعلى معانيها قد ولدت إذن في الركن الجنوبي الشرقي في البحر الأبيض المتوسط، ومع ذلك قد كان هناك منذ البداية تقدم هام نحو المدنية في غرب آسيا المجاورة؛ وبخاصة في بابل، حيث ظهرت في نهاية الأمر ثقافة ما تمتاز بتقدمها المطرد في الشئون العملية والتجارية والقضائية، وفي الوقت نفسه كان من عناصرها البارزة الاعتقاد بأن مصير الإنسان يمكن قراءته في النجوم، حتى إن حذقها المدهش لدرس الأجرام السماوية وضع مقدمة أصبحت في يد الإغريق أساسا لعلم الفلك، غير أن الحضارة البابلية كانت تسودها في جميع أدوارها روح الاقتصاد التجاري والكد في الحاجيات الآلية؛ مما حرم التطور الاجتماعي البابلي حتى من الأسس الأولية للتدرج نحو مراعاة الغير، والعمل على نفعهم، فكان الأساس الخلقي اللازم للعدالة بين الجميع معدوما كلية، حتى إن دستور قوانين «حمورابي» يقضي في العدالة حسب المركز الاجتماعي للمدعي أو المذنب. أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذي هو من أرقى مظاهر الحضارة المصرية فلم يكن معروفا في بابل، وكان نتيجة ذلك أن المبادئ الأخلاقية في بابل لم تساهم إلا بالنزر اليسير - إن لم تكن لم تساهم بشيء مطلقا - في الإرث الأخلاقي الذي ورثه العالم الغربي.
وقد أدى اندماج المدنيات القديمة في الشرق الأدنى إلى نشوء ما يمكن تسميته الثقافة المصرية البابلية، أو نواة ثقافة الشرق الأدنى، وظلت أمم الغرب لا تكاد تحس حتى جيلنا الحاضر بالحقيقة البالغة الأهمية، وهي أن كلا الحضارة المصرية والحضارة البابلية قد بلغت قمتها ثم أخذت في التدهور قبل قيام الحضارة العبرانية. كلنا نعلم أن الثقافة المصرية البابلية قد دفعت الحضارة الأوروبية نحو السير، ولكن ليس من بين أهل العصر الحديث إلا القليلون ممن يعرفون تلك الحقيقة البالغة الخطورة في تاريخ الأخلاق والدين، وهي أن كلا من الثقافة المصرية والبابلية قد غذت ودفعت الحضارة العبرانية إلى السير. ونجد فيما بعد تيارا من المؤثرات الشرقية القديمة التي تعد المسيحية من أظهرها مستمرا في المسير نحو أوروبا، وانتهى به الأمر أن قلب الدولة الرومانية في القسطنطينية إلى حكومة استبدادية شرقية بقي أثرها ظاهرا إلى ما بعد الحروب الصليبية بزمن بعيد .
ومثل هذه التأملات تميط لنا اللثام في الحال عن الوحدة العجيبة في تاريخ حياة الإنسان، فإن تاريخ الشرق الأدنى يقع وراء تاريخ أوروبا، كما أن تاريخ أوروبا يقع وراء تاريخ أمريكا. وبالرجوع إلى الوراء بالشرق الأدنى القديم خلف الأزمان التاريخية نصل إلى عصور تطور إنسان ما قبل التاريخ، فيطول بذلك مدى المراحل المكونة لحياة الإنسان المتصلة هكذا بأمريكا فأوروبا فالشرق الأدنى فإنسان ما قبل التاريخ فالأزمان الجيولوجية. وهذا التقسيم الحديث جدا الذي هو من وضع أحدث المؤرخين يكشف لنا لأول مرة أن حياة الإنسان وحدة لا تتجزأ ظلت تتطور تطورا متعاقبا من «البرت» (البلطة) الحجرية إلى شظايا قنبلة سنة 1914، وكلاهما مدفونتان جنبا لجنب في ميدان قتال السوم. لذلك فإن بحثا شاملا للشرق الأدنى القديم نقوم به بأعين مفتوحة وبأغراض أرقى من حذق الأرقام التاريخية التي كانت محببة منذ زمن طويل إلى قلوب زملائنا المؤرخين القدامى، تظهر لنا لأول مرة العصور التاريخية المعروفة في حياة الإنسان الأوروبي كمنظر مرتكز إلى لوحة عظيمة تتناول مئات الآلاف من السنين. وفي هذا المنظر الضخم الذي لا يمكن تصوره إلا بدرس تاريخ الشرق، تنكشف أمامنا صورة شاملة بهيجة كمجال حياة البشر في عصورها المتعاقبة مما لم يستطع أن يتصور مثله أي جيل سبق، هذا هو «الماضي الجديد».
ومهما يكن من أمر العلوم والفلسفة فإن التاريخ والأخلاق وعلم اللاهوت لم يكن لها شأن يذكر في هذا البحث الضخم؛ ففي تاريخ علم الأخلاق يكشف لنا «الماضي الجديد» فجأة تلك الحقيقة التي ظلت مجهولة منذ زمن بعيد؛ وهي أن المدنية العبرانية بكل ما اشتملت عليه من وثائق ذات تأثير عميق في المبادئ الدينية والخلقية، ليست إلا مرحلة من المراحل النهائية للرقي البشري القديم، ذلك الرقي الذي سبقته عصور تجريبية منتجة ومبدعة في الناحيتين الاجتماعية والخلقية على ضفاف النيل والفرات. ويجب علينا إذن أن نمهد أذهاننا إلى قبول الحقيقة القائلة بأن الإرث الخلقي الذي ورثه المجتمع المتمدين الحديث يرجع أصله إلى زمن أقدم بكثير جدا من زمن استيطان العبرانيين فلسطين، وإن ذلك الإرث قد وصل إلينا من عهد لم يكن فيه الأدب العبراني المدون في التوراة قد وجد بعد.
وفي خطبة وعظ ألقاها حديثا واعظ من أقدر الوعاظ الأمريكان، أجد أن اللمحة الآتية تتطلع إلى وقت إذا تصفح فيه مؤرخو المستقبل أخبار عصرنا رحبوا به «كعصر خطير» أشرقت فيه شمس العدالة بالشفاء من جناحيها.
11
وهذه الاستعارة المتداولة مأخوذة بلا شك من الأدب العبراني، ولكن كما سنرى قد استعارها العبرانيون من مصر حيث أشرقت «شمس العدالة» قبل أن تشرق على فلسطين بأكثر من ألفي سنة. وإذا قدر لهذه الشمس أن تشرق ثانية على جيلنا الحالي فإنها ستكون القمة لنهج الرقي البشري الذي ظل يرقى بحياة الإنسان منذ آلاف السنين قبل عصر «الأنبياء» المعترف به من زمن بعيد عند رجال اللاهوت.
وسنرى الآن ماذا يكشف لنا «الماضي الجديد» كما أظهرته لنا أحدث البحوث الجديدة عما يختص بالخبرة الإنسانية القديمة التي وصلت بالإنسان لأول مرة إلى الشعور بأعلى القيم، حتى انتهت مغامرته بانبثاق فجر الضمير وفتح عصر الأخلاق.
الفصل الثاني
آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني
إله الشمس
مما هو جدير بالاهتمام أن نلاحظ ما صار إليه الجنس البشري في مصر التي كانت تعتبر «جزيرة المنعمين» في مدة خمسة آلاف سنة، وأن نقتفي - كما هو في صدورنا الآن - آثاره وهو متطور خلال بضعة أجيال كان يستعمل فيها الآلات والأسلحة الحجرية العتيقة إلى استعمال الأزميل النحاسي، وبلوغه تلك الدقة البنائية العجيبة التي تتجلى لنا في بناء الأهرام مع ضخامتها المدهشة، وارتقائه من سكنى الكوخ المصنوع من غصون الشجر إلى إقامة القصور الفاخرة الزاهية المجملة بالقيشاني والمؤثثة بالرياش الفاخر والذهب المرصع، ثم بعد ذلك نأخذ في تفصيل تلك الخيوط الذهبية التي حيكت منها حياته المتعددة النواحي التي صارت في النهاية تؤلف نسيجا متينا فخما من المدنية. وإننا نحاول هنا اقتفاء أثر خيط واحد فقط من تلك الخيوط التي حيك منها هذا النسيج؛ وذلك لأنه يتعرج هنا وهناك بالتواءاته الدقيقة المعقدة في كل جهاته.
والواقع أنه لا توجد قوة أثرت في حياة الإنسان القديم مثل قوة «الدين»؛ لأن تأثيرها يشاهد واضحا في كل نواحي نشاطه، ولم يكن أثر هذه القوة في أقدم مراحلها الأولى إلا محاولة بسيطة ساذجة يتعرف بها الإنسان ما حوله في العالم، ويخضعه بما فيه الآلهة لسيطرته، فصار وازع الدين هو المسيطر الأول عليه في كل حين، فما يولده الدين من مخاوف هي شغله الشاغل، وما يوحي به من آمال هي ناصحه الدائم، وما أوجده من أعياد هي تقويمه السنوي، وشعائره - برمتها - هي المربية له والدافعة له على تنميته الفنون والآداب والعلوم.
على أن الدين لم يمس حياته في جميع نواحيها فحسب، بل الواقع أن الحياة والفكر والدين امتزجت عنده بعضها ببعض امتزاجا لا انفصام له يتكون منها كتلة واحدة تتداخل بعضها في بعض مؤلفة من المؤثرات الخارجية والقوى الإنسانية الباطنة. ولذلك كان طبعيا ألا يقف الدين جامدا من غير أن يتمشى مع هذه العوامل الدائمة التطور من مرحلة إلى مرحلة. هكذا كان الحال منذ أقدم العصور التي وصل إليها علمنا، وكل الأسباب تحملنا على الاعتقاد بأن الحال ستستمر كذلك: تطور وارتقاء. وسنرى الآن شيئا من هذا التطور الذي ظل فيه الكفاح قائما بين العالم الظاهري المحيط بالإنسان، والعالم الباطني الكامن في نفسه، حتى تكون الدين وتحدد وأفضى بالتدريج في نهاية الأمر إلى ظهور المبادئ الأخلاقية عند أقدم مجتمع بشري عظيم في خلال مدة تربو على ثلاثة آلاف سنة.
وسيكون في قدرتنا تتبع سير هذا المنهاج بأظهر بيان إذا ابتدأنا باستعراض ملخص تاريخي بسيط يكون بمثابة نظرة عجلى على مراحل تطور الرقي الأخلاقي عند المصريين الأقدمين. وجدير بنا؛ إذ وصلنا إلى هذا المكان، ألا ننسى الحقيقة المتفق عليها الآن وهي: أن الدين في طوره الأول لم تكن له علاقة بالأخلاق كما نفهمها الآن، كما أن المبادئ الأخلاقية الأولى لم تكن سوى عادات شعبية قد لا تكون لها علاقة بالشعور بالآلهة أو الدين. وقد كانت مظاهر الطبيعة أول ما أشعر المصري بوجود الآلهة، مثله في ذلك مثل الشعوب الأخرى القدامى؛ فكانت الأشجار والينابيع والأحجار، وقمم التلال، والطيور والحيوانات في نظره مخلوقات مثله أو مخلوقات حلت فيها قوى طبيعية غريبة لا سلطان له عليها، ومن ثم كانت الطبيعة أول مؤثر مبكر في عقل الإنسان، فوصف له العالم الظاهري أولا بعبارات دينية رهيبة، وصارت مظاهر الإلهية الأولى في نظره هي القوى المسيطرة على العالم المادي، فلم يكن في تصورات الإنسان القديم بادئ أمره معنى لمملكة اجتماعية أو سياسية، بل ولا معنى لمملكة روحية تكون السيادة العليا فيها للآلهة، وكان أبعد ما يتوهمه عباد إله من هذه الآلهة أن إلههم يحمل في نفسه فكرة الحق أو الباطل، أو أنه يرغب في وضع هذه المطالب على كاهل عباده الذين كانوا يرون من جانبهم أن غاية ما يطلبه إلههم منهم هو تقديمهم القرابين زلفى له كما كانوا يفعلون لرئيسهم المحلي سواء بسواء. على أن أمثال هذه الآلهة كانت في جملتها آلهة محلية كل منها معروف لدى منطقة معينة فقط، ولكن كثيرا ما كان يمتد الاعتقاد في إله ما إلى جهات بعيدة في العالم القديم بسبب الهجرة أو انتشار السكان.
وفي العهد الذي جاء بعد سنة 4000ق.م بدأت الحكومة؛ أي النظام السياسي الذي كانت البلاد تحكم به في عهد الاتحادين المتعاقبين، تحوز مكانة في أذهان القوم بجانب ما حازته دنيا المظاهر الطبيعية. وهذان الاتحادان اللذان يعدان أقدم ما عرف من الأنظمة القومية العظيمة في تاريخ الإنسان قد وضعا أمام أعين الناس صورا خلابة لمظاهر الحكومة، فكان لذلك على ممر الزمن أعمق أثر في الدين، ومن ثم بدأت المظاهر الحكومية تنتقل إلى عالم الإلهية حتى صار الإله العظيم يسمى في بعض الأحيان «ملكا».
وفي الوقت نفسه كانت علاقات الحياة الاجتماعية تؤثر تأثيرها في الدين من زمن بعيد أيضا، فوصلت دائرة حياة الأسرة إلى درجة سامية من الرقي تزينها العواطف الرقيقة التي أوشكت على التعبير عن مظاهر الرضى أو السخط، وأفضت إلى تصورات عن السلوك الحميد والسلوك المعيب. وبذلك بدأت المشاعر الباطنية «للضمير» تسمع صوتها للإنسان، ولأول مرة صار الإنسان يدرك القيم الأخلاقية كما نعرفها نحن الآن. وعلى ذلك أصبحت قوة الإنسان الظاهرة المنظمة، وقوة الوازع الخلقي الباطنة فيه، تؤلفان قوتين مبكرتين في تشكيل الديانة المصرية. وتدل المصادر التي وصلت إلينا على أن الوازع الخلقي قد شعر به المصريون الأقدمون قبل أن يوجد الشعور به في أي صقع آخر، فإن أقدم بحث عرف عن «الحق والباطل» في تاريخ الإنسان عثر عليه في ثنايا مسرحية «منفية» تشيد بعظمة مدينة «منف» وسيادتها، ويرجع تاريخها إلى منتصف الألف الرابع ق.م.
ويدل شكل هذه المسرحية بداهة على أنها بحث في أصول العالم ما بين ديني وفلسفي، وهي من تأليف طائفة مفكرة من الكهنة في المعابد المصرية، غير أن موضوعها لم يتناول ما كانت عليه حياة الشعب المصري بأسره في ذلك الحين، وسنرى كذلك كيف أن عامة الشعب أخذت بدورها فيما بعد تشعر بالوازع الخلقي الذي يصرفها في حياتها. وعلى ذلك يكون الشعور الخلقي قد انحدر تدريجا من طبقة أشراف رجال البلاط الملكي وطائفة كهنة المعابد إلى أشراف رجال الأقاليم أولا ثم إلى عامة أفراد الشعب ثانيا.
وقد ظهرت أقدم فكرة عن النظام الخلقي تجري على قواعد راسخة في عهد الاتحاد الثاني تحت سيطرة حكومية ثابتة، وهذا النظام كان يعبر عنه في اللغة المصرية القديمة بكلمة مصرية قديمة واحدة جامعة لها خطرها هي كلمة «ماعت»، ويراد بها الحق أو العدالة أو الصدق. وقد مكث هذا النظام راسخا مدة ألف سنة من القرن الخامس والثلاثين إلى القرن الخامس والعشرين ق.م. وقد كان لهذا النظام الأثر العميق في العقل البشري، فلما سقط هذا النظام في نهاية ألف السنة المذكورة حلت بالحياة البشرية كارثة تشبه الكارثة التي حلت بالمدينة الخالدة في أوروبا،
1
وغيرت نظر بني البشر نحو الحياة؛ إذ في فترة الضعف السياسي التي جاءت عقب سقوط هذا النظام بدأت القيم الخلقية الباطنة التي لا يمكن محوها تدرك من جديد بحالة واضحة أكثر من ذي قبل. ففي القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد كتب أحد ملوك «أهناس» (وهو مجهول الشخصية فيما عدا ذلك) لابنه وخلفه كتابا يذكر فيه ما للقيمة الخلقية من سمو المنزلة.
ولما أصبحت الأخلاق منبوذة أثر سقوط النظام الخلقي القديم، وتدهورت الفضيلة نفسها «ماعت» حتى صارت لا تدرك إلا بشعور خلقي أكثر حساسية عن ذي قبل، ظهر المجتمع الفاسد الأخلاق المنحل النظام الذي جاء بعد عصر الأهرام بشكل لا أمل في إصلاحه في نظر بعض فلاسفة الاجتماع الذي هالهم ما رأوه من تداعي ذلك النظام الخلقي القديم، ثم ظهر على أثر ذلك لأول مرة في التاريخ عصر التشاؤم وزوال الوهم، فإن رسل الاجتماع في ذلك الوقت رسموا لنا صورة بشعة عما كان موجودا من الفساد والفوضى في ذلك العهد، فأظهروها بعبارات مملوءة بالتهديد والتوعد، وبالغوا في وصف ذلك أيما مبالغة، حتى إنهم في إحدى الحالات وجهوا تلك التهديدات لشخصية الملك نفسه. غير أنه على الرغم من ذلك كان لا يزال هناك نفر من بين هؤلاء الحكماء المصريين ممن لم يفقدوا الأمل في الإصلاح، فقاموا بأول جهاد مقدس لإنقاذ العدالة الاجتماعية. ومن المدهش حقا أن كان المثل الأعلى لحكماء الاجتماع هؤلاء آخذا شكل رسالة التبشير بقدوم المخلص التي جاءت فيما بعد، وهي الاعتقاد بمجيء حاكم عادل يكون فاتحة عصر ذهبي لإقامة العدالة بين جميع بني البشر، وقد ورث عنهم العبرانيون هذا الاعتقاد فيما بعد.
وفي العهد الذي عادت فيه الحكومة المنظمة للبلاد وتقدم المجتمع الإقليمي في العهد الإقطاعي الذي ابتدأ قبل حلول عام 2000ق.م ظهر تأثير هذا الجهاد المقدس في شكل المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتمثل ذلك في تصور نظام ملكي سمح أبوي رحيم يحمي المثل العليا للمساواة الاجتماعية. ولما كان عالم الآلهة لا يزال على اتصال وثيق بشئون الأمة السياسية، فإنها لم تلبث أن أحست بهذا التأثير الجديد، فانتقلت صفات العدالة الاجتماعية من وصفها للحكومة الملكية الفاضلة إلى صفات إله الدولة، فازدادت بذلك المزايا الخلقية التي كانت تنسب إلى حد ما للإله طوال مدة تربو على ألف سنة، فقد كان الإله في نظر أتباعه من زمن بعيد يعتبر «ملكا»، فأصبح الآن زيادة على ذلك «ملكا فاضلا» بالمعنى الاجتماعي، يريد من أتباعه أيضا أن يعيشوا عيشة فاضلة.
وإننا نجد الاعتقاد بوجود إله يهب الحياة للطيب ويقدر الموت للخبيث، واردا في «المسرحية المنفية» التي كتبت في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، أما فكرة المحاكمة في «الحياة الآخرة»، وقد أخذت تتحدد بوضوح مطرد امتد إلى ما بعد عام 3000ق.م؛ فلم تكن الفكرة في أقدم أشكالها تفترض حضور جميع الناس أمام المحكمة، إنما افترضت محكمة عدالة كالتي توجد على وجه الأرض يحضر أمامها الأفراد لإصلاح الخطأ، فكان في أول الأمر لزاما على الشخص المتهم فقط أن يحضر أمام المحكمة في «الحياة الآخرة» ليظهر براءة نفسه. على أن فكرة المحاكمة العامة نشأت في باكورة العهد الإقطاعي قبل عام ألفين قبل الميلاد، ثم أصبحت المحاكمة فيما بعد في أوائل عهد الدولة الحديثة (حوالي 1600ق.م) لا تقتصر على حصر تفصيلي لكل المخالفات الخلقية، وإنما صارت امتحانا خلقيا قاسيا، بل معيارا شاملا للقيمة الخلقية لحياة كل إنسان.
وقد أصبح الشعور بمثل هذه المحاكمة وازعا خلقيا قويا كما أراده أولئك الحكماء الذين خلقوه، غير أن سلطان تلك المحاكمة ما لبث أن مسخ مبكرا بالعوامل السحرية التي جاءت في كتاب الموتى الذي ألفه كهنة المعابد للكسب منه؛ إذ زعموا فيه أن يكون وسيلة تساعد الميت على التخلص من العقوبة بمخادعة وتضليل ذلك القاضي الرهيب.
وفي القرن السادس عشر ق.م ابتدأ عصر الفتوحات الدولية: السياسية منها والدينية، فاتسع بذلك أفق التفكير الديني حتى وصل بعد عام 1400ق.م إلى قمته بظهور أول عقيدة للتوحيد عرفها التاريخ. على أن وجود السيادة لإله واحد عالمي لم تزد شيئا في الرقي الخلقي عند المصريين الأقدمين؛ لأن ثروة العاهلية قد أفسدت أخلاق الكهنة. وإن آخر تطور خلقي عظيم في الديانة المصرية مما حدث فيما بعد، نشأ على ما يظهر خارج المعابد بعيدا عن ديانة الحكومة؛ إذ ذاك [1300-1000ق .م]، وكان ذلك التطور يرمي إلى الشعور بالخطيئة؛ أي إلى اعتراف المؤمن بحقارة نفسه مع امتزاج ذلك بالثقة الشخصية العميقة في رحمة الله وعدله وعنايته الأبوية إلى أن يؤدي ذلك به إلى اتصال روحي بالله. ولقد أحدثت تعاليم الحكماء المصريين في ذلك العصر بوجه خاص تأثيرا عميقا في التفكير العبراني الديني، وباستيطان هذه التعاليم في فلسطين قطعت المرحلة الأولى في انتقالها الطويل من مصر لتصل إلينا نحن أهل هذا العالم الحديث. على أنه في مصر نفسها أخذت هذه الحال التي تعتبر أقدم ما عرف عن الزهد والورع الشخصي في معناه الروحي العميق تنحط بالتدريج بتأثير رجال الكهانة الذين تطرفوا بتغاليهم في دينهم في أيام الحكم الإغريقي الروماني في مصر.
وهكذا يمر أمامنا دور عظيم من الخبرة البشرية كاشفا لنا في مدى ثلاثة آلاف سنة من حوالي 4000 سنة ق.م، عن ظهور أول مجتمع إنساني عظيم وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة أخرى في أطول تطور أخلاقي يمكن للباحث تعقبه في مدة حياة أي مجتمع بشري. وتظهر لنا خطورة هذا التطور بوجه خاص إذا راعينا أنه على ما نعلم كان أول شيء في بابه، وأنه بذلك أثبت وجود حقيقة لم تكن معلومة من قبل؛ وهي: أن أرقى ذوات الثدي التي برزت على هذا الكوكب لم يكن في مقدورها فحسب أن ترقى إلى ذلك الأفق من التمدن الذي عيناه من قبل، بل إن هذا الرقي كان يشتمل كذلك على إدراك قيم جديدة سامية انتقلت بالتطور الإنساني إلى أسمى عالم خلقي لم يسبق له نظير. وبإماطة اللثام عن ذلك العالم الجديد للإنسان دخلت لأول مرة أمثال هذه العناصر الخلقية في ذلك التطور العظيم في حياة البشر الأولى في مصر وخارجها. ولا بد أن تطور حياة مثل هذه الأمة العظيمة وآدابها خلال ثلاثة آلاف من السنين قد أثر تأثيرا عميقا مطردا على أقرب جيرانها في فلسطين خاصة، بل على كل أنحاء الشرق الأدنى، وأن النهضة التي أوجدتها هذه الحركة بين العبرانيين قد أفضت إلى تقليد خلقي وديني انتقل فيما بعد إلى المدنية الغربية، واستمرت بذلك مراحله الأخيرة عاملا خلقيا قويا في حياتنا إلى اليوم.
ويمكننا الآن بعد أن استوعبنا المختصر العاجل أن نتعقب بحثا أوسع عن ذلك التطور الطويل المدى الذي ارتقى به أهل وادي النيل إلى المثل العليا في الأخلاق. على أن المصادر التي لدينا لدرس الرقي الخلقي في العصور الأولى لمثل هذا الشعب القديم ضئيلة جدا، ونجدها كذلك إلى أن نصل إلى عصر اختراع الكتابة التي أفضت إلى وجود «المصادر المدونة».
وأقدم هذه «المصادر» لا تبدأ تفيدنا في مصر إلا بعد عام 3000ق.م، مع أنه توجد لدينا «مصادر» متأخرة عن ذلك تلقي ضوءا هاما على ما سبق هذا العهد من مراحل رقي الأجداد وتقدمهم، ولكن «المصادر» المكتوبة وحدها لا يمكن أن ترجع بنا قط إلى بداية التطور.
أما ما نعتمد عليه في معلوماتنا عن أقدم حياة عرفت للإنسان في وادي النيل فهو الوثائق المادية المحضة، وهي تكاد تنحصر في الأسلحة والآلات الحجرية، وفيما يلي ذلك تكشف لنا «جبانات عصر ما قبل التاريخ» التي تحتوي على الآلاف من القبور العتيقة المنتشرة على حافة الصحراء شيئا عن المعتقدات الدينية التي كان سكان وادي النيل يدينون بها في الأيام الخالية التي يرجع عهدها إلى العصر الحجري الأخير. والزمن الذي بين أقدم أمثال هذه المصادر التي هي من عصر ما قبل التاريخ إلى أحدثها زمن يقدر بمئات آلاف السنين، وذلك على أقل تقدير ممكن.
ولا نكون مخطئين إذا قررنا هنا أن أقدم المصريين عهدا كانوا يعبدون آلهة ليست لهم صفات خلقية، كما كانت لهم طائفة من العادات لم تكن قد بلغت بعد مرحلة الأخلاق؛ فهم في ذلك كالأقوام الذين لا يزالون يعيشون في طور السذاجة الفطرية البحتة، وإذا فحصنا الديانة المصرية كما نجدها في أقدم الوثائق التي وصلت إلينا، وحاولنا أن نستخلص من تحليل أهم الانطباعات التي نجدها مصورة هنالك، تلك الانطباعات التي أخذها المصريون عن عالم الطبيعة، فإن ذلك يلقي بعض الضوء على الآراء التي كانت متداولة في العصر الذي سبق الاهتداء إلى الكتابة.
فمن الواضح أن ظاهرتين عظيمتين طبيعيتين قد أثرتا أعظم تأثير في سكان وادي النيل، فقد تصور القوم في هاتين الظاهرتين إلهين اثنين كان لهما السيطرة على كل من التطور الديني والعقلي منذ أقدم العهود التي عرفت؛ وهاتان الظاهرتان هما الشمس والنيل [أو الخضرة التي تروى من مائه]، وأما الإلهان فهما إله الشمس «رع» وإله الخضرة «أوزير»، وكانا الإلهين العظيمين في الحياة المصرية القديمة. وقد دخلا في دور تنافس منذ عهد مبكر جدا، فكان كل واحد منهما يبغي لنفسه أسمى مكانة في ديانة القوم، ولم ينقطع هذا التنافس قط إلا عندما محيت الديانة المصرية في ختام القرن الخامس المسيحي. ومن يقف على أصول قصة هذا التنافس الطويل يقف على المنهاج الرئيسي في تاريخ الديانة المصرية القديمة، بل لا نكون مغالين إذا قلنا إنه يقف على دور عظيم من أهم الأدوار في تاريخ حياة الإنسان.
وإن أبرز حقيقة هيمنت على وادي النيل هي قوة الشمس في مصر وجلالها الشامل لكل الكون، ولا يزال ذلك ماثلا إلى أيامنا هذه يشاهده السائح الحديث العهد بالبلاد المصرية عندما ينظر إلى الشمس لأول مرة. ولا شك أن المصري شاهدها في أشكال متنوعة كانت في الأصل أشكالا محلية.
ومن المحتمل جدا أن أقدم صورة تخيلها المصري لإله الشمس يرجع تاريخها إلى العهد الذي كان لا يزال فيه مصريو عصر ما قبل التاريخ يعيشون عيشة الصيد في مناقع الدلتا، وذلك عندما تخيلوا إله الشمس في شكل صياد يدفع أو يجدف في زورق يشبه الرمث مؤلف من حزمتين من الغاب ليعبر به مستنقعات الغاب. ولا تزال لمحات عن هذا التصور العتيق محفوظة لنا في أقدم فقرات «متون الأهرام»؛ إذ كثيرا ما نجد فيها إله الشمس مصورا بصورة إنسان يجدف عبر المستنقعات السماوية في زورق الغاب المزدوج. وهذا هو «رع»؛ أي الشمس المجسمة التي تصورها أقدم سكان وادي النيل من قبل في شكل إنسان جعلوا مقره «هليوبوليس» (عين شمس) حيث حل محل إله شمس قديم يدعى «آتوم» وأصبح أعظم إله في مصر.
وفي «إدفو » بالوجه القبلي تقمص إله الشمس صقرا؛ لأن تحليق هذا الطائر المرتفع كان يخيل للقوم أنه يكاد يكون رفيق الشمس في علوها، وهذا ما ساق خيال فلاحي وادي النيل المبكرين الأول إلى أن الشمس لا بد أن تكون صقرا مثله، يقوم بطيرانه اليومي عبر السماوات، ومن أجل ذلك أصبح قرص الشمس ذو الجناحين المنشورين أعم رمز في الديانة المصرية القديمة. وقد انحدرت إلينا هذه الفكرة عن طريق الأدب العبراني في تشابيهه التي منها «جناح الصباح» و«شمس العدالة» ... التي تحمل الشفاء في جناحيها. وكان إله الشمس بصفته صقرا يسمى «حور» [حوريس أو حوروس أو «حور أختي»]؛ أي حور الأفق، ولا تزال توجد آثار بعض المميزات بين آلهة الشمس المحلية العتيقة في متون الأهرام، وقد ابتدأت عملية مزج في عهد مبكر بين هذه الآلهة فضمتها كلها بعضها إلى بعض ووحدتها، حتى إن إله الشمس كان يسمى «رع حور أختي» أو «رع آتوم»، وقد أسرع كبراء رجال المعابد المحلية إلى التعجيل بهذه العملية؛ إذ كان كل من تلك المعابد يجري وراء نيل الشرف بادعائه أن مكانه هو الذي ولد فيه إله الشمس.
وقد بقي إله الشمس إلها يمثل الطبيعة عصورا طويلة فيما قبل التاريخ، فكان بذلك إله الشمس في أقدم العصور الغابرة مقصورا على الوظائف المادية؛ ولذلك كان يظهر في أقدم معابد الشمس بأبي صير بأنه منبع الحياة والخير، وقالت عنه الناس: «لقد أبعدت العاصفة وأزجيت المطر وحطمت السحاب.» وكانت هذه الظواهر في نظرهم أعداء له، وكانت بطبيعة الحال مجسمة كذلك في أساطير العامة؛ إذ ورد في إحدى الأساطير أن إله الشمس فقد عينه بيد عدوه.
ولما كان وادي النيل الذي ظهر فيه إله الشمس منذ زمن بعيد بمظهر قوة من قوى الطبيعة قد أخذ ينتقل بالتدريج إلى مكانة أمة عظيمة، فإن ميدان عمل إله الشمس أصبح بالضرورة ميدان الحياة البشرية والشئون القومية.
أما الخطوات التي نتج عنها الاتحاد الأول للبلاد فلا نعلم عنها شيئا، غير أنه من المؤكد أن أميرا من مدينة «إيوان» - وهي التي أطلق عليها الإغريق فيما بعد اسم «هليوبوليس» - قام بإخضاع الإمارات المصرية الأخرى في عهد ما قبل التاريخ، ووحد المملكة لأول مرة تحت حكم ملك واحد. ومن المحتمل أن هذا العمل حدث قبل سنة 4000ق.م. ومع أنه لم يصلنا عن اسم هذا الملك صدى واحد في خلال الفترة التي انقضت منذ ذلك العهد، وتقدر بنحو 6000 سنة، فإن عمله قد ترك أثرا خالدا في حياة مصر ومدنيتها؛ لأنه أسس وأدار أول نظام قومي عظيم خضعت له حياة عدة ملايين من الأنفس.
ولا يفوتنا أن نعيد إلى ذاكرتنا هنا أن هذا الاتحاد الأول ظل ثابتا في البلاد بضعة قرون، وبعد انهياره عمت البلاد ثانية فترة انحلال أعقبها حوالي 3400ق.م فتح آخر للإقطاعات السياسة، فانضم بعضها إلى بعض، وتألف منها جميعا ما نسميه «بالاتحاد الثاني». وقد أعطت زعامة «هليوبوليس» في عهد الاتحاد الأول نفوذا وشهرة لهذه المدينة لم تفقدهما قط فيما بعد؛ فقد أثرت على المدنية المصرية تأثيرا عميقا كانت فيه المكانة السامية لإله الشمس، وإلى تأثير عهد الاتحاد الأول يرجع السبب في انتقال الأوضاع والمميزات الحكومية الدنيوية التي كانت تسير عليها الحكومة المصرية إلى أنظمة إله الشمس في «هليوبوليس» بصفته الإله القومي، فأصبح ملك كل الآلهة، وخاطبه الناس بقولهم: «إنك أنت الذي تشرف على كل الآلهة ولا يشرف عليك إله ما.» وكذلك أصبح هو في الوقت نفسه الحاكم الأعلى المتصرف في مصير كل الناس. بذلك انتقل إله الشمس من عالم الطبيعة إلى عالم الناس، فأصبح فيه ملكا قديما كان قد حكم مصر يوما ما، كما حكمها الفراعنة من بعده، وقد تغيرت مظاهره الخارجية تبعا لهذا التحول، فتحول زورق الغاب المزدوج الذي كان يسبح فيه إله الشمس فيما قبل التاريخ إلى سفينة ملكية فاخرة مثل سفينة فرعون الأرضية، وكان الاعتقاد أن إله الشمس يعبر بأبهته في هذه السفينة الشمسية الساطعة المحيط السماوي كما كان فرعون يعبر النيل، وكانت له سفينتان: واحدة للصباح وأخرى للمساء. وقد ظهرت أساطير عدة تتحدث عن حكم إله الشمس على الأرض، غير أنه لم يبق منها إلا قطع صغيرة، فمنها الأسطورة التي تقص علينا ما أظهره نحوه بنو البشر بصفتهم رعاياه من نكران الجميل نحوه، حتى إنه اضطر إلى معاقبتهم، وكان يفنيهم قبل أن يترك الأرض ويعتزل في السماء.
ومع أن المصريين ظلوا يشيرون بغبطة وسرور إلى حوادث هذه الأساطير الساذجة، وامتلأ أدبهم الديني بالتلميحات إلى تلك الخرافات حتى آخر عهده، فإنهم عندما ظهروا في شكل أمة موحدة كانوا قد أدركوا أن إله الشمس يقوم بوظائف رفعته فوق مثل هذه التخيلات الصبيانية، وجعلته المتصرف والحاكم العظيم على الأمة المصرية.
وهذا الانتقال الأساسي الذي يعد أول ما عرف في التاريخ من نوعه قد نقل بذلك نشاط إله الشمس الذي كان منحصرا في دنيا المادة وحدها إلى مملكة الشئون البشرية. ولدينا أنشودة للشمس في متون الأهرام يحتمل أنها نشأت في ذلك العهد للاتحاد الأول؛ ونجد في هذه الأنشودة التي تعد أقدم ما وصل إلينا من نوعه، أن موضع الإشادة بإله الشمس هو سيادته على «شئون مصر»؛ إذ تبسط لنا الأنشودة المعاونة الصالحة التي يقوم بتقديمها الإله لأرض مصر والإشراف عليها، بل إنها تنشر أمامنا في أسطر متعاقبة عقود المدح لما يقوم به هذا الإله العظيم لحماية مصر من أعدائها.
وكذلك كان إله الشمس حليفا لفرعون وحاميا له، فإن متون الأهرام تقول عنه:
إنه يمكن له مصر العليا، ويمكن له مصر السفلى، ويهدم له معاقل آسيا، ويخضع له كل الناس
2 [المصريين] الذين سواهم بأصابعه.
وهكذا فإنه بدخول إله الشمس في عالم الشئون البشرية أخذ هذا الإله (في عرف القوم) يشعر كأي فرد تابع لحكومة بشرية، أو كأي عضو في جماعة دنيوية، بتأثيرات المجتمع الإنساني؛ تلك التأثيرات التي صارت عاملا يعمل على تهيئة الإله وتسويته في نهاية الأمر ليجعل منه أول إله خلقي عادل عرفه التاريخ.
الفصل الثالث
إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية
لم يعثر للآن على أثر ملكي واحد من عهد الاتحاد الأول، وإذا كان لا يزال في الوجود شيء من هذه الآثار فلا بد أن تكون مدفونة على عمق بعيد تحت غرين النيل المشبع بالماء في مصر السفلى؛ ذلك الغرين الذي ظل يتراكم مدة آلاف من السنين على بقايا ودمن بلدة «هليوبوليس» (عين شمس) التي وجدت في عصر ما قبل التاريخ. ومع ذلك فإن الأزمان التي تلت تلك العصور قد حفظت لنا ذكريات عن تلك العهود القديمة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، بل إنها حفظت لنا ذكريات عن تلك الأزمان السحيقة جدا التي سبقعت عهد توحيد مصر تحت حكم ملك واحد. والواقع أنه قد وصل إلينا صورة من المتن الحقيقي لوثيقة دونت في بداية عهد الاتحاد الثاني، وهذه الصورة منقوشة على حجر أسود محفوظ الآن بالمتحف البريطاني، وذلك الحجر كان قد استعمله بعض القرويين أخيرا قاعدة لحجر طاحون لطحن غلالهم، وقد استمروا في إدارة حجر الطاحون الأعلى عليه مدة أعوام دون أن يفقهوا شيئا مما كانوا يمحونه بذلك من النقوش.
على أن ما بقي مقروءا على ذلك الحجر الهام من الفقرات المشوهة، له أهمية لا تقدر بثمن. على أننا نفهم في الحال شيئا عن أصل ذلك الحجر من سطر في أعلاه، نقوشه الهيروغليفية غاية في الوضوح، فنجد فيه اسم «شبكا» ذلك الفرعون الإثيوبي الذي حكم مصر خلال القرن الثامن قبل الميلاد، ويلي اسم ذلك الفرعون نقوش تقول: «إن جلالته [يعني نفسه] نقل هذه الكتابات من جديد في بيت والده «بتاح جنوبي جداره» وقد وجدها جلالته بمثابة عمل خلفه الأجداد قد أكله الدود حتى أصبح لا يمكن قراءته من البداية للنهاية، وإذ ذاك قام جلالته بكتابته من جديد حتى أصبح أكثر جمالا مما كان عليه من قبل.» ومن ذلك نرى أن ملك مصر الإثيوبي الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد اهتم بالمحافظة على الكتابة القديمة التي خلفها «الأجداد»، ولا بد أنها كانت مدونة على ورق البردي، وإلا لما استطاع الدود أن يأكلها.
وقد نقل «شبكا» لحسن حظنا نسخته الجديدة على الحجر لتبقى محفوظة على الدوام، ومع ذلك لو بقي هذا الحجر يطحن عليه بضع سنين أخرى لقضي على أقدم مسرحية في العالم، وعلى أول بحث فلسفي وصل إلينا من العالم القديم.
وقد انقضى الآن جيل على الفترة التي كنت أقضي فيها أيام الصيف الخانقة جالسا على كرسي منخفض تحت نافذة في المتحف البريطاني أحاول أن أعكس بعض الضوء من النافذة التي كانت فوقي بمرآة يد على الحجر الذي كان موضوعا تحت عتبة تلك النافذة بشكل لم يترك مجالا لسقوط نور تلك النافذة عليه، وقد كان ذلك قبل ظهور كشافات اليد الكهربية القوية؛ ولذلك كان نقل مثل هذه النقوش يسير ببطء وبصعوبة لتآكلها، حتى إنها كانت أحيانا لا يمكن الاهتداء لقراءتها كلية، ولا سيما أنها نقشت على حجر أسود حالك. وكانت نقوش ذلك الحجر موزعة في أعمدة أو أسطر عمودية، ويجوز في الكتابة المصرية القديمة أن يكون ترتيب الأعمدة عند قراءة مثل تلك النقوش من اليمين إلى الشمال أو من الشمال إلى اليمين؛ وذلك حسب اتجاه وجوه الحروف الهيروغليفية التي تواجه عادة بداية النقش. وكانت كل الإشارات في ذلك النقش تواجه اليمين دالة على أن بدايته كانت من جهة اليمين. وعلى ذلك بدأت بنقل المتن من العمود الأول على اليد اليمنى، وكنت أتدرج في النقل من عمود إلى عمود متجها نحو الشمال، ولكن لاحظت مع ذلك بغتة عند أسفل عمود من الأعمدة، أن معنى إحدى الجمل كان مستمرا في العمود التالي من اليمين لا في العمود التالي من اليسار كما كان متوقعا.
ومن ذلك ظهر لي فجأة أن هذا النقش كان من النقوش القليلة المعروفة التي كتبت بإشارات معكوسة [أي إن الإشارات لم تتجه الاتجاه العادي]. وعلى ذلك كان العلماء يقرءونها إلى الآن بوضع مقلوب نتجت منه سلسلة فقرات متقطعة يتبع بعضها بعضا بدون أي ارتباط بينها من النهاية إلى البداية. فلما قرأت هذه الأعمدة بترتيبها الصحيح بدأت تقص علي قصة من أروع القصص ، غير أنها قصة مؤلفة من نتف، وبعض أجزائها لم تمكن قراءته مطلقا، حتى إنه كان من العسير جدا فهمها. ويرجع السبب في ذلك إلى أن حجر الطاحون العلوي كان يلف على وسط قاعدة حجر الطاحون المكتوبة، فضلا عن أن الطحان كان قد حفر حفرة في وسط هذه القاعدة تتفرع منها قنوات تشبه الأشعة التي تخرج من قطب العجلة، وقد محا ذلك الطحان الغشوم تماما ثلث النقش القديم من جهة الوسط تاركا ثلثا ضئيلا منه على اليسار عند البداية وثلثا آخر عند الطرف الأيمن؛ ولذلك أصبح من المستحيل أن ندرك أي اتصال في المعنى بين الأعمدة التي على اليسار والأعمدة التي على اليمين.
ومن يوم أن نشرت متن النقش مع محاولة مبدئية لترجمته قضى العلماء في البحث جيلا بأكمله حتى أمكن الوصول إلى فهم صحيح لنوع المتن ومحتوياته، بل لتحديد تاريخه. ونخص بالذكر من بين هؤلاء العلماء الذين درسوا هذا النقش: «إرمان» ثم «زيته». وقد سمى «شبكا» الإثيوبي هذا المتن في القرن الثامن قبل الميلاد «تأليف الأجداد»، وهو تعبير مبهم يوحي لنا أن كتاب هذا الملك المتفقهين لم يكن لديهم فكرة عن أن الكتابة التي كانوا ينسخونها كان عمرها إذ ذاك يزيد عن 2500 سنة. ولكن لغة هذه الكتابة القديمة ومحتوياتها لم تدع مجالا لأي شك عن شدة قدم أصلها؛ لأن لغة الوثيقة تحتوي على اصطلاحات تدل على أنها قديمة جدا، كما أن المتن يكشف لنا عن موقف تاريخي يدل بداهة على أن وقوعه لا يمكن إلا من بداية الاتحاد الثاني [أي في عهد تأسيس الأسرة الأولى على يد مينا حوالي سنة 3400ق.م]. وعلى ذلك يكون ذلك المتن من إنتاج الحضارة المصرية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وبذلك يكون قد أعطى لنا صورة من أفكار أقدم بني البشر لم يصل إلينا مثلها مدونة إلى الآن.
وقد تركت لنا الفجوة المؤلمة التي في وسط الحجر - كما أسلفت - جزءا من المتن على اليسار هو البداية، وجزءا على اليمين هو الخاتمة، ويقسم المتن الذي في البداية فواصل متكررة تجعله على صورة فصول صغيرة معظمها في شكل عبارات يخاطب بها الآلهة المختلفون بعضهم بعضا، ونجد غالبا عند بداية كل عبارة من تلك العبارات علامتين هيروغليفيتين تدلان على اسمي إلهين، والعلامتان مرتبتان في وضع يجعل كلا منهما تواجه الأخرى كأن كلا الإلهين يحادث أحدهما الآخر، وهذا يطابق محتويات المتن؛ فإنها تثبت أنهما كانا يتحادثان فعلا.
وقد عثر الأستاذ «زيته» فيما بعد على مجموعة محادثات منظمة على مثل هذا النمط ومدونة على بردية يرجع تاريخها إلى سنة 2000ق.م، وتلك المحادثات مصحوبة بملاحظات وصور يستدل منها على أنها لا بد أن تكون تعليمات مسرحية؛
1
أي إن البردية التي درسها الأستاذ «زيته» هي مسرحية قديمة، ونجد أن ترتيب أعمدتها مطابق تماما لمتن حجر المتحف البريطاني - الذي نحن بصدده - وهذا جعل الأستاذ «إرمان»
2
يظن أن المدون على هذا الحجر هو مسرحية قديمة أيضا. وقد محيت خاتمة هذه المسرحية التي تعد بلا شك أقدم ما عرف من نوعها، من جراء الثقب الذي حفر في وسط حجر الطاحون المذكور. وفيما وراء الفجوة تجاه الطرف الأيمن من الحجر نجد بحثا فلسفيا يبدو من الصعب أن نربطه بالمسرحية، ويرى «زيته» أنه من الضروري أن نفهم أن أحد رجال الدين المشهورين أو كاهنا مرتلا كان يلقي جزءا كبيرا من الرواية التمثيلية في شكل خطبة مطولة يظهر الآلهة المقصودون خلال إلقائها عند قص حادثة في الأسطورة فيلقون أقوالهم في شكل محاورة، وذلك هو السبب الذي من أجله نجد المحاورات التي كان يقوم بإلقائها الآلهة المختلفون الذين ساهموا في التمثيل منتشرة بين أجزاء المسرحية، بشكل جعل أمثال هذه المحاورات أيضا تمثيلية في شكلها. والوثيقة تشبه كل الشبه بحالة تلفت النظر القصص المقدسة التي مثلت في المسرحيات المسيحية الرمزية في القرون الوسطى، والمسرحية المنفية التي تعد أقدم سلف لها.
ونجد في كل من الجزء المسرحي والبحث الفلسفي أن «بتاح» إله منف يقوم بدور إله الشمس الذي يعتبر إله مصر الأسمى، وذلك يفسر لنا العادة التي أشرنا إليها من قبل في الفصل الثاني [آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني]، والتي كان يسعى بها الإله المحلي للحصول على عظمة إله الشمس وبهائه، بأن يتقلد مركزه ويلعب الدور الذي لعبه في تاريخ مصر الخرافي ومنشئه. وإن سيادة «بتاح» في تلك المسرحية تدل بوضوح على تزعم مدينة «منف» تزعما سياسيا، وتلك الزعامة ترجع في هذه الحالة إلى انتصارات «مينا» مؤسس الأسرة الأولى. وذلك الملك - وإن كان مولده في تنيس بمصر العليا - هو الذي أسس «منف» لتكون عاصمة له ومقرا لملكه. وبالرغم من ظهور أصل تلك المسرحية في منف فإن المنبع الأصلي لمحتوياتها العجيبة كان بلا شك بلدة «هليوبوليس»؛ فإننا نجد فيها تلك الفلسفة اللاهوتية التي اشتهر بها كهنة «عين شمس»، والتي وصلوا بها في عهد الاتحاد الأول إلى المرحلة التي أخذ عنها كهنة «منف» في تمجيد إلههم «بتاح».
فهذه المسرحية تبرز لنا إذن إله الطبيعة القديم وهو إله الشمس «رع» متحولا تماما إلى قاض يحكم في شئون البشر؛ تلك الشئون التي أصبحت ينظر إليها من الناحية الخلقية، فهو يحكم عالما يرى من واجبه توجيه حياة البشر فيه طبقا لقواعد تفصل بين الحق والباطل. وإنه من المدهش جدا أن نجد أن أمثال هذه الأفكار كانت قد ظهرت فعلا في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
ويمكن تلخيص محتويات هذه المسرحية بأنها محاولة لتفسير أصل جميع الأشياء، ويدخل في ذلك نظام العالم الخلقي، وأن هذه الأصول جميعا ترجع إلى «بتاح» إله «منف»، أما كل العوامل الأخرى التي ساعدت على خلق العالم أو المخلوقات التي كان لها نصيب في ذلك فلم تكن إلا مجرد صور أو مظاهر لبتاح إله «منف» المحلي المسيطر على أصحاب الحرف والصناعات، والذي يعتبر إله كل الحرف.
وتدلك المسرحية على أن فتح «مينا» مصر واتخاذه «منف» الواقعة في الوسط بين الوجه القبلي والوجه البحري، عاصمة له ومقرا لملكه لم يكن إلا خطوة نحو إظهار بتاح بمظهر الصانع الأعظم الذي خلق العالم. وقد ساعد على إلباس بتاح ثوب هذا الدور مساعدة جدية ما نسب إليه من استيلائه على السلطة والسيادة الفريدة التي كان يتمتع بها الإله «رع» الذي ظل يتزعم مدة قرون طويلة آلهة مصر من مقره الزاهر الممتاز في مدينة هليوبوليس. وتبرز لنا هذه المسرحية المنفية المكانة السامية التي احتلها «بتاح» في الفقرات الختامية التي يجب علينا فحصها الآن، فنجد فيها أولا أن («بتاح» العظيم هو قلب الآلهة ولسانهم). وهذا التعبير الخارق للمألوف يصير أكثر وضوحا لنا عندما نعلم أن القلب معناه «العقل» أو «الفهم»، أما «اللسان» فهو رمز للنطق؛ أي للأداة التي تبرز أفكار العقل وتعبر عن أوامره؛ أي إنها تخرج ما فيه إلى حيز عالم الحقيقة الملموس. ونصبح الآن في مركز يمكننا من تعقب معنى هذه القصة القديمة عندما تشرع القصة في التحدث عن أصل الأشياء: (1)
الفكر والتعبير عنه بصفتهما الأصل والقوة المساعدة لكل من نظام الأرض ونظام السماء:
حدث أن القلب واللسان تغلبا على كل عضو في الجسم، وعلما الإنسان أن «بتاح» كان في كل صدر على هيئة القلب، وعلى هيئة اللسان في كل فم، سواء في ذلك جميع الآلهة وجميع الناس وجميع الماشية وجميع الزواحف وسائر الأحياء، وفي الوقت نفسه يفكر «بتاح» فيما يشاء، ويأمر بكل ما يريد.
وبعد أن تقص علينا الوثيقة كيف أن مجموعة آلهة «منف» لا تزال في فم «بتاح»، «الذي نطق بأسماء كل الأشياء»،
3
فعلمنا أن هؤلاء الآلهة الذين كانوا يعرفون من قبل بأنهم صور لبتاح قد أوجدوا بصر الأعين وسمع الآذان وتنفس الأنف لتصل جميعا إلى القلب، وأن القلب هو الذي يصدر كل قرار، وأن اللسان هو الذي يعلن فكر القلب. وبمثل ذلك فطرت كل الآلهة؛ أي «آتوم» وتاسوعه الإلهي [مجموعة تسعة آلهة] على حين أن كل كلمة مقدسة خرجت إلى الوجود عن طريق ما فكره القلب وأمر به اللسان، وكذلك المراكز [الوظائف الرسمية] فإنها أنشئت، والمناصب [الحكومية] وزعت (وهي التي قدمت جميع الغذاء وجميع الطعام) بواسطة هذا النطق المتقدم [أي طبقا للنظرية السالفة الذكر]. (2)
النظام الدنيوي: [أما من جهة] الذي يفعل ما هو محبوب والذي يفعل ما هو مكروه فإن الحياة تعطى للمسالم، والموت يحيق بالمجرم.
وبذلك يسير كل عمل وكل حرفة؛ فنشاط الذراعين وسير الساقين وحركة كل عضو تكون حسب هذا الأمر الذي يديره القلب، والذي يخرج من اللسان، وهو الذي يجعل لكل شيء قيمة. (3)
النظام السماوي:
وحدث أنه قيل عن «بتاح» أنه خلق «آتوم» (إله الشمس القديم في هليوبوليس) وأوجد الآلهة، وهو «تاتن» [اسم قديم لبتاح] مصور الآلهة، ومنه خرج كل شيء سواء أكان طعاما أم غذاء أم مئونة للآلهة أم أي شيء طيب في الوجود، وبذلك أصبح من الظاهر المفهوم أن قوة «بتاح» هي أعظم من قوة كل الآلهة، وبذلك اطمأن بتاح بعد أن خلق كل شيء وكل كلمة مقدسة. وهو الذي صور الآلهة وأقام المدن وأسس المقاطعات، فأقام الآلهة في أماكنهم المقدسة وثبت دخلهم المقدس وأعد محاريبهم ونحت تماثيل لأجسامهم كما تحب قلوبهم، وبذلك حلت الآلهة في أجسامها المصنوعة من كل نوع من الخشب، ومن كل صنف من المعادن، ومن كل نوع من الطين، ومن كل ما ينمو عليه (أي على بتاح بصفته إله الأرض) من الأشياء التي صنعت منها هذه التماثيل.
وبذلك أصبحت في قبضة «بتاح» (المحب للسلام والصلح) الآلهة ووظائفها بصفته رب الأرضين (مصر). وكانت مخازن الغلال المقدسة «هي العرش العظيم» «منف» التي تدخل السرور على قلب الآلهة الذين في بيت بتاح، وهي سيدة كل الحياة، ومنها تستمد الأرضان (مصر) حياتها.
وعند هذه النقطة تنتقل بنا القصة إلى أسطورة «أوزير» لتفسر لنا السبب الذي من أجله أصبحت «منف» مخزنا لغلال مصر، غير أننا سنضطر هنا لإرجاء فحص موضوع «أوزير» في هذه المسرحية المنفية إلى أن نتم فحص وظائف إله الشمس التي رأينا أن بتاح قد انتحلها لنفسه. وإذا أنعمنا النظر في محتويات بحث موضوع «بتاح» - الذي سبق ذكره - اتضح لنا أن الكثير من الأفكار قد تكررت بنفسها مرات عدة. وعلى ذلك نجد أن الأقسام الثلاثة التي حاولت فيما سلف أن أفصل بعضها عن بعض، وأميزها بعناوين فرعية ليست بحال ما مستقلة عن بعضها، بل متداخلا بعضها ببعض بشكل واضح، فلم يكن في مقدور فكر الكهانة العتيق أن يعدل عن إقحام ذكر إنتاج الطعام في أية مناسبة تمس النظام السماوي، بالرغم من أن موضوع إنتاج الطعام في الأصل خاص بالنظام الدنيوي؛ وذلك لأنه إجراء يرتكن إلى قوة الآلهة. ويرجع الأساس المدهش لهذا النظام الأرضي المبكر إلى الغرض الرئيسي الذي يرجع منبع كل شيء إلى العقل أو الفكر؛ لأن جميع الأشياء ظهرت إلى حيز الوجود بما فكره القلب (العقل) وأمر به اللسان (الكلام). وقد استعمل المصري كلمة «قلب» لتدل على «العقل» أو «الفهم»؛ وذلك لا لأنه كان معتادا استعمال المعنويات، بل كان يعتقد أن القلب هو مركز الفهم. أما الأداة التي أصبح بها العقل قوة منشئة فهي الكلمة التي تلفظ فتعلن الفكرة وتلبسها ثوب الحقيقة، وبذلك تظهر الفكرة إلى حيز الوجود في عالم الكون الملموس، بل صار الإله نفسه هو القلب الذي يفكر واللسان الذي يتكلم.
4
فهل بعد ذلك يمكننا أن نتعرف الأساس التاريخي السحيق في القدم لعقيدة «الكلمة» في أيام كتاب العهد الجديد [الإنجيل]؟ «في البدء كانت «الكلمة»، وكانت الكلمة مع الله والكلمة كانت الله.» وهل نجد هنا صدى لتجارب إنسانية عتيقة على شاطئ النيل؟
من البدهي أن هذه الفكرة الهائلة التي ظهرت في عصر مبكر كهذا في تاريخ البشر - أو بتعبير أحسن في عصر ما قبل التاريخ - هي في حد ذاتها برهان على تقدم ناضج بدرجة مدهشة للعقل الإنساني في مثل هذا التاريخ البعيد؛ إذ ننتقل فجأة وبدون وجود مراحل انتقال تدريجية من عالم آلهة الطبيعة إلى عهد حضارة ناضجة نامية ينتج فيها منظمو الديانة والحكومة تفكيرا معنويا ناضجا. وقد رأوا أن العالم الذي يحيط بهم يعمل بعقل، فاستخلصوا من ذلك أنه مخلوق ومحمي الآن بعقل عظيم محيط بكل شيء، وأنه قد صبغ بالعقيدة القائلة بحلول الإله في كل شيء؛ ولذلك كانوا يعتقدون أن هذا الإله لا يزال يعمل عمله في كل صدر وفي كل فم في جميع الكائنات الحية. وقد استمرت هذه الفكرة موجودة مدة طويلة، ولذلك نجد أن المصري الذي عاش بعد ذلك العهد بألفي سنة كان يعتقد في «وحي الإله الذي في كل الناس»، أو يشير مخاطبا غيره إلى «الإله الذي فيك».
ومن الظاهر جدا أن الجماعة المنسقة والحكومة المنظمة كان لهما أثر عظيم على عقول هؤلاء المفكرين القدامى؛ إذ كان الاعتقاد بأن المركز السامي والمراتب الرسمية والوظائف الحكومية التي يسير بمقتضاها المجتمع الإنساني هي من وضع عقل سام، وإنها برزت إلى الوجود بكلمة هذا العقل السامي، ولذلك كانت الشئون العملية في الحياة العامة والحرف الصناعية تسير حسب «الأمر الذي يفكره القلب ويخرج من اللسان».
والواقع أنه في هذه المرحلة السحيقة من التقدم البشري أخذ الإنسان يدرك أن بعض السلوك ممدوح وبعضه مذموم، وأن كل إنسان يعامل بحسب ذلك، فالحياة تمنح للمسالم (الذي يحمل السلام) ويحيق الموت بالمجرم (الذي يحمل الجريمة). على أنه مما يلفت النظر جدا أن هؤلاء المفكرين القدامى لم يستعملوا في هذا المقام الكلمتين «طيب» و«خبيث»؛ فالمسالم في نظرهم هو الذي يفعل ما هو محبوب، و«المجرم» هو الذي يفعل ما هو مكروه. وهاتان العبارتان هما حكمان اجتماعيان يحددان ما هو ممدوح (محبوب) وما هو مذموم (مكروه)، وفي هذين التعبيرين («ما هو محبوب» و«ما هو مذموم») نجد أقدم برهان عرف على مقدرة الإنسان على التمييز بين الخلق الحسن والخلق السيئ؛ لأنهما ذكرا هنا لأول مرة في تاريخ البشر، ولهما تاريخ طويل فيما يلي ذلك الزمن، وظل استعمالهما مستمرا قرونا عديدة، ولم يحل محلهما كلمتا «الحق» و«الباطل» إلا بعد ذلك بزمن طويل. وهناك بعض الغموض بشأن أصل الجمل الافتتاحية للفقرة القصيرة الخاصة بالنظام الخلقي مما جعل إنشاءها من جديد معلقا، فقد رتبت الكلمات على الحجر نفسه هكذا:
ويظهر أن هذا التركيب مفصول عما يتلوه من المتن بأداه فصل، والآن نتساءل عما إذا كانت تلك الترجمة السالفة (أو الإنشاء الجديد) قد أدت كل المعنى المطلوب أم لا؟ فنجد أولا أن الكلمة التي ترجمت بلفظ «يفعل» تعني أيضا «يصنع»، ولما كانت هذه الكلمة هنا في صيغة اسم الفاعل «الذي يفعل» فإنه يمكن أن تعني أيضا الذي يصنع؛ أي الصانع، وبذلك تنسب إلى الإله أنه صانع ما يحب وما يكره. وإذا كان الأمر كذلك فيكون لدينا هنا نص بتسمية الإله «خالق كل من الطيب والخبيث».
غير أن الأستاذ «إرمان» رأى أن هذا التفسير غير مقبول، وترجم التعبيرين المتقابلين «بالنعم» و«النقم».
ومن جهة أخرى لاحظ الأستاذ «زيته» أن هذه الترجمة غير سائغة مع التعبيرين المتضادين «مسالم ومجرم»، وهما بجلاء تعبيران خلقيان، يضاف إلى ذلك أن لهذين التعبيرين تاريخا لاحقا - كما ذكرنا - يظهران فيه مستعملين بمعنى خلقي لا يقبل الجدل.
وأراد الأستاذ «زيته» أن يربط هذين التعبيرين أحدهما بالآخر بعض الربط، فقرر أنه سقطت بعض الألفاظ من الكاتب القديم عند قيامه بالنسخ، ولذلك يقترح أن الكلمات المحذوفة يمكن إعادتها بالاستعانة بفقرة وردت عن مثل ذلك في كتاب الموتى، فيكون الترتيب هكذا:
والاعتراض المهم على هذا التصحيح هو إدخال التعبيرين «حق» و«باطل» المأخوذين عن «مصدر» متأخر عن ذلك بكثير «ككتاب الموتى»، على أن خلو مسرحيتنا من هذين التعبيرين الأخيرين يشعر بحقيقة هامة جدا؛ وهي أن وجودهما جاء متأخرا، وفيما عدا ذلك نجد تصحيح الأستاذ «زيته» مغريا رغم أنه يدل على منتهى الجرأة، كما أنه في نفس الوقت يمدنا بموازنة تامة للتعبيرين المذكورين في ذلك التركيب المصحح.
ومن بين الصفات أو المميزات - التي يمكننا إدراكها بوضوح عن إله الشمس بعد سنة 3000ق.م - ميزتان اثنتان تسميان «الأمر» و«الفهم»، ويمثل كل منهما في صورة إله كما مثل العبرانيون «الحكمة» في شكل إله، ولذلك كان رجال البلاط يحيون الفرعون بصفته خليفة إله الشمس هكذا: «الأمر في فمك، والفهم في قلبك.»
وقد رأى العالم «جاردنر» في ذلك رأيا جذابا فقال: إنه عندما انتحل الإله «بتاح» هذه الصفة لنفسه قام مؤلفو المسرحية المنفية بتعديل التعبيرين اللذين وجدوهما في اللاهوت الشمسي فوضعوا كلمة «قلب» بدل كلمة «فهم » الشمسية، وكلمة «لسان» بدل كلمة «أمر» الشمسية، وبذلك يكون لدينا زوجان متوازيان من الألفاظ هكذا: (1)
الصفتان الأصليتان لإله الشمس: الفهم - الأمر. (2)
الصفتان اللتان حلتا محليهما للإله بتاح: «القلب» - «اللسان».
ومن ذلك يتضح أن فكرة وجود شخصية عليا قد أخذ فجرها ينبثق في هذا العهد على العقل البشري لأول مرة في التاريخ.
وكان هؤلاء المفكرون الأوائل يكافحون في تصور تلك الفكرة الخطيرة الشاملة محاولين أن يتعرفوا ويحللوا الخصائص الأصلية التي تميز مثل هذه الشخصية، وقد كان لهذه الفكرة أثر عميق في الحياة الإنسانية، ومن الواضح أنها نبتت من الملكية، أو بعبارة أصح: من نفس حكم الملك الفعلي وإدارته للبلاد، حيث كانت الفكرة مجسمة فيه بحذافيرها؛ فرأى الناس في فرعون لأول مرة في تاريخ البشر صورة فاخرة لشخصية بارزة وسلطان مجسم، وبذلك أخذت الفكرة تتحول إلى قوة، وقد ظهر تأثير رد فعلها أولا في النواة الصغيرة التي يتألف منها رجال الفكر، وأخيرا في المجتمع الإنساني.
وتكشف لنا المسرحية المنفية عن أقدم تقدير للسلوك بصفته مرضيا أو غير مرضي، وهاتان الصفتان المتقابلتان كانتا - كما أسلفنا - صفتين اجتماعيتين، وكان ظهورهما نتيجة للتطور الاجتماعي. غير أن الذي يعوقنا عن إدراك كنه هذا التطور ومنشئه افتقارنا التام «لمصادر معاصرة». وسنجد في الأدوار المتأخرة من الرقي عدة براهين لا تزال باقية تكشف لنا عن أصل تلك العوامل التي حدت بالناس القدامى إلى أن يدركوا أن بعض السلوك «محبوب» وبعضه «مذموم»، وهذه مرحلة من الأخلاق كانت في بادئ الأمر عادة من العادات، وكان التقدم حتى في تلك المرحلة المبكرة قد خطا خطوات بعيدة لدرجة أن السلوك صار موضوع تفكير في أذهان أقدم المفكرين المعروفين لدينا من عهد القرون السحيقة التي ترجع إلى عصر الاتحاد الأول. وبعبارة أخرى: نجد في تلك المسرحية المنفية إشارة وجيزة عن أقدم مبادئ جاءت عن طريق التفكير والتأمل، فالرجل الفاضل يسمى «محبا للسلام»، وبالنص الحرفي «حامل السلام»، وهو تعبير أخلاقي بلا شك يعرف الرجل الفاضل بعلاقاته بمن حوله. وعلى النقيض منه «حامل الجريمة» أو «المجرم»؛ فهو الذي يخطئ في حق من حوله. والواقع أنه كان لا بد أنه قد وجد في ذلك الوقت قانون مسنون يعترف بهذين النوعين من السلوك، ويقرر إحاقة الموت بالمسيء، ومنح الحياة لغير المسيء.
ولا شك في أن كل ما سبق من الأبحاث دليل على ظهور رقي اجتماعي وخلقي يقع في أفق سابق بكثير لأقدم أفق تاريخي عرف لدينا إلى الآن.
ومن المهم أن نحدد بالضبط آخر مدى وصل إليه ذلك الرقي عندما ظهر لأول مرة في فجر التاريخ، فإن الأحوال التي أتت فيما بعد توضح لنا تماما أن فرعون كان مصدر القانون ومنبع الحياة، وأن تأثير السلوك كان مجرد أمر ظاهري خاص بهذه الحياة الأرضية، وأن فرعون وحده كان في مقدوره أن يتطلع إلى آخرة فاخرة فيقلع فيها في المحيط السماوي مع إله الشمس والده. أما فيما يختص بأي إنسان آخر فإن سلوكه سواء أكان مقبولا أم مذموما ليست له سوى عواقت أرضية محضة، وليس لها أي تأثير على أية حياة في الآخرة؛ ولذلك كان الحق والباطل أمرين يقررهما فرعون، فكان يقوم بفحصهما كما يرى من المسرحية المنفية رجال الفكر من طائفة الكهنوت، ولذلك كان لا بد من الانتظار طويلا إلى أن تصبغ هذه الأفكار بصبغة إنسانية اجتماعية، وتصير قوة اجتماعية عظيمة مهدت لفاتحة «عصر الضمير» والأخلاق بعد ذلك بعدة قرون.
الفصل الرابع
العقيدة الشمسية ومكافحة الموت
لقد كنا أثناء تعقبنا لظهور أقدم الآلهة المصرية نلاحظ عهودا من التقدم البشري قبل العصر التاريخي في وادي النيل، فرأينا أن دنيا الطبيعة قد تركت أثرها تدريجا في عقول أقدم سكان وادي النيل، فكان نور الشمس والخضرة النباتية مظهرين طبيعيين بارزين أثرا باستمرار على أفكار أقدم مصري وحياته. ورأينا أن ذلك المصري صور هاتين القوتين الطبيعيتين الخفيتين في صورة إلهين عظيمين، ونذكر أن هذين الإلهين كانا في بادئ أمرهما مجرد قوتين طبيعيتين، واستمرا يعملان عملهما في دنيا الطبيعة بهذه الصفة فقط على الوجه الأغلب. ورأينا كيف أن إله الشمس انتقل تدريجا إلى عالم الشئون الاجتماعية المنظمة، وسنلاحظ فيما بعد كيف أن إله الخضرة
1
أيضا سار على نفس المنهاج الذي سار عليه إله الشمس، فكان على كل من هذين الإلهين أن يدخل مع زميله في علاقات أخرى بعد أن اشتركا في ميدان عمل واحد.
وصارت الدنيا التي أصبحا مندمجين فيها معا دنيا جديدة عظيمة؛ فصياد عصر ما قبل التاريخ، الذي كان يكتفي في التعبير عن عمله بآلة حفر مصنوعة من الظران ينحت بها خطوطا منتظمة على مقبض عاج لسكين حجرية لتمثل حيوانات الصيد، قد انتقل بعد مرور خمسين جيلا من التقدم الاجتماعي، إلى مهندس ملكي يستخدم جماعات عظيمة من أصحاب الحرف المنظمين في محاجر ضفاف النيل، فاستخرجوا منها أعمدة فخمة منسقة ومعابد للآلهة العظيمة، وأسوارا للأهرام الضخمة التي تعتبر أعظم مقابر أقامتها يد الإنسان قاطبة. والآن نتساءل: ماذا كان من أمر إلهي الطبيعة القديمين في مثل تلك الدنيا التي وصفناها؟ إن تلك الدنيا لم يقتصر تغيرها العظيم على مظهرها الخارجي ومجرد أساليبها المادية التي تدل على تقدم أنظمتها الاجتماعية والحكومية، بل تعدى رقيها إلى نمو حياة الإنسان الباطنة، فإن هذه الحياة كانت تسير بلا ريب بخطى متساوية مع تلك الحقائق الظاهرة التي لم تدون. وظهور أقدم بناء عرف من الحجر وأول مبنى ذي عمد لا يعد فقط برهانا على تقدم كفاءة حياة الجماعة الإنسانية المنظمة، بل يعد كذلك دليلا على ظهور أفق جديد للشعور البشري يزداد اتساعه باطراد، فكان بناءو هذا العصر أول شعراء؛ إذ مدوا أيديهم بين خمائل النخيل ومستنقعات النيل وقطفوا منها أزهار البشنين والبردي وسعف النخيل، ونسقوا بها أروقة ذات عمد على طول مساحات المعابد، فهم بذلك يعدون أول الفنانين الذين حملوا إلى ردهات المعابد شيئا مقتبسا من جمال العالم الخارجي المنير اليانع، وبذلك صارت المعابد تجمع بين نور الشمس والخضرة لتجميل أشكالها من الخارج، كما أثرت هاتان القوتان في عقائد ذلك العصر الدينية من الداخل.
ولما بدأت عظمة الحكومة تظهر في أشكال العمارة ذات الأبهة والبهاء كان معظم تلك الأشكال دينية، وإن المظهر الفخم للديانة المنظمة يعتبر مقياسا للأثر البالغ الذي أحدثته الحكومة الجديدة في الديانة، وإن تنظيم الديانة رسميا بتلك الكيفية الطريفة جعل المؤثرات الاجتماعية بطيئة الأثر في الديانة، ولكن تلك المظاهر الدينية الحكومية كانت صالحة لتبادل التأثيرات بين رجال جماعة من الكهنة أو رجال طوائف المعابد وجماعة أخرى. وعلى ذلك نجد أن الاعتقادات المحلية أخذ بعضها يندمج في البعض، وقد تبينت لنا هذه الظاهرة في حالة إله الشمس ببلدة عين شمس، والإله الصانع «بتاح» ببلدة «منف»، غير أن حقيقة هذا الاندماج تظهر بشكل أوضح في حالة نور الشمس والخضرة؛ أي حالة إله الشمس و«أوزير».
وإن حقيقة الموت قد تركت تأثيرا عظيما في الديانة المصرية، كما أنها أثرت تأثيرا عميقا في كل من اللاهوت الشمسي، واللاهوت الأوزيري.
وإذا بحثنا الاعتقادات المصرية الجنازية القديمة بوجه خاص أمكننا أن ندرك ذلك الامتزاج الذي حدث بين المذهب الشمسي والمذهب الأوزيري، على أنه لن يكون في وسعنا فهم امتزاج هذين المذهبين إلا إذا وجهنا نظرنا قليلا إلى تصورات المصري للحياة بعد الموت، وإلى التقاليد المدهشة التي تولدت عن تلك التصورات.
والواقع أنه لا يوجد شعب قديم أو حديث بين شعوب العالم احتلت في نفسه فكرة الحياة بعد الموت المكانة العظيمة التي احتلتها في نفس الشعب المصري القديم. ومن الجائز أن ذلك الاعتقاد الملح في الحياة بعد الموت كان يعضده كثيرا ويغذيه تلك الحقيقة المعروفة عن تربة مصر ومناخها؛ وهي أنها تحفظ الجسم الإنساني بعد الموت من البلى إلى درجة لا تتوافر في أي بقعة أخرى من بقاع العالم. فعندما كنت أشتغل بنقل نقوش بلاد النوبة منذ سنين طويلة (مضت) كانت الأحوال كثيرا ما تضطرني إلى المرور بطرف جبانة فيها قدما إنسان ميت مدفون في حفرة قريبة الغور، وقد حسر عن هاتين القدمين وصارتا ممتدتين في عرض الطريق الذي كنت أمر به، والواقع أنهما كانتا تشبهان كل الشبه الأقدام الخشنة للعمال الذين كانوا يعملون معنا في حفائرنا في تلك الجهة، ولست أعرف عمر ذلك القبر، ولكن كل إنسان خبير بجبانات مصر قديمها وحديثها لا بد أنه عثر على جثث بشرية كاملة (أو على أجزاء منها) قديمة جدا، ولكنها باقية محفوظة أحيانا إلى درجة تجعلها تشبه تماما أجسام البشر الأحياء. ولا بد أن مثل تلك المشاهدات حصلت كثيرا للمصريين الأقدمين أيضا. ولعمري كان مثل المصري في ذلك كمثل «هملت»
2
وهو يحمل في يده جمجمة «يورك»، فلا بد أنه فكر من أعماق نفسه عندما تأمل هؤلاء الأشهاد الصامتين.
ولا بد أن حالة الحفظ التامة المدهشة للأجساد البشرية التي وجد المصري عليها أجداده الذين كان يكشف عنهم عندما يقوم بحفر قبر جديد في ذاك الوقت، قد زادت اعتقاده في بقاء تلك الجثث البشرية إلى الأبد، وأيقظت في خياله صورا عظيمة في تفاصيلها عن عالم الأموات الذين رحلوا إلى الآخرة وعن حياتهم فيها.
وقد بدأ أقدم تلك الاعتقادات وأبسطها في زمن سحيق في القدم، حتى إنه لم يبق لها ذكر بين الآثار التي وصلت إلينا. على أن جبانات سكان وادي النيل فيما قبل التاريخ، وهي التي كشفت عنها وقامت فيها الحفائر منذ سنة 1894 ميلادية، تدل على أن الاعتقاد بالحياة الآخرة بعد الموت قد وصل إلى مرحلة متقدمة من الرقي، وقد حفرت آلاف من هذه القبور الواقعة على طول حافة وادي النيل الخصب مما يرجع تاريخ أقدمها وجودا بلا شك إلى الألف الخامسة قبل الميلاد، فكان يوجد الجسم البشري فيها راقدا في قاع حفرة لا يزيد عمقها على بضع أقدام وركبتاه مطويتان تجاه ذقنه، ويحيط به متاع ضئيل من أواني الفخار وآلات الظران والأسلحة الحجرية والأدوات المنزلية الأخرى، فضلا عن بعض الحلي الساذجة، وكان المفروض من وضع كل هذه الأشياء بجانبه هو بطبيعة الحال إعداد المتوفى لحياة أخرى مقبلة بعد الموت.
والمفروض أنه قد مضى ما لا يقل عن 1500 سنة من عهد المعتقدات القديمة الممثلة في أقدم هذه المدافن إلى وقت ظهور أقدم الوثائق المدونة التي وصلت إلينا، وهي الوثائق التي اعتمدنا عليها في أبحاثنا السابقة: تلك الوثائق التي تكشف لنا عن عقيدة دينية نامية لشعب يسمو بسرعة نحو حضارة مادية راقية؛ إذ يمكننا بما لدينا من المصادر المدونة أن نتتبع طريق هذا الرقي أثناء عهد الاتحاد الثاني الذي ابتدأ حوالي سنة 3000ق.م.
وإذا ذاك نجد أمامنا نتائج معقدة جاءت من اختلاط معتقدات كانت في أصلها مميزة، ثم اندمج بعضها بالبعض الآخر وتدوولت بذلك الشكل عدة قرون حتى صارت تشبه حزمة خيوط معقدة، مما يجعل حلها الآن صعبا جدا، بل يكاد يكون مستحيلا.
ويزيد تلك الصعوبات تعقيدا الصورة التي كان يتصورها المصري القديم لطبيعة الإنسان، فإنه كان يتصور أن شخصية الإنسان الحقيقية في الحياة تحتوي على الجسم المادي الظاهر وعلى الفهم الباطن، ومقره في اعتقاده هو «القلب» أو «الجوف»؛ وهما التعبيران الرئيسيان عن «العقل». وتحتوي هذه الشخصية أيضا على الجوهر الحيوي المحرك للجسم، ويقصد به «النفس» كما يلاحظ عند الكثير من الشعوب الأخرى. غير أن هذا الجوهر الحيوي لم يكن مميزا بشكل ظاهر عن «العقل»، وكان الاثنان يمثلان معا في رمز واحد هو طائر له رأس إنسان وذراعاه، ونجد مصورا في المناظر التي على القبور وعلى توابيت الموتى يرفرف على المومية، ويمد لأنفها بإحدى يديه صورة شراع منشور، وهذا الشراع هو الرمز المصري القديم «للهواء» أو «للنفس»، ويحمل في يده الأخرى علامة هيروغليفية ترمز للحياة،
3
والمصريون يسمون هذا الطائر الصغير الممثل برأس إنسان وجسم طائر «با».
ومما يدعو للدهشة أن المؤرخين فاتتهم الحقيقة الهامة؛ وهي أن «البا» تظهر للمرة الأولى في الوجود عند موت الإنسان، فقد التجأ القوم إلى كل أنواع الحيل والاحتفالات الدينية ليصبح المتوفى «با» عند موته.
ولما كان من الواضح أن المصري القديم مثلنا نحن معشر الأحياء لم يكن في مقدوره أن ينتزع شخصا آخر من جسمه، وذلك باعتبار الجسم وسيلة للإحساس، فإن المصريين لجئوا إلى استعمال حيل متقنة لتزويد الجسم الميت بكل وسائل الإحساس المختلفة بعد أن تنفصل عنه الروح (با) التي تضم كل هذه الإحساسات. وكان المصري القديم يعتقد أن صاحبه المتوفى موجود في داخل جسمه، أو على أقل تقدير لا يزال يملك جسما له مظهره الخارجي كما يملك كل منا جسمه، هذا إذا حاولنا أن نصور المتوفى بصورة ما في نظر المصري القديم، ومن ثم كان يظهر المتوفى عندما كان يمثل في الرسوم الجنازية كما كان يظهر في الحياة الدنيا. وكانت رغبة أقارب المتوفى مطابقة لهذه الأفكار؛ وهي أن يضمنوا بعث المتوفى بجسمه الذي كان عليه مرة أخرى. ومن أجل ذلك كان يقف الكاهن الجنازي مع أقارب المتوفى وأصدقائه عند قبره مجتمعين عند جسمه الهامد، ويخاطب المتوفى الراحل هكذا: «إن عظامك لن تفنى، ولحمك لن يمرض، وأعضاءك ليست بعيدة عنك.» ومهما تكن هذه الوسائل فعالة فإنها لم تكن تعتبر كافية؛ إذ كان من الضروري للجسم الهامد البعث مرة أخرى والعودة لاستعمال أعضائه وحواسه، وقد كان يتم ذلك البعث على يد إله معين
Favouring God
أو آلهة مقربة كالإله «حور» أو الإلهة «إزيس»، أو كان الكاهن يخاطب المتوفى مؤكدا له أن آلهة السماء ستبعثه مرة أخرى: «إنها تعيد لك رأسك ثانية، وتجمع لك عظامك، وتضم لك أعضاءك، وتحضر قلبك لجسمك.» غير أن المتوفى - حتى عندما يبعث بهذه الكيفية - لم يكن مالكا لحواسه وقواه العقلية، ولم تكن لديه قوة لضبط جسمه وأعضائه واستعمالها، ولذلك كان من الضروري أن تخترع عدة حيل حتى تصير موميته الصامتة إنسانا حيا قادرا على المعيشة في الحياة الآخرة.
ولما كان المتوفى يعجز عن أن يكون «با» أو روحا بعد الموت كان من الضروري مساعدته حتى يصير «با». وكان «أوزير» قد صار روحا بعد موته، وذلك بعد أن تسلم من ابنه «حور» عينه التي انتزعها من محجرها «ست» أثناء الشجار الذي قام بينهما، ولكن «حور» لما استرد عينه أعطاها والده «أوزير»، فلما تسلمها الأخير صار روحا، ومن ذلك العهد صارت العادة المألوفة أن يسمى أي قربان يقدم للمتوفى «عين حور»، وبتلك الكيفية صارت تحدث تلك العين للمتوفى نفس ذلك المفعول كما حدث «لأوزير»، ولذلك يقول الكاهن: «قم لخبزك هذا الذي لا يمكن أن يجف، وجعتك التي لا يمكن أن تصير فاسدة؛ إذ بها تصبح روحا.»
فكأن هذا الطعام الذي قدمه الكاهن يحتوي على القوة الخفية التي تحول المتوفى إلى روح كما حدث أن حولت «عين حور» «أوزير» روحا.
ومن تلك الحقائق السابقة، يتضح أن المصريين قد ابتدعوا للمتوفى فلسفة نفسية ساذجة حاولوا بها أن يعيدوا إليه حياة الفرد بطرق وعوامل خارجية عن ذاته، وذلك بإشراف الأحياء؛ وبخاصة الكاهن الجنازي الذي كان يعرف الاحتفالات الدينية الضرورية للوصول إلى ذلك الغرض.
ويمكن تلخيص كل هذه النظريات في أنه بعد بعث الجسم لا بد من إعادة قوى الإنسان العقلية إليه واحدة فواحدة، ويتم حصوله عليها بوجه خاص بصيرورة المتوفى روحا «با». وبتلك الكيفية يعود المتوفى إلى الحياة مرة أخرى وهو حائز لجميع قواه التي تساعده على المعيشة في الحياة الآخرى. فليس من الصواب إذن بعد ظهور تلك الحقيقة أن نعزو إلى قدماء المصريين الاعتقاد بخلود الروح، أو أنهم عبروا عن الروح بأنها لا تفنى، أو أن نتكلم عن «آراء المصري في الخلود» بعد الموت.
وعندما يبتدئ المتوفى حياة جديدة في الآخرة لا يعرفها كان يساعده في ذلك ملاك يحرسه يسمى «كا» يظهر في الوجود مصاحبا لكل إنسان من وقت ولادته، ويرافقه في كل حياته حتى ينتقل قبله إلى عالم الآخرة. لذلك نجد مرسوما على جدران معبد الأقصر التي مثل عليها ولادة «أمنحتب الثالث» في مناظر محفورة يرجع تاريخها إلى أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد، الأمير الصغير «أمنحتب» محمولا على ذراع إله النيل تتبعه صورة طفل آخر، وهذه الصورة التي تنطبق تمام الانطباق في شكلها الظاهري على صورة الأمير هي الكائن الذي يسميه المصريون الأقدمون «كا»، وهو نوع من الملائكة سام كان الغرض منه على الأخص إرشاد المتوفى إلى ما قدر له في الحياة الآخرة التي يجد فيها كل متوفى من المصريين ملاكه «الكا» في انتظاره. وجدير بنا أن نلاحظ في هذا المقام أن «الكا» يحتمل أنها كانت في الأصل خاصة بالملوك فقط ، فكان كل ملك يعيش في حراسة ملاكه الحارس، ثم صار هذا الامتياز الملكي بطريق التطور التدريجي حقا مشاعا لكل عامة الشعب.
ولا يمكننا أن نشك في أن أسلحة ذلك الصائد الفطري وأواني طعامه وشرابه مضافا إلى ذلك حليه الشخصية قد وضعت كلها في قبره قبل وجود أي ملك أو قيام أية مملكة في وادي النيل بآلاف من السنين. وقد أخرج للناس تدريجا عهد الملكية والحضارة الراقية التي كانت تصحبها عتادا ماديا متقن الصنع في صورة قبر ضخم مشتمل على أثاثه الجنازي. وأقدم قبر ضخم بناه القوم كان يشبه هرما ناقصا، جوانبه شديدة الانحدار - ويطلق المصريون الآن على مثل ذلك البناء لفظة «مصطبة».
وهذا القبر وليد كومة الدفن ذات الشكل المستطيل التي نراها في مدافن ما قبل التاريخ، وحوطت فيما بعد بجدار حاجز، وكان يصنع أولا من الأحجار الخشنة، فصار في ذلك الوقت الذي نحن بصدده يصنع من الأحجار المنحوتة المرصوصة بعناية وإتقان. وقد صارت المصطبة منحدرة بعض الانحدار على غرار ما كانت عليه سابقتها كومة الرمل، أو الرابية التي لا تزال تشاهد محصورة في داخل جدران المصطبة. وفي الجانب الشرقي للبناء الخارجي من المصطبة الذي كان في الغالب ذا حجم عظيم كانت توجد حجرة مستطيلة الشكل، يستحسن أن نسميها «مزارا»، وكان يقدم فيها القربان للمتوفى كما كانت تؤدى فيها الاحتفالات الخاصة به؛ وذلك لأنه لم يكن في مقدور المتوفى بالرغم من بعثه من جديد إنسانا حيا أن يعول نفسه في الحياة الآخرة من غير مساعدة أقاربه الأحياء. وكانت جميع تلك الاحتفالات الجنازية ترجع في معظم طقوسها إلى المذهب الأوزيري؛ لأن إله الشمس في المذهب الشمسي لم يقض نحبه بين الناس مثل «أوزير»، ولم يترك بعده أسرة تحزن عليه وتقيم له الاحتفالات الجنازية، فكان من الطبيعي إذن أن يوضع المتوفى في حماية «أوزير» بصفته ابن «جب» إله الأرض.
وقد صار من المعتاد من القرن الرابع والثلاثين قبل الميلاد فصاعدا أن يدفن الموظفون المقربون وأشياع فرعون في الجبانة الملكية كما نشاهد ذلك في مقابر الأسرة الأولى بالعرابة المدفونة. فكان هؤلاء المذكورون يؤلفون بذلك نوعا من البلاط الجنازي حول قبر مليكهم الذي خدموه مدة حياتهم الدنيا، وقد صار الملك بذلك مقيدا شيئا فشيئا بالتزامات لمساعدة رجاله الأشراف في بناء مقابرهم، ومدهم من خزانة الدولة بما يساعد على بهاء جنائزهم وكمالها، فكان طبيب الملك المقرب يتسلم إذنا على الخزانة والمحاجر الملكية ليعمل له «باب وهمي» عظيم فخم من الحجر الجيري الأبيض الضخم وينقل إلى مقبرته. ويقص علينا المتوفى تلك الحقائق بسرور عظيم وتفصيل مبين في نقوش قبره.
وفي نقوش أخرى نشاهد فرعون محمولا في محفته الملكية على الطريق الصاعد من الوادي إلى هضبة الصحراء ليشرف على بناء هرمه، فيشاهد هناك مقبرة لم يكمل بناؤها بعد لأحد أشراف رجاله المقربين «دبحن» الذي ربما كان يعتمد على سنوح فرصة رضا ملكي مثل هذه تلفت نظره إلى قبره الذي لم يتم بناءه بعد، ويخصص الملك في الحال خمسين عاملا يقومون بالعمل في مقبرة ذلك الشريف، ثم أمر فيما بعد المهندسين الملكيين والحجارين الذين كانوا يعملون في معبد الملك المجاور للمقبرة أن يحضروا «لدبحن» الذي أسعده الحظ «بابين وهميين» وأحجارا لواجهة مقبرته، وكذلك تمثالا ليقام في قبره.
ويقص علينا أحد مشهوري الزعماء
4
في تاريخ حياته الذي كتبه بنفسه في ختام القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، كيف أنه كان كذلك صاحب حظوة فيقول: «وبعد ذلك تضرعت ... إلى جلالة الملك ليأمر بجلب تابوت لي من أحجار طرة البيض [وهي محاجر ملكية بالقرب من القاهرة أخذ منها الكثير من الأحجار لأهرام الجيزة]، فأمر الملك خازن مالية الإله [خازن فرعون] أن يعبر النهر ومعه فصيلة من الجنود البحارة تحت إمرته ليحضروا لي هذا التابوت من طرة، وعاد بالحجر في سفينة كبيرة تابعة للبلاط [أي إحدى النقالات الملكية]، وأحضر مع التابوت غطاءه والباب الوهمي ... [وقطعا أخرى عدة ليست أسماؤها المصرية واضحة المعنى] ومائدة قربان واحدة.»
وفي مثل تلك المناسبات التي كانت كثيرة الحدوث كان ينتظر من الملك أن يقوم بتحنيط الشريف المقرب ودفنه من أمواله الخاصة؛ فمن ذلك أن الفرعون بعث طائفة موظفيه الجنازيين من كهنة ومحنطين لاستقبال الشريف «سبني» عند عودته من السودان حاملا جثمان والده.
5
وبمثل ذلك أرسل الملك أحد قواده لإنقاذ جثمان شريف منكود الطالع كان قد ذبح مع كل جنوده عن بكرة أبيهم بيد البدو عند شاطئ البحر الأحمر أثناء بناء سفينة كان يراد الرحلة بها إلى بلاد «بنت»؛ أي ساحل الصومال، ويحتمل أن «بنت» هذه هي أرض «أوفير» الوارد ذكرها في التوراة. ومن الواضح أن الفرعون قد رغب في إنقاذ جثمان ذلك الشريف لكي يجهزه بعناية إلى الدار الآخرة، وإن كان منقذه لم يذكر لنا شيئا عن ذلك في نقوشه القصيرة. ويرجع السبب في اهتمام الملك بذلك كل هذا الاهتمام إلى ما كان بينه وبين أي موظف مقرب من المودة الشخصية، وقد ظهر ذلك واضحا في حادث «وشبتاح» أحد كبار وزراء الأسرة الخامسة حوالي سنة 2700ق.م؛ إذ حدث أن الملك وأسرته وحاشيته كانوا ذات يوم يتفقدون مباني عمارة جديدة لا يزال العمل جاريا فيها تحت إشراف «وشبتاح» الذي كان رئيسا للوزراء ورئيسا لمهندسي العمارة أيضا، فيعجب جميع الحاضرين من المبنى، وعندئذ يلتفت الملك إلى رئيس وزارته الأمين مثنيا عليه، ولكنه يلاحظ أن «وشبتاح» لا يعي كلمات العطف الملكي، فيصيح الملك حتى يزعج صياحه رجال حاشيته، ثم ينقل ذلك الوزير الذي أصيب بالفالج سريعا إلى البلاط، ويطلب الملك على عجل الكهنة وكبار الأطباء لإسعافه، ويحضر الملك صندوقا به قراطيس طبية، غير أن كل ذلك لم يجد شيئا؛ لأن الأطباء أعلنوا أن حالة الوزير موئسة. وعند ذلك ينزل بالملك الحزن ويعتزل في حجرته مصليا «لرع»، ثم يقوم بكل الترتيبات اللازمة لدفن «وشبتاح»، ويأمر له بصنع تابوت من الأبنوس، ويأمر بتضميخ الجثة بالعطور في حضرته شخصيا، ثم أذن ابن ذلك الشريف المتوفى في بناء القبر الذي منحه الملك المتوفى وحبس عليه الأوقاف.
كذلك تمتع بشبه هذا العطف الملكي شريف آخر كان قد أراد أن يدفن ابنه البار معه في نفس المقبرة، فيقول الابن: «لقد التمست من جلالة سيدي الملك «بيبي الثاني» عاش إلى الأبد أن يمن علينا بتابوت وملابس وعطور من عطور الأعياد لأجل «زاو» [والده المتوفى].» فأمر جلالته مدير الأوقاف الملكية بإحضار تابوت من الخشب وعطور من عطور الأعياد، وزيت وملابس بما يقدر بنحو 200 قطعة من نسيج الكتان الجيد، ومن كتان الجنوب الجميل ... على أن تؤخذ كلها من البيت الأبيض [الخزانة الملكية] التابع للبلاط لأجل «زاو» هذا.
وبعد أن يحتفل بدفن المتوفى بتلك الأبهة الملكية، ويجهز بمثل ذلك الأثاث الفاخر، تبقى مسألة: من يعوله بعد ذلك؟ لقد كان الشعور في جميع العصور - ولو نظريا - أن المتوفى ما كان ليجسر على وضع كل تلك المسئولية في يد الأحياء من أسرته؛ إذ كانت الأسرة تئول في النهاية إلى فرع منها تفتر عنايته بالأمر حتما، ثم تأخذ في الزوال حتى تختفي جملة واحدة، ومن أجل ذلك كان الشريف يقوم بعمل وصايا مدونة بعناية، وهبات يوقف دخلها كله لتموين قبره وتقديم القرابين من البخور والدهان والطعام والشراب والملابس بمقادير وفيرة وفي فترات متعددة. ومن الجائز أن يكون هذا الدخل مصدره أملاك الشريف نفسه، وقد يكون من المربوط على وظائفه السابقة ومرتباته الإضافية التي تقتضيها مرتبته في الدولة. وعلى كل حال كان يخصص من كل ذلك الدخل جزء ثابت لصيانة قبر المتوفى وإقامة شعائره اليومية.
وقد شاهدنا في عدة أحوال أن الوثيقة القانونية الضامنة لتلك الأوقاف، قد نقشت على جدار مزار القبر نفسه، ومن ثم حفظت لنا حتى الآن؛ فقد خلف لنا «حبزافي» [حاكم المقاطعة وأميرها] في أسيوط عشر وثائق مدونة بإتقان على الجدار الداخلي لمزار قبره، وكان الغرض منها تخليد بيان الخدمات التي كان يرغب في استمرار إقامتها في قبره أو من أجله بوجه عام.
وكان ذلك الوقف يبلغ أحيانا مقدارا عظيما من المال بحالة مدهشة؛ ففي القرن التاسع والعشرين قبل الميلاد أوقف على قبر الأمير «نكاورع» ابن الملك «خفرع» ما لا يقل عن اثنتي عشرة بلدة من أملاكه الخاصة، وربط كل دخلها على الصرف على صيانة قبره. وفي عهد الملك «وسركاف» في منتصف القرن الثامن والعشرين ق.م، عين مدير قصره ثمانية من الكهنة الجنازيين لخدمة قبره، وبعد ذلك بقرنين نجد أن أميرا من الوجه القبلي وقف على قبره محاصيل إحدى عشرة قرية وضيعة. وفي قبر من تلك القبور نجد أن دخل كاهن جنازي كان وحده يكفي للصرف على قبر ابنته على النمط الذي سنه صاحب القبر لنفسه، يضاف إلى هذه المخصصات التي هي من موارد الشريف الخاصة ما كان يهبه الملك في كثير من الأحوال من هبات جديدة لأي شريف بعد وفاته، وبذلك كان يزيد في المخصصات التي ربطها الشريف بنفسه على قبره أثناء حياته، أو كان الملك يقوم بصرف كل المخصصات اللازمة للقبر من الدخل الملكي.
والظاهر أن هذه المخصصات فضلا عن كونها تقي المتوفى شر مخاوف الجوع والعطش والبرد في الحياة الآخرة كان يقصد بها أكثر من أي شيء مساعدته على الاشتراك في إقامة أهم أعياد السنة، واحتفالاتها الدينية، فإن شأن المصري في ذلك كشأن أي شرقي آخر يجد السرور العظيم في الاحتفالات الدينية، فلم يرض أن يتخلى بعدما فارق الحياة الدنيا عن الملاذ الجميلة التي كانت تتاح له كثيرا في مثل هذه الفرص. لذلك كان تقويم الأعياد عنده بمكان عظيم من الأهمية، فكان مستعدا لتخصيص دخل وفير يساعده على إقامة تلك الاحتفالات الخاصة بكل أيام التقويم الهامة في عالم الآخرة، كما كان ينفق عليها بسخاء بين أصدقائه في حياته الدنيا، بل إنه كان في الواقع ينتظر أن يشترك في الاحتفال بهذه الفرص المرحة بين أصدقائه في المعبد كما كان معتادا فعل ذلك في حياته الدنيا، فكان يأمر تنفيذا لذلك أن يشاد له تمثال في ردهة المعبد، وكان الملك أحيانا يأمر حفاريه بنحت هذا التمثال وإقامته داخل المعبد؛ ليكون منه بمثابة عطف سام يميز به من يشاء من أشراف رجاله العظماء.
وكذلك كان شريف عصر الأهرام ينصب في قبره أيضا تمثالا من الحجر أو الخشب يمثل صورته الحقيقية تمثيلا تاما في حجمه الطبيعي وملونا بالألوان الطبيعية، وكان هذا التمثال يخفى في حجرة سرية مخبوءة في أصل بناء المزار. وكثيرا ما كان الملك يهدي أمثال هذه التماثيل لزعماء الأشراف الممتازين من رجال حكومته وبلاطه. ومن البدهي أن ذلك التمثال الذي يمثل المتوفى [وهو أقدم شيء عرف من نوعه في الفن] كان الغرض منه أن يقوم مقام المتوفى الذي ضاع جسمه، وبذلك يكون في مقدوره أن يعود إلى المعبد ليتمتع على الأقل بشبه حضور جثماني [بتقمصه هذا التمثال]، ثم يعود بنفس تلك الطريقة إلى مزار قبره حيث يحتمل أن يجد صورا أخرى لجسمه في الحجرة السرية الملاصقة للمزار فيتقمصها.
من مثل هذه الطقوس نرى ظهور الحياة الآخرة في شكل أكثر تقدما وأحب إلى الناس من ذي قبل، وقت أن كانوا يتصورونها في شكل ساذج بسيط. وتدل هذه الآراء الجديدة على ظهور أو ميل نحو الاعتراف بشخصية الفرد كما يلاحظ ذلك في تلك التماثيل التي تصور هيئة صاحبها بالضبط، والتي تعد أقدم ما عرف من نوعها. وهي تمثل لنا علية القوم المتعاظمين فقط [أي تمثل طبقة الأشراف رجالا ونساء]، أما عامة الشعب فكانوا وقتئذ لا يزالون من غير شك يعتقدون أن موتاهم يسكنون القبر أو يعيشون في عالم الغرب المظلم؛ أي في تلك المملكة السفلية التي يحكمها الآلهة الجنازيون القدامى الذين صار زعيمهم في النهاية «أوزير». أما عظماء البلاد؛ أي الملك وبطانته على الأقل، فقد انبثق أمامهم الآن فجر مصير أسعد حالا من مصير عامة الشعب؛ إذ كان في مقدورهم أن يسكنوا حسب رغبتهم مع إله الشمس في مملكته السماوية الفاخرة، ومن ذلك الوقت فصاعدا نجد في القبور الملكية ما يدل على هذه الآخرة الشمسية.
وقد كان من المعقول أن الملك نفسه ينتظر أن قبره العظيم يتغلب على عوامل الدمار والفناء التي قد تصيب مقابر أشراف رجاله التي هي أقل متانة من قبره، وكذلك كان يعنى بتنظيم أوقافه لتبقى ثابتة أكثر من أوقاف معاصريه الذين هم أقل منه قوة. والواقع أن الهرم اعتبر في كل الأزمان أثبت شكل هندسي في البناء؛ فقد كان الفرعون الراقد تحت هذا الجبل الضخم من الأحجار المنيعة يتطلع إلى خلود جسمه وشخصيته التي كانت مرتبطة به ارتباطا وثيقا لا انفصام له. وقد يمتد بنا البحث إذا فحصنا أصل الهرم من جهة هندسة بنائه، ولكن من المهم أن نلاحظ في هذا المقام أن القبر الهرمي الشكل كان رمزا شمسيا بالغا حد الغاية في التقديس قد أقيم فوق جثمان الملك ليحيي مطلع الشمس التي كان الفرعون من سلالتها.
والواقع أن الملك كان يدفن قديما تحت نفس رمز إله الشمس الذي كان منصوبا في حجرة قدس الأقداس بمعبد «عين شمس»، وهذا الرمز الهرمي الشكل كان إله الشمس قد اعتاد أن يظهر جاثما فوقه في هيئة الطائر مالك الحزين (فنكس) منذ اليوم الذي خلق فيه الآلهة. لذلك لما ظهر الهرم الملكي بشكل جبل شاهق فوق ضريح الملك، وقد أشرف على المدينة الملكية التي كانت مبنية في أسفله، وعلى الوادي الممتد إلى ما بعده بعدة أميال، كان من غير شك يعد أسمى شيء يرحب بإله الشمس في كل البلاد عندما يرسل أشعته الصباحية الساطعة على قمة الهرم الوهاجة قبل أن ينشر ظلاله على مساكن الفقراء المنتشرة بأسفله ببرهة طويلة. وقد عثرنا فعلا على قمة هرم، وهي قطعة من الجرانيت المصقول البديع هرمية الشكل ملقاة عند قاعدة هرم الملك «أمنمحات» الثالث بدهشور، وقد نقش على أحد جوانب هذا الحجر - وهو من غير شك الجانب الذي كان يواجه الشرق - رسم شمس مجنحة فوق صورة عينين نقش تحتهما هاتان الكلمتان: «جمال الشمس». فالعينان تشيران هنا بطبيعة الحال إلى فكرة المشاهدة التي تفهم من تينك الكلمتين «جمال الشمس»، ونجد أسفل ذلك نقشا آخر يتألف من سطرين يبتدئ بقوله: «لقد فتح وجه الملك «أمنمحات الثالث» ليتمكن من رؤية رب الأفق عندما يقلع في عرض السماء.» [انظر شكل
6 ].
ويجب أن نرى في اختيار الشكل الهرمي - الذي يعد أعظم رمز شمسي - لقبر الملك برهانا آخر على سيادة المذهب الشمسي في البلاط الفرعوني. ومما يجدر بنا ملاحظته في هذا المقام أن من أهم دواعي المحافظة على الشكل الهرمي عند إهداء قبر ملكي، الاحتماء من «أوزير» بوجه خاص وطائفة آلهته.
ولم يكن الهرم مبنى منعزلا قائما بذاته، بل كان جزءا من مجموعة، وبعبارة أدق: الجزء الأعظم من مجموعة رائعة من البناء تشغل موقعا بارزا على حافة هضبة الصحراء المشرفة على وادي النيل؛ إذ كان قائما على الجانب الشرقي للهرم معبد منخفض ملاصق لمبنى الهرم نفسه، له رواق ذو عمد جميلة قائم بمقدمته، يؤدي إلى ردهة ذات عمد خلابة تحيط بها حجرات المعبد على كلا الجانبين، وكان يقوم في مؤخرة المعبد مكان مقدس، وكان الجدار الذي خلف «قدس الأقداس» هذا، هو واجهة الهرم نفسه الشرقية، وقد أقيم أمام هذا الجدار باب وهمي ملاصق له يمكن للملك المتوفى الخروج منه من ضريحه ليتسلم القرابين المقدمة له، ويتمتع بها في ذلك المكان.
ويلي ذلك طريق مؤدية من وادي النيل إلى حيث مستوى الهضبة المقام فوقها الهرم أو المعبد، وكانت تلك الطريق مسقوفة ذات طول عظيم، وكانت مقامة من أحجار صلبة ضخمة وممتدة إلى نفس باب المعبد، وكان يقوم عند الطرف الأسفل من ذلك الطريق معبد آخر فخم ذو عمد، يعتبر بمثابة باب هائل للطريق، وقد سمى الأستاذ «ريزنر» هذا المعبد بحق «معبد الوادي». ومن المحتمل أن ذلك المعبد كان يوجد بداخل جدران مدينة المقر الملكي التي كانت في أسفل الوادي. وبهذين المعبدين كانت بطبيعة الحال تقام الشعائر الدينية الجنازية التي كانت تجرى بنظام على روح الملك، فهما شبيهان في أصلهما بمزار قبر الشريف الذي تكلمنا عنه فيما سبق.
وتؤلف مجموعة العمائر المركبة من الهرم والمعبد الجنازي والطريق المسقوفة ومعبد الوادي أعظم فكرة في هندسة البناء ظهرت في ذلك العصر المبكر، وقد أضاف ما بقي من آثارها المكشوفة في السنوات الأخيرة إلى معلوماتنا فصلا جديدا في تاريخ العمارة.
وقد أنفق كل من فراعنة الأسرتين الثالثة والرابعة [حوالي 3000-2750ق.م] جزءا كبيرا من ثروتهم في إقامة ذلك القبر الشاسع ليحوي جثمان الفرعون ويضمن بقاءه بعد الموت، وبتلك الكيفية صار الهم الأكبر لبقاء الملك في الحياة الآخرة الشغل الشاغل للحكومة ودولاب أعمالها. وكثيرا ما عجز الملك عن إتمام تلك المجموعة البنائية قبل موته، وبذلك كان يلقى على عاتق خلفاء الملك أعباء إتمامها، كما كانوا يعملون كل ما في وسعهم في الوقت نفسه لإتمام مقابرهم أنفسهم. وكان الكهنة عند الفراغ من بناء تلك المجموعة يهدون صيغا منظمة لتحفظ المعبد والهرم، أما لوازم الملك وهو راقد تحت بناء الهرم فكانت تراعى بكل عناية؛ وذلك بإقامة الشعائر الرائعة في المعبد الملاصق لقبره، ولا نعرف من تلك الشعائر شيئا سوى الأجزاء التي حفظت لنا منها في متون الأهرام، وهي تدلنا على أن ما كان مألوفا إقامته في الحياة من الأعياد كان يقام مثله للملك المتوفى، وبطبيعة الحال يكون ذلك بأعظم درجة من البهاء.
ومن البدهي أن تلك الشعائر كانت تتناول بوجه خاص تقديم الطعام الوفير والملابس وما أشبه ذلك، وكانت الصيغ التي يلقيها الكهنة الجنازيون تقدر بمائة وثمان وسبعين صيغة؛ أي إنها كانت تشغل
من متون الأهرام، وكانت تشمل أسماء ما يقدم من الطعام والشراب والملابس والدهان والروائح العطرية والبخور، ويظهر لنا من تلك الأسماء ما كانت تحويه مائدة الملك من الألوان التي لا يحصيها العد - ومثل ذلك عن ملابسه ومواد زينته، وغير ذلك من لوازمه في الحياة الآخرة.
ونجد في الأواني الفاخرة التي كشفها الأستاذ «برخارت» في معبد الملك «نفرار كارع» بأبي صير [من القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد] دليلا آخر على الأبهة الملكية التي كانت تقام بها شعائر القربان، في حين أن جمال معبدي الهرم وعظمتهما قد هيئا في حد ذاتهما مكانا فريدا تؤدى في داخله كل تلك الفخامة الجنازية، فكان الكاهن بتلاوة نحو ثمانين صيغة من تعاويذ قربان الشعائر الجنازية يضع أمام الملك المتوفى تلك الملاذ الصورية التي كان يتمتع بحقيقتها في الحياة الدنيا، ذلك إلى تلاوة بعض تعاويذ أخرى مبعثرة في متون الأهرام.
وفي أثناء تأدية هذا العمل كان الكاهن يدخل إلى الحجرة السرية الواقعة خلف ردهة المعبد والمؤدية إلى واجهة الهرم نفسه، وهنا يواجه الكاهن الباب الوهمي العظيم الذي كان يمكن روح الملك أن تأتي منه لتدخل المعبد ثانية عند خروجها من الضريح الملكي الذي يقع على عمق بعيد تحت ذلك المبنى الشامخ المقام فوقه. وكان الكاهن وهو واقف أمام هذا الباب الوهمي يخاطب الملك كأنه حاضر أمامه، مقدما له معرضا عظيما من أثمن الهدايا، ويصحب كل هدية منها بصيغة معينة عند تقديمها طبقا لم ذكرناه عن ذلك فيما سبق.
غير أن حقيقة الموت الصارخة كان من المستحيل تجاهلها في تلك الصيغ التي لم توضع إلا للاعتقاد بأن الملك المتوفى لا يزال حيا، ويشعر بكل ما يحتاجه الأحياء في الدنيا؛ إذ نجد أن الكاهن كان يشعر وهو في تلك الحجرة التي كان السكون مخيما عليها شعورا شديدا بصمت ذلك الملك الراقد المدفون تحت ذلك الهرم الهائل. ومن أجل ذلك كان يناديه من وقت لآخر ليستيقظ من سباته العميق ويشاهد الطعام والهدايا المبسوطة أمامه. وخوفا من سقوط شيء من هذه المواد المقربة كان الكاهن يلخصها كلها في وعده للملك فيقول: «ها تقدم لك كل القرابين وكل الضحايا وكل ما ترغب فيه وكل حسن لك إلى الأبد مع الآلهة.» وعلاوة على كل هذه الصيغ الخاصة بالهدايا الجنازية كانت توجد بعض تعاويذ لطرد الجوع من أعضاء جثمان الملك، فكان الكاهن يرتل هذه التعاويذ للملك من وقت لآخر أيضا.
ولما كان ملوك عصر الأهرام المبكر [أي في القرن الثلاثين قبل الميلاد] يعتقدون في صيانة جثمانهم بالمحافظة على تلك الإجراءات، فإنه كان بالبديهة أن يتطلعوا بثقة إلى أنهم سيعيشون عيشة خالدة في الحياة الآخرة. ولكن هل كانت سلالة ذلك الملك الشرقي لا تسأم من استمرار تقديم تلك القرابين الجنازية له دائما أبدا؟ سنرى!
والواقع أن مثل هذه الصيانة تحتاج في استمرارها إلى توظيف طائفة عظيمة من الكهنة ليظلوا قائمين بأعباء تلك الخدمة في معبد الهرم على الدوام، ولم يبق لنا التاريخ أية قائمة تتضمن أسماء كهنة أي معبد ملكي كان، وكان أولئك الكهنة يعيشون على الهبات السخية التي كان في وسع سلطة البيت المالك أن يضمن استمرار بقائها مدة طويلة.
فمن ذلك أن هيئة كهنة هرم الملك «سنفرو» بدهشور وأوقافه [القرن الثلاثين ق.م] قد بقيا محترمين حتى لقد أعلن إعفاء طائفتهم من كل الرسوم والضرائب الحكومية بمقتضى مرسوم ملكي أصدره الملك «بيبي الثاني» في عهد الأسرة السادسة؛ أي بعد وفاة الملك «سنفرو» المذكور بثلاثمائة سنة، وذلك بالرغم من حدوث تغيير في الأسرة المالكة مرتين منذ وفاة الملك «سنفرو»، وكان من المحتم في أمثال هذه الأوقاف المتراكمة من جيل إلى جيل أن يظل توزيعها قائما إلى أن تبطل في نهاية أمرها وتزول من جراء ذلك.
ففي القرن الثلاثين ق.م مثلا حول الملك «سنفرو» نفسه إلى أحد أشراف رجاله مائة رغيف يوميا من أوقاف المعبد الجنازي الخاص بأم أولاد الملك المسماة «نيما عتحب»، وكانت هذه الملكة قد توفيت في ختام الأسرة الثانية؛ أي قبل العهد الذي عاش فيه «سنفرو» المذكور بنحو جيلين. وبذلك نرى أن الملك «سنفرو» نفسه، إن لم يكن قد اغتصب دخل تلك الملكة الجنازي، فإنه قد تصرف فيه بمكافأة أحد رجاله من دخل ذلك الوقف، بعد أن أدى الدخل المهمة التي خصص من أجلها نحو قبر تلك الملكة.
وكذلك نجد بنفس تلك الطريقة أن الملك «سحورع» عندما أراد أن يكافئ «برسن» (أحد رجال الأشراف المقربين إليه)، حول إليه دخلا من الخبز والزيوت التي كانت فيما سبق تصرف كل يوم للملكة «نفرحتبس»، وقد اضطر الملك إلى اتخاذ ذلك الإجراء لعدم وجود أي مورد آخر تحت تصرفه.
ومن تلك الإجراءات السالفة الذكر يتضح لنا أن القرابين الجنازية لم تمح من الوجود، بل كانت مستمرة سارية الاستعمال بعد وقفها قربة لأي قبر كان. غير أننا نجد فيما فعله كل من الملك «سنفرو» والملك «سحورع» تلميحا للطريقة الوحيدة الممكنة الحصول للتخلص من تلك الالتزامات المورطة التي نشأت من تضاعف عدد المقررات الموقوفة على القبور، وذلك بتحويل القرابين التي كانت ملتزمة فيما مضى لقبور عتيقة تقادمت عليها العهود إلى قبور أخرى جديدة حديثة العهد ، وحتى مع اتباع تلك الطريقة فإن عدد القبور الملكية الذي كان آخذا في الازدياد جعل استعمالها باطراد أمرا صعبا، بل كان مجرد الإشراف على تلك القبور ومباشرة إدارتها بقصد المحافظة عليها أمرا صعبا أيضا، ومن ثم وجد كهنة الملك «سحورع» في ختام القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد عندما أصبحوا غير قادرين على المحافظة على معبد هرم الملك، أن الأفضل والأكثر اقتصادا أن يقيموا جدرانا على مداخل المعبد الجانبية، ويتركوا للدخول بابا واحدا هو الذي في طرف الطريق المؤدي للمعبد، والظاهر أن ذلك كان في اعتقادهم عملا صالحا؛ لأنهم دونوا أسماء طائفة الكهنة الذين قاموا بهذا العمل على جدران الأبواب التي سدوها بهذه الطريقة، ثم عثر بعد ذلك على صورة للإلهة «سخمت» رسمت في المعبد فقدست عرضا؛ إذ كانت تلك الإلهة موضع احترام وعبادة من أهالي القرى المحيطة بالمعبد، وقد بقيت تلك القرى تقوم باحترام تلك الإلهة وعبادتها عدة قرون، فكان ذلك سببا في صيانة جزء كبير من المعبد كان لا بد من مصيره إلى الخراب والدمار منذ زمن طويل لولا حرمة تلك الإلهة. وقد كان حظ الملك «نفر أركا رع» خلف «سحورع» أسوأ من ذلك؛ إذ هدم أحد خلفائه «نوسررع» بعد وفاته ببضع سنين، الطريق المؤدية إلى المعبد الجنازي حتى يتمكن من تحويلها إلى طريق لمعبده القريب من تلك الجهة. وقد نتج من ذلك أن كهنة «نفر أركا رع» لما صاروا غير قادرين على الإقامة في أسفل الوادي هاجروا إلى الهضبة، وأقاموا مساكنهم المبنية من اللبن حول ذلك المعبد تارة أو ملاصقة لواجهته تارة أخرى، وكانوا لا يزالوا يقومون بتأدية وظائفهم بالمعبد، ولما كانت مواردهم آخذة في النقصان والتقلص فقد كانت مساكنهم المذكورة تتحول تبعا لذلك إلى أكواخ حتى انتهى أمرها بالزحف إلى ردهة المعبد وحجراته. ولما صار الكهنة إذ ذاك في حالة فقر باد فقد استولوا على جميع المعبد وجعلوه حيا لهم، ولما صاروا في نهاية الأمر ولا عائل لهم هجروا أكواخهم المتداعية نهائيا، فاختلطت أنقاضها بأنقاض المعبد نفسه ، ولما جاء عصر الدولة الوسطى بعد وفاة الملك «نفر أركا رع» بنحو 600 سنة كان معبد هذا الملك قد صار مدفونا على عمق عدة أمتار من التراب المتراكم فوقه، ثم استعملت تلك الأكوام التي تعلوه جبانة للدفن، وقد كشفت الحفائر لنا فيها عن مدافن على عمق متر أو مترين من رقعة ذلك المعبد.
وقد أصاب نفس ذلك المصير جبانة الأسرة الرابعة العظيمة بالجيزة، وذلك أن الكهنة الجنازيين الذين كان أجدادهم يديرون الأوقاف الفخمة التي حبست على أعظم الأهرامات حجما، قد حشروا مدافنهم في الطرقات والمساحات الخالية بين المقابر الملكية القديمة الخاصة بالسلالة البائدة، على أن أولئك الكهنة أنفسهم قد انقرضوا أيضا حوالي سنة 2500ق.م؛ أي بعد أن أسس الملك «خوفو» جبانة بالجيزة بنحو 400 سنة. والواقع أنه لم يمض زمن طويل بعد سنة 2500ق.م حتى صارت منطقة أهرامات الدولة القديمة البالغ طولها نحو 60 ميلا من «ميدوم» جنوبا إلى «الجيزة» شمالا خلاء مقفرا.
وإننا ندرك كنه هذه الحالة المحزنة من آراء رجال الفكر في العهد الإقطاعي الذي جاء بعد ذلك بنحو 500 سنة، وذلك عندما تأملوا في انهيار تلك المقابر الضخمة.
على أن ما صار أمرا واضحا جدا بعد انقراض فراعنة عصر الأهرام العظيم كان أمرا قد أخذ العقل يدركه قبل سقوط الدولة القديمة بزمن طويل؛ فإن أهرامات مصر تمثل ذروة الاعتقاد في كفاءة العتاد المادي التامة لضمان سعادة المتوفى في الحياة الآخرة، فهي المظهر الرائع للكفاح الطويل للتغلب على القوى المادية المحضة، وهذا الكفاح ربما ترجع بدايته إلى نحو مليون سنة قام به صيادو عصر ما قبل التاريخ بمفردهم، أما في ذلك العهد الذي نحن بصدده فقد قامت به قوى أمة مدربة بأسرها؛ فأهرام الجيزة الكبيرة التي تمثل لنا جهودا جبارة استنفدت كل موارد دولة عظيمة ترمي جميعها إلى غرض واحد سام؛ هو وقاية جثمان رجل واحد هو رئيس الدولة ، وقاية أبدية داخل غطاء من المباني الضخمة جدا، حتى يتسنى لذلك الجثمان الملكي أن يقاوم بتلك الطريقة المادية المحضة غائلة كل الآباد، ويقهر بتلك القوة الآلية الأسباب المانعة من الخلود.
على أن التخلي عن بناية الأهرام الضخمة مثل أهرام الجيزة، والاكتفاء في نهاية الأمر بكتابة متون الأهرام منذ عهد آخر ملك في الأسرة الخامسة حوالي سنة 2625 قبل الميلاد داخل أهرام صغيرة، يؤكد لن الاعتقاد بوجود السعادة في الحياة الآخرة في مكان ما آخر؛ أي الاعتقاد في وجود نعيم في مكان ما بعيد لا يعتمد في إدراكه على الوسائل المادية فقط. فهذا الاعتقاد الجديد يؤكد إلى حد ما أن الأكوام من المباني لا يمكنها أن تهب الإنسان الحياة الأبدية، بل يجب أن ينالها بروحانيته؛ وبذلك أخذ أقدم أتباع عقيدة القوة المادية يتعلمون أول درس لهم، وأوشك عصر الأخلاق يظهر ويشل ما عمله بناة الأهرام.
الفصل الخامس
متون الأهرام وصعود فرعون إلى السماء
تمدنا متون الأهرام والمسرحية المنفية بأقدم مصدر وصل إلينا عن التفكير البشري عند الأقدمين، فلدينا في هذين المصدرين أقدم مدى يمكن لنا الآن إدراكه عن تاريخ الإنسان العقلي، وكان الظن السائد أن كل الأهرام كانت عارية من النقوش إلى أن اقتحم العمال المصريون الذين كانوا يعملون في الحفائر تحت إشراف «مريت» في سنة 1880 ميلادية - وهي السنة السابقة لوفاته - هرم «بيبي الأول» ثم دخلوا فيما بعد هرم الملك «مرنرع»، فوجدوا جدران أروقة هذين الهرمين وممراتهما وحجراتهما مغطاة بآلاف الأسطر من النقوش الهيروغليفية، وهذه النقوش هي التي يطلق عليها الآن اسم «متون الأهرام».
وتوجد هذه المتون منقوشة في خمسة من أهرام سقارة التي كانت تعد جبانة «منف» القديمة،
1
وقد قام بوضعها هنالك طائفة من الفراعنة وهم: الملك الأخير في الأسرة الخامسة، ثم الملوك الأربعة الأول الذين خلفوه في الأسرة السادسة. وقد حكموا حسب ترتيبهم المذكور مدة تقرب من قرن ونصف قرن تبتدئ حوالي 2625ق.م وتنتهي حوالي سنة 2475ق.م؛ أي إنهم حكموا طوال القرن السادس والعشرين، وعلى الأرجح ربع قرن قبل هذا التاريخ أيضا، وربع قرن آخر بعده.
غير أنه يظهر لنا أن محتويات هذه المتون تشتمل على مادة أقدم من عصر النسخ التي وصلت إلينا، وتشير النسخ الخمس التي بأيدينا إلى مادة كانت موجودة فيما مضى، ثم اختفت بعد، فإنك تقرأ فيها عن «فصل أولئك الذين يصعدون» و«الفصل الخاص بأولئك الذين يرفعون أنفسهم». وذلك يدل على أن هذين الفصلين كانا مستعملين قديما في مناسبات لحوادث مختلفة في أساطير ذلك العهد القومية، وبذلك يعتبر هذان الفصلان أقدم عهدا من متون الأهرام التي بأيدينا.
وكذلك توجد في هذه المتون إشارات إلى الخصومات التي كانت قائمة بين ملوك الشمال [الوجه البحري] وملوك الجنوب [الوجه القبلي] مما يدل على أنها كتبت قبل عهد الاتحاد الثاني؛ أي قبل القرن الرابع والثلاثين ق.م. هذا إلى فقرات أخرى يرجع تاريخ عهدها إلى باكورة عهد الاتحاد الثاني؛ أي في الوقت الذي كانت فيه تلك الخصومات ما زالت مستمرة، وكان فيه ملوك الجنوب بالرغم من تلك الخصومات قابضين على زمام الحكم في الشمال ومحافظين على وحدة الدولة، وقد كتبت كل هذه الفقرات بوجهة نظر أهل الجنوب.
على أننا نرى من ناحية أخرى أن بعض متون الأهرام قد ألفت في زمان متأخر معاصر لنفس الدولة القديمة، مثل الصيغ التي وضعت لحماية الهرم، والتي لم تكن بطبيعة الحال أقدم من ظهور الشكل الهرمي في القرن الثلاثين ق.م. وظهر كذلك في خلال مدة القرن ونصف القرن المذكورة التي كتبت في أزمنتها نسخ متون الأهرام الخمسة اختلاف بين بعض النسخ وبعضها الآخر؛ فإن لدينا حججا قاطعة تدل على إدخال تنقيح ظاهر على النسخ المتأخرة العهد منها ليس له نظير في النسخ القديمة، وذلك يدل أيضا على أن مراحل التفكير ونمو العادة والاعتقادات التي أخرجت هذه المتون إلى حيز الوجود كانت لا تزال مستمرة في تطورها حتى ظهرت النسخة الأخيرة منها في باكورة القرن الخامس والعشرين ق.م. لذلك تمثل لنا هذه المتون حال عصر لا يقل عن ألف سنة ، ولا يعزب عن الذهن أن ألف السنة هذه كانت قد انتهت بالنسبة إلينا من نحو أربعة آلاف وخمسمائة سنة. والواقع أن مثل هذا القدر العظيم من الوثائق الباقية لنا عن العالم القديم ليس له مثيل في أي مكان آخر من العالم، وهذه المتون تؤلف خزانة من التجاريب التي كانت تدور في حياة الإنسان القديم، ومعظمها مما لا يزال ينتظر دوره تحت محك الدرس والبحث.
ولقد كانت الغاية المطلوبة من متون الأهرام على وجه عام هي ضمان السعادة للملك في الحياة الآخرة، لكنها مع ذلك تصور لنا دائما جزر الحياة المحيطة بها ومدها، شأنها في ذلك شأن كل أدب قومي، فإنها تنطق بعبارات تدل على خبرة القوم الذين أخرجوها، وهذه العبارات تتناول الحياة القومية في القصور والطرق والأسواق، وبعضها عبارات أنشأتها العزلة والعكوف في المعابد المقدسة. وإن صاحب الخيال السريع ليجد في هذه العبارات صورا كثيرة عن ذلك العالم الذي تقادمت عليه الدهور وبقيت هي مرآته.
ومع أن هذه الصور تهتم بوجه خاص بذكر أحوال «الملك» فإنها لم توصد في وجوهنا باب العالم المحيط بها؛ فمثلا عندما تعبر عن سعادة الملك في الحياة الآخرة تقول: «هذا الذي سمعته في البيوت وتعلمته في الطرقات في هذا اليوم الذي طلب فيه الملك بيبي للحياة.» ومنها نلتقط لمحات عاجلة عن تلك الحياة في البيوت وفي الطرقات التي مضى عليها خمسة آلاف سنة: «فالخطاطيف تشقشق على الجدار، والراعي يعبر الترعة خائضا في الماء حتى الحزام حاملا عبر الماء رضيع قطيعه الضعيف، والأم تدلل رضيعها عند الغسق، ويشاهد الصقر عند الغروب مخترقا السماء، وتشاهد البطة البرية مخلصة قدميها فارة من يد الصياد الذي فشل في اقتناصها في المستنقع، وعابر الماء واقف عند زورق العبور ولا مال معه يقدمه للنوتي مقابل مقعد في الزورق المزدحم بالمسافرين، ولكن يسمح له أخيرا بالنزول إلى الزورق على أن يعمل مقابل نقله في نزح الماء من الزورق المثقوب، ويشاهد الشريف جالسا عند حافة بركته في حديقته تحت ظلال الخميلة المصنوعة من سيقان الغاب.»
وهذه الصور وكثير غيرها هي مما تزخر به الحياة الدنيوية لغمار سكان وادي النيل، أما الحياة في القصور فقد انعكست صورتها في تلك المتون بشكل أتم وأبهج من حياة العالم الخارجية عنها وعما يحيط بها، فإن الملك يشاهد في بعض الأوقات مثقلا بأعباء مهام الدولة، وبجانبه أمين سره يحمل محبرة وقلمين أحدهما للمداد الأسود والآخر للمداد الأحمر لكتابة العناوين، وكذلك نراه في أوقات فراغه متكئا بدون كلفة على كتف صديقه الحميم أو مستشاره، أو يشاهدان وهما يستحمان معا في بركة القصر والحاجب الملكي يقترب حتى يجفف جسميهما. وكثيرا ما يشاهد على رأس موكب باهر مخترقا طرق مدينته يتقدمه السعاة والمقدمون مفسحين أمامه الطريق، وعندما يعبر إلى الشاطئ الثاني وينزل من الزورق الملكي الوهاج يشاهد عامة الشعب ملقين أحذيتهم وملابسهم راقصين أمامه رافعين أصواتهم بتهليلات الفرح عند رؤيتهم طلعته، أو يرى عند باب قصره وقد أحاطت به فخامة البلاط وبهاؤه، أو يشاهد مرتقيا عرشه العظيم المزين برءوس الأسود وحوافر الثيران، وفي ذلك تقول المتون:
يشاهد الملك في قاعة قصره وهو جالس على عرشه العجيب وصولجانه المدهش في قبضته، ثم يرفع يده نحو أولاده ليقفوا أمام هذا الملك، ثم ينزل يده مشيرا نحوهم فيجلسون ثانية.
والحقيقة أن هذه المشاهد قد صورت على أنها حوادث تنتظره في الحياة الأخروية، غير أن عناصر الحوادث والألوان التي صورت بها تلك الحياة مأخوذة من الحياة الدنيا والتجاريب الدنيوية، فمن ذلك أن أولئك الذي مر وصفهم بأنهم كانوا يلقون نعالهم وملابسهم ليرقصوا أمامه فرحا عند وصول الملك حينما يعبر النيل السماوي هم الآلهة، ولكنهم مثلوا طبعا كأنهم يفعلون في السماء ما اعتاد رعاياه فعله فوق وادي النيل الأرضي، وكذلك هم الآلهة الذين نراهم يجففون أعضاء فرعون عندما يستحم مع إله الشمس في «بحيرة البردي»، فهم هنا أيضا يفعلون لفرعون ما كان حجابه يفعلون له على الأرض.
ولكن بالرغم من أن هذه المتون العتيقة غاصة بمناظر الحياة الدنيوية التي نقلت عنها، فإنها في مجموعها تصور أرضا غير معروفة لنا تقريبا، فإنه عندما يحاول الإنسان ارتياد مجاهل هذه الأرض يحس كأنه يرود غابة فطرية شاسعة الأرجاء كأنها غياض مسحورة مفعمة بأشكال غريبة وأشباح مخيفة تتراءى كأنها تقطن في تيه لا منفذ فيه، فإننا نجد فيها كتابة عتيقة التهجية تضم في ثناياها كلمات ذات معنى غامض، قد يجوز أن يكون القارئ قد عرفها وهي مرتدية لباسها المعتاد الذي لبسته فيما بعد، وكذلك كانت تستعمل تلك الكلمات في مواقف ومعان غريبة عن القارئ الحديث غرابة تهجيتها.
ويوجد في هذه المتون مجموعة أخرى كبيرة من الكلمات البالغة حد الغرابة المخالفة لتلك الكلمات المعروفة المتنكرة، وأعني بذلك طائفة من الكلمات العتيقة المهجورة التي عاشت حياة طويلة دائرة في الاستعمال في دنيا قد محيت تماما وصارت نسيا منسيا، فهي بعد أن وخطها المشيب كانت كالعداء المنهوك القوى تترنح على مرأى منا مدة قصيرة في أقدم أفق معروف لدينا، فقد ظهرت فقط في هذه المتون العتيقة ثم اختفت اختفاء أبديا بعد عصر تلك المتون، ومن ثم لا نصادفها مرة ثانية في متون مصرية أخرى، فهي تكشف لنا في شيء من الإبهام عن دنيا من التفكير والكلام بادت من الوجود، ويعتبر عهدها آخر العصور العديدة التي لا تحصى، والتي مرت بها حياة الإنسان فيما قبل التاريخ حتى صار قاب قوسين أو أدنى من الدخول في العصر التاريخي. ولكن هذه الكلمات الغريبة التي وخطها الشيب، وهي البقية الباقية لنا من عصر منسي مهجور، استمرت مستعملة مدة جيل أو جيلين في متون الأهرام، وتستمر غرابتها بالنسبة إلينا عادة حتى يزول استعمالها نهائيا. وليس لدينا من الوسائل ما نعرف به معناها أو إرغامها على أن تبوح لنا بأسرارها أو عن الرسالة التي كانت تحملها في غضونها، وليس لدينا من فنون معرفة اللغات القديمة ما نحاول به إرغامها على كشف ما تكنه من الأسرار. ويوجد بجانب تلك الكلمات أيضا طائفة أخرى من التراكيب العويصة التي زاد في صعوبتها طبيعة ما تشير إليه من المعاني المبهمة الغامضة، فهي مفعمة بتلميحات عن حوادث أساطير ضاعت معالمها عنا، وعادات ومعاملات قد فات زمانها منذ عهد بعيد، وقوامها عناصر حياة وفكر وتجارب ضاعت معالمها كلها في بيداء المجهول التام.
ذكرنا فيما سلف أن الغاية المهمة من متون الأهرام هي في الأصل ضمان سعادة الملك في الحياة الأخروية؛ لذلك نجد أبرز شيء في هذه المتون الاحتجاج الملح، بل الاحتجاج الحماسي ضد الموت، ويمكن اعتبارها صورة لأقدم ثورة عظيمة قام بها الإنسان ضد الظلمة والسكون العظيمين اللذين لم يعد منهما أحد. وكلمة الموت لم تذكر قط في متون الأهرام إلا في صيغة النفي أو مستعملة للعدو، فترى التأكيد القاطع مرة بعد الأخرى أن المتوفى حي يرزق: «الملك تيتي لم يمت موتا، بل جاء معظما في الأفق»، «هيا أيها الملك «وناس»، إنك لم تسافر ميتا بل سافرت حيا، لقد سافرت لكي يمكنك أن تعيش، وإنك لم تسافر لكي تموت»، «إنك لن تموت، هذا الملك بيبي لن يموت»، «الملك بيبي لا يموت بسبب أي ملك ... ولا بسبب أي ميت. هل قلت إنه مات؟ إنه لن يموت، هذا الملك «بيبي» يعيش أبدا، عش! إنك لن تموت»، «وإذا رسوت [استعارة للموت] فإنك تحيا [ثانية]»، «هذا الملك «بيبي» قد فر من موته.»
وهكذا نجد تجنب ذكر الموت باستمرار في هذه المتون، وكثيرا ما تحتم صيغة نفي الموت بالتأكيد الآتي: «إنك تعيش، إنك تعيش، ارفع نفسك، إنك لن تموت فقم، ارفع نفسك» أو «ارفع نفسك أيها الملك بيبي السامي بين النجوم التي لا تفنى [وهي النجوم الثوابت]، إنك لن تفنى أبدا.» وإذا لم يكن بد من الإشارة إلى حقيقة الموت المرة فإنه يسمى «النزول من البحر» أو ربط حبال السفينة في المرساة كما سبق ذكر ذلك، أو كان يفضل في مثل هذه الحالة ذكر كلمة الحياة منفية، ولذلك كان يستحب قول: «ليس حيا» بدلا من النطق بالكلمة المشئومة. أو كانت هذه المتون القديمة تعيد إلى الذاكرة ذكريات حزينة لسعادة مفقودة قد تمتع بها الناس ذات مرة «قبل أن يأتي الموت ».
ومع أن أسمى موضوع في متون الأهرام كان الحياة؛ أي حياة الملك الأبدية، فإن هذه المتون كانت تتألف من مصادر متنوعة جدا، ولما كانت كل طريقة وكل نفوذ يستعمل للوصول للغرض المقصود (الحياة بعد الموت)، فإن الكهنة الذين وضعوا تلك المجموعة من الأدب القديم، والتي هي أقدم ما وصل إلينا للآن، ضمنوها كل أنواع التعاويذ القديمة التي كانت تعد في نظرهم مرعية مستجابة، أو التي وجدوا أنها تفيد لذلك الغرض.
ويمكن القول بأن متون الأهرام تحتوي بوجه خاص على ستة موضوعات: شعائر جنازية - وشعائر خاصة بالقرب المأتمية عند القبور - وتعاويذ سحرية - وشعائر قديمة خاصة بالعبادة - وأناشيد دينية قديمة - وأجزاء من أساطير قديمة - وصلوات وتضرعات لفائدة الملك المتوفى. وتقع هذه المتون في طبعتها الحديثة الآن في مجلدين من القطع الكبير يشتملان على القراءات والتوجيهات المختلفة لنصوصها، وهذان المجلدان يحتويان من المتون أكثر من ألف صفحة، وقد قسمها الناشر الأول إلى أربع عشرة وسبعمائة صيغة.
وإذا أمكننا الإشارة إلى متون الأهرام بصفة عامة - كما فعلنا - فلا يمكننا معرفة معانيها معرفة تامة، فإن ذلك يعد من أصعب الأمور، ولكن لحسن الحظ يمكن فهم شكل الأدب الذي تحويه هذه المتون واستساغته، فمن بين أقدم القطع الأدبية في هذه المتون الأناشيد الدينية، وهي عبارة عن تركيب شعري قديم بهيئة أبيات من الشعر الموزون المقفى ظاهر فيه التوازن بين كلماته ومعانيه. وقد نقل العبرانيون هذا التركيب الشعري إلى أدبهم بعد ذلك بألفي سنة، وهو التركيب المعروف لنا في «المزامير» باسم «توازن الأعضاء». ويرجع استعمال ذلك التركيب في متون الأهرام إلى الألف الرابعة ق.م، وعلى ذلك يعد وجوده في هذه المتون أقدم من وجوده في أية بقعة أخرى من العالم بمراحل بعيدة. والواقع أنه أقدم صورة أدبية بين جميع أنواع الأدب المعروف لدينا.
وهذا النوع من الأدب لا ينحصر استعماله في الأناشيد المذكورة فقط، بل يوجد كذلك في نبذ أخرى من متون الأهرام، ولكنها لم تصل هنالك إلى درجة الكمال الذي نلمسه في هذه الأناشيد.
وزيادة على ما ذكر من التركيب الشعري الذي يرتفع بهذه النبذ إلى مرتبة الأدب بالمعنى المعروف لدينا الآن؛ فإننا كثيرا ما نجد بعض كتابات مبعثرة تحمل في مظهرها صفات الأدب من الوجهة الفكرية واللغوية، فمثلا نجد أثرا دقيقا من مجال الخيال في أحد الأوصاف الكثيرة التي وردت عن بعث «أوزير»؛ إذ جاء فيه: «فك لفائفك إنها ليست لفائف، بل هي خصلات شعر «نفتيس».» و«نفتيس» هي الإلهة المنتحبة المنثنية على جسم أخيها المتوفى. فالكاهن القديم الذي كتب ذلك السطر قد رأى في اللفائف التي تلف الصورة الجامدة خصلات الشعر الغزيرة التي تتدلى من شعر الإلهة وتختلط باللفائف، ونجد كذلك قوة عنصرية في ذلك الخيال الوثاب الذي يلمح العواطف الودية لكل العالم فيجعل العناصر الطبيعية تشعر بالنازلة الرهيبة التي تتمثل في موت الملك، وفي حلوله بين آلهة السماء؛ إذ يقول المحزونون على الملك: «السماء تبكي من أجلك، والأرض تزلزل من أجلك.» ويقول الناس عندما يرونه في الخيال صاعدا إلى القبة السماوية: «السحب تظلم السماء - والنجوم تمطر الأرض - والأقواس [مجموعة النجوم] تترنح - وعظام كلاب جهنم ترتعد - والبوابون واجمون عندما يرون الملك «وناس» يشرق في شكل روح.»
وليس لدينا شك في أن الغرض من تلك المتون الجنازية كلها هو لمصلحة الملك، بل هي بوجه عام تحتوي على معتقدات لا تنطبق إلا عليه وحده، وبخاصة عندما نذكر أنها لم تكتب إلا في المقابر الملكية فقط. فمن الحقائق الهامة التي يجب التنبيه عليها أن رجال أشراف ذلك العصر لم يستعملوا أبدا متون الأهرام في نقوش مقابرهم.
ولما لم يكن في مقدور متون الأهرام زعزعة العقيدة السائدة في وجود الحياة في القبور، فإنها لم تعر هذا الرأي اهتماما كبيرا، بل وجهت جميع همها تقريبا إلى حياة في نعيم تقع في مملكة بعيدة. ومما يستحق الذكر والاهتمام أن تلك المملكة البعيدة لا يراد بها إلا «السماء»، وأن متون الأهرام لا تعرف شيئا تقريبا عن الحياة الأخروية المظلمة التي توجد في العالم السفلي؛ ولذلك فإن عالم الأموات عندهم لا يراد به إلا «العالم السماوي»، ونحن في التعبير عنه بهذه الصيغة لا نعبر عن أي معنى من معاني كلمة السماء اللاهوتية المتكررة في اللغة الإنجليزية . على أنه لا يكاد يوجد عندنا شك في أن فكرة تصور جنة سماية - وهي تلك الفكرة التي شاعت فيما بعد في العهد المسيحي - يرجع أصلها إلى نفس هذا الاعتقاد المصري القديم المتوغل في القدم.
وقد اختلط في تلك الآخرة السماوية المذكورة في متون الأهرام مذهبان قديمان: أولهما يتصور المتوفى في صورة نجم، والثاني يتصور المتوفى حالا في إله الشمس، أو هو إله الشمس نفسه. وبدهي أن هذين المذهبين اللذين يمكن تسميتهما: بالآخرة النجمية والآخرة الشمسية على التوالي كانا في وقت ما مستقلين، ثم دخل كل منهما في شكل «آخرة سماوية» هي التي نجدها في متون الأهرام. ولقد كان من التصورات الطبيعية عند ساكن وادي النيل ذي السماء الصافية أن يرى في سماء مصر ليلا جموع أولئك الذين سبقوه إلى الحياة الأخروية ماثلين أمامه، فقد طاروا إلى السماء كالطيور مرتفعين فوق كل أعداء الهواء، فكانوا عند حلول الظلام في كل ليلة يجتازون أقطار السماء بصفتهم نجوما أبدية. وخص المصري، في تخيله جمهور الموتى، تلك النجوم التي تسمى «غير الفانية»، وكان يعتقد أن تلك النجوم تقع في الجهة الشمالية من السماء، ولذلك لا يكاد يوجد شك في أن النجوم المقصودة بالذكر هي النجوم المحيطة بالقطب التي لا تغرب ولا تغيب. وقد قام جدال كبير بين علماء التاريخ القديم عن سر اتجاه ممر مدخل الهرم المنحدر شطر النجمة القطبية، ثم بينت نقوش متون الأهرام السر في هذا الاتجاه الذي لم يهتد إليه أحد قبل ذلك؛ وهو أن روح الملك عندما تخرج من ذلك الممر يحملها هذا الاتجاه فورا نحو النجوم القطبية.
ومع أن المذهبين المذكورين؛ النجمي والشمسي، يوجدان معا جنبا لجنب في متون الأهرام، فإننا نجد أن المذهب الشمسي هو السائد فيها بدرجة عظيمة حتى يصح لنا بوجه عام أن نصف متون الأهرام بأنها شمسية الأصل. ومن المحتمل أن الاعتقاد بالمصير الشمسي قد نشأ في عقيدة قدماء المصريين عن طريق شروق الشمس ثانية كل يوم بعد غروبها، فكأن الموت إنما يحدث على الأرض ، أما الحياة فتكتسب في السماء فقط، وهو المكان الأعلى الذي يرفع إليه الملك فوق المكان المحتوم الذي يصير إليه عامة البشر، «الناس يفنون وأسماؤهم تمحى، فأمسك أنت بذراع الملك «تيتي» وخذ أنت الملك تيتي إلى السماء حتى لا يموت على الأرض بين الناس.»
وتلك الفكرة القائلة بأن الحياة توجد في السماء هي الرأي السائد، وهي أقدم بكثير من المذهب الأوزيري في متون الأهرام. وقد بلغ هذا الرأي درجة من القوة جعلت نفس «أوزير» يمنح بضرورة الحال آخرة سماوية شمسية، وكان ذلك في المرحلة الثانية التي دخلت فيها أسطورته في متون الأهرام. والموضوع الهام في متون الأهرام هو تطلع المتوفى لحياة أخروية فاخرة في حضرة إله الشمس، حتى إن نفس القبر الملكي قد اتخذ من أقدس شكل يرمز به إلى إله الشمس، كما أوضحنا ذلك فيما سبق.
وقد عمد لاهوت الحكومة الذي جعل الملك الابن المجسم للإله «رع» وممثله على الأرض، إلى تصوير الملك يسبح في السماء عند الموت ليسكن مع والده إلى الأبد، أو ليحل محله ويكون خلفه في السماء كما كان خليفته في الأرض. وعلى ذلك نجد أن الآخرة الشمسية هي في الواقع المصير الملكي، ولا يحظى به إلا فرعون وحده، ثم صار ذلك المصير فيما بعد بالتدريج حقا لسائر البشر يشاركونه فيه. غير أنه لم يكن في الإمكان - كما سنرى - إعطاء ذلك الحق لهم إلا بعد أن يتصف كل مطالب بذلك المصير بالصفة الملكية أيضا.
وبانتقال الفرعون إلى تلك المملكة العتيدة التي مقرها في السماء [بالرغم من عدم انسجام الآراء الخاصة بموقفه هناك] كان يدعى للقيام بعملية تطهير فرضتها وأكدتها المتون بتكرار مملول. وكان ذلك التطهير في العادة بالماء بصبه فوق البدن،
2
أو بالاستحمام في البحيرة المقدسة الواقعة في الحقول المباركة، حتى إن الآلهة كانت تقوم بخدمة الملك في وقت إنجاز ذلك الاستحمام ، فيقدمون إليه المناشف ثم الملابس. ومن المحتمل أن يكون ذلك التطهير ذا مغزى خلقي هام، وخاصة إذا رأينا هذا الاحتفال التطهيري الشرقي العتيق قد استمر معمولا به إلى عصرنا الحالي في الاحتفال التعميدي الموجود إلى الآن عند المسيحيين.
وكانت القبلة التي يتجه إليها الملك في المذهب الشمسي هي الإقليم الواقع شرقي السماء، حيث لم تكن الشمس وحدها هي التي تولد في تلك الجهة، بل كانت كذلك الآلهة الأخرى تولد هناك. وفي تلك الجهة المقدسة توجد أبواب السماء العظيمة التي تقوم أمامها تلك «الجميزة العالية شرقي السماء التي يجلس فوقها الآلهة»، وكذلك نسمع عن الجميزتين اللتين في الجانب الأقصى من السماء، وهما اللتان يمسك بهما الملك عندما «يعبرون به إلى الشاطئ الثاني ويجلسونه في الجانب الشرقي من السماء.» ويجد الملك المتوفى في ذلك المكان المقدس أيضا إله الشمس، أو يجده إله الشمس، ومن ذلك المكان يرتفع إلى السماء، وكذلك يرسو في هذا المكان القارب الذي يعبر به.
ولا يكاد الملك المتوفى يولي وجهه شطر الجهة الشرقية نحو ذلك الإقليم المقدس حتى تعترضه بحيرة واقعة في الشرق، وكان لا بد له أن يعبرها حتى يصل إلى مملكة إله الشمس، وكانت عين «حور» قد سقطت على الشاطئ الأقصى؛ أي الشاطئ الشرقي لهذه البحيرة خلال شجاره مع «ست»، وكانت تسمى «بحيرة السوسن»، وهي طويلة إلى حد يجعلها تحتوي على «متعرجات»، ولا بد أنها تمتد إلى مسافة بعيدة شمالا وجنوبا على طول الأفق الشرقي. وكان يوجد خلف تلك البحيرة أرض العجب الزاخرة بالقوى الشريرة في كل جهاتها، وكان كل شيء فيها حيا، من ذلك المقعد الذي يجلس فوقه الملك، إلى السكان الذي كان يقبض عليه بيده، إلى القارب الذي نزل فيه، إلى الأبواب التي يمر بها، ولذلك كان في مقدوره أن يتحدث مع كل هذه الأشياء أو مع أي شيء آخر يحبه هناك. وهذه الأشياء الشريرة كان في قدرتها أن تتكلم معه، مثل قارب «بجعة لوهنجرن»
Lohengrin .
3
والواقع أن تلك الأرض كانت أرض «عجائب» كالتي نجدها في قصص البجعة أو في قصص «نبلونجن»
Nibelungen
4
في الخرافات الألمانية، وهي تشبه دنيا «مورت د أرثر»
Morte D’Arthur
5
التي يقابل فيها ابن السبيل العجائب في كل منعطف .
وكان أوضح طريق في نظر سكان ضفاف النيل لعبور «بحيرة السوسن» أن يركب الإنسان قارب العبور، وهذا ما يجده الملك المتوفى بين سيقان غاب شاطئ البحيرة، وملاحه واقف عند السكان يدفعه بسرعة، وكان على الملاح أن يلفت وجهه خلفه عند دفع القارب، ولذلك سمي «انظر إلى الخلف» أو «الناظر إلى الخلف»، وهو لا يتكلم إلا نادرا، وإنما يقف صامتا في انتظار راكبه. وما كان أكثر التوسلات والتضرعات اللينة التي يحاول بها الملك المنتظر تملق ذلك الملاح صاحب الوجه الملفوت، فنسمعه وهو يؤكد له تأكيدا قاطعا يدل على المكر والخداع فيقول له: «إن هذا الملك «بيبي»؛ هو راعي قطيعك والمشرف على حظيرة ماشيتك.» ولذلك كان من الضروري لمصلحة الملاح نفسه أن يعبر به في الحال. وقد يحضر الملك معه إناء سحريا لا يقوى الملاح على مقاومته، أو يقال للملاح بصفة قاطعة إن الملك طاهر من كل ذنب في السماء والأرض والجزيرة التي هم ذاهبون إليها، أو كان الملك يتقمص شكل القزم المهرج الذي كان يأخذ مكانه بين الراقصين أمام الملك في الدنيا ليسري بذلك عن قلبه أمام العرش العظيم. وكان حتما على الملاح إذن أن يعبر به سريعا إلى قصر «رع» وبلاطه ليسر بذلك إله الشمس. والواقع أن ذلك كله كان من المعلومات العامة الشائعة؛ إذ كان الملاح يخاطب بعد ذلك هكذا: «هذا ما سمعته في البيوت وما تعلمته في الطرقات في اليوم الذي طلب فيه هذا الملك بيبي للحياة.»
ونجد كذلك معارضة الملاح للقادم العتيد (المراد به الملك) فيقول له: «من أين أتيت؟» وعند ذلك كان حتما مقضيا على الملك أن يقيم الحجة على أنه من أصل ملكي، فإذا اتفق أن كان الملاح عنيدا رغم ما بذل معه من الجهد، وأبى أن يرسو بقاربه إلى الشاطئ؛ فإن الملك عندئذ يخاطب المجداف الذي في يده قائلا : «هيا أنت يا من في قبضة الملاح.» فإذا كانت كلماته قوية مستجابة فإن المجداف يأتي بالقارب إلى الملك.
وكان في مقدور ملاح عصر ما قبل التاريخ منذ أقدم العهود أن يعبر النيل على رمثين من الغاب مربوطين معا بإحكام جنبا لجنب كأنهما لفافتا دخان ضخمتين.
6
وقد صورت لنا أسطورة من أقدم الأساطير الخاصة بسياحة إله الشمس كيفية عبوره المياه السماوية على زوج من تلك الأرماث التي اتخذها إله الشمس لعبوره رغم سذاجتها وبساطتها، وصار استعمالها من الاعتقادات التي لا مناص منها، فلم يبق للاعتقاد باتباعها إلا نقل قوة استعمالها عن طريق التآلف من «رع» إلى فرعون المتوفى حتى يضمن الأخير لنفسه سياحة ناجحة كالتي قام بها إله الشمس. وهكذا نجد أن رمثي السماء قد هيئا للملك «وناس» ليعبر بهما إلى الأفق حتى يصل إلى «رع» كما هيئا «لرع» ليعبر بهما حتى يصل إلى الأفق.
ومن الجائز أن تخفق جميع تلك الحيل المتعددة التي تعمل لعبور البحر الشرقي، وحينئذ يكون محتما على الملك أن يسلم نفسه إلى الهواء حتى يصعد به إلى السماء، فيقول متكلم مختف للملك: «جناحاك منشوران مثل الصقر ذي الريش الكثيف، ومثل الباشق الذي يرى مساء يخترق القبة الزرقاء»، «إن الطائر يطير وهذا «الملك» بيبي يطير بعيدا عنكم أيها الأنام. إنه ليس من أهل الأرض، بل هو من أهل السماء ... هذا الملك «بيبي» يطير كسحابة في السماء مثل الطائر
Masthead . هذا الملك «بيبي» يصل إلى السماء على هيئة صقر، هذا الملك «بيبي» يصل إلى السماء مثل إله الأفق [حار أختي].» وكذلك يراه المتكلم مفلتا من أيدي الناس كما تفلت الإوزة البرية من يد الصائد الذي يقبض على ساقيها وتطير إلى السماء؛ «إن أطراف جناحيه هي أطراف جناحي إوزة عظيمة.» وبتلك الكيفية يطير كإوزة ويرفرف كما يرفرف الجعل، «ووجهه وجه صقر وجناحاه جناحا إوزة.» إن الملك «وناس» يرفرف بجناحيه كالطائر «زرت»
Zeret ، والهواء يحمله مرتفعا به إلى السماء. «إن الملك «وناس» يذهب إلى السماء! إن الملك وناس يذهب إلى السماء على الريح!» «إن سحب السماء قد حملته بعيدا، وهي تعظم الملك «وناس» عند «رع»»، «لقد صعد الملك على سحب المطر.» أو كان الكاهن يرى أشباحا غريبة في سحابة دخان البخور التي تتصاعد فوقه فيصيح قائلا: «إنه يصعد على دخان البخور العظيم.»
وكذلك رأى القوم في أشعة الشمس سلما إليها، هو تلك الأشعة المائلة المصوبة نحو الأرض من بعض فتحات في السحاب، وهذا السلم المشع أدلي من السماء لكي يصعد عليه الملك. «إن الملك «بيبي» قد وضع هذا الشعاع بمثابة سلم تحت قدميه، وصعد عليه الملك «بيبي» ليصل به إلى أمه وهي الصل الحي على رأس رع.» وكذلك تظهر أشعة الشمس الشاسعة التي تنحدر تجاه الأرض كأنها مصعد قد تخيله أولئك القوم القدامى، ولذلك يقولون: «إن الملك «وناس» يصعد على السلم الذي صنعه له والده «رع» [إله الشمس].» وكان منظر صعود الملك يدعو إلى إعجاب الآلهة، ولذلك يقولون: «ما أجملها من رؤية! وما ألذها من مشاهدة عندما يصعد هذا الإله (يقصدون الملك) إلى السماء؛ إذ يحمل هيبته على رأسه، وبجانبه الفزع منه، وتعاويذه السحرية موضوعة أمامه!» ثم تدعى الناس والآلهة معا بواسطة تعاويذ قوية التأثير ليرفعوا الملك: «أيها الرجال، وأيتها الآلهة، ضعوا أذرعتكم تحت الملك «بيبي»! ارفعوه، اصعدوا به إلى السماء كذراعي «شو» (الجو) اللتين وضعتا تحت السماء، وهو (أي «شو») يرفعها، إلى السماء! إلى السماء! إلى الكرسي العظيم بين الآلهة.»
غير أنه كان لا يزال محتملا أن أبواب المملكة السماوية قد لا تفتح للقادم العتيد، ومن أجل ذلك نجد تأكيدا مكررا بأن أبواب السماء المزدوجة مفتوحة أمام فرعون: «إن أبواب الأفق المزدوجة مفتوحة ومزاليجها مزاحة.» ونقابل هذا النداء دائما في متون الأهرام، ولا شك أن نفس الوسيلة التي فتحت الباب «لعلي بابا» والأربعين لصا - كما وردت في كتاب ألف ليلة وليلة - قد فتحت لغيره أبوابا كثيرة في الشرق القديم قبل أن تصير معروفة لنا نحن معشر العالم الغربي عن طريق قصة ألف ليلة وليلة بآلاف من السنين.
وكذلك نرى أنه بالرغم من اقتناع أولئك القوم بوجود الحياة الأخروية، بل بوجود حياة عظيمة قد ملئت بذكرها متون الأهرام، فإن هذه المتون نفسها تكشف لنا عن حالة الخوف من تلك الحياة، ذلك الخوف الذي كان يملأ قلوب سكان ذلك الشرق القديم، كلما تأملوا في أخطار عالم تلك الآخرة التي لم يكونوا يعرفونها ولم يسبق لهم أن جربوها، فإنه كان يعترض ذلك القادم الملكي مخاوف احتمال عدوان الآلهة عليه أينما ولى وجهه وهو ينظر في عرض البحر الشرقي، حيث كانت تزدحم بمخيلته آلاف الأخطار والمعارضات التي يكون من شأنها تكدير صفو تلك الصورة الجميلة التي كان يتخيلها في نعيم الحياة الأخروية، كما نجد في الشجاعة الجريئة التي يظهرها الملك مسحة قصصية، فإن الملك، وقد صار وحيدا في السماء، ينهض فجأة في شكل مارد هائل مدعيا السيادة على الآلهة أنفسهم، وبمواجهته المملكة السماوية يخاطب إله الشمس هكذا: «إني أعرف اسمك، إني لست جاهلا اسمك، فاسمك هو «غير المحدود»، واسم والدك هو «مالك العظمة»، واسم أمك «الرضى» وهي التي تحملك في كل صباح وستمنع ولادة «غير المحدود» في الأفق إذا منعت هذا الملك «بيبي» من المجيء إلى المكان الذي أمنت فيه.» فكان الملك باستعماله قوته السحرية بتلك الكيفية يجعل نفسه ملكا على العالم ويهدد بوقف شروق «ولادة» الشمس نفسها إذا حجز هو عند الباب العظيم لمملكة إله الشمس.
وهكذا يقترب الملك الراحل أخيرا من الشاطئ الشرقي «لبحيرة السوسن»، «وهذا الملك يجد المعظمين بسبب «تسلح أفواههم»
7
جالسين على شاطئ تلك البحيرة ... وهو مكان مورد الشرب لكل من صار معظما بسبب تسلح فمه.» ولكنهم عندئذ يعارضون القادم العتيد (أي الملك) فيجيبهم: «إني واحد من المبجلين بسبب فمه المسلح.» فيقولون للملك بيبي: «كيف حدث ذلك؟ وكيف وصلت إلى هذا المكان الأفخم ومن أي مكان؟» عندئذ يقول قارب الصباح: «إن «بيبي» قد أتى إلى هذا المكان الأفخم من مكان ما؛ لأن رمثي السماء هيئا لأجل «رع».» وعندما يقص الملك خبر عبوره الناجح كما قد عبر من قبله «رع» يصيح أهل السماوات مهللين بالفرح والسرور، وعندئذ ينزل فرعون معهم ويعيش عيشتهم ويجلس أمام القصر الذي يحكمون منه. وبعد ذلك يسمع الملك مرة أخرى صوتا منفردا يخرج من عالم الأموات معترضا الملك عندما ينزل ويمر بالأبواب العظيمة للسماء يقوده «جب»: «هيا! من أين أتيت أنت يا ابن أبي؟» فيجيبه صوت آخر: «إنه أتى من عند التاسوع المقدس الذي في السماء حتى يمكنه أن يشبعهم بالخبز.» ثم تعود المعارضة مرة ثانية: «هيا! من أين أنت آت يا ابن أبي؟» وعنذئذ يسمع الجواب: «إنه أتى من عند التاسوع المقدس الذي على الأرض ليمكنه أن يشبعهم بالخبز.» غير أن ذلك السائل لا يزال غير مقتنع بالجواب: «هيا! من أين أتيت أنت يا ابن أبي؟» «إنه أتى من قارب «زند زندر».» وبعد ذلك يسمع السائل لآخر مرة يسأل: «هيا! من أين أتيت أنت يا ابن أبي؟» «إنه آت من والدتيه هاتين الرخمتين ذواتي الشعر الطويل والثدي المتدلية، وهما اللتان يوجدان على جبل «سهسه»، لقد ضمتا ثدييهما حول فم الملك «بيبي» غير أنهما لم يفطماه ولن يفطماه إلى الأبد.» وبعد ذلك ينقطع الصوت المعارض ويدخل الفرعون مملكة السماء الأبدية.
الفصل السادس
المذهب الشمسي والآخرة السماوية
لقد تتبعنا ذلك الراحل الملكي أثناء مروره بالأبواب السماوية حيث كان ينتظر إعلان قدومه إلى إله الشمس الذي كان لا بد للملك أن يحاوره من الآن في مملكته، عند ذلك يرى حجاب الملك متسابقين لإعلان مقدمه: «إن رسلك يذهبون، ورسلك المسارعين يعدون، وحجابك يسرعون في سيرهم وهم يعلنون «رع» إنك قد أتيت يا هذا الملك بيبي.» ثم نسمع رسالتهم عندما يصيحون فيقول «سبهو»: «صه! تفرس أنه يأتي!» ثم يقول «سبهو»: «تفرس إن ابن رع يأتي! محبوب «رع» يأتي.» ثم تزدحم الآلهة عند الشاطئ. لقد وجد هذا الملك بيبي الآلهة واقفين مزملين في ملابسهم، وفي أقدامهم نعالهم البيضاء فيخلعون نعالهم البيضاء على الأرض ويلقون بملابسهم بعيدا ويقولون: «إن قلبنا لم يدخله الفرح حتى مجيئك.» ثم تستولي عليهم الرهبة عندما يسمعون نداء الحجاب ويشاهدون الملك يقترب منهم، فيقف «رع» أمام أبواب الأفق متكئا على صولجانه والآلهة من حوله، وعندئذ ينادي صوت الحاجب: «إن الآلهة صامتون أمامك، إن تاسوع الآلهة قد وضعوا أيديهم على أفواههم.»
إننا نحن أبناء الجيل القديم من أهل هذا العصر الحديث نشأنا نعتقد منذ صغرنا بوجود مملكة أخرى وراء السماوات تسكنها كائنات سماوية تعيش في نعيم مقيم، فمن ألذ الأمور لدينا أن نطلع على أقدم التأملات العقلية للإنسان، تلك التأملات التي صورت له حياة أخروية كالتي وصفناها، والواقع أننا نجد في متون الأهرام أقدم صور بقيت لنا عن هذه الآخرة السماوية؛ وهي آراء نشأت ونمت منذ خمسة آلاف سنة مضت، ولكنها تحملنا على أن نرى فيها الأساس الأصلي الذي نبع منه الاعتقاد بوجود مملكة فيها نعيم مقيم مقرها السماوات، ذلك الاعتقاد الذي لقنه لنا آباؤنا وأساتذتنا في طفولتنا.
والواقع أن السماء كان لها دائما التأثير العميق على عقول البشر، وأن ذلك الشعور بوجود سر خفي في السماء ذات القبة الزرقاء المكونة أرضها من السحب قد ترك أثره بشكل ما في الآداب القومية، من العصر الذي وجدت فيه تلك الصورة الرهيبة التي نشاهدها في متون الأهرام إلى زمن القصيدة الرائعة التي أبدعها خيال الشاعر الإنجليزي «شلي» وهو يتأمل جمال سحب الصيف.
ولقد وجد قدماء المصريين الذين نمت على أيديهم متون الأهرام أعظم السرور في تدوينهم تلك الصور، حيث نراهم يذكرون بتنميق وترديد ذلك النعيم المقيم الذي كان يلقاه ويتمتع به الملك وهو في حماية وصيانة وتكريم في مملكة إله الشمس السماوية، فكان خيالهم ينتقل بهم من منظر إلى منظر ومن صورة إلى صورة. ولما كان المجال الخيالي فسيحا أمام أفكارهم أمكن لخيالهم الانطلاق فيه دون أن يلقى ما يمانعه أو يعارضه، كنبات البردي لا يجد ما يعوقه عن الظهور بنفسه فوق الأرض، فكان خيالهم بسبب ذلك ينسج نسيجا معقدا ضم من الألوان ألف لون بحيث صار غير قابل للاندماج في وحدة منسجمة متماسكة متجانسة.
فنرى الملك مرة معتليا عرشه في بهاء شرقي مماثل لما كان يحدث في عالم الأرض، ومرة ثانية تجده يهيم في حقول البردي طالبا للقوت؛ ثم يظهر في بعض الجهات فوق مقدمة سفينة الشمس ، وفي مرة أخرى يظهر كأنه أحد النجوم الثوابت قائما في خدمة إله الشمس. ومع أننا لا نجد أية محاولة تنسجم بها تلك الصور المتناقضة، فإننا نخرج منها في الجملة بفكرة عامة؛ هي السعادة الأبدية لملك يشبه الإله: فهو يضع تواريخه (سجل أعماله) بين شعبه وحبه بين الآلهة: «إن الملك يصعد إلى السماء بين الآلهة الساكنين في السماء، ويقف على المنصة العظيمة ويستمع (في جلسة قضائية) لشئون الناس (القضائية) ... إن «رع» يمد لك ذراعه على السلم المؤدي إلى السماء.» وتقول الآلهة: «إن من يعرف مكانه يأتي. يا أيها الواحد الطاهر تربع على عرشك في سفينة «رع» واسبح في السماء ... اسبح أنت مع النجوم الثوابت ... اسبح أنت مع النجوم السيارة (التي لا تغيب) ... عش أنت هذه الحياة اللذيذة التي يحياها رب الأفق» ... «إن هذا الملك «بيبي» يذهب إلى (حقل الحياة) الذي هو مكان ولادة «رع» في السماء، ويجد «قبحت» مقتربة منه ومعها هذه الأواني الأربع التي تنعش بها قلب الإله الأعظم «رع» في اليوم عندما يستيقظ (أو بالنهار عندما يستيقظ)، فتنعش بها قلب هذا الملك «بيبي» ليحيا وهي تطهره وتنظفه، ويتسلم رزقه مما في هري (مخزن غلال) الإله العظيم، وتكسوه النجوم الثوابت.» ثم ينادي الصوت «رع» و«تحوت» (وهما إلها الشمس والقمر): «خذا أنتما هذا الملك «وناس» معكما ليأكل مما تأكلان ويشرب مما تشربان ويعيش على ما تعيشان عليه ويجلس فيما تجلسان فيه، وليصير قويا بما صرتما به قويين ويسبح [في السماء] فيما تسبحان فيه. إن خص الملك «وناس» مجدول (مبني) من الغاب، وبركة الملك «وناس» موجودة في (حقل القرابين) وقرابينه موجودة بينكم أنتم أيها الآلهة، وماء الملك «وناس» خمر مثل خمر «رع». والملك «وناس» يدور في السماء مثل «رع» ويخترق السماء مثل «تحوت».» ثم يطلب الصوت الغذاء الإلهي للملك: «أحضروا لبن «إزيس» للملك «تيتي» وفيضان «نفتيس »، ومنطقة البحيرة وأمواج البحر والحياة والفلاح والعافية والسعادة والخبز والجعة والملابس والطعام ليعيش الملك «تيتي» عليها.» «تأمل! إن الاثنين اللذين على عرش الإله العظيم «رع » يطلبان الملك «بيبي» للحياة والسرور إلى الأبد، وهذان الاثنان هما الفلاح والصحة.» وبهذه الكيفية يجد الملك أن «الحال معه اليوم أحسن مما كانت عليه بالأمس.» ثم نسمع الصوت يناديه: «هيا أيها الملك «بيبي» الواحد الطاهر! إن «رع» يجدك واقفا مع أمك «نوث» [إلهة السماء] وهي تقودك على صراط الأفق حيث تستقر في مكان إقامتك هناك، فما أجمل تلك الإقامة مع روحك «كا» أبد الآبدين!»
وتأتي أمامنا قصة انتقال الملك إلى السماء مرارا وتكرارا في صور مقنعة وتأكيد ملح، مما يجعلنا نعتقد أن المقصود من ذلك هو أن تصير كلمات تلك العبارات ذات قوة وسلطان نافذين. وتعرض أمامنا في كل حين حياة الملك في السماء مختصرة في فقرة واحدة تشتمل على تلميحات قليلة عاجلة كل منها يشبه شعاع الشمس الذي يبدو لحظة على مرتفعات منظر طبيعي على مدى البصر.
ولدينا من تلك الفقرات معرض عظيم تدافع فيه إحداها الأخرى تدافع الأمواج المتلاحقة تريد الغلبة لنفسها فتكتسح كأنها الطوفان الحقيقة «البحتة» القائلة بوجود الموت حتى تقضي عليها قضاء مبرما. ومن الصعب أن ننقل إلى ذهن القارئ الحديث، التأثير الذي تتركه تلك الآلاف من الأسطر المنقوشة وهي تمر أمام أعيننا تستخف عبارتها بمناعة حقيقة الموت استخفاف المنتصر الظافر بأعدائه، ونخص بالذكر تلك المختصرات الخاصة بحياة الملك السماوية، وهي التي نصادفها كثيرا ونعني بها تلك الفقرات التي نبحثها الآن.
ولأن ما تدين تلك الفقرات في سلطانها هو لمجرد حجمها الذي قد أقيم أمام وجه الموت كأنه السد المنيع، فإننا لا يمكننا فهم هذا السلطان إلا إذا قرأنا المجموعة «متون الأهرام» جميعها.
ولعل أدق قطعة أدبية حفظت لنا في متون الأهرام هي أنشودة الشمس التي تجد فيها الملك وإله الشمس نفسا واحدة، وهذه الأنشودة تخاطب مصر بإسهاب معددة لها المنافع التي تتمتع بها كنف حماية إله الشمس وسيادته، ومن ثم تقدم مصر «لرع» ثروتها ومحصولها. ولما كان فرعون وإله الشمس نفسا واحدة كان فرعون يهب تلك المنافع لمصر، وهي من جانبها تقدم له نفس العطايا التي تقدمها لإله الشمس، ولهذا السبب نجد أن الأنشودة بأكملها معادة مع ذكر اسم فرعون مكان اسم «رع» أو «حور» حيثما وجدا في الأنشودة الأصيلة، وبتلك الكيفية كان الملك يستحوذ لنفسه على كل الاحترام، وعلى كل القرابين التي كان يتسلمها إله الشمس من مصر.
غير أن خيال الكهنة لم يقف عند هذا الحد؛ إذ لم يكن كافيا في نظرهم مساواة الفرعون برع واتحادهما، بل نرى الفرعون المنتقل إلى السماء يصور بصورة مشعة شاسعة الأرجاء تفوق أهمية إله الشمس في الظلمة الأزلية. لهذا نسمع ذلك الصوت الخفي يناديه: «يا والد الملك «تيتي»! يا والد الملك «تيتي» في الظلمة! يا والد الملك «تيتي»، يا «آتوم» في الظلمة! أحضر الملك «تيتي» إلى جانبك حتى يشعل لك النور وليحميك كما حمى «نون» (المحيط الأزلي) هذه الإلهات الأربع في اليوم الذي حمت فيه العرش وهي: «إزيس» و«نفتيس» و«نيت» و«سركت».» ويجتاز الملك المتوفى السماء في شكل نار ملتهمة على أثر صعود الملك «وناس» على ذراع أشعة الشمس؛ كذلك نرى الملك يحتل مكانة سامية واصلة بين الأرض والسماء: «هذه ذراعه اليمنى تحمل السماء في رضا، وهذه ذراعه اليسرى تحمل الأرض في سرور.»
وكذلك نجد خيال القوم يبالغ في تصور صور ذات قوة كونية فيصير الملك «نتيجة المطر؛ أي إنه خرج من منبع الماء»، أو نجده يفوز بسر الأشياء وقوتها بصفته «مدون كتابة الإله الذي يقول ما هو كائن ويسبب خلق ما لم يكن.» وقد ولد قبل أن توجد الدنيا أو الموت: «إن أم الملك «بيبي» أصبحت حاملا فيه أنتم يا سكان «السماء السفلى»، إن هذا الملك «بيبي» قد ولد من أبيه «آتوم» قبل أن توجد السماء وقبل أن توجد الأرض، وقبل أن توجد الناس وقبل أن توجد الآلهة، وقبل أن يوجد الموت. إن هذا الملك «بيبي» يفر من يوم الموت كما فر «ست» من يوم الموت. إن هذا الملك من زمرتكم أنتم يا آلهة السماء السفلي الذين لا يمكنهم أن يموتوا بيد أعدائهم. إن هذا الملك «بيبي» لا يموت بيد أعدائه وأنتم لا تموتون بيد ملك، هذا الملك «بيبي» لن يموت بيد ملك وأنتم يا من لا تموتون بأي ميت،
1
هذا الملك «بيبي» لن يموت بأي ميت، ولذلك كان الملك حاضرا وقت ولادة الآلهة حينما كانوا يولدون في خلال سير الزمان.»
على أن حلول الملك في نفس جسم «رع» واتحادهما في نفس واحدة يشبه امتزاجه بكل الآلهة كمجموعة. ومن أهم فقرات متون الأهرام الفقرة التي تتلى عند الاحتفال بحرق البخور، وما يقوم به هذا البخور باعتباره عاملا مسيطرا له جاذبية متبادلة تحمل غالبا شذى الملك العطر حينما يصعد البخور العميق من الأرض إلى الآلهة ليختلط بشذاهم؛ ولذلك كان يجذبهم ذلك الشذى إليه بتوثيق عرى الروابط الصادقة والاتحاد بينه وبينهم.
وتلك الفقرة لها أهميتها؛ لأنها تعتبر تفسيرا كهنيا مبكرا جدا لأهمية البخور بصفته رابطة الألفة بين الآلهة، وهذه الفكرة انتقلت إلى أوروبا، ولا تزال باقية في بعض فروع الكنائس المسيحية إلى الآن. وها هي الفقرة بنصها:
إن النار تهيأ والنار تضيء.
إن البخور يوضع على النار والبخور يضيء.
وشذاك يأتي للملك «وناس» يا أيها البخور.
وشذى الملك «وناس» يأتي إليك يا أيها البخور.
وشذاكم يأتي للملك «وناس» أنتم أيها الآلهة.
وشذى الملك «وناس» يأتي إليكم أيها الآلهة.
إن الملك «وناس» معكم يا آلهة.
وأنتم مع الملك «وناس» يا أيها الآلهة.
والملك «وناس» يعيش معكم يا أيها الآلهة.
وأنتم تعيشون مع الملك «وناس» يا أيها الآلهة.
والملك «وناس» يحبكم يا أيها الآلهة.
فحبوه يا أيها الآلهة.
على أن هذه الألفة التي رمز إليها فيما تقدم تتضارب تضاربا بينا مع صورة مظلمة بغيضة بقيت لنا من عصور ما قبل التاريخ السحيقة في القدم، وهي الصورة التي نشاهد فيها الفرعون المتوحش ينقض بوحشيته على الآلهة كصياد في الغابة متعطش للدماء كأنه لا يزال يباشر حياة الصيد في عصر ما قبل التاريخ، بل إن هذه الصورة قد تعيد إلى أذهاننا ذكرى تلك العادة الوحشية القديمة وهي أكل لحوم البشر ، مع أنه ليس لدينا برهان آخر يقوم دليلا على وجود هذه العادة بمصر القديمة، والنص المشار إليه يبتدئ بوصف وصول الملك المخيف إلى السماء هكذا:
السحب تظلم الدنيا.
والنجوم تمطر على الأرض.
والأقواس [مجموعة نجوم] تترنح.
وعظام كلاب جهنم ترتعد.
والبوابون واجمون.
عندما يرون الملك «وناس» يشرق في صورة روح.
بصفته إلها يعيش بأكل آبائه.
ويتغذى بأكل أمهاته.
إن الملك «وناس» هو رب الحكمة.
وأمه لا تعرف اسمه.
إن مجد الملك «وناس» موجود في السماء.
مثل والده آتوم الذي أنجبه.
وحينما أنجبه كان «وناس» أقوى منه. ... ... ... ...
إن الملك «وناس» يأكل الرجال ويتغذى بالآلهة.
وهو رب الرسل ومرسل رسالاته.
وإن «قابض خصل الشعر الأمامية» القاطن في «كهو» هو.
الذي يشد وثاقهم للملك «وناس».
وإن الثعبان «الرأس الفاخرة» هو الذي يحرسهم له ويكبح جماحهم له.
وإن الذي على «الصفصاف» هو الذي يوقعهم في الأحبولة له.
وإن «معاقب كل الآثمين» هو الذي يطعنهم للملك «وناس».
وهو ينتزع أحشاءهم له. ... ... ... ...
ويقطعها «شسمو» للملك «وناس».
ويطهو له جزءا منها في قدور المساء (أو كقدور مسائه؛ أي وجبته وقت المساء).
والملك «وناس» هو الذي يلقف سحرهم.
ويلتهم آحادهم الأجلاء (أي أرواحهم).
وتكون كبارهم لوجبته في الصباح.
ومتوسطو الحجم منهم يكونون لوجبته في المساء.
وصغارهم لوجبته في العشاء.
والمسنون من الرجال والعجائز من النساء لحرق بخوره.
وأما (الآحاد العظام الذين يوجدون في شمال السماء).
فهم الذين يوقدون له النار تحت القدور التي تحتويهم.
وأرجل أكبرهم سنا (هي الوقود).
والساكنون في السماء يختلفون على الملك «وناس» (في خدمته).
والقدور مفعمة له بأرجل نسائهم.
وقد أحاط بجميع السماوات [مقابل الأرضين].
ودار حول القطرين.
والملك «وناس» هو (الواحد العظيم القوي).
الذي يهزم (الآحاد الأقوياء). ... ... ... ...
وقد استولى على قلوب الآلهة.
وأكل الأحمر.
وابتلع الأخضر.
والملك «وناس» يتغذى من أعضاء ممتلئة.
وإنه شبعان؛ إذ يعيش على قلوبهم وسحرهم. ... ... ... ...
وتعاويذهم في جوفه.
ورتب الملك «وناس» لم تسلب منه.
فإنه ابتلغ علم كل إله.
ومدة حياة الملك «وناس» هي الأبدية.
وحده هو ما لا نهاية في مكانته هذه. (إذا أراد فعل، وإذا لم يرد لم يفعل).
وهو الذي يسكن في حدود الأفق أبد الآبدين.
تأمل، إن أرواحهم [الآلهة] في جوف «وناس».
وآحادهم الأجلاء مع الملك «وناس».
وعظم نصيبه أكبر من (نصيب) الآلهة. ... ... ... ...
تأمل! إن روحهم موجودة مع الملك «وناس».
ويظهر لنا بوضوح تام في هذه الصورة العجيبة الدافع لوجود عادة أكل لحم الإنسان الممقوتة، فنجد أن الآلهة يصادون وتنصب لهم الشباك ويوثقون ويذبحون كالماشية المتوحشة لكي يلتهم الملك أجسادهم، وبخاصة أعضاءهم الداخلية كالقلب الذي هو مقر العقل، وذلك اعتقادا منه بأنه يمكنه أن يستولي بذلك لنفسه على صفات الآلهة وقواهم، «فمتى استولى على قلوب الآلهة فقد ابتلع علم كل الآلهة، وتعاويذهم تصبح في جوفه.» ومن جهة أخرى فإنه لما كانت أعضاء الآلهة التي قد التهمها الملك مشبعة تماما بالطعام؛ فإنه أصبح بذلك غير قابل للجوع؛ لأنه أكل حتى امتلأ تماما.
على أن الذي سبق بيانه يفتح أمامنا باب موضوع قد خصصت له متون الأهرام مكانا فسيحا؛ وأعني به موضوع توريد الطعام في مملكة إله الشمس النائية البعيدة.
ولأجل أن نفسر تقديم الطعام للمتوفى عند قبره، ذلك الأمر الذي يبدو في ظاهره عديم الجدوى بعد أن صار المتوفى بمقتضى المذهب الشمسي لا يمكث في قبره بعد الدفن حتى يصعد إلى السماء، نقول إن المفروض عند قدماء المصريين أن ذلك الطعام المقدم عند القبر كان ينقل إلى المتوفى بطرق شتى متنوعة.
وكان المتعارف أكثر من أي شيء آخر في هذا الموضوع أن الإقليم السماوي الذي كان يمكث فيه المتوفى هو الذي يمده بكل حاجاته، فكان الملك بصفته ابن «رع» ومولودا من آلهة السماء يمثل وهو يرضع منها أو من آلهة أخرى لها علاقة «برع»؛ وبخاصة الإلهتين المتقادمتين لمملكتي الجنوب والشمال في عصر ما قبل التاريخ. وهاتان الإلهتان تظهران بشكل رخمتين لهما شعر طويل وثدي مدلاة ... وهما تمدان يديهما إلى فم الملك «بيبي» ولكنهما لا يفطمانه أبدا. ويسمع الصوت من أجل هذا يقول: «إيه يا أم هذا الملك «بيبي» ... أعطي ثديك لهذا الملك «بيبي»، أرضعي منها هذا الملك «بيبي».» وتجيب الإلهة على هذا قائلة: «يا بني بيبي، يا مليكي، إن ثديي ممدودة لك لترضع منها يا مليكي، فعش يا مليكي ما دمت صغيرا.»
وهذا الموقف يظهر لنا العاطفة الإنسانية الطبيعية الحارة أكثر من أي موقف آخر في اللاهوت الشمسي.
وعلاوة على هذا المصدر الغذائي ومصدر التغذي بأجساد الآلهة أنفسهم يوجد مصدر آخر وهو قرابين كل مصر، كما جاء ذكر ذلك في أنشودة «رع»، وقد كان من المسلم به أن الدخل السماوي كان ملكا للملك، وأنه كفيل بسد كل حاجاته.
وأخيرا كان من أهم المصادر العدة التي يستمد منها المتوفى قوته في مملكة «رع» إن لم يكن أهمها كلها «شجرة الحياة» الواقعة في الجزيرة السرية وسط «حقول القربان»، وهي التي كان الملك يبحث عنها وبصحبته نجم الصباح. ونجم الصباح هذا هو صقر أخضر فاخر، وهو إله شمسي، ويعتبر هو والإله «حور دوات» نفسا واحدة، وله أربعة أوجه مقابلة لصقور الشرق الأربعة، وكان نجم الصباح بلا شك موحدا معها أيضا، فنجده واقفا على مقدمة زورقه السماوي الذي يبلغ طوله 770 ذراعا، وهناك يخاطبه الصوت قائلا: «خذ هذا الملك «بيبي» معك في حجرة زورقك ... وخذ أنت خطافك هذا المحبب إليك وهو عصاك التي تخترق الترع، وهي التي في طرفيها أشعة الشمس وأسنانها مخالب «مفدت»، وبها يقطع الملك «بيبي» رءوس الأعداء القاطنين في «حقول القرابين» حينما يكون قد نزل في البحر. فأحن رأسك يا أيها البحر وأثن ذراعيك، فإن ابني «نوت» (إلهة الشمس) هما هذان: «بيبي» و«نجم الصباح» اللذان نزلا فيك لابسين أكاليل الزهر على رأسيهما ومتقلدين تيجان الزهر حول نحريهما.» وقد طلب هنا خضوع البحر؛ لأن كلا من «بيبي» و«نجم الصباح» كان عاكفا على القيام برسالة كريمة لأجل «إزيس» و«حور». وبعد ذلك تستمر القصة قائلة: «إن هذا الملك «بيبي» قد فتح طريقه مثل صائدي الطيور، وتبادل التحيات مع أرباب الأرواح، وذهب إلى الجزيرة العظيمة الواقعة في وسط «حقل القرابين» الذي تهيئ فيه الآلهة للبجع التحليق فوقه. والبجع هي النجوم التي لا تفنى (النجوم الثوابت)، وهي التي تعطي هذا الملك «بيبي» شجرة الحياة التي تعيش منها حتى يتسنى لكما «بيبي» و«نجم الصباح» في الوقت نفسه أن تعيشا منها.»
ومن الممكن إضافة تفاصيل عدة لهذه الصورة التي تمثل الآخرة السماوية، ولكن الصورة الإجمالية التي رسمناها فيما سبق تدل في أقل مظاهرها على العناصر الهامة للمعتقدات التي كان يعتنقها قدماء المصريين عن الآخرة الشمسية في عهد الدولة القديمة [حوالي 3000-2500ق.م].
وليس لدينا شك في أن عقائد هذا المذهب كانت تؤلف في وقت ما مجموعة معينة، ليس لها علاقة مباشرة بمجموعة عقائد المذهب الأوزيري، بل كانت المجموعتان فضلا عن هذا تناقض إحداهما الأخرى. وقد بقي لنا بعض البراهين الدالة على عدم تلاؤم هذين المذهبين، بل إن تلك البراهين تدل أيضا على تعاديهما؛ فقد قيل عن إله الشمس إنه: «لم يعطه [أي الملك] لأوزير وأنه [أي الملك] لم يمت الموت [الحقيقي]، وأنه وصل مبجلا إلى الأفق.» وفيما يأتي أبين من ذلك: «أن «رع» آتوم لم يعطك لأوزير، وأنه [أي أوزير] لا يحاسب قلبك ولا يملك سلطانا على قلبك.»
ومن الواضح جدا أن «أوزير» كان في نظر أتباع المذهب الشمسي في زمن ما يمثل مملكة الموت وسلطانها، وهي المملكة التي لم يكن أتباع «رع» ممن يحشرون إليها. فطبقا لهذه الفكرة كان يخاف أن تدخل طائفة «أوزير» إلى الهرم بأجمعها لقصد سيئ، فكان من اللازم إذن الأخذ بالمحافظة على الهرم بصفته الرمز العظيم للشمس، خوفا من حدوث عادية من «أوزير»، أو من «حور» الأوزيري أو الآلهة الأخرى الذين هم من عصابة «أوزير».
ولقد كان من المحتم في تلك الآونة الشروع في إيجاد بعض التوفيق بين هذه المعتقدات الشمسية وبين تلك المعتقدات الأوزيرية، وحينما نتعقب سير هذا التوفيق بين المذهبين فيما بعد، ندرك كيف أن هذا السبيل قد أدى إلى فوز أوزير في النهاية.
الفصل السابع
آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني: أوزير
لقد تتبعنا إله الشمس منذ بداية ملكه القديم الذي كان يعد فيه مجرد قوة طبيعية عظيمة إلى وقت الانتقال الذي دخل به إلى المجتمع الإنساني بصفته ملكا أرضيا مسيطرا على الحياة البشرية، وبذلك صار ميدان نشاطه هو ميدان الشئون البشرية. وقد حدث من جراء سيره في ذلك الميدان بفخار لا يدانى وسر ليس في الإمكان اختراق حجبه، أن حياته اليومية لم تترك مجالا لأن يشاركه الإنسان في أي عمل من أعماله أو حركاته. على أننا نجد بجانب ذلك مملكة طبيعية أخرى بدأ الإنسان يسهم فيها، ويقوم بأعمال الآلهة التي يصعب تحديدها ويوجه قواها الخفية، فتمكن بذلك من القيام بنصيبه في أعمالها الخيرة، وتلك القوة الطبيعية التي أسلمت قيادها للإنسان أكثر من غيرها، والتي مكنته من القيام فيها بنوع من المساهمة؛ هي قوة الحياة النباتية.
فقد ذكرنا فيما مر أن استنبات الإنسان للقمح البري والشعير قد غير مجرى حياة أهل ما قبل التاريخ تغييرا كليا؛ إذ انتقل الإنسان بذلك من حياة الصيد والقنص الداعية للتجوال إلى حياة الزراعة الداعية للاستقرار والإقامة، وقد ترجع بداية ذلك العهد إلى نحو 8000 أو 10000 سنة مضت، وقد خلق هذا التحول عالما جديدا ترجع أقدميته إلى العصر الحجري الأخير.
ولما انتهى الأمر بأن صارت الزراعة تشغل المساحات الشاسعة في كافة أرجاء الشرق الأدنى، مكونة بذلك أول إقليم زراعي ظهر في حياة التقدم البشري المديد، أدى ذلك إلى ظهور شعور قوي بحاجة الناس في كل بقعة إلى الاعتماد في معايشهم على ثمرات الأرض الخضراء. وهذا الشعور أنشأ في الناس عواطف يمكن مضاهاتها بتلك العواطف التي حدت بآبائنا إلى تعيين يوم من أيام الخريف لتقديم الشكر فيه لله على إنعامه عليهم بخيرات الحقول.
وعندما انتقل الإنسان القديم من معيشة الصيد إلى معيشة الزراعة صار شعوره بالاعتماد على قوة استنبات الأرض هو العنصر الناطق في تعبيره الديني عما يخالجه بشأن التغير البين الذي حدث في حالة معيشته؛ فإن الحياة الدائمة التي يراها في الأرض المثمرة التي تموت ثم تحيا ثانية مرات عديدة لا نهاية لها قد مثلت في شكل إله يموت ثم يحيا وهكذا دائما أبدا.
ولذلك لم يكن هذا الاعتقاد وقفا على «أوزير»، أحب الآلهة المصرية إلى قدماء المصريين، بل تخطاه إلى كثير من الآلهة المحلية في غرب آسيا، حيث كان هذا الإله يعرف هناك باسم «تاموز» أو «أدونيس»، وقد اعتقد القوم فيها أنها عاشت ثم ماتت ثم بعثت مرة أخرى، ولم ينس قدماء المصريين قط تلك العلاقة العتيقة التي أحدثها هذا الاعتقاد مع آسيا، وهي التي عبر عنها في النهاية في أسطورة «أوزير» التي تقص علينا كيف طفا جسد الإله الميت على وجه البحر وسار إلى شاطئ «جبيل»، ببلوص، الواقعة على الشاطئ الفينيقي في آسيا، وقد عاد هذا الإله هناك إلى الحياة مرة أخرى متقمصا جسم شجرة خضراء؛ ولذا صار رمز رجوع الحياة التي تنبعث ثانية بعد الموت: شجرة خضراء. ونشأ عن ذلك الحادث عيد جميل كان يقام في كل سنة تذكرة لتلك المناسبة؛ وذلك برفع شجرة مقتلعة وغرسها في الأرض في محفل عظيم، وكانت تجمل فتغطى بالأوراق الخضراء عند إرجاعها إلى الحياة على ذلك الوجه المذكور، وتلك الشجرة هي التي انحدرت إلينا في صورة «عمود مايو»
1
الذي لا نزال نقيمه ونزينه بالابتهاج والرقص احتفالا بعودة الربيع.
ومع أن هذا الحادث العظيم - حادث الاهتداء للزراعة - غير مدون بالطبع في وثائق تاريخية، لوقوعه قبل عصر الاهتداء إلى الكتابة بعصور طويلة، فإننا نستطيع بلا ريب أن نتعرف في مذهب «أوزير» صدى ذلك التغير العظيم الذي تمخض عن ظهور أقدم الزراع في الأرض، وذلك لما تتضمنه العقيدة الأوزيرية من سماع أول صوت ديني يتحدث عن نعمة التمتع بالزراعة، وإن ذلك الإلهام الذي ألهمه عقل الإنسان حينما صار متصلا اتصالا وثيقا بحياة الأرض الخضراء ومتعاونا فيها تعاونا فعليا يعد الآن من أقدم الأفكار التي خطرت في الفكر الإنساني. وقد كان لذلك أثر عميق في الآراء البشرية عن الحياة فيما بعد الموت؛ فانتقلت تلك الفكرة إلى العقائد الإغريقية حيث صار من أصول تدشين المتدين الجديد أن تقدم له حزمة من سنابل القمح أو سنبلة منه واحدة، كما نجد صدى هذه الفكرة حتى في كتاب العهد الجديد: «الحق الحق أقول لكم، إن حبة الحنطة التي تقع على الأرض إن لم تمت فإنها تبقى وحدها، وإن ماتت أتت بثمر كثير.» [يوحنا 12-24].
وقد امتزجت تلك الفكرة عند قدماء المصريين في النهاية بطائفة من المعتقدات الخاصة بالثواب والعقاب في الحياة الآخرة، ومن ثم تغيرت الآراء الخلقية المصرية القديمة من أساسها بسبب تلك الفكرة.
على أنه لا بد لنا قبل الانتقال إلى بحث الخلق الأوزيري أن نسبر غور أهمية موضوع «أوزير» بصفته إله طبيعة ولو إلى حد ما، وبينما لا نجد شكا في كنه الظاهرة الطبيعية التي كان يقوم بتمثيلها كل من «رع» و«آتوم» و«حور» وآلهة الشمس الأخرى؛ فإننا من جهة أخرى نلقى شكا عظيما وجدالا شديدا في الظاهرة التي كان «أوزير» يقوم بتمثيلها.
إن أوضح بيان عن أصل «أوزير» هو حادثة العثور على ذلك الإله المتوفى بوساطة ابنه «حور» كما جاءت في متون الأهرام: «إن «حور» يأتي ويتعرف والده فيك، شابا باسمك «الماء العذب».» وبمثل ذلك الوضوح نجد الفكرة نفسها بادية في كلمات «رعمسيس الرابع» إذ يقول للإله: «إنك النيل حقا، عظيم في الحقول في باكورة الفصول، فالآلهة والناس يعيشون بالندى الذي فيك.» ففي هذين المصدرين القديمين قد وحد «أوزير» والماء؛ وبخاصة ماء النيل.
ومع أن «أوزير» صار مع الماء، بل مع ينابيع الماء العظيمة نفسا واحدة فإنه من الواضح أن وظيفة خاصة للماء هي التي امتزج بها، فالماء بوصفه مصدرا للخصب وبوصفه مانحا للحياة هو الذي وحد به أوزير، وهو الذي يسبغ الحياة على التربة، ومن ثم فإن «أوزير» كان يتصل بالتربة أيضا اتصالا وثيقا. وقد أيد هذا الرأي وأكثر منه ما جاء في أنشودة من عهد القرن الثاني عشر ق.م ؛ إذ إنها لم تقتصر على تأحيد «أوزير» بالتربة، بل أحدته هو والأرض كلها، فتقول عنه تلك الأنشودة: «أما أنت فإن النيل ينبع من عرق يديك وأنك تنفث الهواء الذي في حلقومك إلى أنوف الناس فوهبت القداسة لما تعيش عليه الناس. وكذلك توجد في أنفك الشجرة وخضرتها والأعشاب والنباتات والشعير والقمح وشجرة الحياة. وعندما تحفر الترع ... وتبنى البيوت والمعابد، وعندما تنقل الآثار وتزرع الحقول، وعندما تنحت المقابر ومزاراتها فإنها ترتكز عليك كلها، وأنت الذي تصنعها فهي على ظهرك رغم أنها أكثر من أن تدون، وظهرك لا يوجد عليه مكان خلو؛ لأنها جميعها موضوعة فوقه ...» فكاتب هذه الأنشودة يعتبر أن «أوزير» هو الأرض نفسها؛ وبخاصة الأرض المنتجة للخضرة.
ولذلك فإن الإشارات إلى أوزير المعروفة لنا تقرنه بحياة النبات أو توحده معها، ولعلنا نذكر أن المسرحية المنفية (التي يرجع عهدها إلى بداية «الاتحاد الثاني» حينما كانت قيادة الأمة في عاصمتها «منف») أطلقت على تلك البلدة اسم «مخزن غلال الإله»، ومن أجل ذلك أدخل رجال الفكر في «منف» إلى «أوزير» في مسرحيتهم المقدسة توضيحا للسبب الذي من أجله صارت «منف» «مخزن غلال الإله». ولما كان القوم لا يزالون متجهين بتفكيرهم إلى صفات «أوزير» الطبيعية فإنهم يقولون إن إطلاق هذا الاسم على «منف» نشأ من أن «أوزير» «أغرق في مياهه عند منف»، وبذلك صارت «مخزن غلال الإله».
ثم إن الآراء الواردة في متون الأهرام المبكرة التي تعتبر أقدم من تلك المسرحية تمثل «أوزير» مرتبطا ارتباطا وثيقا بالحياة النباتية.
ويؤحد «أوزير» أيضا في أقدم نسخة من كتاب الموتى مع الحنطة؛ إذ يقول المتوفى معبرا عن نفسه: «إني «أوزير»، وإني أعيش كحبة
2
حنطة وأنمو كحبة حنطة ... وإني شعير.»
ويجب أن نقرن بهذه الأقوال المبكرة تلك الصور المتكررة التي تمثل القمح نابتا من جسد «أوزير» الراقد فوق الأرض، كما تمثل شجرة نابتة من قبره أو تابوته، أو تجعل تماثيل الإله المصورة على هيئة مومية في قالب مكون من الدشيشة والتراب مدفونة مع المتوفى أو موضوعة في حقل القمح ليضمن به الزارع محصولا موفورا من أرضه.
وعلى ذلك فقد صار واضحا في أقدم المصادر التاريخية التي عرفت للآن أن «أوزير» والمياه (وبخاصة في الفيضان) والتربة والنبات كانت جميعا نفسا واحدة، وتبدو لنا تلك نتيجة للاتجاه المصري إلى التفكير بالصور الواقعية.
فهذا الإله في التفكير المصري القديم كان من غير شك عنصر الحياة الذي لا يفنى أبدا أينما كان، وكثيرا ما نرى له صورا تظهره حتى في حالة الموت محتفظا بالقوة التناسلية؛ فحياة الأرض التي تموت ثم تحيا، والتي تتصل أحيانا بالمياه التي تمنحها الحياة وأحيانا أخرى بالتربة الخصبة، والتي تظهر في النبات نفسه، كل أولئك وأوزير شيء واحد.
ولما كان النيل مثل النبات الذي يسقيه وينميه يعلو وينخفض في كل سنة؛ فقد كان من السهل تصور «أوزير» ممثلا في النيل، الذي يعد أهم ظاهرة في الإقليم المصري، أكثر من تصوره في أي شكل آخر غيره.
3
والواقع أن النيل لم يكن في نظر القوم سوى المنبع الظاهر والرمز لهذه الخصوبة التي كان يمثلها «أوزير».
ثم إن وظائف «أوزير» بحكم طبيعتها قد أدمجته منذ القدم في دائرة الشئون البشرية مما جعله يتصف سريعا بالصفات البشرية والاجتماعية؛ ولهذا فإن هذا الإله الذي كان من شأنه أن يموت ثم يحيا وهكذا دواليك، والذي ظهر بأنه عرضة لمصير البشر من الموت وغيره، قد كان لا محالة ينبوعا صالحا لا ينضب لوضع الأساطير والخرافات وتأليفها، فكان مثل «أوزير» كمثل إله الشمس، قد صار ملكا من ملوك مصر الأقدمين بعد أن ظهر الملوك فوق الأرض. وكان في العادة يسمى «وارث جب» إله الأرض، «الذي أعطاه قيادة البلاد لفائدتها، ووضع في قبضته هذه الأرض وماءها وهواءها وخضرتها وكل ماشيتها، وكل ما يطير وكل ما يرفرف فوقها وحشراتها وحيوانات الصيد في صحاريها، فصار كل ذلك مملوكا شرعا لابن «نوت»
4 [أي أوزير].»
بتلك الكيفية بدأ «أوزير» حكمه الصالح بصفته ملكا على مصر، «وكانت البلاد راضية بذلك عندما أشرق على عرش والده، مثل «رع» حينما يطلع في الأفق.» ولكن بعد أن مر زمن طويل على «أوزير» وهو ملك على مصر انحصر ملكه على وجه خاص في الإشراف على استنبات الأرض (كما تؤكد ذلك الأدلة السالفة)، ثم دخل بعد ذلك بالتدريج إلى الميدان السياسي أيضا، فتقول عنه نفس الأنشودة السالفة الذكر: «إنه هزم أعداءه وذبح مناهضيه بساعد قوي، وجعل خوفه يدب بين خصومه ومد تخوم بلاده.»
ويبرز لنا بوجه خاص «أوزير» مصبوغا بصبغة إنسانية في العلاقات الأسرية التي نجدها مذكورة في الأسطورة التي نسجت حوله، فنجد «إزيس» أخته وزوجه في آن واحد قد وقفت إلى جانبه في ولاء لتصد عنه أعداءه، وحافظت عليه «بأن طردت أعداءه وصدت عنه [الخطر].» ومع ذلك فإن أعداءه استدرجوه إلى الموت بالحيلة إن لم يكن جهارا حتى تغلبوا في النهاية عليه كما قص ذلك المؤرخ «بلوتارخ»، ولو أنه لا توجد لدينا أية وثيقة في المصادر المصرية القديمة عن قصة الصندوق التي رواها «بلوتارخ» وذكر فيها أن خصوم «أوزير» المتآمرين عليه قد أغروه حتى دخل في الصندوق ثم أغلقوه عليه حتى مات بداخله، وكان رأس أعداء «أوزير» الطيب، أخاه «ست» الذي كان مع ذلك يخاف الملك الطيب.
وقد نصت متون الأهرام التي تعد من أقدم المصادر القديمة على قتله، فإنها قالت: «وصرعه أخوه «ست» على الأرض في «نديت».» أو تقول: «وطرحه أخوه «ست» على جنبه على الشاطئ الأقصى لأرض جحستي.»
ولكننا من جهة أخرى نجد أن المسرحية المنفية التي تعد أقدم ما وصل إلينا من المصادر القديمة لدرجة أنها أقدم من عصر الأهرام تقول: «إن «أوزير» أغرق في مائه الجديد [أي ماء الفيضان].»
وعندما وصلت الأخبار إلى «إزيس» التعسة عن مقتل أخيها هامت على وجهها في حزن شديد باحثة عن جثة سيدها: «باحثة عنه بلا كلل، فسارت في أنحاء هذه الأرض محزونة غير هادئة البال إلى أن عثرت عليه.»
وزيادة على ما ذكر فإن أقدم ما وصل إلينا من الأدب المصري القديم مفعم بالإشارات عن تلك الزوجة المخلصة التي كانت لا تزال تواصل البحث عن زوجها القتيل : «لقد أتيت باحثة عن أخيك «أوزير» بعد أن هزمه أخوه «ست».»
أما قصة «بلوتارخ» فإنها تجعل «إزيس» تواصل السير في بحثها حتى عرض البحر الأبيض المتوسط إلى أن تصل إلى «جبيل» (ببلوص)، وهو المكان الذي حملت إليه المياه جثة «أوزير» كما مر ذكره. غير أن متون الأهرام تشير إلى أن «أوزير» وجد أخيرا فوق شاطئ «نديت»، وهو المكان الذي ذبح فيه «أوزير» بيد «ست»، ويجوز أن «نديت» كان في الأصل اسما قديما لإقليم «ببلوص»، وإن كان موقع «نديت» المذكورة قد حدد فيما بعد في «العرابة المدفونة» بمصر، ولذلك كان أحد فصول رواية «أوزير» يمثل على شاطئ «نديت» القريبة من «العرابة المدفونة» بمصر.
أما الإلهة «نفتيس» فكانت غالبا ترافق أختها «إزيس» في هذا البحث الطويل عن جثة «أوزير»، وكانت كل منهما ممثلة في شكل طائر: إن «إزيس» تأتي «ونفتيس» تأتي إحداهما على اليمين والأخرى على الشمال ... وقد وجدتا «أوزير» كما صرعه أخوه «ست» على الأرض في «نديت»، وعندما رأتاه قالت «نفتيس»: «لقد وجدته صريعا على جنبه على الشاطئ ... يا أخي لقد بحثت عنك ... ابكي أخاك يا «إزيس»! ابكي أخاك يا «نفتيس»! ابكي أخاك.» ومن ثم صار عويل «إزيس» و«نفتيس» على أخيهما «أوزير» أقدس تعبير معروف عن الحزن لدى قلب المصري القديم، وقد تقلب ذلك العويل في صور متنوعة شتى حتى ظهر أخيرا في الأساطير الأوزيرية الأوروبية فيما بعد ذلك العهد الذي نحن بصدده الآن بنحو ثلاثة آلاف سنة.
وبعد ذلك قامت الأختان بتحنيط جثمان أخيهما حفظا له من الفناء، وبعد أن وضعتاه في قبره نبتت به شجرة جميز، ثم أحاطت بجسد ذلك الإله المتوفى. والجميزة المذكورة هي مثل شجرة «الأريكا» التي ورد ذكرها في قصة «بلوتارح»، وتلك الشجرة المقدسة تمثل الرمز الظاهر لحياة «أوزير» الخالدة التي لا تفنى، وقد كانت في أقدم المصادر القديمة مقدسة أيضا، وكانت تخاطب كأنها إلهة.
وهكذا كانت قصة حياة «أوزير» وموته. على أن حياته التي كانت تمثل لنا دورة من الظواهر الطبيعية لم تكن تقف طبعا عند ذلك الحد، فإنها استمرت في بعثه من جديد كما استمرت أيضا في قصة أخرى أضيفت فيما بعد مأخوذة عن اللاهوت الشمسي، وهذه هي قصة «حور» بن «أوزير» المذكور والنزاع الشمسي الذي قام بين «حور» و«ست»، مع أن هذا النزاع لم يكن «أوزيريا» في الأصل.
وكذلك نلاحظ أن القوة الحيوية عند «أوزير» لم تنقطع أبدا حتى في حالة الموت؛ إذ إن «إزيس» المخلصة قد اقتربت من سيدها المتوفى ثم احتضنته «وأسدلت عليه بريشها فيئا وبجناحيها نسيما ... وبذلك بعثت الحياة ثانية في أعضاء صاحب القلب الساكن المتعبة فوضع فيها نطفته، وبذلك أنجبت منه وريثا له، ثم ربت هذا الطفل في مكان منعزل لم يعرف بعد موضعه، وعندما اشتد ساعده قدمته أمام القاعة العظيمة في عين شمس.»
وقد كان خيال عامة الشعب مغرما بتأمل صورة الأم التي أخفت نفسها في مستنقعات الدلتا التي قامت فيها بتربية «حور» الشاب، حتى إذا «ما اشتد ساعده» صار قادرا على الانتقام من قاتل أبيه. وفي خلال تلك المدة التي ولد وتربى فيها «حور» لم يقعد «ست» مكتوف اليدين طبعا، فقد لقي ذلك الطفل «حور» على يده كثيرا من المخاطرات والمآزق، وقد حفظت لنا من هذه الحوادث نتف صغيرة جدا لا يمكن تأليف قصة متصلة منها، ولكن حتى بعد بلوغ ذلك الصبي أشده وارتفاع قامته ثمانية أذرع (نحو 14 قدما) اضطر مع ذلك لصنع صندوق صغير طوله نحو نصف ذراع يكون مخبأ له يتقي بالاختفاء فيه شرور «ست» وعاديته، وعندما بلغ ذلك الإله الشاب سن الرجولة وصار في مكنته مدافعة الأخطار خرج من مكمنه الذي كان فيه بالدلتا، وأتى مطهرا ليتمكن من الانتقام لأبيه.
وكذلك كان موضوع بر «حور» بوالده محببا إلى عامة الشعب، يسرح خيالهم ويجول مبتدئا بحادث تصدي «حور» لمحاربة أعداء أبيه والانتقام له من «ست». وقد اشتد وطيس الموقعة التي نشبت بين «حور» و«ست» (وهي كما ذكرنا فيما مر، مأخوذة عن المذهب الشمسي) حتى إن ذلك الإله الشاب فقد عينه بيد «ست » عدوه وعدو أبيه، ثم غلب «ست» على أمره، واسترد الإله «تحوت» أخيرا عين «حور» المفقودة بأن تفل ذلك الإله الحكيم على الجرح فصحت وشفيت. وتلك الطريقة التي سلكها الإله «تحوت» لشفاء العين هي بطبيعة الحال نوع من التطبيب الشعبي، تردد ذكره في تلك الأسطورة فنال شهرة وذيوعا ثم تحول إلى آسيا؛ حتى لقد يلوح لنا أن استعماله ظهر مرة أخرى في كتاب العهد الجديد عند ذكر الحادث الذي يصور لنا المسيح مستعملا تلك الطريقة نفسها لإبراء الأعمى، وفي ذلك بلا شك إذعان لعادة منتشرة بين العامة في مثل تلك الحالة.
ثم إننا بعد ذلك نجد «حور» قد أخذ يبحث عن والده القتيل عابرا البحر في سبيل البحث عنه حتى يرفعه من بين الموتى، ويقدم له عينه المصابة التي ضحى بها من أجله. وهذا العمل الذي يدل على البر بالوالد - كما جاء مذكورا في متون الأهرام - ضاعف تقديس «عين حور» التي كانت مقدسة من قبل في التقاليد وفي الشعائر المصرية القديمة حتى صارت رمزا لكل تضحية؛ ولذلك صارت كل هبة أو قربة يصح أن تسمى «عين حور»، وخاصة إذا قدمت باسم القربان لمتوفى. وإذا استثنينا «الجعل المقدس» فإن «العين المقدسة» كانت تعتبر أعظم رمز منتشر نال احتراما عظيما في الديانة المصرية القديمة، ولذلك نرى عشرات الآلاف من الأعين المصنوعة من الفخار المطلي ذات اللون الأزرق أو الأخضر وغيرها مما صنع من الأحجار النفيسة الغالية، ولقد ملئت بتلك الأعين متاحفنا، هذا فضلا عما كان يحضره آلاف السياح معهم إلى بلادنا، وما كانت تلك الأعين في الواقع إلا تذكارات ورموزا لتلك القصة القديمة التي تحدثنا عن «حور» وبره بوالده.
ولدينا فصل في متون الأهرام يحدثنا عن جميع ما جاء في قصة بعث ذلك الإله القتيل، نجد فيه حادث بعث «أوزير» مرددا مرارا وتكرارا؛ وذلك لأن معارضة الإنسان للموت قد عبر عنها بإلحاح بترديد ذكر تلك الحقيقة القاطعة القائلة ببعث «أوزير»، فنرى في تلك المتون أن القبر فتح له: «لقد أخرج لأجلك اللبن
5
من القبر العظيم.» بعد ذلك يستيقظ «أوزير» ويفيق الإله المتعب من رقدته، ويقف الإله منتصبا ويتمالك جسمه، «قف إنك لن تفنى، إنك لن تفنى.»
غير أن حقد «ست» على «أوزير» لم ينته بعد هزيمته النكراء على يد «حور»، وحتى بعد إحياء «أوزير»؛ بل إنه دخل إلى محكمة الآلهة في «عين شمس»، وأودع لدى هؤلاء الآلهة اتهامات باطلة ضد «أوزير»، وليس لدينا بيان واضح عن تلك الخصومة أو عن نوع تلك الاتهامات التي اختلقت ضده، إلا أن «ست» قد اتخذ منها وسيلة للاستيلاء على عرش مصر. ولا بد أنه كانت توجد ولو رواية واحدة تدل على أن المحاكمة كان موضوعها جريمة قتل «ست» لأخيه «أوزير»، ولكن «أوزير» فاز في النهاية بالحكم لصالحه وأعيد عرشه إليه؛ ذلك العرش الذي كان ادعاه «ست» بالباطل.
وكان الحكم الذي صدر لصالح «أوزير» في قالب يعبر عنه في الحقيقة بكلمة «صادق» أو «حق» أو «عدل» أو «صوت الحق» ... ولا بد أن ذلك التعبير كان اصطلاحا رسميا مستعملا بمعنى يضاهي في الغالب كلمة «منتصر» أو «نصر»، وذلك المعنى يحمل في ثناياه المعنى الأصيل لكلمة «فائز» أو «فوز» عند استعمالهما في معنييهما الخلقي والمادي. وتدل الخصومة بين «أوزير» و«ست» بعد تطورها على أنها قد اكتسبت معنى خلقيا في تلك المناسبة إن لم يكن لها ذلك في بادئ الأمر. على أنه ستأتي هنا الفرصة الكافية فيما بعد لاستقراء وملاحظة سير ذلك التطور الخلقي الذي حمله في ثناياه انتشار تلك الواقعة وذيوعها في أسطورة «أوزير».
ومع أن «أوزير» تسلم في النهاية زمام مملكته بعد بعثه من الموت وانتصاره على أعدائه بعد المحاكمة، فإنه بالرغم من كل ما ذكر لم يكن في الواقع من أهل مملكة الأحياء، بل كان ملكه هو العالم السفلي المظلم الواقع تحت الأرض، وكان لا بد له من النزول إليه فورا.
وتقول المسرحية المنفية إنه بعد أن مات «دخل الأبواب السرية في بهاء أرباب الأبدية، مقتفيا أثر ذلك الذي يشرق في الأفق، بل أثر «رع» في العرش العظيم [يعني منف] ... وهكذا حضر «أوزير» إلى الأرض «في قصر الملك» بالجهة البحرية من تلك الأرض التي وصل إليها (منف)، وطلع ابنه «حور» كالفجر ملكا على الوجه القبلي، وطلع ملكا على الوجه البحري، بين ذراعي والده «أوزير».»
6
وبذلك صار ابن «أوزير» خليفته على دنيا الأحياء، وأما ما كان تحت حكم «أوزير» فهو مملكة الأموات السفلية، وقد نال «أوزير» مكانته العظيمة السامية في الديانة المصرية القديمة باعتباره بوجه خاص صديق الأموات وحاميهم.
الفصل الثامن
نور الشمس والخضرة
امتزاج «رع» مع «أوزير» وظفر «أوزير»
إن الذي تزرعه بنفسك لا يحيا إلا ليموت. (يا جاهل، إن ما تزرعه أنت لا يحيا إلا إذا مات.)
ليست هذه الكلمات التي فاه بها القديس بولص إلا تلميحا لما تركته الدورة السنوية في الحياة النباتية (التي من شأنها الموت ثم الحياة) من التأثير العميق في عقول الأقدمين.
ونحن نذكر أن الأساطير الإغريقية كانت مفعمة بمثل تلك الأفكار، كذلك كانت دنيا البحر الأبيض المتوسط في كل مكان متحفزة لاعتناق الآراء الشرقية التي من هذا النوع، فكان تأثيرها من أجل ذلك ظاهرا في الإنجيل، وإن أقدم مظهر لتأثير الخضرة في آراء الأقدمين التي لها علاقة بشأن الموت نراه بحالة واضحة في ذلك الانتصار الباهر الذي أحرزته تلك «العقائد الأوزيرية» على ما سبقها من العقائد الخاصة بالحياة في الآخرة، وليست «صلاة عيد الفصح» الحالية - طبعا - إلا أحدث المظاهر الباقية لتلك القوة الملحة التي نشأت عن أقدم تأثير للطبيعة في روح الإنسان.
وقد ذكرنا من قبل أن كل المعتقدات الشمسية والأوزيرية قد اندمج بعضها ببعض منذ عصر مبكر، ومع أنه يمكن تمييز نواة كل مجموعة من أساطير كل عقيدة بسهولة، فإننا من جهة أخرى نجد أن اندماج الآراء الشمسية بالآراء الأوزيرية عن الحياة الآخرة قد ترك لنا مشكلة صعبة الحل جدا إذا نحن حاولنا فصلها من ذلك الاندماج لتتميز كل عقيدة منها عن الأخرى.
وذلك أن كلا من نور الشمس والخضرة كانا مندمجين في الديانة المصرية القديمة بعضها ببعض بحالة لا يمكن معها فصلهما من ذلك الاندماج، مثلهما في ذلك كمثلهما في الطبيعة لا يمكن فصلهما من ذلك الامتزاج. ولهذا كانت توجد مجموعة معتقدات خاصة بالحياة الآخرة يمكن تسميتها «معتقدات شمسية» ومجموعة أخرى خاصة بالحياة الآخرة أيضا تسمى بلا نزاع «معتقدات أوزيرية»، غير أن هذين المذهبين قد اندمج بعضهما ببعض حتى صار لدينا مناطق محايدة عن ذلك الاندماج لا يمكننا اعتبارها لواحدة منهما خاصة دون الأخرى، ومع ذلك يمكن تمييز المذهبين، من الأنظمة الخاصة بكل منهما، بسهولة أكثر.
فمن الواضح أن المذهب الشمسي كان لاهوت الدولة تحيط به أبهة الملك ونفوذه، على حين أننا نواجه في مذهب أوزير ديانة الشعب التي اجتذبت إليها كل فرد متدين.
ومن المحتمل أن التاريخ القديم لتتابع هذين المذهبين كان كما يأتي: كان المصريون في عهد ما قبل التاريخ يعتقدون اعتقادا ساذجا بوجود عالم سفلي للأموات مآل كل الناس إليه حتما، وخص الملوك بآخرة سماوية جليلة خصوا بها في أول الأمر ثم شملت فيما بعد جميع عظماء القوم وأشرافهم - وقد تكلمنا عنها فيما سبق - ثم انتهى أمرها أخيرا بأن صارت عالما شمسيا لهؤلاء الموتى.
ولما حل نفوذ «أوزير» الذي كان آخذا في الازدياد محل الآلهة الجنازيين الذين كانوا أقدم منه صار هو بذلك رب العالم السفلي.
وكان من نتائج ذلك أن أخذ «أوزير» وعالمه السفلي يناهضان الآخرة الشمسية السماوية في سلطانها. وندرك في ظهور هذين المذهبين جنبا لجنب الكفاح الطويل الذي قام بين دين حكومي ودين شعبي لأول مرة في تاريخ العالم البشري.
والآن يجب علينا أن نبتدئ بتحديد أصل معتقد «أوزير» عن الحياة الآخرة بقدر ما نستطيع، ثم نقتفي بعد ذلك أثر سير الكفاح الذي لا يزال حتى الآن غير محدد بينه وبين ذلك اللاهوت السماوي العظيم الخاص بعقيدة الملك المتوفى، وهي التي فحصناها فيما سبق. وربما كان أعظم شيء في حياة سكان وادي النيل الأقدمين يكسبهم تقديرنا الخاص هو أن المذهب الأوزيري قد علق في الحال بعد بخيال الشعب ثم انتشر بين طبقاته، وبذلك أخذ يناهض المذهب الشمسي الذي كان يعتنقه رجال البلاط الملكي وكهنة الحكومة. ويتضح ذلك بوجه خاص فيما يتعلق بعقائد الحياة الآخرة التي ندرك من أدوار تطورها صبغ الديانة المصرية القديمة بالتدريج بالصبغة «الأوزيرية»، وبوجه خاص في التعاليم الشمسية عن الحياة الآخرة.
على أنه لا يوجد في أسطورة «أوزير» ولا في أخلاقه ولا في المتأخر من تاريخه ما يشعر بوجود حياة أخروية سماوية، بل إننا نذكر أنه لا يزال يوجد بعض نصوص واضحة لا يتطرق إليها الشك ترجع إلى عصور كان فيها «أوزير» يعتبر عدو الموتى الذين يعتنقون المذهب السماوي الشمسي، وهذه النصوص لا يزال في مقدورنا تعرفها بين متون الأهرام، وهي تشتمل على تعاويذ كان الغرض منها منع «أوزير» وأقاربه من دخول الهرم - وهو قبر شمسي - بقصد سيئ. وفيما قبل التاريخ كان مذهب «أوزير» (الذي كان في وقت ما مذهبا محليا في الدلتا) يحمل في ثناياه عقائد تقول بأن الحياة الآخرة ممقوتة يخشى شرها كما كانت في الوقت نفسه معادية للعقائد السماوية الخاصة بعالم الحياة الآخرة وما فيها من نعيم.
ولما هاجر «أوزير» من الدلتا إلى «أبيدوس» تصور القوم أن ملكه يقع في الغرب أو تحت الأفق الغربي، ومن ثم أخذ «أوزير» مكانه في العالم السفلي وأصبح ملكا على عالم الأموات تحت الأرض؛ وتلاحظ تلك الظاهرة حتى في متون الأهرام. وبلغ «أوزير» قمة فوزه بصفته رب مملكة الأموات السفلية.
ولما لم يكن في أسطورة «أوزير» ووظائفه ما يجعله يرتفع إلى السماء؛ فإننا كذلك نجد أن أبسط صيغ متون الأهرام لا تقول برفعه إلى عالم السماء، وتشتمل قصة المصير «الأوزيري» على صور متنوعة كالتي نجدها في اللاهوت الشمسي، ولكن الخضرة التي كان يمثلها «أوزير» تستمر بعد موتها، ولذلك كان من المحتم أن يبعث «أوزير» من بين الموتى أيضا، وكانت قيامته تعد فوزا على الموت وقوة لا يعدلها شيء في العقائد الجنازية المصرية القديمة. وكان من نتيجة ذلك أن الملك و«أوزير» قد أحدا، ولذلك كان الملك المتوفى يفعل كل ما كان يفعله «أوزير»؛ فكان يتسلم قلبه وأعضاءه كما فعل ذلك «أوزير»، أو كان يتحول إلى «أوزير» نفسه، وكان ذلك أحب معتقدات القوم في المذهب الأوزيري؛ أي أن يتحول الملك إلى «أوزير» ويقوم من الموت ثانية كما قام «أوزير» نفسه من الموت.
ويبدأ تأحيد الملك بأوزير عند ولادة الملك، وقد جاء وصف ذلك في متون الأهرام مشتملا على كل العجائب والمعجزات الخاصة بالمولد الإلهي، ولم يقتصر الحال على تقمص الملك شكل «أوزير» فحسب، بل إنه أحد معه تأحيدا تاما، وذلك ما نجده مدونا عن تلك العقيدة في متون الأهرام. ولذلك نرى «أوزير» نفسه تستحلفه الملوك على اختلاف أسمائها: «إن جسمك هو جسم هذا الملك «وناس»، ولحمك هو لحم هذا الملك «وناس»، وعظامك هي عظام هذا الملك «وناس»، وكما أنه (أي أوزير) يعيش فإن هذا الملك «وناس» يعيش، وكما أنه لا يموت فإن هذا الملك «وناس» لا يفنى.» وعلى هذا الفرض يتسلم الملك المتوفى عرش «أوزير» ويصير مثله ملك الموت: «هيا أيها الملك «نفر كارع» (بيبي الثاني)! ما أجمل هذا! ما أجمل هذا الذي صنعه لك والدك «أوزير»! إنه أعطاك عرشه، وأنت تحكم أولئك الذين في الأماكن الخفية (أي الموتى). إنك تقود الصالحين منهم ويتبعك كل الأجلاء.»
ولقد كان أسمى نفع نتج عن تأحيد الملك و«أوزير» أنه ضمن للفرعون المتوفى الخدمات الطيبة التي كان يقوم بتقديمها «حور» الذي يتمثل فيه البر البنوي لوالده «أوزير»؛ فقد صارت كل الرعاية الصالحة التي كان قد نالها «أوزير» يوما ما على يد ابنه «حور» من نصيب الملك المتوفى أيضا. وفي متون الأهرام مجموعة طويلة من الصيغ تشرح لنا تلك المناضلة التي قام بها «حور» ذلك الابن الشجاع لنصرة والده الملك المتوفى بصفته «أوزير»، ولكننا لا نكاد نجد في كل ذلك أثرا للمصير السماوي، ولا إشارة إلى ذلك المكان الذي حدث فيه ذلك النضال العنيف.
ومع أنه من الواضح أن كهنة عين شمس هم الذين صبغوا بادئ الأمر العقائد الجنازية بصبغة شمسية وسماوية، برغم أنها كانت في أول أمرها أرضية في أصلها وصبغتها، فإن هؤلاء الكهنة الشمسيين لم يكن في مقدورهم أن يقاوموا النفوذ القوي الذي نشأ من انتشار مذهب «أوزير» بين الشعب ، وانتهى الحال بأن صبغت متون الأهرام بصبغة «أوزيرية».
وإن التطور المستمر الذي نتعرف منه في ذلك البحث سير الكفاح بين المذهب الشمسي الذي كان متبعا في معابد الحكومة وبين المعتقدات الشعبية لديانة «أوزير»، كما يتضح من متون الأهرام، يعد من أهم ما بقي لنا من أخبار العالم القديم، فقد حفظ لنا حقا أقدم مثال للصراع الروحي والعقلي بين ديانة الحكومة وديانة الشعب، وذلك الصراع يسوقنا إلى موازنته بالكفاح الذي حصل فيما بعد في عهد الدولة الرومانية وهو اعتقاد الشعب في «عيسى» الذي رفع إلى السماء، وهو المذهب الشعبي من جهة، وبين عبادة الحكومة المنظمة لقيصر الذي كان يعتبر في نظر القوم أنه «الشمس التي لا تقهر» من جهة أخرى. ولا نزاع في أن الديانة المسيحية المبكرة قد حملت في ثناياها صدى ذلك الكفاح القديم الذي قام على ضفاف النيل بين الخضرة التي تحيا ثانية باستمرار وبين إله الشمس، فكان إله الخضرة [أي أوزير] البشري في نظر الشعب هو الذي استمال قلوبهم حتى إنه لم يكن في مقدور كهنة الشمس مع ما هم فيه من ثراء أن يقاوموا قوة ذلك الميل.
ويمكننا أن نتتبع سير عملية صبغ العقائد بالمذهب «الأوزيري» في متون الأهرام حسب النسخ التي نشرتها الكهنة من حكم إلى حكم خلال عهد خمسة ملوك متتالين تمثلهم خمسة أهرامات تحتوي على خمس نسخ مختلفة من متون الأهرام تختلف كل منها عن الأخرى في قراءتها. وقد يكون في إيراد بعض الأمثلة ما يظهر البرهان على ذلك، ويوضح سير عملية هذا التطور.
فالسلم الذي يؤدي إلى السماء كان في أصله عنصرا من عناصر المذهب الشمسي. والدليل على أنه لم تكن له أية علاقة بأوزير، يظهر بأمور؛ منها: أن إحدى الروايات الخاصة بقصة السلم تمثله في حيازة «ست» عدو «أوزير» التقليدي. ويمكننا اقتفاء صبغ قصة السلم بالصبغة الأوزيرية بسهولة في أربع روايات ذكرت عنه، وتلك الروايات في الحقيقة روايات مختلفة مأخوذة عن أصل واحد قديم، وتمثل هذه الروايات الأربع عصرا يمتد إلى نحو قرن من الزمان أو على أقل تقدير نحو 85 سنة، فيظهر أمامنا في أقدم هذه الروايات التي حفظت لنا أن السلم لا يظهر منه إلا جزء يسير والصاعد عليه هو فرعون نفسه. على أننا نجد أن قصة السلم قد تم تطورها بعد مضى جيل؛ إذ كان الصاعد الأصلي الأول عليه هو «آتوم» إله الشمس، ولكننا نجد أن الإلهتين «إزيس» و«نفتيس» الأوزيريتين قد ضمتا إلى القصة. وفي آخر رواية عرفت من هذه الروايات، وهي التي جاءت بعد الرواية الأولى في متون الأهرام بنحو 85 سنة، نرى أنه قد وضع في فم «إزيس» و«نفتيس» ذلك الترحيب الذي كانت ترحب به الآلهة القدامى عندما كانوا يشاهدون الفرعون صاعدا إلى السماء، وصار الصاعد هو «أوزير» نفسه، ومن ذلك نرى أن «أوزير» قد انتحل لنفسه الرواية الشمسية القديمة الخاصة بالسلم ونسب لنفسه المتن الشمسي القديم.
ومما هو جدير بالملاحظة هنا أن هذا التغيير قد حدث بالرغم من وجود تعقيدات محيرة، فقد مثلت تلك العقيدة الشمسية القديمة كلا من «ست» و«حور» مساعدين للملك عند صعوده في السلم الذي نصبه «رع» و«حور» وذلك وفقا لفكرة اشتراك «حور» و«ست» في خدمة المتوفى، ولكن يظهر أن الكاتب لهذه النسخة لم يشعر بالتضارب الذي ينجم عن ذلك عندما يتحول الملك المرفوع إلى السماء إلى «أوزير»، وهو تضارب واضح؛ إذ إن «ست» هو عدو «أوزير» الخلقي وقاتله فصار يساعده على الوصول إلى مقره السماوي.
ولم يظهر تدخل «أوزير» في أي مكان آخر من متون الأهرام بصورة تلفت النظر أكثر من ظهوره في الصيغ الخاصة بالخدمات التي تقدمها للمتوفى الآلهة الشمسية الأربعة المعروفون بصقور الشرق الأربعة. وكانت الطريقة المحببة لصعود السماء، وفتح أبواب السماء، والعبور من شاطئ إلى شاطئ، وعملية التطهير، وما شاكل ذلك، هي أن تعمل كل تلك الأمور أولا لكل من الصقور الأربعة بالتوالي، ومن ثم تعمل للملك بجاذبية محتمة. وقد كتبت أربع صيغ عظيمة بهذه الكيفية، يحتوي كل منها على بيان للإجراءات التي كانت تجرى لكل من أولئك الصقور الأربعة المذكورين، ثم بيان لما يعمل مثلها للملك. ونجد في أقدم تلك الصيغ أن أولئك الآلهة الأربعة كانوا جميعا آلهة شمسين وهم: (1)
حور الآلهة. (2)
حور الأفق. (3)
حور «شزمت». (4)
حور الشرق.
وبعد ذلك العهد بجيلين نجد الصقور الأربعة أنفسهم لم يتغيروا، ثم نجد بعد ذلك تطورا آخر حصل في تلك المجموعة بظهور متطفل جديد حل محل أولئك الصقور الأربعة، فتبدو مجموعة من الآلهة هكذا: (1)
حور الآلهة. (2)
حور الشرق. (3)
حور «شزمت». (4)
أوزير.
وبذلك نجد أن «أوزير» قد حشر نفسه في تلك الطائفة الشمسية باحتلاله مكان «حور الأفق» الذي هو أقرب الآلهة الأربعة نسبة إلى الشمس. ويعد دخول «أوزير» هنا أكبر مثل مقنع لعظم قوته، كما يعد أظهر مثل لخطوات صبغ متون الأهرام بالصبغة الأوزيرية.
ويوازي ذلك المثل أيضا بحالة تلفت النظر تاريخ مولد الشمس؛ فإنها يحتفل بوقوفها في سيرها جنوبا وبداية عودتها شمالا، وكان مولد الشمس هذا في باكورة عهد المسيحية قد تحول إلى مولد الإمبراطور الروماني الذي كان مؤحدا من إله الشمس، ولا شك أن اتخاذ المسيحيين لذلك العيد الشمسي القديم والاحتفاء به في 25 ديسمبر يقابل بالضبط حلول «أوزير» محل إله الشمس في متون الأهرام منذ ثلاثة آلاف سنة قبل ذلك العهد المسيحي.
وبمثل ذلك صبغ بالصبغة الأوزيرية من زمن بعيد كل من السلم وقارب العبور والعوامات البردية، وبالاختصار كل العتاد الذي كان لازما للوصول إلى السماء، مع أنه لم يكن لأوزير بالسماء أية صلة، فلا عجب بعد ذلك إذا اندمجت السماء وسكانها في «أوزير» حتى صارت النجوم الثوابت (التي لا تفنى) تسمى «أتباع أوزير». وكذلك صار من الممكن أن نجد الملك ينقل إلى السماء بنفس الطريقة عندما يولد مثل «أوزير» ممثلا في صورة نيل السماء، ويفيض على السماوات كفيضان النيل على الأرض فيجعل كل السماء يانعة خضراء: «إن الملك «وناس» يأتي إلى بركته التي في إقليم الفيضان عند النيل العظيم، إلى مكان السلام ذي الحقول الخضراء التي في الأفق، و«وناس» يجعل الخضرة نضرة في إقليمي الأفق .»
وبالرغم من أن كل ذلك قد أدى إلى صبغ العقائد الجنازية الشمسية والسماوية بصبغة «أوزيرية»، فإن الحياة الآخرة مع ذلك بقيت سماوية، لذلك كان من الواضح أن إله الشمس عندما كان يأخذ «أوزير» إلى جواره فإن معنى ذلك أن مكانة إله الشمس في تلك العقائد الجنازية المركبة كانت لا تزال هي المكانة الأولى، وحينئذ تبقى الحقيقة القائلة بأن العقائد السماوية عن الحياة الآخرة هي السائدة في متون الأهرام كلها، أما عالم «أوزير» السفلي الذي ظهر فيما بعد، وكذلك سياحة إله الشمس فيه، فإنهما كانا ولا يزالان يعدان في مركز ثانوي بصفة قاطعة في تلك العقائد الجنازية الملكية، أما عامة الشعب فكان إله الشمس فيما بعد في نظرهم ينزل إلى العالم السفلي ليضيء على قوم «أوزير» في مملكة الأموات. ويعتبر ذلك من أهم البراهين الدامغة الدالة على قوة «أوزير» عند عامة الشعب، أما في لاهوت الملك والمعابد الحكومية فكان «أوزير» يرفع إلى السماء، ومع أنه كان مصبوغا هناك بالصبغة الشمسية فإن مذهبه كان هو الآخر يصبغ العقائد الشمسية الخاصة بمملكة الأموات السماوية بعض الشيء بصبغة العقائد الأوزيرية؛ فكانت نتيجة ذلك أن حدث ارتباك كان لا بد من حدوثه عند اختلاط تينك العقيدتين إحداهما بالأخرى.
فنحن نذكر أن الملك في كلا المذهبين قد تأحد مع الإله، وعلى ذلك نراه يسمى من غير تردد «رع» و«أوزير» في الفقرة الواحدة من فقرات متون الأهرام.
وتوجد في متون الأهرام فقرات كبيرة تدل على الارتباك والتعقيد الذي نتج من امتزاج تلك العناصر التي لا انسجام بينها، إذا كان التوفيق غير ممكن في مثل تلك الفقرات بين ظهور كل من «رع» و«أوزير» بمظهر الملك الأعلى في الحياة الآخرة. على أن مثل تلك المعتقدات الدينية المتضاربة لم يكن يشعر المصري القديم من جراء تضاربها بأي قلق أكثر مما كانت تشعر به أية حضارة قديمة أخرى باستبقاء طائفة من عقائدها الدينية جنبا لجنب مع عقائد أخرى تخالفها أو تتناقض معها كل التناقض. ولم تفلت العقائد المسيحية نفسها من تلك المتناقضات، كما أنها لم تفلت من تغلغل نفوذ الآراء المصرية القديمة عن الحياة الآخرة فيها؛ فنجد الآراء المصرية القديمة عن العالم السفلي وأبوابه الجهنمية وبحار اللهيب قد قامت بدورها في تصوير جهنم الحامية في الديانة المسيحية، كما أنه من المحتمل أن مملكة إله الشمس السماوية بما فيها من شجرة الحياة هي أصل فكرتنا نحن معاشر أهل الغرب عن الجنة التي في السماوات، وهي التي ظهرت فيما بعد في الصور المسيحية الفنية واضحة خلابة.
وعلى أية حال فإنه يوجد فرق ملموس بين «أوزير» و«رع»؛ فأوزير يعتبر ملك الأموات دون غيرهم، ووظيفته سلبية، حتى إنه يندر أن يقوم بعمل إيجابي حتى ولو كان لصالح عالم الأموات. ونعمة المصير الأوزيري ينحصر معظمها في التمتع بالخدمات الطيبة التي كان يقدمها «حور» قائما بدور ابن المتوفى حينما يتحول الأخير إلى «أوزير»؛ فالخدمات التي كان يقوم بها الآخرون (أي التي لا يقوم بها هو) هي التي يتمتع بها المتوفى (كما تمتع بها «أوزير» من قبل)، وبذلك بقي «أوزير» إلها للموتى.
أما «رع» فإنه كان صاحب قوة عظيمة في شئون عالم الأحياء، ومع أنه كثيرا ما يشفع للموتى فإن سلطانه الأعظم في هذا العالم الدنيوي، حيث يمتد وينمو حتى يسيطر على مملكة ذات قيم أدبية؛ وهي مملكة سنحصل منها على أقدم لمحات سنحت لنا عن كل هذا العالم، وذلك حينما نحاول الكشف عن عوامل هي فوق العوامل والمقاصد المادية التي رأينا أنها كانت فيما استعرضناه من المراحل صاحبة السيادة والسلطان على التصور المصري القديم عن الحياة الآخرة.
الفصل التاسع
السلوك، والمسئولية، وظهور النظام الخلقي
كان غرضنا من ذكر ما جاء في الفصول السالفة أن نضع أساسا نبني فوقه تلخيصا معقولا لأبحاثنا عن تطور الحياة الخلقية عند قدماء المصريين، تلك الحياة التي بدأت في التطور من عهد الاتحاد الثاني ؛ أي في الفترة التي وصلت فيها مدنية الدولة القديمة إلى أوج عظمتها بعد سنة 3000ق.م. وقد لاحظنا فيما تقدم أنه منذ عهد الاتحاد الأول [أي قبل منتصف الألف الرابع ق.م] كان موضوع الخلق الإنساني تحت محك البحث، فكان يعبر عن هذا الخلق أو ذاك في المجتمع بأنه محبوب أو مكروه (أي ممدوح أو مذموم)، ولعلنا نذكر أن تلك الحقيقة قد كشفتها لنا وثيقة يرجع تاريخها إلى بداية الاتحاد الثاني؛ وهي المسرحية المنفية، فقد رأينا فيها ترديدا لأصداء من العصر السابق لذلك وهو ما قبل نهاية الاتحاد الأول.
والواقع أن نتف المصادر الضئيلة المدونة التي وصلتنا من القرون الأربعة الأولى من عصر الاتحاد الأول لم تزد معلوماتنا إلا الشيء القليل عن المعتقدات المصرية القديمة، ولكننا نجد بعد عام 3000ق.م (أي عندما بدأ عصر الأهرام) أن المقابر الضخمة الواقعة في جبانتي الجيزة ومنف (سقارة)، وهي معروفة لكل من ساح في مصر في عصرنا هذا، قد بدأت تبدو من نقوشها صور عن المجتمع المصري المستحدث في عهد الدولة القديمة، وصرنا نرى منها بعض لمحات عن معتقداتهم الخاصة بالخلق الإنساني وبواعثه.
وأهم ما تكشفه لنا هذه اللمحات التطورات الظاهرية؛ وذلك لأن الحياة المصرية القديمة كانت تشغلها في ذاك الوقت تلك الانتصارات المادية التي لم يسبق لها مثيل؛ إذ لم يوجد شعب آخر في بقاع العالم القديم نال من السيطرة على عالم المادة بحالة واضحة للعيان تنطق بها آثاره الباقية للآن مثل ما ناله المصريون الأقدمون في وادي النيل، فقد بنى المصريون القدماء بنشاطهم الجم صرحا من المدنية المادية يظهر أن الزمن يعجز عن محوه محوا تاما. وأما الأخلاق فهي اتجاه جوهر الحياة المنوع، الذي لا يدرك باللمس واللون، من العادات والتقاليد والصفات الشخصية المشكلة بتأثير القوى الاجتماعية والاقتصادية والحكومية التي تعمل باستمرار في مناهج الحياة اليومية.
وهذه الأشياء التي تكون اتجاه الفرد وتدفع بالنفس الباطنة إلى اتخاذ موقف وقتي حاسم تكون جوا أسمى للعالم القديم يصعب تحديده، ولم يصل إلينا عنها سوى لمحات جزئية نراها في مبنى القبر واتجاه باب الهرم. وقد وجدنا عنها بعض إشارات ضئيلة في متون الأهرام وفي نصائح «بتاح حتب» المشهورة، وحتى هذه الإشارات تدور كما شاهدنا بوجه خاص حول ذكر حالة الرفاهية المادية والنعيم المقيم الذي ينعم به المتوفى في عالم الحياة الآخرة. وعلى أية حال فإن ما تكشفه لنا المصادر الباقية يعد ذا فائدة فريدة في بابها؛ إذ تظهر لنا هذه المصادر الخطوة التالية في التطور الخلقي، بعد المسرحية المنفية التي تؤلف مع تلك المصادر أقدم دور في تطور الإنسان الخلقي كما هو معروف لنا، وهو الدور الذي كون أعظم الخطوات الأساسية في تطور الحضارة. يضاف إلى ذلك أن تلك المصادر التي من عصر الأهرام لم تجمع
1
معا قط من قبل؛ ولذلك فإنني عندما جمعتها لتدوينها من أجل وضع هذا الكتاب لم تكن دهشتي لكثرتها فقط، بل كانت دهشتي أكثر عندما أدركت أنها تصور لنا الحياة في الأسرة عند قدماء المصريين بصورة لا تدع مجالا للشك في أنها هي العامل الأول في ظهور الأفكار الخلقية ونموها؛ فقد كان المصري في عصر الأهرام يشعر بوجود جو من الوازع الخلقي يزعه، حتى إن متون الأهرام قد أظهرت لنا الآن ذلك الوازع مطلا على ما قد مضى من تلك العصور التي لم تكن تعرف معنى للخطيئة والشجار بين «أفراد تلك الجماعة الأولى» من طائفة الأبرياء الذين ولدوا قبل أن يوجد «الشجار» و«الصوت» و«السب» و«النزاع» أو «التشويه المروع»
2
الذي ارتكبه كل من «حور» و«ست» ضد الآخر. على أن الاعتقاد بوجود عصر للمثال الأعلى، أو على الأقل بوجود عصر للعدالة والسلام يجب أن نربط بينه وبين ذلك العصر الذي يشار إليه في متون الأهرام بأنه العصر الذي «قبل أن يظهر فيه الموت».
وفي ذلك العصر المبكر لأقدم جماعة بشرية وصلت إلينا أخبارها، ساد الاعتقاد بأن حق كل فرد في التحلي بالأخلاق الفاضلة يمكن أن يقوم على أساس النهج والسلوك اللذين يعامل بهما أفراد أسرته، وهم والده ووالدته وإخوته وأخواته. وهذه الحقيقة تعتبر ذات قيمة بالغة ومكانة عظيمة في ذلك البحث الجليل، وقد أكدها لنا أحد أشراف رجال الوجه القبلي الذي كان يعيش في القرن السابع والعشرين ق.م؛ إذ قال في نقوش قبره بعد أن عدد لنا كثيرا من أعماله الطيبة: «إني لا أقول كذبا؛ لأني كنت إنسانا محبوبا من والده، ممدوحا من والدته، حسن السلوك مع أخيه، ودودا لأخته.» كما نجد بعد فترة من تاريخ هذا النقش أن أحد المقربين من الملك من أهل الصعيد الأقصى يؤكد أيضا: «إن الملك مدحني، وترك والدي وصية لمصلحتي؛ لأني كنت طيبا ... وإنسانا محبوبا من والده ممدوحا من والدته ويحبه كل إخوته.» وكثيرا ما نرى الأشراف في عهد الأهرام يجمعون صفاتهم الحسنة في العبارة الآتية: «كنت إنسانا محبوبا من والده وممدوحا من أمه، محبوبا من إخوته وأخواته.»
وكان البر بالوالدين من أهم الفضائل البارزة في عصر الأهرام، فإننا نجد مذكورا في النقوش القديمة مرارا وتكرارا في جبانات الأهرام أن المقابر الضخمة التي بها، كانت من صنع الأبناء البررة لآبائهم المتوفين، وأن الابن كان يعد لوالده مدفنا فاخرا، بل إن أحد الأبناء من أهالي ذلك العصر قد فاق كل من كان سواه من الأبناء في بره بوالده، فقد ذكر في نقوش قبره ما يأتي:
والآن قد عملت على أن أدفن في نفس القبر مع «زاو» هذا (يعني والده) لكي أكون معه في مكان واحد، على أني لم أفعل ذلك لأني لست في مكانة تؤهلني لبناء قبر ثان، بل فعلته حتى أتمكن من رؤية «زاو» هذا كل يوم، ولكي أكون معه في المكان عينه.
ولدينا حالة أخرى أعظم من هذا في بر الابن بأبيه أيضا، وهي قصة «سبني» (حارس الباب الجنوبي)؛ أي المحافظ على الحدود المصرية من جهة السودان عند شلال النيل الأول، فقد حدث أن «مخو» والد «سبني» قد قام برحلة خطيرة في قلب السودان طلبا للاتجار، وهناك انقض عليه بعض القوم من الهمج وذبحوه، فلما سمع ابنه «سبني» بذبح والده قام على الفور برحلة تحفها المخاطر في قلب ذلك الإقليم المعادي، واستخلص منه جثمان والده بعد أن تعرضت حياته خلال ذلك للموت، وأحضر جثمان والده ليحفظ في مصر. ولا يزال قبر «سبني» باقيا في أسوان حتى الآن، ويحتوي ذلك القبر على النقوش الدالة على ما قام به الابن «سبني» نحو أبيه «مخو» من ضروب الشجاعة لاستخلاص جثمان والده المذكور من أيدي أولئك الأعداء الهمج في زمن عصر الأهرام العتيق.
على أن الأدلة المنقوشة على تلك الآثار التي تركتها لنا أقدم طائفة أرستقراطية عرفت في التاريخ القديم يؤيد صحتها وجود تلك الرسوم الجميلة الزاهية الألوان التي كانت تلك الأسر الشريفة قد اعتادت أن تزين بها جدران مزارات القبو، وبخاصة تلك التي بقيت إلى يومنا هذا بجبانات منف المترامية الأطراف. وتعرف تلك الجبانات الآن بجبانة «سقارة»، وإن تلك المناظر الفخمة التي نجدها أحيانا حافظة لألوانها الأصلية الزاهية للآن ليست في الواقع إلا بيانا خلابا عن الحياة اليومية لأشراف عصر الأهرام.
وتلك المناظر المذكورة تؤلف في وقتنا هذا صورة جذابة يتمتع بمشاهدتها للآن غالب رواد وادي النيل، والسائحون الذين يفدون زرافات ووحدانا في كل شتاء إلى مصر لمشاهدة آثارها القديمة. غير أني أشك كثيرا في أن واحدا من أولئك السائحين الذين يمتطون ظهور الحمير فتسير بهم وسط خمائل النخيل التي تغطي الآن طرقات مدينة «منف» القديمة وبيوتها يفقه أن ما يراه ويشاهده الآن في أطلال جبانة مدينة «منف» يعد أقدم مظهر عرف لنا في التاريخ عن حياة الأسرة، وعندما يجتاز ذلك الزائر الحديث خمائل النخيل المذكورة يقع بصره على منحدرات من كثبان الرمال المنتهية إلى قمة هضبة صحراوية تغطيها الرمال. تلك هي جبانة «منف» القديمة، ومن ثم يمكنه أن يطل على ما بقي من آثار تلك المدينة الشاسعة الأطراف التي تغطيها الآن الحقول الزاخرة بالزرع والنخيل الدانية القطوف.
ففي هذه البقعة كان يسكن أهل أولئك الأجيال الأقدمون البائدون في مدينة عظيمة أقاموها منذ آلاف مضت من السنين، وعند نهاية أجلهم كانوا يحملون إلى تلك الهضبة التي يصعد إليها الآن ذلك الزائر الحديث، حيث كانوا يدفنون فيها في مقابر فسيحة مبنية بالحجر الجيري الضخم، وتلك المقابر القديمة التي يبلغ عمرها الآن حوالي خمسة آلاف من السنين ترى الآن صامتة خربة تغطيها الرمال القاحلة، غير أنه ما زال في مكنتنا أن ندخل مزارات تلك المقابر ونتجول في حجراتها.
وجدران تلك الحجرات مغطاة بكثير من النقوش والمناظر ذات الألوان الزاهية التي تمثل لنا صورا من الحياة القديمة،
3
ففي تلك المناظر المحفورة نشاهد صاحب إحدى تلك الضياع التي كانت تحيط بمدينة «منف» منقوشا على الجدار بحجم عظيم وهو يقوم بالإشراف على رجال ضيعته الذين نقشوا معه في الصورة بحجم أصغر منه كثيرا، فنراه يتفقدهم وهم يبذرون الحبوب أو يحصدون محاصيل الحقول أو يسوقون الماشية والقطعان غادين أو رائحين، أو يخوضون ترع الري أو يعملون في أحواض بناء قواربهم أو حوانيت تجارتهم أو مصانع عمل النحاس أو مكان صنع الفخار، وغير ذلك من مئات الصور التي تنبئنا عن كثير من نواحي نشاطهم وأعمالهم في حياتهم الدنيوية.
بهذا قد صورت على تلك الجدران جميع مظاهر حياتهم الواسعة النطاق من زراعة وتربية ماشية وصناعة مما درجت على أساسه تلك المدنية القديمة وترعرعت. وترى فيها الشريف المصري القديم يصحب معه زوجته في كل تلك الجولات الفسيحة في أرجاء ضيعته الشاسعة، فكانت ترى تتهادى بجانبه حينما كان يدخل من الباب العظيم المؤدي إلى حديقته الغناء التي أقيمت في وسطها كرمته البهيجة، فكانت زوجته في الواقع تشاطره كل حياته وكل أعماله كما كانت ترافقه في الوقت نفسه في كل لحظة، وكانت أطفالهما في صحبتهما دائما. ومن أمتع المناظر التي نشاهدها بين تلك الصور المنقوشة على جدران تلك القبور منظر يصور لنا طفلا صغيرا يجري بجانب والده ويقبض بإحدى يديه على هدهد صغير، كما نشاهد رب البيت يصطاد في المستنقعات المخصصة لذلك الغرض وبجانبه زوجته وطفله، وكلهم في قارب من القصب يسبح بهم بين أزهار البردي الطويلة. ويلاحظ في هذه الصورة أن الطفل كان منحنيا نحو الماء ليقطف زهور السوسن المائية. أو نشاهد كذلك الشريف مرسوما جالسا بحديقته، وأطفاله أمامه يلعبون الكرة أو يعبثون في ماء بركة الحديقة وهم يصطادون السمك .
وهذه النقوش التي نشاهدها على مقابر «منف» تمثل حياة نحو 500 سنة؛ أي من 3000ق.م إلى 2500ق.م أو بعد ذلك، وهي تؤلف أول مظهر معبر عن حياة الأسرة بقي لنا من العالم القديم. وكان الاعتبار الأول في اهتمامنا بتلك الرسوم حتى الآن أنها آثار فنية، ومصادر نستقي منها معلوماتنا عن حياة المصريين الأقدمين في الزراعة والرعاية والصناعة، ثم إلى حد ما عن الحياة الاجتماعية عندهم. على أن العلاقات الأسرية المرحة المنطوية على الود، التي تنطق بها تلك النقوش تعد كشفا جديدا ذا أهمية أساسية في تاريخ الأخلاق؛ وذلك لأن هذه الصورة، مضافا إليها النقوش المدونة فوق جدران القبور، مع حكم «بتاح حتب» التي سنرود مجاهلها بعد، تقدم لنا برهانا تاريخيا قاطعا على أن الإدراك الخلقي نبتت جذوره من حياة الأسرة.
ومن ذلك يتضح أنه هنا، في المصادر المصرية التي يرجع عهدها إلى النصف الأول من الألف الثالث لما قبل الميلاد، نجد مجموعة من الأدلة تظهر لنا تاريخيا لأول مرة ما وصل إليه علماء النفس الاجتماعيون المحدثون من ملاحظاتهم عن حياة الإنسان كما نجده في عصرنا الحاضر. وإني أشير بذلك إلى ما وصلوا إليه من «أن الوازع الخلقي في حياة الإنسان نبت من المؤثرات التي تعمل في العلاقات الأسرية.» وفي ذلك يقول مكدوجال:
4 «فمن هذه العاطفة (أي حنان الوالدين)، ومن الدافع الذي يحدو بها إلى الحب والرعاية، ينشأ الكرم والاعتراف بالجميل والحب والشفقة وحب الخير الحقيقي وكل أنواع الخلق المجردة عن الأنانية، ففي تلك العاطفة تنبت الجذور الرئيسية لكل تلك الصفات التي لولا هذه العاطفة ما وجدت قط.» ويشير «مكدوجال» وهو يناقش التطور الذي تمر به مثل تلك العواطف إلى الحقيقة القائلة: «إن كل غلطة ترتكب ضد الطفل الذي يعد موضع حنان والديه يكون من نتائجها المحتومة إثارة الغضب والحقد.» ثم يستمر فيقول: «وهذه الرابطة الوثيقة بين عاطفتي الحنان والغضب تعد من الأهمية بمكان في حياة الإنسان الاجتماعية، ويعد فهمها على حقيقتها أمرا أساسيا لتكوين نظرية صحيحة عن العواطف الخلقية؛ وذلك لأن الغضب الذي يثار بتلك الكيفية هو جرثومة كل سخط خلقي. وعلى السخط الخلقي بنيت بصفة عامة أركان العدالة، والجزء الأكبر من القوانين العامة؛ ولذلك يتضح بالرغم مما قد يظهر من تضارب، أن كلا من الرأفة والعقاب تضرب بوشائجها العريقة في الغريزة الأبوية.»
وعلى ذلك نجد أن كلا من آثار مقابر عصر الأهرام و«حكم بتاح حتب» التي سنأتي على ذكرها، بالرغم من أنهما لا يمثلان إلا مرحلة ثانوية في التطور الخلقي عند الإنسان في العالم القديم، يلقيان بالبديهة ضوءا مفيدا على المرحلة الأولى التي سبقت عصرهما من التقدم الإنساني من تلك الوجوه، وذلك حينما نلاحظ أن تلك المصادر تمثل لنا صورة حقة عن عواطف المحبة في حياة الأسرة من جهة علاقتها الوثيقة بالشعور الأخلاقي، وأن معلوماتنا عن الحياة البشرية البدائية نجدها اليوم لها أهمية عظيمة جدا من هذه الناحية بالذات. وقد لخص «وستر مارك» بدقة ملاحظات علماء الجنس البشري عند فحص ما بقي لنا من الحياة الفطرية في قوله: «توجد حقائق كثيرة جدا يمكن في الواقع اقتباسها للدلالة على أن حنان الوالدين لم يكن نتيجة من نتائج المدنية الحديثة، بل هو ظاهرة طبيعية للعقل البشري المتوحش كما هو معروف لنا.»
5
فمنذ العصور المتوغلة في القدم كانت مثل تلك المشاعر موجودة بلا أقل شك، وذلك وقت أن كان نضوب المياه في هضبة شمال أفريقيا يضطر الصيادين المتوحشين إلى النزول إلى وادي النيل، وكانت تلك المشاعر تنمو في ظلال فترة ذلك التطور التاريخي الذي انتهى بالاتحاد الأول للبلاد الذي لم يتجاوز عمره سنة 4000ق.م. وبعد ذلك التاريخ بخمسمائة سنة؛ أي في القرن الخامس والثلاثين ق.م ظهرت أمامنا أقدم الحقائق المدونة؛ ونعني بذلك المسرحية المنفية، وبعد سنة 3000ق.م كشفت لنا جبانة «منف» وحكمة «بتاح حتب» عن مرحلة أكثر تقدما من سابقتها في حياة الإنسان الخلقية التي كان يتسع مجالها باطراد.
وعلى ذلك فإننا نتناول في مصادر الدولة القديمة أقدم طائفة من البيانات التي تكشف لنا تاريخيا أن آراء الإنسان الخلقية هي من ثمرات معالجته للشئون الاجتماعية، وتكون جزءا من التطور الاجتماعي. وهذا الاستنتاج التاريخي يتفق تمام الاتفاق مع الملاحظات الاجتماعية الحديثة، كما ذكرنا ذلك فيما تقدم بالنسبة للأسرة. وقد أصاب «جرين»
6
حيث قال: «إنه لا يمكن لإنسان ما أن يكون لنفسه ضميرا، وإنه يحتاج دائما إلى الجماعة لتكونه له.»
فنحن إذن نرقب في هذا العصر العتيق النواحي الراقية لمنهاج في التطور لا يمكن أن نلاحظ مثله في أي عهد آخر قديم من تاريخ حياة الإنسان بأية جهة أخرى، ونتأمل ظهور شعور بالمسئولية الخلقية في الوقت الذي كانت فيه تلك المسئولية قد بدأت تأخذ تدريجا شكل قوة وازعة متزايدة تسيطر على سلوك الإنسان، وهو تطول يسير متجها نحو توطيد مكانة «الضمير» حتى يصير قوة اجتماعية ذات نفوذ في حياة البشر أجمعين.
يدل على ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه مدى السلوك الحسن محصورا على الأرجح في أول الأمر في دائرة الأسرة، فإن نطاقه قد أخذ يتسع حتى صار يشمل الجيرة أو الطائفة قبل عصر الأهرام بزمن طويل. فمن ذلك أننا نجد أن أحد الموتى يقص علينا في نقوش قاعدة تمثال جنازي له منصوب في قبره، وقد صوره المثال بصورة ناطقة له كأنها هو: «لقد طلبت إلى المثال أن ينحت لي هذه التماثيل، وقد كان مرتاحا للأجر الذي دفعته إليه.» كما يقول مدير ضيعة يدعى «مني» في نقوش مأخوذة من مقبرته التي من عهد الأسرة الرابعة (2900-2750ق.م) وموجودة الآن في متحف «جلبتوتيك» بمدينة مونيخ ما يأتي: «أما فيما يخص كل رجل عمل هذا لي (أي ساهم في إقامة هذا القبر) فإنه لم يكن قط غير مرتاح، سواء أكان صانعا أم حجارا، فإني قد أرضيته.» فمن الواضح جدا أن كلا من ذينك الرجلين أراد أن يعلن أنه حصل على معداته الجنازية من طريق شريف، وأن كل من عمل في إعدادها قد تسلم أجره كاملا غير منقوص.
وكذلك ترك لنا أحد حكام المقاطعات ممن عاشوا في القرن السابع والعشرين ق.م البيان التالي عن حياته الصالحة حيث يقول: «لقد أعطيت خبزا لكل الجائعين في «جبل الثعبان» (ضيعته) وكسوت كل من كان عريانا فيها، وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير ... ولم أظلم أحدا قط في ممتلكاته حتى يدعوه ذلك إلى أن يشكوني لإله مدينتي، ولكني قلت وتحدثت بما هو خير. ولم يوجد إنسان كان يخاف غيره ممن هم أقوى منه حتى جعله ذلك يشكو للإله. ولقد كنت محسنا لأهل ضيعتي بما في حظائر ماشيتي وفي مساكن صيادي الطيور، وإني لم أنطق كذبا؛ لأني كنت امرأ محبوبا من والده ممدوحا من والدته رفيع الأخلاق مع أخيه، وودودا [لأخته].»
ونجد مرارا وتكرارا أن أولئك الناس القدماء الذين مضى على انقضاء زمنهم نحو 4000 أو 5000 سنة يؤكدون لنا براءتهم من عمل السوء؛ فيقص علينا رئيس أطباء الملك «سحورع» في منتصف القرن الثامن والعشرين ق.م ما يأتي: «إني لم آت أي سوء قط ضد أي إنسان.»
وبعد ذلك العهد بقليل نجد كاهنا يقول نفس ذلك الكلام أيضا: «إني لم أرتكب أي عنف ضد أي إنسان.» وبعد ذلك العهد بقرن أيضا نجد كذلك مدنيا رقيق الحال قد أقام نصبا على واجهة قبره ليقرأه الأحياء منقوشا عليه الخطاب التالي:
أنتم أيها الأحياء الذين على وجه الأرض المارون بهذا القبر، جودوا بقربان جنازي مما عندكم فيؤتى به إلي؛ لأني كنت إنسانا محبوبا من الناس، فلم أجلد قط في حفرة أي موظف منذ ولادتي، ولم أستول على متاع أي شخص قسرا، وكنت أفعل ما يرضي جميع الناس.
ونرى مثل ذلك في نقش قبر آخر لإنسان كان على ما يظهر موضع اهتمام جيرانه؛ إذ يقول:
لقد فعلت ما كان يحبه الناس ويرضي الآلهة حتى يجعلوا بيت أبديتي (أي قبره) يبقى، واسمي موضع الحمد على ألسنة الناس.
ويتضح من مثل تلك الخطابات التي كانت توجه إلى الأحياء أن أهم غرض كان يرجوه المتوفى من الإدلاء بتلك التأكيدات الدالة على حسن سيرته في المجتمع؛ هو استدرار عطف الأحياء من جيرانه عليه حتى يقدموا له القرابين الجنازية من الطعام والشراب عند قبره.
وقد كان المتوفى في اعتقاد القوم عرضة لأن يطلب للمحاسبة فيما بعد الموت عن أي خطأ يكون قد ارتكبه أو ظلم اقترفه أثناء حياته الدنيوية، فيقف هناك أمام إله الشمس الذي كان يجلس بصفته القاضي الأعلى لمحكمة العدل أسوة بمحاكم عالم الدنيا، ولذلك وضع «مني» مدير الضيعة - الذي سبق أن لاحظنا عنه فيما تقدم اهتمامه بدفع أجور العمال ممن قاموا ببناء قبره - التحذير الآتي على واجهة باب قبره: «إن التماسيح ستكون ضده في الماء! والثعابين ضده على اليابس، جزاء لكل من يقترف أي سوء ضده (أي ضد قبره)، فإن الإله العظيم هو الذي سيحاكمه من أجل ذلك.» وعلى ذلك يتضح أن القيم الأخلاقية كان لها تقديرها في نظر الآلهة مما يجوز أن يؤثر ماديا على سعادة المتوفى في الحياة الآخرة.
وكلا الباعثين قد وجدا مجتمعين في خطاب واحد موجه للأحياء على باب مقبرة «حرخوف» الألفنتيني الموطن، الذي توغل في السودان في القرن السادس والعشرين ق.م، والذي يعتبر أكبر الرواد القدامى الذين جابوا مجاهل أفريقيا، وقد نحت قبره في الصخور الغربية المطلة على بلدة «أسوان» الحالية، حيث يمكن لأي سائح قوي الساقين أن يتسلقها لزيارة ذلك القبر. ومن بين ما نقشه على واجهة ذلك القبر قصة حياته المليئة بالمخاطرات، ومنها قوله: «كنت ... محبوبا من والده، ممدوحا من والدته، يحبه كل إخوته، ولقد أعطيت خبزا للفقير وملابس للعريان وعديت من لا قارب له. وأنتم أيها الأحياء الذين على وجه الأرض والمارون بهذا القبر، سواء أكنتم نازلين مع النهر أم صاعدين فيه، قولوا: ألف رغيف وألف إناء جعة (تقدم) لصاحب هذه المقبرة؛ وإني في مقابل ذلك سأشفع لكم في العالم السفلي؛ لأني إنسان مجهز «بالسحر»، وكاهن مرتل فمه على علم. وأما من يدخل هذا القبر مدعيا ملكيته الجنازية فإني سأقبض عليه كما يقبض على طائر بري، وسيحاكم على ذلك أمام الإله العظيم. وإني كنت إنسانا يقول الحسن ويردد المحبوب، ولم أنطق قط بأي شيء قبيح لرجل صاحب سلطان ضد أي إنسان، وقد كانت غايتي أن تكون حالتي حسنة أمام الإله العظيم، على أني لم أفصل بين أخوين بما يحرم ابنا متاع والده.»
ويلاحظ في ذلك الخطاب أن التهديد بالمحاكمة لم يستعمل فقط لمنع الإنسان الخارج على القانون من الاستيلاء على قبر المتوفى، بل إن له، فضلا عن ذلك، مغزى آخر هو فكرة المحاكمة التي تعبر عن المسئولية الخلقية فيما بعد الموت، وإنها بالتأكيد هي الباعث الذي حدا بذلك الرائد العظيم أن يعيش عيشة فاضلة؛ أي إن غرض المتوفى أن يتوقف مصيره على حياته اليومية في عالم الدنيا؛ مثال ذلك قوله: «لقد رغبت في أن يحسن حالي في حضرة الإله العظيم.» ومن ذلك نعرف أنه كان ينتظر طوال حياته احتمال وقوفه أمام الحضرة الرهيبة فيما بعد الموت ليحاسب على كل سيئة يكون قد ارتكبها في أثناء حياته الدنيوية.
ولا شك أن تدوين مثل تلك الأقوال في جبانات عصر الأهرام (أي منذ خمسة آلاف سنة) لم يكن أمرا قليل الأهمية والجدوى؛ لأنه أقدم برهان على الشعور بالمسئولية الخلقية عند قدماء المصريين في عالم الحياة الآخرة؛ إذ نجد في بلاد أخرى - بعد مرور ما يربو على ألفي سنة من ذلك التاريخ - أن الخير والشر كانا يحالان معا إلى عالم واحد من عالم الأموات من غير أن يكون بينهما أي تمييز، فكأن ما ذكرناه عن ذلك فيما تقدم كان مشهدا خلقيا فريدا لا نظير له ننظر من خلاله ذلك التسامي رغم ما يحيط به من حالك الظلام الكثيف، فكان مثله مثل شعاع الشمس ينفذ في حوالك الظلمات.
على أن الوازع الخلقي لم يبق منحصرا نفوذه في العوامل الشخصية، مقتصرا على علاقة الإنسان بأسرته وجيرانه أو المجتمع الذي يعيش فيه فحسب، بل كان قد بدأ تأثيره يظهر في ذلك الزمان في الأوساط العليا من المجتمع البشري، حتى صار تأثيره يظهر في واجبات الحكومة نحو عامة جميع الشعب ولو أدى تنفيذ تلك الواجبات إلى عدم رعاية حقوق الأسرة أصلا. فقد وجدنا في عصر مبكر مثل عصر الأهرام أن الوزير العادل «خيتي» قد صار مضرب الأمثال بسبب الحكم الذي أصدره ضد أقاربه عندما كان يرأس جلسة للتقاضي كانوا فيها أحد الطرفين المتخاصمين؛ إذ أصدر حكمه ضد قريبه دون أن يفحص وقائع الحال، وكان ذلك منه تورعا عن أن يتهم بمحاباة أسرته أو ممالأتها ضد خصومها. وقد جاء في أحد النقوش القديمة التي تعرضت لإعادة ذكر الحادث: «وحينما أراد واحد منهم أن يستأنف الحكم ... فإنه (أي الوزير) صمم على رأيه الأول.» وبعد مضي ألف وخمسمائة سنة على ذلك الحادث كان اسم «خيتي» المذكور يقتبس في الحياة الحكومية مثلا للإجحاف بالغير يجب ألا يحتذى حذوه. وقد أخبر الفرعون وزراء القرن الخامس عشر ق.م «أن الحكم المشهور الذي أصدره «خيتي» السالف الذكر كان أكثر من العدالة»؛ لما فيه من الشطط في التحرز عن محاباة الأقارب.
وتحتوي متون الأهرام أيضا على أدلة قاطعة لا تقبل الشك على أن طلبات «العدالة» و«الحق» كانت قوتهما أقوى من سلطان الملك نفسه، فلم يكن الملك معفى من القيام بما تحتاجه قبور الأشراف، التي تنطق نقوشها بأنهم كانوا مهتمين بإقامتها كل اهتمام، وكان الإله الذي يعمل الملك على إرضائه هو «رع»، وهو نفس الإله الذي كانت تعمل الرعية على إرضائه. وإليك ما جاء في أحد النقوش: «لا توجد سيئة اقترفها الملك «بيبي»، وهذه الكلمة ذات وزن في نظرك يا «رع».» ونجد في صيغة شمسية الطراز أن نوتي «ع» يخاطب هكذا: «أنت يا من تعبر بالبريء الذي لا سفينة له، يا نوتي حقل القصب، إن الملك «مريرع» (بيبي الأول) عادل أمام السماء والأرض.» ومن ذلك أيضا: «إن هذا الملك «بيبي» بريء، إن هذا الملك «بيبي» ممدوح.» وكذلك كان «نجم الصباح» (وهو إله شمس) يقدر المركز الخلقي لفرعون المتوفى، فترى في النقش ما يأتي: «أنت يا «نجم الصباح» اجعل «بيبي» هذا يجلس لأنه بريء، واجعله يرتفع لأنه مبجل.» وكان لا بد بالطبع من تحديد قيمة المتوفى الخلقية بصفة قانونية وإجراء قانوني طبقا لما وهبه المصري القديم من الإدراك القانوني الحاد؛ فقد رأينا أن الأشراف يشيرون إلى المحاكمة في نقوش قبورهم، وأن الملك نفسه عرضة لهذه المحاكمة، بل إن الآلهة لا يفلتون منها؛ إذ قد ذكر أن كل إله يساعد الفرعون في رفعه إلى السماء يبرأ أمام «جب» (إله الأرض).
على أن الفرعون الذي أعلنت براءته ورفع إلى السماء بتلك الكيفية كان يستمر في إظهار نفس الصفات الحسنة في القيام بأعمال ملكه السماوي الذي يسند إليه: «إنه يقضي بالعدل أمام «رع» في يوم العيد (المسمى) رأس السنة، فالسماء في سرور، والأرض في حبور حينما سمعا أن الملك «نفر كارع» (بيبي الثاني) قد أقام العدل [مكان الباطل]، والذين يجلسون مع الملك «نفر كارع» في قاعة العدل مرتاحون للقول الحق الذي خرج من فمه.» ومما يلفت النظر أن الملك كان يقضي بتلك العدالة في حضرة «رع» إله الشمس، وكذلك نجد تصريحا شمسيا يؤكد بأن الملك «وناس» قد «أقام العدل فيها (أي في الجزيرة التي استقر فيها) مكان الباطل.»
ونجد في القرن الثامن والعشرين ق.م أن أحد ألقاب الملك «وسركاف» الرسمية لقب «مقيم العدالة» (ماعت)، وعلى ذلك نرى أن اعتبار الملك الراحل إلى السماء حاكما بها (أي بالعدالة «ماعت») في الحياة الآخرة إن هو إلا استقرار للنظام الخلقي الذي كان يرعاه فوق الأرض، ولذلك تقص علينا متون الأهرام: «أن الملك «وناس» يخرج للعدالة (يعني ماعت) ليأخذها معه (أي ماعت).»
وكذلك تقص علينا متون الأهرام: «أن الملك «وناس» يخرج في يومه هذا ليتمكن من إحضار العدالة (ماعت) معه.»
ولمناسبة التأمل في لقب الملك «وسركاف» الملكي السالف الذكر يتجه نظرنا إلى ذكرى أخرى ممتعة؛ وهي أنه في خلال حكم تلك الأسرة ختم أحد وزرائها العظام مجموعة من حكمه الطريفة بالكلمات الآتية: «لقد بلغت من العمر العاشرة بعد المائة، منحني الملك في خلالها هبات تفوق هبات الأجداد؛ لأني أقمت العدل للملك حتى القبر.» فهذا الوزير الأول الذي فاه بذلك البيان هو «بتاح حتب» الذي اعتزل منصب الوزير الأول للملك «إسيسي» أحد ملوك الأسرة الخامسة في القرن السابع والعشرين ق.م. وليس من شك في أن «بتاح حتب» هذا بلغ سن الرجولة الناضجة في عهد الفرعون «وسركاف»، وبذلك يمكننا أن نرى بعض الصلة بين قول ذلك الوزير الحكيم: «إني أقمت العدل» وبين لقب «وسركاف» الرسمي وهو «مقيم العدالة».
وإن حكم «بتاح حتب» تمدنا بأقدم نصوص موجودة في أدب العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم، وفي حين أنه لم يصلنا من العهود السابقة لها سوى نتف مبعثرة للتعبير عن السلوك الخلقي، وعن التقدم المدهش في مجاري الإدراك الخلقي الذي وصل إليه الإنسان في عهد الاتحاد الثاني، فإننا نجد أن حكم «بتاح حتب» الغزيرة المادة تلخص لنا مقدارا كبيرا من أدب ذلك العصر. وحينما شعر ذلك الوزير المسن بضعفه الناشئ من تقدمه في السن، كما ذكره هو في مقدمة حكمه، طلب إلى الملك أن يسمح له بتعليم ابنه (أي ابن الوزير) ليعده للقيام بأعباء الواجبات الحكومية حتى يكون مساعدا لوالده وخلفا له، وقد وافقه الملك على ذلك، وحينئذ قام الوزير الكبير بالنصح لابنه بألا يسيء استعمال الحكمة التي سيلقنه إياها، بل ينتهج سبيل التواضع، فيقول: «لا تكونن متكبرا بسبب معرفتك، فشاور الجاهل والعاقل؛ لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك عالم بلغ في فنه حد الكمال، وإن الكلام الحسن أكثر اختفاء من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فإنه يوجد مع الإماء اللائي يعملن في إدارة حجر الطاحون.» ثم يعقب ذلك ثلاث وأربعون فقرة تحتوي على نصائح مختلفة المواضيع، لم يبذل أي جهد لترتيبها أو تنظيمها، بل كتبت كل فقرة منها عفو الخاطر بحسب ما كان يخطر في ذهن رجل مسن حنكته تجاريب الحياة ومسئولياتها التي أراد أن يطرحها عن كاهله إلى كاهل غيره.
ويؤكد في حكمه التأكيد القوي وجوب مراعاة حسن الذوق واستعمال الذهن الذي أطلق عليه كالمعتاد كلمة «القلب»، وأحسن الصفات القيمة التي يجب على الشاب أن يتحلى بها أن يكون قادرا على الإصغاء أو الطاعة [يقابلها حرفيا: يستمع] فنجده يقول: «إن المستمع هو الذي يحبه الإله، أما الذي لا يستمع فإنه هو الذي يبغضه الإله. والعقل (القلب حسب النص الأصلي) هو الذي يجعل صاحبه مستمعا أو غير مستمع، إن ثروة المرء العظيمة هي عقله ... فما أفضل الابن عندما يصغي لأبيه، والابن إذا وعى لما يلقيه عليه والده فإنه لن يخيب في مشروع من مشروعاته. وعليك أن تعلم من يستمع إليك كأنه ابنك، ومن سيكون ناجحا في نظر الأمراء، ومن يوجه فهمه حسبما يقال له ... ما أكثر المصائب التي تنزل بمن لا يستمع. والرجل العاقل يبكر في الصباح ليصلح من شأن نفسه، أما الجاهل فإنه يصبح في حالة ارتباك، كما أن الأحمق الذي لا يستمع، فإنه لم يسئ إليه أحد، بل هو يعتبر الحكمة جهلا، وما يفيد كما لا نفع يرجى منه. والابن المطيع (الذي يستمع) ... يصل إلى الشيخوخة وينال الاحترام، وهو يتكلم بدوره لأولاده معيدا لهم نصائح والده ... فهو إذن يتحدث لأولاده وهم بعد ذلك يتحدثون لأولادهم.»
من ذلك يتضح أنه منذ القرن السابع والعشرين ق.م كان السلوك قد أصبح أمرا تقليديا وحكمة ذات معيار يرثها الابن عن أبيه.
وكان للنجاح الدنيوي المكانة السامية؛ إذ ذاك، وكانت السبل للتحقق من الوصول إليه عظيمة الأهمية؛ ولذلك شغلت هذه الأمور نحو ثلث نصائح ذلك الوزير المسن (أي 14 فقرة من 43 فقرة). وبعض هذه النصائح يوصي بالتخلق بالحذر في حضرة العظماء، حتى إن بعض فقراتها تعرفنا آداب المائدة في حضرة الرئيس، فتقول: «خذ ما يقدم لك حينما يوضع أمامك دون أن تنظر إلى ما هو أمامه، ولا تصوبن لحظات كثيرة إلى الرئيس؛ أي لا تحملق فيه، وانظر بمحياك إلى أسفل إلى أن يحييك، وتكلم فقط بعد أن يرحب بك، واضحك حينما يضحك، فإن ذلك يدخل السرور على قلبه، وما تفعله يكون مقبولا؛ لأن الإنسان لا يعلم ما في القلب.» ومن المهم جدا ألا يكون الإنسان كثير الكلام في أي موقف، وأن يتجنب على وجه خاص السلوك العدائي والتعجرف على الناس.
وقد خصص جزء أكبر بكثير مما تقدم إلى الحكمة الصائبة في تسيير أعمال الإنسان الرسمية، فمن ذلك قوله: «إذا كان رئيسك فيما مضى من أصل وضيع فعليك أن تتجاهل وضاعته السابقة واحترمه طبقا لما وصل إليه؛ لأن الثمرة لا تأتي عفوا، ولا تعيدن قط كلمات حمقاء خرجت من غيرك في ساعة غضب، والزم الصمت فإنه أحسن من أزهار «تفتف»، وتكلم فقط إذا كنت تعلم بأنك ستحل المعضلات، وإن الذي يتكلم في المجالس لفنان (يعني في الكلام) وصناعة الكلام أصعب من أية حرفة أخرى، وعليك أن تقدم للأمير النصيحة التي تساعده؛ لأن قوتك يتوقف على مزاجه، وبطن الرجل المحبوب تملأ وظهره يكسى تبعا لذلك. كن عميق القلب نزر الكلام ... وكن ثابت الجنان طوال كلامك، فعسى أن يقول الأمير الذي يسمع كلامك: ما أصوب الكلام الذي يخرج من فمه!»
والدافع البديهي لمثل تلك النصيحة هو اتباع سياسة دنيوية مبنية على اليقظة والتفطن. ومن المدهش أنها لم تلوث بشيء يذكر من العقيدة الميكيافلية
7
في مثل ذاك العهد العريق في القدم. ومن الواضح أن ذلك السياسي المسن كان ذا نظرة خارقة في انتهاز الفرصة الهامة لمصلحته، مع أنه في الوقت نفسه لم يحرم حاسة الإدراك لما هو أثمن من ذلك، وعلمه بتقلبات ظروف الحياة الإنسانية قد علمه التواضع، ولذلك قال ينصح ابنه: «إذا أصبحت عظيما بعد أن كنت صغير القدر وصرت صاحب ثروة بعد أن كنت محتاجا ... فلا تنسين كيف كانت حالك في الزمن الماضي، ولا تفخر بثروتك التي أتت إليك منحة من الإله (أي الملك)، فإنك لست بأفضل من غيرك من أقرانك الذين حل بهم ذلك.» وفضلا عن ذلك فإن حياة الموظف المدني محفوفة بالمخاطر، ولذلك يقول: «احذر الأيام التي يمكن أن يأتي بها المستقبل.» وإذن من الحكمة أن تكون سخيا مع غيرك بحسن نية عملا للمستقبل؛ وفي ذلك يقول: «أشبع أصدقاءك بما جد لك بسبب نيلك الحظوة عند الإله (أي الملك)؛ إذ لا أحد يعرف مصيره إذا فكر في الغد، وإذا اعتور حظوته لدى الملك شيء، فإن الأصدقاء هم الذين لا يفتئون يقولون: مرحبا ... فعليك أن تستبقي ودهم لوقت السخط الذي يهدد الإنسان، ولكن سترى فيما بعد: أنه حينما تسوء حالك فإن فضيلتك ستكون فوق أصدقائك.»
ويجب على المرء أن يتحرى أخلاق أصدقائه: «فإذا كنت تبحث عن أخلاق من تريد مصاحبته فلا تسألنه عن شيء، ولكن اقترب منه وتعامل معه، على انفراد معه، وامتحن قلبه بالمحادثة، فإذا أفشى شيئا قد رآه أو أتى أمرا يجعلك تخجل له، فعندئذ احذر حتى من أن تجاوبه.»
على أن مسئوليات الأسرة كانت في نظره أهم من الأصدقاء؛ فتراه يقول: «إذا كنت رجلا ناجحا، وطد حياتك المنزلية، وأحب زوجتك في البيت كما يجب.»
وبعد أن ذهب هذا الكتاب إلى المطبعة أحضر إلي أحد فلاحي «الأقصر» الذين يستخرجون السماد من وسط الخرائب الأثرية بشظية من الحجر الجيري الأبيض عثر عليها في تلك الخرائب، فوجدت عليها كتابات يرجع عهدها إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة كتبت بالحبر، وهي بضعة أسطر اقتبسها كاتبها من نصائح «بتاح حتب» التي كان قد انقضى على وضعها إذ ذاك نحو 1500 سنة، وكان المداد الذي كتبت به لا يزال أسود يقرأ بوضوح. وتلك الأسطر هي صورة معدلة من نصائح ذلك الوزير المسن عن الزوجة، فخيل لي أن ذلك الحكيم القديم قد دخل فجأة إلى حجرتي في الأقصر ليزودني بشيء أكثر مما علمت عن أفكاره؛ لأن إحدى الفقرات المعدلة كانت جذابة في محتوياتها؛ إذ جاء فيها: «إذا كنت رجلا ناجحا فأسس لنفسك بيتا، واتخذ لنفسك زوجة تكون سيدة قلبك.» ولكننا نجد في المتن القديم الذي كان أقل من ذلك شاعرية: «وأحب زوجك كما يجب.» وقد عرف «الحب الذي يجب أن يكون» بأنه حب يحمل في ثناياه الحب العملي الذي يجب على الزوج لزوجته؛ إذ يقول: «أشبع جوفها واستر ظهرها.» ومع أنه لا يوجد حد لمتع الحياة الكمالية تقف عنده مطالب المرأة فإن ما تعزه المرأة الحديثة وتشاركها فيه أختها القديمة فوق ضفاف النيل من العطور ينحصر في الروائح والدهان الغالية، وهي التي لم ينس ذلك الحكيم السياسي المسن أن يضمها إلى قائمة حاجات زوج ابنه؛ إذ يقول: «إن علاج أعضائها هو الدهان.»
وبذلك يرى ذلك الوزير المسن العاقل أن الزوج الكيس هو الذي يجعل زوجته سعيدة أولا بالمحبة التي يلزمه أن يفسح لها في قلبه الاعتبار الأول، ثم يأتي بعد ذلك بمستلزمات الجسم من غذاء وملابس، ثم بالكماليات كالعطور والدهان؛ فنراه يقول: «اجعل قلبها فرحا ما دمت حيا، فهي حقل مثمر لسيدها.» وهذه الملاحظة الأخيرة قد سبقت ما جاء في القرآن المنزل على الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - بعد مضي خمسة وثلاثين قرنا.
8
أما عن الأبوة فقد كان فيها «لبتاح حتب» آراء حاسمة، ففي ذلك يقول: «إذا كنت رجلا ناجحا وأسست لك بيتا وأنجبت ولدا اكتسب رضا الإله (يقصد الملك)، فإذا عمل صالحا ومال إلى طبعك وسمع نصائحك وكانت خططه ذات نتائج حسنة في بيتك، ومعتنيا بمالك كما يجب، فابحث له عن كل شيء حسن، فهو ابنك الذي ولدته لك «كا» (نفسك)، ولا ينفرن قلبك منه، ولكن إذا جنح إلى السوء وأعرض عن خططك (يعني أوامرك)، ولم يعمل حسب نصائحك وصارت خططه لا خير فيها وتحدى كل ما تقوله ... فعندئذ أقصه عنك؛ لأنه ليس ابنك ولم يولد لك ...»
ومع أن ذلك الوزير المسن كان يقدر تماما قيمة النجاح الدنيوي وإحراز الثروة؛ فإنه كان يرى من الواجب ألا تطغى على روابط الأسرة، فتراه يقول: «لا تكونن شرها في القسمة، وانبذ الطمع حتى في حقك، ولا تطمعن في مال أقاربك؛ فإن الالتماس اللين يجدي أكثر من القوة ... وإن القليل الذي يؤخذ بالخداع يولد العداوة (حتى) عند صاحب الطبع اللين (يعني الحليم).»
ولما كان الطمع من أكبر الصفات الذميمة الداعية لتفكيك روابط الأسرة المتماسكة، تراه يحذر من ذلك فيقول: «إذا أردت أن يكون خلقك محمودا، وأن تحرر نفسك من كل قبيح؛ فاحذر الشراهة فإنها مرض عضال لا يرجى شفاؤه والصداقة معها مستحيلة؛ لأنها تجعل الصديق العذب مرا، وتقصي ذا الثقة من سيده، وتجعل كلا الأبوين كالغرباء، وكذلك تفعل في أخوة الأمهات، وتفصل الزوج من زوجه، فهي حزمة من أنواع الشر، وعيبة بها كل شيء مرذول، والشره لا قبر له.»
وقد شفع «بتاح حتب» هذا البحث الذي ينطق بما للروابط الخاصة بالأسرة من القيمة العظيمة في بيت الإنسان، بوجوب احترام أهل بيوت غيره ولو كانوا من غير ذوي قرباه، فنجده يحذر الزائر تحذيرا شديدا من محاولته الاقتراب من النساء، بل يحتم عليه أن يتباعد عنهن بقدر المستطاع، فيقول في ذلك: «إذا أردت أن تحافظ على الصداقة في بيت تدخله سواء أكنت سيدا أم أخا أم صاحبا، فاحذر القرب من النساء، فإن المكان الذي يكن به ليس بالحسن، ومن الحكمة إذن ألا تحشر نفسك معهن، ومن أجل ذلك يذهب ألف رجل إلى الهلاك بسبب متعة برهة قصيرة تضيع كالحلم، ولا يجني الإنسان من معرفتهن غير الموت.»
على أنه توجد من تلك النصيحة صورة أخرى مستحدثة تصف طريق معاملة النساء بطلاوة أكثر مما سلف، هذا نصها: «وعندما يفتتن الإنسان بأعضائهن البراقة [النص الحرفي: أعضاء من الزجاج] فإنها بعد ذلك تصير مثل حجر «هرست»؛ أي شيئا تافها، والأمر لحظة وجيزة مثل الحلم والموت يأتي بعده في النهاية.» وإننا نعلم أن جريمة الزنا [الخيانة الزوجية] كانت عقوبتها الموت في الأزمان التي تلت ذلك العصر الذي عاش فيه «بتاح حتب»، ولا يبعد أن ذلك العقاب كان متبعا في عهد الدولة القديمة.
ولقد كان رأي ذلك الوزير المسن في الحظيات يمثل عصره طبعا، فقد خصهن بفقرة قصيرة يحض فيها على معاملة الحظية بالرفق، ويضاف إلى ذلك أيضا أن ذلك الوزير قد حض ابنه في تلك المناسبة على ألا يحاول قط إفساد الصبية.
وتسود جميع حكم ذلك الوزير السياسي المسن روح الشفقة الكريمة، وهي تبتدئ في نظره أولا ببيت الرجل وأسرته التي كانت تعد رابطتها على أعظم جانب من الأهمية والمكانة، ثم تمتد إلى من توجد بينه وبينهم أية معاملة أو علاقة رسمية، يبدو لنا ذلك مما يوصي به هذا الحكيم المسن ابنه بأن يتوخى في مسلكه المرح والابتهاج؛ إذ يقول له: «كن باش الوجه ما دمت حيا.» ثم يستمر في كلامه متأثرا بروح تشعر بأنها هي أصل للمثل المشهور لدينا: «لا فائدة من النحيب على لبن مهراق.»
وذلك المرح البالغ البادي من روح تلك الكلمات يتفق مع إلحاح ذلك الوزير المسن في طلبه للراحة والترفيه.
ومن المحتمل أن «بتاح حتب» لا يشير فيما يأتي من كلامه إلى شيء أكثر من الحث على الاهتمام باقتناص الفرص للتمتع بألوان الطعام اللذيذة وتشنيف الأسماع بالموسيقى ومزاولة الرقص والتلهي بلعب الداما، والتلذذ بمشاهدة الحديقة الغناء والرياضة بالصيد في المستنقعات، أو الذهاب إلى ضيعته مستريضا محمولا في محفة فوق أكتاف خدمه، وحوله الذين يتحببون إلى سيدهم في أغانيهم وهم يرددونها على سمعه: «ما أسعد الذين يحملون المحفة! خير لنا أن تكوني مملوءة من أن تكوني خالية.»
على أن «بتاح حتب» يحض ابنه بقوله له: «اتبع لبك (أي روحك) ما دمت حيا، ولا تفعلن أكثر مما قيل لك، ولا تنقص من الوقت الذي تتبع فيه قلبك، ولا تشغلن نفسك يوميا بغير ما يتطلبه بيتك، وعندما يواتيك الثراء متع نفسك؛ لأن الثراء لا تتم (فائدته) إذا كان صاحبه معذبا.»
ولا غرابة في أن تكون الشفقة عند رجل بمثل هذه الروح من الأمور المألوفة؛ ولهذا نرى ذلك الوزير المسن يقول لابنه: «إذا كنت حاكما فكن شفيقا حينما تسمع كلام المتظلم، ولا تسئ إليه قبل أن يغسل بطنه ويفرغ من قول ما قد جاء من أجله ... وإنها لفضيلة يزدان بها القلب أن يستمع مشفقا.»
وليس هناك من شك في أن تكون هذه الشفقة ذات علاقة وطيدة بالمعاملة الحسنة المبنية على الحق، ولا غرابة إذن إذا وجدنا الحق والعدالة قد اتخذا لهما مكانة في «حكم بتاح حتب» تسامت على كل مكانة، حيث يقول: «إذا كنت حاكما تصدر الأوامر للشعب فابحث لنفسك عن كل سابقة حسنة حتى تستمر أوامرك ثابتة لا غبار عليها. إن الحق جميل وقيمته خالدة، ولم يتزحزح من مكانه منذ خلق؛ لأن العقاب يحل بمن يعبث بقوانينه، وقد تذهب المصائب بالثروة، ولكن الحق لا يذهب بل يمكث ويبقى، والرجل المستقيم يقول عنه: «إنه متاع والدي قد ورثته عنه».»
ومن ثم كان نصح ذلك الشاب بأنه عندما يقوم بأية مهمة يجب أن: «يتعلق بأهداب الصدق (أو الحق) ولا يتخطاه حتى ولو كان التقرير الذي يقدمه لا يسر القلب.» ولذلك كان لزاما على ذلك الشاب أيضا أن يبلغ رئيسه الحقائق حتى ولو كانت مرة.
ولا شك في أن هذه السبيل كانت تتطلب قوة خلق عظيمة، وهذا ما كان يرجوه ذلك الحكيم لابنه؛ إذ يقول له: «حصل الأخلاق ... واعمل على نشر العدالة وبذلك تحيا ذريتك.»
وكذلك يذكر ابنه: «بأن الفضيلة التي يتحلى بها الابن لها قيمتها عند الأب، والخلق الحسن يبقى شيئا مذكورا.» ويقول له أيضا: «فإذا استمعت ووعيت ما ألقيته عليك فإن كل صنيع لك سيكون على غرار عمل الأجداد، أما انطباق هذه الأشياء على العدالة فالفضل فيه يرجع لهم (أي للأجداد)، وذكراها لن تمحى من أفواه الناس؛ لأن نصائحهم جديرة بالتقدير، وكل كلمة ستنقل ولن تمحى من هذه الأرض أبدا، وسيكون للكلام قيمته حسبما تنطق به الأمراء ... وعندما يصيب رئيسك شهرة جديرة بالتقدير فإنها ستبقى حسنة أبد الدهر وستخلد كل مزاياها. وإن الرجل الحكيم تنعم روحه باستمرار بقاء فضله على الأرض، والرجل العاقل يعرف بعمله، وقلبه ميزان لسانه، وشفتاه تصيبان القول عندما يتكلم، وعيناه تبصران عندما ينظر، وأذناه تسمعان ما يفيد ابنه الذي يقيم العدل ويبرأ من الكذب.» وربما كان ذلك الوزير المسن قد عبر عن روحه الخلقية أحسن تعبير حينما حذر من الطمع فيما سلف، وإننا نجده الآن في صورة المنتصر الظافر ؛ إذ يقول من غير كبير مناسبة بما تقدم: «إن الرجل الذي اتخذ العدالة معيارا له وصار وفقا لجادتها يكون ثابت المكانة.» ولا نزاع في أننا نجد في هذا الكلام نغمة الحكمة العبرانية كما وصلت إلينا في كتاب «العهد القديم» وإن كانت حكمتنا هنا (يريد حكمة بتاح حتب) أقدم من حكمة العبرانيين بألفي سنة.
وقد ختم ذلك الوزير المسن نصائحه لابنه بعبارة تحبب إلى نفسه العدالة؛ إذ يقول له في منتهاها: «تأمل! إن الولد النجيب الذي يهبه الإله يقوم بأداء أكثر مما يؤمر؛ فهو يقيم الحق وقلبه يسير على صراطه، وبقدر ما تصل إلى ما وصلت أنا إليه سيكون جسمك سليما، ويكون الملك مرتاحا إليك في كل ما يجري، وكذلك تصل إلى السن التي وصلت إليها، وأن السنين التي عشتها على الأرض ليست بالقليلة، فقد بلغت العاشرة بعد المائة، والملك قد حباني بمكافأة تفوق كل مكافآت الأجداد؛ لأني أقمت العدل للملك حتى الممات.» وقد لاحظنا فيما تقدم ذكره أن أحد ألقاب الملك «وسركاف» كان لقب «مقيم العدالة»، وهذا يدل على أن حكم «بتاح حتب» المذكورة كانت ذات مكانة راجحة لدى الجهات العليا حتى في أيام شبابه.
ويتناول أكثر من نصف حكم «بتاح حتب» أخلاق الإنسان وسلوكه، وما بقي منها يختص بشئون الإدارة وسلوك الإنسان الرسمي، ويلاحظ بوجه عام أن تلك الحكم تحث على توخي اللطف والاعتدال وتأكيد الذات الذي تصحبه الحكمة واللباقة، وكل ذلك في الواقع ينم عما كان عليه ذلك الوزير من منتهى حسن الذوق وسلامته في تقدير الأمور ووزنها بالميزان الصحيح، مما عنى بتوصية ذلك الشاب باتباعه والسير على نهجه؛ فالحياة فيها الكثير مما يجعلنا نحبها، ويجب أن يحظى فيها الإنسان بقسط وافر من الاستمتاع البريء، وأن يحافظ على ساعات الراحة والدعة حتى لا تطغى عليها أعباء الوظيفة أو غيرها، ذلك إلى أنه يجب على المرء أيضا أن يكون دائم البشاشة والطلاقة؛ لأنه لا فائدة من النحيب على ما فات. وبالجملة فإن النغمة التي تغلب على فلسفة نصائح ذلك الوزير المسن هي شدة اهتمامه بالأخلاق والوازع الخلقي، وأبرز واجب تنطق به سطورها هو: «ارع الحق وعامل الجميع بالعدالة.»
وخليق بهذا الحكيم القديم أن يؤكد لنا مرارا أن أعظم فضيلة دائمة يتحلى بها الإنسان في الحياة هي العدالة والخلق العظيم، فإنهما يبقيان بعد موته؛ ولذلك تبقى ذكراه خالدة.
على أنه ليس من باب الصدفة أن تذكر مثل هذه الحقائق المقنعة في ملف بردي قديم يكشف لنا في الوقت نفسه عن جو مشبع بالرحمة والمحبة يسود حياة الأسرة، ويوحي باحترام الوالدين وبرهما، والتحذير بوجه خاص من وخامة عاقبة الشره الذي تقضي على وئام الأسرة بالتفكك، فإن كل تلك العواطف وليدة عالم اجتماعي واحد ونمت وترعرعت في بيئة واحدة؛ فالأسرة هي العامل الأول في تلك العواطف، وما بقي فهو الثمرة الطبيعية لتلك الروابط الأسرية؛ لذلك نجد في حكم «بتاح حتب» تأكيدا قاطعا لما نستنبطه من نقوش المقابر، ومن الصور التي رسمت على جدرانها، من أن حياة الأسرة هي التي هيأت للإنسان في بادئ الأمر الشعور بالمسئوليات الخلقية.
وفي نفس ذلك العصر صارت أمثال تلك المسئوليات موضوعا للتفكير والبحث، وفيه أيضا بدأ التأمل الفكري في الطبيعة البشرية يعمل عمله، فكانت المقارنة بين الرجل العاقل والرجل الأحمق، وحصلت الموازنة بين صفتي الخير والشر، فكان ذلك فجر عالم جديد قوامه هذه القيم الجديدة، كما نشأ في ذلك العصر الشعور بالشخصية المسئولة، وصار العالم الإنساني ميدانا جديدا لتطاحن المشاعر الخلقية المختلفة الغاية، فكانت تتصادم فيه قوى جديدة بأسلحة جديدة. وفي ذلك العصر الذي يعتبر أقدم العصور إدراكا لقيمة الفرد الإنساني الأخلاقية برزت الشخصيات الممتازة فسمت على دهماء القوم من النكرات التي غمرها جوف الماضي القديم، فاستطاع الرجل القوي أن يحدث تأثيرا في المجتمع بما كان يتحلى به من المزايا العقلية والصفات الخلقية البارزة.
وقد حفظت لنا آثار ذلك العصر التاريخي العظيم أسماء بعض أصحاب تلك الشخصيات الممتازة، ففي خلال القرن الثلاثين ق.م نجد «أمحوتب»، وهو وزير عظيم في الأسرة الثالثة استبدل لأول مرة في التاريخ ببناء اللبن والخشب والغصون - وهو الذي كان سائدا في عصره - البناء بالأحجار الضخمة، وأوجد بذلك أول عمارة بالحجر في العالم، وصار يعد بذلك أول فرد بارز الشخصية في التاريخ البشري. وأما كلماته الحكيمة الغالية ومعارفه الطبية فقد صيرت اسمه ذا شهرة متداولة في البيوت مدى آلاف السنين، ولكونه طبيبا عظيما صار موضعا للتعظيم والإجلال، واسمه لا يزال يذكر بعد اسم «إسكلبويس» الإغريقي، وهو المعروف باسم «إسكولابيس»
Aesculapius
وهو إله الطب في كل العصور، وبالرغم من ضياع كلماته الحكيمة للآن فإن أخلافه ظلوا يقتبسونها مدة خمسة عشر قرنا بعد وفاته.
وهنالك وزير آخر من الحكماء يدعى «كاجمني» عاش في القرن الثلاثين ق.م (أي إنه كان موجودا بعد زمن «أمحوتب» بمدة قصيرة)، ويعرف أن له وصايا حكمية أيضا كان قد ألقاها على ابنه، غير أنها أيضا لم تصل إلينا، وكذلك كان يعيش بعد «أمحوتب» بقرن واحد الحكيم «حردادف» ابن الفرعون «خوفو» باني الهرم الأكبر بالجيزة، وقد بقيت أمثاله الحكيمة على أفواه الناس بجانب أمثال «أمحوتب» أكثر من 1500 سنة في الأزمان الغابرة.
غير أنه لم يبق لنا من أقوال أولئك الحكماء الذين عاشوا في عصر الأهرامات إلى يومنا هذا إلا نصائح «بتاح حتب» التي لم تكن إلا جزءا ضئيلا مما خلفه ذلك العصر الأول العظيم عن العقل البشري.
ويجب أن نضع مع أصحاب تلك الشخصيات أول عالم مجهول في العلوم الطبيعية، وهو مؤلف أقدم رسالة علمية تبحث في الجراحة، وربما يرجع عهده إلى عهد «أمحوتب» نفسه. ومؤلف تلك الرسالة الذي هو أقدم عالم طبعي عرف لنا للآن، يعد أول إنسان ميز بين القوى الطبيعية والقوى الإلهية؛ إذ ذكر في بيانه عندما كان يفحص إصابة في رأس إنسان أن أصلها يرجع إلى سبب خارجي، وعبر عنها بألفاظه التي كتبها فقال: «إنها شيء طرأ من الخارج.» أي إن الحادث جاء من الخارج. ولكن بالرغم من الاعتراف بأن الإصابة قد نتجت من سبب طبيعي خارجي فإنها اعتبرت في الوقت نفسه إصابة تحتمل في ثناياها «سر حسن الحظ» أو «سوء الحظ». وقد عبر الجراح العتيق عن ذلك بقوله: «يعني نفس إله خارجي أو الموت، لا من حدوث شيء قد تولد من لحم المريض.» وقد ميز هنا بين مجال الأسباب الطبيعية في نظام جسم الإنسان الداخلي، وبين دائرة «حسن الحظ» أو «سوء الحظ» الأمر الذي كانت تسيطر عليه الآلهة.
وهذه الملاحظة العويصة هي - على ما أعلم - أول شيء من نوعه عثرنا عليه في مخلفات التفكير الإنساني الذي بقي للآن.
9
كذلك بدأ في ذلك العهد التعبير عن قوة الشخصية والقوى التي نعبر عنها بقوى الأخلاق، لا في المؤلفات المدونة التي وضعها رجال الفكر والتأمل مثل «بتاح حتب» فقط، بل صارت كذلك تلمس بوضوح في منتجات الفن في ذلك العصر، وبخاصة في إنتاج أعظم المثالين العباقرة الذين أنتجوا أقدم تماثيل وصلت إلينا للآن، فكان قد نتج عن اتباع الخطة الثابتة المتفق عليها في فن النحت لمدة طويلة أن استجد طراز في نحت تماثيل الأشخاص في الدولة القديمة يكاد ينقصه أو ينقصه كلية إبراز الصفات المميزة لشخصية صاحب التمثال، ومن الجائز أن مثالي ذلك العصر كانوا يظهرون لنا في التماثيل التي نحتوها أقدم المعايير للصور البشرية ليكشفوا لنا عن وحدة الأشكال الناتجة من التأثيرات التي أوجدها ذلك النظام الخلقي الطويل المدى الذي محا ما كان بين طبقات المجتمع من الفوارق.
على أن هذه الظاهرة لذلك النوع من النحت قد بالغ في تأكيدها النقاد الأحداث، يدل على ذلك أن أعظم ما أخرجه نحاتو عصر الدولة القديمة يظهر لنا أنهم كانوا قد بدءوا يبرزون قوة الشخصية الممتازة واستقلالها حينما أخذت تبرز لنا لأول مرة في شخص الفرعون المهيب، يظهر لنا ذلك بوضوح مؤثر في صور ذلك العصر المعبرة التي في مقدمتها تمثال «خفرع» باني الهرم الثاني بالجيزة، مما كان له بلا شك تأثير عميق في التصورات الخاصة بالإلهية، ويضاف إلى ذلك مجموعة كبيرة من الصور تنقل إلى مخيلتنا تأثيرات هامة عن شخصيات تلك الطائفة من عظماء الرجال الذين كانوا يحيطون بالفرعون في عصر الأهرامات، من رجال السياسة والحكماء والفنانين ورجال العمارة والمهندسين، وهم الذين جعلوا من مصر منذ خمسة آلاف سنة مضت بلدا يضم عجائب المباني التي لا تزال إلى يومنا هذا تعد من عجائب الدنيا ، في حين أن مباني غرب آسيا أقيم معظمها من الطوب طوال العصر الذي سبق بناء القصور الإمبراطورية في فارس، وقد محيت الآن عن آخرها، وهذه الموازنة لا تخلو من الأهمية وتؤيد الاعتقاد بأن مصر كانت البلد الذي ولد فيه أول عصور الشخصيات العظيمة.
على أن ظهور أولئك الرجال ذوي الشخصيات العظيمة لم يكن وليد الساعة، بل كان ثمرة التجاريب والحياة النظامية مدى ألف سنة من تاريخ البشر، فكانوا أول رجال أمكنهم الرجوع بالبصر ليجيلوا أنظارهم في ذلك الماضي حيث يشرفون على مشهد عميق من حياة الإنسان الأولى. ولا بد أنهم كانوا أثناء قيامهم بذلك يتلمسون في الظلام أحسن تعبير يعبرون به عن آرائهم نحو نظام بني البشر، على أن يكون ذلك التعبير متضمنا سر تلك الأعمال العظيمة التي ورثوها عن أسلافهم السابقين.
وقد انتهى بهم الأمر فعثروا على بغيتهم التي نشدوها في التعبير عن ذلك بكلمة واحدة جامعة حوت في ثناياها كل معاني السمو والرفعة في الحياة البشرية، تلك الكلمة هي «ماعت»، التي تعد من أقدم التعابير المعنوية ذات المعاني المتعددة التي وصلت إلينا من كلام بني الإنسان منذ الأزمان الغابرة، وهي التي سبق لنا التعبير عنها هنا بالكلمات الآتية: «الحق» و«العدل» و«الصدق»؛ وذلك لأن تلك المعاني كلها قد انتهى الأمر بأن مثلت في لغة المصريين الأقدمين بهذه الكلمة الواحدة «ماعت»، وتلك الكلمة كانت تستعمل عند أجدادهم في أول الأمر لأداء معنى واحد فقط هو «الحق» بمعنى «الصواب»، كما نستعمل نحن كلمة «صواب» هذه في العلوم الرياضية والأخلاقية معا.
ثم إنه في بداية عصر الدولة القديمة أخذ معنى كلمة «ماعت» هذه يتسع تدريجا حتى صار يشمل معنى واسعا عظيما، فلم تكن تعني نقيض الباطل فقط، بل تعني نقيض الأخطاء الخلقية على وجه عام أيضا، على أننا لا نعلم متى بدأ هذا التطور في معنى تلك الكلمة، غير أن الذي يجدر بنا ملاحظته هنا أن كلمة «ماعت» هذه لم ترد في الجزء الذي عثرنا عليه من المسرحية المنفية، وإن كان من الجائز أن عدم ذكرها في هذا الجزء راجع إلى مجرد المصادفة المحضة.
وبعد سنة 3000ق.م بدأ عظماء رجال الدولة القديمة يجدون في معاني كلمة «ماعت» ما يعبر عن الأمور التي جاءت وليدة التجارب القومية، والتي كان لها أثرها في الحياة العامة للأمة، فمع أن تلك الكلمة العظيمة لم تفقد شيئا من دلالتها على صفات الإنسان الخلقية الشخصية، فإنها صارت تعبر أيضا في نظر عقول رجال الفكر في الدولة القديمة عن معنى النظام القومي؛ أي النظام الخلقي للأمة والكينونة القومية التي تسير تحت سلطان إله الشمس.
ولنعد بذاكرتنا الآن قليلا إلى ذلك الماضي الذي أمكن حكماء الدولة القديمة أن يرجعوا البصر للتأمل فيه، ذلك الماضي المتسع الذي كان في أنظارهم سببا لاتساع معنى كلمة «ماعت» أيضا حتى ألبسها كل تلك المعاني الآنفة، فقد كان لدى أولئك الحكماء قوائم بأعمال الملوك الأوائل الذين حكموا البلاد المصرية قديما قبل العهد الذي تأسس فيه الاتحاد الأول، فكانوا على علم بأن ذلك الاتحاد قد مهد له حكم الدويلات المحلية الصغيرة، وأنه بما تم فيه من توطيد أركان النظام في مصر قد أفضى مرة ثانية إلى قيام الاتحاد الثاني الذي دام عهده ألف سنة؛ أي من حوالي القرن الخامس والثلاثين إلى حوالي القرن الخامس والعشرين ق.م.
ومن المهم جدا أن نلاحظ أن هذه هي أول مرة في تاريخ البشر نجد فيها ألفا كاملا من السنين المتصلة الحلقات دون أن يمس فيها اتصال الخبرة القومية، أو بعبارة أخرى اتصال التطور البشري في هيئة قومية موحدة، فقد كان تطورا ثابتا قامت فيه أمة يبلغ تعدادها بضعة ملايين من النسمات البشرية لأول مرة فوق الكرة الأرضية بتأسيس بناء ضخم من الحياة البشرية المنظمة دام مدة ألف سنة متوالية لا انفصام لها.
وقد كان التأثير البالغ الذي استولى على نفوس أولئك الحكماء من تأملهم في حالة تلك الحكومة الراسخة الأركان ونظامها الدقيق الذي كان يسير بدون انقطاع طوال مدة ذلك العصر هي التي جعلت كلمة «ماعت» المصرية القديمة تتسع وتزيد زيادة محسوسة فتحمل من المعاني أكثر مما كانت تحمل من قبل، حتى صارت في نهاية الأمر لا تدل فقط على معنى «العدل» أو «الصدق» أو «الحق»، مما كان يتصور رجال عصر الأهرام أنه شيء يترسمه ويسير بمقتضاه الفرد الإنساني، بل صارت أيضا تدل على معنى الحقيقة الواقعة التي تسود الناحية الاجتماعية والحكومية، بل أصبحت تلك الكلمة تعبر عن النظام الخلقي للعالم، وصار هذا النظام وحكومة الفرعون يدلان على معنى واحد. وقد كان كبير القضاة في المحاكم المصرية القديمة يحلي صدره بصورة من اللازورد رمزا للإلهة «ماعت»، وكان من عادة القاضي أن يشير إلى المحق من المتخاصمين الواقفين أمامه بتوجيه ذلك الرمز إليه.
وكان الحكيم «بتاح حتب» يفخر بسيادة «ماعت» وخلودها فيقول: «إن ماعت عظيمة، وتصرفها باق، فلم تخذل منذ زمن بارئها.»
وكثيرا ما نجد على الآثار القديمة أن ماعت هي الشيء الذي يعتبره الفرعون شخصا يشد أزره أمام الفوضى والظلم والخداع الذي كان يقع ضده من مناهضيه للاستيلاء على العرش، ممن كانوا يبتلون الشعب بما يحدثونه من سوء النظام. ولقد كانت ألف السنة التي قضتها الحكومة المنظمة بتلك الكيفية هي التي وضعت أمام أعين حكماء الدولة القديمة تلك الصورة الجليلة التي تمثل الأثر الفعال والإحسان البالغ اللذين أسدتهما «ماعت»، مما أسبغ عليها معنى تاريخيا لم يكن من الممكن اكتسابه بطريقة أخرى.
ومن الواضح أن المجتمع والحكومة معا، وكذلك التأثيرات الاجتماعية والحكومية معا، قد أدت جميعها إلى ذلك النظام الذي قام بتلخيصه الحكماء المصريون القدماء في كلمة جامعة واحدة هي «ماعت».
فإن «ماعت» قد نشأت في أول أمرها بمثابة أمر شخصي خاص بالفرد للدلالة على الخلق العظيم في الأسرة أو في البيئة التي تحيط بالإنسان مباشرة، ثم انتقلت بالتدريج في سيرها إلى ميدان أوسع فصارت تمثل الروح والنظام للإرشاد القومي والإشراف على شئون البشر بحيث تكون الإدارة المنظمة مفعمة بالاقتناع الخلقي.
وبتلك الكيفية وجدت لأول مرة بيئة ذات قيم عالمية، وحينما بدأ المصريون يتصورون الحاكم الإلهي لهذه البيئة كانوا في الحقيقة يسيرون في الطريق المؤدي إلى عقيدة التوحيد السامية، وكان ذلك الحاكم الإلهي هو إله الشمس، وقد تخيل القوم روح حكمه في شكل شائق، بأن تصوروا «ماعت» في هيئة إلهة وجعلوها بنت الشمس. وبالسير في هذه السبيل وصل المصريون في النهاية - كما سيأتي - إلى عقيدة التوحيد الرفيعة، فلم يكن من مجرد الصدفة أن بلغوها قبل أن تهتدي إليها أية أمة أخرى بزمن طويل، وكذلك لم يكن من باب المصادفة أن كان ثاني الشعوب اهتداء إلى عقيدة التوحيد المذكورة أقرب جيران مصر عبر حدود آسيا في فلسطين، وقد قال أحد أنبيائهم: «إليكم يا من تخافون اسمي، ستشرق شمس العدالة تحمل الشفاء في جناحيها.»
10 (ملاخي 4-2)، ويشير هذا التعبير بداهة إلى إله الشمس المصري القديم الذي يرسم عادة بصورة قرص الشمس المجنح.
وبذلك يتضح لنا على الفور عندما ننظر إلى الأمام متجهين نحو آسيا، لماذا أتت حضارة غربي آسيا متأخرى في مثل هذا التطور.
فالتصور المصري للنظام الإداري والخلقي العظيم، الذي أطلق عليه اسم «ماعت»، والذي صار أسمى مظهر للحضارة الشرقية القديمة، كان - كما رأينا - نتيجة للتطور الاجتماعي الحكومي مدة ألف سنة من حياة أمة عظيمة موحدة ثابتة منظمة كانت تخطو دائما في خلالها نحو الارتقاء والتقدم، في حين أن فكرة ذلك النظام الإداري والخلقي، بالرغم من تمثيله إلى حد ما في الصورة الجميلة التي ظهر بها الملك العادل بعد ذلك العهد بألفي سنة على يد الأنبياء العبرانيين، فإنه لم يظهر بشكل واضح في غربي آسيا إلى أن جاء «زروستر» يحمل نظامه الخلقي العظيم، وذلك بعد أن علت كلمة بلاد فارس في عهد «قورش» وخلفائه. وفي تاريخ غربي آسيا ما ينبئنا بوضوح عن سر استحالة ظهور هذا التطور فيه قبل ذلك العهد؛ إذ نجد في مصر التي كانت تعرج في مراقي التقدم في عهد الاتحاد الثاني وعصر الدولة القديمة، حضارة كانت ثمرة عهد لا يقل عن ألف سنة من التجارب الاجتماعية، يقودها نظام قومي ذو أسس ثابتة نشطة، فيها من القوة الحيوية ما مكنها من الدوام أكثر من ألف السنة التي مكثتها، في حين أن بابل التي كانت تعتبر أشهر ممالك غربي آسيا وقتئذ قد استمرت خلال ألف السنة هذه ترزح تحت عبء الفوضى من جراء الحروب الصغيرة التي كانت في معظم ذلك الوقت تشتعل نيرانها بين دويلات المدن التي كانت تتألف منها وقتئذ.
أما في مصر، فإنها كانت حتى قبل بداية هذه الألف من السنين قد انتهت من الشحناء التي كانت قائمة بين دويلات مقاطعاتها بزمن طويل. حقا إن الحضارة المادية كانت متساوية في أعمارها في كل من غربي آسيا ومصر، ولكن الحضارة في أوسع نواحيها ليست إلا نتيجة لتطور اجتماعي طويل، ومن ثم نجد أن البراهين التي يتمسك بها الأثريون للاستدلال على أن المدنية البابلية (التي لم يكن لديها الفرصة الكافية للنمو والتطور الاجتماعي المطرد) كانت أقدم من المدنية المصرية، بحجة ما عثر عليه من البرت النحاسية وصناعة صياغة الذهب، ليست إلا براهين سطحية لا تستحق النقد والتفنيد. ولا جدال في أن التقدم السياسي والاجتماعي وتطور الحضارة البشرية على وجه عام، كان ظهورها كلها في وادي النيل متقدما بعدة قرون على أمثاله في غربي آسيا. والحقيقة أن الحضارة في «بابل» أتت متأخرة في تطورها الديني والاجتماعي والسياسي عن حضارة مصر بما لا يقل عن ألف سنة.
وتلك الحقيقة لها أهميتها؛ إذ تعدنا لفهم الأهمية الفريدة لمدة ألف السنة العظيمة التي تطورت فيها الحضارة في مصر ذلك التطور الخطير؛ فعلى ضفاف النيل بالذات نرى طليعة التقدم البشري؛ أي بوادر شعور الإنسان لأول مرة بكنه الفتح الذي بدأه، وبعد أن جنى ثمرة التجارب القومية التي استمرت ألف سنة أخذ يعد نفسه لخوض معركة الشئون الاجتماعية التي كانت تتهيأ لمهاجمته من الداخل، فقد ظفر هو فيها في تلك المدة بأعظم الانتصارات الباهرة على أعدائه الخارجين، في عالم القوى المادية، ولكنه الآن أمام الوازع الداخلي الذي صار هو الآخر بدوره يطلب منازلته لدخول ميدان جديد أسمى من ميدان المادة، بعد أن كان ذلك الميدان السامي لا يعرف عنه المصري القديم شيئا إلا القليل.
وتوجد عندنا الأدلة القاطعة على أن أقدم المبادئ الخلقية عند قدماء المصريين أخذت دورها في النمو وهي مقرونة بإله الشمس لا بالإله «أوزير»؛ لأن نصائح «بتاح حتب» تقول بجلاء إن إله الشمس هو خالقها (أي خالق العدالة). نجد ذلك واضحا في فقرة من وثيقة يرجع عهدها إلى الدولة الوسطى حيث حشر أتباع «أوزير» فيها اسمه حشرا، وهذا دليل هام على اشتعال نار الحرب الدينية التي كان يزكيها أتباع «أوزير» في ذلك العصر. ومما يؤسف له في هذا الصدد أن أول إله تخيله المصريون قاضيا خلقيا في عالم الحياة الآخرة لم يذكر اسمه بالنص، وإنما وصف بأنه «الإله العظيم» فقط من غير أن يذكر له اسم. وقد وردت هذه الصفة بتوسع في فقرة واحدة بالعبارة التالية: «الإله العظيم رب السماء.» ولذلك لا يكاد يوجد مجال لأن يكون المقصود من هذه العبارة أي إله آخر غير إله الشمس. وهذا الاستنتاج يؤيده جميع ما وجدناه من الكتابات في متون الأهرام، حيث يعبر مرارا وتكرارا عن إله الشمس بأنه «رب المحاسبة في الآخرة»، ولا نزاع في أن هذا الإله هو الذي يقصده «إني» أحد أشراف «دشاشة» في قوله: «أما من جهة كل الناس الذين سيعملون السوء ضد هذا (يريد القبر)، والذين يعملون أي شيء يسبب خراب هذا القبر، والذين يتلفون الكتابة التي فيه؛ فإنهم سيحاسبون على ذلك أمام الإله العظيم رب الحساب في المكان الذي تحاكم فيه الناس.»
أما التطور السريع الذي ظهر فيما بعد في النصائح الخلقية في مذهب «أوزير» وكذلك استيلاء «أوزير» على مكانة القاضي في المحاكمة الأخروية، فلم يكن قد ظهر بعد في متون الأهرام؛ لأن التطور الذي جعل تلك العناصر تظهر بوضوح في عهد الدولة الوسطى كان قد بدأ في ذلك العصر المظلم الذي جاء إثر انتهاء عصر الأهرام. وعلى ذلك يكون إله الشمس - خلافا للرأي السائد - هو أقدم الحامين للخلق الفاضل، وأول من سمي بالقاضي العظيم في عالم الحياة الآخرة.
وأما «أوزير» فإنه ظهر بعد ذلك العهد بألف سنة قاضيا خلقيا عظيما في الحياة الآخرة، على إثر اعتباره المدعي المنتصر في محاكمة عين شمس وحامي الأموات الذي تغلب على كل أعدائه. على أن اغتصاب «أوزير» لهذه المكانة يعد دليلا آخر على التطور الذي لم يكن في الإمكان مقاومته في صبغ الديانة المصرية القديمة بالصبغة الأوزيرية، وإلى هذه الأحداث التي جاءت متأخرة، والتي استقى منها العلماء الأحداث آراءهم، يرجع السبب في النتيجة الشائعة القائلة بسيادة «أوزير» الخلقية من عهد بعيد، وعلى أية حال فإن أقدمية المذهب الشمسي واضحة تماما في هذا الموضوع كما هي واضحة في تفاصيل أخرى.
على أن هذه المطامح الخلقية المبكرة كانت لها حدودها؛ إذ لا ننسى أننا نتناول البحث في عصر مضى عليه الآن ما بين 55، 45 قرنا من الزمان. وقد رأينا أن أهم الانتصارات التي قام بها الإنسان في ذلك العصر القديم كانت في منازلة القوى المادية، وقد خرج منها خروج الظافر الغالب، في حين أن الإنسان القديم وهو في وسط طائفة من الارتباكات ذات المؤثرات المضللة قد أخذ يرى قبسا صغيرا من القيم الجديدة التي تسمو فوق الأعمال المادية المجردة.
ولا نزاع في أن سيطرة «ماعت» بقيت في جملتها المثل السامي في نظر الحكماء، ولكن الفساد في الجهات الرسمية جعلت تحقيقه أمرا مستحيلا، شأنه في ذلك شأن الفساد الذي لا يزال للآن العقبة القائمة في وجه العدالة عند الحكومات الشرقية إلى أيامنا هذه.
11
فيجب ألا نتخيل إذن أن الواجبات التي كان يفرضها ذلك التصور الخلقي كانت شاملة عامة، أو أنه كان في مقدوره أن يشمل كل ما ندركه نحن في معناه من الصفات؛ فمثلا نجد أن مستلزمات القاضي العظيم في عالم الآخرة كانت لا تتناقض مع أفظع الملاذ الشهوانية؛ إذ لم تكن تلك اللذات الشهوانية المباحة في عالم الآخرة مقصورة على ما صورته لنا متون الأهرام، بل نص على الطرق الفعلية التي يحصل بها إشباع تلك الشهوات؛ ولذلك كان يؤكد للملك المتوفى حيازته على اللذة البهيمية في أشنع معانيها؛ من ذلك ما جاء في بعض النقوش من: «أنه هو الرجل الذي يغتصب النساء من أزواجهن من أين شاء وحينما يشتهي قلبه.»
ومهما يكن من أمر فإن نشأة الاعتقاد بأن النعيم في جميع صوره يتوقف على ما للإنسان من الصفات الخلقية في الحياة الدنيا، تعد من الخطوات الخطيرة، ولا بد أن يكون الشعور القوي بالوازع الخلقي هو الذي جعل الفرعون نفسه، المقدس المعتبر فوق كل قانون أرضي، معرضا للحضور أمام ذلك القاضي السماوي، ومكلفا بأن يتزود لذلك بالزاد الخلقي. وهذه الخطوة لا يمكن الوصول إليها طفرة واحدة، ومن الممكن أن نرى حتى في مدة القرن ونصف القرن التي شغلتها عصر متون الأهرام بعض أثر التقدم في الشعور الخلقي، وهو يشمل بأحكامه الشديدة حتى الملك نفسه؛ فنجد مثلا في فقرة من متون الأهرام البيان التالي عن الملك: «إن هذا الملك «بيبي» بريء.» وقد حدث أن تلك الفقرة التي وردت بها هذه العبارة قد وجدت بصورة مختلفة في نقوش هرمي «وناس» و«تيتي»، وكانا ملكين حكما قبل «بيبي». ففي كل من النصين المعدلين لا نجد ذكرا لعبارة البراءة، وينتج من ذلك أنه بعد مضي مدة تترواح بين الستين والثمانين سنة رأى كاتبو تلك المتون أن إضافتها من الصواب فأضافوها.
على أنه ليس من السهل أن يقرأ الإنسان تقدم شعب ما ورقيه الروحي والعقلي في آثار هي قبل كل شيء مادية، كما لو كان يقرؤها في الوثائق الأدبية؛ إذ من السهل أن يضل الإنسان ويخطئ في ترجمة تلك الإشارات الضئيلة التي تمدنا بها تلك الآثار المادية المحضة. والواقع أن هذه الآثار تخفي وراءها طائفة من القوى الإنسانية والتفكير البشري لا يمكننا الاهتداء إلى معظمها، ومع ذلك فإنه يكاد يكون مستحيلا على الإنسان أن يتأمل مقابر ملوك الأسرة الرابعة الهائلة المعروفة بأهرام الجيزة، ثم يوازنها بالمقابر الملكية الصغيرة التي أقامها ملوك الأسرتين التاليتين بعدها دون أن يرى وراء هذا التغيير المفاجئ والمدهش معا أسبابا فوق الأسباب السياسية المحضة، فأهرام الجيزة العظيمة - كما قلنا من قبل - تمثل حرب القوى المادية الهائلة بغية الوصول بالعوامل المادية المحضة إلى تخليد جثمان الملك المادي بإحاطته بغطاء هائل من المباني ليس في الإمكان اختراقه حتى يحفظ فيه إلى الأبد مع كل ما كان يربط روح الملك بالحياة المادية قبل الموت. ومع أن أهرامات الجيزة العظيمة تدل بعظمتها على أنها أكبر شاهد باق ينطق بظهور أقدم إنسان منظم، وبانتصار الجهود المتضافرة، فإنها في الوقت نفسه برهان صامت يعبر تعبيرا فصيحا عن محاولة الإنسان الحصول على نعيم مقيم خالد بالقوة المادية المحضة.
ولم يكن من الممكن لمثل ذلك النضال الهائل ضد قوى التحلل والفناء أن يستمر في طريقه إلى غير نهاية، وذلك لأسباب طبيعية محضة انضمت إليها اتجاهات سياسية أيضا، ولكن مع كل هذه الأسباب مجتمعة فإن مجرد إدخال متون الأهرام في المقابر الملكية خلال القرن ونصف القرن الأخير من عصر الأهرام كان على وجه التقريب في حد ذاته تخليا عن ذلك الصراع الهائل المعتمد على القوى المادية والتجاء ظاهرا إلى عوامل أخرى أقل ظهورا من ذلك. كما أن الاعتراف بالحساب في الآخرة وبحاجة الإنسان إلى قيم خلقية يتصف بها في الحياة الآخرة يعد في الواقع أعظم من ذلك أهمية في نفس هذا الاتجاه، فهذه الخطوة تعلم لنا التحول من الارتكان على العوامل الظاهرية الخارجة عن شخصية المتوفى إلى الاعتماد على القيم النفسية الباطنة، وبذلك بزغ فجر عقيدة خلود الروح لأول مرة على عقول البشر، باعتبار الأبدية أمرا يحصل عليه الإنسان بالروح لا بالجثمان.
وقد كان ذلك فاتحة عهد انتقال من المزايا المادية الظاهرة إلى الصفات الروحية الباطنة؛ ولذلك كان أيضا خطوة من الخطوات الهامة التي كنا نترقبها في ذلك المنهج الطويل، وهي ابتداء ظهور الشخصية المستقلة بعد أن كان كل شيء ينسب إلى جملة الشعب؛ أي إن فجر ظهور كفاية الشخصيات الفردية وتفوقها قد طلع على عقول أولئك الناس الذين عاشوا في ذلك العالم القديم، وصارت مثلهم العليا تنتمي إلى أخلاق أكبر الآلهة عندهم، كما اعتبر ملك ذلك الإله عالما خلقيا عظيما يتولى الملك في الأرض إدارته وتدبير أموره نائبا عن الإله لفائدة الأمة المصرية.
بذلك الفوز السامي القويم تم هذا التطور الذي أحرزه عصر ألف السنة التي بدأت مع بداية الاتحاد الثاني وانتهت بعد حلول سنة 2500ق.م بقليل.
الفصل العاشر
انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام
تعد أهرام الجيزة دليلا قويا على السيطرة والثروة اللتين كانتا متجمعتين في أيدي فراعنة الأسرة الرابعة، وبقاء تلك المباني الرائعة مدة تقرب من خمسة آلاف سنة يعتبر دليلا آخر يعزز ذلك؛ إذ إن الفرعون الذي كان في مقدوره أن يجمع كل ثروة رعاياه ومجهودهم وهم عدة ملايين لإقامة ضريح يبلغ ارتفاعه 481 قدما، ومساحته لا تزال تشغل نحو 13 فدانا من المباني الصلبة، لا بد أنه كان قد جمع في يده زمام حكومة قوية مركزة. ولا شك أنه كان يستعمل تلك السلطة دون أن يكترث كثيرا بالآلام التي كانت تعانيها الإنسانية من تسخيره إياها في تلك الأعمال الشاقة. ونحن نعلم الآن أن كبار الموظفين الذين كانوا يديرون دفة تلك الإدارة العظيمة قد أثروا منها تدريجا، وبخاصة من الأراضي التي كان الملك يهبها إياهم، وبذلك أسسوا لأنفسهم ضياعا عظيمة حتى صاروا يعيشون كما يعيش حكام الإقطاعيات في مقاطعاتهم، وبعد انقضاء بضعة قرون وصل أولئك الموظفون إلى درجة عظيمة من الاستقلال؛ أي إن حكومة البلاد التي كانت مركزة في يد الملك، والتي تنطق بها ضخامة المقابر الملكية الشاسعة الأرجاء بالجيزة أخذت تنحدر نحو اللامركزية التامة، ولم يأت عام 2500ق.م حتى صارت الدولة المصرية القديمة مؤلفة من مجموعة من الإقطاعات المفككة الأوصال مهددة بفقد كل رابطة بينها، تكاد تقضي عليها عوامل التمزيق والتفريق.
وبذلك نرى أنه في فترة تقدر بأقل من ألفي سنة قامت أولى المدنيات بدورة التطور كاملة، من توحيد كلمة رؤساء المقاطعات المحليين في عصر ما قبل التاريخ إلى تأليف حكومة متحدة من تلك المقاطعات جميعا عن طريق أقصى درجات تركيز السلطة، ثم عادت ثانية إلى اللامركزية بخطى متوالية إلى أن رجعت سيرتها الأولى، حيث صارت مكونة من مقاطعات محلية مستقلة، فكانت هذه أول دورة في تجارب البشرية. وقد رأينا أنها تركت أثرا بالغا عميقا في عقول رجال الفكر؛ إذ صار في مقدورهم لأول مرة عند نهاية الدولة القديمة أن يرجعوا بأبصارهم إلى ذلك الماضي القديم والتأمل في ذلك المنهج الطويل من تطور النظام البشري. وقد تبين لهم كيف أن أخلافهم، بتأثير سير هذا الموكب العظيم الممثل لأقدم حياة بشرية منظمة في التاريخ، قد نقلوا تدريجا آلهة الطبيعة القدامى إلى مملكة الشئون الاجتماعية، وسنرى الآن تأثير التجارب الاجتماعية النامي على أفكار هؤلاء الحكماء بشأن الإنسان والسلوك البشري وعن الإله.
والأرجح أنه بعد سنة 2500ق.م بقليل انهارت حكومة الدولة القديمة؛ أي الاتحاد الثاني، ومزقت أوصال البلاد شر ممزق، وخلال أوقات الشجار الذي كان قائما بين الأشراف المحليين على أثر ذلك الانهيار ظهر عميد أسرة من حكام الإقطاعات كان يقطن «أهناسية المدينة» الواقعة على مسافة 25 فرسخا جنوبي «منف»، واستولى على السلطة التي كانت لملوك «منف» مدة طويلة، وأقام نفسه فرعونا على البلاد، غير أن هذه الأسرة الأهناسية التي كانت ضعيفة في سياستها لم تترك لنا عنها إلا شيئا ضئيلا من آثارها يحدثنا عن أخبار ذلك العصر، فقد انفصل عنها النصف الجنوبي من الوجه القبلي ونال استقلاله، كما أن المناوشات كانت قائمة أحيانا ضدها على الحدود في مصر الوسطى. ومع أن التأثير العظيم الذي نتج عن هذا الانهيار التام في حكم الاتحاد الثاني بعد أن عمر ألف سنة لم يظهر في أول الأمر ظهورا تاما؛ فإنه كان في ذلك مثله كمثل سقوط «رومة»؛ إذ ترك أثرا قويا على عقول القوم الذين شاهدوه، فقد أقلع رجال الفكر عن التفكير في الأبهة الظاهرة الكاذبة، وتحولوا إلى التأمل العميق في القيم الباطنة. ولا بد أن الحياة المتحضرة في أمهات مدن الدولة القديمة مثل «منف» و«عين شمس»، وهي التي كانت مركزا للقوة والثقافات، كانت لا تزال باقية فيها على ما هي عليه، هذا فضلا عما في «أهناسية» نفسها، فإننا تعلم على الأقل أن أحد ملوكها كان حكيما ذا عقل مفكر راجح، ومما يؤسف عليه أن اسم ذلك الملك مجهول لنا للآن، ولكنه لما قارب حكمه النهاية كتب رسالة في سلوك الملك ليعلم بها ابنه «مريكارع»، وقد سميت هذه الرسالة «تعليم موجه إلى «مريكارع»».
وتلك الوثيقة الهامة مدونة على بردية محفوظة الآن بمتحف «لنينجراد»، وهي تحمل بين سطورها أدلة قاطعة تثبت أنها كتبت في العصر الذي تنسب إليه، ويمكن أن نعتبرها صوتا حقيقيا لملك «أهناسية» المسن الذي كان يرجع بنظره إلى الوراء للاستفادة من ماضي تلك الدولة القديمة؛ وذلك لعظيم احترامه للحكمة التي تمخضت عنها تلك الأزمان؛ إذ نرى ذلك السياسي المحنك يتحدث عن الرجل الحكيم فيقول: «إن الحق (يعني «ماعت») يأتي إليه مختمرا حسبما كان عليه الأجداد، فعليك إذن أن تقتدي بآبائك وأسلافك ... تأمل؛ لأن كلماتهم مدونة في المخطوطات فافتحها لتقرأها واقتد بمعرفتهم، وبتلك الكيفية يصير صاحب الصناعة على علم بها.» ونحن من جانبنا يمكننا أن نلحظ في تلك الكلمات تأثير نصائح «بتاح حتب» الذي عرف في نصائحه الكلام بأنه صناعة، وعرف المتكلم الماهر بأنه محترف. ولا بد أنه كان بين تلك المخطوطات ملف البردي الذي يحتوي على نصائح «بتاح حتب»، والذي كان الملك الأهناسي يأمر ابنه بفتحه وقراءته حتى يمكنه التبصر فيما يحويه من الحكم التي مضى عليها وقتذاك نحو 400 سنة. ويقول ذلك الملك المسن: «كن ممن يحسنون صناعة الكلام لتكون قوي البأس؛ لأن قوة الإنسان هي اللسان، والكلام أعظم بأسا من كل حرب.» وهذا القول أشبه بقولنا: «القلم أشد بأسا من السيف.»
غير أن ذلك السياسي المصري - كما أظهر لنا ذلك «بتاح حتب» - كان يعرف معرفة تامة أن اللسان الذرب يحتاج إلى توجيه حكيم؛ إذ يضيف إلى ما سبق قوله: «إن الرجل الفطن لا يجد من يفحمه، كما أن الذين يعرفون أنه أوتي الحكمة لا يعارضونه، وبذلك لا تحدث مصيبة في زمانه.» وكان من المستحيل بداهة أن يتجاهل الإنسان الصعوبات القائمة في موقف البلاد السياسي إذ ذاك، ولذلك أسديت النصيحة إلى الأمير الصغير بالمحافظة على العلاقات السلمية بينه وبين جنوب الوجه القبلي المستقل في ذاك الوقت. وقد خصص جزء كبير من تلك النصيحة للعناية بحدود البلاد المصرية المكشوفة من جهة آسيا شرقا ولوبيا غربا.
ولقد برزت فطنة ذلك السياسي المسن بوجه خاص في سياسة البلاد الداخلية؛ إذ نجده يعترف اعترافا صريحا بقوة الأسر الشريفة العظيمة؛ ولذلك فإنه يوصي بمعاملتها بتلك السياسة التي اتبعها كثير من ملوك أوروبا فيما بعد؛ وهي سياسة المهادنة والتعاون. كما أبدى فطنة عظيمة في الوقت نفسه لتقديره ضرورة البحث عن الكفايات المغمورة في الأوساط الدنيا، وتكوين رجال جدد يمكن استخدامهم ضد رجال الإقطاع القدامى؛ ولذلك نراه يقول: «أعل من شأن الجيل الجديد ليحبك أهل الحاضرة ... إن مدينتك ملأى بالشباب المدرب الذين هم في سن العشرين. ضاعف الأجيال الجديدة من أتباعك، على أن يكونوا مزودين بالأملاك، وقد منحت لهم الحقول وجعلت في حيازتهم قطعان الماشية. وإياك أن ترفع من شأن ابن العظيم على ابن الوضيع، بل اتخذ لنفسك الرجل من أجل كفايته.» ومع ذلك فإنه ليس من الفطنة أن تهمل الأسر الشريفة العريقة؛ ولذلك يقول: «عظم من شأن أشرافك لينفذوا قوانينك؛ لأنهم إذا لم يكونوا أهل يسار فإنهم لا يقيمون العدل في إدارتهم للأمور. إن الرجل الغني في بيته لا يتحيز (يعني في حكمه)؛ لأنه صاحب عقار وليس محتاجا، ولكن الرجل الفقير (وهو في وظيفته) لا يتكلم حسب العدالة (يعني ماعت)؛ لأن الرجل الذي يقول: «ليت لي» لن يكون محايدا، بل ينحاز إلى الشخص الذي يحمل في يده العطية
reward ، فالعظيم من كانت أشرافه عظماء، والملك الخطير من كانت له حاشية، والرفيع من كان حوله أشراف كثيرون. وإذا تكلمت الصدق (يعني ماعت) في بيتك فإن الأشراف المتسلطين على الأرض سيهابونك. والملك ذو العقل المحايد يفلح حاله؛ لأن داخل (القصر) هو الذي يبعث الاحترام في الخارج.»
وفضلا عن المسئولية فيما يختص بالعدالة الدنيوية يؤكد الملك المسن لابنه بأنه على الملك واجبات هامة في المعبد، وأنه محتم عليه أن يوجه كل عنايته لإقامة جميع الشعائر المقدسة مما يظهر بكل جلاء اعتماده التام على العطف الإلهي. على أن فضيلة الملك على أية حال لا تظهر بإقامة أمثال هذه الشعائر الخارجية الظاهرة وحدها، كما أنها ليست ضمانا كافيا لرضى الإله؛ فإن أخلاق المعطي أعظم خطرا من الهبة التي يبذلها؛ ولذلك نجد الملك المسن يأتي في وصيته بما يعد من أنبل ما جاء به التفكير الخلقي بمصر القديمة؛ إذ يأمر ابنه بأن يحفظ في ذهنه: «أن فضيلة الرجل المستقيم أحب (يعني عند الإله) من ثور (أي الذي يقدم قربانا) الرجل الظالم.» فلا بد إذن لذلك الشاب عندما يتربع فوق العرش أن يحكم طبقا للصفات الخلقية الباطنة؛ ولذلك يقول له والده: «أقم العدل لتوطد به مكانتك فوق الأرض، وواس الحزين ولا تسئ إلى الأرملة، ولا تحرمن رجلا من ميراث والده، ولا تضرن الأشراف في مراكزهم، ولا تقم بالعقاب (يعني بنفسك) فإن ذلك لا يفيدك، بل عاقب بواسطة الجلادين ومن غير إسراف، وبذلك تستتب لك الأرض ... والله عليم بالرجل الثائر، والله يجازي عسفه بالدم ... ولا تقتلن رجلا تعرف قدره وتكون قد جودت معه الكتابة (يعني في المدرسة بطبيعة الحال).»
أما التخلق بالوداعة التي طالما وصى بها «بتاح حتب» فقد أفاض في الحض عليها ذلك المسن حكيم «أهناسية»؛ إذ يقول مستحلفا ابنه: «لا تكونن فظا؛ لأن الشفقة محبوبة، وليكن أكبر أثر لك محبة الناس لك ... وسيحمد الناس الله على مكافأتك لهم مقدمين الشكر على عطفك وطالبين لك العافية في صلواتهم.»
وقد ذكرنا فيما مر أن «بتاح حتب» كان كثير الاهتمام بالمستقبل في هذه الدنيا بسبب تقلبات الحظ التي تحف بمركز الإنسان في هذه الحياة، والملك في تلك الوثيقة ينصح ابنه «مريكارع» بأن يفكر في المستقبل في الحياة الآخرة، فيقول له في ذلك: «إنك تعلم أن محكمة القضاة الذين يحاسبون المذنب لا يرحمون الشقي يوم مقاضاته ولا ساعة تنفيذ القانون ... ولا تتحدثن عن طول العمر؛ لأنهم (يعني القضاة) ينظرون إلى مدة الحياة كأنها ساعة؛ فإن الإنسان يبعث ثانية بعد الموت وتوضع أعماله بجانبه كالجبال. إن الخلود مثواه هناك (يعني في الآخرة) والغبي من لا يكترث لذلك، أما الإنسان الذي يصل إلى الآخرة دون أن يرتكب خطيئة فإنه سيثوى هناك ويمشي مرحا مثل الأرباب الخالدين (يعني الأبرار المتوفين).»
ويرى ذلك الملك المسن أن الحياة الصالحة فوق الأرض هي العماد الأعظم الذي ترتكز عليه الحياة الآخرة؛ إذ يقول في ذلك: «إن الروح تذهب إلى المكان الذي تعرفه، ولا تحيد في سيرها عن طريق أمسها.» ولا شك أنه يقصد بذلك طريقها المعتاد للخلق القيم الكريم. على أن القبر كان في نظره في الوقت نفسه من الأشياء الهامة، حيث يقول: «زين مثواك (يعني قبرك) الذي في الغرب، وجمل مكانك في الجبانة بصفتك رجلا مستقيما مقيما للعدالة (يعني ماعت)؛ لأن ذلك هو الشيء الذي تركن إليه قلوب أهل الاستقامة.»
ولما كان أهم أمر في حياة الإنسان هو علاقته بربه، سواء أكان ذلك في هذا العالم أم الحياة الآخرة، فإنه يقول في ذلك أيضا: «يمر الجيل إثر الجيل الآخر بين الناس والله العليم بالأخلاق، قد أخفى نفسه ... وهو الذي لا يعبأ بما تراه الأعين، فاجعل الإله يخدم بالصورة التي سوي فيها سواء أكانت من الأحجار الكريمة أم من النحاس، كالماء الذي يحل محله الماء؛ إذ لا يوجد مجرى ماء يرضى لنفسه أن يبقى مختفيا بل يكتسح السد الذي يخفيه.»
وهذا التصريح الهام الذي جاء على لسان رجل من رجال الفكر في مصر منذ أكثر من أربعة آلاف سنة مضت ليس إلا محاولة منه للتمييز بين الإله وبين صنم المعبد التقليدي الذي كان يظهر في احتفالات المعبد وتهتف له الجماهير، ولكن كينونة الإله - كما قال - كالماء الذي يكتسح السد أمامه، لا يمكن أن تبقى محبوسة في الصورة المحسوسة، وهو الشيء الذي عبر عنه بأنه «لا يعبأ بما تراه العيون»، على حين أن الإله الخفي العليم بالأخلاق قد أخفى نفسه فلا يمكن إدراكه كجسم من الماء يمتزج في جسم آخر مثله من الماء. على أنه من الصعب جدا أن يدرك الإنسان معنى أمثال هذه التشبيهات، وبخاصة في لغة فقيرة جدا في التعابير المعنوية.
ولكن من الواضح أن لدينا في تلك البردية سلسلة أفكار عن إله الشمس نجد فيها المفكر المصري القديم يقترب من عقيدة التوحيد؛
1
إذ نجد أنه يعترف بوجود طائفة من الآلهة يقومون مقام القضاة في عالم الآخرة، وبذلك يبتعد بعدا واضحا عن الاعتراف بوحدانية الإله، ولكنه من جهة أخرى كان يقترب جدا من الاعتراف بالتسلط الخلقي لإله واحد لدرجة أن كلمة إله صارت تدل في بعض المواضع - مع شيء من التناقض - على مدلولها الحقيقي، ونلاحظ زيادة الإمعان في صوغ هذه التأملات بصيغة التوحيد في الصورة الآتية التي صور فيها الحكيم الأهناسي الخالق الحاكم الرءوف، في خاتمة تأملاته؛ إذ يقول: «إن الله قد عني عناية حسنة برعيته، فقد خلق السماوات والأرض وفق رغبتهم، وأطفأ الظمأ بالماء، وخلق لهم الهواء حتى تحيا به أنوفهم، وهم صور منه خرجت من أعضائه، وهو يرتفع إلى السماء حسب رغبتهم، وخلق النبات والماشية والطير والسمك غذاء لهم، وقد ذبح أعداءه وعاقب أطفاله بسبب ما دبروه حينما عصوا أمره، وصنع النور حسب رغبتهم كي يسبح في السماء ليراهم، كذلك أحاطهم بسياج من حمايته، وهو يسمعهم عندما يكون، وجعل لهم حكاما وهم في الأرحام ليحموا ظهر الضعفاء منهم.»
والإشارة هنا إلى أن الإله ذبح أعداءه تنويه بأسطورة إله الشمس وعهد حكمه على الأرض بصفته فرعونا عليها، وذلك عندما تآمرت رعيته عليه فإنه اضطر أن يوقع بهم الهلاك، فنجد في تلك الأسطورة ناحية خلقية تدل على حرمان الإنسان من العطف الإلهي، وكذلك نتعرف فيها تعرفا تاما سيادة إله الشمس الخلقية. ومن الواضح أن ذهن الملك الأهناسي المسن اتجه إلى محاولة الموازنة بين فكرته السامية للحاجات الخلقية وبين التقاليد الموروثة الخاصة بقيمة الوسائل المادية؛ ولذلك يقول لابنه: «أقم آثارا باقية للإله؛ لأنها تجعل اسم صانعها يبقى، ودع المرء يعمل ما فيه صلاح روحه بتأدية الطهر الشهري وبأخذ النعلين الأبيضين وزيارة المعبد، وإماطة اللثام عن الرموز الدينية، والدخول في قدس الأقداس، وأكل الخبز في المعبد. وضاعف القربان، وأكثر من عدد الرغفان، وزد في القربان الدائم؛ لأن في ذلك خيرا لفاعله، واجعل آثارك فيه حسب ثروتك؛ لأن يوما
2
واحدا قد يبقى أثره إلى الأبد، ورب ساعة واحدة تنفع للمستقبل، والله عليم بكل من يقوم له بأية خدمة.» على أن محاولة الموازنة بين المادية والحاجات الأخلاقية ظاهرة في التصريح القيم الذي اقتبسناه فيما سبق عندما قال الملك المسن لابنه: «إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور الظالم، ومع ذلك قرب القربان للإله - ليكافئك بالمثل - ولتحفل به مائدة القربان، وكذلك بالنقوش؛ لأن ذلك هو ما يخلد اسمك، والله يعلم من يقرب له القربان.»
فنجد هنا اعترافا صريحا بقيمة الحياة الصالحة في نظر الإله، وهو الذي لا يقبل أن تقوم الهدايا عنده مقام الأخلاق، وهذا الاعتراف يفوق بمراحل كثيرة أعظم المثل العليا في عصر الأهرام. وبالرغم من ذلك فإن تقاليد الأجداد فيما يتعلق بقيمة الوسائل المادية، سواء أكان ذلك في العمارة أم في تقديم القربان، كانت لا تزال تجد قبولا عند ذلك الملك المسن، وبتصريحه هذا قد استخلص الملك نتيجة من ذلك - قد تكون بغير قصد منه - لا يمكن أن تترك هكذا معلقة ودون أن يفصل فيها، فكان كر القرون يثبت بدون هوادة بطلان الاعتماد على العوامل المادية البحتة للحصول على النعيم الأخروي لروح الإنسان، كما كان سير الزمان ينحسر بلا شفقة عن انهيار العقيدة المادية، وكذلك بدأت الظلال القاتمة التي تنم عن أقدم صورة لعدم الانخداع بالأوهام تخيم على سماء مصر.
على أن حكمة ذلك الحكيم الأهناسي المتوج لم تفقد تأثيرها بعد انقراض أسرته بزمن طويل، وقد رأينا صداها في ترجمة حياة أحد الأشراف كتبها لنفسه على شاهد قبره في عهد الأسرة الحادية عشرة؛ إذ يقول: «لقد سمعت أفواه الناس تنطق بتلك الحكمة التي توجد في أفواه العظماء: إن فضيلة الرجل هي أثره الباقي، ولكن الرجل صاحب السمعة الرديئة يصير نسيا منسيا.» والواقع أننا بعد انقضاء بضعة قرون على ذلك نجد ذكريات لعظات ذلك الملك الأهناسي وردت بعبارة واحدة تقريبا في نقش كل من مقبرتي شريفين نقشا عليهما تاريخ حياتهما، وكانا يعيشان في عهد الملك «سنوسرت الأول»؛ أي بعد سنة 2000ق.م
3
بجيل واحد، وكان أحدهما شريفا من أغنياء «أسيوط» رأى الفخر كل الفخر في أن يقول: «إنه كان إنسانا يفصل بين المتخاصمين دون محاباة؛ لأني كنت ثريا وما أكرهه هو الكذب، وكنت متزن العقل من غير ميل.»
وأما ترجمة حياة الثاني فإنها منقوشة على لوحة جميلة من الحجر الجيري الأبيض محفوظة الآن بمتحف المترو بوليتان للفن، وصاحبها هو الشريف «منتووسر» يقول فيها:
لقد كنت امرأ يستمع للقضايا حسب الحقائق دون إظهار محاباة لمن يحمل الهدية (يعني الرشوة)؛ لأني كنت صاحب ثراء أرفل في بحبوحة النعيم.
4
ونجد هنا حالة يكاد يحاول بها الإنسان أن يعتبر الثراء عونا على معاملة الناس بالحق في تصريف العدالة. على أن بطلان الاعتماد على العوامل المادية كان قد أخذ في الظهور للعيان بازدياد مطرد بعد انتهاء عصر الاتحاد الثاني؛ فإن ارتكان الملوك العظام الذين حكموا في عهد الأهرام على مثل هذه الوسائل المادية قد جعلهم يكافحون بلا طائل ضد الموت مدة قرون عدة، وهذا الكفاح قد أخذت آثاره المتداعية تدل في كل يوم على خيبة الطرق المادية في أداء الغرض منها. فقد كان صراع أولئك الجبابرة الذي استمر نحو خمسمائة سنة، يتمثل جليا أمام الأعين في هيئة سور عظيم من الأهرام يمتد نحو ستين ميلا على حافة الصحراء الغربية، وكأنه خط من الحصون الأمامية الصامتة يشرف على حدود الموت، وكان قد انقضى إذ ذاك ما يقرب من ألف سنة على بناء أول هرم منها، وكذلك قد انطوت قرون عدة منذ أن طوى رجال العمارة سجلاتهم البردية الحاوية لرسوم آخر هرم منها، وجمع طوائف العمال آلاتهم وانصرفوا إلى أوطانهم، كما هجر الكهنة منذ زمن بعيد تلك المعابد الفاخرة والأبواب العظيمة الأنيقة التي كانت مقامة على جانب الوادي حينما صاروا ولا عائل يعولهم، فأصبحت تلك الجبانة الهرمية التي يبلغ امتدادها ستين ميلا ثاوية في صمت مقفر مدفونة في الرمال إلى عمق كبير، يغطي نصف حجم مبانيها الخربة بما تحويه من تيجان الأعمدة الملقاء على الأرض والأعمدة المطروحة فوق أديم الغبراء، فهي خرائب مهجورة، لا يرى بينها إلا شبح ابن آوى المنقرض يتسلل بين دمنها، وكأن رؤية هذا الحيوان المقدس «لأنوبيس» إله الموتى العتيق تشير إلى فشل الحماية التي كان يقوم بها آلهة الصحراء الجنازيون القدامى.
على أنه حتى في يومنا هذا لا يجد الإنسان منظرا رائعا مثل منظر جبانات الأهرام المصرية القديمة في أية بقعة من بقاع العالم القديم، ونحن لا نزال نذكر ما شعرنا به من الاحترام الرهيب الذي تركته تلك الجبانات في نفوسنا عندما زرناها للمرة الأولى. ولكن هل كان ذلك التأثير الذي ألم بنفوسنا يحس به خلفاء بناة الأهرام بعد انقضاء بضعة قرون على تشييدها؟ وهل صارت تلك الأهرام من الآثار القديمة في نظر أولئك الأقوام الذين كانوا يعيشون في سنة 2000ق.م؟
نعم إن جبانة الأهرام قد تركت أثرا عميقا في عقول الحكماء المصريين القدامى الذين ظهروا بعد انتهاء عهد الاتحاد الثاني. على أنه إذا كان قد وجد في نفس عصر الأهرام بعض الفتور في الاعتقاد بأن الإنسان بالقوة المادية المحضة يمكنه أن يتحكم في الخلود، فإن منظر تلك الخرائب الهائلة الآن قد أيقظ هذه الشكوك عند هؤلاء الحكماء وزاد فيها حتى جعلها شكا علنيا. وهذا التشكيك قد عبر عنه بعد ذلك العهد بزمن قصير في صورة أدبية ذات تأثير ظاهر.
ولا شك أن ذلك العصر قد بعد كل البعد عن عهد التسليم بالعقائد التقليدية دون معارضة فيها كما ورثت عن الآباء، فإن عقيدة التشكك تعني تجربة طويلة للعقائد الموروثة، وبحثا مستمرا فيما كان معترفا به حتى ذاك الوقت دون تفكير، ثم الشعور بالمقدرة الشخصية على الاعتقاد في الشيء أو إنكاره، وهي تعد خطوة مميزة إلى الأمام نحو نمو الوعي النفسي والوازع الشخصي.
على أن عقيدة التشكك هذه لا تنمو إلا بين أفراد الشعب الذي له مدنية ناضجة، ولا تنبت قط في الأحوال الفطرية؛ ولذلك فإن ذلك العصر، البالغ نحو خمسمائة سنة، والذي يمثل قمته أولئك المتشككون الذين جاءوا عقب سقوط الاتحاد الثاني، يعد عصرا هاما في تاريخ التقدم العقلي عند البشر. وقد عبر هؤلاء الحكماء عن حالتهم العقلية في مرثية كانت تغنى غالبا في نوع من الأعياد (يشبه عيد «كل الأرواح») كان يحتفل به في الجبانة أهالي الموتى وأقاربهم عند قبور أجدادهم الراحلين.
فلدينا روايتان لهذه الأنشودة غير كاملتين: إحداهما مدونة على بردية، والثانية كانت منقوشة على جدران أحد القبور بطيبة. غير أن النسخة التي دونت على البردية كانت منقولة عن نقوش قبر، بدليل أن عنوانها هكذا: «الأغنية التي في مثوى (مزار القبر) الملك «إنتف»
5
المرحوم وهي المواجهة للضارب على العود.»
وإنه لمن المدهش حقا أن نجد ملكا من ملوك الأسرة الحادية عشرة (أي حوالي سنة 2100ق.م) يأمر بنقش هذه الأنشودة فوق جدار مزار قبره، غير أنه يمكننا أن نستنتج من قراءة سطورها أن المغني عندما كان ينشد أغنيته كان يقف على مكان مرتفع يشرف منه على جبانة أهرام الدولة القديمة.
وها هي ذه الأنشودة:
ما أسعد هذا الأمير الطيب!
6
إن المقدر الجميل قد وقع
وتذهب الأجيال من الناس
وتبقى أخرى
منذ عهد الذين كانوا من قبلنا
والآلهة الذين وجدوا في غابر الزمان
والذين يرقدون في أهرامهم
وكذلك الأشراف والمبجلون قد رحلوا
ودفنوا في أهرامهم
وأولئك الذين بنوا مزارات لقبورهم
فإن أماكنهم أصبحت كأن لم تكن
تأمل ماذا جرى فيها
لقد سمعت أحاديث «أمحتب» و«حردادف»
وهي كلمات لها شهرة عظيمة مثل أقوالهم
تأمل مساكنهم هنالك
فإن جدرانها قد هدمت
وأماكنها قد أصبحت لا وجود لها
كأنها لم تكن قد وجدت قط
ولم يأت أحد من هنالك
ليحدثنا كيف حالهم
وليخبرنا عن حظوظهم
لتطمئن قلوبنا
إلى أن نرحل نحن أيضا
إلى المكان الذي رحلوا إليه
شجع فؤادك على أن ينسى ذلك
ولتسر باتباع رغبتك
وأنت على قيد الحياة
وضع العطور على رأسك
وارتد ملابس من الكتان الرقيق
وضمخها بالعطور العجيبة
وهي أشياء الإله الأصيلة
وزد كثيرا من مسراتك
ولا تجعلن قلبك يبتئس
واتبع ما تشتهي وما يطيب لك
وهيئ شئونك على الأرض
حسبما يمليه عليك قلبك
إلى أن يأتي يوم مغيبك
حينما لا يسمع صاحب القلب الساكن نعيهم
ولا الذي في القبر يصغي للعويل
اغتنم التمتع السعيد
ولا تجهدن نفسك فيه
أصغ! لم يأخذ إنسان متاعه معه
ولم يعد إنسان ثانية ممن رحلوا إلى هنالك.
هكذا كان شعور بعض المفكرين المصريين عن ذلك العصر العتيد حينما كانوا يشرفون بأعينهم على مقابر أجدادهم ويدركون عدم فائدة جبانات أهرام الدولة القديمة الشاسعة الأرجاء، ونلاحظ هنا أنه حتى بعض أسماء الحكماء الذين عاشوا قبل ذلك العهد بألف سنة مثل «أمحتب» «وحردادف» اللذين صارت أقوالهما مضربا للأمثال، ونالا بذكرهما في الأنشودة تخليدا لذكراهما أكثر من تخليد الذكر بالقبور الضخمة، قد جاءت ثانية على لسان ذلك المغني. ومن الصعب أن نعتقد أن ذكر «أمحتب»، وهو أول الاثنين اللذين ورد ذكرهما على لسان المغني، كان من باب المصادفة المحضة؛ فإن «أمحتب» كان أول مهندس للعمارة أقام المباني بالأحجار في نطاق واسع؛ أي إنه أول منشئ للمباني الحجرية. فقد كان «أمحتب» مهندس العمارة للملك «زوسر» الذي عاش في القرن الثلاثين ق.م المشيد لأقدم مبنى كبير بالحجر لا يزال باقيا إلى الآن من آثار العالم القديم، وهو الذي يسمى «هرم سقارة المدرج». ومن المواضيع البارزة الغريبة في هذه الأنشودة أن يرجع المغني بالإشارة إلى مقبرة ذلك المهندس العظيم، ويذكر أنها في حالة خراب حتى صارت كأنها لم تغن بالأمس. والواقع أن مكانها لا يزال مجهولا إلى يومنا هذا، وكذلك نجد أن «حردادف» الحكيم الثاني الذي جاء ذكره أيضا في هذه الأنشودة كان ابن الملك «خوفو»، ولهذا كان له اتصال بالهرم الأكبر. وكون تخليد اسمي هذين الحكيمين أتى فقط عن طريق مداومة ذكرهما والتحدث عن حكمتهما دليل آخر على بطلان تأثير العوامل المادية التي كانت معتبرة وسيلة للخلود والبقاء، كما أن اختفاء أرواح أمثال هذين الرجلين في عالم آخر لا يرون فيه ولا يرجع إلى الدنيا منه أحد يحدثنا عن مصيره، يعد من أعظم النغمات المشجية الحزينة التي نراها في سطور تلك الأنشودة العتيقة، وكأننا نسمع تلك النغمة يتردد صداها ويتجاوب ترجيعها في الشرق (بعد أن انقضى على عهدها ثلاثة آلاف سنة) في بعض مواضع من رباعيات «عمر الخيام»؛ إذ يقول:
إنه أمر عجيب! أليس كذلك؟ حينما نرى أنه من عشرات الآلاف الذين مروا قبلنا بباب الظلمة لم يعد أحد منهم ليخبرنا عن الطريق التي إن أردنا أن نكشف عنها لا بد أن نمر فيها أيضا.
وهنا ينكشف لنا الغطاء عن عقيدة التشكك التي تشك في جميع الطرق، المادية وغير المادية، التي كان يرى أنها تؤدي إلى السعادة أو أنها على الأقل تؤدي للحياة بعد الموت. ولم يكن لمثل تلك الشكوك من جواب، بل كانت هناك طريقة واحدة فقط يستطيع بها الإنسان إزالتها من ذهنه مؤقتا؛ وذلك بأن ينغمس في الملاذ الشهوانية التي قد تغطي على أمثال تلك الشكوك وقتا ما ولو بنسيانها: «كل واشرب وكن فرحا؛ لأننا سنموت في الغد.»
وأما الرواية الثانية التي كتبت بها تلك الأنشودة فإنه قد عثر عليها في قبر كاهن آمون «نفر حتب» في «طيبة»، غير أنها لا تكاد تماثل الأولى ولا تعادلها في التأثير، ومما يؤسف عليه أنها ممزقة، ولكنها على أية حال تحتوي على بعض أسطر قيمة يجب الالتفات إليها، منها:
كيف يرقد هذا الأمير العادل؟
إن المصير الطيب قد نزل به
والأجيال من الناس تموت
منذ زمن الإله «رع»
ويحل مكانها أجيال أخرى
إن «رع» يشرق بنفسه في الصباح المبكر
ويغرب «آتوم » ليستريح في «منو»
7
والرجال تلقح والنساء يحملن
وكل أنف يستنشق الهواء
والإصباح يأتي ويلدن كثيرا
وهم (المواليد) يأتون في الأماكن (المخصصة لهم)
احتفل باليوم المرح يا أيها الوالد المقدس
وضع أحسن العطور كلها عند أنفك
وتيجان البشنين على كتفيك وحول نحرك
وأختك
8
التي تسكن في قلبك
تجلس إلى جانبك
وضع الغناء والموسيقى أمامك
واترك ظهريا كل شيء كريه
ولا تذكر إلا ما يبهج نفسك
إلى أن يأتي يوم الوصول إلى البر (يعني الموت)
في الأرض التي تحب الصمت
لقد سمعت كل ماحدث
لأولئك ...
فبيوتهم قد نهبت
ومكانها لا أثر له
فكأنها لم تكن بالأمس قط
منذ زمن الإله
وأولئك السادة ...
أتريد أن تغرس لنفسك شجرا محبوبا
على شاطئ بركتك
لتجلس روحك تحته
ولتشرب من مائها؟
أشبع رغباتك كلها
وأعط الخبز لمن لا حقل له
وبذلك تنال اسما طيبا
للمستقبل
9
ويبقى إلى الأبد.
ثم تستمر الأغنية فتورد تأملات عن الاغترار بالثراء، وكأن ذلك بمثابة تفسير للسطر الوحيد الذي ورد في النسخة الأولى مشيرا إلى أنه لا يوجد إنسان في قدرته أن يأخذ متاعه عند رحيله عن هذه الدار، فالثراء لا فائدة منه؛ لأن نفس القدر قد دهم:
أولئك الذين كان لهم مخازن غلال
فضلا عما كان لديهم من الخبز للقربان
وكذلك (دهم) من لم يكن لديهم شيء من ذلك.
ومن ثم حذر الرجل الغني بما يأتي:
اذكر أنت اليوم
حينما تجر (في الزحافة الجنازية)
إلى أرض ...
فاتبع رغباتك كلها
فلا يوجد إنسان يعود ثانية.
فالمغني الذي يرتل هذه الأنشودة الثانية لا يجد أملا في التفكير في الموت ومصيره. غير أنه يرى من الخير أن يترك الإنسان وراءه سمعة حسنة دائمة، لا لأن ذلك ينفعه حتما في عالم الآخرة، بل لكي تبقى ذكراه في الدنيا على الألسنة وفي أذهان من يأتون بعده. والواقع أن واجب الإنسان من جهة الحياة الخلقية التي فرضها الإله العظيم الذي ستأتي محاسبته للبشر فيما بعد، وكذلك الفوائد التي يجنيها الفرد من دنيا الأموات، وهي التي تأتي بطبيعة الحال بنتيجة للقيام بهذا الواجب، لم يرد لها ذكر في هذه الأغنية التي تتمثل فيها عقيدة التشكك؛ فهي تتجاهل الآلهة بوجه عام، والإله الواحد الذي تذكره هو إله الشمس «رع» أو «آتوم»، وهو الذي يظهر حتى في مناسبة ذكر المومية حيث كنا ننتظر في ذلك ذكر الإله «أوزير». وعلى ذلك يمكن تلخيص تعليم طائفة المتشككين هؤلاء الذين ألقوا تعاليم آبائهم ظهريا في أنها إشباع الرغبات النفسية وحسن الأحدوثة بعد الموت.
ولا نزاع في أن بداية التفكير الأخلاقي يرجع تاريخها إلى عهد المسرحية المنفية، غير أن المصريين الأقدمين لم يصلوا إلى الاستقلال النفسي الذي مكنهم لأول مرة من تصور المجتمع البشري في كليته، حتى صار بذلك في أنظارهم مملكة يمكن تأملها بإنعام وتدبر، إلا بعد عصر تاريخ تلك المسرحية بنحو 1500 سنة ق.م؛ أي في العهد الإقطاعي، وبخاصة بعد سنة 2000ق.م. وقد كانت نتيجة مثل هذا التأمل عند بعض الناس أنهم وقعوا في حالة تشاؤم فظيع. ألم تكن أخلاق المجتمع قد بلغت من الظلم درجة أصبحت معها الرغبة في «السمعة الحسنة» أقل مما تصوره مغني أنشودة الضارب على العود؟ وماذا يجني الإنسان من ذلك لو أن سمعته الحسنة ضاعت ظلما من غير جرم جناه؟ أو لو أن فرص تمتعه بالملاذ قد قطعت بالمرض أو سوء الحظ؟ والحقيقة أن هذا الموقف بذاته هو الذي مثل أمامنا في ورقة محفوظة الآن بمتحف برلين، ربما كانت أهم وثيقة وصلت إلينا من ذلك العهد السحيق. ويمكننا أن نسميها «محاورة بين إنسان يائس سئم الحياة وبين روحه»؛ لأن عنوانها القديم مفقود. وموضوع هذه المحاورة العام هو اليأس المستحكم الذي نتج من مثل الحالة السالفة الذكر، فأفضى الشعور به إلى أن الموت هو الخلاص الوحيد من الحياة. وغني عن البيان أن اختيار مثل هذا الموضوع في مثل ذلك العهد السحيق هو أمر من أعجب الأمور؛ إذ هو في الواقع موضوع يصف الحالة العقلية والتجارب الباطنة لنفس معذبة تتألم مما حاق بها من الظلم وسوء الطالع، وبذلك يعد هذا الموضوع أقدم قطعة أدبية تناول موضوعها الخبرة الروحية، وهي في نظرنا تعد أقدم مقال يمثل لنا صورة مما ورد في سفر نبي الله «أيوب» - عليه السلام. وقد كتب المقال طبعا قبل أن تظهر التجربة المماثلة الحاوية لمثل هذا الشعور في شعر مماثل بين العبرانيين بنحو ألف وخمسمائة سنة.
ومن المؤسف أن المقدمة التي تقص علينا الأحوال التي دعت إلى ذلك الاضطراب الروحاني قد فقدت، ومع أنه بذلك تنقصنا مقدمة الكتاب فإن بعض الحقائق التي كانت تحتويها تلك المقدمة حتما، وتضع أمامنا الأسباب التي أدت إلى تلك المحاورات التي يقدمها ذلك الكتاب، يمكن استنباطها من تلك المحاورات ذاتها. والبائس الذي نحن بصدده (لأننا لم نعرف له اسما) كان رجلا لطيف الروح، ولكنه بالرغم من ذلك قد دهمه الحظ العاثر من كل ناحية، فما كاد يصيبه المرض حتى ابتعد عنه أصدقاؤه حتى إخوته الذين كان من الواجب عليهم القيام بمواساته في مرضه، وبالجملة لم يجد خلا وفيا، وفي وسط تلك المصائب سرق جيرانه متاعه أيضا، وما عمله من صالح بالأمس قد نسي. وبالرغم من أنه كان صاحب حكمة فإنه كان يصد كلما أراد أن يدافع عن حقه، وقد حكم عليه ظلما، واسمه الذي كان يجب أن يكون محل احترام صار نتنا في أنوف الناس.
والجزء من الوثيقة الباقي الذي وصل إلينا يبدأ بذلك الوقت العصيب عندما كان يضرب في ظلمات اليأس وصمم على الانتحار، فتراه وهو واقف على حافة القبر وروحه فزعة من الظلمة تأبى عليه اتباعه في فعلته، ويلي ذلك محاورة طويلة نرى منها أن ذلك التعس كان يناقش نفسه؛ أي يتحدث مع شخص جرده من روحه كأنه يتحدث مع ذات أخرى. وقد كان أول الأسباب في عصيان روحه له وامتناعها عن متابعته إلى الحياة الآخرة خوفها ألا تجد قبرا تقر فيه بعد الموت.
وقد يظهر ذلك غريبا جدا لأول وهلة من رجل اتضح أنه يشك كثيرا في فائدة مثل تلك المعدات المادية التي كانت تعد للمتوفى عند ترحيله إلى آخرته، ولكننا لا نلبث أن نكشف عن سر ذلك على الفور، فنرى أن هذه كانت حيلة أدبية (كغيرها مما سيأتي ذكره فيما بعد) أراد الكاتب أن يتخذ منها فرصة للتنديد بتلك المعدات الجنازية.
والظاهر أن روحه نفسها قد اقترحت عليه في أول الأمر الانتحار حرقا، ولكنها فرت بنفسها من تلك النهاية الفظيعة.
ولما لم يكن - من بين الأحياء - صديق أو قريب حميم لتلك النفس يقف بجانب التابوت ويحتفل بجنازته، أخذ يستحلف روحه أن تقوم له بكل ذلك، ولكن الروح أبت عليه الموت في أي شكل كان، ثم أخذت تصف له فظائع القبر: ثم «فتحت روحي فمها وأجابت عما قلته: «إذا تذكرت الدفن فإنه حزن وذكراه تثير الدمع وتفعم القلب حزنا، فهو ينتزع الرجل من بيته ويلقي به على الجبل (أي الجبانة)، ولن تصعد قط ثانية لترى الشمس. على أن هؤلاء الذين بنوا بالجرانيت الأحمر المبنى الجميل وشيدوا قبورهم في الأهرام وصاروا مثل الآلهة ترى هناك موائد قربانهم خاوية كموائد أولئك المتعبين الذين يموتون فوق الجسر من غير خلف لهم فيبتلع الفيضان ناحية من أجسامهم، وتلفحهم حرارة الشمس أيضا، ويلتهمهم سمك شاطئ النهر ويعبث بهم، أصغ إلي! وإنه لجدير بالناس أن يصغوا، تمتع بيوم السرور وانس الهموم».»
هذا إذن هو جواب الروح عندما تمثل أمامها منظر الموت المعتاد، وقد أكد ذلك البائس أن: «من كان في هرمه، ومن وقف أحد الأحياء بجوار سرير موته، يكون سعيدا.» وقد سعى أن تقوم روحه «بدفنه وبتقديم القرابين له، وتقف عند القبر يوم الدفن لتجهز السرير في الجبانة.»
ولكن كان مثله مثل ضارب العود في الأنشودة السالفة الذكر؛ إذ تذكرت روحه قبور العظماء التي خربت، وموائد قربانهم التي صارت خاوية مثل موائد العبيد التعساء الذين ماتوا كالذباب في وسط الأعمال العامة على جسور الري، وقد صارت أجسامهم عرضة للحر اللافح والسمك الملتهم، في انتظار الدفن، فلم يكن هنالك إلا حل واحد للتخلص من كل ذلك وهو: «أن يعيش الإنسان ناسيا حزنه منغمسا إلى آذانه في السرور.»
ويلاحظ أنه إلى هنا لم تختلف هذه المحاورة التي تنحصر كل فلسفتها في أن «يأكل الإنسان ويشرب، ويكون مرحا؛ لأنه سيموت في غده» عما جاء في أغنية الضارب على العود، ولكننا بعد ذلك نجدها تأخذ في الخروج والافتراق عن زميلتها بنتيجة خطيرة تجاوزت بها حد تلك الأنشودة بكثير؛ إذ أخذت تبين أن الحياة فوق أنها ليست فرصة للسرور والإسراف في اللذات، فهي عبء أثقل حملا من الموت. وقد وضح ذلك في أربع مقطوعات شعرية خاطب بها ذلك التعس روحه، وتلك المقطوعات تؤلف الجزء الثاني من تلك الوثيقة، ولحسن الحظ نجدها أوضح كثيرا من الجزء الأول، والمقطوعة الأولى تصف لنا مقت العالم بغير حق لاسم ذلك التعس، ويكون كل ثلاثة أبيات منها مقطوعة تبتدئ بالمقطع التالي: «إن اسمي ممقوت.» ثم يرى الكاتب بعد ذلك أن يقوي ذلك المقطع بذكر شيء ممقوت مما يوجد في حياة الشعب المصري اليومية، وبخاصة رائحة السمك والطير النتنة السارحة في حياة سكان وادي النيل، وهاك ذكر ذلك:
مقت اسمه ظلما
انظر، إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الطير في أيام الصيف عندما تكون السماء حارة
انظر، إن اسمي ممقوت أكثر من مقت مصايد السمك في يوم صيد تكون السماء فيه حارة
انظر، إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الطيور فوق تل الصفصاف المملوء بالإوز
انظر، إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الصيادين على شواطئ المستنقعات بعد الصيد.
ثم يتلو ذلك ست مقطوعات بنفس الأسلوب. ومع أن ذلك الشعر مركز على وتيرة واحدة لحقيقة أن اسم ذلك الرجل التعس قد صار نتنا في أنوف أصدقائه، فإننا نجده في الشعر الثاني يترك ذكر نفسه ليصور لنا أولئك الذين كانوا سببا في بؤسه؛ فنراه يلقي نظرة على مجتمع أهل عصره فلا يجد فيه إلا الفساد والخيانة والظلم وعدم الإخلاص، حتى بين أهل أسرته.
وهذا الشعر أيضا اتهام رهيب، وكان يستهل كل مقطوعة دائما بجملة استفهامية يتردد فيها قوله: «لمن أتكلم اليوم؟»
وربما كان يقصد بذلك: أي صنف من الناس هؤلاء الذين أخاطبهم؟ وقد كان الجواب الذي يعقب كل استفهام برهانا جديدا لمقاصده، وهاك ما قاله في ذلك:
فساد الناس
لمن أتكلم اليوم؟ الإخوة سوء، وأصدقاء اليوم ليسوا جديرين بالحب
لمن أتكلم اليوم؟ القلوب تميل إلى اللصوصية، فكل إنسان يغتصب متاع جاره
لمن أتكلم اليوم؟ فالرجل المهذب يهلك والصفيق الوجه يذهب في كل مكان
لمن أتكلم اليوم؟ فإن سمح الوجه قد صار بائسا وصار الخير لا يحفل به في أي مكان
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الذي كان يظن أنه يثير الغضب بأخلاقه الشريرة، يسر منه الناس جميعا رغم أن خطيئته فظيعة
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الناس يسرقون، وكل إنسان يغتصب متاع جاره
لمن أتكلم اليوم؟ فإن الخائن صار أمينا، ولكن الأخ الذي يأتي بها (يعني الأمانة) يصير عدوا
لمن أتكلم اليوم؟ لا يوجد رجل عادل
وقد تركت الأرض لأولئك الذي يرتكبون الظلم.
لقد تنحت روح ذلك المتألم عن الموت، ثم أخذت تقترح عليه أن يعيش عيشة اللهو والملاذ كطريق للخلاص مثل الذي جاء في أنشودة الضارب على العود، ولما أحس ذلك التعس من أعماق قلبه بفظاعة الموت وأخذ يفهم عدم فائدة العتاد المادي المحض لدفع غائلة الموت، نكص على عقبيه مدة قصيرة ثم عاد يتأمل الحياة. والقصيدتان اللتان دونهما هنا تصوران لنا ماذا رأى عندما رجع لبحث الحياة، أما ما يلي فهو وثبة منطقية، بعد العلم بأنه ليس هناك أي بصيص من الأمل في الحياة، إلى الاقتناع التام بأن الموت هو الخلاص الوحيد من ذلك البؤس الذي انغمر فيه.
فالقصيدة الثالثة إذن أنشودة قصيرة في مدح الموت، غير أنها ليست بحثا ساميا في مزايا الموت مثل الذي نطق به «أفلاطون» بعد 1500 سنة في قصة موت «سقراط»، كما أنه لا يمكن مقارنتها بالتشاؤم الفلسفي السامي الذي نراه في سفر ابتلاء «أيوب» النبي صلوات الله عليه. ولكنها تعد أقدم صيغة وصلت إلينا عبر بها الفرد عما أصابه من العذاب ظلما، وأول صرخة من متألم بريء وصل إلينا صداها من عصور ذلك العالم القديم، وهي تعد بحق ذات فائدة فريدة، ولا تخلو من جمال بما احتوته من حرارة نفسية خلابة.
ومما يلفت النظر أنها لا تحتوي على أية فكرة عن الإله، بل تتناول فقط موضوع التخلص السار من آلام الماضي التي لا تحتمل، دون أن تتطلع للمستقبل. وقد كان من خصائص العصر والجو الذي نظمت فيه تلك القصيدة أن يصور ذلك الخلاص السار في شكل صور محسوسة مأخوذة من الحياة اليومية لسكان وادي النيل الأقدمين، وهاك ما قاله في ذلك:
الموت خلاص سار
إن الموت أمامي اليوم، كالمريض الذي أشرف على الشفاء، وكالذهاب إلى حديقة بعد المرض
إن الموت أمامي اليوم، كرائحة بخور المر، أو كالجلوس تحت الشراع في يوم شديد الريح
إن الموت أمامي اليوم، كرائحة زهرة السوسن، أو كجلوس الإنسان على شاطئ السكر
إن الموت أمامي اليوم، مثل مجرى الماء العذب! ومثل عودة الرجل من سفينة حربية إلى داره
إن الموت أمامي اليوم، كسماء صافية، ومثل رجل يصطاد طيورا لا يعرفها
إن الموت أمامي اليوم، كمثل رجل يتوق لرؤية منزله، بعد أن أمضى سنين عدة في الأسر.
وبالرغم من أن تلك الصور مأخوذة من الحياة في عالم متوغل في القدم، ومعظمها يكاد يكون غير مألوف لنا، فإنها لم تفقد كل تأثيرها في أنفسنا؛ إذ نجد فيها الحياة مشبهة بمرض طويل نشفى منه بالموت، مثلما يدخل الناقه حديقة جميلة، وأن الموت مثل عبير المر يحمله ريح النيل العذب بينما المسافر يجلس تحت الشراع الذي يزجيه الريح، وأن الموت مثل أوبة المحارب المنهوك القوى الذي كان يسير في المياء البعيدة ثم يقترب من وطنه، أو مثل السرور الذي يحدث في نفس الأسير العائد من المنفى النائي إلى الوطن السعيد. فتلك الصور لها تأثير شامل يؤثر في نفس كل إنسان في أي عصر وفي أي جو.
10
وموضوع المنظومة الرابعة هو النظرة العاجلة إلى المستقبل النهائي، الذي لم تتعرض لذكره الأنشودة السابقة قط، فإننا نجد في كل من مقاطعها الثلاثة أنه يبتدئ بقوله : «إن الذي هنالك»، وهو تعبير عادي، وبخاصة إذا ورد بصيغة الجمع. «إن الذي هنالك» يقصد به الأموات، وقد سبق أن رأيناه في النصيحة الموجهة إلى «مريكارع». فمن ذلك «أن الذي هنالك» سيكون نفسه إلها «ويوقع عقاب الشر على مرتكبه» لا على البريء كما هو الحال في حياة ذلك التعس الذي نحن الآن بصدده. ومن ذلك أيضا «أن الذي هنالك ينزل في السفينة السماوية مع إله الشمس، وسيرى أن أحسن القرابين تقدم لمعابد الآلهة ولا تصرف (عبثا) في الرشوة أو يسلبها السراق من الموظفين.» ومنه أيضا: «إن الذي هنالك» هو حكيم محترم لا يطرد عندما يشكو إلى الموظفين الفاسدين، بل يوجه شكايته إلى إله الشمس «رع» ويهيئ له تلك الفرصة وجوده يوميا مع الإله.
وقد سبق أن أعلن ذلك التعس في بداية شجاره مع روحه أنه مقتنع بتبرئته في عالم الآخرة، ثم هو يعود مرة ثانية إلى ذكر ذلك الاقتناع في المنظومة الرابعة التي هي خاتمة تلك الوثيقة المهمة، وبذلك تكون قد اختتمت بحل كالحلول التي تصورها نبي الله «أيوب» - عليه السلام؛ أي الالتجاء إلى العدالة في الحياة الآخرة (ولو أن «أيوب» - عليه السلام - لم يتخذ من ذلك مبررا لطلب الموت). وبذلك يكون الموت طريقا إلى الدخول في قاعة المحاكمة الإلهية؛ ولذلك وجب السعي إلى بلوغ تلك النهاية سعيا سريعا، فيقول:
الميزات السامية للقاطنين هنالك (يعني في الآخرة)
إن الذي هنالك، سيقبض على المجرم كإله حي، ويوقع عقاب السوء على من اقترفه
إن الذي هنالك، سيقف في سفينة الشمس، ويجعل أحسن القرابين هنالك تقدم للمعابد
إن الذي هنالك، سيكون رجلا عاقلا غير منبوذ، مصليا «لرع» حينما يتكلم.
ولما كان هذا التعس يتوق للخلاص السار الذي يهيئه له الموت، وكان يظهر عليه أنه قد استعاد بعض الثقة بما سينعم به من الميزات السامية في عالم الآخرة، فإننا نرى روحه تستسلم في النهاية، فيدخل في ظلال الموت ويسير في طريقه ليكون مع «أولئك الذين هنالك».
على أننا نحن بدورنا نرقب بشيء من التأثر هذا الرجل المجهول (الذي يعد أقدم روح بشرية معروفة لنا) يذهب إلى تلك الحجرات الداخلية التي سمحت لنا الأحوال بأن نلقي عليها نظرة سريعة، بعد أن مر عليها أربعة آلاف من السنين.
وكان رجال ذلك العهد الإقطاعي يجدون لذة عظيمة في مثل تلك المؤلفات الأدبية، وقد قام بنقل هذه الورقة التي نحن بصددها، المحفوظة في برلين، كاتب لا تزال ملاحظته الختامية ظاهرة تقرأ بوضوح في نهاية تلك الوثيقة، وهي: «لقد انتهيت من نسخها من البداية إلى النهاية طبق الأصل المكتوب.» فيكون قد نقلها إذن من أصل قديم، ولا شك أنه كانت توجد عدة صور منقولة مثلها على رفوف مكتبات رجال الفكر في ذلك العصر.
وإن قصة ذلك التعس ترجع في أصلها إلى التجاريب الشخصية التي كان يعانيها فعلا رجال ذلك الزمان، ولذلك كانوا يجدون فائدة من مطالعتها؛ لأنها في الواقع علامة واضحة في نمو الشعور الذاتي الطويل المدى، وهو التطور البطيء الذي انتهى بظهور الفرد باعتباره قوة خلقية، فصار الفرد يشعر بأن له ضميرا مسيطرا يستطيع بإيحائه أن يواجه المجتمع وينتقده.
وذلك الموقف الذي يقفه الرجال الشاعرون بالمسئولية الخلقية العظيمة معروف لنا نحن أهل هذا العالم الحديث من الأمثلة التاريخية العديدة؛ مثل الأنبياء العبرانيين وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم أجمعين - وعدد عظيم أيضا من الأنبياء الأوروبيين من «سفونارولا»
11
إلى «جون ويزلي».
12
غير أن تجاريب البشر لغاية عصر الإقطاع المذكور (أي منذ 4000 سنة مضت إلى الآن) لم تكن قد أنتجت لنا حتى ذلك الوقت شبيها لرجل من هؤلاء، فكان ظهور أشباههم في وادي النيل في ذلك الوقت يعد حادثا هاما من الحوادث التاريخية الخطيرة الشأن، كما يعد دليلا قاطعا على ظهور ميدان جديد للفكر الإنساني، والمسئولية الإنسانية، ولنستعرض الآن ذلك بشيء من التفصيل.
فبالرغم من أن قصة ذلك التعس هي قصة تجربة شخصية لفرد واحد؛ فإنها مع ذلك تحمل في ثناياها ما يصح أن يكون تحليلا لأحوال ذلك المجتمع، الذي ترجع إلى نقائصه بوجه عام تلك التجربة الفردية التي مرت بها حياة ذلك التعس.
وفي نصائح «بتاح حتب»، وفي خلال عصر الدولة القديمة كله، وحتى إلى عصر النصيحة الموجهة إلى «مريكارع»، كان المفكرون المصريون الاجتماعيون يجدون سرورا عظيما في البحث في المثل العليا للخلق العظيم برزانة وتدبر، وقد أدى بهم ذلك إلى تصورات سامية ونبيلة حقا، غير أنهم لم يوجهوا فكرهم إلى موازنة تلك التصورات السامية بالمستوى الخلقي المنحط الذي كان يعيش به المجتمع البشري بالفعل.
وفي النصيحة الموجهة إلى «مريكارع» نجد ذم «ثور الذي يقترف الظلم»، كما نجد بعض الشعور بأن خطايا الإنسان تكدست بجانبه يوم الحساب مثل الجبال، ولكننا بجانب ذلك لا نجد شعورا بانحطاط المجتمع الخلقي. وها نحن الآن نقترب من الدخول في عصر صار فيه الحكماء المصريون على علم بالفرق الشاسع بين المثل العليا الموروثة للأخلاق العظيمة وبين الانحطاط الخلقي المخيف الظاهر في المجتمع الذي يحيط بهم. وليس هناك من جديد في تجاربنا المشابهة لذلك في العصر الحاضر، ولكن في تجربة التعس المنكود دار البحث أو كاد يقصر على شخص الكاتب، ومن ناحية أخرى نجد اهتماما عظيما بأمر الانحطاط الخلقي قد أخذ يبدو، مضافا إليه قدرة الباحث على تأمل وإدراك ما كان عليه الناس من حقارة ومهانة، يتضح ذلك من موضوع تناول الأفكار المحزنة المشبعة بروح التشاؤم عن ذلك العصر العظيم، عصر الوعي النفسي النامي، وأول عصر كشفت فيه الأوهام من المجتمع.
وقد عبر لنا عن تأملاته المحزنة عن المجتمع كاهن من كهنة عين شمس يدعى «خع خبر رع سنب» كان يعيش في ذلك العصر، وذلك في مؤلف كان لا يزال متداولا بعد تأليفه بقرون طويلة حينما نقله كاتب من عصر الأسرة الثامنة عشرة على لوحة من الخشب محفوظة الآن بالمتحف بالبريطاني. وهذا المؤلف له أهمية خاصة؛ إذ يدلنا بمجرد الشروع في تلاوته على أن أمثال أولئك الرجال الذين عاشوا في العهد الإقطاعي كانوا يشعرون شعورا تاما بأنهم يفكرون على نمط جديد، وأنهم قد أقلعوا عن التلطف التقليدي الذي كانت تتميز به حكمة آبائهم. ويفتتح كاهن عين شمس هذا مقاله القصير بما يأتي:
ليتني كنت أعرف صيغا للكلام لا يعلمها أحد وأمثالا غير معروفة أو حتى أحاديث جديدة لم تذكر (يعني من قبل) خالية من التكرار، لا ذلك الكلام الذي جرت به الألسن من زمن بعيد مضى، وهو ما تكلم به الأجداد ...
إني أقول ذلك بحسب ما قد رأيت، مبتدئا بأقدم الناس حتى وصلت إلى أولئك الذين سيأتون بعد ...
إن العدالة قد نبذت وأخذ الظلم مكانه في وسط قاعة المجلس، وخطط الآلهة قد انتهكت حريتها وأهملت نظمها، والبلاد صارت في هم، والحزن عم كل مكان، وصارت المدن والأقاليم في عويل، وكل الناس صاروا على السواء يرزحون تحت عبء الظلم. أما الاحترام فإن أجله قد انتهى ...
وعندما أريد أن أتحدث عن كل ذلك تنوء أعضاء جسمي بحمله، وإني في بؤس من أجل قلبي المحزون، وإنه لألم أن أهدئ روعي من جهته. ولو كان قلب آخر لانثنى، (ولكن) القلب الشجاع في الملمات يكون رفيقا لسيده. ليت لي قلبا يتحمل الألم، فعندئذ كنت أركن إليه ... فتعال إذن يا قلبي لأتكلم إليك، ولتجيبني عن كلامي ولتفسر لي ما هو كائن في الأرض ... إني أفكر فيما قد حدث. إن المصائب تقع اليوم، ومصائب الغد لم تأت بعد، وكل الناس لاهون عن ذلك، مع أن كل البلاد في اضطراب عظيم، وليس إنسان خاليا من الشر، فإن جميع الناس على السواء يأتونه، والقلوب بالحزن مفعمة، فالآمر والمأمور صارا سواسية، وقلب كل منهما راض بما حصل، والناس عليه (يعني الشر) يستيقظون في صباح كل يوم، ولكن القلوب لا تنبذه، ولا تزال اليوم على ما فعلته في ذلك بالأمس؛ فلا يوجد إنسان عاقل يدرك، ولا إنسان يدفعه الغضب إلى الكلام، والناس تستيقظ في الصباح كل يوم لتتألم. إن مرضي ثقيل وطويل، والرجل الفقير ليس له حول ولا قوة لينجو ممن هو أشد منه بأسا. وإنه لمؤلم أن يستمر الإنسان ساكتا على الأشياء التي يسمعها، ولكنه مؤلم أن يجيب الإنسان الرجل الجاهل.
ففي ذلك المقال نجد إنسانا قد تحركت نفسه من أعماقها بما شاهده من فساد بني قومه، فهو يتأمل هذا المجتمع بصفة كونه وحدة كاملة، ومع أنه كان دائما يشير إلى بؤسه فيما ذهب إليه، فإن شقاءه لم يكن هو العبء الرئيسي الذي يقصده بكلامه، بل كان كل همه منصرفا إلى المجتمع الذي كان مكبلا بالخمود غير قادر على إدراك شقائه، وحتى لو كان شاعرا به بأية حال فإنه لم يكن لديه الكفاية التي تمكنه من إصلاح ذاته. وإن كثيرا من تأملاته خليقة بأن نجد لها المقام اللائق بها بين أقوال الناقدين الاجتماعيين في عصرنا هذا ممن امتازوا بحساسيتهم الخلقية. فمن الواضح إذن أن الإنسان قد وصل وقتئذ إلى عصر استيقظ فيه القوم لأول مرة في تاريخ البشر، وشعروا بإحساس عميق بما أصاب المجتمع البشري من الانحطاط الخلقي.
وقد كان هذا الاتجاه الجديد في تفكير أولئك المفكرين الاجتماعيين راجعا إلى حد ما إلى ظهور إدراك خلقي حساس متزايد، ولكن أسبابا أخرى ساعدت على انقشاع الوهم؛ فهؤلاء المفكرون كانوا قد تأثروا تأثرا عميقا بتأملهم للحياة البشرية الاجتماعية فوق الأرض والمصير الإنساني للحياة الآخرة فيما بعد الموت. وقد لاحظنا فيما سبق بعض ما شعروا به من خيبة الأمل عندما انكشفت لهم عدم فائدة العوامل المادية المحضة لضمان سعادة الروح في الدار الآخرة. فهذه الأمور المادية التي كانت تقليدا للأجداد يرجع تاريخه إلى أزمان غابرة قد انهدمت، وبانهيارها ذهب معها كل ما كان يعتبر ضمانا لحياة الإنسان في عالم الآخرة.
ومن المحتمل أن ثقتهم التقليدية المتينة في حكمة أجدادهم كانت قد انهارت من أساسها انهيارا عنيفا؛ لأنه إذا كان ذلك موقفهم من التقاليد الموروثة الخاصة بالحياة في عالم الآخرة، فإنهم صاروا أقل اقتناعا بما يتعلق بالحياة الراهنة؛ فقد قام لمدة ألف سنة نظام قومي ثابت الأركان كان يمثله ويحافظ عليه الفرعون، وكان اسم ذلك النظام «ماعت» (أي الصدق - الحق - العدالة)، ولكن هذا النظام كذلك قد أخذ هو الآخر ينهار إذ ذاك؛ فقد رأينا بالفعل في النصيحة الموجهة إلى «مريكارع » أن الأمة قد انقسمت قسمين، شمالي وجنوبي، وأن الملك كان همه منصرفا إلى تحصين مملكة الشمال من خطر الغزاة الأجانب. وقد انحلت تدريجا قوة الأمة النظامية التي دامت مدة طويلة، حتى كشف الغزاة الأجانب عن مواطن الضعف في البلاد التي كانت في يوم ما أمة عظيمة، وتدفق الغزاة الأجانب إلى الدلتا من جهة آسيا شرقا، ومن جهة لوبيا غربا، وهكذا سادت الفوضى في البلاد تماما. ولا بد أن تلك النكبة هي التي وصفها لنا كاهن عين شمس المتقدم ذكره في الرثاء الذي أوردناه.
وقد أظلم تفاؤل حكماء الدولة القديمة الهادئ، الذي عبرت عنه حكم «بتاح حتب»، على أثر وقوع نكبة مزدوجة، كانت أولا ضياع الأمل جملة في الحياة الأخرى؛ ذلك الأمل القائم على إعداد العتاد المادي الوفير للحياة الأبدية؛ وثانيا الانهيار المحزن لذلك النظام الإداري الخلقي الذي كان يبدو خالدا، والذي كان الدعامة التي قامت عليها حياة المجتمع البشري للأمة المصرية القديمة. وقد هوى في ظلام شامل أمل الرجال المفكرين - مثل كاهن عين شمس - في هذه الحياة والحياة المقبلة، ولم يكن في مقدور أحد حتى إله الشمس نفسه كشف هذه الغمة؛ إذ في خلال حياة قومية دامت نحو ألفي سنة قد أقامت الإنسانية المنظمة بعض القيم الخلقية التي كان ينتظر لها الدوام والاستمرار، ولكن ما كان يعتز به القوم من تلك القيم الخلقية قد محي كلية.
وقد كان ذلك أول عصر معروف في التاريخ كشف فيه عن الأوهام الاجتماعية، على أن مثل ذلك الانهيار التام الظاهري قد حاق بالآمال البشرية مرارا عدة منذ ذلك العهد، وكان آخر تلك الانهيارات ما حدث بنا بعد الحرب العالمية مما لا يزال يخيم علينا للآن بويلاته. فهل كان العويل على تلك الحال هو الجواب الوحيد الذي أجاب به المصريون الأقدمون حينما كانت تلك الأشباح التي تقشعر منها الأبدان تخيم حولهم؟!
وإننا نرى من ناحيتنا نحن الذين لا نزال نحارب الفساد ونعالج سوء الإدارة الموجودين للآن في الحكومة البشرية في جميع العالم، أنه من الأمور الهامة في نظرنا أن نتتبع ما أجاب به أولئك القوم، الذين مضى على زمنهم 4000 سنة، من جواب جريء وأفكار صائبة عندما وجدوا أنفسهم قد أصبحوا مغمورين في مثل تلك النكبة التاريخية الأولى التي حفظتها لنا الوثائق الإنسانية القديمة المدونة.
الفصل الحادي عشر
الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية (التبشير)
إن ما أبرزه لنا كل من ذلك الرجل التعس وكاهن عين شمس المسمى «خع خبرو رع سنب» من سوء الظن المطلق بالحياة الدنيا، لم يكن أمرا عاما؛ إذ كان يوجد رجال مفكرون لا يزالون يمنون أنفسهم بدنو الأيام ذات الأحلام السعيدة في المستقبل القريب، وذلك بالرغم مما يعرفونه عن فساد المجتمع، وما ترتب على سوء الحكم في البلاد من النتائج الوخيمة (يعني خسوف ماعت).
ولما كان تدهور البلاد الإداري نفسه له دخل عظيم في وقوع تلك النكبة الاجتماعية بالبلاد، فقد جعل ذلك بعض المتفائلين يعتقدون بأن قيام حكومة أحسن حالا مما هم فيه خليق بأن يعيد النظام المندثر ويعلن قدوم يوم أكثر إشراقا، بل انبثاق فجر «عهد ذهبي»، وإذا كانت الحال كذلك فهلموا إلى حكومة حسنة وليخسأ الفساد!
تلك هي الألفاظ التي ذاعت وشاعت إذ ذاك، على أنه لو كان في مقدور أولئك المفكرين الذين يرجع تاريخهم إلى نحو 4000 سنة مضت للآن، أن ينظروا إلى المستقبل البعيد، وهم بحسب ما وصلت إليه معلوماتنا أول من حاولوا أن يوجدوا حكومة صالحة، لفقدوا شيئا من شجاعتهم عند إنعام النظر في تحقيقات نظام «تماني»
1
أو محاكمة «كابون».
2
وكيف على كل حال يستطاع الوصول إلى حكومة أحسن حالا مما كان؟
إن الجواب عن ذلك كان واضحا جليا عند المفكر الاجتماعي القديم، فقد كان بعض أولئك المفكرين مقتنعا بإمكان الدخول في عصر جديد على أساس جيل من الموظفين الأمناء العدول، ورأى آخرون أن تحقيق ذلك يتأتى على يد ملك عادل مخلص مجدد ينقذ المجتمع مما فيه.
فعندما فحص رجال الطائفة الأولى الحياة رأوا وجوب التمسك بالمبادئ العملية السليمة للحياة الحقة التي يمكن أن تطبق على الحياة اليومية لطائفة الموظفين، وهؤلاء المفكرون كانوا لا يزالون يؤمنون بوجوب سيادة الحق الخالد؛ الذي هو «ماعت» القديمة، وقد استمروا على تمسكهم بأهداب ذلك الأمل ووجوب إعادتها للسيطرة على الحياة المصرية. وهذه الآراء قد عبر عنها في مقال يمكننا أن نسميه «الفلاح الفصيح »، ومن حسن الحظ أن ذلك المقال لم يصل إلينا عن طريق نسخة متأخرة محرفة مثل الكثير غيرها من وثائق ذلك العصر التي وقعت بأيدينا، بل بقيت محفوظة حتى وصلت إلينا في لفافة من البردي الفخم الذي كتب في ذلك العصر الإقطاعي، وتلك اللفافة محفوظة الآن بمتحف «برلين».
على أننا لم نهتد إلى معرفة اسم مؤلفها، وهو أمر جرت به العادة في مخلفات ذلك العصر المجهول. وقد وضع المؤلف بين أيدينا في ذلك المقال مناقشاته في هيئة قصة شرقية ممتعة مؤلفة، ضمنها وهي في شكلها المسرحي سلسلة من الأبحاث عن خلق الموظف المستقيم وما انطوت عليه روحه، وما ينجم عن ذلك من إقامة العدالة الاجتماعية والإدارية نحو الفقير.
ولعلنا بهذه المناسبة نذكر الكلمات الدالة على اليأس التي فاه بها «خع- خبرو-رع-سنب» حيث قال: «وصار الرجل الفقير لا قوة له تحميه ممن هو أقوى منه.» ولعلنا كذلك نذكر أن «مريكارع» قد حدثه والده فيما نصحه به قائلا له: «إن الموظف الذي يقول: «ليت لي» ليس عادلا، بل يظهر التحيز إلى جانب الفرد الذي بيده الهدية (يعني الرشوة).» وقد كان العلاج الذي نصح به الأمير «مريكارع» من والده في «أهناسية» لإصلاح تلك الحال هو أن يجعل لكل موظف مرتبا وفيرا.
وسنرى الآن أن ذلك العلاج وحده كان غير ناجع؛ لأننا سنجد فيما يأتي بعد، أنه وقع على مشهد من القصر الملكي بجوار «أهناسية» اضطهاد غاشم أقدم على ارتكابه موظف فاسد الأخلاق في ضيعة «المدير العظيم لبيت الملك» في ذلك الزمن، وهو يدل دلالة قاطعة على أن الوظيفة ذات المرتب الضخم لا تغرس في نفس صاحبها العدالة، ولن تغني الفقير شيئا من اضطهاد رجال الحكومة له.
ومن الأمور الشائقة أن نرى ذلك المفكر القديم الذي كتب «قصة الفلاح الفصيح» منذ 4000 سنة وهو يجاهد ليظفر بالتغلب على تلك العقبة الكأداء، عقبة فساد الحكم التي بقيت منذ ذلك العصر من أعقد المسائل المستعصية على المشرفين على الإدارة في الشرق، وهي في الواقع مسألة لم يهتد إلى حلها حلا كاملا للآن في مصر الحديثة حتى بعد وجودها تحت الإدارة الإنجليزية الحاذقة المجربة.
ومجمل هذه القصة أن فلاحا من أهالي إقليم «الفيوم» في منطقة وادي النطرون الواقعة في الصحراء الغربية كان يقطن قرية تسمى «حقل الملح»، وجد أن مخزن غلال أسرته أشرف على النفاد، فحمل قطيعا صغيرا من الحمير بحاصلات قريته وسار به نحو مدينة «أهناسية» الواقعة بالقرب من مدخل «الفيوم»، يريد أن يستبدل بحاصلاته غلالا، وكانت الحالة تحتم عليه المرور من طريق به منزل رجل يدعى «تحوتي ناخت»، وهو موظف صغير من موظفي «رنزي» الذي كان إذ ذاك من الأشراف، وكان يحمل لقب «المدير العظيم لبيت الفرعون». وكانت بلدة «أهناسية» مقرا للملك، فعندما رأى «تحوتي ناخت» حمير الفلاح تقترب منه دبر حيلة لاغتصابها بما عليها، فأرسل على الفور أحد الخدم إلى منزله فجاء بصندوق مملوء من نسيج الكتان، فأخرج النسيج ونشره على الطريق العامة حتى غطاها كلها، من حافة حقله المزروع قمحا الواقع على الجانب الأعلى من الطريق إلى ماء الترعة الذي يقع في الجانب المنخفض منها.
وكان ذلك الفلاح البريء - كما تقول القصة - يتقدم في سيره «على الطريق العامة لكل الناس» وهي التي سدها «تحوتي ناخت» المذكور بنسيجه ذلك - ويلاحظ هنا ما تكشف عنه عبارة كاتب القصة من الغضب - ولما كان الفلاح يخشى السير في الماء الذي في الجهة المنخفضة من الطريق فإنه آثر السير بحميره المحملة في الجهة العليا منها محازيا حافة حقل القمح، وفي أثناء السير التقم أحد الحمير بضع سيقان من جذور ذلك القمح المغري، فتهيأت بذلك في الحال الفرصة المدبرة التي تمناها «تحوتي ناخت» الماكر الذي كان يترقب ذلك عن كثب. وفي هذا اللحظة تقدم الفلاح إلى «تحوتي ناخت » مقدما له الاحترام والخضوع بكلامه وهيئته، ولكن بما لا يحط من كرامته، فما كان من «تحوتي ناخت» المذكور إلا أن زمجر وسخط وقبض على الحمير. عند ذلك عاود الفلاح إيضاح ظروفه في أدب واحتشام، ثم أردفه باحتجاج جريء فانبرى يقول: «إن طريقي مستقيمة، وقد سد أحد جانبيها، وعلى ذلك سرت بحميري على تلك الحافة. أتغتصب حميري لأن واحدا منها التقم ملء فيه من سيقان قمحك؟ إني أعرف رب هذه الصيغة، فهي ملك «مدير البيت العظيم» «رنزي بن مرو»، وأعرف أنه هو الذي يقضي على كل سارق في أنحاء هذه البلاد، فهل أسرق في ضيعته؟»
فلما أحفظت «تحوتي ناخت» جسارة هذا الفلاح أمسك بغصن من الأثل الأخضر وأخذ يضرب فريسته بدون رحمة ولا مبالاة بصياح الفلاح واحتجاجاته المتكررة، واستاق كل الحمير إلى منزله، وقضى الفلاح المسكين أربعة أيام يرجوه فيها إرجاع الحمير بدون جدوى، وطوال هذه المدة كان يتألم لبعده عن أسرته التي أشرفت على الموت من الجوع، فصمم على رفع شكواه إلى «مدير البيت العظيم» نفسه الذي حدث في ضيعته ذلك الاعتداء الصارخ، وزاد الفلاح شجاعة في رفع شكايته إليه ما اشتهر به «مدير البيت العظيم» من حبه للعدالة حتى صار مضربا للأمثال في عدالته. وبينما يقترب الفلاح من المدينة إذ قابله لحسن حظه «مدير البيت العظيم» المقصود خارجا من باب ضيعته الواقعة على النهر وهو يسير في طريقه للركوب في قاربه الرسمي في الترعة. وعند ذاك استطاع الفلاح، بما أوتيه من أدب جم وسيطرة على أساليب البيان وتوجيه للأقوال الحسنة التي تليق لمثل ذلك المقام، أن يسترعي أذن ذلك الرجل العظيم، فأصغى إليه بعض لحظات في أثناء مسيره لركوب قاربه، ثم أرسل بأحد خدمه ليسمع قصة ذلك الفلاح، فلما رجع الخادم وأخبر «رنزي» بتلك السرقة التي ارتكبها «تحوتي ناخت» لم يسع «مدير البيت العظيم» إلا أن يبسط ذلك الأمر على حاشيته من الموظفين، فكان جوابهم إزاء ما حصل هو بيت القصيد الذي احتال المؤلف بمهارته حتى جعله فرصته لأن يضع أمام القارئ - بدون تعليق - صورة واضحة للمعاملة الشائعة التي كانت تقابل بها مثل شكاية ذلك الفقير في الدوائر الحكومية؛ إذ انحاز في الحال زملاء مدير البيت إلى جانب مرءوسهم «تحوتي ناخت» السارق؛ ولذلك كان جوابهم على «رنزي» جوابا ملؤه عدم المبالاة، قائلين له: «إن القضية يحتمل أن تكون قضية فلاح قد دفع ما يستحق عليه من الضرائب إلى رئيس غير رئيسه خطأ، وإن «تحوتي ناخت» قد استولى على ما يستحقه من الضرائب بحق من الفلاح.» ثم تساءلوا بغضب: «هل يعاقب «تحوتي ناخت» بسبب قليل من النطرون والملح؟ أو على أكثر تقدير في موضوع كهذا، يصدر إليه الأمر بإعادتها، وهو بلا شك معيدها له!» ومما يلفت النظر هنا وينطبق على ما اعتادته طبقة أولئك الموظفين أنهم تجاهلوا الحمير كلية، وهي التي كان ضياعها معناه موت ذلك الفلاح وأسرته جوعا.
وفي ذلك الوقت نفسه كان الفلاح واقفا على مقربة يسمع بضياع ماله وخرابه المحتم، يتغاضى عنه رجال السلطة ويتجاهلون أمره. وفي تلك الأثناء كان «مدير البيت العظيم» يجلس شبه حالم في صمت. وهذا المشهد يمثل لنا باختصار طابعا طبعت به عصور كاملة من التاريخ الاجتماعي في الشرق، فمن ناحية نرى تلك الطائفة المنعمة من أتباع ذلك الرجل العظيم، بما نشئوا عليه من المطاوعة والملق، وهم في ذلك يمثلون الطراز الغالب في طبقة الموظفين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نشاهد صورة ذلك الفلاح المنكود الحظ الذي لا صديق له ينصره وقد اغتصب متاعه فتتمثل فيه صورة مؤثرة للمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وهذا المنظر يعد من أقدم الأمثلة الدالة على المهارة الشرقية في تصوير المبادئ المعنوية في شكل مواقف ملموسة، وهي التي صورت فيما بعد أبدع تصوير في أقوال «عيسى» - عليه السلام.
أما ما كان من شأن ذلك الفلاح، فإنه لما رأى أن «مدير البيت العظيم» لم يحر جوابا، حاول مرة أخرى أن ينجي نفسه وأسرته من الموت الذي كان يتهددهم جميعا بسبب الجوع، فتقدم إلى الأمام خطوة وخاطب بفصاحة مدهشة ذلك الرجل العظيم الذي كانت قضيته الآن بين يديه، متمنيا له سياحة طيبة عند نزوله في قاربه الذي كان في الترعة، ثم لهج بشهرة «مدير البيت العظيم» في فعل الخير، مما كان يعلل به نفسه عند رفع قضيته إليه، فكان من قوله له : «لأنك والد اليتيم وزوج الأرملة وأخ لمن هجره الأهلون وستر من لا أم له، دعني أضع اسمك في هذه الأرض فوق كل قانون عادل. يا أيها القائد الذي لا يشوبه طمع، ويا أيها الرجل العظيم الذي يتجنب الصغائر ويحطم الظلم ويثبت الحق، أجب إلى الصيحة التي ينطق بها فمي، فإذا تكلمت فعليك أن تسمع، أقم العدل أنت يا من قد مدحت، ويا من يمتدحه الممدوحون. اكشف عني الضر، انظر إلي فإني أحمل أثقالا فوق أثقال. حقق أمري، انظر، فإني في حيرة.»
3
وقد شعر «مدير البيت العظيم» بسرور عظيم من لباقة الفلاح، الخارقة للعادة، البادية في حسن منطقه وفصاحة لسانه، حتى إنه تركه دون أن يقطع في قضيته برأي، وذهب على الفور إلى البلاط حيث قال للملك: «يا مولاي، لقد عثرت على أحد أولئك الفلاحين يحسن القول بحق.» فسر الملك سرورا عظيما، وكلف «مدير البيت العظيم» أن يصحب الفلاح معه دون أن يقطع في قضيته برأي؛ رغبة في أن يرتجل له الفلاح خطبا أخرى أيضا. وكذلك أمر الملك بتدوين أقواله بدقة، وأن يقدم له الطعام وكل ما يلزمه، وأن يرسل خادم إلى قريته ليتحقق أن أسرته ليست في حاجة إلى شيء ما خلال تلك الفترة التي يقضيها عند الملك. وقد نتج عن تلك الإجراءات أن أخذ الفلاح يلقي على أسماع «رنزي» ما لا يقل عن ثماني شكايات.
وعند هذه النقطة تنتهي هذه المقدمة التمثيلية، وهي التي كان الغرض منها أن تسبغ على ذلك المقال الاجتماعي ثوبا يجعله في صورة قصة، وبعد ذلك تبتدئ الخطب الثمانية التي يتألف منها جميعا ذلك المقال الاجتماعي.
وتلك الخطب الموجهة إلى «مدير البيت العظيم» «رنزي» تصور لنا في أول الأمر خيبة الأمل المحزنة التي صادفها الفلاح في اعتقاده بما اشتهر به ذلك الرجل العظيم من أنه لا يحيد عن العدل.
وعلى ذلك يبتدئ خطابه الثاني بالتقريع، فيقاطعه «رنزي» في ذلك بالتهديد، فلا يثني ذلك من عزم الفلاح ويواصل تقريعه.
أما خطابه الثالث فيعود فيه إلى مدائح كالتي كان ذكرها في أول شكاياته «إلى رنزي»، فتراه يقول: «يا أيها المدير العظيم للبيت الملكي، مولاي، إنك «رع» رب السماء مع حاشيتك، إن أقوات بني الإنسان منك؛ لأنك كالفيضان، وأنت إله النيل الذي يخلق المراعي الخضراء ويمد الأراضي القاحلة، ضيق الخناق على السراق، واحم التعس، ولا تكونن كالسيل ضد الشاكي. احذر، فإن الأبدية تقترب، وفضل أن تعمل حسب المثل القائل: «إن نفس الأنف إقامة العدل أو الحق (ماعت)»، ونفذ العقاب في من يستحق العقاب، وليس هناك شيء يعادل استقامتك. هل يخطئ الميزان؟ وهل تميل عارضة الميزان إلى أحد الجانبين؟ ... لا تنطقن كذبا؛ لأنك عظيم (وأنت بذلك مسئول)، لا تكن خفيفا؛ لأنك ذو وزن، ولا تتكلمن بهتانا؛ لأنك الموازين، ولا تحيدن؛ لأنك الاستقامة. افهم أنك والموازين سيان، فإذا مالت فإنك تميل (كذبا)، ولسانك هو المؤشر العمودي للميزان، وقلبك هو المثقال، وشفتاك هما ذراعاه.»
وهذه المقارنات بين أخلاق «مدير البيت العظيم» وبين الموازين تظهر مرات متكررة في خطب ذلك الفلاح.
4
والعبرة التي تؤخذ من ذلك واضحة؛ إذ إن مفتاح الطريق الحق بأيدي الطبقة الحاكمة، فإذا هم أخفقوا في اتباعه ففي أي مكان آخر يمكن الحصول عليه؟ إذ كان المرجو منهم أن يوازنوا بين الحق والباطل ثم يفصلوا فيه بقرار عادل كالموازين الدقيقة التي لا تخطئ. وبتلك الكيفية كانت الموازين تؤلف رمزا شاع تداوله في الحياة المصرية حتى صارت كفتا الميزان تظهران (في النقوش) بمثابة رمز مجسم لتصوير محاكمة كل روح في عالم الحياة الآخرة.
وقد وجدت الموازين في ذلك المقال لأول مرة في تاريخ الأخلاق، وقد بقيت صورتها وهي منصوبة في يد إلهة العدالة العمياء رمزا لذلك إلى يومنا هذا.
والحقيقة أن ذلك الرمز ترجع نشأته إلى ظهوره بين رجال الفكر في العهد الإقطاعي بمصر منذ أربعة آلاف سنة، ولم يكن الأمر قاصرا على تصوير الميزان بأكمله بمثابة رمز للاستقامة في ذلك العهد الإقطاعي، بل كانت أجزاؤه كذلك تستعمل على الدوام لذلك الغرض أيضا؛ فنجد «العامود» الذي يرتكز عليه الميزان، كما نجد «عارضة» الميزان التي تتدلى منها كفتاه، وكذلك نجد بوجه خاص «خيط الميزان»، ونجد «الثقل» المربوط فيه، وهو الذي يتدلى من قطعة خشبية بارزة عند قمة العامود الذي يرتكز عليه الميزان، ونجد كذلك «لسان» الميزان (المؤشر) الذي يمتد عموديا إلى أسفل من وسط العارضة التي تحمل كفتي الميزان ويتحرك معها كلما تحركت. وعند الوزن يمكن موازنة اللسان دائما بخيط الوزن المعلق من خلفه، حتى إذا ما كان طرف اللسان على استقامة واحدة مع خيط الثقل؛ فإن عارضة الميزان تكون أفقية تماما وتكون الكفتان متوازنتين ومستويتين، وعلى هذا يكون خيط الميزان الذي لا يحيد هو الضابط الصحيح الذي يحفظ الميزان عن الخطأ.
ولا يفوتنا أن نلاحظ هنا أن الفلاح كان يذكر «مدير البيت العظيم» بظهوره أمام محاسبة الموازين التي لا تتحيز إلى جهة دون الأخرى؛ إذ يقول له: «احذر لأن يوم الآخرة يقترب.» وهذا المثل من الأمثلة القليلة التي يلتجأ إليها في الشكايات بتحذير الظالم مما يتعرض له من المسئولية في الحياة الآخرة، ويوجد كذلك مثال آخر من ذلك النوع في تلك الوثيقة بالخطبة الثانية من خطب الفلاح.
وقد صارت الآن تهديدات الفلاح «لمدير البيت العظيم» أكثر مما يحتمل في شدتها أثناء وقوفه أمام القصر، ومن أجل ذلك أرسل خادمين ليجلدا ذلك الرجل التعس، ولكن بالرغم من ذلك فإن الفلاح انتظر قدوم «رنزي» من غير خوف وهو خارج من معبد العاصمة وواجهه بخطبة رابعة، ثم تلاها بخطبة خامسة. وبالرغم من أن هذه كانت أقصر خطبه كلها فإنها ألذعها في الاتهام؛ إذ يقول: «لقد نصبت لتسمع الشكاوى، وتفصل بين المتخاصمين، وتضرب على يد السارق، ولكنك تتحالف مع السارق، والناس تحبك رغم أنك معتد، ولقد نصبت لتكون سدا للرجل الفقير يحميه من الغرق، ولكن انظر فإنك أنت فيضانه الجارف.»
كل هذا و«رنزي» كان لا يزال ملازما للصمت، فيبتدئ الفلاح خطابه السادس لاجئا من جديد إلى عاطفة العدالة التي اتصف بها «مدير البيت العظيم» وما اشتهر به من حب الخير، فيقول له: «يا مدير البيت العظيم، اقض على الظلم وأقم العدل وقدم كل ما هو خير، وامح كل سيئ، حتى تكون كالشبع الذي يقضي على الجوع، أو كاللباس الذي يخفي العري، أو كالسماء الصافية بعد سكون العاصفة الشديدة، أو كالنار التي تطهو الطعام، أو كالماء الذي يطفئ الغلة.»
ولما استمر «رنزي» لا يحير جوابا أيضا على ذلك الاستعطاف اهتاج الفلاح الشقي وعاد إلى نغمة القدح من جديد، فأخذ يقول له: «إنك متعلم، إنك مهذب، لقد تعلمت ولكن لا لتكون سارقا، إنك متعود لأن تفعل ما يفعله كل الناس، وقد وقع مثلك أقاربك في نفس الأحبولة. وأنت يا من تمثل الاستقامة بين كل الناس قد صرت على رأس البغاة في كل البلاد، إن البستاني الذي يزرع الشر، يروي حقله بالعسف ليثمر زرعه البهتان، وبذلك تغمر الضيعة بالشر.»
ومع ذلك فإن هذه الاتهامات لم تحرك ساكنا قط عند «مدير البيت العظيم»، فأخذ الفلاح يفتتح خطبته السابعة، فيبدأ بالمديح المعتاد، فنراه يصف «مدير البيت العظيم» بأنه «السكان الذي توجه بأمره سفينة كل البلاد»، ثم يرجع فجأة إلى وصف حالته التعسة، فيقول: «إن جوفي
5
مفعم، وقلبي مثقل، وإن في السد لكسرا يتدفق منه الماء، ولهذا فإن فمي مفتوح ليتكلم.» غير أن استمرار تغاضي ذلك الحاكم وعدم اكتراثه، وهو ذو الشهرة الذائعة بالعدل والرأفة، قد زاد في غيظ ذلك الفلاح التعس وبلغ مبلغا جعله يرى أن في صمت مدير البيت العظيم ما يطلق ألسنة أكثر الناس غباء وعيا، فنراه يقول له: «لا يوجد فرد صامت لا تحفزه حالتك إلى الكلام، ولا من نائم لا تجعله حالتك يستيقظ من رقدته، ولا من إنسان مكتئب إلا جعلته يثور، ولا من فم أرتج عليه إلا افترت شفتاه، ولا من جاهل إلا صيرته حالتك حكيما، ولا من غبي إلا جعلته حالتك يتعلم.»
ولما لم يكن في مقدور ذلك الفلاح أن يكبح جماح غضبه، فإنه أخذ يلقي خطبته الثامنة، واستمر في قدحه فيقول: «إن قلبك جشع، وذلك لا يليق بك، إنك تسرق، وذلك لا ينفعك ... إن الموظفين الذين نصبوا لدرء الظلم هم مأوى لمطلقي العنان، وحتى الموظفين الذين أقيموا لمنع الظلم أصبحوا أنفسهم ظالمين.»
ومع كل ذلك فإن ذلك الفلاح لم ين عن المطالبة بتحقيق العدالة؛ ولذلك يعود من جديد إلى المطالبة بها في أعظم عبارات فاه بها في ذلك المقال العظيم؛ إذ يقول: «أقم العدل لرب العدل وهو الذي أصبح عدله حقا. أنت يا من تمثل القلم والقرطاس واللوح، بل تمثل «تحوت»؛
6
لأنك بعيد عن عمل السوء، على أن العدل عندما يكون قائما يكون حقيقة عدلا؛ لأن العدالة (يعني ماعت) أبدية، فهي تنزل مع من يقيمها إلى القبر عندما يوضع في تابوته ويثوى على الأديم، واسمه لا يمحى من الأرض بل يذكر بسبب عدله، وهكذا تكون استقامة كلمة الله.»
على أن السؤال الذي ينشأ عن ذلك طبعا بعد ذكر هذه الكلمات المؤثرة هو: هل لا يزال هناك مجال للظلم رغم ذلك، ولقد أخذ الفلاح (يسأل هذا السؤال) فقال: «هل هو ميزان يد لا يحيد؟ هل هو ميزان ثابت لا ينحرف؟» أو هل مجرد العجز عن الوصول إلى تصحيح الخطأ المشين الذي حاق به هو الدافع إلى هذا الموقف، مع أن الحاكم العادل الذي في قدرته أن يصلح هذا الخطأ كان حاضرا منذ البداية؟ «إنك لم تكن مريضا، إنك لم تفز، إنك لم تمت! [ولكن] لم تجازني حسب الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه وهي: «تكلم الصدق وافعل الصدق؛
7
لأنه عظيم ولأنه قوي ثابت، والجزاء عليه سيلاقيك وسيتبعك حتى الشيخوخة الموقرة».»
ولما لم يفه «رنزي» بجواب على هذه الكلمات السامية، رفع الفلاح صوته عاليا مرة أخرى، وألقى مرافعته النهائية اليائسة وهي خطبته التاسعة، التي يذكر فيها «مدير البيت العظيم» بخطر الانضمام إلى جانب الغش؛ لأن من يأتي فعلا كهذا «لا يرزق أولادا ولا يجد من يرثه على الأرض، ومن يقلع في سفينته (الغش) فلن يرسو على الأرض ولن تربط مراسي سفينته في الميناء ... ومن لا يكترث لا أمن له، ولا صديق لمن يصم أذنه عن الحق، والجشع لا يحظى بيوم سعيد ... انظر فإني أبث شكواي إليك ولكنك لا تنصت، فسأذهب إذن وأبث شكايتي منك إلى «آنوب».»
ولما كان «آنوب» هو إله الموتى فإن الفلاح كان يقصد من ذهابه إليه أنه سينتحر، وعندئذ يرسل «مدير البيت العظيم» خادمه ليجيء بالفلاح ثانية بعد أن هم بالرحيل، وإذ ذاك يتبادلان سويا بعض العبارات المبهمة المعنى. على أن «رنزي» كان في خلال ذلك الوقت قد دون في بردية جديدة كل شكايات الفلاح بحسب ترتيبها، والمفروض أن ما انحدر إلينا من تلك الوثائق هو نسخة من هذه البردية، ولكن مما يؤسف له أن خاتمتها ممزقة أشد التمزيق، ويمكننا أن ندرك أن لفيفة البردي التي أعدها أمناء أسرار «رنزي» قد حملها «رنزي» هذا إلى الملك، وقد وجدها الملك «سارة لقلبه أكثر من أي شيء في كل البلاد.»
وبعد ذلك يأمر الملك «مدير البيت العظيم» أن يفصل في قضية الفلاح، وإذ ذاك يحضر المختصون بهذا العمل سجل الضرائب الذي يحدد الناحية التابع لها ذلك الفلاح بالصفة الرسمية، كما يبين موقفه القانوني والاجتماعي وعدد أفراد أسرته ومقدار ثروته، ثم يعقب ذلك في الوثيقة بعض كلمات مفتتة، يقل عددها عن اثنتي عشرة كلمة، يمكننا أن نفهم منها على وجه التقريب أن «تحوتي ناخت» قد عوقب، وأن ممتلكات ذلك الموظف الجشع المغتصب قد أعطيت للفلاح.
ومما يسترعي النظر حقا أن نجد أشراف رجال البلاط الفرعوني منذ أربعة آلاف سنة مضت يهتمون بإسعاد حال الطبقات الدنيا لدرجة أنهم كانوا يكلفون أنفسهم مشقة تدوين مثل تلك المقالات، التي لم تكن بداهة إلا بمثابة دعاية إلى نظام قوامه العدل والشفقة بالفقراء. وأمثال أولئك الرجال كانوا حملة أقلام لإعلان حرب مقدسة لنصرة العدالة الاجتماعية ، وقد جعلوا ذلك المقال بالذات ممتعا في قراءته لطبقة الأغنياء الموجه إليهم ذلك المقال. وبالرغم من الغموض المستمر في لغته، وأسلوبه الرنان واستعاراته القوية وتشبيهاته الغريبة، مما جعل الكثير من فصاحة ذلك الفلاح مستعصية الفهم على أبناء هذا العالم الحديث، فإن ذلك المقال قد اكتسب في عصره مكانة جعلته أدبا من الطراز الراقي. ولا شك أنه كتب بالأسلوب الذي كان مستحسنا عند أهل ذلك العصر، وأن ذلك التهكم الفكه اللاذع الذي يبدو في بعض نواحيه كان مما يزيد في شهرته الأدبية عند قدماء المصريين الذين كانوا محبين بطبيعتهم للتفكه، ولكنه مع ذلك كان أدبا يرمي إلى غرض خلقي.
وقصة ذلك الفلاح الفصيح تعد تصويرا حيا ناطقا عن عجز أولئك الموظفين الأمناء إذا لم يكن يشد أزرهم ملك عادل رءوف، وقد كان هناك في ذلك العصر مفكرون اجتماعيون يحسون بالحاجة إلى وجود حاكم عادل، وكان من بين الحكماء الذين يتطلعون إلى وجود مثل هذا الملك العادل، الحكيم «إبور»، وهو أحد الأنبياء الاجتماعيين الذين عاشوا في ذلك العصر العظيم، وقد ألف مقالا في شكل تمثيلي مؤثر، لم يقتصر فيه على اتهام أهل عصره بحرارة فحسب، بل ضمن مقاله أيضا وصايا إيجابية يرمي من ورائها إلى إيجاد نهضة يتجدد بها المجتمع، بل ذهب به الأمل أيضا إلى ترقب عصر ذهبي يأتي به ذلك الإصلاح المنشود.
وتلك «الوثيقة» المذكورة تعد من أهم الوثائق التي تسترعي النظر بين كافة مجموعة تلك المقالات الاجتماعية والخلقية التي كتبت في ذلك العهد الإقطاعي، ويصح لنا أن نسميها «تحذيرات إبور».
8
ومما يدعو إلى الأسف أن بداية هذه البردية قد فقدت، وهي الجانب الذي كان يحتوي على بيان الأحوال التي دعت الحكيم إلى الإدلاء بتحذيراته الواردة في هذه الوثيقة، وإن كانت تلك الأحوال في ظواهرها الرئيسية واضحة.
ويمكن تلخيص تلك الوثيقة فيما يأتي: يقوم الحكيم «إبور» بإلقاء اتهام طويل مفعم بالغضب عن حالة عصره أمام ملك (لم يعرف اسمه بالتحقيق الآن)، وبحضور آخرين يحتمل أنهم كانوا حاشية ذلك الملك مجتمعين عنده في ذلك الوقت، وينتهي بالنصيحة والتحذير من الإهمال في الأخذ بالإصلاح، ويلي ذلك رد قصير من جانب الملك، ثم ينتهي المقال بتعقيب قصير للحكيم المذكور على الرد الملكي.
وهذا الخطاب الرئيسي الطويل الذي قام بإلقائه ذلك الحكيم يشغل الجانب الأكبر من المقال، كما أن الاتهام يشغل من الخطاب ما لا يقل عن الثلثين [أي بنسبة نحو عشر صفحات من الأربع عشرة صفحة التي يحتويها الخطاب]، على أنه لم يراع في ذلك الاتهام أي ترتيب منطقي في عناصره، بالرغم مما بذل من الجهد الظاهر في تنسيق أقوال ذلك الحكيم بوضعها على هيئة مقاطع مقفاة، وكل مقطوعة منها تبتدئ بنفس العبارة السابقة لها، على النمط الذي رأيناه في شعر الرجل التعس.
وسنحاول في الفقرات التالية أن نلخص أهم محتويات ذلك الاتهام على أساس المواضيع التي تناولها، كما أننا سنورد بعض العبارات بنصها ليتبين منها نوع الكلام الذي أفضى به ذلك الحكيم. ولما كانت هذه البردية ممزقة، ولغتها عويصة صعبة، فإن ترجمتها ترجمة متصلة من الأمور المستحيلة، حتى ولو توافرت الشروح التي تكفل إزالة هذه الصعوبة.
9
يبدأ ذلك الحكيم بإلقاء نظرة ثاقبة على نظم الحياة لأهالي وادي النيل في ذاك الوقت، فيجد أن كل شيء قد آل إلى الفوضى، فالحكومة قد وقفت حركتها تقريبا، «وقوانين قاعة العدل قد ألقي بها ظهريا، فصارت تدوسها الناس بالأقدام في المحال العامة، والفقراء يفضونها على قارعة الطريق.»
10
ويرجع السبب في سوء النظام هذا إلى حالة الهياج والحروب الدائرة في داخل البلاد: «فالرجل يضرب أخاه من أمه، فما العمل في ذلك؟ ... انظر فإن الرجل يذبح وهو بجانب أخيه، في حين أن أخاه يتركه حتى ينجو هو بنفسه ... والرجل ينظر لابنه نظرته إلى عدوه ... ويذهب الرجل إلى الحرث والزرع وهو مسلح بدرعه ...»
ويضاف إلى سوء النظام وإلى الثورة الداخلية أهوال الغارات الأجنبية على البلاد، فإن أملاك مصر بعد أن صارت فريسة لسوء النظام والفتنة الضاربة أطنابها بالبلاد قد صار رجالها أيضا غير قادرين على صد غزوات الآسيويين عن حدود شرق الدلتا، وحاق الهلاك بالأملاك المصرية ووقف سيل الحركة الاقتصادية: «انظر، فإن كل أصحاب الحرف لا يقومون بأي عمل قط، وأعداء البلاد يفقرونها في حرفها، [انظر، إن الذي يحصد] المحصول لا يعرف عنه شيئا، ومن لم يحرث الأرض [يملأ أهراءه ] ... انظر، إن الماشية قد تركت ضالة في السبيل، ولا يوجد أحد يجمعها ويلم شتاتها، فكل إنسان يأخذ لنفسه منها ما يسمه (يعني بالكي) ... والحروب الداخلية لا تأتي بضريبة ... وما فائدة بيت المال الذي لا دخل له؟»
والتجارة الخارجية تنحط وتختفي في مثل تلك الأحوال التي كانت عليها داخلية البلاد «فأصبح القوم لا يقلعون بسفنهم شمالا إلى «جبيل»،
11
وإذن ماذا نصنع للحصول على خشب الأرز اللازم لمومياتنا، وهو الذي من خراجه تدفن الكهنة، ومن زيته تحنط الأمراء حتى بلاد «كريت»، وقد أصبحت (يعني الأخشاب) لا ترد؟»
والوقوع في مثل تلك الأحوال كان محتملا؛ لأن الأمن العام والتجارة قد اختفى أثرهما، «وبالرغم من أن الطرق كانت محروسة فإن الناس كانوا يترصدون في الأدغال حتى يمر السائح الذي دهمه الليل ويسلبوه ما يحمل ويجردوه مما معه بالعصي ويذبح ذبحا شنيعا.» «وفي الحق أن البلاد كانت تدور على عقبها (أي إن نظام الأشياء مقلوب رأسا على عقب) كما تدور عجلة صانع الفخار، فمن كان لصا صار رب ثروة، والغني صار إذ ذاك إنسانا منهوبا.» وهكذا انقلبت أوضاع كل الأشياء، طبقا لما يدل عليه مفهوم تشبيهها بعجلة صانع الفخار، فانهارت الشئون الاجتماعية انهيارا تاما.
وإننا نجد في أطول مجموعة من فقرات تلك الوثيقة - التي أنشئت على وتيرة واحدة - أن ذلك الحكيم يضع أمامنا صور تغير الأحوال بالنسبة لأفراد معينين وطبقات خاصة من المجتمع، فيضاهي في الفقرة الواحدة بين ما كان عليه الماضي وما هو جار في ذلك الوقت؛ إذ نراه يقول: «انظر، إن الذي لم يكن يملك زوجا من الثيران صار الآن صاحب قطيع منها، وذلك الذي كان لا يجد ثورا لحرثه صار الآن يملك قطيعا. انظر، إن الذي لم يكن يملك غلالا صار الآن صاحب مخازن من القمح، وذلك الذي كان يذهب للبحث عن الغلال لنفسه صار هو الآن يخرجها من مخزنه.»
ولا شك أن للانحطاط الخلقي شأنا في ذلك الخراب الشامل الذي حاق بالبلاد، وإن كان لم ينص صراحة على أنه هو السبب الظاهري لذلك البؤس العام؛ إذ نراه يقول: «إن المتحلي بالفضائل يسير وهو محزون لما حدث في البلاد.» ويقول آخرون: «لو كنت أعلم أين يوجد الإله لقدمت له قربانا، وفي الحق أن [العدالة] موجودة في البلاد باسمها فقط، وما يلقاه الناس حينما يلتجئون إليها هو العسف.»
12
فلا عجب إذن من وجود ذلك اليأس الشامل: «وفي الحق أن السرور قد مات ولم نعد نتذوقه بعد، ولا يوجد في الأرض إلا الأنين الممزوج بالحسرات.» «وفي الحق أن كلا من العظيم والحقير صار يقول: ليتني كنت ميتا. ويقول الأطفال الصغار: ليتنا لم يعلنا أحد ومتنا قبل هذا ...! وفي الحق أن قلوب كل القطعان صارت تبكي، والماشية تئن بسبب حالة البلاد.»
على أنه لم يكن في مقدور ذلك الحكيم أن يشاهد كل ذلك دون أن تثور عواطفه، فكان بدوره متأثرا تأثرا عميقا لتلك الكارثة العامة، ويطلب من الله أن يقضي على كل شيء؛ إذ يقول: «ليت الناس يفنون، فلا يحدث حمل ولا ولادة، وليت البلاد تخلو من الغوغاء حتى يقضى على الشجار.» وكان ذلك الحكيم يقرع نفسه؛ لأنه لم يسع من جهته لإنقاذ ذلك الموقف من قبل؛ إذ يقول أيضا: «ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت، حتى كنت أنقذ نفسي من الألم الذي أنا فيه الآن، فالويل لي؛ لأن البؤس عم في هذا الزمان.»
تلك هي الصورة القاتمة التي صورها لنا ذلك الحكيم المصري القديم، ويجب أن نعتبر تلك الشكاية، التي سبق أن قلنا إنها تشغل ثلثي الوثيقة كما حفظت لنا، أنها وصفت الحالة عند قدماء المصريين في عهد معين، على أن العلاقة الوثيقة التي بين ذلك المقال والمقالات الأخرى التي من ذلك العهد الإقطاعي، من حيث اللغة والفكر ووجهة النظر، لا تدع للشك مجالا في تحديد تاريخ عهدها بالضبط، ولا شك أن حالة مصر السيئة التي صورها لنا ذلك الحكيم هي ظواهر الحالة التي أعقبت انهيار نظام الحكومة والاعتداء على البلاد الذي جاء إثر سقوط الدولة القديمة؛ أي في نهاية عصر الأهرام، وانحلال الاتحاد الثاني.
ولأن «إبور» كان في شدة التأثر لتلك الحال الموئسة التي صورها، لم يشأ أن يتخلى عن أهل الجيل الذي عاش فيه، بل عمد في النهاية - كما كان منتظرا - إلى تبين السبب الذي يدعو إلى الأمل. ومع أنه تصادفنا عند الوصول إلى هذه النقطة فجوة كبيرة في تلك البردية، فإننا نجد في النهاية أهم فقرة في جميع مقال ذلك الحكيم، وهي تعتبر من أروع ما دون في كل الأدب المصري القديم.
ففي هذه الفقرة العظيمة يتطلع ذلك الحكيم إلى المستقبل، متوقعا إعادة البلاد إلى سيرتها الأولى، وذلك في نظره بلا نزاع نتيجة طبيعية للنصائح الإصلاحية التي كان قد فرغ من غرسها في قلوب مواطنيه، فهو يرى الحاكم الأمثل الذي يتوق إلى قدومه، وهذا الملك المثالي الذي قد حكم مصر في يوم من الأيام باسم إله الشمس «رع».
ولما كان ذلك الحكيم يرى في سلطته المقدسة العصر الذهبي، فإنه يوازن بينه وبين الحكم الغاشم الذي ترزح تحت عبئه البلاد في عصره، فنراه يقول: «فهو يطفئ لهيب (الحريق الاجتماعي)، ويقال عنه إنه راعي كل الناس،
13
ولا يحمل في قلبه شرا، وحينما تكون قطعانه قليلة العدد فإنه يصرف يومه في جمع بعضها إلى بعض وقلوبها محمومة
14 (من الحزن)، ليته عرف أخلاقها في الجيل الأول، فعندئذ كان في مقدوره أن يضرب الشر، وكان في قدرته أن يمد ذراعه ضده (يعني الشر)، وكان في مقدوره أن يقضي على بذرتهم هناك وعلى وراثتهم ... فأين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟ ... انظر، إن بأسه لا يرى ...»
فنجد في ذلك صورة الملك الأمثل، وهو الحاكم العادل الذي لا يحمل في قلبه شرا، وهو الذي يجول بين رعيته كالراعي يجمع شتات قطيعه المتناقص الظمآن. إن مثل ذلك الحكم العادل الذي نجد له نظيرا في حكم نبي الله «داود» - عليه السلام - عند العبرانيين قد حدث، ويمكن أن يحدث ثانية، على أن عنصر الأمل في ظهور الملك الصالح المنتظر كان في نظره أقرب من حبل الوريد، بل كان محققا عنده ، كما تدل الكلمات الختامية التي وردت بالفقرة السابقة عند قوله: «أين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟ انظر، إن بأسه لا يرى.» ولا يسعني (لإبراز المعنى المقصود) إلا أن أضيف إلى الجملة الأخيرة لفظي «حتى الآن».
على أن الأهمية الخاصة التي نستنتجها من تلك الصورة تنحصر في أن المثل العليا الاجتماعية أو الحلم الذهبي لمفكري ذلك العصر البعيد على أقل تقدير - إن لم نقل منهجهم الاجتماعي - كانت تشمل الحاكم الأمثل الطاهر النقي الخير المقاصد الذي يعز عشيرته ويحميها ويسحق الأشرار. وسواء أكان التنبؤ بقدوم هذا الحاكم محددا أم لا، فإن صورة أخلاقه وأعماله قد كشف النقاب لنا عنها ذلك الحكيم القديم، وقد كشف النقاب عنها في حضرة الملك الموجود إذ ذاك، وفي حضرة أولئك الذين اجتمعوا حوله حتى يقتبسوا شيئا من بهائه، وذلك بطبيعة الحال هو عين التبشير بالمسيحية قبل أن تظهر بين العبرانيين بما يقرب من 1500 سنة.
وقد أدت الموازنة الفظيعة التي كانت تجول في ذهن ذلك الحكيم المصري القديم بين حكم الملك الأمثل وبين حكم الفرعون الجالس على العرش، الذي يقف في حضرته، إلى أن ينطق الحكيم بأقسى الاتهامات ضد مليكه، فكان مثله في ذلك مثل «ناثان»
15
عندما وجه كلماته اللاذعة إلى «داود» - عليه السلام - قائلا: «أنت هو الرجل.» فلقد وضع الحكيم مسئولية كل ما صوره من مساوئ فوق عاتق الملك؛ إذ يقول لمليكه: «إن الأمر الملكي، والمعرفة، والعدالة (يعني ماعت) في قبضة يدك، ولكن ما تضعه في البلاد هو النزاع وصوت القلاقل. ولقد فعلت ذلك لتشتد علينا هذه الأمور، لقد نطقت زورا وبهتانا.»
وعندما انتهى ذلك الحكيم من خطابه الطويل، أجابه الملك بنفسه على أقواله، غير أنه ليس في وسعنا أن نصل إلى ما قاله الملك في إجابته على الحكيم مما بقي لنا من تلك النتف المفتتة من الصفحة الممزقة التي دونت عليها الإجابة.
وقد وصلت تقريعات ذلك الرجل الحكيم إلى قمتها في قوة التعبير حين أشار إلى أخلاق الفرعون التقليدية، وهي التي كانت تشمل الأمر الملكي والمعرفة والعدالة (يعني ماعت)؛ أي النظام الإداري والخلقي القديم الذي حافظ عليه ملوك الاتحاد الثاني مدة ألف سنة، وهو الذي قد حلت الآن محله الفوضى.
فيتضح الآن تماما من ذلك أن حالة سوء النظام الشاملة التي وصفها في أقواله «إبور» قد ظهرت في فترة من العهد الذي جاء بعد سقوط الدولة القديمة. ويستحيل علينا الآن أن ندرك موقف ملوك «أهناسية» الذين أنتجوا مثل تلك المقالات المثالية المدهشة، أو نحدد علاقتهم بانهيار نظام الحكم. فهل كان احتذاؤهم المثل الأعلى الاجتماعي في مثل ذلك العصر سببا من أسباب ضعفهم السياسي؟ لقد لاحظنا أنه في وسط ذلك الخراب القومي الذي صور لنا بتلك الكيفية من غير تحفظ، أن الحكيم «إبور» كان لا يزال يحمل في نفسه بعض الأمل في إنقاذ البلاد من ذلك الخراب. فهل كان في ذهنه بعض الرجال المعروفين بقوة الشكيمة ممن أبقى عليهم الدهر من أسر الأمراء القدامى؟ على أنه من الجائز أن آماله كانت موجهة إلى قائد كان «بأسه لا يرى»؛ يؤيد ذلك ما فاه به حكيم آخر كان يعيش في نفس ذلك العصر (وسنصغي لكلامه وشيكا) كما يؤيده ما تساءل به حكيمنا المذكور بتدبر وإنعام؛ إذ يقول: «أين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟»
والواقع أن حكيما آخر من نفس ذلك العصر كان يجول في ذهنه شخصية الملك المنتظر الذي سيكون فاتحة للعصر الجديد المنتظر؛ لأنه لم يتردد في ذكر اسمه، كما سيأتي الآن قريبا.
ولدينا في بردية أخرى عثر عليها «جولنيشف»،
16
وهي موجودة الآن بمتحف «لنينجراد»، نبوءات كاهن مرتل اسمه «نفرروهو»، وهو يدعي أنها ألقيت في حضرة الملك «سنفرو»؛ أي قبل العصر الذي نحن بصدده بما يقرب من ألف سنة.
والواقع أن ذلك مجرد وضع تمثيلي ليسبغ على كلمات «نفرروهو» الهامة قوة التأثير. ومن حسن الحظ أن كاتبا من عهد الدولة الحديثة ممن عاشوا في القرن الخامس عشر ق.م قد ظهرت له أهمية ذلك المقال، حتى إنه لما لم يجد لديه برديا جديدا ينقله فيه أخذ جزءا من بعض أوراق مستعملة في تدوين حسابه هو ونقل تلك النبوءات على ظهرها، وبذلك بقيت نبوءات «نفرروهو» في تلك الصورة التي وصلتنا عفوا بما تحويه من غموض بسبب أغلاطها الكثيرة التي حدثت عند نقله لها بطريق المصادفة كما ذكرنا.
يبدأ «نفرروهو» بالمقدمة التاريخية المزعومة، ثم يصف الخراب والفوضى اللذين كانا يحيطان به، ومثله في ذلك مثل «خع خبرو رع سنب»؛ إذ يتكلم مع قلبه، فتراه يقول: «أنصت يا قلبي وانع تلك الأرض التي فيها نشأت ... لقد أصبحت هذه البلاد خرابا، فلا من يهتم بها، ولا من يتكلم عنها، ولا من يذرف الدمع. فأية حال عليها تلك البلاد؟ لقد حجبت الشمس فلا تضيء حتى يبصر الناس.» وقد كان من جراء تعطيل أعمال الري العظيمة العامة أن «أصبح نيل مصر جافا فيمكن للإنسان أن يخوضه بالقدم، وصار الإنسان عندما يريد أن يبحث عن ماء (يعني النهر) لتجري عليه السفن يجد طريقه قد صار شاطئا والشاطئ صار ماء، وكل طيب قد اختفى، وصارت البلاد طريحة الشقاء بسبب طعام البدو الذين يغزون البلاد. وظهر الأعداء في مصر، فانحدر الآسيويون إلى مصر ... وسأريك البلاد وهي مغزوة تتألم، وقد حدث في البلاد ما لم يحدث قط من قبل ... فالرجل يجلس في عقر داره موليا ظهره عندما يكون الآخر يذبح بجواره ...
سأريك الابن صار مثل العدو، والأخ صار خصما، والرجل يذبح والده، وكل فم ملؤه (حبني) [صياح المتسول؟] وكل الأشياء الطيبة قد ولت، والبلاد تحتضر ... وأملاك الرجل تغتصب منه وتعطى الأجنبي ...
وسأريك أن المالك صار في حاجة والأجنبي في غنى ... وأن الأرض قد نقصت وفي الوقت نفسه تضاعف حكامها، وصارت الحبوب شحيحة في حين أن المكيال صار كبيرا، وتكال الحبوب [أي بجابي الضرائب ] حتى يطفح الكيل ...
سأريك البلاد وقد صارت مغزوة تتألم، وأن منطقة عين شمس لن تصير بعد مكان ولادة كل إله.»
وبعد ذلك يتحول «نفرروهو» من غير تردد أو تشكك عن تلك الصورة التي يصف فيها القحط الذي وقعت فيه البلاد، وينادي بالكلمات التالية الهامة معلنا قدوم الملك الذي سيخلص مصر مما حاق بها؛ إذ يقول: «سيأتي ملك من الجنوب اسمه «أميني»، وهو ابن امرأة نوبية الأصل وقد ولد في الوجه القبلي، وسيتسلم التاج الأبيض، ويلبس التاج الأحمر، فيوجد بذلك التاج المزدوج، سينشر السلام في الأرضين (يعني مصر) على الوجه الذي يحبه أهلها ...
وسيفرح أهل زمانه، وسيجعل ابن الإنسان
17
اسمه باقيا أبد الآبدين، أما الذين كانوا قد تآمروا على الشر ودبروا الفتنة فقد أطبقوا أفواههم خوفا منه، والآسيويون سيقتلون بسيفه، واللوبيون سيحرقون بلهيبه، والثوار سيستسلمون لنصائحه، والعصاة سيخضعون لبطشه، وسيخضع المتمردون للصل الذي على جبينه.
وسيقيمون «سور الحاكم» حتى لا يتمكن الآسيويون من غزو مصر، وسيستجدون الماء حسب طريقتهم التقليدية لكي تردها أنعامهم. والعدالة (ماعت) ستعود إلى مكانها، والظلم ينفى من الأرض، فهنيئا لمن سيرى ذلك ومن سيكون من نصيبه خدمة ذلك الملك.»
فنرى في ذلك القدوم الفعلي للملك المخلص للبلاد بالفعل، الذي كان مجيئه هو الأمل الذي ينشده الحكيم «إبور»، وقد ذكر «نفرروهو» ذلك الملك بالاسم. ورسم كتابة الاسم «أميني» الذي استعمله «نفرروهو» هو اختصار مشهور للاسم الكامل «أمنمحات»، وواضح أنه المؤسس العظيم للأسرة الثانية عشرة والمصلح الذي أعاد توطيد سلطان مصر في العهد الإقطاعي حوالي سنة 2000ق.م. وقد ذكر عنه في نقش تاريخي بعد ذلك العصر بثلاثة أجيال بشكل يسترعي الأنظار: «أنه قد محى الظلم؛ لأنه أحب العدل كثيرا (يعني ماعت).»
18
وقد كان عرافنا هنا واثقا من أن بطله «أمنمحات» سيستولي على التاجين اللذين يرمزان لحكومة البلاد المتحدة مصر السفلى ومصر العليا، وأنه سيفتح عصرا جديدا، غير أنه يرجئ الإصلاح العظيم على وجه عام إلى المستقبل. وذلك يضع أمامنا سؤالا جديرا بالاهتمام وهو: هل هذا التأكيد الصارخ مجرد نبوءة عن حادثة بعد وقوعها؟ أو كان ذلك إعلانا ناجحا عن بطل منتصر قد نجح نجاحا عظيما في إصلاح مصر العليا حتى إن انتصاره النهائي وإصلاحه لكل مصر كان متوقعا حدوثه؟ أو هل كان «نفرروهو» مرسلا من قبل «أمنمحات» إلى مصر السفلى ليعلن قدومه إليها؟ أو هل كان كأي شخص من أنصار «أمنمحات» يعظم إصلاحاته بتصويرها بجانب صورة ما صارت إليه البلاد من الدمار والخراب قبل مجيئه؟
وإنه لمن المستحيل أن يعطى الإنسان جوابا شافيا عن تلك الأسئلة، ولكن الأرجح على ما يظهر أن «نفرروهو» كان حقيقة محاطا في زمنه بالخراب الذي صوره لنا في تلك الصورة القوية، وأن تاريخ حياة «أمنمحات» المقرونة بالنجاح في مصر العليا قد جعل نجاحه في إعادة وحدة البلاد إلى ما كانت عليه وإرجاع مجدها القديم متوقعا. وقد يبدو من المدهش حقا أن يذكر «نفرروهو» صراحة أن الفرعون الجديد ليس من سلالة البيت المالك القديم، على أنه لا شك كان في البلاد إذ ذاك مطالبون بالعرش أو مدعون له كثيرون، لدرجة أن ظهور مطالب آخر مثل «أمنمحات» قد أصبح لا يثير تأثيرا يذكر.
كما أن تسمية «أمنمحات» «بابن الإنسان» - كما ذكر ذلك فيما سلف على لسان ذلك المتنبئ - يلفت النظر ويوحي إلينا في الحال بوجود علاقات قد لا نرى لها وجودا؛ إذ إن ذلك التعبير قد استعمل في النصيحة الموجهة إلى «مريكارع» ليدل على «ابن رجل ذي أهمية»، وقد جرى في بلاد بابل القديمة استعمال تعبير مشابه لذلك التعبير. وذلك الإعلان الذي أعلنه ذلك المتنبئ يشمل قيام مليكه بعملين هما من الأهمية للشعب البائس في مصر الطريحة بمكان، وهما:
أولا:
القضاء على المغيرين وأخذ العدة لدفع الغارات المقبلة.
ثانيا:
إصلاح النظام الداخلي.
أما «سور الحاكم» فكان قلعة قديمة لحماية الدلتا الشرقية واقعة على التخوم الآسيوية، وقد بني لحراسة الطريق من آسيا إلى مصر في عهد بناة الأهرام، وقد أعلن «نفرروهو» أن الملك الجديد سيعيده كما كان من قبل.
والصورة التي رسمها لنا ذلك المتنبئ عن مآل الآسيويين تذكرنا بما ورد في الرواية العبرانية الخاصة برحلة دخول أجدادهم إلى مصر.
وأما إعلان الإصلاح الذي سيحدث في النظام الداخلي فإنه يسترعي الأنظار لقصره وبساطته؛ إذ يقول: «إن العدالة ستعود إلى مكانها والظلم ينفى من الأرض.» إذن هي «ماعت» القديمة التي سيعيدها الملك الجديد في شكل نظام ثابت ليكون مرة أخرى رقيبا ومهيمنا على حياة الشعب المصري الاجتماعية؛ أي إن «ماعت» وهي ذلك النظام القديم الذي مكث ألف سنة مرشدا ومهيمنا على الحاكم وحكومته، ستعود مرة أخرى وتبسط سلطانها من جديد. ومن المفهوم أن الابتهاج الذي يبشر به ذلك المتنبئ العتيق يشير إلى عودة المثل العليا القديمة للأخلاق الفاضلة والسعادة القديمة.
غير أن ذلك كان - مع الأسف - بعيدا عما وقع فعلا؛ فإن «أمنمحات» كان حقا من كبار الإداريين في العالم القديم، وقد استطاع بما وهبه الله من فطنة عظيمة أن يعيد بلا نزاع ذلك النظام القديم بقدر ما سمحت له الأحوال، ولكنه مع ذلك قد حتمت عليه الظروف أن يتخذ عماله وموظفيه في إدارة شئون الأمة من بين أولئك الرجال الذين ترعرعوا وشبوا في عهد ذلك الانحطاط الذي جاء عقب عصر الأهرام، وأشربت قلوبهم بطبيعة الحال الارتياح إلى الفوضى والفساد اللذين هوى إلى حضيضهما الشعب المصري خلال عدة أجيال، بل قرون، حتى أنقذهم «أمنمحات» منهما في ذلك الوقت.
وقد كشفت لنا النظرات الخلقية التي جال بها أمثال «الرجل التعس» و«خع خبرو رع سنب» و«كاهن عين شمس» - ولا يقل عنهم جميعا «إبور» - عن حالة مزعجة من الانحطاط الاجتماعي، أما ما كان يشعر به «بتاح حتب» القديم من اقتناع واطمئنان نراهما في قوله: «إن كل شيء على ما يرام.» فقد اختفى إلى الأبد.
وقد كان الملك «أمنمحات» نفسه يشعر بهذه الحقيقة؛ إذ إنه وجد بعد حكم طويل ناجح امتد أكثر من جيل من الزمان، أن عدم الثقة بالناس، التي كان يحس بها الملك المسن طوال حياته، حقيقة لا مراء فيها، لمسها لمسا عندما حاول بعض القوم اغتياله. وحينما بدأ يشعر بوطأة كبر السن وجه إلى ابنه «سنو سرت» - وهو أول من سمي بهذا الاسم من ملوك مصر - كلمة في صورة نصيحة مختصرة، جريا على الطريقة التي اتبعها والد الأمير «مريكارع» ولكن بروح تختلف عن تلك، فيقول لابنه معرفا العدالة: «أنصت لما أقوله لك، حتى تصير ملكا على البلاد وحتى تصبح حاكم الشاطئين، وحتى يكون في مقدورك أن تزيد في خيرات البلاد. قو نفسك أمام جميع كل أتباعك؛ لأن الناس يصغون لمن يرهبهم، ولا تقتربن منهم على انفراد، ولا تملأن قلبك بأخ، ولا تعرفن صديقا، ولا تتخذن لنفسك خلانا (تضع فيهم ثقة) لا نهاية لها. وحينما تنام حافظ بنفسك على قلبك؛ لأن الإنسان لا أناسي له يوم الكريهة، لقد أعطيت السائل وأطعمت اليتيم، وقبلت الحقير والعظيم (في حضرتي)، غير أن الذي أكل زادي قد عصاني، ومن مددت له يدي قد بعث فيها الخوف.»
وهذه الصورة التي تدل على سوء الظن بالناس المفعم بالتشاؤم قد أعقبها الملك بقصة محاولة اغتيال حياته، وهي حادثة تفسر إلى حد ما شدة سخط ذلك الملك المسن الحانق على العالم، وعدم اغتراره بالمظاهر.
وتلك الآراء عن المجتمع البشري، بما فيها من دلالة قاطعة على منتهى الريبة وسوء الظن بالناس، كان شعور النفوس بها عميقا إلى حد أنها عكست آثارها على أعظم أنواع الفنون في ذلك العصر، وأعني بذلك فن نحت التماثيل البشرية في العهد الإقطاعي؛ إذ نجد في هيئات التماثيل السامية التي تمثل فراعنة الدولة الوسطى نفس الوجوه الحزينة التي كانوا يواجهون بها الحياة في عصرهم.
وعندما تنعم النظر في تلك الوجوه التي تتمثل فيها الجرأة والبطولة، والتي ظللتها ظلال اليأس والقنوط، نرى أن نفس هذه الوجوه تعد كشفا جديدا في ميدان الفن، يميط لنا اللثام من غير شك عن روح ذلك العصر الذي يعتبر أقدم عصر معروف تخلص من الأوهام ولم ينخدع بالمظاهر.
الفصل الثاني عشر
أقدم جهاد في سبيل العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية
لم يشاطر كل رجال الفكر الاجتماعيين الذين كانوا في البلاط الملكي في العهد الإقطاعي الفرعون تشاؤمه المطلق الذي كان يشعر به، وقد رأينا بعض أولئك المفكرين قد أدركوا أن الملك العادل الذي يتوقع مجيئه لإنقاذ البلاد قد يكون عاجزا عن أداء رسالته بدون مساعدة طائفة من الموظفين العدول. كما بينا أن الغرض المقصود من المقال المصري القديم الذي سميناه «الفلاح الفصيح» هو المساعدة على إنشاء طائفة من الموظفين المتصفين بالكفاية والأمانة يقوم على أكتافهم بناء العصر الجديد الذي تسوده العدالة الاجتماعية.
والآن نتساءل عما إذا كانت تلك المقالات الاجتماعية التي ظهرت في العهد الإقطاعي قد صارت حقا قوى اجتماعية؟
والواقع أنني في سنة 1922م، اشتريت من أحد تجار الآثار بمدينة «الأقصر» شظية من الحجر الجيري كبيرة الحجم سطحها مغطى من الوجهين بالكتابة الهيراطيقية، وعلماء الآثار الحاليون يطلقون على مثل تلك الشظية كلمة («ستراكون»
Ostrakon «شقفة»)، وقد لاحظ زميلي الدكتور جاردنر - بين ما لاحظه عندما عرضتها عليه - أن من بين محتويات كتابتها جملة مقتبسة من قصة «الفلاح الفصيح» مع أن تاريخ كتابة تلك الشظية يرجع حسب ما يبدو إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر ق.م. فذلك الاقتباس إذن يدلنا على أن قصة ذلك الفلاح كانت لا تزال ذات قيمة أدبية إلى أواخر الدولة الحديثة!
والآن فهل المصادر الباقية حتى الآن - مما يكشف لنا عن حالة قدماء المصريين الاجتماعية والحكومية في العهد الإقطاعي - تدل على أن ذلك الجهاد في سبيل العدالة الاجتماعية قد أدى إلى نتيجة ما؟ أو أن الآمال في ظهور المخلص وقيام المثل العليا للحياة الاجتماعية - وهي التي تكلم عنها المتنبئون الاجتماعيون في ذلك العصر صراحة - قد بقيت مجرد أحلام؟!
وهل استمرت تلك الصور القاتمة المحزنة التي وجدناها في مقالات رجال الفكر المتشائمين أمثال «الرجل التعس» و«خع خبرو رع سنب» والملك «أمنمحات الأول» تدل على الحقيقة الواقعة؟!
وهل أن إدراك عصر الإقطاع لما بدا أنه طبيعة المجتمع الإنساني الحقيقية وما أسفر عنه ذلك من انقشاع الوهم، قد بقي بغير نتائج إنشائية مثمرة؟
وقد شاهدنا أن آمال الذين ينتظرون ظهور المخلص كانت مؤسسة على ظهور ملك عادل، في حين أن غيرهم من المصلحين الاجتماعيين - ممن امتازوا بالآراء العملية - كانوا يرون قلب نظام المجتمع عن طريق إيجاد جيل جديد من الموظفين العدول. ورغم تشاؤم «أمنمحات الأول» فقد ظهرت لنا أدلة قاطعة على أنه هو نفسه قد قام بمجهودات ومشروعات دبرت بعناية حتى تضمن له عهد حكم عادل، وقد كان رئيس الوزارة أو الوزير الأعظم لسان حال الفرعون، ويعتبر أهم عضو في الحكومة بعده.
وقد حفظت لنا نسخ من خطاب وجهه الملك مشافهة إلى وزيره الأعظم يرجع تاريخها جميعا إلى عهد الدولة الحديثة؛ أي بعد العهد الإقطاعي ببضعة قرون. وقد كان الملك يلقي ذلك الخطاب كلما أسندت مسئولية الحكم إلى وزير أعظم جديد.
ذلك الخطاب العظيم يقدم الدليل على أن أحلام المتنبئين أمثال «إبور» و«نفرروهو» اللذين كانا يتنبئان بظهور مخلص قد تحققت فيما له علاقة بالأخلاق الملكية؛ أي إن روح العدالة الاجتماعية التي كانوا يشعرون بها قد وصلت إلى العرش نفسه ثم انتشرت حتى في نفس كيان الحكومة، والخطاب هو كما سيأتي:
النظام الذي ألقي على كاهل الوزير الأعظم «س»
1
اجتمع أعضاء المجلس في قاعة مجلس الفرعون (له الحياة! والفلاح! والعافية!) وقد أمر الواحد (يعني الملك) بإحضار الوزير الأعظم «س» الذي نصب حديثا (إلى قاعة المجلس)، وقال له جلالته: تبصر في وظيفة الوزير الأعظم، وكن يقظا لمهامها كلها، انظر إنها الركن الركين لكل البلاد.
واعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق، بل إنها مرة ... فالوزير الأعظم هو النحاس الذي يحيط بذهب بيت [سيده] ... واعلم أنها (يعني الوزارة) لا تعني إظهار احترام أشخاص الأمراء والمستشارين، وليس الغرض منها أن يتخذ بها الوزير لنفسه عبيدا من الشعب ...
واعلم أنه عندما يأتي إليك شاك من الوجه القبلي أو من الوجه البحري أو من أي بقعة في البلاد، فعليك أن تطمئن إلى أن كل شيء يجري وفق القانون، وأن كل شيء قد تم حسب العرف الجاري، فتعطي كل ذي حق حقه، واعلم أن الأمير يحتل مكانه بارزة، وأن الماء والهواء يخبران بكل ما يفعله، واعلم أن كل ما يفعله لا يبقى مجهولا أبدا ...
وبعد ذلك يضع الفرعون لوزيره الأعظم التفاصيل التي يجب أن يسير على نهجها في القضايا التي تقدم إليه، ثم يستشهد له في ذلك بقضية حكم فيها خطأ وزير يسمى «خيتي»، وهو وزير قديم ذائع الصيت من عهد الأهرام؛ إذ يقول له: «انظر، لقد كان ما ألقيه عليك مثلا مدونا في مرسوم تعيين الوزير الأعظم في «منف»، وكان ينطق به الملك ليحث به الوزير على الاعتدال ...
احذر ما قد قيل عن الوزير «خيتي»، فإنه يحكى أنه جار في حكمه على بعض عشيرته الأقربين منحازا للغرباء خوفا من أن يتهم بمحاباة أقاربه خيانة منه، وأنه عندما استأنف أحدهم ذلك الحكم الذي أصدره ضدهم أصر على إجحافه. واعلم أن ذلك يعد تخطيا للعدالة (يعني ماعت).
فلا تنس أن تحكم بالعدل؛ لأن التحيز يعد طغيانا على الإله، وهذا هو التعليم (الذي أعلمك إياه) فاعمل وفقا له.
وعامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب من الملك كالبعيد عنه. واعلم أن الأمير الذي يعمل بذلك سيستمر هنا في هذا المكان ... ولا تغضبن على رجل لم تتحر الصواب في أمره، بل اغضب على من يجب الغضب عليه. اجعل نفسك مهيبا ودع الناس يهابونك. والأمير لا يكون أميرا إلا إذا هابه الناس ... واعلم أن الخوف من الأمير يأتي من إقامته العدل.
واعلم أن الإنسان إذا جعل الناس يخافونه أكثر مما ينبغي دل ذلك على ناحية نقص فيه في نظر القوم، فلن يقولوا عنه (إنه رجل بمعنى الكلمة). واعلم أن رهبة الأمير تبعث الرعب في نفس الكاذب عندما يعامله (الأمير) بما يفزعه منه.
واعلم أنك ستصل إلى تحقيق الغرض من منصبك إذا جعلت العدل رائدك في عملك. انظر! إن الناس ينتظرون العدل في كل تصرفات الوزير، وهي سنة العدل المعروفة منذ أيام حكم الإله في الأرض. والناس يقولون عن كاتب الوزير «إنه كاتب عادل»، أما الذي يقيم العدل بين جميع الناس فهو الوزير.
انظر! دع الرجل الذي يؤدي وظيفته يعمل حسبما يؤمر به، واعلم أن نجاح الرجل هو أن يعمل حسبما يقال له، ولا تتوان قط في إقامة العدل، وهو القانون الذي تعرفه، واعلم أنه جدير بالملك ألا يميل إلى المستكبر أكثر من المستضعف.
انظر في القانون الملقى على عاتقك (تنفيذه).»
ويلاحظ هنا أن أهم تشديد في كل هذه الوثيقة الحكومية ينصب على العدالة الاجتماعية، فلم يكن الغرض من الوزارة إظهار تفضيل الأمراء والمستشارين على غيرهم أو استعباد أحد من أفراد الشعب، بل إن كل عدالة تجري يجب أن تكون حسب القانون في كل قضية، على ألا ينسى الوزير أن وظيفته بارزة جدا؛ ولذلك كانت كل تصرفاته معروفة ظاهرة بين الناس، حتى إن المياه والرياح كانت تذيع أخباره بين كل الناس. ولا تعني العدالة أن يقع أي ظلم على من لهم مكانة سامية كما حدث في القضية الشهيرة التي ينسب أمرها إلى الوزير القديم «خيتي» المنفي الأصل، وهو الذي حكم فيها ضد أقاربه مع أن الحق كان في جانبهم، وليس هذا من العدل في شيء.
وتعني العدالة من جهة أخرى الحياد المطلق والتسوية بين الناس دون تمييز فرد على فرد، فيكون سواء لديك من تعرفه ومن لا تعرفه، ومن قرب من الملك ومن لا علاقة له بأحد من بيت الملك. إن إدارة الأمور بتلك الكيفية تضمن للوزير الاستمرار الطويل في منصبه، ومع أن الواجب المحتم على الوزير أن يظهر منتهى الحكمة عند الغضب، فيجب عليه أن يجعل من موقفه ما يكسبه احترام الشعب له، بل رهبتهم منه، ولكن هذه الرهبة يجب أن يكون عمادها الوحيد إقامة العدل من غير تمييز؛ لأن «الرهبة الحقيقية من الأمير هي إقامته للعدل.» ومن ثم لا يكون في حاجة إلى تكرار إرهاب الناس بالشدة والغطرسة؛ إذ إن ذلك يولد تأثيرا كاذبا عنه بينهم؛ فإقامة العدل كافية وحدها لأن تكون لهم رادعا. والناس يتطلعون إلى العدالة في ديوان الوزير؛ لأن العدالة كانت قانونه المعتاد منذ أن قام بالحكم إله الشمس فوق الأرض. بذلك كان قدماء المصريين في العهد الإقطاعي ينظرون إلى الوراء خلال ألف السنة التي مكثها الاتحاد الثاني وما قبله إلى عهد الاتحاد الأول الذي كان قائما في «هليوبوليس» مدينة الشمس. ومنذ ذلك العهد كان الوزير هو الشخص الذي يذكر في أمثالهم بأنه «الذي سيقيم العدل بين الناس كلهم.» ونجاح الرجل كان يتوقف على مقدرته في تنفيذ التعليمات واتباعها، وعلى ذلك لا يتوانى في تصريف العدالة، ولا ينسى أن الملك يحب الضعيف ومن لا ناصر له أكثر من المستكبر.
أما فيما يختص بالأراضي التي يحتمل أن تكون أملاك الملك، وكذلك ما يتعلق بملاحظة الموظفين المكلفين برعايتها، فإن الملك قد ختم ذلك القانون الذي يعتبر بحق دستور إعلان الحقوق للفقراء
Magna Carta
بالكلمات التالية: «راع القانون الذي ألقي على عاتقك.»
هل هي رؤية الملك الأمثل الذي ذكره «إبور» أمام البلاط؟ أو صورة الفساد القائمة التي صورها «الرجل التعس»؟ أو رؤية ذلك المنظر المؤثر الذي دل على الاضطهاد الرسمي وكشفته لنا قصة «الفلاح الفصيح»؟ أي هذه العوامل هي التي أحاطت أخيرا العرش الملكي بجو من العدالة الاجتماعية حتى إن تنصيب رئيس الوزراء وقاضي القضاة في الدولة - (لأن الوزير الأعظم كان يلقب أيضا بذلك اللقب الأخير) - جعل الملك يلقي خطاب عرش ليكون بمثابة تصريح رسمي من رئيس البلاد الأعلى إلى أكبر موظف في الهيئة التنفيذية يضمنه المبادئ الأساسية التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية؟!
إننا الآن بالطبع نستطيع القول بأن تلك الوثيقة الرسمية المفعمة بروح العدالة الاجتماعية كانت هي النتيجة المباشرة لتلك المقالات المصرية الاجتماعية التي طالعناها فيما تقدم، وتوجد بعض الأدلة على صحة ذلك الاستنتاج؛ إذ إن نفس الرعاية التي أظهرها الملك في هذه التعليمات بتفضيله الضعيف على المستكبر أو العنيف القلب، يوجد مثلها في تحذيرات «إبور». وعلى وجه عام فإن خطاب تنصيب الوزير يتفق تمام الاتفاق مع تعاليم تلك المقالات المصرية الاجتماعية.
وسواء أكان المقصود من سياسة الملك الاجتماعية المذكورة في مقاله ذلك هو استجابة ظاهرة لتلك المقالات أم لا، فليس لذلك أهمية ذات شأن؛ إذ إنه من الظاهر جدا أن موضوع «الضمير» في ذلك العصر الإقطاعي قد صار يعد شيئا أكثر من كونه مجرد تأثير خاص بسلوك الفرد، فقد صار «الضمير» في الواقع قوة اجتماعية ذات تأثير عظيم في الحياة الاجتماعية لأول مرة في التاريخ البشري.
ومن الواضح أن الملك قد صار منقادا لنفوذ المفكرين الأخلاقيين في ذلك العصر، وأن سياسة العدالة الاجتماعية صارت تكون جزءا من هيكل النظام الحكومي. وقد انتهى عهد تلك الأيام الخالية التي كان يعتبر فيها سلوك الإنسان الخلقي مرضيا إذا رضي عنه الأب والأم والإخوة والأخوات، وجاء العهد الذي يصح أن نسميه عصر «الضمير» الاجتماعي، وهو الذي بحلوله بزغ عصر الأخلاق.
وقد رأى أنصار ظهور المخلص الاجتماعي أن حلمهم ذلك قد تحقق فيما يختص بظهور الملك العادل؛ وذلك عندما اعتلى «أمنمحات الأول»
2
عرش الملك. فماذا كان من أمر المصلحين الذين كانوا أقل خيالا في مطامحهم وأعني بهم الذين كان أساس آمالهم إنشاء جيل جديد من الموظفين العدول؟ الحقيقة الواقعة أنه لا يمكن فصل أحد المنهجين عن الآخر؛ لأن حكم الملك العادل لا يكون له بمفرده تأثير يذكر إذا لم يعتمد على طائفة من الموظفين العدول ليقوموا بتنفيذ السياسة الملكية العادلة. وقد كان الملك «أمنمحات الأول» يؤمن بتلك الحقيقة إيمانا راسخا، ولعدم ثقته بالناس كان ضعيف الأمل في أن تأتي استقامته بمفرده بالنفع المأمول. على أن مفكرا مثل مؤلف قصة «الفلاح الفصيح» (الذي نجهل اسمه الآن) كان يتطلع إلى ظهور نتائج ما كتبه، ولدينا بعض الأدلة التي تثبت أنه لم يخب ظنه.
ومع أنه لم يصل إلينا شيء يذكر من الوثائق التي تكشف عن كيفية سير نظام الحكومة المصرية في ذلك العهد، فإننا نجد من جهة أخرى أن النقوش الجنازية التي دونت على مقابر حكام المقاطعات والموظفين في ذلك العهد الإقطاعي قد كشفت لنا من عقائدهم الاجتماعية. وإن السائحين الذين صعدوا في النيل في وقتنا هذا ليذكرون زيارتهم لتلك المقابر؛ إذ كانت تحملهم البواخر النيلية لمقابر «بني حسن»، ومن الجائز أن قبر «أميني»، ذلك الأمير الإقطاعي ورئيس الحكومة الإقطاعية في تلك الجهة، لم يترك إلا أثرا بسيطا في أذهان أمثال أولئك السائحين. ولكن الواقع أن ذلك القبر يعد أثرا جليل القدر في التاريخ الاجتماعي لذلك العهد ؛ إذ نجد فيه على الأقل مثلا يثبت أن الرجال الذين قاموا بالحملة الاجتماعية المقدسة قد كان لحملتهم بعض التأثير على جيل الموظفين الجدد؛ إذ يقص علينا «أميني» هذا في نقش كتب على باب مزار قبره ما يأتي:
لا توجد بنت مواطن قد عبثت بها، ولا أرملة عذبتها، ولا فلاح طردته، ولا راع أقصيته، ولا رئيس خمسة سلبته رجاله مقابل ضرائب (يعني لم تسدد)، ولا يوجد بائس بين عشيرتي، ولا جائع في زمني. وعندما كانت تحل بالبلاد سنون مجدبة كنت أحرث كل حقول مقاطعة «الغزال» (يعني مقاطعته) إلى حدودها الجنوبية وإلى حدودها الشمالية، محافظا بذلك على حياة أهلها ومقدما لهم الطعام، حتى إنه لم يوجد بها جائع قط. وقد أعطيت الأرملة مثل ذات البعل، وإني لم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في أي شيء أعطيته. ثم أقبل بعد ذلك الفيضان العظيم بالغلال الغنية والخيرات الكثيرة، ولكني مع ذلك لم أجمع المتأخر على الحقول (يعني من الضرائب).
ويخيل إلينا أننا نسمع في ذلك السجل صدى الأوامر التي صدرت إلى الوزير الأعظم عند تنصيبه، وبخاصة في العبارة التي يقول فيها «أميني»:
3 «إني لم أرفع الرجل العظيم فوق الرجل الحقير في أي شيء أعطيته.»
وإنه لمن السهل علينا أن نعتقد أن أميرا كذلك الأمير كان حاضرا بالبلاط الملكي وسمع الفرعون وهو يلقي تلك الأوامر على رئيس وزرائه عند تنصيبه. وإذا كانت إدارة «أميني» لمقاطعته قد وصلت إلى أي حد مما يدعيه فيما كتبه فإنه يجب علينا أن نستخلص من ذلك أن تلك التعاليم الاجتماعية التي فاه بها الحكماء أمام البلاط الملكي كانت معروفة لدى العظماء في طول البلاد وعرضها، وإذا وصل بنا الاستنتاج إلى أن ما كتبه «أميني» مغالى فيه حتى جعل حكمه يبلغ درجة عظيمة من المثالية، فإنه لا يزال أمامنا المغزى الذي نستخلصه من رغبته في إحداث مثل ذلك التأثير مما نقرؤه في ترجمة حياته.
وهذه الحالة تنطبق على سجلات بعض حكام المقاطعات الأخرى في نفس ذلك العصر، كالتي نجدها منقوشة فوق محاجر المرمر في «حتنوب»، وهي تحتوي على عدة تأكيدات من ذلك الصنف، تقص علينا أن الشريف كان رجلا «أنقذ الأرملة وواسى المتألم، ودفن المسن، وأطعم الطفل، وعال كل مدينته في زمن الجدب، وهو الذي أطعمها في وقت القحط، وهو الذي زودها بسخاء بلا تمييز، فكان عظماؤها في ذلك مثل أصاغرها.»
كذلك ذكرنا فيما تقدم أنه في عهد «سنوسرت
4
الأول» بن «أمنمحات الأول» قد افتخر شريفان في ترجمة حياتهما الجنازية بأنهما كانا قاضيين يقومان بتأدية وظيفتهما بالعدالة وبدون محاباة أو تفكير في أية مكافأة (يعني رشوة) يأخذانها، وقد قصا علينا افتخارهما ذاك بنفس لغة النصائح الموجهة إلى «مريكارع»، فدلا بذلك على أن المثل العليا الاجتماعية التي فاه بها ذلك الحكيم الملكي الأهناسي القديم كانت لا تزال ذات نفوذ، بعد قرون مضت على التفوه بها، في ذلك العصر الإقطاعي. فمن البديهي إذن أن المثل العليا للعدالة الاجتماعية التي تشغل مكانا بارزا جدا في أدب ذلك العصر لم يقتصر تأثيرها على الملك فحسب، بل أحدثت كذلك تأثيرا عميقا بين طبقة الحكام في كل مكان.
ولا شك أننا نجد في ذلك انقلابا عظيما؛ فالتشاؤم الذي كان ينظر به رجال العصر الإقطاعي الأول إلى الحياة الآخرة، أو يتأملون به مصير الجبانات المخربة التي يرجع تاريخها إلى عصر الأهرام، أو اليأس الذي كان ينظر به بعضهم إلى الحياة الدنيوية، كل ذلك قد قوبل بتيار مضاد في إنجيل من الحق والعدالة الاجتماعية أخرج للناس في نصائح ملؤها الأمل على لسان أولئك المفكرين الاجتماعيين الأكثر تفاؤلا، وهم رجال رأوا الأمل في القيام بجهود إيجابية توصل إلى الأحوال المرضية.
ويجب علينا أن نعتبر تحذيرات «إبور» وتنبؤات «نفرروهو» وقصة «الفلاح الفصيح» أمثلة رائعة للقيام بمثل تلك الجهود، وأن كتاباتهم هي الأسلحة التي استعملتها أقدم طائفة قامت بالجهاد في سبيل الإصلاح الخلقي والاجتماعي.
والواقع أن منتهى ما كان يرغب في الوصول إليه رجل مثل «إبور» يتمثل في خطاب العرش الذي ألقاه الملك عند تنصيب رئيس وزرائه، فإن الملك الذي في قدرته أن يلقي خطابا كهذا يقرب في سموه من ذلك الملك الأمثل الذي كان يحلم بظهوره «إبور»، ومن الملك الذي اعتقد «نفرروهو» أنه قد عثر عليه، ولدينا ما يحملنا من جهة أخرى على الاعتقاد أن «أميني» الذي كان أميرا لمقاطعة «بني حسن» يمثل تمثيلا صادقا جيل الموظفين الجدد العدول الذين كان يأمل مؤلف قصة «الفلاح الفصيح» أن يراهم قائمين بأعباء الحكومة في مصر.
وقد لاحظنا فيما سبق أن مجرد استحسان الأسرة لسلوك الفرد لم يعد بعد كافيا في ذاته؛ فقد أتى عصر التفكير بمثل عليا للسلوك الشخصي يرتبط أمرها بطبقات بأسرها من المجتمع، فصار السلوك عرضة لحكم المجتمع عليه، وهذا الحكم الاجتماعي قد وضع الآن في فم إله الشمس، فقد قال الفلاح الفصيح لمدير البيت العظيم: «أقم العدل لرب العدل.» وكذلك أشار في كلامه إلى «هذه الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه وهي تكلم الصدق وافعل الصدق.» وفيها - كما نذكر - أن «الصدق» معناه كذلك الحق والعدالة «ماعت».
كذلك رأينا في أوامر الملك للوزير الأعظم أن ذلك المنهاج الخاص بالشفقة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية، وهو الذي يفضل فيه الملك الرجل الضعيف ومن لا ناصر له على الرجل القوي المستكبر، كان يرمي بوضوح إلى غرض ديني ينسب إلى الإله، فيقول الملك في ذلك: «إنها لعنة من الإله أن يظهر الإنسان تحيزا.» فنرى من ذلك أن آراء العدالة الاجتماعية عندما وجدت منفذا عمليا لظهورها أولا في الملكية المثلى، ثم بعد ذلك في أخلاق الفرد المكلف بإقامتها، انعكست صورتها على أخلاق إله الشمس ونشاطه، وهو الملك الأمثل؛ أي إن وجوب المحافظة على العدالة الاجتماعية التي أخذ الناس يشعرون به في قرارة أنفسهم قد صار أمرا إلهيا، واعتقدوا في الحال أن مقت أنفسهم للظلم هو نفس مقت الإله للظلم، وبذلك صارت مثلهم العليا في الأخلاق هي كذلك مثل الإله، فاكتسبت بهذا المظهر الجديد قوة مسيطرة جديدة.
وبذلك كان من السهل الاعتقاد - زيادة على ما ذكر - بأن العدالة هي القانون التقليدي لوظيفة الوزير منذ الزمن الذي كان يحكم فيه إله الشمس مصر، وكذلك حكم الفرعون الذي جرى وراثيا مدة ألفي سنة منذ تأسيس الاتحاد الأول، وكان المفروض فيه أنه كان استمرارا لسريان دم «رع» وسلالته، كان كذلك استمرارا لإقامة نظام العدل القديم الذي أقامه إله الشمس على الأرض. وقد ألقى الملك أمره بكل وضوح على الوزير، غير أنه لم يتردد في الوقت نفسه في الالتجاء إلى المحكمة العليا، فكان على الوزير أن يقيم العدل؛ لأن الإله الأعظم الذي يشرف على الدولة يمقت الظلم، وليس ذلك اتباعا لأمر الملك فقط.
ثم إنه بعد انقضاء حوالي اثني عشر أو ثلاثة عشر قرنا من الزمان على ذلك العصر نجد أن أنبياء بني إسرائيل يعلنون بقوة سيادة «يهوه» الخلقية على سيادة الملك عندهم. ولكن كم كان عدد الأجيال التي لا بد أنهم سلخوها في خدمة الدين بغير فائدة ظاهرة قبل أن يتغلب صراع الأنبياء هذا ويحرز النصر حتى عبر عن روح الحكومة العبرانية، وإن كان ذلك التعبير فيها أقل بكثير عما عبر به الملوك في العصر الإقطاعي عند قدماء المصريين، مع أننا لم نعتد ربط مثل تلك المبادئ الحكومية بالشرق القديم، بل ولا بالشرق الحديث.
ويرجع تأثير تلك المثل العالية للعدالة الاجتماعية التي وجدت سبيلها إلى الحكومة بدرجة عظيمة، إلى الشكل الذي انتشرت به بين كل طبقات الشعب؛ فإن مثل تلك العقائد لو كانت أعلنت بين القوم في شكل مبادئ مجردة لما لفتت إليها الأفكار ولما أحدثت إلا تأثيرا قليلا، بل ربما لم تحدث أي تأثير مطلقا، فإن المصري كان يفكر دائما في الأشياء المعينة والصور المجسمة؛ فهو مثلا لا يفكر في السرقة بل يفكر في السارق نفسه، ولا يفكر في الحب بل في المحب، ولا يفكر في الفقر بل في الرجل الفقير وهلم جرا؛ ولذلك لم ير الفساد الاجتماعي بل شاهد المجتمع الفاسد. ولهذا كان الوزير «بتاح حتب»، وهو رجل يقوم بأعباء الوظيفة بإيمان سليم في قيمة السلوك الحق والإدارة الحقة ليخلق بذلك السعادة، وسلم إرث تلك التجربة إلى ابنه، وكذلك «الرجل التعس» كان رجلا حل به الظلم الاجتماعي فعبر عنه في صورة روح يائسة تعبر عن يأسه وأسبابه، وكذلك أيضا كان «إبور» رجلا تسكن في نفسه الرؤية التي أدركت كلا من الفساد الفتاك بالمجتمع والحلم الذهبي بظهور الملك الأمثل الذي يصلح كل شيء، وكذلك أيضا كان «الفلاح الفصيح» رجلا يتألم من اضطهاد الموظفين له ويصرخ بأعلى صوته مستغيثا من ذلك، وكذلك أيضا كانت أوامر «أمنمحات» صيغت في قالب ملك يتألم من الخيانة المخزية التي حدثت له وجعلته يفقد كل ثقة بالناس؛ فألقى تجاريبه تلك إلى ابنه.
فكانت النتيجة اللازمة لذلك أن تلك العقائد التي تعزى إلى أولئك المفكرين الاجتماعيين قد وضعت في شكل تمثيلي، وأن العقائد نفسها قد عبر عنها في هيئة محاورات نشأت عن تجارب وحوادث مثلت كأنها حقائق واقعية.
وإننا نكرر هنا أن مثل تلك التعاليم كانت بلا شك تلاقي في الشرق، بل ما زالت تلاقي في كل بقاع العالم، أعظم الإقبال والانتشار بوضعها في تلك الصور، وهي الصور التي صورت بها بكل بساطة مشكلة الألم الإنساني التي مثلت لنا بشكل بارز في قصة «أيوب» - عليه السلام؛ كما أن قصة «إحقار» التي كشف حديثا عن أصلها الآرامي القديم تعد بلا شك مقالا معبرا عن غباوة جحود الجميل ونكرانه، وقد صيغت في نفس ذلك الطراز، في حين أن أمثال «عيسى» - عليه السلام - وهي أجمل تلك القصص جميعا، تتبع في تصويرها نفس الطريقة والصورة اللتين كانتا شائعتين في الشرق مدة أزمان مضت. و«أفلاطون» عندما أراد أن يتحدث عن خلود الروح اتخذ من موت «سقراط» موضوعا مسرحيا عبر فيه عن العقائد التي أراد أن يضعها أمام الناس في تضاعيف محادثة جرت بين «سقراط» وصحبه .
5
ومما هو جدير بالنظر هل أن تلك الأبحاث الأخلاقية والفلسفية، التي تلقى في صورة محاورات بعد التمهيد لها بمقدمة تجعل الموضوع كله في هيئة قصة، كان لها أثرها في ظهور الشكل الحواري في آسيا وأوروبا؟ على أن انتشار قصة «إحقار» انتشارا عاما في أنحاء العالم يدل على مدى تنقل مثل ذلك الإنتاج الأدبي، وقد يكون من الأمور الجديرة بالذكر في موضوعنا أن أقدم صورة لقصة «إحقار» هذه قد نبتت في مصر.
وقد لاحظنا من قبل أن المثل العليا الاجتماعية التي نبتت في العهد الإقطاعي قد أضيفت إليها سلطة مقدسة وعزيت إلى أصل إلهي. ومن المهم أن نفحص الدليل على قيام تلك الحقيقة، وأن نثبت بصفة قاطعة شخصية ذلك الإله المقصود الذي كان يلتجئ إلى سلطانه رجال المثل العليا في الاجتماع. إن هذه المثالية الاجتماعية - التي هي أقدم شيء من نوعها - كانت بلا جدال مرتبطة بحكم إله الشمس على الأرض، وقد لاحظنا فيما تقدم أنه كان إلها للشئون البشرية في عالم الأحياء، في حين أن «أوزير» كان إلها للموتى. ولا نزاع في أن الملك الأمثل هو «رع» إله الشمس الذي كانت تجدد فخامة حكمه الخلقي في الفرعون الذي كان خليفة له على الأرض.
ولقد التجأ الملك في أوامره لرئيس وزرائه إلى التصريح بأنها أتت وفقا لحكم إله الشمس وجريا على تقاليده المتبعة؛ فالإله «رع» هو الذي كان صاحب السيادة على أفكار أولئك الفلاسفة الاجتماعيين في العهد الإقطاعي؛ لأننا نجد في «أغنية الضارب على العود» حتى مومية المتوفى قد وضعت أمام إله الشمس، وإليه كان يتطلع «الرجل التعس» ليبرئه في الآخرة. وقد كان «خع خبرو رع سنب» كاهنا لإله الشمس بمدينة «هليوبوليس»، كما أن رؤية «إبور» للملك الأمثل الذي سيأتي في المستقبل قد برزت إليه من ذكريات النعيم المقيم لحكم «رع» على الأرض بين الناس، في حين أن ملخص كل شكاوى «الفلاح الفصيح» كانت تنحصر في «تلك الكلمة الطيبة التي خرجت من فم «رع» نفسه: تكلم الصدق وافعل الصدق (أو الحق)؛ لأنه عظيم وأنه قوي وأنه دائم.»
فالواجبات الخلقية التي تظهر في اللاهوت الشمسي ليست إذن إلا صورة لأقدم بعث اجتماعي جديد لم نعرف نظيرا له في تاريخ العالم. وقد كان من أهم نتائج الملكية المثلى لحكم إله الشمس الأمل في تكرار مثل ذلك الحكم الطافح بالخير، وكان ذلك الأمل هو الذي جلب معه فكرة انتظار ملك مخلص يأتي فيما بعد.
ومن الواضح هنا - كما في متون الأهرام - أن علاقة «أوزير» بالمثل العليا للحق والعدالة في ذلك الوقت كانت أمرا ثانويا؛ لأن «أوزير» كان قد حوكم ثم اتضحت براءته في قاعة «هليوبوليس» العظمى؛ أي إنه حوكم أمام محكمة الشمس التي كان معترفا بها أنها المحكمة التي لا بد أن يفوز الإنسان ببراءته أمامها، وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه أسطورة «أوزير» لا تزال في دور التكوين والتأليف.
أما رفع «أوزير» إلى منصب قاض فيما بعد، فليس إلا صبغا لوظائفه بالصبغة الشمسية على أساس القضاء الشمسي السائد في متون الأهرام؛ إذ نجد في تلك المتون أن «أوزير» قد صعد بالفعل فوق عرش «رع» السماوي، ثم نراه الآن يستولي على كرسي القضاء الخاص «برع»، وبتلك الكيفية صار إله الشمس المتصرف الخلقي العظيم الذي يحاكم أمامه الجميع بمقتضى العدالة، ولم يستثن من بينهم أحدا حتى ولا «أوزير» هذا. ولا داعي لأن ننكر هنا وجود بعض المبادئ الخلقية في العقيدة الأوزيرية المبكرة، وهي المبادئ التي نجد بعض الدلائل على وجودها في المذاهب المحلية لعدة آلهة مصرية من عصر الأهرام، ولكن يجب علينا لهذه المناسبة ألا ننسى أن متون الأهرام قد حفظت لنا بعض المتون التي اعتبر فيها «أوزير» بعيدا جدا عن أن يكون ملكا أمثل وصديقا للإنسان؛ لأنها تميط اللثام عن عداوته للموتى وخصومته لجميع الناس. ولم يظهر «أوزير» بمظهر الحامي للعدالة بشكل صريح إلا في العهد الإقطاعي، وسنرى الآن أن «أوزير» و«رع» قد وضعا جنبا إلى جنب في التفكير الخلقي في ذلك العصر.
وكان لا بد في ذلك الوقت لكل عظيم وكل قوي أن ينتظر المحاكمة أمام محكمة العدل، على أن يكون ذلك على قدم المساواة مع الفقير ومن لا ناصر له في المعاملة وفي الأحكام، وتلك المعاملة لم تذكر فقط في الاعتقادات الدينية والمبادئ الاجتماعية، بل ذكرت كذلك رسميا في السياسة الملكية. ولا يكاد يكون هناك أي شك في أن مثل تلك العقائد الخاصة بالعدالة الاجتماعية كما وجدناها في ذلك العصر قد ساعدت مساعدة عظيمة على نمو الاقتناع بأن الإنسان الذي يصير مقبولا أمام محكمة عدالة الإله العظيم ليس هو الرجل الذي يكون صاحب سلطان وثروة، وإنما هو رجل الحق والعدالة.
6
وقد تأثر الكهنة الذين كانوا مشتغلين باللاهوت في ذلك العصر تأثرا عظيما بذلك الميل إلى نشر الديمقراطية (أي تعميم المساواة بين الناس). ويكشف لنا عن مبلغ ذلك التأثير خطاب أساسي هام لإله الشمس عثر عليه في متون التوابيت الخشبية التي يرجع تاريخها إلى ذلك العصر الإقطاعي؛ إذ يقول: «لقد خلقت الرياح الأربعة ليتنفس بها الإنسان مثل أخيه الإنسان مدة حياته، ولقد خلقت المياه العظيمة ليستعملها الفقير مثل السيد.
لقد خلقت كل رجل مثل أخيه، وحرمت عليهم إتيان السوء، ولكن قلوبهم هي التي نكثت ما قلته.
لقد جعلت قلوبهم لا تغفل عن الغرب (الموت والقبر) ليقربوا القرابين للآلهة المحلية.»
7
وإنه لأمر هام جدا أن نجد في ذلك المتن المساواة التامة بين بني الإنسان في قوله: «لقد خلقت كل إنسان مثل أخيه.»
وقد نظر إلى ذلك البيان فورا من ناحيته الخلقية في قوله: «ولقد حرمت عليهم إتيان السوء ولكن قلوبهم هي التي نكثت ما قلته.» وإن ظهور مثل تلك النظرة - إلى الإنسانية - التي قضت على كل الفوارق الاجتماعية في نظر الخالق العظيم عند خلقه للناس وجعلهم سواسية أمام المسئولية الخلقية يعد أمرا غريبا، ويزيد في غرابته ظهوره قبل عصر المسيح - عليه السلام - بألفي سنة؛ أي إنه كما نلاحظ كان معاصرا على وجه التقريب لعهد الملك «حمورابي»
8
الذي سن في قانونه العظيم: «إن كل العقوبات والأحكام القضائية تدرج حسب مراكز المذنبين الاجتماعية أو مكانة المتخاصمين الاجتماعية.» وهذه الحقيقة تفسر لنا على الفور السبب الذي من أجله نعتبر أن ما أضافته المدنية البابلية إلى إرثنا الخلقي في غربي آسيا، في حكم العدم.
ومن ثم نرى أن الحقوق الخاصة التي كان يدعيها العظماء والأقوياء لأنفسهم من الإجلال والسعادة في عالم الآخرة، أخذت تختفي وتزول، ومن هنا أيضا بدأت عقيدة المساواة بين البشر في التمتع بنعيم الآخرة تأخذ مجراها، بمعنى أن عالم الحياة الآخرة قد صار ديمقراطيا لكل البشر على السواء.
والآن يجب علينا أن نحاول إدراك تأثير الآراء الخاصة بالعدالة الاجتماعية التي ظهرت في العهد الإقطاعي إزاء تطور الاعتقادات المصرية القديمة فيما يتعلق بمصير الأرواح البشرية في عالم الحياة الآخرة.
الفصل الثالث عشر
إقبال عامة الشعب على اعتناق مثل الآخرة الملكية وانتشار السحر
إن عقيدة التشكك إزاء الاستعداد للحياة الآخرة، بما فيه من بناء قبر ضخم مجهز بالأساس الجنازي الوفير، ثم التسليم بعدم فائدة العتاد المادي للمتوفى، لم يخرج أمرهما عن كونه موجة عكسية صغيرة وسط تيار محيط الحياة المصرية، وذلك بالرغم مما رأيناه من المبالغة في شأنهما في العصر الإقطاعي. والواقع أن مثل تلك الاتجاهات كانت، من جهة، من مستلزمات عقيدة التشاؤم واليأس المطلقين، كما كانت من جهة أخرى من مستلزمات الاعتقاد (الآخذ في النمو) بضرورة التزود بالقيم الخلقية للحياة الآخرة، ولم تخرج تلك الآراء عن كونها ثورية لم تحمل في تيارها الجم الغفير من الشعب المصري؛ ولذلك لما صارت سعادة الآخرة حقا مشاعا لجميع المتوفين سارع عامة الشعب إلى التعلق بهذا الامتياز الجديد الذي يجعل لهم حق التمتع بذلك المصير السماوي الفخم الذي كان من زمن بعيد موقوفا على الفرعون فقط، فأقبلوا على تلك الشعائر الجنازية وواصلوا القيام بالمحافظة على طقوسها.
وقد استمرت العناية بإقامة تلك الشعائر تزداد وتنتشر دون أي التفات إلى ذلك الصمت البليغ والخراب البادي اللذين كانا يخيمان فوق هضبة الأهرام وفوق جبانات أولئك الأجداد. وباستعراض الماضي نجد أن والد «مريكارع»، بالرغم من أنه كان يشعر شعورا قويا بتلك الأهمية الخطيرة للحياة الفاضلة، لم ير أن يزين لابنه الاستغناء عن القبر؛ إذ يقول له: «زين مثواك (يعني قبرك) الذي في الغرب، وجمل مقعدك في الجبانة.» ولكنه لم يفته في الوقت نفسه أن يضيف إلى ذلك قوله: «كإنسان مستقيم أقام العدالة؛ لأن ذلك هو ما يعتمد عليه القلب.»
ويتضح من ذلك أن هذا الملك المسن لم يكن يعتبر القبر المتين وحده كافيا لضمان السعادة في الحياة الآخرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نرى أن «إبور» قد قال للملك: «وفضلا عن ذلك فإنه من الخير أن تقيم أيدي الناس الأهرام وتحفر البحيرات وتغرس خمائل جميز الآلهة.»
وقد كان يعد فقدان القبر في نظر طائفة الموظفين الأثرياء أرهب عاقبة ممكنة لعدم ولاء المتوفى للملك؛ ولذلك قال أحد الحكماء لأولاده: «لا قبر لإنسان خارج على جلالة الملك، بل إن جثته سيلقى بها في الماء.»
1
ومن أجل ذلك اتجه الأشراف في ذلك العصر إلى بناء المقابر وتجهيز معداتها طبقا لما كانت عليه الحال قديما. والواقع أنه لم يعد بعد في قبضة يد الملوك ذلك السلطان المطلق على الحكومة حتى يمكنهم أن يتخذوا منها مجرد هيئة منظمة لإقامة المقبرة الملكية الهائلة، ومع ذلك فإن طبقة الموظفين المكلفين بإقامة مثل تلك المباني لم يترددوا في موازنتها بالجيزة (جبانة الجيزة)، فقد أظهر «مرا» أحد مهندسي الملك «سنوسرت الأول» ارتياحا عظيما عندما كلف من قبل الملك «ليقوم له ببناء مثوى أبدي تفوق شهرته «رستا» (يعني الجيزة) ويكون أثاثه أحسن من أثاث أي مكان آخر، وفي المنطقة الممتازة الخاصة بالآلهة، فكانت عمد ذلك المثوى تخترق السماء، والبحيرة التي حفرت فيه قد وصلت إلى النهر، وأبوابه العظيمة التي تناطح السماء قد أقيمت من أحجار طرة البيضاء، وقد فرح «أوزير»، أول أهل الغرب، بكل آثار سيدي (الملك)، كما سررت أنا نفسي وابتهج قلبي بما قد قمت بإنجازه.»
2
و«المثوى الأبدي» المذكور هنا هو قبر الملك، وهو يشمل كذلك المزار أو المعبد الجنازي الذي يكون قبالته، كما يدل على ذلك الوصف المذكور .
ومع أن مقابر أشراف الإقطاعات لم تعد تبنى بعد حول هرم الملك كما كان يفعل الأشراف ورجال الإدارة في زمن عصر الأهرام، وصارت الآن منبثة في إقطاعاتهم في طول البلاد وعرضها، فإنهم استمروا يتمتعون إلى حد ما بالهبات الجنازية التي كانت تصرف من الخزانة الملكية، تشهد بذلك الصيغة الدينية المألوفة: «هي قربان يهديه الملك.» وهي الصيغة التي كانت شائعة في المقابر التي حول الأهرام، فصارت الآن تنقش بكثرة بمقابر الأشراف.
على أن هذه الحال لم تعد مقصورة على مقابر الأشراف؛ إذ إنه بعد التطور الأخير في معتقدات الطبقات الراقية عن الآخرة وانتشارها بين الشعب، صار من العادات المعروفة المرعية أن يتضرع كل إنسان إلى الملك حتى يعطيه نصيبا من تلك الهبات الجنازية الملكية؛ ولذلك نجد كل طبقات المجتمع - حتى أحقر العمال - المدفونين في العرابة المدفونة كانوا يتضرعون لنيل «قربان يهبه إليهم الملك» بالرغم من أنه كان من المستحيل طبعا أن تتمتع غمارة الشعب بامتياز كهذا.
على أننا لا نحصل على فكرة وافية عن تلك العادات الطلية الخاصة بتموين المتوفى في الحياة الآخرة إلا في ذلك العهد الإقطاعي، ولا غرو، فقد صارت تلك العادات الآن متأصلة في حياة الشعب، وقد حفظت لنا المقابر التي لا تزال باقية إلى الآن في مقاطعات الوجه القبلي بعض بقايا تلك الشعائر اليومية والعادية، وكذلك ما كان خاصا منها بالاحتفالات والأعياد، مما كان الشعب يظن أنه بوساطتها يدخل السرور على الذين قد رحلوا إلى الدار الآخرة حتى تصير حياتهم أكثر مرحا، وذلك على النمط الذي لاحظناه في الاحتياطات التي كان يتخذها الأشراف في عصر الأهرام.
فإن الشريف الثري «حبزافي» الأسيوطي (حاكم مقاطعة أسيوط) الذي كان يعيش في القرن العشرين ق.م، أقام لنفسه قبل وفاته تمثالا في كل من معبدي المدينة الرئيسيين: أحدهما في معبد الإله «وبوات»، وهو إله محلي قديم لذلك المكان في صورة ذئب، ومن ذلك الاسم اشتقت المدينة اسمها «ليكوبوليس» (يعني بلدة الذئب) على يد اليونان. وأما التمثال الآخر فقد أقامه في معبد «أنوبيس»، وهو إله معروف في صورة الكلب أو صورة ابن آوى، وقد كان ذلك الإله يوما ما أحد الآلهة المناهضين «لأوزير». وكان معبد الإله «وبوات» يقع في وسط المدينة، في حين أن معبد الإله «أنوبيس» كان يقع بعيدا عنه على ظاهر حدود الجبانة في سفح الجبل الذي نحت في واجهته على مسافة من ارتفاعه، قبر «حبزافي» الفخم. وقد نصب في ذلك القبر تمثالا ثالثا لنفسه أيضا يقوم برعايته كاهنه الجنازي، ولم يكن له إلا كاهن واحد يعنى بقبره، ويقوم بالاحتفالات التي كان يرغب فيها، ولكن «حبزافي» دبر ما يلزم للكاهن من المساعدة عند الاقتضاء، بأن عهد بهذه المساعدة إلى كهنة المعبدين وبعض موظفي تلك الجبانة، وقد تعاقد على ذلك مع كل أولئك كما تعاقد مع الكاهن الجنازي، معينا بالضبط ما يجب عليهم عمله وما يجب أن يتسلموه من غلات ذلك الشريف في مقابل قيامهم بتلك الخدمات، أو مقابل القربان الذي كان يقدم بانتظام كل يوم وفي المواسم الخاصة فيما بعد موت هذا الشريف.
وتلك العقود البالغ عددها عشرة قد دونها ذلك الشريف في نقوش ظاهرة إلى الآن فوق الجدار الداخلي لمزار قبره، وهي تقدم لنا صورة قريبة جدا من تقويم الأعياد التي كان يحتفل بها في تلك المدينة الإقليمية التي كان يحكمها «حبزافي»، وهي أعياد كان الاحتفال بها يعم الأحياء والأموات على السواء.
فإذا اتخذنا محتويات تلك العقود أساسا فإن الصورة الخيالية التالية التي نستنبطها من ذلك كفيلة - على ما نأمل - بالتعبير عن الحياة التي توحي بها تلك العقود.
إن أهم تلك الاحتفالات تلك التي كانت تقام بمناسبة مقدم السنة الجديدة، فكانت تقام قبل حلولها، وعند بدايتها وبعد بدايتها؛ فتبدأ الاحتفالات قبل نهاية السنة القديمة بخمسة أيام في أول يوم من أيام النسيء الخمسة التي تنتهي بها السنة، فكان يرى في ذلك اليوم كهنة الإله «وبوات» سائرين في موكب، مخترقين شوارع أسيوط وأسواقها، وكانوا في نهاية المطاف يخرجون من المدينة حاملين إلههم «وبوات» إلى معبد «أنوبيس» الذي كان يقع في سفح جبل الجبانة، وهنالك يذبح ثور للإله الزائر (يعني للإله «وبوات»)، وكان كل كاهن إذ ذاك يحمل بيده رغيفا كبيرا أبيض مخروطي الشكل، وعند دخولهم ساحة معبد «أنوبيس» هذا يضع كل منهم رغيفه عند قاعدة تمثال «حبزافي».
وبعد مضي خمسة أيام من ذلك التاريخ كان ينحدر مدير الجبانة وبصحبته تسعة من موظفيه من فوق تلك الجبال عند حلول المساء، مارين بأبواب القبور المفتوحة، التي كانت حراستها موكلة إلى هؤلاء الموظفين، ثم يدخلون في ظلال المدينة التي في سفح تلك الجبال. وكانت المدينة في تلك الآونة يخيم عليها الظلام؛ إذ كانت تقع في ظلال تلك الجبال المشرفة عليها، وكان هذا في ليلة رأس السنة الجديدة، وكانت الأنوار المبعثرة التي أشعلت ابتهاجا بالعيد قد بدأت تنبعث عند الشفق من داخل البيوت ومن الشرفات.
وحينما تكون تلك الفئة ماضية في سيرها بالشوارع الضيقة الواقعة في أطراف المدينة تعترضهم فجأة الأسوار العالية لمعبد الإله «أنوبيس»، وعندما يدخلون من بابه العالي العظيم يسألون عن «الكاهن العظيم»، فيقدم لهم هذا على الفور حزمة من المشاعل، فيأخذونها ويعودون أدراجهم مصعدين في الجبل بتؤدة ومشرفين على المدينة كلما تسلقوا الجبل في عودتهم. وحينما يشرفون من فوق الجبل على أسقف المدينة الملتفة في الظلام الدامس كانوا يكشفون في وسطها مجموعتين منعزلتين من الأنوار، إحداهما تقع بالضبط تحت أقدامهم في حضيض الجبل، والأخرى تقع على مسافة بعيدة في قلب المدينة، فكانتا تشبهان جزيرتين متلألئتين بالنور في بحر من الظلمة يمتد إلى مسافة من تحت أرجلهم. وهاتان المجموعتان من النور هما ساحتا المعبدين اللذين كانت الأنوار تسطع في أرجائهما.
وبالرغم من أن سيدهم القديم
3 «حبزافي» كان مدفونا في بلاد النوبة النائية فإنه كان حاضرا بتمثاله المقام في وسط تلك الأفراح والأعياد التي كانت تعج بهما ساحة ذينك المعبدين، فقد كان تمثاله المنصوب في المعبد ينعم بعينيه اللتين كان يشرف بهما على الجموع التي كانت تزخر بهم هاتان الساحتان المختالتان بجمال أعمدتهما الزاهية. وكان (يعني التمثال) يتمتع مثل أصدقائه الأحياء - الموجودين أسفل منه - بروح ذلك الفيض العميم الذي كان مبسوطا أمامه عندما يشاهد رغفان القربان موضوعة عند قدميه، وهي التي ذكرنا فيما مر أن الكهنة كانت تضعها هناك. وكانت أذناه (يعني التمثال) تملآن بضجيج آلاف الأصوات التي كانت تتعالى بالفرح المنبعثة من جماهير المدينة المجتمعين بمعبدي الإلهين يترقبون انقضاء ذلك العام الراحل ويستقبلون العام الجديد، وكأن أصواتهم اصطفاق بحر يزخر بأمواجه، ينبعث من بعيد فوق الأسقف المظلمة إلى أن يصل جرسه المتضائل إلى آذان طائفة حراس الجبانة المرتفعة القائمة بين ظلمات الجبال وهم يشرفون على المدينة في صمت رهيب.
وكانت تطل من فوق رءوسهم بالضبط واجهة تلك المقبرة التي كانت قد أعدت لتضم جثمان سيدهم الراحل «حبزافي»، وقد كان المتقدمون في السن من بين أولئك الحراس يذكرونه جيدا، ويذكرون الكرم الذي طالما لاقوه على يديه. وأما المحدثون منهم فكان في نظرهم اسم «حبزافي» مجرد اسم لا يحمل معنى ما، فكانوا لا يجيبون إلا متباطئين ومتثاقلين عندما كان شيوخهم يحثونهم على إضاءة أنوار القبر، وحينما كان يتعجلهم صوت كاهن «حبزافي» من أعلى الجبل قائلا: «لا تتأخروا أكثر من ذلك في إضاءة الأنوار»، وعندئذ يخرج الشرر من قدح الزناد، وعلى إثره تضاء أول شعلة ومنها تضاء المشاعل الأخرى بسرعة. وكان الموكب الذي يشمل أولئك الحراس يسير حول مرتفع من الجبل فسيح الأرجاء ثم يعود الموكب ثانية إلى باب القبر العالي، حيث يكون في انتظارهم كاهن «حبزافي» فيدخلون من غير توان إلى مزار القبر العظيم.
وكان يشاهد انعكاس أنوار تلك المشاعل المتألقة في غير نظام فوق جدار ذلك المزار، فترى عليه صورة ضخمة للسيد الراحل ترتفع عالية حتى تختفي رأسه وسط الظلمة التي لم تصل إليها أنوار تلك المشاعل المتضائلة. ويبدو على صورته كأنها تحثهم على تأدية واجباتهم نحوه بالدقة والعناية عملا بما هو مدون بالعقود العشرة المنقوشة فوق جدار المزار نفسه. وكان «حبزافي» يبدو في الصورة مرتديا لباسا بهيجا ومتوكئا في رقة على عصاه التي بيده، وطالما كان المسنون من تلك الطائفة يرونه قائما على هذا الوضع وهو يفصل في القضايا التي كانت تعرض عليه حينما كان يساق المذنبون إلى داخل باب ديوانه بين صفين من ضباطه المتزلفين، أو كما كان يشاهد في حالة أخرى وهو يراقب سير تقدم العمل في إحدى ترع الري الهامة حتى يفتتح بها حقل زراعة جديد. فكان هؤلاء الحراس يسجدون خضوعا أمام صورته تلك المهيبة، يسوقهم إلى ذلك الدافع الطبيعي الذي ليس لهم فيه اختيار، كما كان يسجد أمامه الكتاب وأصحاب الحرف والفلاحون الذين نشاهد صورهم تملأ الجدران التي أمامه، وقد لونت بالألوان الجميلة البارزة فوق الجدران، وتلك الصور تمثل الصناعات وأسباب الترفيه التي كانت تضمها تلك الضياع العظيمة التي كان يملكها «حبزافي» وقتذاك، وهي تؤلف دنيا مصغرة يرى فيها ذلك الشريف الراحل، عندما يدخل إلى مزار قبره، أنه لا يزال يغدو ويروح بين مناظر حياة الريف ومسراتها التي كان هو السيد المرموق فيها، فقد كان يخيل إليه أن جدران مقبرته قد رجعت واتسعت حتى صارت تشمل حقول الزراعة والأسواق، ومصانع السفن وأحواضها، ومستنقعات صيد الطيور، وردهات الحفلات، وقد عمر النحات والرسام الجدران بتلك المناظر، حتى صارت في الواقع كأن الحياة تدب فيها.
عند ذلك توضع المشاعل الموقدة حول القرابين التي تملأ سطح مائدة القربان العظيمة المصنوعة من الحجر في المزار، وخلف تلك المائدة تمثال «حبزافي» جالس في كوة منحوتة في أصل الجدار، وبعد ذلك تنسحب جماعة الحراس الصغيرة على مهل، ملقين عدة نظرات سريعة على الباب الوهمي المقام في جدار المزار الخلفي، وكانوا يعتقدون أن «حبزافي» يمكنه في أي وقت شاء أن يبرز منه تاركا عالم الظلام المستتر خلف ذلك الباب الوهمي ليدخل إلى عالم الأحياء، ويحتفل مع الأحياء من أصدقائه بعيد رأس السنة المذكور.
وأما اليوم التالي، وهو اليوم الأول من السنة الجديدة، فيعد أعظم أيام الأعياد في التقويم السنوي، وكان القوم يتبادلون فيه الهدايا فرحين، كما يتوافد أهل الضياع أيضا يحملون الهدايا إلى سيد ضيعتهم، وقد انهمكت سلالة «حبزافي» في ملذاتها وجرت فيها إلى آخر شوطها ، ولكن شروطه التي أبرمت بانتباه وحذر، وهي التي كانت ولا تزال مدونة في سجلات المدينة، تضمن له الاهتمام بأمره وعدم إهماله. وفي الوقت الذي كان فيه الفلاحون ومستأجرو الإقطاعية يشاهدون مزدحمين عند الباب العظيم لبيت ذلك الشريف، حاملين هداياهم لسيدهم الحي، غير مفكرين في سيدهم الراحل، كان حراس الجبانة العشرة بقيادة رئيسهم يجتازون أطراف المدينة مرة أخرى سائرين نحو إحدى خزائن الضيعة لتسلم ما كان من حقهم أن يتزودوا به منها، ثم لا يلبثون أن يعودوا أدراجهم حاملين 550 فطيرة مستديرة و55 رغيفا من الخبز الأبيض و11 إناء مملوءة بالجعة، ثم يرجعون من حيث جاءوا مقتحمين طريقهم في تمهل وسط مرح الزحام حتى يبلغوا مدخل الجبانة عند سفح الجبل، فيجدون هناك زحاما عظيما أيضا، وكل واحد من أولئك المزدحمين محمل بمثل ما حملوا به؛ إذ كان الطيبون من أهل «أسيوط» يحملون عطاياهم من الأطعمة والشراب، بين جلبة عظيمة من الأفراح القائمة وسط تلك المناظر الخلابة التي لا عداد لها من صور تلك الحياة الشرقية، كما يشاهد مثل ذلك إلى اليوم بالجبانات الإسلامية في مصر في أيام عيد الفطر (وباقي الأعياد الإسلامية)، ويقصدون إلى الجبل حيث يدخلون بما يحملون إلى أبواب المزارات العديدة التي كانت منتشرة في وجه الجبل على مثال عيون أقراص النحل في خليتها، حتى تتمكن موتاهم من مشاطرتهم تلك الأعياد المرحة.
والواقع أن ذلك العيد يعد أقدم مثال من «عيد كل الأرواح»،
4
وكان حراس الجبانة يسرعون إلى قبر «حبزافي» بما معهم من المؤن فيسلمونها على الفور إلى كاهنه الجنازي ثم يعودون أدراجهم، حتى يحافظوا على النظام بين جمهور أفراد الشعب المرح الذين كانوا يتسلقون الجبل من كل مكان.
وكلما بليت جدة النهار قامت المعدات اللازمة للاحتفالات المسائية على ساق وقدم، من إشعال الأنوار وتمجيد المرحومين الذين ماتوا. وكان حراس الجبانة، مع كثرة تعبهم من تأدية واجباتهم الشاقة طوال اليوم بالجبانة المزدحمة، ينحدرون للمرة الثانية من فوق الجبل إلى معبد الإله «وبوات» بالمدينة حيث يكون جميع كهنة المعبد عن بكرة أبيهم في انتظارهم، فيقوم «الكاهن الأعظم» رئيسهم بتسليم حراس الجبانة عشرة المشاعل اللازمة لإنارة مقبرة «حبزافي»، فكانت تضاء في الحال بالمشاعل التي يحملها الكهنة، ثم يتحرك بعد ذلك الموكب المؤلف من الحراس والكهنة معا، فيسير على مهل مجتازا ساحة المعبد، ثم يخترق السور المقدس سائرا نحو الركن الشمالي للمعبد، كما ينص على ذلك لنا العقد الذي أبرمه «حبزافي» مع الكهنة، وهم يرتلون تفخيم
5 «حبزافي» (جعله روحا). وكان كل كاهن يحمل معه رغيفا كبيرا مخروطي الشكل من الخبز الأبيض كالذي سبق أن وضعوا مثله أمام تمثال «حبزافي» في معبد «أنوبيس» منذ خمسة أيام مضت، وكان الكهنة عندما يصلون إلى الركن الشمالي من المعبد يعودون ثانية إلى القيام بواجباتهم في وسط المحراب المزدحم بدهماء الشعب، وكانوا بطبيعة الحال يسلمون رغفانهم إلى حراس الجبانة؛ لأن هذه الرغفان كانت كنص العقد خاصة بتمثال «حبزافي» الذي في «قبره».
أما موكب الحراس الصغير المؤلف من عشرة أشخاص فكان يخترق شوارع المدينة المتألقة بالأنوار، والحراس يقتحمون طريقهم بمشقة عظيمة وسط زحام الشعب، وفي النهاية يبلغون الباب العظيم لمعبد «أنوبيس» حيث تكون الأنوار قد بلغت غايتها من البهجة والرواء، ولا ينسى في ذلك تمثال «حبزافي». وحينما يظهر الموكب خارج المدينة ثانية نراهم لا يزالون يشقون طريقهم بصعوبة بسبب دهماء الناس الذين يسيرون في نفس طريقهم، وكانت واجهة الجبل المظلمة التي تشرف عليهم يتخللها هنا وهناك معالم من النور تسير وئيدة مصعدة فوق الجبل، وكانت تلك الأنوار صادرة من مشاعل أهل المدينة الذين صعدوا مبكرين ووصلوا إلى الجبانة لوضع تلك الأنوار بها أمام تماثيل أمواتهم وقبورهم. وأما الحراس فإنهم يصعدون إلى مقبرة «حبزافي» كما فعلوا في الليلة المنصرمة، ويسلمون المشاعل والخبز الأبيض لكاهن «حبزافي» الذي ينتظرهم. وهكذا يشترك ذلك الشريف المتوفى مع أولاده ورعاياه الأحياء في الاحتفال بأعياد رأس السنة.
وفوق تلك الأعياد وغيرها من الأعياد الكبرى التي كان يتمتع بها المتوفى على الوجه المذكور، فإنه لم ينس في أي عيد من الأعياد الموسمية الصغيرة التي كان يحتفل بها في أول كل شهر وفي منتصف الشهر أو في أي يوم من «الأيام المحتفل بها».
وأما حاجاته اليومية فكان يقوم بأدائها طائفة خارجة عن هيئة الكهنة تخدمه بالتناوب بمعبد «أنوبيس»، ولأن ذلك المعبد كان على مقربة من الجبانة، كان أولئك الخدم يذهبون كل يوم بعد الفراغ من تأدية أعمالهم في المعبد حاملين نصيبا من الخبز مع إناء مملوء بالجعة ويضعونهما أمام تمثال «حبزافي» (الذي يكون منصوبا فوق السلم السفلي لقبره). وعلى ذلك كان لا يمضي يوم واحد من أيام السنة لا يتسلم فيه «حبزافي» ما يلزمه من الطعام والشراب.
6
وإن مثل تلك الاعتقادات والعادات لتدل على شدة تمسك قدماء المصريين بتلك التقاليد المادية الخاصة بالحياة في عالم الآخرة، التي هي في نظرهم الضمان الوثيق لاستمرار بقاء جثمان المتوفى بعد الموت، بالرغم مما ظهر من الأفكار التي ألقت ضوءا جديدا على ضرورة التحلي بالأخلاق الفاضلة استعدادا لاستقبال الحياة الآخرة فيما بعد الموت.
على أن بقاء إمداد الأشراف المتوفين بمثل ذلك العتاد المادي إلى الأبد، كان بالطبع من المستحيل؛ ولذلك قال «خنوم حتب» أحد الأمراء الإقطاعيين ذوي البأس في «بني حسن» فيما يختص بأوقافه الجنازية: «وأما فيما يتعلق بالكاهن الجنازي أو أي شخص آخر يعبث بها فإنه لن يستمر بعد وابنه لن يستمر بعده في هذا المكان» (يعني مشرفا على حراسة مدفنه). فيظهر من هذا خوف الشريف المذكور من عدم دوام تقديم العتاد المادي له بعد الموت، ومثل هذه المخاوف كثيرة، تردد ذكرها الوثائق التي من هذا القبيل.
وكذلك قد شاهدنا أيضا أن «حبزافي» ذاك كان يبدي مخاوفه من انقطاع ذراريه عن تقديم العتاد المادي لحياته الآخرة. وليس ذلك بغريب، فنحن أبناء هذا العصر الحديث لا يكاد يدفعنا البر نحو الاهتمام بقبر جد من أجدادنا الذين رحلوا عنا إلى الحياة الآخرة. وفي بلاد جديدة مثل بلادنا (يقصد الولايات المتحدة بأمريكا) لا يوجد إلا النزر اليسير من بيننا الذين يعرفون أين دفن آباء أجدادهم.
فالمفهوم أن كهنة «أنوبيس» و«وبوات» وحراس الجبانة بأسيوط كانوا يواصلون أداء واجباتهم ما دام كاهن «حبزافي» الجنازي يتسلم مرتباته، وما دام مخلصا في القيام بالتزاماته بأن يذكرهم بالقيام بما عليهم من الواجبات ويلاحظ تنفيذها.
وقد رأينا أن وقفا من مثل تلك الأوقاف استمر نافذ المفعول إلى ما بعد تغيير الأسرة نفسها (من الأسرة الرابعة إلى الخامسة) واستمر على أقل تقدير حوالي ثلاثين أو أربعين سنة في منتصف القرن الثامن والعشرين ق.م. وحتى في الأسرة الثانية عشرة نجد أنه كان لا يزال يوجد احترام عظيم في مصر العليا للأجداد من الدولة القديمة؛ فقد قام حكام مقاطعة «البرشة»
7
في القرن التاسع عشر والعشرين من قبل الميلاد، بإصلاح مقابر أجدادهم التي كانت ترجع إلى عصر الأهرام، مع أن تلك المقابر كان قد مضى عليها حينئذ أكثر من 600 سنة، وكانت متداعية خربة. وقد اعتاد الحاكم التقي الورع أن يسجل ما يفعله من مثل هذه الإصلاحات بالكلمات التالية: «إنه (يعني حاكم المقاطعة) قد عملها تخليدا منه لذكرى أجداده الذين في الجبانة، الذين هم أرباب ذلك المرتفع، فأصلح ما وجده مخربا وجدد ما وجده مهدما، ولم يقم أسلافه الذين كانوا قبله بذلك.» ونجد أن أشراف تلك المقاطعة قد استعملوا تلك الصيغة في مقابر أجدادهم خمس مرات، كما نجد أن «أنتف» أمير «أرمنت» قد اتبع نفس تلك الطريقة، حيث يقول: «لقد وجدت مزار الأمير «ناخت يوكر» آل إلى الدمار، فجدرانه قديمة وتماثيله محطمة ولم يعتن به أي إنسان، فبنيته من جديد وزدت في بنائه، وجددت تماثيله، وأقمت بالحجارة أبوابه، حتى يصير مكانه ممتازا عن أماكن الأمراء العظام الآخرين.»
على أن القيام بمثل ذلك البر للأجداد الراحلين كان نادرا جدا، وفي الحالات التي تم فيها شيء من ذلك لم تكن له فائدة أكثر من تأخير وقوع ذلك اليوم المشئوم الذي تزول فيه تلك الآثار جملة. والمدهش في ذلك أنهم، مع وجود مقابر أجدادهم مخربة أمامهم، كانوا لا يزالون يقيمون لأنفسهم تلك الأضرحة التي كان محتوما عليها أن تلقى مثل ذلك المصير.
ولدينا قبر «خنوم حتب »، وهو أكبر القبور التي تركها لنا أمراء مقاطعة «بني حسن» منذ 4000 سنة مضت، تتضمن جدرانه - بين تلك الرسوم الملونة الجميلة التي تزينها - كتابات حشرت بين النقوش الأصلية، تستغرق مدد كتابتها نحو 120 جيلا من الناس، وقد خطها كاتبوها على عجل، باللغة المصرية القديمة القبطية واليونانية والعربية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية. وأقدم هذه الكتابات كانت لكاتب مصري دخل إلى ذلك المزار المذكور منذ 3000 سنة مضت وكتبها باليراع (يعني الغاب) والمداد فوق الجدار، وهذا ما جاء بها من الكلمات: «لقد حضر الكاتب «أمنموسي» ليرى معبد «خوفو»، وقد وجده كالسماء تسطع فيها الشمس.» وكان قد مضى على بناء المزار المذكور نحو 700 سنة عندما زاره ذلك الكاتب المصري. وبالرغم من أن صاحبه الشريف المذكور كان أعظم أشراف عصره، فإن أمره قد صار نسيا منسيا، حتى إن ذلك الزائر لما وجد اسم «خوفو» قد كتب عرضا فوق الجدار في سياق نقش جغرافي، ظن - خطأ - أن ذلك المزار هو مزار الملك «خوفو» باني الهرم الأكبر في الجيزة، وذلك مما يشعر باختفاء كل معرفة تدل على ذلك الشريف أو أوقافه الجنازية التي كانت تمده في العالم الآخر؛ وذلك بالرغم من تلك الاحتياطات التي قام بتسجيلها فوق جدران قبره. فما أتفه قيمة تلك اللعنات
8
التي نجدها فوق تلك الجدران التي طمس معالمها الدهر وما أقلها جدوى!
ولكن المصري لم يكن عاجزا العجز كله عن علاج هذه الشدة البالغة، وحاول مقاومتها بنقش صلوات فوق واجهة قبره كان يعتقد أنها ذات تأثير قوي في إمدادها للمتوفى بكل ما يحتاجه في الآخرة، وضمن هذه الصلوات نصا يستحلف به كل مار - في رجاء حار - أن يتلو فوق قبره تلك الأدعية المنقوشة.
وهذه الأدعية تمثل لنا اعتقاد القوم في تأثير تلك الكلمات النافذ حينما كانت تقرأ من أجل المتوفين. وقد نما هذا الاعتقاد نموا عظيما منذ عصر الأهرام، وهو نمو سار جنبا لجنب مع تعميم تلك العادات الجنازية التي كانت من قبل خاصة بالطبقة العليا من الشعب. وكان مثل تلك الصيغ الدينية في عهد الأهرام ينحصر استعماله - كما سبق ذكره - في عهود الأهرام المتأخرة، كما أنها كانت مقصورة على مصير الفرعون في عالم الآخرة، فصارت الآن تستعملها الطبقة الوسطى مع طائفة الموظفين بكثرة.
وفي الوقت نفسه برز إلى عالم الوجود طائفة أخرى من «الأدب الجنازي»، وهو ما نسميه نحن الآن «متون التوابيت»، وهذه المتون هي صيغ مشابهة لسابقتها وتتحد معها في الغرض الذي ترمي إليه، غير أنها كانت أكثر ملاءمة لحاجات غمارة الناس؛ ولذلك شاع استعمالها بين دهماء الشعب في العهد الإقطاعي، وإن كان بعض أجزائها يرجع عهده إلى زمن أقدم بكثير من ذلك الوقت، كما أن «كتاب الموتى» الذي ظهر فيما بعد لا يخرج عن كونه مؤلفا من منتخبات من «متون التوابيت».
وهذه المتون تتألف من مقتبسات كثيرة أخذ بعضها من «متون الأهرام» وبعضها من الأدب الجنازي الشعبي، وكانت تكتب إذ ذاك على الأوجه الداخلية للتوابيت المصنوعة من خشب الأرز السميك. ولا يزال عدد متون التوابيت آخذا في الازدياد؛ إذ ما زالت تكشف توابيت من ذلك العصر فتضاف متونها إلى المجموعة التي لدينا. وكان كهنة كل بلدة يمدون كل صانع تابوت بنسخ من تلك المتون أو التعاويذ، وقبل تركيب قطع التابوت كان الكتاب التابعين لصانع التابوت يملئون أوجهه بالقلم والمداد نسخا مما قدم لهم من تلك المتون. وكانت كلها تنسخ بإهمال كبير وتحريف؛ إذ كان مجهود الكتاب إذ ذاك منصرفا إلى ملء تلك الألواح بالكتابة بأسرع ما يمكن، حتى إنهم كانوا في بعض الأحايين يكررون كتابة الفصل الواحد مرتين أو ثلاث مرات في نفس التابوت الواحد، وقد وجدنا مرة أن فصلا واحدا قد كتب ما لا يقل عن خمس مرات في تابوت واحد.
9
وفيما يختص بالناحية التي اتحدت فيها متون التوابيت مع متون الأهرام، فإنا قد ألفنا وظيفتها ومحتوياتها على وجه عام، فإن عالم الآخرة الذي كان يتطلع إليه الأهلون في ذلك العهد الإقطاعي كان لا يزال إلى درجة عظيمة عالما سماويا وشمسيا كما كان الحال في عصر الأهرام، فإن «متون التوابيت» تسودها بدرجة مدهشة فكرة الآخرة السماوية؛ إذ نجد نفس توحيد المتوفى مع إله الشمس كما وجدناه في متون الأهرام، بل إنه يوجد فصل عنوانه «صيرورة المتوفى «رع آتوم»»، ثم عدة فصول أخرى عنوانها: «صيرورة المتوفى صقرا» (وهو الطائر المقدس الممثل لإله الشمس).
على أنه كما تدخل «اللاهوت الأوزيري» في متون الأهرام قد تدخل أيضا في متون التوابيت، بل في الواقع استولى عليها، وأحسن مثال لذلك هو المتن الذي صار فيما بعد جزءا من «كتاب الموتى» باسم الفصل السابع عشر المشهور، والذي اعتبر في العصر الإقطاعي الذي نحن بصدده من الفصول المحبوبة؛ إذ نجده يتقدم على كل المتون الأخرى المكتوبة على عدة من التوابيت، وهو في جملته يعبر عن توحيد المتوفى مع إله الشمس، وإن كان يذكر معه بعض الآلهة الآخرين أيضا، فيقول فيه الرجل المتوفى:
إني «آتوم» أنا الذي كنت وحيدا
وإني «رع» عند أول ظهوره
وإني «الإله العظيم» خالق نفسه
والذي سوى أسماءه، ورب الآلهة
والذي لا يدانيه أي إله بين الآلهة
البارحة ملكي، وإني أعرف الغد.
وقد عثر على شرح لهذا المتن الشمسي القديم، يرجع تاريخه إلى العهد الإقطاعي، وعند التعليق في هذا الشرح على السطر الذي جاء به «البارحة ملكي، وإني أعرف الغد» أضيفت جملة «ذلك هو أوزير» مع أنه من الواضح تماما أن ذلك النص كان خاصا بإله الشمس فقط. وقد كان من جراء صبغ تلك المتون بالصبغة الأوزيرية أن أدخل العالم السفلي الأوزيري حتى في المتون الشمسية والسماوية، وبذلك لم يقتصر الأمر في متون التوابيت على امتزاج مجموعة المعتقدات الشمسية والأوزيرية بعضها ببعض بحالة أتم وأكثر مما كانت عليه من قبل، بل كانت النتيجة أن «رع» قد حشر الآن في عالم الآخرة السفلي. ويمكن التعبير عن مجرى هذه الحوادث (بشيء من المبالغة) بقولنا: إن «أوزير» في متون الأهرام قد رفع إلى السماء، في حين أنه في متون التوابيت وكتاب الموتى قد نزل «رع» إلى الأرض.
غير أن الارتباك الذي نتج عن ذلك كان أدهى وأمر مما جاء في «متون الأهرام»، ويذكرنا ذلك الامتزاج بين المصير السماوي المتألق الفاخر وبين عالم آخرة مظلم واقع في ظلمات العالم السفلي بما جاء في روحيات الأمريكيين السود من النص على الإقامة في مكان ما على نهر الأردن في الأرض الموعودة، وإلى جانب ذلك مثوى في السماوات ،
10
أو تذكرنا بالقول بمطهر سفلي يكون بمثابة تمهيد للوصول إلى جنة سماوية.
وإنه لمن الأمور الصعبة أن يكون الإنسان أية فكرة متصلة الحلقات عن الحياة الآخرة التي كان يأمل أهل ذلك العصر في الوصول إليها؛ إذ نجد الصور الشمسية الأوزيرية المركبة التي ذكرت فيما سبق في متون الأهرام، كما نجد أن أولئك الكهنة - الذين يرجع إليهم جمع متون التوابيت - قد أرخوا لخيالهم العنان ليتجول في تحويرها كيف شاءوا؛ فالمتوفى المصري القديم الذي كان يشاطر الآن «أوزير» مصيره - وكان يسمى كذلك «أوزير» باعتراف ابنه «حور» - يسمع بنفسه كلمات الخضوع والوعد بالسعادة الموجهة إليه من ابنه المقدس المذكور، ثم تنتقل تلك الصور الأوزيرية فجأة فتصور الامتيازات الشمسية هكذا:
إنك تطوف حول الأقطار مع «رع» فيجعلك ترى الأماكن الممتعة، وتجد الأودية مفعمة بالمياه لغسلك وإنعاشك، ثم تقطف أزهار البطاح ونور «هني» (؟) وأزهار السوسن والزنبق، وتأتي إليك طيور البرك بالآلاف جاثمة في طريقك، وعندما ترمي خطافك لصيدها يسقط منها ألف برنين صوته، وهي إوز «رو» (؟) والعصفور الأخضر والسمان وطيور «كونوست» (؟) وقد أمرت بأن يؤتى إليك بالغزلان الصغيرة والعجول البيض، وأمرت بأن يؤتى إليك بالجداء والكباش المسمنة بالحبوب، وقد ربطت لك سلم السماء، والإلهة «نوت» تفتح لك ذراعيها، ثم تبحر بسفينتك في بحيرة الزنبق.
ففي تلك الصورة نشاهد المتوفى يصطاد في البطاح - وهي التسلية المحببة إلى الفرعون وأشرافه - ولكنه ينتقل فجأة إلى بحيرة علوية في السماء.
فيتضح من ذلك أن المصير الذي كنا نراه خاصا بالملوك في كل الصيغ التي جاءت بها «متون الأهرام» قد صار من نصيب كل إنسان، بل إن الحياة التي كانت أبسط من تلك التي وصفناها؛ أي التي كان المواطن المتواضع يصبو إلى دوام استمرارها في عالم الآخرة، صار لها أيضا مكان مرموق في «متون التوابيت»، فكان في وسع المتوفى وهو راقد في التابوت أن يقرأ التعويذة الخاصة «ببناء بيت لرجل في العالم السفلي، وحفر بركة حديقة وغرس أشجار فاكهة.» وعندما يصير المتوفى صاحب بيت تحيط به الحديقة وبه البركة وحولها الأشجار الوارفة، فإنه يجب أن يضمن له استيطانه فيه، ومن ثم أعد له «فصل يتناول وجود الرجل في بيته». غير أن سكناه لذلك البيت منفردا من غير مرافقة أسرته وأصحابه، كانت أمرا لا يمكن للنفس احتماله، ومن ثم أعد فصل آخر لذلك عنوانه «ختم مرسوم خاص بالأسرة لإعطاء الرجل أهل بيته في العالم السفلي». ونجد في هذا المتن أن تفاصيل المرسوم قد ذكرت خمس مرات في صيغ مختلفة؛ فنجد فيه أن: «جب» إله الأرض «قد قرر أن يعطي إلي أهل بيتي وهم أولادي وإخوتي ووالدي ووالدتي وعبيدي وكل مؤسستي.» وخشية أن يصادرها أي تأثير خبيث نجد الفقرة الثانية من ذلك الفصل تؤكد أن: «جب» قد قال: «إنه سيطلق لي في الحال سراح أهل بيتي؛ أي أطفالي وإخوتي وإخواني ووالدي ووالدتي وكل عبيدي وكل مؤسستي ناجين من كل إله، ومن كل إلهة ومن كل موت (أو أي إنسان ميت غيره).» ولضمان تنفيذ ما جاء بذلك المرسوم أعد فصل آخر عنوانه «ضم أهل بيت الرجل إليه في العالم السفلي»، ونص في هذا الفصل على «اجتماع شمل أهل البيت من الأب والأم والأطفال والأصدقاء والأقارب والأزواج والحظيات والعبيد والخدم، بل وكل ما يملكه الرجل ليكون معه في العالم السفلي.»
ولأن فكرة إعادة بيت الرجل وأهله إليه في عالم الآخرة تتضمن الاعتقاد القديم القائل بضرورة تقديم الطعام باستمرار إلى المتوفى، فقد وجد فصل آخر لذلك عنوانه: «فصل في أكل الخبز في العالم السفلي» أو «أكل الخبز على مائدة «رع» والبذل بسخاء في هليوبوليس». ويصف لنا الفصل الذي يلي هذا الفصل مباشرة كيف «يقعد القاعد ليأكل الخبز عندما يقعد «رع» ليأكل الخبز أيضا ... أعطني خبزا عندما أكون جائعا، وأعطني جعة عندما أكون عطشان.»
وقد ظهر لنا في «متون التوابيت» هاته اتجاه ظاهر جدا بلغ غايته في «كتاب الموتى»، وهذا الاتجاه ينحصر في أن عالم الآخرة هو مكان تحف به الأخطار والمحن التي لا عداد لها، وأن معظم تلك الأخطار مادية، ولو أنها كانت في بعض الأحيان تمس عتاد المتوفى العقلي. وكان السلاح الذي يستعمل للنجاة من تلك الأخطار وأضمن الوسائل التي يمكن الحصول عليها لحماية المتوفى، هو تمكين المتوفى من بعض القوى السحرية بتزويده في العادة برقية خاصة تتلى عند اللحظة الحرجة، وقد عظم شأن هذا الاتجاه بعد ذلك، فجعل من «متون التوابيت»، ومن بعدها «كتاب الموتى» الذي نبت منها، مجموعة من التعاويذ كانت تزداد على ممر الأيام، وكانت تعتبر في نظر القوم ذات أثر فعال لا شك فيه في حماية المتوفى أو تزويده في الحياة الآخرة بما يلزمه من نعيم.
فمن ذلك أنه كانت توجد تعويذة «يصير بها المتوفى ساحرا»، وهي موجهة إلى الأشخاص المعظمين الذين في حضرة «آتوم» إله الشمس، وهذه التعويذة في ذاتها لا تخرج بالطبع عن كونها رقية، وتختتم بالكلمات الآتية: «إني ساحر.» وخوفا من فقدان المتوفى قوته السحرية كان من تقاليد القوم «وضع رقية سحرية مع المتوفى حتى لا تنزع منه قواه السحرية حينما يكون في العالم السفلي.» ولا شك أن أبسط تلك الأخطار التي عملت من أجلها تلك الرقى كان منشؤه تلك التخيلات الصبيانية الساذجة التي كان دهماء الشعب يتخيلونها، وكانت في الغالب سخيفة إلى أقصى حد؛ إذ نجد تعويذة عن «منع أخذ رأس الرجل منه»، ومن قبل نجد في «متون الأهرام» تلك الرقية القديمة التي تمنع إجبار المتوفى على أكله برازه. ولما كان لا بد لجسم الإنسان من التحلل فقد وجد لمنع ذلك التحلل رقيتان لضمان «أن الرجل لا يتحلل جسمه في العالم السفلي.»
وقد كان من جراء ثقة الناس العمياء بمثل تلك التعاويذ أن صار في يد الكهنة فرصة لا حد لها للكسب، وقد ازداد خصب خيالهم في إنتاج التعاويذ الجديدة باستمرار ، وقد كانت تباع بطبيعة الحال للمشترين السذج الذين كان عددهم في ازدياد. وقد ساعدت تلك الوسيلة كثيرا بلا شك على زيادة مخاوف الشعب من أخطار الحياة الآخرة، كما ساعدت على نشر الاعتقاد في كفاية مثل هذه الوسائل لدرئها.
ومما لا يدع مجالا للشك في أن ذلك كله من صنع الكهنة تخيل القوم صورة كاتب سري اسمه «جبجا» عدو للموتى، وعلى ذلك ألفت رقية خاصة لمساعدة المتوفى على تكسير الأقلام وتهشيم أدوات الكتابة وتمزيق الملفات الخاصة «بجبجا» الشرير.
ومثله في ذلك، الخطر الداهم الذي كان أيضا موضعا للخوف في متون الأهرام، وهو مهاجمة الثعابين السامة للمتوفين، فكان أهل العصر الإقطاعي يحبون أن يدرءوه أيضا عن أنفسهم؛ ولذلك كان المتوفى يجد في لفافته، التي تكون صحبته، رقى لأجل «دفع الثعابين ودفع التماسيح عنه.»
وفضلا عن ذلك كانت الطريق الخاصة بالمتوفى تعترضها النيران، وكان لا بد له من الهلاك إذا لم تكن لديه رقية «ليخرج بها من النار» أو يتمكن «بها من الخروج من النار التي خلف الإله العظيم.»
11
وعندما كان المتوفى يضطر بالفعل إلى الدخول في النار فقد كان في قدرته أن يدخلها وهو في أمان منها بوساطة «تعويذة لدخول النار والخروج من النار خلف السماء.»
والواقع أن الكهنة قد رسموا للمتوفى مصورا للرحلة التي تنتظره، ليكون مرشدا له عند باب النار العظيم في المدخل، وليريه الطريقين اللذين يمكنه أن يسلكهما، وكان أحد ذينك الطريقين بريا والآخر مائيا، وبينهما بحيرة من نار، وكان ذلك المصور ملونا بالألوان المختلفة على صفحة قاع التابوت من الداخل حيث يكون جثمان المتوفى فوقها؛ إذ إن ذلك المكان هو الملائم لرسم مصور العالم السفلي.
وكان مع ذلك المصور دليل سحري يسمى «كتاب الطريقين»، وكان أيضا مسجلا فوق التابوت. على أنه كان يخشى بالرغم من كل تلك الإرشادات أن يتجول المتوفى لسوء حظه في مكان إعدام الآلهة، ولكنه كان ينجو من ذلك بتعويذة «عدم الدخول في مكان إعدام الآلهة.»
وخوفا من أن يحكم على المتوفى بالمشي منكوسا على رأسه، فإنه كان يجهز «بتعويذة تمنعه المشي على رأسه منكوسا.» وكان أولئك الموتى التعساء الذين يجبرون على المشي بذلك الوضع المنكوس أشد أعداء الإنسان في عالم الآخرة، ولذلك كانت الحيطة منهم أمرا ضروريا جدا؛ إذ يقال للمتوفى: «إن الحياة تأتي إليك ولكن الموت لا يأتي إليك ... وهي (الجوزاء والشعرى ونجم الصباح) تنجيك من حنق الموتى الذين يمشون ورءوسهم إلى أسفل، وأنت لست منهم ... استيقظ للحياة فإنك لن تموت، قم للحياة فإنك لن تموت.»
وبتلك الكيفية ظل الاعتقاد في قوة تأثير السحر آخذا في الانتشار، وكان بمثابة سلاح لا يخطئ في يد المتوفى. وسنرى السحر في النهاية يسود كل المعتقدات الجنازية الأخرى كما سيكشف لنا ذلك «كتاب الموتى» بعد مضي عدة قرون على ذلك العهد الذي نحن بصدده.
وليس من شك في أن المذهب الأوزيري كان له أثر عظيم في انتشار استعمال تلك الوسائل السحرية الجنازية؛ إذ إن أسطورة «أوزير» التي كانت منتشرة في ذلك الزمن انتشارا عاما قد جعلت لكل طبقات الشعب إلماما بنفس تلك الوسائل التي اتخذتها «إزيس» لإحياء زوجها «أوزير» من الموت، وهي الطرق التي صار كل مصري قديم يعتقد في تأثيرها العظيم في حالته الأخروية كما أثرت في «أوزير» من قبل.
ومع ما كان لمذهب «أوزير» من القوة في عصر الأهرام فإن انتشاره العام الآن في العهد الإقطاعي قد فاق كل انتشار عرف عنه من قبل، ونرى في ذلك ظفر ديانة الشعب المناهضة إذ ذاك لعبادة «رع» الحكومية التي كانت تشبه العبادات بأية كنيسة معترف بها الآن. وسيادة «رع» تعتبر ظفرا سياسيا، أما ظفر ديانة «أوزير» التي كان يشد أزرها بلا ريب طائفة من مهرة الكهنة، وربما كانوا يقومون لها بدعاية مستمرة وقتئذ، فإنه كان انتصارا لعقيدة شائعة بين جميع طبقات المجتمع، وهو انتصار لم يكن في طاقة أية طائفة صده، ولا في طاقة الحكومة ولا الأشراف مناهضته؛ ذلك لأن النعم التي كان يقوم بإغداقها المصير الأوزيري في الحياة الآخرة على كل الناس جعلها ذات جاذبية قوية شاملة لا تضاهيها أية جاذبية أخرى منافسة لها. وإذا كانت تلك النعم المذكورة في يوم ما مقصورة على الفرعون وحده، كما كان المصير الشمسي في متون الأهرام مقصورا عليه، فإننا قد شاهدنا أنه حتى الآخرة الشمسية الملكية قد صارت الآن من حق الجميع.
ومن بين القبور المبجلة التي يجرع تاريخها إلى عهد الأسرة الأولى في «العرابة المدفونة» قبر كان يعتبره القوم في العصر الذي نحن بصدده، قبر «أوزير» (مع أن عمره كان وقتئذ ما بين 13، 14 قرنا)، وقد طار صيته بسرعة حتى صار المقام المقدس في مصر، فكانت تحج إليه كل طبقات الشعب، وكانت أعظم البركات التي يطمع فيها الإنسان أن يدفن بجوار ذلك القبر المقدس؛ ولذلك كان أكثر من موظف ممن قاموا بمأمورية أو رسالة رسمية في هذه الجهة ينتهز الفرصة لإقامة قبر له هنالك، وإذا تعذر بناء قبر حقيقي لمن يريد ذلك كان من الخير أن يقيم لنفسه مقبرة وهمية على الأقل، يكتب عليها اسمه وأسماء باقي أسرته وأقاربه، وإذا تعذر ذلك أيضا أقام لنفسه نصبا تذكاريا أو لوحة ينقش عليها صلوات للإله العظيم توسلا من الزائر وأسرته، وقد فعل ذلك الكثير من الحجاج والزوار من الموظفين، وفي ذلك يقول موظف من عهد الملك «سنوسرت الأول»: «لقد أقمت هذا القبر عند طريق سلم الإله العظيم لأكون من بين أتباعه، ولكي يقدم الجنود الذين يأتون في ركاب جلالته إلى روحي (يعني الكا) من خبزه ومئونته، وقد فعلت ذلك أسوة بكل رسول ملكي يأتي للتفتيش على حدود جلالته.»
وكان داخل سور معبد «أوزير» وما جاوره مزدحما بتلك التذكارات، وهي كما نجدها اليوم تؤلف جزءا هاما من المصادر التي يصح الاعتماد عليها في تاريخ ذلك العصر.
وأغرب من كل ما تقدم أن بعض حكام المقاطعات الأقوياء كان يأمر بحمل جثمانه إلى «العرابة المدفونة» لتقام له شعائر خاصة هناك، ثم تجلب معه بعض الأشياء المقدسة لتودع معه في قبره المقام له في وطنه، كما يحمل المسلمون الآن معهم الماء من «بئر زمزم» إلى أوطانهم، أو كما كانت تحمل السيدات الرومانيات المياه المقدسة من معبد «إزيس» بفيلة إلى حيث يتبركون بها في بلادهم.
وقد رسم «خنوم حتب» فوق جدران مزار قبره «ببني حسن» هذه الرحلة في النيل، وفي ذلك المنظر نرى جسمه المحنط محمولا فوق قارب جنازي صاعدا في سيره نحو الجنوب، وخلفه الكهنة والمرتلون. وقد أطلق في النقوش على ذلك المنظر اسم «الرحلة صعودا في النهر لمعرفة أشياء العرابة».
12
ويوجد مع ذلك المنظر منظر آخر يمثل الرحلة منحدرة في النهر ومعبرا عنها بالكلمات الآتية: «العودة محملين بأشياء العرابة.» ولا ندري بالضبط كنه تلك الأشياء المقدسة التي يؤتى بها من العرابة، ولا سبيل لدينا الآن لمعرفتها، غير أنه من الواضح أنه في تلك الزيارة الخاصة بالإله العظيم في «العرابة المدفونة» يقدم المتوفى نفسه شخصيا للإله العظيم، وبتلك الكيفية يضمن المتوفى المذكور لنفسه عطف الإله في الحياة الآخرة.
وكان الزوار الذين يأتون إلى «العرابة المدفونة» بهذه الصفة، قبل الوفاة أو بعدها، يحملون معهم الكثير من القرابين التذكارية، لدرجة أن الحفارين المحدثين عثروا على قبر «أوزير» المزعوم مدفونا على عمق بعيد تحت أكداس عظيمة من الفخار المهشم وغيره من الهدايا التي تركها الحجاج في هذا المكان منذ آلاف السنين.
ولا بد أنه كان يجتمع هناك في الواقع الجم الغفير من أولئك الحجاج الزائرين لذلك المقام المصري المقدس في كل الأوقات، وبخاصة في ذلك الموسم الذي كانت تمثل فيه حوادث أسطورة الإله في شكل مسرحي يمكننا أن نسميه بحق «مسرحية الآلام» (المأساة).
وبالرغم من أن تلك المسرحية قد فقدت تماما، فإن لدينا لوحة «إخرنوفرت» التذكارية المحفوظة الآن بمتحف برلين، تمدنا بالملخص الذي يمكننا أن نستخلص منه ولو على الأقل عناوين أهم فصول المسرحية المذكورة.
كان «أخرنوفرت» موظفا من رجال حكومة «سنوسرت الثالث»، أرسله الملك ليقوم ببعض الإصلاحات في معبد «أوزير» بالعرابة المدفونة.
ويتبين لنا من العناوين المدونة بتلك اللوحة التذكارية عن المسرحية المذكورة أن تمثيلها كان حتما يستمر عدة أيام، وأن الأرجح أن تمثيل كل فصل من فصولها الهامة كان يستغرق على أقل تقدير يوما كاملا، وأن الجمهور كان يشترك في كثير مما كان يحدث في تمثيلها. ويتضح لنا من ذلك المختصر المدون على لوحة «أخرنوفرت» أن تلك الرواية كانت ذات فصول ثمانية: فالفصل الأول يكشف لنا عن ذلك الإله الجنازي القديم «وبوات» خارجا في موكب ليشتت أعداء «أوزير» ويفتح له الطريق.
وفي الفصل الثاني يظهر لنا «أوزير» نفسه في قاربه المقدس، فينزل فيه بعض الحجاج، ومنهم «أخرنوفرت» كما يقص ذلك علينا في نقوش لوحته التذكارية بزهو وافتخار. وكان «أخرنوفرت» هذا يساعد «أوزير» في صيد الأعداء الذين يعترضون مسير القارب. ولا شك أنه كانت تحدث من الجمهور إذ ذاك معركة عامة كالتي شاهدها «هردوت» في «بابريميس»، بعد ذلك بألف وخمسمائة سنة، فكان بعضهم يقوم بحماية الإله في القارب، بينما يمثل الآخرون دور أعدائه المزدحمين في خارج القارب، وقد يعودون برأس أحدهم مهشما، في زهو من أجل ذلك الاحتفال. ويلاحظ هنا أن «أخرنوفرت» - مثل «هردوت» - قد مر على موضوع موت الإله مر الكرام دون أن يذكر شيئا عن ذلك، وقد كان ذلك في نظره موضوعا مقدسا لا يصح وصفه، وذكر لنا فقط أنه قام بتنظيم «الموكب العظيم» للإله - وهو احتفال مظفر نوعا ما - عندما لاقى الإله حتفه، وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
وفي الفصل الرابع يخرج «تحوت» رب الحكمة، ولا شك أنه يجد الجثة، وإن كان ذلك لم يرد له ذكر.
ويتألف الفصل الخامس من الاحتفالات المقدسة التي يجهز الإله بوساطتها للدفن.
في حين أن الفصل السادس يشاهد الجمهور يسير في زحام عظيم إلى المقام المقدس بالصحراء الواقعة خلف «العرابة المدفونة»، حيث يضعون جثمان ذلك الإله الرحل في قبره.
وأما الفصل السابع فلا بد أنه كان مشهدا رائعا، فعلى شاطئ (أو ماء) «نديت» القريبة من العرابة المدفونة يهزم أعداء «أوزير» - ومن بينهم طبعا الإله «ست» وأتباعه - في موقعة عظيمة على يد «حور» بن «أوزير»، ولم يذكر لنا «أخرنوفرت» شيئا عن بعث الإله وقيامه ثانية من بين الأموات.
ولكن في الفصل الثامن، وهو الأخير، نشاهد «أوزير» وقد عاد إلى الحياة يدخل معبد «العرابة المدفونة» في موكب مظفر.
فيتضح إذن من كل ما ذكر أن المسرحية المذكورة قد مثلت أهم الحوادث الواردة في أسطورة «أوزير».
وقد كان لمثل ذلك العيد الشعبي الكبير مكانة عظيمة في قلوب القوم؛ إذ نشاهد مرارا وتكرارا في الألواح المنصوبة تضرع الحجاج بالصلاة للإله العظيم لينالوا بعد الموت حظوة الاشتراك في هذا الاحتفال العظيم، وذلك يماثل بالضبط ما رتبه «حبزافي» لنفسه ليشاطر بنصيبه فيما بعد الموت في الاحتفالات بالأعياد الأسيوطية.
وقد كان لصياغة حوادث أسطورة «أوزير» في شكل مسرحي على الوجه المتقدم أثر قوي في أنفس عامة الشعب، واستولت مسرحية آلام «أوزير» هذه في أي شكل من أشكالها على خيال عدة مجتمعات مصرية، وكما أن «هردوت» قد وجدها فيما بعد في «بابريميس»، كذلك ظلت تنتشر من بلدة إلى أخرى حتى حازت المكانة الأولى في تقويم الأعياد السنوية، وبذلك نال «أوزير» مكانة سامية في حياة عامة الشعب وآمالهم لم ينلها أي إله آخر. وقد كان مصير «أوزير» الملكي وانتصاره على الموت كما صور بتلك الصورة المسرحية الناطقة، سببا في انتشار الاعتقاد بين الشعب بأن ذلك المصير، الذي كان في وقت ما وقفا على الملك فقط، قد صار من نصيب كل إنسان، ولم يكن يلزم لأي شخص يرجو مثل ذلك المصير إلا أن يحصل - كما ذكرنا من قبل - على نفس العوامل السحرية التي استعملتها «إزيس» لإرجاع الحياة إلى زوجها الميت الذي هو «أوزير» المقتول ذبحا، وتلك العوامل تجلب لكل إنسان ذلك المصير المبارك الذي ناله ذلك الإله الراحل.
وقد كان حدوث مثل ذلك التطور في العقيدة المأتمية الشعبية على الوجه الذي شاهدناه مدعاة لازدياد ثقة الناس باطراد في كفاية السحر وقوة تأثيره ونفعه في الحياة الآخرة.
ومن الصعب أن يفهم العقل الحديث كيف أن مرافق الحياة جميعها قد تسرب إليها الاعتقاد في السحر بحالة صيرته صاحب السيطرة على العادات الشعبية، وظاهرا على الدوام حتى في أبسط الأعمال اليومية المنزلية العادية، فصار من الأشياء التي يزاولها الإنسان بطبيعة حياته كالنوم أو تجهيز الطعام، بل لقد صار السحر يتألف منه نفس الجو الذي كان يعيش فيه عالم الشرق القديم.
فكانت الحياة المنزلية في الشرق قديما غير ممكنة في نظر القوم إلا بالالتجاء دائما إلى نفوذ تلك العوامل السحرية، ولولا نفوذها لأبادت القوى المهلكة الخفية الحرث والنسل.
ولاعتقادهم أن مثل تلك الوسائل لا غنى عنها وبخاصة ضد الأمراض، فإن الأمور العادية الخاصة بالحياة المنزلية والاقتصادية كانت توضع دائما تحت حماية السحر؛ فكانت الأم لا يمكنها أن تهدئ من روع طفلها المتألم المريض وتجعله يضطجع طلبا للراحة إلا بعد الاستنجاد بالقوى الخفية لتقوم بتخليص الطفل من المرض ومن الحسد ومن سلطان أشباح الشر السوداء، التي كانت تكمن في جميع الأركان المظلمة من البيت، أو التي كانت تتسلل من الأبواب المفتحة عندما يسدل الظلام خيامه فوق البيت، وتدخل جسم ذلك الطفل الصغير فتنشر فيه الحمى.
وكان من هؤلاء الشياطين من يمكنهم التشكل في صورة محبوبة، فيقترب الواحد منهم من المريض الصغير مظهرا له العمل على شفائه وتخفيف آلامه. ونستطيع أن نسمع صوت الأم وهي تنحني على طفلها وتختلس النظر خلال ذلك الباب المفتوح إلى الظلمة المسكونة بقوى الشر هذه، وتقول:
هرول إلى الخارج أنت يا من تأتي في الظلمة، يا من يدخل إلينا خلسة وأنفه إلى خلفه، ووجهه فوق ظهره، ويا من تفقد ما قد جئت من أجله.
هرولي إلى الخارج يا من تأتين في الظلمة، ويا من تدخلين إلينا خلسة وأنفها إلى خلفها ووجهها فوق ظهرها، ويا من تفقدين ما قد جئت من أجله.
هل أتيت لتقبل هذا الطفل؟
إني لن أسمح لك بتقبيله!
هل أتيت لتخفف آلامه؟
إني لن أسمح لك بتخفيف آلامه
هل أتيت لتلحق به ضرا؟
إني لن أسمح لك بأن تضره
هل أتيت لتأخذيه؟
إني لن أسمح لك بأن تأخذيه مني
لقد أعددت له ما يحميه منك: من نبات «إفت» إنه يسبب الآلام، ومن البصل الذي يلحق بك الضرر، ومن الشهد الحلو المذاق (للأحياء) من الرجال ومر المذاق لمن هم هنالك (يعني للموتى)، ومن الأجزاء المؤذية من سمك «إبدو»، ومن فك «مررت»، ومن العمود الفقري للسمكة.
ولم تقتصر الأم الوجلة على ابنها على استعمال التعويذة الآنفة الذكر بمثابة رقية، بل كانت تشفعها بمزيج شهي تعطيه الطفل المريض فيبتلعه، وهو مزيج مصنوع من الأعشاب والشهد والسمك، وكان خاصا بطرد الشياطين الشريرة (ذكورا وإناثا) ممن كانت تصيب الطفل بالمرض أو تهدد باختطافه. وإننا نجد في وصف الشهد بأنه «حلو المذاق (للناس الأحياء) ومر المذاق لمن هنالك (يعني للأموات)» ما يشعر بنوع هذه الشياطين؛ إذ إنه من الواضح أن بعضا من الشياطين التي تشير الأغنية إلى الفزع منها هم نفس الأموات الذين تجردوا من أجسامهم، وعلى ذلك كانت حياة أهل الدنيا في تصادم مع الأموات طول مدة حياتهم من هذه الناحية، فكان من اللازم حينئذ العمل على كبح جماح أولئك الأموات الأشرار ووقفهم عند حدودهم، ومن هنا كانت التعاويذ والحيل السحرية التي دلت على تأثير فعلها ضدهم في الحياة الدنيا، ولا بد أن لها قيمتها في الحياة الآخرة أيضا.
ومن ذلك أن تلك الرقية السالفة الذكر التي منعت خطف الطفل من أمه كان يمكن استعمالها كذلك ضد من يسعى لسلب قلب أي رجل في العالم السفلي، ولكي يتمكن الرجل المتوفى من الدفاع عن نفسه ما عليه إلا أن يقول:
هل حضرت لتأخذ قلبي هذا الحي؟
إن قلبي هذا الحي لن يعطى لك!
وعلى ذلك فإن الشيطان الذي كان يريد أخذ قلبه ليفر به يضطر حتما إلى التسلل بعيدا عنه.
وبتلك الطريقة أخذ السحر الذي يستعمل في الحياة الدنيا اليومية يستعمل بحالة مطردة للنفع في الحياة الآخرة، ويوضع تحت طلب الموتى وتصرفهم.
لقد رأينا فيما تقدم ذكره عن عصر الأهرام أن الاعتقاد الديني وقتئذ لم يقل بعد بوجود محاكمة عامة تجري حتما على كل الناس في الحياة الآخرة، وكل ما في الأمر أن الذي اقترف ذنبا خاطئا كان يطلب للمحاسبة في عالم الآخرة على ذنبه، فكان إله الشمس يعقد هنالك محكمة للفصل في مثل تلك القضايا. وفي العهد الإقطاعي صار إله الشمس يؤكد - كما يستدل من متون التوابيت - أن كل إنسان مسئول عن خطيئته: «لقد جعلت كل رجل مثل أخيه، وقد حرمت عليهم إتيان الشر، ولكن قلوبهم هي التي نكثت بما قلت.» كذلك ذكرنا فيما تقدم في النصائح الموجهة إلى «مريكارع»: «أن ذنوب الرجل كانت تكوم بجانبه كالجبال في حضرة القضاة المهيبين في عالم الآخرة.» فنرى من ذلك أنه مهما كانت حياة الإنسان نقية فإنه كان من مستلزمات معتقدات العهد الإقطاعي أن الإنسان لا بد له من اجتياز امتحان المحاكمة الخلقية للحصول على السعادة المنشودة في الحياة الآخرة، وقد صار هذا الشعور بالمسئولية الخلقية فيما بعد الموت من العوامل القوية في حياة الشعب المصري القديم، غير أنه كان هنالك عاملان قويان يعملان على هدم تلك المسئولية، وهما:
أولا:
استمرار اعتقاد عامة الشعب في كفاية العوامل المادية، مثل إقامة القبور وإعداد معداتها، لضمان سعادة المتوفى في الحياة الآخرة.
ثانيا:
ازدياد الاعتماد على نفع قوة السحر في عالم الآخرة، وهو اعتقاد نال تشجيع الكهنة فتطرفوا فيه واشتطوا، إلى حد أنهم حاولوا إنتاج تعاويذ سحرية تضمن للمتوفى قبوله خلقيا عند محاكمته في عالم الآخرة.
الفصل الرابع عشر
الحساب في الآخرة والسحر
لقد تتبعنا ذلك التطور الطويل الذي مر فيه الاعتقاد بالمسئولية الخلقية في الحياة الآخرة، وهو اعتقاد - كما نذكر - كان حاضرا في أذهان بناة الأهرام، غير أنه كان منحصرا في ذاك الوقت في تعرض المتوفى للمثول أمام إله الشمس، بصفة كونه قاضيا، وذلك استجابة لطلب إنسان قد أخطأ الميت في حقه، لا ليحاسب حسابا شاملا، فكان الاعتقاد القائم إذ ذاك أنه إذا لم يطلب الإنسان للمحاكمة بتلك الصفة فإنه من المحتمل ألا يتعرض في الآخرة لأي حساب آخر. وبعد عصر الأهرام ببضعة قرون - أي في وقت ظهور النصائح الموجهة إلى الملك «مريكارع» - نجد أن ذلك الاعتقاد قد أخذ يحدد ويعين بحالة أوضح مما كان عليه من قبل.
فإن ذلك الملك المسن الذي ألقى بتلك الكلمات الحكيمة إلى ابنه «مريكارع» كان متأثرا تأثيرا عميقا بالحقيقة القائلة إنه كان حقا حتى على الملك نفسه أن لا يغفل عن تبعته في عالم الآخرة عن حياته في هذه الدنيا من الناحية الأخلاقية، ولعلنا نذكر نصيحته الهامة التي يقول فيها: «إنك تعلم أن محكمة القضاة الذين يحاسبون المخطئ لا يتسامحون في ذلك اليوم الذي يحاسبون فيه الشرير وقت تنفيذ الحكم ... ولا تركنن إلى طول الأيام؛ لأنهم ينظرون (يعني القضاة) إلى مدى حياة الإنسان كأنها ساعة واحدة.
1
والإنسان يعيش بعد الموت وأعماله تكوم بجانبه كالجبال؛ لأن الحياة الأخرى أبدية ولا يهمل أمرها إلا الغبي، أما من يصل إليها دون أن يرتكب إثما فإنه سيبقى هناك كإله يسير بخطى واسعة مثل أرباب الخلود (يعني الأموات البررة).»
وإذا كان الإنسان يعد لنفسه قبرا في الجبانة فإن «مريكارع» كان يذكره والده بأن يقيم قبرا لنفسه «بصفته إنسانا مستقيم الحال، وبصفته إنسانا أقام العدل (يعني ماعت)؛ لأن ذلك هو الذي يركن القلب إليه.»
و«الفلاح الفصيح» الذي لا صديق له كان يقول «لمدير البيت العظيم» عند مرافعته عن نفسه مطالبا إياه بتوخي العدالة: «احذر، إن الأبدية تقترب.»
وقد رأينا أن «أميني» أمير مقاطعة «بني حسن» العظيم، نقش على باب قبره سجل أعماله الصادرة عن العدالة الاجتماعية فيما يختص بمعاملته لرعيته، راجيا أن يكون ذلك السجل خير جواز مرور يتخذه للذهاب في سفره إلى عالم الآخرة.
وقد ملئت محاجر المرمر بجهة «حتنوب» (بيت الذهب)، الواقعة في الصحراء الشرقية خلف «تل العمارنة»، بالنقوش التي دونت فيها حياة أمراء ذلك العهد الإقطاعي الذين جاوروا تلك البقعة، حيث ذكروا مرارا وتكرارا ما كانوا عليه من حب الخير والعدالة. وبمثل هذا التكرار دون أولئك الرجال الذين عاشوا في العهد الإقطاعي فوق مقابرهم ما كانوا يعزونه لأنفسهم من الأخلاق العادلة، فيقول موظف من موظفي ذلك العصر اسمه «سسنبنف» في نقش على ناووسه: «إنه أقام العدالة وكان يمقت الباطل، الذي لم يره .»
وتبين لنا متون التوابيت بجلاء أن الشعور بالمسئولية الخلقية في عالم الآخرة قد تعمق تعمقا عظيما في نفوس القوم منذ عصر الأهرام إلى ذلك الزمن، فنجد أن موازين العدالة، التي كثيرا ما ذكرها ذلك «الفلاح الفصيح» في تظلمه المسرحي ضد «مدير البيت العظيم»، قد صارت إذ ذاك تحتل مكانة واقعية عظيمة، ممثلة في مشاهد حساب الآخرة، حيث يقول قائل للمتوفى: «إن أبواب السماء مفتوحة لجمالك، إنك تصعد ... وذنبك مغفور، وظلمك قد محي بأيدي أولئك الذين يزنون بالموازين في يوم الحساب.»
وكما كان ذلك «الفلاح الفصيح» يسمي «مدير البيت العظيم» في كثير من الأحيان «موازين العدل»، كذلك كان من الممكن أن يكون المتوفى متحليا بالأخلاق الفاضلة الحقة التي تشبه في استقامتها كفتي الميزان اللتين لا تحيدان، ومن ثم نجد «متون التوابيت» تقول: «تأمل، إن فلانا هذا (إشارة إلى المتوفى) هو موازين «رع» التي يوزن بها الصدق (يعني الحق).» وهنا يتضح لنا لمن كانت موازين الصدق هذه، ومن هو ذلك القاضي الذي يشرف عليها، فنجده - كما كان الحال قديما - «إله الشمس» الذي كان قد حوكم أمامه نفس الإله «أوزير». ونجد في مناسبة أخرى خاصة بمحاكمة المتوفى أمام الإله «رع» أن هذه المحاكمة كانت تعقد بحجرة القارب الشمسي.
وقد صار المطلب الخلقي الذي يشترطه القاضي الأعظم من الأمور الطبيعية المفهومة، ولذلك يقول المتوفى: «إنه يحب الحق ويكره الباطل، وهو الذي تسير الآلهة في سبيل عدالته المحبوبة.» وعندما يدخل المتوفى تلك السبل الإلهية الحقة، يكون بداهة قد ترك وراءه الرذائل الخلقية، ولذلك يقول المتوفى أيضا: «إن خطيئتي قد أقصيت عني ومحي إثمي، ولقد طهرت نفسي في تينك البحيرتين العظيمتين اللتين في أهناس.»
وتلك الحمامات التطهيرية الرسمية التي كثيرا ما نصادفها مذكورة في «متون الأهرام» قد صارت الآن تدل بوضوح على معنى خلقي، حيث يقول المتوفى محدثا عن نفسه: «إني أسير فوق الطريق التي أغسل فيها رأسي في بحيرة الحق.»
وكثيرا ما نجد المتوفى يقرر مرارا أن حياته كانت نقية؛ إذ يقول:
إني إنسان أحب الحق، وما كرهته هو الباطل.
إني أقعد بريئا وأقوم بريئا.
لقد أقمت العدل ومحوت الباطل.
ولقد ذكرنا أن القاضي الذي تقف أمامه كل الأرواح كان في الأصل «رع»، ولكن «أوزير» كذلك ما لبث أن أظهر نفسه من زمن مبكر في موقف ذلك القاضي، حيث نقرأ في «متون التوابيت» عن «المجلس العظيم (أو محكمة العدل) للإله أوزير»، وكان ذلك منذ زمن بعيد يرجع إلى الأسرة التاسعة أو العاشرة (من القرن الرابع والعشرين إلى الثاني والعشرين ق.م) في أيام حكم الملك «مريكارع». ولا شك أن انتشار عبادة «أوزير» التي كانت آخذة في الازدياد له علاقة عظيمة بانتشار الاقتناع - الذي صار الآن عاما - بأن كل روح لا بد أن تلقى ذلك الحساب الخلقي العسير الذي ينتظرها في الآخرة.
وقد صار من المتبع عادة منذ بداية الدولة الوسطى أن يضاف إلى اسم كل متوفى نعت «المبرأ»، وهذا النعت هو الذي كان قد ناله «أوزير» فيما مضى بصفته الخصم الظافر على أعدائه، المبرأ أمام محكمة إله الشمس. وقد كان ذلك النعت - كما نعلم من «متون الأهرام» - لا يضاف إلا إلى اسم الفرعون فقط، غير أنه صار بالتدريج امتيازا تمنحه كل روح، أو على الأقل صار من حق كل روح متسمة بالأخلاق الفاضلة.
وكذلك نجد أنه بعدما نال المذهب الأوزيري القبول عند البلاط الملكي صار الملك يوحد مع «أوزير المبرأ»، وصار الكهنة يضعون كلمة «أوزير» قبل اسم كل ملك متوفى، وقد رأينا في «متون الأهرام» أن الملك «بيبي» كان يسمى «أوزير بيبي»، كما كان الملك «تيتي» يسمى «أوزير تيتي».
وقد كان من نتائج انتشار عبادة «أوزير» الآخذة في الازدياد أن المنهج الذي كان يرمي إلى صبغ الحياة الأخرى الملكية الفاخرة بالصبغة الديمقراطية قد صار حينئذ يوحد كل متوفى، ذكرا كان أو أنثى، بالإله «أوزير». وعلى ذلك لم يقتصر المتوفى على دخول مملكة «أوزير» - كما كان الحال قديما - ليتمتع بحمايته وعطفه، بل صار المتوفى - ذكرا كان أو أنثى - «أوزير» نفسه واعتبر ملكا.
ولذلك نجد - حتى في دفن الفقراء - أن المومية كانت تصور في شكل «مومية أوزير» وموضوعة مثلها على ظهرها، وكانت التعاويذ التي تمثل شارات الملك الفرعوني ترسم على داخل جوانب التابوت، أو كانت توضع بهيئة تماثيل بجانب جثمان المتوفى. وقد ظهرت قوة عبادة «أوزير» بحالة تلفت النظر في العادة الجديدة ، وهي إضافة اسم «أوزير» قبل اسم المتوفى، فإنه وإن كان من الجائز للمتوفى أن يوحد مع إله الشمس أيضا - كما كان يحدث كثيرا - فإنه بالرغم من ذلك كان ينعت باسم «أوزير» في حين أن اسم إله الشمس «رع» لم يضف قط قبل اسم المتوفى.
وبظهور الدولة المصرية الحديثة بعد سنة 1600ق.م نجد أن الأدلة التي تكشف لنا عن ذلك التطور الخلقي الطويل الأمد - الذي اقتفينا أثره في هذا البحث - قد ازدادت في كميتها وفي أهمية قيمتها، وبخاصة فيما يبين لنا شعور المصري المتزايد بمسئوليته الشخصية عن نوع أخلاقه؛ ذلك بأن مرحلة التفكير لهذا التطور الخلقي قد تقدمت تقدما محسوسا؛ لأن المصري القديم في ذلك الوقت كان قد تعمق في التفكير في طبيعة نفسه البشرية، وكان من نتائج ذلك أن صار المفكرون من المصريين - آنئذ - يرون أن المسئولية الخلقية لكل إنسان مترتبة بصفة قاطعة على إدراكه (فهمه) الشخصي.
ولعلنا نذكر بمناسبة هذا التصور الأخير الهام عن «الفهم» أنه لم يكن للعقل اسم في اللغة المصرية القديمة غير كلمة «القلب» القديمة؛ ففي عصر الأهرام وجدنا أن «بتاح حتب» ذلك الوزير الحكيم المسن كان يذكر «القلب» على أنه مركز المسئولية والإرشاد؛ إذ قال فيما ذكرناه له سابقا: «إن المستمع (يعني إلى النصيحة الطيبة) هو المرء الذي يحبه الإله، أما الذي لا يصغي فهو الذي يبغضه الإله. والقلب هو الذي يجعل صاحبه مصغيا أو غير مصغ، وحظ الإنسان الحسن هو قلبه.» كما نجد في نصائح «بتاح حتب» أيضا أن قلب الرجل قد صار دليله، بل في الواقع قد صار ضميره.
على أن القلب الإنساني صار في عهد الدولة الحديثة يعتبر أكثر من مستمع مجيب إلى النصيحة الطيبة، بل صار أكثر من مرشد إلى حسن الحظ.
حقا إن آراء «بتاح حتب» عن القلب من حيث نعته له بالمرشد الحكيم قد استمرت؛ إذ في خلال القرن الخامس عشر نرى أحد حجاب بلاط الفاتح «تحتمس الثالث» يذكر خدماته التي أداها للملك، فيقول: «لقد كان قلبي هو الوازع لأن أقوم بها، بإرشاده لي في شئوني، وكان ... كأنه شاهد ممتاز، فلم أهمل كلامه، وخشيت أن أتخطى إرشاده، وبذلك كان الفلاح حليفي لدرجة عظيمة. وقد كنت بسبب ما أوحى إلي [أي قلبي] أن أعمله ناجحا، وكنت بإرشاده نابها. تأمل ... فقد قال القوم إنه وحي من الإله يوجد في كل إنسان، وإن من أرشده إلى الصراط السوي في إنجاز العمل، لسعيد. تأمل ... فإني كنت هكذا.»
على أننا نجد أن أقارب «بحيرى» - وهو أمير من أمراء «الكاب» - قد خاطبوه بعد موته داعين له بقولهم: «ليتك تعيش في الآخرة بقلب فرح وفي كنف الإله الذي فيك.»
كما نجد ميتا آخر يقرر: «أن قلب الإنسان هو إلهه، وقد كان قلبي مرتاحا لأعمالي.»
فكل ذلك يدل على أن المصري القديم قد صار حينئذ شديد الحساسية - بدرجة لم يصل إليها من قبل - لما كان يوحي به إليه ذلك الوازع الباطني المنبعث من قلبه، وهو الذي سمي - ببعد نظر مدهش - «إله المرء».
وذلك لأن القلب قد صار الآن ذا شعور أكثر اتزانا وأكثر سيطرة وسلطانا على الإنسان مما كان عليه في عهد ذلك الوزير الحكيم «بتاح حتب»، فصار يعلن استحسانه لما يكون عليه المرء من السلوك الحسن أو استياءه لما يكون عليه من السلوك السيئ.
ولما صار المصري القديم يشعر بسلطان ذلك الوازع القلبي شعورا كاملا أخذ - إذ ذاك - يلبس كلمة «القلب» معنى أوفى حتى صار أقرب بكثير مما في عصر الأهرام من مدلول كلمتنا «الضمير».
وقد صرنا الآن في مركز يجعلنا نفهم أهمية التحديد والدقة اللذين بهما صور لنا المصري، عند بزوغ فجر الدولة الحديثة، فكرته النامية عن الحساب في الآخرة.
وهذه الآراء - التي نجد فيها تفصيلا أوسع من قبل عن الحساب في يوم الميعاد - قد وصلتنا عن طريق «كتاب الموتى». وقد اجتمعت عندنا ثلاث روايات مختلفة عن الحساب في الآخرة عثر عليها في أتم وأحسن اللفائف البردية التي وصلت إلينا للآن، وكانت هذه الروايات في الأصل - بلا شك - مستقلا بعضها عن البعض الآخر، وعنوان الرواية الأولى منها هكذا: «فصل في دخول قاعة الصدق (الحق)»، وهي تحتوي على ما يقوله المتوفى عند الوصول إلى قاعة الصدق عندما يطهر فلان (يعني المتوفى) من كل الذنوب التي اقترفها، ثم يوجه نظره إلى وجه الإله ويقول:
سلام عليك أيها الإله العظيم رب الصدق، لقد أتيت إليك يا إلهي وجيء بي إلى هنا حتى أرى جمالك. إني أعرف اسمك، وأعرف أسماء الاثنين والأربعين إلها الذين معك في قاعة الصدق (هذه)، وهم الذين يعيشون على الخاطئين ويلتهمون دماءهم في ذلك اليوم الذي تمتحن فيه الأخلاق أمام «وننفر» (أوزير).
انظر ... لقد أتيت إليك.
إني أحضر العدالة إليك، وأقصي الخطيئة عنك.
إني لم أرتكب ضد الناس أية خطيئة ...
إني لم آت سوءا في مكان الحق،
وإني لم أعرف أية خطيئة.
إني لم أرتكب أي شيء خبيث ...
وإني لم أفعل ما يمقته الإله.
وإني لم أبلغ ضد خادم شرا إلى سيده.
إني لم أترك أحدا يتضور جوعا.
ولم أتسبب في بكاء أي إنسان.
إني لم أرتكب القتل.
ولم آمر بالقتل.
إني لم أسبب تعسا لأي إنسان.
إني لم أنقص طعاما في المعابد.
ولم أنقص قربان الآلهة.
إني لم أغتصب طعاما من قربان الموتى.
إني لم أرتكب الزنا.
إني لم أرتكب خطيئة تدنس نفسي داخل حرم إله البلدة الطاهر.
إني لم أخسر مكيال الحبوب.
إني لم أنقص المقياس.
إني لم أنقص مقياس الأرض.
إني لم أثقل وزن الموازين.
إني لم أحول لسان كفتي الميزان.
إني لم أغتصب لبنا من فم الطفل.
إني لم أطرد الماشية من مرعاها.
إني لم أنصب الشباك لطيور الآلهة.
إني لم أتصيد السمك من بحيراتهم (أي الآلهة).
إني لم أمنع المياه عن أوقاتها.
إني لم أضع سدا للمياه الجارية.
2
إني لم أطفئ النار في وقتها (أي عند وقت نفعها).
3
إني لم أستول على قطعان هبات المعبد.
إني لم أتدخل مع الإله في دخله.
والآن ننتقل إلى منظر آخر يمثل الحساب أيضا، حيث نجد القاضي «أوزير» يساعده اثنان وأربعون إلها يجلسون معه لمحاسبة المتوفى، وهم شياطين مخيفة يحمل كل منهم اسما بشعا مزعجا، ويدعي المتوفى أنه يعرف أسماءهم؛ ولذلك يخاطبهم واحدا أسمائهم: «خطوة واسعة - خرجت من عين شمس.»
و«محتضن اللهيب الذي خرج من طرة.»
و«آكل الظل الذي خرج من الكهف.»
و«عينان من لهيب خرجتا من «لتوبوليس» (أوسيم).»
و«كاسر العظام الذي خرج من أهناس.»
و«آكل الدم الذي خرج من مكان الإعدام.»
فكان المتوفى ينادي أصحاب هذه الأسماء وأمثالها من الأسماء التي اخترعها خيال رجال الكهانة المصريين، ويوجه لكل إله منها - بدوره - اعترافا ببراءته من خطيئة معينة.
ومن الظاهر - طبعا - أن أولئك الاثنين والأربعين قاضيا ليسوا إلا أسماء مخترعة، وهم يمثلون - كما هو معروف منذ مدة طويلة - الأربعين مقاطعة أو أكثر، أو الأقسام الإدارية، التي تتألف منها البلاد المصرية. ولا شك أن الكهنة ألفوا تلك المحكمة من اثنين وأربعين قاضيا قصد الإشراف على أخلاق المتوفى من أية ناحية كانت من أنحاء البلاد، حيث يجد المتوفى أن نفسه تواجه قاضيا على الأقل من بين أولئك القضاة قد جاء من «البلدة التي كانت موطنا له»، فيكون ذلك القاضي على علم بسيرة ذلك المتوفى المحلية وشهرته في أقصى وأدنى «الشارع الرئيسي» في بلدته، وبذلك لم يكن في إمكانه أن يخاتله أو يغشه.
وتتناول هذه الاعترافات الاثنان والأربعون نفس موضوع الإقرارات التي ذكرناها في الخطاب السالف تقريبا. وقد وجد الكهنة الذين حرروا هذه الاعترافات بعض الصعوبة في إيجاد الخطايا الكافية لملء قائمة مؤلفة من اثنين وأربعين خطيئة، ولذلك نجد من بينها عبارات كثيرة معادة، هذا عدا التكرار الظاهر الذي ورد مع تغيير طفيف في بعض الألفاظ. والجرائم التي يمكن اعتبارها من أعمال العنف هي التي يتبرأ منها المتوفى بقوله:
إني لم أقتل رجالا (5).
إني لم أسرق (2).
إني لم أتلصص (4).
إني لم أسرق امرأ ينتحب على متاعه (18).
ولم تكن ثروتي عظيمة إلا من ملكي الخاص (41).
إني لم أغتصب طعاما (10).
إني لم أبعث الخوف (21).
إني لم أزك الشجار (25).
هذا؛ ونجد المتوفى كذلك ينكر الغش وغيره من الصفات المذمومة؛ إذ يقول:
إني لم أنطق كذبا (9).
إني لم أضع الكذب مكان الصدق (40).
ولم أكن أتصام عن كلمات الصدق (24).
إني لم أنقص مكيال الحبوب (6).
ولم أكن طماعا (3).
وقلبي لم يلتهم (يعني لم يطمع؟) (28).
ولم يكن قلبي متسرعا (31).
إني لم أضاعف الكلمات عند التحدث (33).
ولم يكن صوتي عاليا فوق ما يجب (37).
وفمي لم يثرثر (17).
ولم تأخذني حدة الغضب (في طبعي) (23).
إني لم أسب (29).
ولم أكن متسمعا (16).
ولم أكن متكبرا (منفوخا) (39).
كما كان المتوفى أيضا بعيدا عن ارتكاب الرذائل الجنسية؛ إذ يقول:
إني لم أرتكب زنا مع امرأة (9).
إني لم أرتكب ما يدنس عرضي (20، 27).
وكذلك ينكر المتوفى أيضا مجاوزته للحدود الرسمية؛ إذ يقول:
إني لم أعب في الذات الملكية (35).
إني لم أسب الإله (38).
إني لم أذبح الثور المقدس (13).
إني لم أسرق هبات المعبد (8).
إني لم أنقص طعام المعبد (15).
إني لم أرتكب شيئا تكرهه الآلهة (40).
وإن إنكار هذه النقائص وغيرها مما لم يمكننا فهمه هو الذي يتألف منه ذلك الإقرار بالبراءة، ويسمى هذا الجزء المذكور من كتاب الموتى في العادة باسم «الاعتراف».
ومن الصعب على الإنسان أن يبتدع اسما مخالفا لطبيعة بيان المتوفى الحقيقية أكثر من مخالفة تلك التسمية لها؛ إذ هي إعلان واضح عن براءة المتوفى، فتكون - بطبيعة الحال - عكس ما يفهم من كلمة «اعتراف» هذه. ولهذا السبب قد صار فساد تلك التسمية من الأمور الظاهرة، لدرجة أن بعض محرري ذلك الفصل أضافوا بعد كلمة «اعتراف» كلمة «إنكاري»، وصاروا يسمونه «اعتراف إنكاري»، مع أن هذه التسمية ليس لها أي معنى قط؛ لأن المصري القديم لم يعترف بشيء في تلك المحاكمة. وهذه الحقيقة في غاية الأهمية في تطور المصري الديني القديم كما سيتضح فيما نذكره بعد.
والواقع أن الخطأ في حسبان ذلك الجزء من كتاب الموتى اعترافا معناه الوقوع في خطأ بين في فهم ذلك التطور الذي كان يسير بالمصريين الأقدمين - إذ ذاك - على مهل نحو اعترافهم التام بخطاياهم وإظهارهم لها بتواضع، وهو أمر لا وجود له مطلقا في أية ناحية من نواحي كتاب الموتى.
ثم بعد أن يذكر المتوفى براءة نفسه أمام هيئة المحكمة العظمى يوجه خطابه إليهم بوثوق، فيقول:
سلام عليكم يا أيها الآلهة.
إني أعرفكم وأعرف أسماءكم.
وإني لن أسقط أمام أسلحتكم.
لا تبلغوا عني شرا لذلك الإله الذي تتبعونه.
إن قضيتي لم تأت أمامكم.
قولوا عني الصدق أمام (الرب المهيمن).
لأني أقمت الصدق (يعني العدل) في أرض مصر.
وإني لم أسب الإله.
وإن قضيتي لم تأت أمام الملك الحاكم وقتئذ.
سلام عليكم أيها الآلهة الذين في قاعة الصدق (هذه).
والذين خلت أجسامهم من الخطيئة والكذب.
والذين يعيشون على الصدق في عين شمس ... أمام حور الساكن في قرص شمسه.
4
انظروا، إني آت إليكم بدون خطيئة وبدون شر وبدون ذنب.
إني أعيش على الحق.
وأتغذى من عدالة قلبي.
لقد فعلت ما يقول به الناس وما يرضي الآلهة.
ولقد أرضيت الإله بما يرغب فيه.
فأعطيت الجائع خبزا
والصادي ماء
والعريان لباسا
ولمن لا قارب له رمثا.
وصنعت قربانا مقدسا للآلهة وقربانا من الطعام للموتى.
فنجوني أنتم واحموني أنتم.
ولا تقدموا ضدي أية شكاية أمام الإله العظيم
لأني إنسان طاهر الفم وطاهر اليدين.
وإني من قال له كل من رآه: مرحبا، مرحبا.
وبتلك الكلمات تتحول إدعاءات المتوفى عن خلقه العظيم إلى تأكيدات بأنه قد راعى كل مستلزمات المذهب الأوزيري الرسمية، وهذه يتألف منها أكثر من نصف ذلك الخطاب الختامي الموجه إلى آلهة المحكمة.
وأما الرواية الثالثة عن المحاكمة فهي التي - من غير شك - أثرت أعمق تأثير على نفس المصري، فهي تشبه تمثيلية «أوزير» في «العرابة المدفونة» في قوة تعبيرها وشدة تأثيرها، وتصور لنا المحاسبة في الآخرة عن طريق الموازين؛ فنشاهد الإله «أوزير» - في بردية «آني » الفاخرة المحلاة بالصور - جالسا فوق عرشه في نهاية قاعة المحاكمة، وخلفه كل من الإلهتين «إزيس» و«نفتيس»، وقد اصطف على طول أحد جوانب القاعة الآلهة التسعة المعروفون بتاسوع «عين شمس» يرأسهم إله الشمس، وهم الذين ينطقون فيما بعد بالحكم، دالين بذلك على أن ذلك المنظر الثالث من المحاكمة كان في بدايته شمسي الأصل، وهو الذي احتل فيه «أوزير» الآن المكان الأول، ونشاهد في وسط المنظر «موازين «رع» التي يزن بها الصدق»، طبقا لما سبق ذكره عن تسميتها بذلك الاسم في العهد الإقطاعي.
ولكن المحاكمة التي تظهر فيها تلك الموازين صارت - وقتئذ - أوزيرية الصبغة، حيث كانت الموازين في يد الإله الجنازي القديم «أنوبيس» الممثل برأس ابن آوى، ويقف خلفه «تحوت» كاتب الآلهة ليشرف على الميزان، وفي يده القلم والقرطاس حتى يسجل النتيجة. وخلف «تحوت» يقعي حيوان بشع الهيئة يسمى «الملتهمة»، له رأس التمساح وصدر الأسد ومؤخرة فرس البحر، ويكون متحفزا لالتهام الروح إذا وجدت ظالمة. وقد صور بجوار الميزان بدقة موحية صورة القدر وفي رفقته الإلهتان «رننوث» و«مسخنت»، وهما إلهتا الولادة، على أهبة التأمل والتدبر في مصير تلك الروح التي أشرفتا عليهما حينما جاءت إلى هذا العالم قبل ذلك. ويجلس خلف الآلهة المتربعين فوق عروشهم إلها الأمر والعقل.
على أننا كثيرا ما نجد في لفائف بردية أخرى - في هذا الموضوع - إلهة العدل بنت «رع» قائمة عند مدخل قاعة المحاكمة، لتقود إلى قاعة المحاسبة الروح التي جاءت حديثا.
وفي بردية «آني» يدخل «آني» وزوجه القاعة التي يقرر فيها المصير مطأطئ الرأس بهيئة تدل على الخضوع، ويطالب «أنوبيس» في الحال بقلب «آني». والإشارة الهيروغليفية التي تدل على القلب - وهي التي تمثل هنا قلب «آني» - تشبه كثيرا الإناء الصغير، ومن ثم نرى هذه الإشارة القلبية موضوعة في إحدى كفتي الميزان، كما نرى في الكفة الأخرى ريشة، وهي الرمز الهيروغليفي الدال على الصدق أو العدالة أو الحق (يعني ماعت). ويخاطب «آني» قلبه في هذه اللحظة الحرجة قائلا:
يا قلبي الذي أتيت من أمي
يا قلبي الخاص بكياني
لا تقفن شاهدا ضدي
ولا تعارضني في المجلس (يعني محكمة العدل)
ولا تكونن حربا علي أمام رب الموازين
ولا تدعن اسمي يصير منتن الرائحة في المحكمة
ولا تقولن ضدي زورا في حضرة الإله.
والظاهر أن هذا الاستعطاف لم يأت بالأثر المطلوب؛ لأن «تحوت » رسول التاسوع العظيم الموجود في حضرة الإله «أوزير» يقول على الفور:
اسمع أنت هذه الكلمة بالحق:
إني قد حاسبت قلب أوزير [آني].
5
إن روحه شاهدة عليه.
وأخلاقه قد وجدت مستقيمة على حسب ما أظهره الميزان العظيم.
ولم يوجد له أي ذنب.
فيجيب الآلهة التسعة على الفور:
ما أحسن ذلك الذي يخرج من فيك العادل!
وقد شهد ذلك «أوزير آني» المبرأ من الذنوب: إنه ليس له ذنب.
فلم نجد أنه اقترف شرا.
ولن يكون للملتهمة سلطان عليه.
وليؤمر بإعطائه الخبز الذي يوضع أمام «أوزير».
والضيعة التي في حقل القربان كما عمل لأتباع «حور».
وبعد أن يحكم له بهذا الحكم المرضي يقود «حور» بن (إزيس) «آني» المحظوظ ويقدمه إلى «أوزير» حيث يقول له في الوقت نفسه:
إني آت إليك يا «وننفر» (أوزير)، وإني أحضر لك «أوزير آني». إن قلبه المحق يخرج من الميزان وليست له خطيئة في أي إله أو إلهة.
لقد حاسبه «تحوت» كتابة.
وقد شهدت له الآلهة التسعة شهادة عادلة جدا.
فليؤمر بإعطائه الخبز والجعة اللتين توضعان أمام «أوزير وننفر» مثل أتباع «حور».
وبعد ذلك يضع «آني» يده في يد «حور» ويخاطب «أوزير» فيقول:
تأمل، إني أمامك يا رب الغرب.
إن جسمي خال من الذنوب.
إني لم أنطق كذبا على علم مني.
وإذا كان ذلك قد فرط مني فإني لم أكرره ثانية.
دعني أكن مثل أصحاب الحظوة من أتباعك.
وعندئذ يركع أمام الإله العظيم، وعند تقديمه مائدة القربان يصير مقبولا ويدخل في مملكة «أوزير».
6
فتلك البيانات الثلاثة عن الحساب في الآخرة، برغم ما فيها من الحواشي والملحقات التي زخرفها بها الكهنة، ذات أثر فعال في النفوس حتى في نظر الباحث الحديث حينما ينعم النظر في تلك اللفائف البردية التي مضى عليها 3500 سنة، ويرى أن تلك المناظر ليست إلا تصويرا مجسما لنفس الشعور بالمسئولية الخلقية ونفس إيحاء الوازع الباطني الذي لا نزال - نحن الآن - نطالب به أنفسنا؛ إذ نجد أن «آني» يتضرع لقلبه - الذي هو الكلمة المعبرة عنده عن «الضمير» - بألا ينم عليه، مما نرى صدى صيحته تنحدر على مدى الآباد والدهور في مثل هذه الكلمات التي قالها «ريتشارد»
Richard
7
حيث قال:
إن ضميري له ألف لسان مختلف.
وكل لسان يأتي معه بقصة مختلفة.
وكل قصة تقضي علي بأني شرير.
وقد أصغى المصري إلى نفس ذلك الإيحاء، وخافه وحاول إخفاءه وإسكاته؛ أي إنه اجتهد في إسكات وحي القلب، ولم يعترف إلى ذلك الوقت بذنوبه، بل تشبث في إلحاح ببراءته. ولقد كانت الخطوة الثانية عندما ارتقى في تطوره فصار يظهر - في خضوع - شعوره بخطيئته إلى ربه، وقد وصل إلى تلك الخطوة فيما بعد، ولكن حدث إذ ذاك أن تدخل عامل آخر فعاقه إعاقة شديدة عن تحرير ضميره تحريرا تاما.
وليس هناك من شك في أن هذه المحاكمة الأوزيرية التي صورت لنا بذلك الوضوح المجسم، مضافا إليها ذلك التقدير العام لعبادة «أوزير» في عهد الدولة الحديثة، يرجعان لدرجة كبيرة إلى نشر الاعتقاد بالمسئولية الخلقية فيما بعد الموت، وإلى تعميم تداول تلك الآراء الخاصة بالقيم السامية للأخلاق الطاهرة النقية، مما شاهداناه سائدا بين علماء الأخلاق والفلاسفة الاجتماعيين الذين نشئوا في البلاط الفرعوني من عدة قرون خلت في العهد الإقطاعي؛ فإنه بتلك الكيفية قد أضفى مذهب «أوزير» على الأخلاق الفاضلة قوة عظيمة في نظر الشعب، ومع أن بابه كان مفتوحا على مصراعيه ليدخله جميع الناس فإنه كان من واجب الجميع أن يبرهنوا على أهليتهم لرضاء الإله «أوزير» من الناحية الخلقية.
فلو أن الكهنة تركوا الأمر على هذه الحال لكان فيه الخير، ولكن - لسوء الحظ - كان انتشار الاعتقاد في نفع قوة السحر وتأثيرها في الحياة الآخرة لا يزال مستمرا؛ إذ كان المعتقد أن كل النعم المادية يمكن الحصول عليها - من غير نزاع - باستعمال الرقية الملائمة، بل كان في الإمكان كذلك أن يعاد إلى الإنسان بتأثير تلك العوامل السحرية كل شيء حتى العتاد العقلي؛ ألا وهو «القلب» الذي معناه - في اللغة المصرية القديمة - «الفهم» أو «العقل».
فقد رأينا - فيما سبق - كيف أن نفس تلك الرقية التي كانت تمكن الأم الهلوع من منع الشيطان الرجيم من خطف طفلها، كان في الإمكان كذلك استعمالها لمنع أخذ قلب الإنسان منه (أي سلب عقله منه). وقد وضعت الكهنة في «متون التوابيت» في عصر العهد الإقطاعي رقية لذلك الغرض عنوانها: «فصل في عدم السماح بأخذ قلب الرجل منه في العالم السفلي»، وقد أضيفت الآن هذه الرقية إلى كتاب الموتى. وبذلك نجد أن السحر قد دخل إلى عالم جديد، وهو عالم «الضمير» والصفات الشخصية والأخلاق.
وقد أغرت الكهنة أبواب الكسب والارتزاق - التي كانت لا تقف حيلتهم فيها عند حد - على اتخاذ خطوة خطيرة للاحتيال على الكسب؛ ألا وهي السماح لمثل تلك العوامل أن تتدخل بتلك الكيفية في القيم الخلقية، بزعمهم أنه في مقدور السحر أن يصير عاملا للوصول إلى الغايات الخلقية.
وسنرى فيما يأتي أن كتاب الموتى هو على الأخص كتاب للرقى والتمائم السحرية، وأنه حتى الجزء الخاص منه بحساب الآخرة لم يستمر طويلا خاليا من ذلك؛ حيث نجد أن تلك الكلمات المؤثرة التي وجهها «آني» إلى قلبه عندما كان يوزن بالموازين الأخروية، وهي قوله له: «يا قلبي لا تقم شاهدا ضدي»، صارت تدون إذ ذاك على «جعل مقدس» مصنوع من الحجر (وهو «الجعران») يوضع فوق قلب الميت، حتى يكون بمثابة أمر له نفوذ سحري فعال يمنع القلب من أن ينم على أخلاق المتوفى.
وقد صارت ألفاظ تلك الرقية فصلا مستقلا من فصول كتاب الموتى عنوانه: «فصل لمنع قلب الرجل من معارضته له في العالم السلفي».
وكانت مناظر المحاكمة في الآخرة ومتن إعلان البراءة تنسخ بكثرة على صفحات البردي، يقوم بنسخها الكتبة ثم تباع لكل الناس، ولا يكتب اسم المتوفى في هذه النسخ، بل يترك مكانه خاليا ليملأه المشتري بعد حصوله على تلك الوثيقة.
وكانت كلمات الحكم التي تعلن أن المتوفى قد فاز في المحاكمة وبرئ من كل شر تدون في كل بردية من تلك الصحف. وعلى ذلك كان في إمكان كل إنسان مهما كانت أخلاقه في الحياة الدنيا أن يستولي من الكتبة على شهادة تقول بأن فلانا - الذي ترك مكان اسمه خاليا - كان رجلا فاضلا (يعني من قبل أن يعرف من سيكون فلانا هذا).
وقد كان في مقدور الميت أن يحصل حتى على صيغة سحرية شديدة القوة والتأثير لدرجة تجعل «إله الشمس» - الذي يعتبر القوة الحقيقية الكامنة وراء تلك المحاكمة - يسقط من سماواته في النيل إذا لم يخرج ذلك الميت بريء الساحة تماما من محاكمته.
وبذلك نجد أن أقدم انتشار للأخلاق الفاضلة أمكننا تتبعه في حياة الإنسان القديم، قد توقف فجأة، أو على الأقل قد صدم صدمة عنيفة، بتلك الحيل الممقوتة التي كان يستعملها أولئك الكهنة الدجالون جريا وراء الكسب.
ولسنا في حاجة إلى بيان ما أدى إليه تدخل السحر في ذلك الشأن الديني من الخلط بين العوامل الحقيقية وغير الحقيقية، وذلك الارتباك هو بعينه ما كان ينتج قديما من عجز الإنسان عن فهم الفرق بين «ما يدخل في نفس الإنسان» وبين «ما يخرج منها».
فتلك البراءة التي تصدر صدورا آليا بعوامل خارجية لتنجية الإنسان من العقوبات التي مصدرها من الخارج، لا يمكن - بطبيعة الحال - أن تزيل الأضرار التي نشأت في باطن الإنسان، وإن الإيحاء الباطني، الذي كان يحس به المصريون الأقدمون أكثر من أية أمة أخرى في الشرق القديم، والذي بنيت عليه كل فكرة عن الحساب الخلقي العسير في عالم الآخرة، لا يمكن محوه بمثل تلك الوسائل الخارجية التي ابتدعها لهم السحر، ولا بد أن الاعتقاد العام الذي سرى في الاعتماد على مثل تلك الحيل، للفرار من المسئولية الخلقية عن حياة مرذولة، قد سمم حياة الشعب الفطرية.
ومع أن كتاب الموتى يكشف لنا أكثر من أي مصدر قبله في تاريخ مصر عن صيغة المحاكم الخلقية في عالم الآخرة وكيفيتها وتوخي المصريين الحقيقة في تصوير المسئولية الخلقية، فإنه كذلك مظهر لمدى انحطاط المبادئ الخلقية في ذلك الوقت، بل إنه بتحول كتاب الموتى إلى سلاح لضمان البراءة الخلقية في عالم الآخرة بدون مراعاة لقيمة أخلاق الشخص نفسه قد صار قوة إيجابية مفسدة.
ويزيد من شر هذا الإنتاج الكهاني (أي كتاب الموتى) أنه ينتظم طائفة من الرقى والتعاويذ السحرية التي يعتقد فيها القوم القدرة على جلب ما يرضي الميت من الحاجات المادية والجثمانية في عالم الآخرة.
وقد ازداد عدد تلك الرقى في عهد الدولة الحديثة، وكان لكل منها عنوانها الدال على ما تؤديه للميت من الأعمال. وقد تكون من هذه الرقى السالفة الذكر، مضافا إليها بعض الأناشيد الدينية القديمة في مديح «رع» و«أوزير» مما كان بعضه ينشد أمام الجنائز، ويحتوي عادة على بعض البيانات عن الحساب في الآخرة، مجموعة كانت تدون إذ ذاك بصفتها متونا جنازية على صحف من البردي وتوضع مع الميت في قبره، وهذه الأوراق البردية هي التي صارت تعرف - عندنا عادة - باسم كتاب الموتى.
والواقع أنه لم يكن موجودا - في عهد الدولة الحديثة - كتاب كهذا يعرف بذلك الاسم، بل كانت كل لفافة بردي تحتوي على مجموعة من المتون الجنازية تؤلف حسبما اتفق مما يقع تحت يد الكاتب، أو من المتون التي كانت سوقها رائجة وقتئذ؛ أي المتون التي كانت محببة إلى الناس أكثر من غيرها. وقد كانت توجد لفائف فخمة ذات بهاء يبلغ طول الواحدة منها من 60 إلى 80 قدما، وتشتمل على فصول أو رقى يتراوح عددها من 75 إلى 125 أو 130، في حين كان الكتبة من جهة أخرى ينسخون لفائف صغيرة متواضعة، لا يزيد طول الواحدة منها على بضعة أقدام، ولا تحتوي إلا على منتخب صغير من تلك الفصول التي تعد أكثر أهمية من غيرها. والواقع أنه لم توجد بين لفائف ذلك الوقت إلا لفافتان تحتوي كل واحدة منهما على نفس مجموعة التعاويذ التي تشتمل عليها الأخرى، وقد بقي الحال كذلك إلى عهد البطالسة (أي بعد القرن الرابع ق.م بقليل) حينما جمع منتخب شبه معتمد من تلك الفصول تقرر استعماله تدريجا. ومن ذلك يتضح - كما ذكرنا فيما سبق - أنه لم يكن هناك كتاب يعرف باسم كتاب الموتى - بصحيح العبارة - في عهد الدولة الحديثة، بل كانت توجد مجاميع متنوعة فقط من الفصول الجنازية تملأ الأوراق البردية الجنازية التي وجدت في ذلك العصر. وقد بلغ مجموع تلك الفصول أو التعاويذ التي كانت تؤلف منها تلك اللفائف ما يربو على مائتين، مع أن أكبر لفافة منها كانت لا تحتوي على تلك الفصول جميعا.
وقد كان استقلال كل فصل بذاته - أو بعبارة أخرى، تمييز كل فصل عن غيره من باقي الفصول - واضحا في ذلك العهد بفضل اتباع العادة التي جرت بوضع عنوان لكل فصل قبله، وقد كانت بداية تلك العادة في متون التوابيت، حيث وضعت عناوين لبعض فصولها.
وكانت توجد مجاميع من الفصول تتألف منها أكبر نواة متداولة لكتاب الموتى، وتسمى غالبا: «فصول للصعود في النهار»، وهي تسمية نجدها مستعملة في متون التوابيت أيضا. وبالرغم من كل ذلك لم يكن هناك عنوان شائع عن لفافة كاملة لكتاب الموتى باعتباره وحدة شاملة.
ومع أن بعض نبذ ضئيلة من متون الأهرام قد استمرت طويلا مستعملة في كتاب الموتى، فإنه يمكننا القول بأن تلك المتون قد اختفت على وجه عام تقريبا، وأما متون التوابيت فقد ظهرت ثانية بمقدار عظيم جدا، وساهمت مساهمة كبيرة في تكوين المجاميع المتنوعة التي يتألف منها الآن «كتاب الموتى».
وقد ابتدع في هذه المجاميع عنصر لا نرى له إلا أثرا يسيرا فقط في «متون التوابيت»؛ ذلك هو إضافة صور فاخرة في لفائف الموتى من الدولة الحديثة، تصور حياة المتوفى في عالم الآخرة، وقد كان القوم يعتقدون في تأثير مفعولها اعتقادا عظيما، وبخاصة ما شاهدناه فيما سبق من منظر المحاكمة في الآخرة، الذي صار - إذ ذاك - يصور بهيئة متقنة.
ويمكن القول عن تلك الصور الواردة في كتاب الموتى «بأنها ليست إلا مثالا آخر لإحكام الطرق السحرية بقصد تحسين أحوال الحياة الأخرى.» والواقع أن كتاب الموتى نفسه - على وجه عام - ليس إلا مثلا مركبا بعيد المرمى يوضح مدى اعتماد القوم المتزايد على السحر في الحياة الآخرة.
وكانت المكاسب التي تجبى بتلك الطريقة لا حد لها، ومن الواضح أن ذكاء أولئك الكهنة المرتزقة قد لعب دورا عظيما فيما حدث من التطور بعد ذلك؛ إذ إن أشراف الدولة المترفين لم يروا في تصوير الآخرة بمناظر الفلاحة مستقبلا جذابا؛ إذ كان من الممكن للمتوفى أن يحرث فيها، وأن يزرع ويحصد الثمار من حقله السعيد حيث كانت الحبوب تنمو إلى ارتفاع سبعة أذرع (حوالي 12 قدما).
8
فلم يعد يروق في نظر أولئك العظماء المنعمين، في عصر يزخر بالثراء، أن يكلفوا القيام بعمل ما، أو أن يجبروا على الذهاب حتى إلى حقول المنعمين ليكدوا وينصبوا.
ولذلك كانت توجد منذ الدولة الوسطى دمى مصنوعة من الخشب تمثل خدم الميت في الحياة الآخرة، توضع معه في القبر لتقوم بدلا منه بأداء ما يلزمه القيام به من العمل بعد الموت، كما كان يقوم له بذلك خدمه في الحياة الدنيا.
وقد تدرجت هذه الفكرة إذ ذاك بعض الشيء في سبيل التطور، فصارت تصنع تماثيل صغيرة للمتوفى يحمل كل منها حقيبة وفأسا، وكان يدون على صدور مثل تلك التماثيل رقية ماكرة هي:
يا أيتها الدمية
9
المتخذة لفلان (هنا يكتب اسم المتوفى)، إذا نوديت أو إذا طلبت للقيام بأي عمل في العالم السفلي ... فإنك تعدين نفسك لي في كل الأزمان لتزرعي الحقول ولتروي الشواطئ ولتنقلي الرمل من الشرق إلى الغرب، ولتقولي إنني ها هنا.
وهذه الرقية كانت ضمن الرقى التي تدون في بردي المتوفى تحت عنوان: «فصل في جعل الدمية تقوم بعمل المرء في العالم السفلي».
10
ثم تفنن القوم في إتقان هذه الحيلة فصار يخصص لكل يوم من أيام السنة دمية من تلك الدمى الصغيرة وتوضع جميعا مع الميت في قبره. وقد عثر على تلك الدمى بمقادير عظيمة في الجبانات المصرية القديمة، حتى إن المتاحف (والمجاميع الخاصة) في كل العالم قد صارت الآن آهلة بها.
ولا غرابة إذن إذا كان كهنة ذلك العصر وكتبته قد انتهزوا تلك الفرصة السانحة لابتزاز أموال الناس حبا في الكسب الذي كان يأتي إليهم بتلك الطريقة السهلة؛ ولذلك ضاعفوا أخطار الآخرة وأهوالها إذ ذاك مضاعفة عظيمة، وادعوا أنه كان في مقدورهم إنقاذ المتوفى لدى كل موقف حرج بالتعويذة الفعالة التي تنجيه من ذلك الخطر حتما؛ فإنه فضلا عن التعاويذ العديدة التي تساعد المتوفى على الوصول إلى عالم الآخرة، كانت توجد أيضا تعاويذ تمنع فقدان المتوفى فمه أو رأسه أو قلبه، وأخرى لتساعده على استذكار اسمه، كما كان منها ما يساعده على التنفس والأكل والشرب، ومنها ما يمنعه أكله لبرازه، ومنها ما يمنع الماء الذي يشربه من أن يتحول إلى لهيب، ومنها ما يحول الظلام نورا، كما كان من التعاويذ ما يحجب عن الميت كل الثعابين والوحوش المؤذية، وغير ذلك كثير من تلك التعاويذ.
وكذلك ازداد الآن موضوع التقمصات التي كان يرغب الميت في أن تتقمصها روحه، وقد وضع فصل صغير لكل حالة يرغبها الميت، ليساعده على أن يتقمص في صورة «صقر من الذهب» أو «صقر إلهي» أو «زنبقة» أو «مالك الحزين (فنكس)» أو «بجعة» أو «الثعبان المسمى ابن الأرض» أو «تمساح» أو «إله»، والأدهى من كل ذلك هو اختراع فصل قوي المفعول يمكن الإنسان باستعماله أن يتخذ لنفسه أي شكل يريده.
فمن مثل ذلك الإنتاج الذي تقدم ذكره يتألف الجزء الأعظم من مجموعة المتون التي نسميها الآن «كتاب الموتى»، فإذا سميناه بعد ذلك «إنجيل المصريين الأقدمين»
11
نكون إذن قد أسأنا فهم وظيفة هذه اللفائف ومحتوياتها.
وإن ذلك الاتجاه الذي نتجت عنه تلك المجموعة من التعاويذ أو الرقى، وهي التي يطلق عليها اسم «فصول»، نجده ظاهرا أيضا بشكل مميز في كتابين آخرين يكون كل منهما وحدة متماسكة متصلة؛ وأولهما «كتاب الطريقين»، ويرجع عهده - كما تقدم ذكره - إلى عصر الدولة الوسطى، وقد ساهم ذلك الكتاب من قبل مساهمة عظيمة في تأليف كتاب الموتى فيما يختص بالبوابات النارية التي كان يمر بها المتوفى حتى يصل إلى عالم الآخرة، وإلى الطريقين اللذين كان يسير فيهما في سياحته.
وعلى أساس مثل تلك التصورات أنتج خيال الكهنة أيضا «كتاب الموجودين في العالم السفلي أو ما في العالم السفلي». وهذا الكتاب يصف لنا الرحلة السفلية التي تقوم بها الشمس خلال الليل ، حينما تخترق الممرات ذات الكهوف الاثني عشر التي في أسفل الأرض، وكل منها تمثل مسيرة ساعة. وباجتياز الاثني عشر كهفا تنتهي الشمس من آخر مطافها وتبلغ النقطة التي تطلع منها في الشرق صباحا.
وأما الكتاب الثاني فيسمى عادة باسم «كتاب البوابات»، وهو يمثل الوصول إلى كل من الاثني عشر كهفا بالدخول إلى كل كهف من بوابته، وهو خاص باجيتاز تلك البوابات.
12
ومع أن تلك التصانيف لم تنتشر قط الانتشار الذي حظي به «كتاب الموتى» فإنها كانت تعد - مع ذلك - كتب إرشاد سحرية ألفها الكهنة للكسب كما فعلوا في معظم الفصول التي يتألف منها «كتاب الموتى».
والأمر الذي خلص «كتاب الموتى» نفسه من وصمة أنه كتاب سحري وكفى يستعمل في عالم الآخرة، هو بسطه للآراء القديمة الخاصة بالمحاكمة الخلقية في عالم الآخرة وتقديره الظاهر لمسئولية «الضمير».
وقد رأينا فيما تقدم أن علاقة الإنسان بالآلهة كانت قد صارت من قبل حلول العهد الإقطاعي شيئا أكثر من إقامته للشعائر الدينية الظاهرة، فالآن قد أصبحت هذه العلاقة أمرا يتعلق بالقلب والأخلاق.
ولقد كان الشعور الخلقي عند المصري قويا جدا، لدرجة أنه لم يجعل قيمة الحياة الفاضلة موقوفة على قبوله عند «أوزير» في عالم الآخرة فحسب، ومن ذلك يتضح لنا تقصير النظرية الأخلاقية الأوزيرية، التي تأمر الإنسان بالتفكير في العواقب الخلقية في عالم الآخرة فقط. فإن «أوزير» لم يخرج عن كونه إله الموتى كما ذكرنا ذلك كثيرا فيما تقدم، وقد نادى فلاسفة الاجتماع الأقدمون في العهد الإقطاعي بالفضائل التي شرعها «رع» إله الشمس، وطالبوا بالعدالة الاجتماعية في هذا العالم كما طالب بها «رع».
ولم يعدم أولئك الفلاسفة بعض الأخلاف في عهد الدولة الحديثة، ممن رأوا في المذهب الشمسي واجبا يحتم عليهم أن يحيوا حياة حقة في هذه الدنيا، كما أدركوا أنه ينالهم الثواب في الدنيا إذا عاشوا عيشة صالحة، فإله الشمس لم يكن - بوجه خاص - إله الموتى، بل كان الإله الذي يحكم في شئون البشر الدنيوية، وقد شعر الناس بالمسئولية الخلقية التي فرضها عليهم «رع » في كل ساعة من حياتهم الدنيوية؛ فحوالي سنة 1400ق.م وجه أحد مهندسي الملك «أمنحتب الثالث» أنشودة مدح إلى إله الشمس، قال:
لقد كنت قائدا مغوارا بين آثارك، مقيما العدل لقلبك
وإني أعلم أنك مستريح للعدالة
وأنك تجعل من يقيمها على الأرض عظيما
ولقد أقمتها، ولذلك جعلتني عظيما.
وكذلك حينما كان الفرعون يعقد يمينا، فإنه كان يحلف «بحب «رع» لي وبمقدار عطف والدي «آمون» علي» (وقد وحد «آمون» مع «رع» منذ زمن بعيد).
كما أن الفاتح «تحتمس الثالث»، عندما كان يقسم بذلك القسم توكيدا لما يقوله وتعظيما لاحترامه للصدق عند الإله، يشير عند حلفه إلى وجود إله الشمس، هكذا:
لأنه يعرف السماء ويعرف الأرض
ويرى جميع العالم في كل ساعة.
ومع أنه من الأمور المسلم بها أن عالم الآخرة السفلي في المذهب الأوزيري يصور لنا إله الشمس بأنه ينتقل من كهف إلى كهف تحت الأرض، مارا في عالم «أوزير» السفلي وجالبا معه النور والفرح إلى الساكنين هناك، فإن تلك الفكرة لم تكن معروفة في اللاهوت الشمسي كما هو مذكور في «متون الأهرام».
والواقع أن إله الشمس كان يعتبر في عهد الدولة الحديثة قبل كل شيء إله عالم الأحياء من البشر، حاضرا معهم، نشطا في مراقبة شئونهم الدنيوية على الدوام؛ ولذلك كان الناس يشعرون بمسئوليتهم أمامه الآن وفي هذه الحياة الدنيا. وكانت سيطرته تلك قد تعمقت في قلوب الناس واتسع أمامها المجال باتساع أفق ذلك العهد الإمبراطوري، إلى أن انبثق لأول مرة في تاريخ العالم، لأعين سكان وادي النيل القدامي، فجر رؤية الإله العالمي.
الفصل الخامس عشر
السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد
لقد ترك النفوذ الاجتماعي مدة العهد الإقطاعي في مصر أعظم أثر له في الدين والأخلاق، كما فعل ذلك من قبل النفوذ السياسي؛ أي الحكومة المصرية في عصر الأهرام. وكلا الأثرين كانا منحصرين في القطر المصري.
حقا إن عصر الأهرام قد اهتدى إلى فكرة - مبهمة نوعا - عن دولة إله الشمس ذات الاتساع الشاسع المدى، وخوطب إله الشمس في «متون الأهرام» مرة باللقب الطنان «الذي لا حد له». كما رأينا أن عصر الأهرام كان قد أوجد، بالإدراك الاجتماعي الذي قام به أمثال «بتاح حتب» دولة للقيم الخلقية العامة، وفي إعطاء إله الشمس السيادة على مثل هذه الدولة دليل على أن المصريين كانوا قد بدءوا يسيرون بالفعل في الطريق المؤدي إلى «التوحيد». كما أننا نتذكر مما سبق أن نصائح الملك الأهناسي المجهول الاسم قد سارت بالمصريين شوطا بعيدا في ذلك الطريق، وقد كان وقتئذ في مقدور المصريين بما تصوروه من النظام الإداري الخلقي العظيم، الذي أوجدوا له من قبل كلمة تدل عليه، أن يتقدموا نحو الوصول إلى المعرفة التامة للوحدانية.
ولكن على الرغم من ذلك قد بقي هذا النظام الخلقي في عصر الأهرام فكرة قومية لم يمتد نظامها حتى يشمل العالم كله.
فقد كان إله الشمس يحكم مصر فحسب، حيث نجده في أنشودة الشمس العظيمة بمتون الأهرام يقف حارسا على الحدود المصرية، فيقيم هناك الأبواب التي تمنع الأجانب من دخول مملكته المحروسة.
وكان إله الشمس في عصر الأهرام أيضا قد بدأ عملية إدماج آلهة مصر الآخرين في ذاته، وهي عملية استحالت حتى في ذلك العصر السحيق إلى صورة قومية من العقيدة الحلولية القومية التي تقول بأن الإله يحل في كل شيء، وبأن جميع الآلهة تستحيل في النهاية من حيث الأشكال والوظائف إلى وحدة واحدة، ولكنه مع تلك العملية وبالرغم من استمرارها طويلا، فقد تركت دولة ذلك الإله العظيم مقصورة على مصر؛ ولذلك كان هذا الإله بعيدا كل البعد عن أن يكون إلها عالميا.
والواقع أن المصريين ظلوا إلى ذلك العهد غير مدركين للفكرة العالمية؛ أي لفكرة الإمبراطورية العالمية، التي يمكنهم أن يسيطروا عليها بحاكم دنيوي واحد .
ولكن تأثيرات البيئة المقصورة على حدود وادي النيل كانت قد امتدت إلى أقصى مداها، وإذا بمسرح الفكر والعمل ينفسح للقوة القومية، بتلك التوسعات الخارجية الرائعة؛ فإن اللاهوت الشمسي السريع الاندماج والتجاوب مع أحوال ذلك العالم الصغير المكون من وادي النيل، قد دل على أنه لا يقل حساسية وتجاوبا مع ذلك العالم الأكبر الجديد الذي وصل الأفق المصري إلى مداه.
وإن توسع مصر الإمبراطوري شمالا وجنوبا، إلى أن شمل سلطان الفرعون الأقطار الآسيوية والأفريقية المجاورة، وكون منها أول إمبراطورية ثابتة الأركان في التاريخ، لهو أبرز حقيقة في تاريخ الشرق في القرن السادس عشر قبل الميلاد. كما يعد توطيد تلك السلطة على يد «تحتمس الثالث» في مدى عشرين سنة بما قام به من الغزوات في آسيا، حادثا عظيما في تاريخ العاهليات الحربية، نرى فيه لأول مرة في تاريخ الشرق مدى ما تستطيعه القوات العاملة المنظمة لدولة عظيمة.
إذ إن تلك القوات بهجومها المتواصل على ممالك آسيا الغربية قد جعلت السيادة المصرية لا ينازعها منازع، من الجزر الإغريقية فسواحل آسيا الصغرى ومرتفعات أعالي نهر الفرات شمالا، إلى الشلال الرابع لنهر النيل جنوبا.
وقد ذكر ذلك القائد الحربي العظيم نفسه تلك الملاحظة التي اقتبسناها آنفا عن إلهه، وهي التي قال عنه فيها: «إنه يرى جميع العالم في كل ساعة.»
وإذا كان ذلك القول صحيحا فما ذلك إلا لأن سيف ذلك الفرعون كان قد مد سلطان إله مصر حتى نهاية حدود الإمبراطورية المصرية، بل إن «تحتمس الأول» قد أعلن قبل ذلك العهد بخمسين سنة أن ملكه يمتد «إلى نهاية ما تحيط به الشمس». وقد كان القوم في عهد الدولة القديمة يتصورون أن إله الشمس هو فرعون، ومملكته في مصر، فلما اتسع نطاق المملكة المصرية وصارت عاهلية عالمية كان من المحتم كذلك أن يمتد سلطان الإله بهذا القدر. ولما كانت الملكية قد انبثت مظاهرها في العقائد الدينية منذ زمن بعيد، فكان لا بد للإمبراطورية كذلك من أن تؤثر تأثيرا قويا في الفكر الديني.
ومع أن ذلك قد جرى بكيفية آلية لا تكاد تحس، فإنه كان مصحوبا باستيقاظ عقلي هز التقاليد المصرية القديمة من أساسها، وجعل رجال ذلك العصر يفكرون في عالم من التفكير أوسع أفقا من قبل، فقد مضى على إله الشمس ألفا سنة وخمسمائة وهو فرعون مصري؛ أي فرعون حاكم لمصر، ولكن بعد سنة 1600ق.م صار ذلك الفرعون سيدا على العالم المتحضر إذ ذاك. وكان «تحتمس الثالث» الفاتح أول شخصية ظهرت لها نواح عالمية في التاريخ البشري، ويعتبر بذلك أول بطل عالمي، ومن ثم كان له تأثير عميق في عصره، وتمثلت فكرتا السيطرة والإمبراطورية العالميتين مجتمعتين بصورة ظاهرة ملموسة في حياته، وقد ظهرت آنئذ بوادر للعالمية في لاهوت الدولة يرجع سببها المباشر إلى تلك التأثيرات التي أحدثتها شخصية «تحتمس الثالث» وأخلاقه. وقد اضطرت مصر إلى الخروج من عزلتها العريقة في القدم في أحضان واديها الضيق والاشتراك في العلاقات العالمية التي كان لا بد أن يحسب لها في لاهوت ذلك العصر حساب فعال؛ إذ إنها - كما أوضحنا - علاقات كان لإله الشمس بها صلة لا انفصام لها.
أما العلاقات التجارية التي كانت قائمة منذ أزمان سحيقة جدا فلم تكن كافية لإدخال العالم الخارجي في دائرة التفكير المصري بدرجة محسوسة، فقد كانت أطراف ممتلكات الآلهة محددة ومحصورا أقصاها في تخوم وادي النيل الخارجية، وذلك منذ زمن بعيد، وقبل أن يصير العالم الخارجي مألوفا لسكان وادي النيل، فلم يكن في مقدور المعاملات التجارية وحدها مع عالم أوسع من مصر أن يزحزح تقاليد البلاد عما كانت عليه، فكم من تاجر رأى حجرا يسقط في «بابل» النائية كما رأى مثله يسقط في «طيبة» المصرية أيضا، ولكنه مع ذلك لم يخطر بباله، ولا ببال أي رجل آخر في ذلك العصر العتيق، أن القوة الطبيعية التي تجذب الحجر الساقط هي واحدة في كلتا هاتين المملكتين اللتين تفصلهما مسافات شاسعة؛ إذ كان العالم في الواقع وقتئذ لا يزال بعيدا جدا عن زمن ذلك الصبي الراقد تحت شجرة التفاح،
1
الذي كشف عن قوة عالمية وراء سقوط التفاحة. وكم من تاجر في ذاك العصر أيضا قد رأى الشمس تبزغ خلف معابد «بابل» البرجية كما كانت تبزغ بين المسلات المتجمعة في «طيبة»، ولكن تفكير ذلك العصر لم يكن قد وصل بعد إلى إدراك مثل هذه الحقائق ذات الأثر البعيد، وذلك بالرغم مما قاله «تحتمس » الفاتح عن إله الشمس: «إنه يرى جميع العالم في كل ساعة.»
فإن العالمية التي تصورها أولا خيال رجال الإمبراطورية المفكرين وكشفت لهم المجال العالمي الطبيعي لدولة إله الشمس هي العالمية كما بدت في السلطة العاهلية، أما التوحيد فليس إلا العاهلية في الدين.
وعلى ذلك لم يكن من باب الحدس أو الصدفة أن نجد أن أول هذه التصورات حوالي سنة 1400ق.م في عهد «أمنحتب»
2
الثالث الذي كان أعظم أباطرة مصر أبهة؛ إذ نجد أن توأمين من رجال العمارة هما «سوتي» و«حور» كانا يعملان في «طيبة» لحساب الملك «أمنحتب» الثالث، وقد تركا لنا أنشودة للشمس على لوحة توجد الآن في المتحف البريطاني، وهذه الأنشودة توضح لنا مدى ميل ذلك العصر والمجال الآخذ في الاتساع، والذي كان ينظر به رجال الإمبراطورية إلى العالم مدركين مبلغ امتداد دولة إله الشمس التي لا حد لها.
وهذه الأنشودة الشمسية تحتوي على الأسطر الآتية الجليلة المعنى، وهي:
إنك صانع مصور لأعضائك بنفسك
ومصور دون أن تصور
منقطع القرين في صفاته مخترق الأبدية
مرشد الملايين إلى السبل.
وعندما تقلع في عرض السماء يشاهدك كل البشر (رغم أنك) في ذهابك خفي عن أنظارهم
إنك تجتاز سياحة مقدارها فراسخ
بل مئات الآلاف وملايين المرات
وكل يوم تحتك (تحت سلطانك)
وحينما يأتي وقت غروبك،
فإن ساعات الليل تصغي إليك أيضا
وعندما تجتازها فإن ذلك لا يكون نهاية كدك
وكل الناس تنظر بواسطتك
أنت خالق الكل ومانحهم قوتهم
أنت أم نافعة للآلهة والبشر
وأنت صانع مجرب ...
وراع شجاع يسوق ماشيته
وأنت ملجؤها ومانحها قوتها ... ... ... ...
هو الذي يرى ما خلق
والسيد الأحد الذي يأخذ جميع الأراضي أسرى كل يوم
بصفته واحدا يشاهد من يمشون عليها
مضيء في السماء وكائن كالشمس
وهو يخلق الفصول والشهور
فالحرارة عندما يريد
والبرد عندما يشاء
فكل بلاد في فرح عند بزوغه كل يوم، لكي تسبح له.
ومن الواضح في مثل هذه الأنشودة أن مدى جولة إله الشمس الشاسع حول كل البلاد، وفوق كل شعوب الأرض، قد لقي في النهاية اهتماما ... وأنه قد اتخذت الخطوة الأخيرة وهي مد سلطان إله الشمس على كل الأراضي والشعوب.
ولم تصل إلينا وثيقة أقدم منها مما أنتجه التفكير المصري تضم تعبيرات صريحة يتمثل فيها ذلك التفكير كالتي نجدها هنا في قوله:
السيد الأحد الذي يأخذ جميع الأراضي أسرى كل يوم
بصفته واحدا يشاهد من يمشون عليها.
ومن الأمور الهامة أن نلاحظ أيضا أن ذلك الاتجاه كانت له علاقة مباشرة بالحركة الاجتماعية في العصر الإقطاعي المصري؛ إذ نجد أن النعوت التي نعت بها إله الشمس، نحو قوله:
الراعي الشجاع الذي يسوق ماشيته
وهو ملجؤها ومانحها قوتها.
ترجع بنا إلى عهد النصائح التي وجهت إلى «مريكارع»، وهي التي سميت فيها الناس «قطعان الإله»، كما ترجع بنا أيضا إلى أفكار «إبور» حيث يقول: «إنه راع لجميع الناس.»
ومثله النعت الآخر الخطير الشأن وهو قوله: «أم نافعة للآلهة والبشر.» فإنه يحمل في ثناياه فكرة مشابهة تشعر بالاهتمام ببني البشر؛ أي إن النواحي الإنسانية في سلطان إله الشمس، التي اشترك في إيجادها بوجه خاص رجال الفكر في العهد الإقطاعي، لم تختف بين العوامل السياسية القوية لذلك التسلط العالمي الجديد.
وحدث أنه عندما خلف «أمنحتب الرابع» والده «أمنحتب الثالث» حوالي سنة 1370ق.م، قام نزاع شديد بين البيت المالك من جهة وبين نظام الكهانة الذي كان على رأسه الإله «آمون» من الجهة الأخرى. وقد كان من الواضح أن ذلك الملك الشاب ينحاز إلى معاضدة جانب إله الشمس القديم ضد الجانب المنتصر للإله «آمون»، الذي كان رجال كهانته الطيبيون الأقوياء قد أخذوا يدعون إلههم الذي كان من قبل إلها محليا خامل الذكر باسم مركب هو «آمون رع»، مدللين بذلك على أنه صار موحدا مع إله الشمس «رع». وقد أخذ «أمنحتب الرابع» في باكورة حكمه يناصر في حماسة فكرة جديدة للمذهب الشمسي ربما كانت نتيجة أريد بها التوفيق بين المذهبين.
وفي الوقت الذي كان فيه موقف البلاد المصرية السياسي في آسيا في غاية الحرج، أخذ الملك ينهمك بكل حماسة في تعضيد التسلط العالمي لإله الشمس الذي أدركنا كنهه في أيام والده، فأعطى هذا الملك إله الشمس اسما جديدا خلص به المذهب الجديد من التقاليد المحفوفة بخطر الشرك في اللاهوت الشمسي القديم، فصار إله الشمس يسمى «آتون»، وهو اسم قديم يطلق على الشمس المجسمة.
ومن المحتمل أن هذه التسمية لا تدل إلا على قرص الشمس فقط. وهذا الاسم الجديد ذكر مرتين في أنشودة رجلي عمارة «أمنحتب الثالث» التي اقتبسنا منها جزءا فيما تقدم، كما لاقى بعض الإقبال في عهد ذلك الملك؛ إذ قد سمى به أحد قواربه الملكية «آتون يسطع».
ولم يقتصر الحال على إعطاء إله الشمس اسما جديدا، بل منحه ذلك الملك الشاب كذلك رمزا جديدا؛ فقد ذكرنا فيما مر سابقا أن أقدم رمز لإله الشمس كان الشكل الهرمي، كما كان يرمز له كذلك بالصقر؛ لأن الصقر من أسمائه.
على أن هذين الرمزين كانا مفهومين بين سكان وادي النيل فقط، ولكن «أمنحتب الرابع» كان في مخيلته وقتئذ مسرح أفسح وأوسع من القطر المصري؛ إذ إن الرمز الجديد قد مثل لنا الشمس بقرص تخرج منه أشعة متفرقة متجهة إلى أسفل، كل شعاع منها ينتهي طرفه بصورة يد بشرية.
3
وقد كان ذلك الرمز يشعر بالسيادة، ويدل على السيطرة القوية الخارجية من منبعها السماوي وهي تضع أيديها فوق العالم وعلى شئون البشر الأرضية، هذا فضلا عن أن أشعة إله الشمس منذ عصر متون الأهرام قد شبهت بذراعين له، واعتبرها الناس إذ ذاك نائبة عنه في الأرض:
إن ذراع أشعة الشمس قد رفعت مع الملك «وناس».
صاعدة به إلى السماوات.
وقد كان ذلك الرمز الجديد سهل الفهم لكل البشر الذين يسيطر عليهم الفرعون، كما كان معناه واضحا كل الوضوح، حتى إنه كان في استطاعة سكان نهر الفرات أو رجال بلاد النوبة على النيل السوداني أن يدركوا عظم شأنه على الفور، بمعنى أن ذلك الرمز لم تقتصر دلالته على السيطرة العالمية فحسب، بل صار خليقا أن يكون رمزا عالميا إلى أقصى حد.
وكذلك بذلت بعض الجهود لتعريف القوة الشمسية التي رمز لها بتلك الصورة، فقد كان اسم إله الشمس الكامل: «حور أختي» (حور الأفق) فرحا في الأفق باسمه (الحرارة التي في «آتون»).
وكان ذلك الاسم يوضع في طغراءين ملكيين، مثل اسم الفرعون المزدوج (يعني اسمه ولقبه). وهذا الوضع مأخوذ من مشابهة سلطان آتون لسلطان الفرعون، كما أنه برهان آخر يدل بوضوح على التأثير الذي أوجدته الإمبراطورية المصرية بصفتها الحكومية في مذهب اللاهوت الشمسي. غير أن الاسم الموضوع في الطغراءين حدد لنا بوجه عام مقدار القوة المحسوسة الواقعية للشمس في العالم الظاهر، ولم تكن له أية دلالة سياسية قط.
والكلمة المصرية القديمة التي ترجمتها في اسم ذلك الملك «حرارة» قد يكون معناها أحيانا «نورا» أيضا، ومن الواضح أن ما كان الملك يعبده هو قوة الشمس التي نشعر بها على الأرض. وهذه النتيجة تنسجم مع العبارات العديدة التي سنجدها في أناشيد «آتون»، وهي التي نرى فيها «آتون» نشطا باسطا أشعته على كل مكان فوق وجه الأرض.
ومع أنه من الواضح أن ذلك المذهب الجديد قد استقى وحيه من مدينة «هليوبوليس»، حتى إن الملك الذي اتخذ لنفسه منصب الكاهن الأعظم للإله «آتون» سمى نفسه «الناظر الأعظم»، وهو نفس لقب كاهن «هليوبوليس» العظيم، فإنه بالرغم من ذلك كان قد أزال معظم سقط المتاع القديم من الطقوس التي كانت تتألف منها ظواهر اللاهوت التقليدية، ولذلك نرانا نبحث عبثا في ذلك اللاهوت الجديد عن القوارب الشمسية، كما نرانا نبحث عبثا عن باقي الإضافات التي أدخلت فيما بعد على المذهب الشمسي مثل السياحة في كهوف الأموات السفلية، وغير ذلك، فإنها كلها قد محيت منه جملة.
فإذا كان الغرض الذي رمت إليه حركة مذهب «آتون» هو التوفيق بينها وبين كهنة «آمون» فإنها قد فشلت، وقام بينهم ألد الخصام، الذي اشتد وبلغ الذروة عندما صمم الملك على أن يتخذ من «آتون» إلها واحدا للإمبراطورية المصرية ويقضي على عبادة «آمون». وقد نتج عن ذلك المجهود الذي بذل لمحو كل الآثار الدالة على وجود «آمون» (ذلك الإله الحديث العهد) أن اتخذت إجراءات غاية في التطرف؛ إذ نجد أن الملك قد غير اسمه من «أمنحتب» (يعني «آمون» مرتاح أو راض) إلى «إخناتون» (يعني «آتون» راض)، وذلك الاسم الجديد الذي اتخذه الملك لنفسه هو ترجمة للاسم القديم للملك إلى ما يماثله في المعنى في مذهب «آتون»، هذا من جهة، وكان اسم «آمون» من الجهة الأخرى يمحى أينما وجد فوق آثار «طيبة» العظيمة، حتى إن الملك، تنفيذا لفكرته هذه، لم يحترم في ذلك حتى ولا اسم والده الملك «أمنحتب الثالث»، مع أن الأمر لم يكن قاصرا على محو اسم «آمون»، بل تعداه حتى إلى كلمة الآلهة (بصفتها جمع إله) فكانت تمحى أيضا أينما وجدت (كأنه رأى أن الجمع مظنة لتعدد الآلهة فمحاه)، وكذلك عوملت أسماء سائر الآلهة الآخرين معاملة «آمون» فكان مصيرها المحو.
وقد هجر الملك «إخناتون» طيبة برغم ما كان لها من السيادة والأبهة عندما وجد الارتباك فيها بالتقاليد اللاهوتية القديمة أكثر مما يحتمل، وأقام لنفسه حاضرة جديدة في منتصف الطريق بين «طيبة» والبحر تقريبا، في بقعة تعرف في وقتنا هذا باسم «تل العمارنة»، وسماها «أخيتاتون» (أفق آتون)، كما أسس في بلاد النوبة مدينة لآتون مشابهة لها، ومن المحتمل جدا أنه أقام مدينة أخرى لذلك الإله في آسيا، وبذلك صار لكل من الثلاثة الأجزاء العظيمة التي تتألف منها الدولة؛ وهي مصر والنوبة وسوريا، مقر لمذهب «آتون»، وقد بنيت كذلك معابد أخرى لآتون في أماكن مختلفة من مصر نفسها.
ولم يتم ذلك طبعا دون تأليف حزب قوي من رجال البلاط الملكي يمكن للملك به أن يناهض أولئك الكهنة المنبوذين، وبخاصة كهنة «آمون». وقد أثرت الفتنة التي نتجت عن ذلك الانقلاب بلا شك تأثيرا خطيرا في قوة البيت المالك؛ إذ كان حزب ذلك البلاط الذي نما إذ ذاك في ظل «إخناتون» يعمل معه متضامنين على نشر ذلك المذهب الديني الجديد، الذي يصح أن تعد قصته أروع الفصول وأكثرها إمتاعا في تاريخ الشرق القديم، يدلنا على ذلك ما بقي من نقوشه على جدران تلك المقابر التي نحتها الملك في الصخر لأشراف رجاله قبالة الجبال المنخفضة التي تقع في الهضبة الشرقية القائمة خلف تلك المدينة الجديدة. والواقع أننا مدينون لمقابر مثل هؤلاء من أعوان الملك بمعلوماتنا عن مشتملات تلك التعاليم الهامة التي كانت تنشر في تلك الآونة، وهي تحتوي على سلسلة أناشيد في مدح إله الشمس، كما تحتوي على مديح إله الشمس والملك بالتبادل. وهذه التعاليم تمدنا على الأقل بلمحة عن عالم الفكر الجديد، الذي نشاهد فيه ذلك الملك الشاب وأعوانه رافعين أعينهم نحو السماء محاولين بذلك إدراك مجالي الذات الإلهية في بهائها الذي لا حد لقوته ولا نهاية، وهي الإلهية التي لم يعد سلطانها منحصرا في وادي النيل، بل امتد بين جميع البشر وفي العالم كله.
ولا يمكننا الآن أن نأتي بشيء عن هذه السانحة أفصح من تلك الأناشيد، التي تقص علينا بنفسها شيئا عن تلك التعاليم، وأطول أنشودة بينها وأهمها هي الآتية:
4
بهاء «آتون» وقوته العالمية تشرق وتضيء
أنت تبزغ بجمالك في أفق السماء
أنت يا «آتون» الحي الذي كنت في أزلية الحياة
فحينما كنت تطلع في الأفق الشرقي
كنت تملأ كل البلاد بجمالك
أنت جميل وعظيم ومتلألئ ومشرق فوق كل أرض
وأشعتك تحيط بالأرضين حتى نهاية جميع مخلوقاتك
أنت «رع»،
5
وأنت تخترق حتى نهايتها القصوى (يعني الأرضين)
وأنت توثقهم (يعني البشر) لابنك المحبوب (الفرعون)
ورغم أنك قصي جدا فإن أشعتك فوق الأرض
ورغم أنك تجاه البشر فإن خطواتك خفية (عنهم).
الليل والإنسان
الأنشودة
وحينما تغيب في أفق السماء الغربي فإن الأرض تظلم كالموات
فينامون في حجراتهم
ورءوسهم ملفوفة
ومعاطسهم مسدودة
ولا يرى إنسان الآخر
في حين أن أمتعتهم تسرق
وهي تحت رءوسهم
وهم لا يشعرون بذلك.
المزامير
تجعل ظلمة فيكون ليل فيه يدب كل حيوان وعر. (المزمور 104-20)
الليل والحيوان
الأنشودة
وكل أسد يخرج من عرينه (ليفترس)
وكل الثعابين تنساب لتلدغ
والظلام يخيم
والعالم في صمت
في حين أن الذي خلقهم ق في أفقه.
المزامير
الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها. (المزمور 104-21)
النهار والإنسان
الأنشودة
الأرض زاهية حينما تشرق في الأفق
وعندما تضيء بالنهار مثل «آتون»
فإنك تقصي الظلمة إلى بعيد
وحينما ترسل أشعتك
تصير الأرضان (مصر) في عيد
والناس يستيقظون ويقفون على أقدامهم
عند إيقاظك لهم
وبعد غسلهم لأجسامهم يلبسون ثيابهم
ثم يرفعون أذرعتهم تعبدا لطلعتك
ثم بعد ذلك يقومون إلى أعمالهم في كل العالم.
المزامير
تشرق الشمس فتنصرف وفي مأويها تربض، الإنسان يخرج إلى عمله وإلى شغله إلى المساء. (المزمور 104-22 و23)
النهار والحيوان والنبات
الأنشودة
وجميع الماشية ترتع في مراعيها
والأشجار والنباتات تينع
والطيور في مستنقعاتها ترفرف
وأجنحتها منتشرة تعبدا لك
وجميع الغزلان ترقص على أقدامها
وجميع المخلوقات التي تطير أو تحط
تحيا عندما تضيء عليها.
النهار والمياه
الأنشودة
والسفن تقلع في النهر صاعدة
أو منحدرة فيه على السواء
وكل فج مفتوح؛ لأنك أشرقت
والسمك يثب في النهر أمامك
وأشعتك تنفذ إلى وسط البحر
الأخضر العظيم
هذا البحر الكبير الواسع الأطراف
هناك دبابات بلا عدد.
المزامير
صغار حيوان مع كبار.
هناك تجري السفن، لوياثان
هذا خلقته ليلعب فيه. (المزمور 104-25 و26)
خلق الإنسان
الأنشودة
أنت خالق الجرثومة في المرأة
والذي يذرأ من البذرة أناسيا
وجاعل الولد يعيش في بطن أمه
ومهدئا إياه حتى لا يبكي
مرضعا إياه حتى في الرحم
وأنت معطي النفس حتى تحفظ الحياة على كل إنسان خلقته
وحينما ينزل من الرحم (أمه) في يوم ولادته
فأنت تفتح فمه كلية
وتمنحه ضروريات الحياة.
خلق الحيوان
الأنشودة
وحينما يصير الفرخ في لحاء البيضة
فأنت تعطيه نفسا ليحفظه حيا في وسطها
وقد قدرت له ميقاتا في البيضة ليخرج منها
وهو يخرج من البيضة في ميقاته (الذي قدرته له)
فيصيح ويمشي على رجليه حينما يخرج منها.
الخلق العالمي
الأنشودة
ما أكثر تعدد أعمالك
إنها على الناس خافية
يا أيها الإله الأحد
الذي لا يوجد بجانبه إله آخر
لقد خلقت الأرض حسب رغبتك
وحينما كنت وحيدا (لا شيء غيرك)
خلقت الناس وجميع الماشية والغزلان
وجميع ما على الأرض
مما يمشي على رجليه
وما في عليين مما يطير بأجنحته
وفي الأقطار العالمية سوريا
وكوش وأرض مصر
فإنك تضع كل إنسان في موضعه
وتمدهم بحاجاتهم
وكل إنسان لديه قوته
وأيامه معدودات
والألسنة في الكلام مختلفة
وكذلك تختلف أشكالهم وجلودهم
لأنك تخلق الأجانب مختلفين.
الأنشودة
ما أعظم أعمالك يا رب
كلها بحكمة صنعت
ملآنة الأرض من غناك. (المزمور 104-24)
ري الأراضي في مصر وخارجها
الأنشودة
أنت تخلق النيل في العالم السفلي
وأنت تأتي به كما تشاء
ليحفظ أهل مصر أحياء (كلمة أهل التي استعملت هنا مقصورة في اللغة على أهل مصر)
لأنك خلقتهم لنفسك
وأنت سيدهم جميعا
وأنت الذي تنهك
6
نفسك من أجلهم
وأنت رب كل قطر
و(أنت) الذي تشرق من أجلهم
وأنت شمس النهار عظيم الافتخار
وجميع الأقطار العالية القاصية
أنت تخلق حياتها أيضا
لقد وضعت نيلا في السماء
وحينما ينزل لهم يصنع أمواجا فوق الجبال
مثل البحر الأخضر العظيم
فيروي حقولهم في مدنهم
ما أكرم مقاصدك يا رب الأبدية!
ويوجد نيل في السماء للأجانب
ولأجل غزلان كل الهضاب التي تتجول على أقدامها
أما النيل فإنه يأتي من العالم السفلي لمصر.
فصول السنة
الأنشودة
أشعتك تغذي كل بستان (كلمة التغذية هنا تعني تغذية الأم لطفلها)
وعندما تبزغ فإنها تحيا
فهي تنمو بك
أنت تخلق الفصول
لأجل أن ينمو كل ما صنعت
فالشتاء يأتي إليهم بالنسيم العليل
والحرارة لأجل أن يذوقوا أثرك (أي أن يكون لها طعم لذيذ في فمهم).
السيطرة العالمية
الأنشودة
أنت خلقت السماوات العلى لتشرق فيها
ولتشاهد كل ما صنعت حينما كنت لا تزال وحيدا (لا شيء غيرك)
مضيئا في صورتك أنت «آتون» الحي
وبازغا وساطعا وذاهبا بعيدا وآيبا (في الغدو والآصال)
أنت تخلق الملايين من الصور وحدك بنفسك
من مدن وقرى وحقول وطرق عامة وأنهار
وجميع العيون تراك تجاهها
لأنك «آتون» (شمس) النهار فوق الأرض
وحينما تغيب
فإن جميع الناس الذين سويت وجوههم
لكي لا ترى نفسك بعد وحيدا
يغشاهم النعاس حتى لا يرى واحد منهم ما قد خلقته
ومع ذلك فإنك لا تزال في قلبي.
وحي الملك
الأنشودة «ليس هناك واحد آخر يعرفك إلا ابنك «إخناتون»
لقد جعلته عليما بمقاصدك وبقوتك.»
الرعاية العالمية
الأنشودة
العالم يعيش بصنيع يدك، أنت الذي خلقتهم
فيحيا حينما تشرق
ويموت حينما تغيب
لأن حياتك طول مدى نفسك
والناس يعيشون بواسطتك
إن أعين الناس لا ترى إلا جمالك حتى تغيب
وكل عمل يطرح جانبا
حينما تغيب في الغرب
وحينما تشرق ثانية
فإنك تجعل كل كف تنشط لأجل الملك
والخير في أثر كل قدم
لأنك خلقت العالم
وأوجدتهم لابنك
الذي ولد من لحمك
ملك الوجهين القبلي والبحري
العائش في الصدق، رب الأرضين «نفر خبرو رع وان رع» (إخناتون)
ابن «رع» العائش في الصدق، رب التيجان «إخناتون» ذو الحياة الطويلة (ولأجل) كبرى الزوجات الملكية محبوبته
سيدة الأرضين «نفر نفرو آتون» (نفرتيتي)
عاشت وازدهرت أبد الآبدين.
ويحتمل ألا تمثل هذه الأنشودة الملكية العظيمة إلا قطعة منتخبة أو سلسلة منتخبة من شعائر «آتون» كما كانت تقام من يوم لآخر في معبد «آتون» بتل العمارنة.
ومما يؤسف له أن هذه الأنشودة لم تدون في تلك الجبانة إلا بمقبرة واحدة فقط، وقد فقد منها نحو ثلثها من جراء تعدي المخربين من الأهالي الحاليين، ولذلك لم يصلنا من الجزء المفقود إلا نسخة حديثة نقلت من غير اعتناء وعلى عجل منذ خمسين سنة (أي في سنة 1883م).
وأما المقابر الأخرى فقد كتبت نقوشها الدينية بالنقل عن الفقرات والجمل التي كانت شائعة الاستعمال وقتئذ، والتي تكون منها مجمل مذهب «آتون» كما فهمه الكتاب والرسامون الذين قاموا بزخرفة تلك المقابر. وعلى ذلك يجب علينا ألا ننسى أن البقايا التي وصلت إلينا عن طريق جبانة «تل العمارنة» من مذهب «آتون»، وهي مصدرنا الرئيسي، قد مرت بشكل آلي بأيدي فئة قليلة من الكتبة المهملين غير المدققين ذوي العقول الخاوية الفاترة، ممن لم يخرجوا عن كونهم أذنابا لحركة عقلية دينية عظيمة. وفيما عدا هذه الأنشودة الملكية نجد أن أولئك الرسامين كانوا يقنعون في كل مكان بالقطع والنتف، التي نقلت في بعض الأحوال من تلك الأنشودة الملكية نفسها أو عن قطع أخرى، ويضعونها مرقعة في هيئة أنشودة قصيرة، ثم ينقشونها كلها أو بعضها بدون أدنى تصرف، وهم يتنقلون من قبر إلى آخر.
ولما كانت المواد التي في متناولنا عن ذلك المذهب ضئيلة إلى هذا الحد، مع أهمية الحركة التي أماطت لنا عنها اللثام، فإن تلك المعلومات الجديدة القليلة التي تمدنا بها تلك الأنشودة القصيرة، تعتبر ذات قيمة عظيمة.
7
وقد عزيت تلك الأنشودة في أربع حالات إلى الملك نفسه؛ أي إن الملك يشاهد وهو ينشدها أمام «آتون». وهاك نصها كما جاءت:
أنت تشرق بجمالك يا «آتون» الحي يا رب الأبدية
إنك ساطع وقوي وجميل
وحبك عظيم وكبير
أشعتك تمد بالبصر كل واحد من مخلوقاتك
ولونك الملتهب يجلب الحياة إلى قلوب البشر
عندما تملأ بحبك الأرضين
إيه أيها الإله الذي سوى نفسه بنفسه
خالق كل أرض
وبارئ كل من عليها
حتى الناس وكل قطعان الماشية والغزلان
وكل الأشجار التي تنمو فوق التربة
فإنها تحيا عندما تشرق عليهم
وأنت الأب والأم لكل من خلقته
وعندما تشرق فإن عيونهم
ترى بواسطتك
إن أشعتك تضيء كل العالم
وينشرح بسبب رؤيتك كل قلب
عندما تشرق بصفتك سيدهم
وعندما تغيب في أفق السماء الغربي
فإنهم ينامون كأنهم أموات
رءوسهم ملفوفة بالغطاء
وتقف معاطسهم
حتى يعود شروقك في الصباح
في أفق السماء الشرقي
وعندئذ يرفعون أذرعتهم إليك تعبدا
فإنك تجعل قلوب البشر تحيا بجمالك
لأن الناس تحيا عندما ترسل أشعتك
ويكون جميع الكون في عيد
فالغناء والموسيقى وتهليل الفرح
تكون في قاعة بيت بنبن
8
في معبدك في «أخيتاتون» مكان الصدق (ماعت)
الحائز لرضاك
فيه يقدم لك الطعام والمئونة
ويؤدي لك ابنك الطاهر احتفالاتك السارة
يا «آتون» الحي في مواكبه البهجة
كل ما خلقته يطرب أمامك
ويفرح ابنك الجليل وقلبه في حبور
آه يا «آتون» الحي المولود كل يوم في السماء!
إنه يلد ابنه الجليل «وان رع» (إخناتون)
مثل نفسه دائما
ابن «رع» اللابس جماله «نفر خبرو رع وان رع» (إخناتون )
فأنا ابنك الذي تسر به
والذي يحمل اسمك
قوتك وبطشك يسكنان في قلبي
أنت يا «آتون» العائش على الدوام ...
لقد خلقت السماء العليا لتشرق فيها
لكي تشاهد كل ما صنعته
عندما كنت لا تزال وحيدا (لا شيء غيرك)
آلاف الألوف من الأنفس موجودة فيك لتحفظها حية
لأن مشاهدة أشعتك
9
هو نفس الحياة في المعاطس
وجميع الأزهار تحيا وكل ما تنبت الأرض
يصير ناميا لأنك تشرق
فهي نشوى أمامك
وجميع الماشية تطفر على أقدامها
والطيور تطير في المستنقع من الفرح
وأجنحتها التي كانت مطوية تنتشر
مرفوعة لآتون الحي تعبدا
أنت يا خالق ...
10
ففي هذه الأناشيد نرى قوة عالمية ملهمة لم توجد من قبل، لا في الفكر المصري القديم ولا في فكر أية مملكة أخرى، فهي تشمل في مداها العالم كله، ويقول الملك: إن الاعتراف بسيادة إله الشمس العالمية كان هو كذلك أمر عالمي، وإن جميع البشر يعترفون بسلطانه. وكذلك قال الملك عنهم في لوحة الحدود العظيمة:
إن «آتون» خلقهم (لنفسه هو)
فجميع الأراضي وأهل بحر إيجة يحملون
ضرائبهم وجزيتهم فوق ظهورهم إلى الذي
أوجد حياتهم والذي بأشعته تحيا البشر
وتستنشق الهواء.
فمن الواضح أن «إخناتون» كان يريد بذلك دينا عالميا، يحاول أن يحله محل القومية المصرية التي سبقته، وسارت عليها البلاد مدة عشرين قرنا مضت.
وبجانب تلك القوة العالمية، نجد كذلك أن «إخناتون» كان متأثرا تأثرا عميقا بأزلية إلهه، وكان الملك نفسه يتقبل - بسكينة واطمئنان - أنه نفسه مصيره للفناء، فنراه في باكورة حكمه في «تل العمارنة» يعلن التعليمات الدقيقة الخاصة بدفنه فيما بعد الموت، ويسجلها باستمرار فوق اللوحات التي أقامها على الحدود المصرية، ولكنه مع ذلك كان يعتمد على علاقته الوثيقة بآتون ليضمن له شيئا من خلود إله الشمس، ومن أجل ذلك كان يحتوي لقبه الرسمي دائما - بعد ذكر اسمه - على النعت الآتي: «ذو الحياة الطويلة».
على أنه في بداية كل شيء قد برأ «آتون» نفسه من الوحدة الأزلية - أي إنه الخالق لكينونة نفسه - إذ نجد في إحدى لوحات
11
حدود «تل العمارنة» العظيمة أن الملك يسميه هكذا:
سوري المكون من مليون ذراع
ومذكري بالأبدية
وحجتي في إدراك الأشياء الأبدية
وهو الذي سوى نفسه بنفسه بيده هو
والذي لا يعرفه صانع.
ونجد أن الأناشيد تبدي انسجاما مع هذه الفكرة وتميل إلى ترديد تلك الحقيقة القائلة:
بأن خلق العالم الذي يلي ذلك قد حدث
حينما كان الإله لا يزال وحيدا (لا شيء غيره).
وتكاد الكلمات: «حينما كنت لا تزال وحيدا (لا شيء غيرك)» تكون نداء يردد في تلك الأناشيد.
وهو الخالق العالمي الذي ذرأ كل أجناس البشر وميز بعضهم عن بعض في لغاتهم وألوان جلودهم، ولا تزال قوته المنشئة مستمرة تأمر بالخروج من العدم إلى الحياة حتى من البيضة الجامدة.
ولم يظهر عجب الملك من قوة إله الشمس المانحة الحياة بشكل بارز في أي مكان آخر أكثر مما نجده مذكورا بسذاجة في تعبيره عن تلك المعجزة، التي تتمثل في أنه داخل لحاء البيضة الذي يسميه الملك «حجر البيضة» - أي إنه في هذا الحجر الذي لا حياة فيه - تجيب أصوات الحياة نداء أمر «آتون» فيخرج مخلوق حي بعد أن أنعشه النفس الذي يمنحه إياه (ذلك الإله).
وتلك القوة المانحة الحياة هي مصدر الحياة والزاد الدائم، والواسطة المباشرة لها هي أشعة الشمس التي تجلب النور والحرارة إلى الناس، وهذا الإدراك المدهش لقوة الشمس بصفتها منبع كل الحياة فوق الأرض يردد باستمرار دائم؛ إذ نرى الأناشيد تميل إلى الإمعان في ذكر أن أشعة الشمس قوة عالمية عتيدة على الدوام:
أنت في السماء ولكن أشعتك فوق الأرض
أشعتك تنفذ إلى أعماق البحر الأخضر العظيم
أشعتك فوق ابنك المحبوب
ذلك الذي يجعل بأشعته الإبصار كاملا
إن مشاهدة أشعتك هي نفس الحياة في المعاطس
وطفلك (يعني الملك) الذي ولد من أشعتك
لقد سويته (يعني الملك) من أشعة نفسك
أشعتك تحمل مليونا من الأفراح الملكية
وحينما ترسل أشعتك فإن الأرضين
تكون في فرح
أشعتك تشمل الأرضين وحتى كل ما صنعته
وسواء أكان في السماء أم في الأرض فإن كل الأعين تشاهده دائما
وهو يملأ (كل الكون) بأشعته
ويجعل كل البشر يعيشون.
كما أن اعتماد مصر في حياتها على النيل بداهة جعل من المستحيل تجاهل ذلك المنبع الحيوي في عقيدة الملك «إخناتون». والواقع أنه لا شيء يكشف لنا بوضوح قيمة عقيدة «إخناتون» وميله إلى الاعتماد على العقل، أكثر من أنه محا بلا تردد طائفة الأساطير والتقاليد التي كانت محترمة، والتي كانت تقول بأن النيل هو الإله «أوزير» عدة أزمان، ثم نسب الفيضان في الحال إلى قوى طبيعية يسيطر عليها ذلك الإله الذي يعبده، وهو الذي خلق - بمثل ذلك الاهتمام - للبلاد الأخرى نيلا آخر في السماء.
وقد تجوهل الإله «أوزير» كلية، فلم يذكر قط في كل الوثائق الإخناتونية، بل ولا في أي قبر من قبور «تل العمارنة».
بهذه الآراء الأخيرة ينتقل تفكير «إخناتون» إلى ما وراء الإدراك المادي المحض لنشاط الشمس فوق الأرض، ويقدر مبلغ اهتمام «آتون» الأبوي بجميع المخلوقات.
وهذا التفكير هو الذي يرفع من شأن الحركة التي قام بها «إخناتون» إلى حد بعيد فوق كل ما كانت قد وصلت إليه ديانة قدماء المصريين أو ديانات الشرق بأجمعه قبل ذلك الوقت، فقد كان إله الشمس في نظر «إبور» راعيا شفيقا، كما تقدم ذكره فيما سبق، كما كان الناس في نظر «مريكارع» - كما سبق ذكره أيضا - قطعانه التي من أجلها صنع الهواء والماء والطعام. ولكننا نجد أن «إخناتون» يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يقول لإله الشمس: «أنت أب وأم لكل ما صنعت.» وهذا التعليم هو الذي مهد الطريق لكثير من التطور الذي ظهر في الديانة فيما بعد حتى إلى عصرنا الحالي.
فكان جميع العالم الحي، في نظر تلك الروح الحساسة التي كانت تدب في نفس ذلك الخيالي المصري، يملؤه شعور قوي بوجود «آتون» مع التقدير لشفقته الأبوية، فمستنقعات السوسن، بأزهارها النشوانة التي تينع بإشعاع «آتون» الأخاذ، وطيورها التي تنشر أجنحتها تعبدا «آتون» الحي، والماشية التي تطفر فرحة في ضوء الشمس، والسمك الذي يثب في النهر مرحبا بالنور العالمي الذي تنفذ أشعته ، حتى في وسط البحر الأخضر العظيم، كل أولئك يكشف لنا عن مدى إدراك «إخناتون» لذلك الوجود العالمي للإله وسيطرته على الطبيعة، وعن إدراك باطني لذلك الوجود عند كل المخلوقات.
وهذا التقدير لتجلي قوة الله في العالم الحسي هو مثل الذي نجده بعد ذلك العهد بنحو 700 أو 800 سنة في المزامير العبرية، ومثل ما جاء على لسان شعراء الطبيعة بيننا منذ عصر «وردزورث»
Wordsworth ،
12
ومن الظاهر أن أعمق المصادر لقوة تلك الثورة العظيمة - بالرغم من أصلها السياسي - يرجع إلى اعتمادها على التأمل في عالم الطبيعة، كما نراه في الحض على «تأمل سوسن الحقول». ولأن «إخناتون» كان رجلا مأخوذا بالإله، فقد انقاد عقله بحساسية وإدراك مدهشين إلى ما حوله من المظاهر المرئية الدالة على وجود الإله؛ فقد كان مأخوذا بجمال النور الأبدي العالمي، ولذلك نرى أشعته تغمره في كل أثر صور عليه من آثاره التي بقيت لنا. واقتصر في ذلك على شخصه وعلى الملكة وأولاده؛ لأنه كان يدعي لنفسه علاقة مع إلهه لا يشاركه فيها أحد، فهو الذي يدعو ربه بقوله:
ليت عيني تقران بمشاهدته يوميا
حينما يشرق في بيت «آتون» هذا ويملؤه
هو بأشعته هذه، هذا الجميل في حبه
ويرسلها علي في حياة راضية أبد الآبدين.
ويمرح الملك في ذلك النور، الذي وحده أكثر من مرة مع الحب، كما هو الحال هنا، أو مع الجمال باعتباره البرهان الظاهر الدال على وجود الإله، وذلك بنشوة قل أن يكون لها نظير، وفرح يبلغ حد الوله كالذي كانت تشعر به روح كروح «رسكن»
13
عندما كان ينعم النظر في النور، فقد وصف «رسكن» النور وهو يسطع فوق المناظر الطبيعية الجميلة، قال:
النور المتنفس الحي المبتهج
الذي يشعر ويتسلم ويفرح ويعمل
ويختار شيئا وينبذ آخر
ويبحث ويجد ويفقد ثانية
متنقلا من صخرة إلى صخرة
ومن ورقة شجر إلى ورقة
ومن موجة إلى موجة
متوهجا أو بارقا أو متلألئا
بحسب ما يصيب أو (كما في أقدس مظاهره) يكون ممتصا ساترا لكل
شيء في كمال سكونه العميق
وعندئذ نراه يفقد ثانية في حيرة وشك وظلمة
أو يمحى ويختفي واقعا في حبائل الضباب الجارف
أو يذوب في الهواء مكتئبا
ولكنه - سواء أكان متأججا
أما خافتا، لامعا أم ساكنا
هو النور الحي، الذي يتنفس في أعمق سكونه
وهو النور الذي ينام ولكنه لا يموت أبدا.
فنجد في هذا الوصف الافتنان الحديث ببهجة النور، وهو الإنجيل الحقيقي لجمال النور، الذي كان أول مبشر به هو ذلك الخيالي الوحيد «إخناتون» الذي عاش في خلال القرن الرابع عشر ق.م. وقد كان من الجائز كذلك في نظر «إخناتون» أن النور ينام، كما يتضح من قوله: «يذهب خالق الأرض ليستريح في أفقه.» غير أنه كان (في نظره كما كان في نظر «رسكن»)
14 «ينام ولكن لا يموت قط.»
وقد نجح الأستاذ «زيته» في ترجمة فقرة مهشمة في الأنشودة الكبرى فأظهر معناها بأنها بالرغم من أن الظلمة قد خيمت والناس قد نامت فإن «إخناتون» يمكنه أن يشعر به، حيث يقول: «ومع ذلك فإنك لا تزال في قلبي.»
فتلك الناحية من حركة «إخناتون» تدل إذن على أنها إنجيل الجمال والرأفة في نظام الطبيعة، وإدراك لرسالة الطبيعة إلى روح الإنسان، مما جعلها تعتبر أقدم النهضات التي نسميها «الرجوع إلى الطبيعة»، وهي التي ظهرت في إنتاج أمثال الفنانين «ملت»
Millet
و«بربيزون»
Barbizon ، أو في آراء «وردزورث»
Wordsworth
وأخلافه، فالرسامون في ذلك الوقت كانوا يصورون حياة المستنقعات البرية بروح جديدة تختلف عن روح السرور الهادئ الذي صور به رسامو «مصاطب الأهرام»، تلك الصور الهادئة التي تمثل نزهات الأشراف في حقول البردي، مما تتحلى به جدران مزارات قبورهم بالجبانة المنفية الكائنة «بسقارة».
وأما الصور التي رسمت فوق الجص وتزين رقعة قاعة قصر «إخناتون» ذات الأعمدة «بتل العمارنة»، فمفعمة بروح مرح جديدة تسود الحياة، وتشعرنا عند رؤيتها بشيء من العاطفة القوية التي أنارت يد الفنان، وهو يرى بعيني ذهنه الثور الوحشي يقفز في أدغال البردي ضاربا برأسه نحو الطيور الهلوعة المشقشقة فوق يراع المستنقع كأنها تؤنب ذلك الطفيلي الفظ الذي ينزل الضرر بأوكارها.
ولكن مما يؤسفنا أشد الأسف أن تلك النقوش الفاخرة التي كانت تتألق فيها الحياة والحركة، والتي طالما تمتعت بهما أعين الناظرين في عصرنا الحالي «بتل العمارنة»، قد دمرت إلى الأبد بأيدي أولئك المخربين الأحداث من أهالي القرى المجاورة لبلدة «تل العمارنة».
وهذه الروح الجديدة - في عصر إخناتون - التي استمدت إلهامها من جمال الطبيعة وفيضها، كانت كذلك ذات حساسية شديدة لحقيقة الحياة الإنسانية والعلاقات البشرية، دون تأثر بشيء من العرف أو التقاليد؛ إذ مثلت بدون تكلف أو تحفظ علاقات «إخناتون» الطبيعية البهيجة بأسرته، وظهر ذلك حتى فوق الآثار العامة، فقد عثر على تمثال صغير غير تام الصنع في مصنع أحد المثالين الملكيين «بتل العمارنة»، لم يقتصر فيه صانعه على تمثيل الملك جالسا وابنته الصغيرة فوق حجره وهو يضمها كما يضم الأب الملكي أميرة صغيرة، بل مثل الفرعون وهو يقبل ابنته الصغيرة كما يفعل ذلك أي والد معتاد. وليس من الصعب على الإنسان أن يتصور الحنق والهلع اللذين أثارتهما مثل تلك الصورة الملكية في شعور طائفة المحافظين على التقاليد في عصر «إخناتون»، وهم أولئك الأشراف من رجال التقاليد في البلاط الملكي الذين يرون وجوب تصوير الفرعون كما جرى تصويره من ألفي سنة في هيئة حضرة سامية جالسة في جلال جامد؛ أي في صورة شخصية رزينة مقدسة لا يشوبها أي مظهر من مظاهر المشاعر البشرية أو جهات الضعف الإنسانية. وقد بقي محفوظا لنا للآن ذلك الكرسي الجميل الذي جيء به من قصر «تل العمارنة» وأودع في مقبرة «توت عنخ آمون»، وهو مزين بمنظر يظهر فيه الملك الشاب جالسا في استرخاء بحالة تدل على التبسط وعدم التكلف؛ إذ نشاهد إحدى ذراعيه ملقى بها في استهتار فوق ظهر كرسيه، وأمامه الملكة الشابة الجميلة واقفة وفي يدها إناء صغير من العطور تصب منه برشاقة أنيقة بضع نقط من الطيب فوق ملابس زوجها الملك. ونجد ها هنا لأول مرة في تاريخ الفن منظرا موضوعه العلاقات الإنسانية، اتخذ فيه الفن المعبر الحياة الإنسانية موضعا لبحثه. وهذان مثلان فقط من بين الأمثلة العديدة التي يمكن ذكرها للاستدلال على شخصية «إخناتون» القوية، واستعداده لطرح قيود التقاليد بغير أدنى تردد في سبيل تأسيس عالم من الأشياء على حقيقتها الفطرية السليمة.
ولذلك نرى من المهم أن نلاحظ أن «إخناتون» كان رسولا لكل من عالمي الطبيعة والحياة الإنسانية، فكان مثله في ذلك مثل «عيسى» استقى دروسه من سوسن الحقل وطيور الهواء وسحب السماء من جهة، ومن المجتمع الإنساني الذي يحيط به من جهة أخرى، كما يتمثل في مثل قصة «الابن المبذر»
15
أو «الطيب السامري»
16
أو «المرأة التي أضاعت قطعة نقودها».
17
وعلى ذلك النمط استقى ذلك الرسول المصري القديم الثائر تعاليمه من التأمل في مشاهد عالمي الطبيعة والحياة الإنسانية معا.
ومع أن الفن المعبر عن تلك الحركة الثورية التي كان زمامها في يد «إخناتون» قد وجد مرتعا جديدا في حياة الإنسانية، فقد كان هناك شيء كثير لم يكن في مقدور «إخناتون» أن يتجاهله من التجاريب المصرية عن المجتمع البشري، فقد قبل «إخناتون» عن طيب خاطر المذهب الشمسي الموروث الذي ينطوي على نظام خلقي عظيم، وإذا كنا قد خصصنا في هذا المختصر التاريخي للأخلاق عند قدماء المصريين جزءا لا بأس به عن «عقيدة التوحيد» الإخناتونية الثورية، فما ذلك إلا لأن تلك الحركة التوحيدية هي ذروة التقدير القديم للنظام الخلقي الذي نودي به على لسان المفكرين المصريين القدماء الذين عاشوا في عهد الأهرام وأسسوا مملكة عظيمة من القيم الخلقية العالمية التي تتمثل في تلك الكلمة الشاملة الجامعة «ماعت» (العدالة) التي أوجدها إله الشمس في «هليوبوليس»، وقد بني هذا التوحيد الجديد على أسس ثلاثة:
أولها:
كما رأينا، كان سياسيا، حتى إن اسم إله الشمس الجديد كان يوضع في الطغراء الفرعوني باعتباره شعارا ملكيا مزدوجا.
والثاني:
اعتبار سلطان إله الشمس وسيطرته العالمية قوة طبيعية ملموسة حاضرة في كل مكان تتمثل في حرارة الشمس ونورها.
والثالث:
كان التطور المنطقي لمذهب «هليوبوليس» الخاص بالنظام الخلقي، الذي كان أقدم من عهد «إخناتون» بنحو ألفي سنة.
بقي علينا الآن أن نفحص آخر هذه الأسس الرئيسية التي قام عليها التوحيد عند «إخناتون»، على أننا عند هذه النقطة نشعر بقلة ما لدينا من المصادر المدونة وضآلتها، وإن كانت هذه المصادر النادرة التي بقيت لنا من ذلك العصر تكشف لنا عن مدى التقدم في تفكير ذلك الملك الشاب خلال نصف الجيل الذي حكمه.
ولا يمكن الباحث أن يظن أن حركة حية نامية ذات تقدم مثل الحركة التي قام بها «إخناتون» لم تكن قد أنتجت أبحاثا دونت فيها تعاليمه، بل إن لدينا من الدلائل ما يثبت وجود مثل تلك الأبحاث؛ ففي مقابر «تل العمارنة» التي ولع أصحابها من أشراف رجال البلاط الإخناتوني بأن يرسموا فوق جدرانها ما كانت عليه علاقاتهم مع مليكهم، نجد أنهم كانوا يشيرون باستمرار إلى ذلك المذهب الجديد، ولم يكن لديهم للتعبير عنه إلا كلمة واحدة وهي كلمة «التعليم»، وهذا التعليم منسوب للملك وحده، ولا يمكن أن يتسرب إلينا شك في أن ذلك التعليم هو الاسم العام للبيان الرسمي لمذهب «إخناتون» الذي كتب طبعا في رسالة من نوع ما على أوراق البردي.
على أنه بعد سقوط «إخناتون» لم يترك أعداؤه حجرا واحدا لم يقلبوه لإزالة كل أثر باق يدل على حكمه الممقوت عندهم، وقد دمروا بطبيعة الحال مخطوطات الملك هذه المدونة على البردي. وأما معلوماتنا عن تلك الحركة من ناحية العقائد الدينية فهي مستقاة بأجمعها من نتف وقطع وقعت لنا عرضا، وبخاصة تلك الأناشيد التي زين بها أشراف رجاله جدران مقابرهم.
وحينما نقرأ أنشودة «آتون» العظمى لأول مرة يدهشنا أن مثل هذه الأنشودة التي تعبر عن الوحي الديني، لا تشتمل إلا على إشارات قليلة عن موضوع الأخلاق والسلوك الإنساني، وهو الذي كان قد احتل مكانة بارزة - كما نعلم - بين عناصر الديانة الشمسية الهليوبوليسية التي تضرب إليها حركة «إخناتون» الدينية بوشائج قوية، ويرجع السبب في ذلك إلى أن القوة الرئيسية التي حركت روح «إخناتون» كانت العاطفة.
والواقع أن ثورة «إخناتون» كانت في روحها أولا وقبل كل شيء عاطفية بدرجة قوية، نجد هذه الحقيقة ظاهرة جلية في الأناشيد ، كما نجدها كذلك بارزة جدا في الفن. فعندما يرسم لنا أحد فناني «تل العمارنة» صورة «إخناتون» أو أحد رعاياه وهو يتعبد، رافعا ذراعيه تضرعا إلى إله الشمس، فإن وسائله العاطفية في مثل تينك الذراعين المرفوعتين تبلغ في شدة جاذبيتها روعة ذراعي «إلونورا دوز»
Eleonora Duse
18
حينما تبسطهما باستعطاف لاستقبال محبوبها «أرماندو»
Armando . فالذي كان يعبده «إخناتون» هو جمال إله الشمس وفيضه، وهذه العاطفة هي التي نقلتها إلينا أناشيد «تل العمارنة»؛ فهي لذلك لا تحتوي على لاهوت أو خلقيات اجتماعية. وبالرغم من ذلك فإنه من الواضح تماما أن «إخناتون» قد قبل قبولا شاملا اعتناق الخلقيات الهليوبوليسية، التي كانت قد بلغت الذروة في سموها، بل إنه في الواقع أبرز النظام الخلقي للتعاليم الشمسية القديمة في شكل أوضح مما كان عليه في أي وقت كان قبل حكم «إخناتون».
على أن علاقة حركة «إخناتون» هذه الوثيقة باللاهوت الهليوبوليسي ظاهرة في كل نواحيها؛ فقد كان توحيد السلالة الملكية بسلالة إله الشمس على يد كهنة «هليوبوليس» في متون الأهرام، وما ترتب عليه من اعتبار كل فرعون ابنا لإله الشمس، قد نقل إلى الإله «رع» - كما ذكرنا من قبل - صفات الحكم الكريمة التي تشبع بها فراعنة العهد الإقطاعي؛ ففي ذلك الحين كان الفرعون قد صار «الراعي الطيب» أو «راعي الماشية الطيب». وهذه الصورة التي تنطق بعطف الملك الأبوي وحمايته لرعاياه قد نقلت إلى «رع»، وبذلك اكتسب «رع» لنفسه، بشكل مدهش، صفات إنسانية وعطفا أبويا نتيجة لذلك التطور الذي حدث في تصوير الملكية في العهد الإقطاعي.
وبذلك كانت تلك القوى الاجتماعية التي أوجدت هذا المثل الأعلى للملكية، هي المؤثرات النهائية التي - بمعونة الملكية - قد زادت من سلطان «رع » وأكسبته صبغة إنسانية، بعد أن كان مركزه قبل ذلك سياسيا لا يخرج عن كونه فكرة آلية مهملة، فكأن هذه الصفة الإنسانية التي كسبها «رع» كانت قريبة من التي كان ينشدها «أوزير» نفسه.
وكانت التعاليم الإخناتونية منجذبة بكليتها نحو هذا الميل الذي ينعطف إليه المذهب الشمسي؛ إذ قد عثرنا على أنشودة للشمس من عهد والد «إخناتون» سمي فيها إله الشمس «الراعي الشجاع الذي رعى قطعانه»، وهذه إشارة تربط بوضوح مذهب «آتون» بالحركة الاجتماعية الخلقية التي ظهرت في العهد الإقطاعي.
وحينما نعيد إلى ذاكرتنا الآن الأصل الهليوبوليسي لماعت (الحق، الصدق، العدالة) التي صارت تمثل في إلهة، هي بنت إله الشمس، يجب أن نلاحظ ما جاء في كتاب الموتى من أن جماعة الآلهة الذين يجلسون في قاعة «ماعت» لا يوجد بأجسامهم إثم ولا بهتان، وأنهم يعيشون على الصدق «ماعت»، وهناك يؤكد الميت براءته لأولئك الآلهة بقوله: «إني أعيش على الصدق وأتزود من صدق (أو عدالة) قلبي.»
فهذا المذهب الشمسي الذي كان يشد أزره أولئك الآلهة في «هليوبوليس» قد اعتنقه الآن «إخناتون» بجوارحه، حتى إنه كان على الدوام يذيل اسمه الملكي الرسمي في كل آثار الدولة العظيمة بهذه الكلمات: «العائش على الصدق (ماعت)»، وهذا النعت الهام الذي ألحق باسم «إخناتون» جعله الممثل الرسمي والمعاضد للنظام الخلقي القومي العظيم، الذي تصوره كهنة المذهب الشمسي قديما في «هليوبوليس» في عهد يرجع تاريخه إلى عصر الأهرام، وألبسه المفكرون الاجتماعيون والرسل في العهد الإقطاعي المصري أهمية خلقية فاقت ما كان عليه في أي زمن من قبل. فإذا أعدنا إلى ذاكرتنا ما كان يدعيه «إخناتون» من التسلط على سائر العالم بلا برهان، ظهر لنا أن ما كان يرمي إليه من وراء إضافته تلك الكلمات إلى اسمه الملكي إنما هو امتداد سلطان النظام الخلقي القديم القومي حتى يصير نظاما مسيطرا على سائر العالم الدولي العظيم الذي كان هو سيده إذ ذاك.
وبذلك نجد أن سيطرة مملكة الشمس القديمة للقيم الخلقية، وقد امتدت إلى حدودها العالمية المنطقية، وأن «التوحيد» الذي كان منطويا في ثنايا تعليم كهنة هليوبوليس، قد نطق بهما «إخناتون» نطقا لا إبهام فيه ولا خفاء.
وتمشيا مع هذه الحقيقة قد سمى «إخناتون» عاصمة ملكه الجديدة في تل العمارنة «مقر الصدق (ماعت)»، كما جاء في الأنشودة القصيرة، وقد كان أتباعه على علم تام باعتقاده المتين في «ماعت»؛ ولذلك كان رجال البلاط الملكي يعظمون «الصدق» كثيرا؛ إذ يقول أحد أعلام أعوان الملك، وهو «آي» الذي قام بخلع الملك «توت عنخ آمون» فيما بعد عن عرشه:
إنه (يعني الملك) أحل الصدق في جسمي
وإن الذي أمقته هو الكذب
وإني أعلم أن «وان رع» (يعني إخناتون) يمرح
فيه (يعني الصدق).
ثم يؤكد نفس هذا الرجل أن إله الشمس: «قلبه مرتاح للصدق وأن الذي يلعنه هو الكذب.»
كما يذكر لنا موظف آخر فوق جدران قبره في «تل العمارنة»:
سأتكلم لجلالته (لأني) أعلم أنه يعيش فيه (أي في الصدق)
وإني لا أفعل ما يكرهه جلالته؛ لأن الذي أمقته
هو حلول الكذب في جسمي
ولقد قررت الصدق لجلالته؛ لأني أعرف أنه يعيش فيه
إنك «رع» والد الصدق ...
وإني لم آخذ رشوة للكذب
كما أني لم أقص الصدق لأجل الرجل العسوف.
ويجب أن نذكر هنا مرة ثانية - كدليل هام على تفاني «إخناتون» في الصدق - أنه لم يقصر فضيلة الصدق على السلوك الشخصي فحسب، بل أدخله كذلك في ميدان الفن، حيث صارت له فيه نتائج ذات آثار بارزة في التاريخ.
وعلى ذلك كان «رع» لا يزال في ذلك الانقلاب الذي قام به «إخناتون» المنشئ المعاضد للصدق أو الحق (ماعت)؛ أي لذلك النظام الخلقي والإداري كما كان الحال منذ أكثر من ألفي سنة مضت. وإذا كنا لم نسمع عن حساب الآخرة في مقابر «تل العمارنة»، فمن الواضح أن ذلك إنما يرجع إلى نبذ سحابة الآلهة وأنصاف الآلهة وعلى رأسهم «أوزير»، ممن كانوا يؤلفون هيئة المحاكمة في حساب الآخرة بشكلها الموضح في كتاب الموتى. فأولئك الآلهة قد بادوا الآن، واختفى - على ما يظهر - منظر المحاكمة التمثيلي باختفائهم، وإن كان من الواضح أن المستلزمات الخلقية في المذهب الشمسي - الذي نشأت فيه فكرة المحاكمة في الآخرة وانتشرت - لم تنته المطالبة بها في التعاليم الإخناتونية ولم تفتر.
وكذلك الحملة التي قام بها الكهنة على عالم الأخلاق بالعوامل السحرية الآلية لضمان براءة الميت فيما بعد الموت، فقد أقصاها «إخناتون» بداهة عن تعاليمه، فصارت الجعل القلبية (الجعارين)، التي كانت مألوفة من قبل، لا ينقش فوقها التعاويذ السحرية لإخماد وحي «الضمير» عند المتهم، بل صارت آنئذ ينقش فوقها أدعية بسيطة موجهة إلى «آتون» طلبا لحياة طويلة وعطف وطعام. وما ذكرناه عن «الجعل» (الجعارين) ينطبق تماما على الدمى (يوشبتي)، التي هي تماثيل صغيرة كان الغرض منها القيام بالأعمال بدلا من الميت إذا طلب لذلك فيما بعد الموت في الحياة الآخرة.
وإذا فكرنا مليا فيما ذكر نجد أن أمثال تلك التغييرات الأساسية تبسط أمامنا عظم المد الجارف، من الفكر والعادات والتقاليد الموروثة عن الأقدمين، الذي تحول عن مجراه على يد ذلك الملك الشاب الذي كان يقود ذلك الانقلاب، وأننا إنما نبدأ في تقدير قوة شخصية «إخناتون» العظيمة عندما ندرك هذه الناحية من حركته الدينية إدراكا واضحا؛ فقد كانت الوثائق الدينية قبل عهده تنسب عادة إلى الملوك القدامى والحكماء الأولين، وكانت قوة أية عقيدة ترتكز بوجه خاص على ما يعزى إليها من الأقدمية الساحقة وعلى قدسية العادة العريقة في القدم. وقد كان معظم تاريخ العالم حتى عهد «إخناتون» عبارة عن سير الحوادث بمجرد سطوة التقليد الذي كان سلطانه لا يعارض، وليس لدينا استثناء بارز في هذا المجال إلا ذلك الطبيب النطاسي والمهندس العظيم «إمحتب» الذي أدخل على فن العمارة البناء بالأحجار فأقام أول مبنى من الحجر، وهو ذلك القبر الهرمي الشكل الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد، وفيما عدا هذه الشخصية من المصريين الأقدمين لم يكن الناس سوى نقط من الماء في تيار الحياة الجارف العظيم.
فإذا استثنينا «إمحتب» هذا كان «إخناتون» أول شخصية مستقلة ظهرت في التاريخ، فإنه قد أحرز مكانته السامية بنفاذ بصيرته وحسن تدبيره وتفكيره العقلي، ثم نهض بنفسه علانية وقام في وجه كل التقاليد ونبذها ظهريا، ولم يلجأ في توطيد مذهبه الجديد إلى أية وسيلة من وسائل الأساطير والروايات العتيقة السائدة عن سلطان الآلهة، ولا إلى شيء من العادات القديمة التي اكتسبت قداسة بمر الدهور، بل اعتمد فقط على البراهين العتيدة الظاهرة الدالة بنفسها على سلطان إلهه وهي أدلة ظاهرة للعيان أمام الجميع.
وأما من جهة التقاليد، فإنه اجتهد في القضاء عليها أينما وجد في السجلات التي يمكن الوصول إليها أي مظهر مادي للآلهة الأخرى. على أن هذه السياسة، التي كان قوامها الهدم إلى هذا الحد، كان لا بد حتما من أن تصادف معارضة قوية فتاكة، وسنفحص الآن بعض عوامل تلك المعارضة.
الفصل السادس عشر
سقوط «إخناتون»
عصر انتشار التنسك الشخصي: الكهانة وخاتمتها
قامت حركة «إخناتون» بين شعب عظيم ما لبث أن وقف مجرى حياته فجأة، وحول إلى اتجاه غريب عنه بالرغم من قوة اندفاعه التي كانت لا تكاد تقاوم، فأصبحت أماكنه المطهرة وقد عبث بها، ومزاراته المقدسة المحاطة بذكريات آلاف السنين وقد أوصدت وطردت كهنتها، كما صودرت الأموال المربوطة على القرابين والمعابد، ومحي ذلك النظام العتيق جملة واحدة، ففي كل مكان كانت طوائف بأجمعها تسير مدفوعة بالغرائز التي تجري في أجسامهم منذ قرون لا يحصيها العد وفق عادات وأخلاق موروثة، فإذا ذهبوا إلى أماكنهم المقدسة وجدوها كأن لم تغن بالأمس، وهناك يقفون ذاهلي العقول أمام تلك المعابد القديمة الموصدة الأبواب، وتلك القاعات المبجلة عند القوم منذ الطفولة الأولى، والتي كانت فيما مضى تزخر بأفراح الجماهير أيام الأعياد المقدسة في «أسيوط»، قد صارت الآن صامتة خاوية.
وفي كل يوم، عندما كانت المواكب الجنازية تعرج على حافة الصحراء وفوق هضبة الجبانة، كانت تفاجأ بأن «أوزير» ذلك المعزي والصاحب العظيم والمحامي عن الأموات أمام كل خطر، قد نفي من البلاد ولم يعد في إمكان أي إنسان أن يذكر اسمه، وحتى في الأيمان التي كان يعقدها القوم، وهي التي اختلطت بدمائهم مع ألبان أمهاتهم في الرضاعة ، فإنه كان محظورا عليهم أن تخرج من شفاههم تلك الأسماء التي تكاد تنطق بها ألسنتهم عفوا، فكان لا بد ألا يشتمل اليمين القديم أمام القاضي في المحكمة إلا على اسم الإله «آتون» فقط، فكان كل ذلك في نظر القوم كما لو طلب الآن إلى رجل من عصرنا أن يعبد «س» ويحلف باسم «ص ».
ولا بد أن كثيرا من الكهنة المتذمرين الذين كانوا يكظمون غيظهم الشديد في صدورهم، قد مزجوا سخطهم ذلك بسخط طوائف بأسرها من الباعة وأصحاب الحرف الحانقين، كالخبازين الذين لم يعودوا يكسبون عيشهم من بيع «فطائر الشعائر» - كما كان قديما - خلال أيام الأعياد التي كانت تقام في المعابد، وكالصناع الذين لم يعد في مقدورهم الآن بيع تعاويذ الآلهة القدامى عند أبواب المعابد، وكالحفارين المرتزقة الذين أصبح ما صنعوه من تماثيل الإله «أوزير» مكدسا تحت الأتربة المتراكمة في عدة من المعامل التي صار عاليها سافلها، أو كحجاري الجبانة الذين وجدوا أن ما صنعوه من شواهد القبور المزخرفة بالنقوش الزاهية المنقولة من كتاب الموتى قد استبعد من مدينة الأموات، وكالكتاب الذين كانت لفائفهم البردية المخطوطة المنقولة من كتاب الموتى أيضا - تعد إذ ذاك - لعنة لمن يستعملها إذا كانت مملوءة بأسماء الآلهة القدامى، أو إذا كانت تحمل كلمة الإله بصيغة الجمع، وكرجال الكهانة المسرحيين والممثلين الذين صاروا يطردون من تلك الأماكن المقدسة في الأيام التي اعتادوا فيها أن يمثلوا للشعب تمثيلية «المأساة الأوزيرية»، وكطوائف الحجاج المتذمرين في «العرابة المدفونة» ممن كانوا يعتزمون الاشتراك في تلك التمثيلية التي تعبر عن حياة «أوزير» وموته ثم بعثه بعد الموت، وكالمشعوذين الذين حرموا كل أسهم تجارتهم الخاصة بالاحتفالات السحرية التي كانت تستعمل بنجاح منذ أيام أقدم الملوك منذ ألفي سنة، وكالرعاة الذين صاروا لا يجسرون بعد أن يضعوا رغيفا وإناء من الماء تحت شجرة راجين بذلك الفرار من غضب الإلهة التي تسكن تحت الشجرة، والتي كان في مقدورها أن تنزل المرض بأهل المنزل عند غضبها، وكالفلاحين الذين صاروا يخافون أن ينصبوا تمثالا ساذجا «لأوزير» في الحقل ليطردوا به الشياطين المؤذية المسببة للجدب والقحط، وكالأمهات اللائي يخشين وهن يدللن أطفالهن عند الشفق أن ينطقن بتلك الأسماء المقدسة القديمة وبالصلوات التي تعلمنها في طفولتهن ليبعدن عن صغارهن شياطين الظلام الراصدة لاختطافهم.
وفي وسط هذه البلاد جميعها، وقد عمتها ظلمة سحب التذمر الخانق، ضرب ذلك الملك الشاب المدهش هو ومن حوله من تلك الطائفة المؤيدة له، سرادق دينه في رائعة النهار، وفي هدوء لا شعور معه بذلك الظلام الدامس، الذي شمل كل ما يحيط به، والذي يزداد في كل يوم ظلمة منذرة بعظيم الخطر.
فإذا رسمنا حركة «إخناتون»، ومن خلفها ذلك التذمر الشعبي الذي سبق وصفه، ثم أضفنا إلى تلك الصورة ما هو أقرب من ذلك خطرا؛ وهو معارضة الكهانة القديمة السرية، ومعارضة حزب «آمون» الذي لم يكن بعد قد غلب على أمره تماما، وطائفة الجنود الأشداء الذين كانوا ساخطين على سياسة الملك السلمية في آسيا وعدم اهتمامه بإدارة أملاكه الدولية والمحافظة عليها، أدركنا شيئا عن تلك الشخصية القوية لذلك القائد الأول في عالم الفكر في التاريخ.
ويعد حكمه أقدم محاولة لسيطرة آراء الحاكم التي لا تحفل بحالة الشعب الذي فرضت عليه تلك الآراء ومدى استعداده لقبولها. وقد عبر عن مثل ذلك «ماثيو أرنولد»
Mathew Arnold
تعبيرا حسنا عند تعليقه على الثورة الفرنسية بقوله: «ولكن شدة الولع بالإسراع في القيام بتطبيق سياسي لكل تلك الآراء الجميلة التي يمليها العقل كان سيئ العاقبة ... فالأفكار لا يمكن أن تقدر فوق قيمتها ولا تعشق لذاتها، كما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في حدودها أكثر مما يجب، ولكن إذا نقلت الأفكار فجأة إلى عالم السياسة والحياة العملية بقصد قلب نظام العالم بما تحويه من الأوامر، فإن هذا شيء آخر من جميع الوجوه.»
ولكن «إخناتون» لم يكن لديه سابقة ما مثل الثورة الفرنسية للرجوع إليها والاعتبار منها، بل كان هو نفسه أول ثائر عالمي، وقد كان مقتنعا كل الاقتناع بأن في مقدوره أن يضع في قالب جديد عالم الديانة والفكر والفن والحياة بعزم ثابت لا يقهر، وأن يجعل آراءه في الحال ذات تأثير عملي فعال.
وعلى ذلك قامت مدينة سهل «تل العمارنة» الجميلة، فكانت جزيرة خيالية للنعيم في وسط بحر من التذمر، بل كانت حلما مملوءا بالآمال الخيالية في عقل غاب عنه تماما أن الماضي لا يمكن محوه. والعجب أن ظهور مثل ذلك الرجل لأول مرة لم يكن إلا في الشرق، وفي مصر بالذات، حيث لم يكن يوجد رجل آخر يستطيع نسيان الماضي غير «إخناتون». على أن عالم أمم البحر الأبيض المتوسط العظيم، الذي كانت مصر تسوده حينذاك، لم يكونوا أحسن استعدادا لقبول ديانة دولية أكثر من سادتهم المصريين. ويذكرنا خيال «إخناتون» الدولي بآمال «الإسكندر الأكبر» الذي جاء بعده بألف عام، ولكنه كان سابقا لعصر الإسكندر بعدة قرون.
على أن الحقيقة التي كانت تحيط به والمركز المهدد، اللذين كان «إخناتون» يدعو حزبه لتبصرهما كل يوم، قد صورا في وصف كتبه زوج ابنته «توت عنخ آمون» بعد موته بمدة، حيث قال:
وأغلقت معابد الآلهة من «إلفنتين» (يعني الشلال الأول) إلى مستنقعات الدلتا ...
وهجرت أماكنهم المقدسة ونبت فوق دمنها المرعى.
وصارت معابدهم كأن لم تغن بالأمس، وبيوتهم صارت طرقا معبدة والبلاد كانت في مأزق سيئ.
وأما الآلهة فقد هجرت هذه الأرض.
وإذا أرسل قوم إلى سوريا لمد حدود مصر لم يكن الفوز حليفهم قط.
وإذا دعا الناس إلها لإنقاذهم لم يجب دعوته، وكذلك إذا استعطف الناس إلهة لم تجب قط، فكانت قلوبهم في أجسامهم عليها أقفالها.
وكان أتباع «إخناتون» في مثل هذه الأحوال يدعون أن يستمر حكمه حتى «تصير البجعة سوداء ويصير الغراب أبيض، وإلى أن تتحرك الجبال وتسير ويجري الماء من أسفل إلى أعلى.»
أما سقوط ذلك الثوري العظيم فيحوطه الغموض التام، وكانت النتيجة المباشرة لسقوطه هي إعادة عبادة «آمون» والآلهة القدامى، فرضها كهنة «آمون» على «توت عنخ آمون»، ذلك الشاب الضعيف زوج ابنة «إخناتون»، ثم أعادوا النظام القديم إلى ما كان عليه. ونجد في بيان «توت عنخ آمون» عن إعادة عبادة الآلهة إيضاحا شائقا للحالة العقلية والدينية لقادة رجال الحكم بعدما اختفى «إخناتون»، وقد أشار الملك الجديد إلى نفسه في هذا البيان بقوله:
إنه الحاكم الطيب الذي قام بأعمال عظيمة لوالد كل الآلهة (يعني «آمون»).
والذي أصلح له كل ما كان مخربا حتى صار آثارا خالدة.
ومحيت من أجله الخطيئة في الأرضين (مصر) وبذلك دامت العدالة (يعني ماعت) ...
وجعل الظلم شيئا تمقته البلاد كما كان الحال في البداية.
ويتضح من ذلك أن سقوط «إخناتون» اعتبر في نظر أعدائه المنتصرين إعادة للنظام الخلقي القديم «العدالة» (يعني ماعت) وإقصاء للظلم. وبعد ذلك أخذ «توت عنخ آمون» يصف الحالة التي ورثها، في فقرة ذكرناها فيما تقدم.
وهكذا لعنت ذكرى ذلك الرجل العظيم صاحب المثل الأعلى، ولم يظهر اسم إخناتون قط في القوائم الملكية العظمى المسجلة فوق الآثار بين أسماء كل ملوك مصر الماضين، وعندما كانت الإشارة إلى اسمه ضرورية في الوثائق الحكومية في عهد الفراعنة الذين أتوا فيما بعد كان يسمى «مجرم أخيتاتون».
وقد كان فرح كهنة «آمون» باسترداد سلطانهم فرحا عظيما، ولدينا أنشودة لآمون من ذلك العصر تصف لنا فوز أتباعه وتنطق بشماتتهم عندما كانوا ينشدونها، حيث جاء فيها:
إنك تصل إلى من يبغي عليك
والويل لمن يهاجمك
مدينتك تبقى
ولكن من يهاجمك يهوي
وشمس من لا يعرفك تغيب ... يا آمون!
وأما من يعرفك فإنه يضيء
ومعبد من هاجمك في ظلمة
بينما جميع الأرض في نور.
ففي هذه الأنشودة يظهر جليا حقد أعداء «إخناتون» المشبع بالتشفي والسخرية المملوءة بالشماتة عندما تقول:
وشمس من لا يعرفك (يعني إخناتون) تغيب ... يا آمون!
ومعبد من هاجمك (يعني إخناتون) في ظلمة.
وهكذا كانت حالة معبد الشمس «بتل العمارنة» الذي كان فنانو «إخناتون» يصورونه دائما مغمورا ببحر من ضوء الشمس، بينما كان «آتون» المشع يشرق من فوقه وقد ضمه في أحضان أشعته الفياضة.
ولم يبق الآن شيء من معبد ذلك النور الأبدي، الذي كان يوما ما ساطعا، إلا بقايا ضئيلة من أساسه، فهل بقي أي شيء آخر؟ وهل تجري أقدم ثورة للعقل البشري مجراها ولا تترك خلفها نتيجة باقية؟
إن ثورة «إخناتون» كانت عنيفة في طرقها أكثر مما يجوز، فلم يخلد شيء مما أحدثته من الانقلاب؛ فالفن المدهش الذي أحدثته كان مهذبا أكثر مما كان يلزم في التصور وقوة التعبير فلم يعش طويلا، وقد كشفت لنا معامل الملك التي كانت في «تل العمارنة» عن منزلة حب ذلك الفن المدهش عند أولئك الفنانين الملكيين، وقد ترك عملهم هذا أثره في فن العصر الذي جاء بعده، غير أن فني النحت والتلوين لم يستردا قط تلك الحرية التامة التي نعما بها في عهد «إخناتون»، كما أنهما لم يلقيا ثانية جو تلك الحقيقة الدقيقة التي كانت تسود فن معامل «تل العمارنة».
وأما في الأخلاق فلم يعد تعظيم الصدق بتلك الدرجة السامية التي بلغها في تصور «إخناتون»، ومما لا شك فيه أن تقديره العاطفي للجمال والفيض اللذين شاهدهما في صنع الإله قد ترك أثرا لم ينس قط بأكمله، وليس من شك مطلقا في أن تلك الأنشودة المصرية قد بقيت في شكل ما بعد موت «إخناتون»، حتى عرفها العبرانيون بعد قرون مضت واستعملها مؤلف المزمار الرابع بعد المائة، وبذلك لم تختف جملة روح مذهب «آتون»، وسنجد فيما بعد برهانا آخر على تأثيرها، وعلى أن عنف هجوم إخناتون التعصبي على التقاليد قد جعل من الطبيعي أن ينزل عليه وعلى حركته الانتقام الجزائي الذي كانت خاتمته الدمار التام.
فلا غرابة إذن في أن تلك العاصفة حينما هبت اكتسحت على وجه التقريب كل أثر لأقدم باحث عن المثل الأعلى. وليس لدينا ما ينبئنا عنه إلا القليل فوق ما عثر عليه من بقايا مدينته، التي كانت بمثابة مركز منعزل للمثل العالية، التي لم يدركها غيره أو يعرفها، إلا بعد مضي قرون عدة، حينما تألف أولئك البدو الذين كانوا إذ ذاك ينزحون إلى أقاليم «إخناتون» الفلسطينية وكونوا أمة، كان لها من المطامح الاجتماعية والخلقية والدينية ما كان من نتائجه ظهور أولئك الرسل العبرانيين وأصحاب المزامير، ليواصلوا السير بالروح والرؤيا اللتين سبقهم فيهما أصحاب الأحلام الاجتماعيون من المصريين الأقدمين.
وكان من جراء انهماك «إخناتون» في معنويات ثورته العظيمة أن عكفته على التأمل والتيه في الأحلام بقصر الشمس في «تل العمارنة»، في حين أن الحيثيين، وهم الأعادي الجدد أصحاب البأس الشديد في غربي آسيا، كانوا قد قاموا بفتح سريع لدولة مصر الآسيوية، وفي حين أن الكهنة والجنود بين شعبه نفسه قد قوضوا سلطان الأسرة الثامنة عشرة تقويضا تاما، وهي أسرة ذلك الفرعون ذات الصولة التي سادت الشرق القديم نحو مائتين وثلاثين سنة. وبهدم سلطان «إخناتون» بدأت مصر عصرا جديدا يختلف عما قبله. حقا إن بهاء عظمتها الظاهري وذلك المظهر الرائع لثباتها الطويل المدى كان ذكرهما لا يزال يتردد في تعابير الافتخار اللفظية التقليدية، ولكن الحالة الواقعية أخذت تضمحل بعض الشيء عندما اقترب القرن الرابع عشر ق.م من نهايته.
وكان أصداء المذهب الإخناتوني لم ينقطع ترددها بعد، كما كانت علاقته بالتعليم الشمسي الهليوبوليسي القديم لا يزال معترفا بها، بل إن نفس الأنشودة المعبرة عن الفوز (المفعم بالشماتة) الذي أحرزه كهنة «آمون» ضد مذهب «إخناتون»، تنم عن اتصالها بالمذهب الشمسي القديم، وعن تعبيرها عن أبوة «رع» عندما تنتقل إلى مديح «آمون» وتصنفه بأنه «الراعي الطيب» و«النوتي»، وهي أفكار نبتت في أثناء الحركة الاجتماعية للعهد الإقطاعي المصري كما تقدم ذكره فيما سبق.
والواقع أنه بالرغم من العودة إلى عبادة «آمون» فإن الأفكار والاتجاهات التي نشأت منها ثورة «إخناتون» لم تختف جملة. حقا لم يكن في الإمكان اتباعها على أنها توحيد يشمل القضاء على الآلهة الأقدمين، غير أن نواحي «آتون» الإنسانية والخيرية التي تتمثل في عنايته بكل البشر كانت قد استولت على خيال الطبقة المفكرة؛ ولذلك نجد نفس تلك الصفات التي كانت لآتون تنسب آنئذ إلى «آمون»، حيث كان الناس يرتلون له ما يأتي:
1
رب الصدق ووالد الآلهة
خالق الناس وبارئ الحيوان
رب كل كائن
ومنشئ شجرة الحياة
خالق الأعشاب ورازق الماشية لتحيا.
وهذه الأنشودة التي اقتبسنا منها هذه الأسطر لا تتردد في تسمية ذلك الإله الممدوح باسم «رع» أو «آتوم»، دالة بذلك على أن حركة «آتون» قد تركت السيادة التقليدية لإله الشمس «رع» الهليوبوليسي دون مساس بها، وكذلك نجد فيها قطعة أخرى تحتوي على ترديد لأصداء مذهب «آتون»، حيث جاء بها ما يأتي:
سلام لك! يا رع يا رب الصدق
الذي أمر فوجدت الآلهة
يا آتوم الذي خلق الناس
والذي حدد صورهم
وخلق أرزاقهم
والذي ميز لون (كل جنس) عن الآخر
والذي يسمع دعوة من في الأسر
والذي تتدفق من قلبه الرحمة عندما يدعوه إنسان
والذي يخلص الضعيف من المستكبر
والذي يفصل بين الضعيف والقوي
رب المعرفة الذي في فمه الأمر السائد
والذي يأتي النيل حبا فيه
رب الحسن عظيم الحب
الذي بمجيئه يحيا البشر.
وكذلك بقيت الجمل الدالة على التوحيد منبثة بين سطور هذه الأنشودة بلا تردد، وإن كانت الأنشودة دائما تشير إلى الآلهة، فتقول:
الفريد في ذاته، الخالق لكل كائن
الواحد الأحد، خالق كل موجود
والذي نشأ الناس من عينيه
وخرجت من فمه الآلهة
خالق الأعشاب للماشية
وشجرة الحياة لبني الإنسان
والذي يضع قوت السمك (في) النهر
والطيور التي تجوب السماء
والذي يمنح النفس ما يوجد في البيضة
ويجعل ابن الدودة يعيش
والذي يضع ما يعيش عليه البعوض
وكذلك الدود والحشرات
والذي يمد الفيران بحاجاتها في أجحارها
والذي يعول الطيور في كل شجرة فتعيش
سلام عليك يا من خلقت كل ذلك
أنت يا واحد يا أحد يا ذا الأذرع العديدة
وأنت (يا نائم) صاح بينما كل الناس تنام
ساع في البحث عن الأشياء الطيبة لماشيته
فالماشية جميعها تقول: السلام عليك
وكل مملكة تقول: العزة لك
بمقدار علو السماء وعرض الأرض وعمق البحر.
على أنه توجد أنشودة لأوزير من نفس ذلك العصر، يخاطب فيها بما يأتي:
أنت أب الناس وأمهم
وهم يعيشون من نفسك.
وفي كل ذلك نجد روح التضرع الإنساني، التي سبق أن ظهرت كما ذكرنا آنفا، إبان التعليم الاجتماعي في العهد الإقطاعي المصري، فإن تفضيل المستضعف على المستكبر المتجبر، والأمر السائد والمعرفة ، وهي صفات مقصورة على الملكية والإلهية، قد عثرنا عليها كلها من قبل في تلك المقالات الاجتماعية لأمثال «إبور»، بل أيضا في الوثائق الحكومية مثل الوثيقة الخاصة بنصيب الوزير الأكبر في الأسرة الثانية عشرة من ملوك المصريين القدماء، وكذلك القول بأن الإله هو الأب والأم لمخلوقاته يرجع بالطبع إلى ما كان عليه الاعتقاد في مذهب «آتون».
ومع أن أمثال تلك الأناشيد لا تزال كذلك تحتفظ في ثناياها بالعقيدة العالمية، والتغاضي عن فكرة القومية، وبالنظر الواسع البعيد المرمى، مما كان شأنه بارزا في تعاليم «إخناتون»، فإنها بالرغم من ذلك تكشف لنا عن ثقة فردية بطيبة الإله، فهي بذلك برهان هام على ظهور الوجدان الشخصي، وتكشف لنا عن بداية عصر جديد ساد فيه التدين الانفرادي الذاتي.
وعندما نمضي في إنعام النظر في المعتقدات البسيطة الخالية من تعقيدات رجال الدين في خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر؛ أي في القرنين اللذين أعقبا عصر «إخناتون»، نجد أن ثقة المتعبد في عناية إله الشمس بكل المخلوقات حتى بأقل مخلوقاته قد تطورت إلى روح تعبدية وشعور فياض بالاتصال الذاتي بالإله، مما ظهرت بوادره من قبل في قول «إخناتون» لإلهه: «وإلى الآن فإنك ما زلت في قلبي.»
وعلى ذلك نجد أن التأثير الباقي لمذهب «آتون» وعقائد العدالة الاجتماعية للعهد الإقطاعي، قد بلغ أوجه في أعمق تعبير، عن الروح الدينية الخالصة، وصل إليه رجال مصر. ويضاف إلى ذلك أن هذه المعتقدات، ذات العلاقة الوثيقة الشخصية بين المتعبد وإلهه، بالرغم من تأصلها أولا في تعاليم فئة قليلة محصورة، قد صارت آنئذ بمرور القرون، ومع التطور التدرجي البطيء، منتشرة انتشارا واسعا بين طبقات الشعب، وكانت النتيجة انبثاق فجر عصر التقوى الانفرادية والإلهام الباطني الذي يناجي به المرء ربه.
والواقع أنه تطور هام، وأنه كالكثير من الانقلابات التي تعقبناها في هذا الكتاب، يعد أقدم تطور رأيناه من نوعه في تاريخ الشرق القديم، وبالنسبة لهذا الموضوع بالذات، في تاريخ البشرية جميعا.
وفي مقدورنا أن نتعقبه في «طيبة» وحدها، ولا يخفى ما في ذلك من الإمتاع الشائق، ما دام في مقدورنا أن نتعرف ما كان يجول في نفوس عامة الشعب الذين كانوا يملئون الطرقات والأسواق، والذين حرثوا الحقول وزرعوها ونهضوا بالصناعات، والذين أمسكوا بدفاتر الحسابات وقاموا بأعمال السجلات الرسمية، والذين قطعوا الأخشاب ورفعوا المياه، وغيرهم من الرجال والنساء الذين وقع على كواهلهم عبء الحياة المادية العظيم في تلك الحاضرة الشاسعة للدولة المصرية القديمة في خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر ق.م.
فنجد - مثلا - أن كاتبا في أحد مخازن الخزانة في جبانة «طيبة» يدعو «آمون» فيقول:
الذي يأتي إلى الصامت
2
الذي ينجي الفقير
ويعطي النفس لكل إنسان يحبه ... ... ... ...
امدد إلي يدك
نجني، اسطع علي
لأنك تخلق قوتي ... ... ... ...
أنت الإله الأحد لا إله غيرك
فأنت نفس رع الذي يشرق في السماء
وآتوم خالق البشر
الذي يسمع دعاء من يدعوه
والذي ينجي الإنسان من المتكبر
والذي يجري النيل لأجل من هو بينهم
والهادي لجميع الأنام
وعندما يشرق يعيش البشر
وقلوبهم تحيا عندما يرونه
والذي يمنح النفس ما في البيضة
والذي يجعل البشر والطيور تعيش
والذي يرزق الفيران بحاجاتها في أجحارها
وكذلك الديدان والحشرات.
فالإله الذي يوجه عنايته إلى كل شيء حتى المحافظة على العصافير، مثل إله «عيسى»، رأى فيه أهل «طيبة» موئلا يشكون إليه مصائبهم وهمومهم في حياتهم اليومية، واثقين في شفقته وحنانه وفيضه. كذلك نصب أحد الرسامين الذين يقومون برسم المناظر الجنازية في جبانة «طيبة» لوحة تذكارية في أحد مزارات الجبانة، تبين كيفية نجاة نجله من مرض ألم به بفضل «آمون» وشفقته العظيمة، فكان «آمون» في نظره الإله الجليل الذي يسمع شكاية الشاكين، ويجيب الفقير المعذب إذا استغاث به، ويمنح النفس من قوس الدهر قناته، ويقص علينا قصة رحمة الإله «آمون» فيما يأتي:
الحمد لآمون
إني أنظم الأناشيد باسمه
وإني أقدم له الحمد
بقدر علو السماء
وعرض الأرض
وأتحدث عن قوته
إلى الذي يسير في النهر منحدرا
والذي يسير في النهر صاعدا
احذره!
وكرر ذلك للابن والبنت
وللصغير والكبير
وخبر بذلك الجيل بعد الجيل
من الذين لم يولدوا بعد
وأخبر بذلك السمك في النهر
والطيور في السماء
وكرره لمن لا يعرفه حتى الآن
وللذي يعرفه
احذره!
أنت يا آمون إنك رب الصمت
الذي يأتي عند استغاثة الفقير
وعندما أستغيث بك في كربتي
ففي الحال تأتي وتنجيني
ليتك تمنح نفسا من يقوس الدهر قناته
وليتك تنجيني وأنا في الأغلال
وعندما يستغيث الناس بك
فإنك أنت الذي تأتي إليهم من بعيد.
إن «نب رع» رسام «آمون» في مدينة الأموات، وهو ابن «باي» رسام «آمون» في مدينة الأموات، قد أقام هذه اللوحة التذكارية باسم ربه «آمون» رب «طيبة» الذي يأتي لإجابة الفقير المستغيث به، مقدما له التسبيحات باسمه لعظم قوته ومقدما التحميدات أمامه وأمام كل الأرض لأجل الرسام «نخت آمون»، وذلك عندما رقد مريضا مشرفا على الموت، وكان في قبضة «آمون» بسبب خطيئته. «لقد وجدت أن رب الآلهة أتى كريح الشمال وأمامه الهواء العطر حتى ينجي الرسام «نخت آمون» ابن رسام «آمون» في الجبانة «نب رع» وابن سيدة البيت «بشد».»
ويقول: «بالرغم من أن العبد اعتاد ارتكاب الخطيئة فإن الرب من شأنه الرحمة؛ لأن رب «طيبة» لا يصرف كل اليوم غاضبا، فإذا غضب لحظة فإن ذلك الغضب لا يدوم طويلا ... بل يلتفت إلينا في شفقة. إن «آمون» يلتفت إلينا بنفسه.»
ثم يقول: «سأضع هذه اللوحة باسمك وسأسجل هذه الأنشودة بكتابتها فوقها، إذا شفيت لي الرسام «نخت آمون». هكذا خاطبتك وقد أجبتني، والآن انظر إلي وقد أنجزت وعدي، إنك رب من يدعوك، أنت الذي ترضى عن الحق والعدالة، أنت رب «طيبة».»
صنعها الرسام «نب رع» وابنه «خاي».»
وهكذا صار إله الشمس أو «آمون» الذي قام مقامه، ملاذا للمحزونين، فهو الذي يسمع الشكوى ويجيب دعاء من يستغيث به، والذي يحضر عند ذكر اسمه، وهو الإله المحب الذي يسمع الصلوات، والذي يمد يده إلى الفقير وينجي اليائس، وبمثل ذلك الأم المصابة التي أهملها ابنها «ترفع ذراعيها للإله فيسمع استغاثتها.»
وصارت آنئذ العدالة الاجتماعية التي نشأت في عهد الدولة الوسطى المصرية حقا يطالب به كل فقير أمام الإله، الذي صار هو نفسه قاضيا عادلا لا يقبل الرشوة، رافعا للحقير، حاميا للفقير، غير باسط يده للغني.
وعلى ذلك يدعوه الفقير فيقول: «يا آمون، أصغ لمن يقف وحيدا في المحكمة فقيرا وخصمه غني، فتضطهده المحكمة (حيث تقول): «فضة وذهبا للكتاب! وثيابا للخدم» ولكن «آمون يستحيل بنفسه إلى وزير أول
3
ليجعل الفقير فائزا، فيتضح أن الفقير على حق وينتصر الفقير على الغني. فأنت يا «آمون» أنت النوتي في المقدمة الذي يعرف الماء، وأنت ساكن السفينة، والذي يعطي الخبز لمن لا خبز عنده، ويحفظ خادم بيته حيا.» ولأن الإله وقتئذ هو «آمون رع» الذي كان في الصورة الأولى ملكا فإننا نجده يخاطب هكذا: «يا إله الأزلية، أنت يا وزير الفقير الذي لا يأخذ المكافأة الدنيئة، والذي لا يقول: «إيت بشهود»، أنت «آمون رع» الذي يعدل على الأرض بأصبعه، والذي كلماته أمام القلب، فيجعل النار مأوى لمن يرتكب الخطيئة في حقه، والمحق مثواه في الغرب (يعني النعيم في الدار الآخرة).»
فالغني والفقير يحيق بهما غضب الإله على السواء إذا وقعت منهما الخطيئة، واليمين الذي يصدر استخفافا أو كذبا يجلب غضب الإله فيصيب الحانث المرض أو العمى، وذلك ما لا يمكن النجاة منه - كما ذكرنا - إلا إذا أتبع المذنب ذلك بالتوبة والندم والتجأ إلى التذلل والخضوع راجيا عطف إلهه.
وهذه أول مرة نجد فيها أن «الضمير» قد تحرر تماما، فيعتذر المذنب ويندم على جهله وارتكابه الإثم، فنراه يقول:
أنت يا واحد يا من لا أحد غيره
أنت يا إله الشمس الذي لا مثيل له
يا حمى الملايين ومخلص مئات الألوف
الذي يحمي من يستغيث به
أنت يا رب «هليوبوليس» (عين شمس)
لا تعاقبني على ذنوبي العديدة
فإني أمرؤ جاهل بنفس جسمه
إني رجل لا عقل له؛ لأني طيلة اليوم أتبع أهوائي
كما يتبع الثور علفه.
ونلاحظ هنا على الفور الفرق الشاسع بين هذا الاعتراف وكتاب الموتى الذي لا تعترف الروح فيه بأية خطيئة، بل تدعي البراءة التامة. على أنه في هذا الموقف الذي يعترف فيه الإنسان الآن بخطيئته مع إبداء غاية التذلل والخضوع، نجد أنه على اتصال باطني بالإله ليلا ونهارا، كما نرى فيما يأتي:
تعال إلي يا رع حور أختي حتى ترشدني.
وكما أننا نجد العبري التقي يحب «بيت المقدس» موطن ربه منذ القدم، كذلك كان ذلك المصري القديم يولي وجهه في تعبده شطر مدينة الشمس العظيمة التي نشأ فيها مذهب آبائه منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة، حيث يقول:
إن قلبي يتطلع إلى «هليوبوليس»
فإن قلبي ينشرح وصدري يفرح
وتضرعاتي يستمع إليها
وحتى صلواتي اليومية وأناشيدي الليلية
وتوسلاتي ستزدهر في فمي؛ لأنها سمعت هذا اليوم.
فالأناشيد القديمة كانت تتألف من أوصاف الحوادث الخرافية، وكلها أمور خارجية بالنسبة لحياة المتعبد، حتى إنه كان في مقدور كل إنسان أن يبتهل إلى الإله بنفس الصيغة التي يبتهل بها غيره، فصارت الابتهالات آنئذ مظهرا لإحساسات باطنية؛ أي إنها تعبير يراد به الاتصال الذاتي بالإله، وهو اتصال يرى فيه المتعبد أن إلهه يغذي الروح كما يغذي الراعي قطيعه، ونجد ذلك في القول الآتي:
يا آمون أنت يا مخرج القطعان في الصباح
ومرشد المتألم إلى المرعى
وكما يقود الراعي القطعان إلى المرعى فأنت كذلك تفعل
يا آمون خذ بزمام المتألم إلى الطعام؛ لأن آمون رع يرعى من يتكل عليه
يا «آمون رع» إني أحبك وقد ملأت قلبي بك
وستنجيني من أفواه الناس في اليوم الذي يفترون فيه علي الكذب
لأن رب الحق يعيش في الحق
وإني لن أستسلم للخوف الذي في قلبي
لأن ما قاله «آمون» يعلو ويزدهر.
حقا إنه كانت توجد وسائل ظاهرية ومادية تزيد في هذا الاتصال الروحي بالإله، وقد رأينا الرجل العاقل يحث غيره بحكمة على «الاحتفال بعيد إلهه، وأن يعيد الاحتفال في مواسمه؛ لأن الإله يغضب على من يتعدى حدوده.»
ومع ذلك فقد كانت أعظم الوسائل تأثيرا لكسب عطف الإله ورضاه هو التدبر والتفكر في أناة وصمت مع الاتصال الباطني، وهو ما كان يراه حتى الحكماء الذين يميلون إلى عدم الخروج جملة على العادات التقليدية، كما نرى فيما يأتي:
لا تكن كثير الكلام، فبالصمت تنال الخير ...
أما من جهة أمر الإله فلعنته في رفع الصوت
تعبد بقلب سليم كل كلمة من كلماته باطنة
فبذلك تنال ما تحتاجه ويسمع كلماتك
ويتقبل قربانك.
بمثل هذه الروح كان يتجه المتعبد إلى ربه كأنه عين ماء روحانية منعشة. ومن ذلك أيضا:
أنت أيتها البئر العذبة للصادي في الصحراء
إنها موصدة لا تفتح للثرثار - ولكنها مفتوحة للصامت
فعندما يأتي الصامت فإنه يجد البئر.
على أن هذه الروح - روح الاتصال الصامت - التي يرجى بها طيبة الإله الرحيمة، لم تكن وقفا على فئة قليلة مختارة، ولا على جماعات الكهنة المتعلمين، فإننا نجد فوق أحقر الآثار لعامة الشعب أن «آمون» كان يدعى بالذي «يأتي للصامت» أو «رب الصامت» كما لاحظنا ذلك فيما تقدم.
وقد كان من جراء ذلك التطور النهائي للشعور الديني الذي توجت به ثورة «إخناتون» الدينية والعقلية، كما توجت به كذلك عقائد العدالة الاجتماعية التي ظهرت في العهد الإقطاعي، أن وصلت الديانة المصرية القديمة إلى أسمى تطوراتها.
وأما في الأخلاق وفي موقف الإنسان تجاه الحياة فإن الحكماء استمروا في المحافظة على روح الاحترام لأسمى المثل العليا العملية، وهو موقف ندرك فيه تقدما محسوسا على التعاليم العتيقة للآباء، فصاروا يحفلون بحسن الذكر وطيب الأحدوثة ويتشددون في المحافظة على السمعة، فيقول الحكيم (آني): «دع كل مكان تحبه نفسك معروفا عند الناس.»
وكانت أحوال السكر وعيشة الخلاعة تعرض بكل نتائجها الوخيمة أمام الشباب، كما كانت أخطار الفحش والفجور تعرض للشباب بدون تحفظ وبصراحة عارية من كل ستر أو حجاب، حيث يقول:
احذر المرأة الأجنبية التي لا تعرف في بلدتها
ولا تنظرن إليها
ولا تعرفنها في جسدها
لأنها فيضان (من الشر) عظيم وعميق لا يعرف الرجل دورانه
والمرأة التي يكون زوجها بعيدا جدا، تقول لك في كل يوم إني جميلة
وعندما تكون بعيدة عن الأعين تقف (أمامك) لتوقعك
في أحابيلها ... يا لعظم الجريمة التي تستحق الموت
عندما يرتكبها الإنسان ولو لم يعلم بذلك الملأ
لأن الإنسان يسهل عليه بعد ارتكاب
هذه الخطيئة أن يرتكب كل خطيئة.
أما أطايب الحياة ومتاعها فيجب على الإنسان أن ينظر إليها بتحفظ فلسفي، ومن الحماقة أن يعتمد الإنسان على الثروة الموروثة ويظنها مجلبة للسعادة: «لا تقل إن جدي من أمي له بيت في ضيعة كذا وكذا، فإنه حين تأتي للقسمة حسب الوصية مع أخيك لا يكون نصيبك إلا حظيرة فقط.»
فإن مثل هذه الأشياء في الواقع لا دوام لها ولا ثبات:
وهكذا نجد أن الناس إلى الأبد لا شيء
فواحد غني وآخر فقير ...
ومن كان غنيا في السنة الماضية قد صار شريدا هذا العام
ومجرى الماء في العام المنصرم قد صار هذا العام مكانا آخر
والبحار العظيمة تصير جافة والشواطئ تصبح بحارا.
فنجد في هذا الكلام مثلا لذلك الاستسلام الشرقي للمقابلة بين أحوال الحياة الدنيوية الذي كان على ما يظهر قد نما وانتشر بين كل الشعوب الشرقية القديمة.
4
ولما انتقل الشعب المصري القديم إلى ألف السنة الأخيرة ق.م كان نمو الضمير الذي تتبعنا مجراه في نحو ألفي عام، قد وصل إلى نهايته بتحقيق هذا الانتقال العميق الهام، الذي كان يمهد لمجيئه من عدة قرون، فإن الوازع الباطني الذي نما في الأصل من المؤثرات الاجتماعية ثم زاد تطوره خلال قرون مضت في التفكير العميق، قد صار المتعبدون يعترفون الآن من غير تحفظ بأنه أمر الإله نفسه.
وقد رأينا أن هذه الفكرة كانت قد ظهرت قبل ذلك بنحو 500 سنة؛ أي في بداية عهد الإمبراطورية المصرية، ولكن في هذا العصر الذي هو عصر الورع الشخصي، صار الضمير هو صوت الإله بدون أدنى شك، وذلك ما لم يحدث من قبل مطلقا.
وإزاء ذلك لم يكن هناك بالطبع مجال لإخفاء الخطيئة أو إنكارها بعد وقوعها من المخطئ، وإذ كان المؤمن يشعر بأن كل أمره معلوم عند ربه فقد أصبح يضع نفسه - بدون أدنى تحفظ - في يد الله المرشد والمهيمن على كل حياته وحظوظه. ومع أن رضاء المجتمع كان لا يزال أمرا هاما، وضغط المؤثرات الاجتماعية محسوسا، فإن ذلك صار في المرتبة الثانية إزاء الإله العليم بكل شيء.
وهذا الموقف الجديد قد كشف لنا غطاؤه في رسالة عظيمة يمكننا أن نسميها «حكم «أمينموبي»»، وبرديتها محفوظة الآن بالمتحف البريطاني.
5
وكما كان يحدث كثيرا في مثل تلك النصائح التي كانت تصدر من رجال الحكمة المصريين القدماء، قد اعتبرت حكم «أمينموبي» أيضا ملقاة من هذا الحكيم على ابنه. وهي في نظمها ووضعها تعد أكثر ترتيبا من أية وثيقة أخرى من نوعها مما فحصناه من تلك الوثائق للآن، فقد قسمت بنظام إلى ثلاثين فصلا، وكل فصل منها خاص بموضوع معين، وتبدو مقسمة إلى مقطوعات كل منها يشتمل على أربعة أسطر أو ستة أو ثمانية، كما يوجد بعض مقطوعاتها مؤلفا من سطرين فقط. ويلاحظ أنه لم يبذل في تأليف تلك الحكم أي جهد لتنسيق فصولها أو ترتيبها ترتيبا منطقيا.
ولقد قال الأستاذ «لنج»
6
أحد أساتذة جامعة كوبنهاجن، وهو ممن لهم الفضل الأكبر في فهم ذلك المقال المدهش، عند تناوله الموازنة بين «أمينموبي» وغيره من أسلافه السابقين: «إن آراء «أمينموبي» الدينية أعمق بكثير من سابقاتها، كما أنها تنفذ إلى الأعماق بدرجة عظيمة تفوق فيها آراء أسلافه من الحكماء؛ إذ كانت التقوى في نظر أصحاب الحكمة الآخرين تعد فضيلة، وأن فكرة الموت والخلود الأبدي قوة دافعة للمرء على السلوك الفاضل، وأن الله وحده هو الذي يعطي الغنى والحظ، في حين أن الشعور بالإدانة لله وحده هو في نظر «أمينموبي» العامل الفاصل في كل تصوراته عن الحياة وسلوكه فيها.»
ولذلك كان «أمينموبي» يتمسك أمام ابنه دائما بهذه النظرة إلى الحياة الدنيا في المعاملات الشخصية والرسمية، مع الشعور التام بتلك المسئولية أمام الإله في كل حين. ومما يزيد في أهميته تلك النصائح ووصولها إلى هذه القمة من تقدير الضمير والإحساس برقابة الله، وذلك في تعاليم مفكر مصري في القرن العاشر ق.م، وقبل أن يكتب أي شيء من التوارة، أننا نعرف الآن أن حكم «أمينموبي» هذه قد ترجمت إلى العبرية وقرأها العبرانيون، وأن قسما هاما منها قد وجد سبيله إلى كتاب العهد القديم.
وإننا نجد حكيمنا هذا عند تناوله موضوع تهيئة ابنه للانخراط في سلك الوظائف الحكومية المصرية، يبين له تلك المغريات التي قد تدفعه إلى استغلال الفرص الرسمية ابتغاء المكسب من ورائها، فنراه يعددها الواحدة تلو الأخرى، ويحذر ابنه الشاب من الاستسلام لمثل تلك المغريات، فإذا كان في وظائف مسح الأرض فنصيحته له هي:
لا تزحزحن الحد الفاصل الذي يفصل (بين) الحقول.
ولا تكن جشعا من أجل ذراع من الأرض.
ولا تتعدين على حد أرملة.
وارقب أنت من يفعل ذلك فوق الأرض.
فبيته عدو للبلد
وأهراؤه تخرب
وأملاكه تؤخذ من أيدي أطفاله
ومتاعه يعطاه غيره.
لا تطأن حرث الغير
وخير لك أن تبقى بعيدا عنه.
احرث الحقول حتى تجد حاجتك
وتتسلم خبزك من جرنك الخاص بك.
وإن المكيال الذي يعطيكه الله خير لك
من خمسة آلاف تكسبها بالبغي.
والفقر مع القناعة والرضا عند الله خير
من الثروة (المغصوبة بالعداون) القابعة في الخزائن.
وأرغفة لديك مع قلب فرح خير لك
من الثروة مع التعاسة.
ومن المهم أن نلاحظ أن أمينموبي كان لا يزال يحترم الرأي العام في مثل تلك المواقف؛ لأنه عندما ينصح ابنه بمراعاة الأمانة في السجلات المالية يقول له:
وخير لك المدح (تناله) كفرد يحبه الناس
من الثروة (المجموعة) في الخزائن.
وذلك لأن الغنى مع (الضمير) الشاعر بالذنب لا قيمة له.
وما فائدة الملابس الجميلة
إذا كان الإنسان باغيا (متعديا على غيره) أمام الله؟
ولما كان موظفو بيت المال عند المصريين القدماء لهم علاقة كبيرة بالموازين والمكاييل، فقد اهتم بها «أمينموبي» كثيرا، حيث يقول لابنه:
لا تجعلن إحدى كفتي الميزان تحيد غشا.
ولا تعبث بالموازين.
ولا تنقصن من عدد (أنصبة أو مقادير) مكاييل القمح.
ولا ترغبن في مكاييل الحقل (لأنها ربما كانت عظيمة كما في أيامنا).
ولا ترغبن عن مكاييل الخزانة (لأنها كانت بالطبع أنقص من مكاييل الحقل).
فقوة الجرن أكبر
من القسم (اليمين الرسمية للحكومة ) بالعرش العظيم.
وهذه المقارنة المبهمة الواردة في السطر الأخير «ضرب مثل» يحتمل أنه يعني به أن قوة المخزن الملكي الضارة المفسدة أكبر في تأثيرها من «يمين الإخلاص الرسمي للعرش» الذي يقسم به الموظف عند تسلمه عمله. والاستقامة في الأعمال الرسمية لا بد من مراعاتها بالدقة في الصغيرة والكبيرة؛ ولذلك يبدأ الحكيم فصلا آخر بالكلمات الآتية:
لا تطمعن في متاع رجل حقير.
ثم يعقبه مباشرة بابتداء آخر قال فيه:
لا تطمعن في متاع رجل عظيم.
ثم نجد كذلك أن «أمينموبي» كان يهتم كثيرا بمحافظة ابنه على الاستقامة التي لا تراخي فيها ولا هوادة في المعاملات الشرعية وفي التقاضي أمام المحكمة، حيث يقول:
لا تجبرن رجلا على الذهاب أمام المحكمة
لأنك لن تجعل العدالة تلتوي.
فلا يتجه وجهك نحو الملابس البراقة (يعني التي يلبسها الخصم)
بينما تطرد من تكون ملابسه قذرة بالية.
لا تأخذن العطايا من القوي.
ولا تضطهدن الضعيف من أجله.
فالعدالة هبة عظيمة من الله يهبها من يشاء.
فقوة من كان مثله (أي مثل الله)
تنجي المكتئب من ضرباته (يعني ضربات القاضي).
أعط المتاع أصحابه
وبذلك تبغي لنفسك الحياة.
ومع أن قلبك يعمر في بيتهم (يعني في بيت الملاك الذي تحابيهم)
يكون جسمك مصيره لمقصلة الجلاد.
وإن الكلام الرزين والأخلاق السلسة تعتبران من الأمور الهامة في نظر حكيمنا، كما أن التهديدات الصاخبة الجوفاء لا يقوم لها وزن أمام تدابير الله ضد أعدائنا:
ولا تقولن: لقد وجدت رئيسا قويا
والآن يمكنني أن أهاجم رجلا في مدينتك.
ولا تقولن: لقد وجدت حاميا
والآن يمكنني أن أهاجم الرجل الممقوت.
فالحقيقة أنك لا تعلم تدبير الله
وأنك لا تدرك الغد.
ضع نفسك بين يدي الله
إلى أن يهزمهم صمتك (أي إلى أن يهزم الله أعداءك بسبب صمتك).
ثم يستمر «أمينموبي» في نصائحه حاضا ابنه على التباعد عن الصراحة الخارجة عن الحد، بل إنه يعود كثيرا فيحذره من هذه العادة الخطرة في كل مقاله، فمن ذلك قوله:
إذا سمعت خيرا أو شرا
فاتركه وراءك غير مسموع.
وضع الكلام الحسن على لسانك.
وأما الكلام السيئ فأبقه مخفيا في جوفك.
وبنفس هذه الفكرة التي تجول في ذهن الحكيم نراه ينصح ابنه بألا يسترق السمع في البيوت العظيمة، وأخذ يحثه بهذه المناسبة على مراعاة التواضع في مسلكه إذا كان على مائدة رجل عظيم. وقد قدمت مثل هذه النصيحة وببعض تعبيراتها قبل مقال «أمينموبي» بنحو ثمانية عشر قرنا، وهي تلك الحكم التي ألقاها «بتاح حتب» على ابنه في عهد الأسرة الخامسة، ولأنها حكمة بالغة في السلوك الواجب نحو الرؤساء، ظل المصريون القدماء يحترمونها مدة تنوف على ألفي سنة، فقد وجدت سبيلها إلى الحياة العبرانية، وهي تعد من غير شك أقدم قطعة جاءت في التوراة.
ونجده كذلك يحذر ابنه الشاب من المراءاة والمعاملة ذات الوجهين في كل علاقاته مع العظماء، حيث يقول:
لا تطلقن قلبك من لسانك
فإنك بذلك تحظى بنجاح كل مقاصدك.
وسينجم عن ذلك أنك تكون رجلا ذا وزن أمام الجمهور
ومقبولا بين يدي الله.
لأن الله يمقت الرجل صاحب القول الكاذب.
وأكبر ما يمقته الرجل ذو القلبين.
7
وإذا كانت مصاحبة العظيم تغري بالنفاق، فإن مصاحبة المتسرع والأحمق خطرة أيضا؛ لأنها تؤدي بالإنسان إلى فحش القول وهجره:
لا تؤاخين الرجل الأحمق
ولا تلحفن عليه في المحادثة.
والمقال على هذه الوتيرة مفعم بالتحذير من الرجل المشاغب والرجل المستهتر. وأما الأخلاق الفاضلة فهي أخلاق الرجل المتحلي بالرقة والتواضع وضبط النفس، على عكس تلك الأخلاق الذميمة التي تعرف عن الرجل الأحمق. وقد وضع «أمينموبي» في بداية نصائحه مقابلة بين الأخلاق وأضدادها الذميمة بهيئة شجرتين، إحداهما شجرة برية نشأت في الغابة ولا يتعهدها أحد، والأخرى تزدان بها الحديقة، وفي ذلك يقول:
إن الرجل الأحمق، الذي يخدم في المعبد
مثله كمثل شجرة نامية في الغابة.
ففي لحظة يفقد أغصانه
ويكون مصيره إلى مرفأ الأخشاب
وينقل بعيدا عن مكانه
والنار مثواه.
وأما الرجل الحازم حقا! الذي يضع نفسه جانبا (حيث يجب)
فمثله كمثل شجرة باسقة في الحديقة
يفلح وتتضاعف ثمرته
ويثمر في حضرة سيده
فظله وارف وثمرته أكلها حلو
ويجد في الحديقة مصيره.
وينهى «أمينموبي» عن الاشتباك مع السفيه، فيقول: «لا تشتبكن في نزاع مع سفيه اللسان.»
ويحض الشاب على عدم الدخول في علاقة ما مع أمثال أولئك الرجال، والكلمة التي عبر بها ذلك الحكيم عن الرجل الطائش والمشاغب والأحمق هي النعت «حار»، وفيها ما يوضح المعنى وزيادة. وهذه الكلمة المصرية القديمة معادلة للكلمة العبرية التي ترجمت بها في كتاب الأمثال من الكتاب المقدس وهي «المستخف»، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى نجد أن التسمية التي استعملها ذلك الحكيم أيضا للدلالة على «المتواضع» و«الضابط لنفسه» هي «الصامت حقا» الذي يعامل الجميع بلطف وتواضع. وهذا المعنى يتصل اتصالا وثيقا بالعابد المتبتل الصامت الذي تقدم ذكره فيما مضى، وهو يماثل على ما يظهر «الرجل الحازم» الذي نجده في الأمثال العبرية. ومثل ذلك الرجل يعامل الأرملة التي يجدها تتلقط فضلات الحقل برفق وأناة، كما ذكر «أمينموبي» ابنه بأن:
الله يحب الذي يدخل السرور على الرجل المتواضع
أكثر من الذي يحترم الرجل العظيم.
وهذه الروح الرقيقة العطوفة هي التي تنصح بأن الفقير والمحزون لا يعاملان بالقسوة، كما يقول الحكيم:
لا تضحكن من رجل أعمى ولا تهزأن بقزم.
ولا تؤذين زمنا (يعني مقعدا).
ولا تستهزئن برجل يكون في يد الله (يعني بين يدي الله).
ولا تقسون عليه عندما يبغي (يعني يجور أو يذنب).
وأما البشر فهم من طين وقش (يعني اللبن المصنوع من الطين مخلوطا بالتبن)
والله هو بانيهم.
فهو يهدم ويبني ثانية كل يوم
فيخفض ألفا كما يشاء
وألفا يجعلهم مشرفين
ما داموا في الحياة الدنيا.
وإنه لسعيد من يصل إلى الغرب (يعني الدار الآخرة)
وهو ناج في يد الله.
وإن عدم ثبات أحوال الإنسان، وتوقفها على مشيئة الله تعالى، قد حدا «بأمينموبي» إلى تحذير ابنه من الاعتزاز بالثروة الزائلة: حيث قال له:
لا تدعن قلبك يجري وراء الثروة
ولا تجهدن نفسك في طلب المزيد
عندما تكون قد حصلت (بالفعل) على حاجتك.
وإذا جاءت إليك الثروة من طريق السرقة
فإنها لا تمكث عندك زمن الليل.
فحينما ينبلج الصباح فإنها لم تكن في بيتك بعد
لأنها تكون قد صنعت لنفسها أجنحة مثل الإوز وصعدت إلى السماء.
اعبد «آتوم» إله الشمس عندما يشرق
وقل امنحني سلامة وصحة
وسيمنحك ما تحتاجه مدى الحياة
وتأمن من الخوف.
والواقع أن هذه النتيجة الحكيمة التي يقول فيها «أمينموبي» إن «الثروة (المغصوبة) تصنع لنفسها أجنحة» وتطير بعيدا، وصورها لنا في تلك الصورة البارزة عن الثروة الأرضية التي لا تدوم وتكون عرضة للزوال والفناء، نعرف لها مثيلا في صورة أخرى انحدرت إلينا عن طريق محرر «كتاب الأمثال» العبري وانتشرت في حياة العالم الغربي بعد ظهورها بين سكان مصر بثلاثة آلاف سنة.
ويرى حكيمنا أن الاعتماد على مثل تلك الموارد الدنيوية الزائلة لا يجدي نفعا، وأن الضمان الوحيد لذلك هو الله، فيجب أن نعبده، وبذلك «تنجو من الخوف»، وعلى هذا فإن راحة البال والتخلص من الخوف يمكن الحصول عليهما بالاعتماد على الله وحده فقط.
وعلى ذلك نجد هذا الحكيم المصري القديم يقول في أنبل فقرة من نصائحه لابنه:
لا تنم في الليل وأنت خائف من الغد
لأننا لا ندري عندما ينبثق الفجر ماذا يكون عليه الحال في الغد!
فالإنسان لا يعلم ما سيكون عليه الغد.
الله في كماله
والإنسان في عجزه
والكلمات التي يتكلمها الناس تختلف في اتجاهها
على حين أن أعمال الله مختلفة الاتجاه.
8
لا تقولن: لست أحمل خطيئة
ولا تجهدن نفسك في إثارة النزاع.
أما الخطيئة فأمرها عند الله
وهو الذي يختمها بأصبعه.
وليس في يد الله إنسان كامل
ولا يقف العجز حائلا أمامه
فإذا أجهد الإنسان نفسه ليصل إلى الكمال
فإنه في لحظة يهدمه (بنفسه).
كن رزينا في عقلك، وثبت قلبك
ولا تجعلن من لسانك سكانا
فإن كان لسان الإنسان كسكان السفينة
فإن رب الجميع هو ربانها.
فهل كان هناك عندما نصح السيد المسيح - عليه السلام - تلاميذه بقوله: «لا تفكروا في الغد»؟ أي صدى لتلك الحكمة المصرية القديمة في تلك الكلمات؟ إنه من المحتمل ألا يكون في مقدورنا قط الإجابة على هذا السؤال، غير أن حكم «أمينموبي» قد قدمت لنا مساعدة جوهرية في الكشف عن مدى انتشار التعاليم الخلقية المصرية القديمة فيما وراء شواطئ النيل وبخاصة في فلسطين. على أن أعظم الأجزاء انتشارا من حكم «أمينموبي» قد تجاوزت فلسطين إلى مدى شاسع ولا تزال مستعملة بين ظهرانينا.
وقد أوضح الأستاذ «زيته» أن السطرين الغامضين في ظاهرهما، وهما الخاصان باختلاف اتجاه كلمات الناس وأعمال الله، لا يمكن أن يكون المقصود منهما سوى الفرق الشاسع بين كلمات الناس (أي مقاصدهم) وما يتلوها من أفعال الله - سبحانه وتعالى. وعلى ذلك تكون الترجمة ببعض التصرف هكذا: «الكلمات التي يتكلمها الناس تختلف في اتجاهها وأعمال الله تختلف في اتجاهها.» وتكون المقابلة هنا على البديهة هي بين «كلمات الناس» و«أعمال الإله». وعندما يذكر أنهما «يختلفان» فإن المعنى المقصود يكون بداهة «أنهما يختلفان عن بعضهما». وعلى ذلك يكون لدينا هنا المثل العالمي في أقدم صورة له: «الإنسان يريد والله يفعل ما يريد.»
وإن مثل ذلك الانتشار الواسع للرأي المصري القديم عن علاقة الله بالإنسان يفتح لنا ذلك الموضوع الواسع، وهو تأثير التطور الخلقي المصري القديم لا في تاريخ الإنسان القديم فحسب، بل في تاريخ المدنية الغربية أيضا. ولما كان بحث ذلك الموضوع يجب أن تتألف منه خاتمة هذا الكتاب، فيجب قبل أن نتناوله بالبحث أن نلقي نظرة قصيرة على المراحل الأخيرة من ذلك التفكير الخلقي المصري القديم قبل أن يحشر سكان وادي النيل إلى معمعة عاهليات البحر الأبيض المتوسط الآسيوية.
ذلك بأنه بعد سقوط العاهلية المصرية في القرن الثاني عشر قبل المسيح كانت قوى حياة البلاد الداخلية والخارجية قد اضمحلت وفقدت كل تأثير لها في إزكاء نار التفكير الخلقي مرة أخرى حتى يقوم بأي نشاط حيوي يسمو به إلى أكثر مما وصل إليه، بل قد حل مكان ذلك ركود وجمود قاتلان لا يأبهان لشيء من عوامل النمو والنشاط، وكأنما اعترى حياة تلك الأمة التي كانت ممتلئة نشاطا وحيوية ذهول خامد؛ ولذلك نجد أن التطور الذي أعقب ذلك الأوان كان مجرد ظواهر رسمية آلية لا تتناول أي تقدم في التفكير والإنتاج العقلي، وكانت قوة الكهانة بصفتها ذات نفوذ سياسي قد جعلت الملك «تحتمس الثالث» في القرن الخامس عشر ق.م ينصب رئيس كهنة «آمون» رئيسا لجميع كهنة مصر في ذلك الزمان؛ أي إنه صار الرئيس الديني للدولة.
ومع أن هذه «البابوية الآمونية» قد قاست عنفا شديدا على يد «إخناتون» فإنها قد استردت فيما بعد كل ما فقدته، بل زادت عليه كثيرا حتى إن «رعمسيس الثاني» سمح لوحي «آمون» أن يرشده في تعيين الكاهن الأعظم للإله؛ ولذلك كان من السهل في تلك الأحوال على الكاهن الأعظم لآمون أن يجعل منصبه هذا وراثيا.
ولما لم يكن في مقدور البلاد أن تقاوم تلك القوة السياسية الكهنية، التي كانت بمثابة دولة داخل الدولة، وكانت البلاد دائما فريسة لتعديها الاقتصادي، فإن مصر هوت بذلك إلى الانحطاط بسرعة، إلى أن صارت حكومة كهانة فقط، حتى إنه حوالي سنة 1100ق.م سلم الفرعون صولجانه إلى رئيس القوة الحاكمة التي صارت وقتئذ هي حكومة المعبد.
وفي خلال التطور الطويل، الذي كان من جرائه استيلاء طائفة الكهنة على إدارة شئون العرش، لبست المظاهر الخارجية والرسمية للتدين من حلل الفخامة والأبهة ما لم تصل إليه من قبل أي قوة دينية في تاريخ التدين القديم؛ ولذلك فإن معابد ذلك العصر ستبقى دائما من أروع الآثار الباقية من العالم القديم.
والواقع أن تلك القصور «الإلهية» الضخمة قد رفعت من قيمة الشعائر الدينية الظاهرية إلى مستوى لم تتمتع به من قبل، لا في فخامة مبانيها فحسب، بل في معداتها العظيمة الرائعة أيضا.
وقد صار آنئذ «آمون طيبة» وهو متوج بتاج من العظمة لم يسمع بمثله في بذخ الشرق قط، في أيدي كهنته الماكرين، مجرد مصدر للقرارات السياسية والإدارية، بل إن الأحكام القضائية المعتادة كان يصدر الفصل فيها بإيحاء من الإله، كما كان غير ذلك من أمور الوصايا والهبات خاضعا كذلك لما يوحي به الإله، فكأن الدعاء القديم الذي كان يبتهل به المظلوم إلى الإله «آمون» أن يستحيل بنفسه إلى وزير للرجل الفقير قد نفذ تنفيذا حرفيا بحتا، وأفضى إلى نتائج لم تكن في حسبان الذين قاموا بتأليف هذا الدعاء.
أما الدين بصفته قوة شخصية خلقية فقد بقي في قلوب الفقراء وحثالة الشعب من المتدينين فقط، من أمثال أولئك الذين عثرنا على أدعيتهم الناطقة بورع أصحابها وإيمانهم الشخصي على أحقر اللوحات المقدمة للنذر في جبانة «طيبة»، وهذه الألواح المنذورة، مجتمعة مع نصيحة «آني» وحكم «أمينموبي»، قد كشفت لنا عن روح عصر ساد فيه الورع الشخصي، وكان خاتمة تطور الآراء الخلقية عند قدماء المصريين، وكان ذلك بعد مرور بضعة أجيال من ألف السنة الأخيرة ق.م، وفي نفس الوقت الذي انهارت فيه المملكة العبرانية المتحدة، التي لم يقم بالحكم فيها غير ثلاثة ملوك ثم انقسمت إلى مملكتين. ومن المهم جدا أن نلاحظ أن التطور الخلقي عند قدماء المصريين - كسائر عناصر ثقافتهم - قد وقف وانتهى أمره تقريبا قبل بداية الحياة القومية العبرانية، بعد أن سار في تدرجه نحو خمسة وعشرين قرنا.
وعندما انتقل ذلك الانحطاط المصري القديم الذي دام نحوا من خمسمائة سنة إلى دور إصلاح ونهضة بعد سنة 700ق.م، كان عصر الابتكار والتجديد في النمو الباطني للتدين والأخلاق قد مضى وقضي عليه قضاء أبديا.
فبدلا من أن نجد نشاطا فياضا يبدو من تلقاء نفسه في شكل آراء ومظاهر جديدة، كما كان الحال في بداية كل تلك العصور العظيمة التي مرت بها البلاد، فإننا نجد أن مصر قد رجعت إلى الماضي للأخذ بما كان لها فيه من مجد تالد، وحاولت عن رغبة أن تصلح الحكومة وتعيدها إلى ما كانت عليه حال المملكة المنقرضة في تلك الأيام الخالية قبل أن تحدث عصور الإمبراطورية المصرية تلك التغييرات والتجديدات؛ إذ كانت مصر القديمة في نظر هؤلاء القوم - كما بدت لهم من خلال ضباب ألفي سنة مضت - صورة أسبغت عليها نعمة الكمال المثالي الذي سادها من قبل في عهد حكم الآلهة. ولا شك أن جماعة الرجوع إلى القديم، عند محاولتهم بعث الديانة والمجتمع والحكومة من جديد على الأسس القديمة، كان لا بد أن يعترضهم على الدوام ذلك التقلب الذي لا مناص من حدوثه - سواء أشعروا به أم لم يشعروا - بسبب أحوال الشعب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فإنه لم يكن في الإمكان محو ألفي السنة التي انقضت منذ عصر الأهرام، ولذلك كانت الأحوال الواقعية الجديدة تبدو صارخة من خلال ذلك الستر القديم الزائف الذي أحيطت به الشئون الحاضرة. ولما عثر على حل تلك المعضلة، كان العلاج مماثلا لما حاوله العبرانيون فيما بعد عندما وقعوا في مثل هذا المأزق، فنسب القوم للعناصر الجديدة كذلك ماضيا مجيدا سحيقا، كما نسبت كل مجموعة التشريعات العبرية إلى سيدنا «موسى» - عليه السلام؛ وبذلك أنقذوا هذا الإحياء النظري.
فكتابات الأهرام الجنازية القديمة - وهي ما نسميه «متون الأهرام» - بعثت من جديد، وبالرغم من أنها لم تكن في الغالب مفهومة كانت تنقش فوق التوابيت الحجرية الضخمة، وكذا «كتاب الموتى» الذي كان لا يزال يحدث في تأليفه بعض التغيير، قد ظهرت فيه آثار واضحة تنم على هذه الحركة. وفي مزارات المقابر أيضا ذات الصور الجديدة نجد المناظر السارة المأخوذة من حياة الشعب في المستنقعات والمراعي وفي المعامل ومرافئ بناء السفن، وكلها صورة نقلت بدقة مدهشة عن المناظر المنقوشة في مقابر عصر الأهرام التي بنيت على هيئة المصاطب. وقد وصلت الدقة في نقلها لدرجة أن الباحث لأول وهلة كثيرا ما يشك في تاريخ الأثر الذي نقشت فوقه. والواقع أن شخصا من رجال «طيبة» يدعى «آبا» أرسل فنانيه الرسامين إلى أحد القبور التي من عهد الدولة القديمة بالقرب من «أسيوط» لينقلوا عنه النقوش التي يريدها في القبر الذي كان يعده لنفسه في «طيبة»، وكان كل السبب في ذلك أن صاحب القبر القديم كان يسمى هو الآخر «آبا» أيضا.
كذلك رأينا فيما تقدم في الفصل الثالث من هذا الكتاب أن «المسرحية المنفية» قد وصلت إلينا؛ لأن الفرعون الإثيوبي الذي وجد في القرن الثامن ق.م أخذته روح التقوى فأمر بإعادة تدوين كتاب قديم، كان مكتوبا على بردية من عهد الأسر القديمة، باعتبار «أنه من صنع الأجداد وأنه قد أكله الدود»، فنقش على حجر من البازلت الأسود يوجد الآن بالمتحف البريطاني.
وهكذا جرى البحث وقتئذ بشغف عن الكتابات واللفائف القديمة المقدسة التي بقيت من عهد تلك الأيام الخالية، حيث كانت تجمع وفوقها تراب تلك العصور الماضية ثم تفرز وترتب. لقد صار الماضي القديم صاحب السيادة العليا، ولا شك أن الكاهن الذي كان يحبذ ذلك الماضي العتيق كان في الحقيقة يعيش في عالم من الخيالات، حيث لم يكن لكل ذلك أي معنى حيوي لأهل العصر الذي يعيش فيه. وبمثل ذلك كانت نفس الروح الرجعية في «بابل» هي السائدة، وقت أن كانت إمبراطورية «نبو خاد نزر» (بختنصر) هي الأخرى تقوم بحركة بعث جديد. كما سادت نفس تلك الفكرة أيضا فيما بعد بين العبرانيين العائدين من المنفى، فكأن العالم قد أخذ يطعن في السن، وكان القوم يتحدثون بولوع وشغف عن أيام شبابه الغابر. على أن هذا المنهاج الذي كان يجري مجراه للاحتفاظ بالقديم هوى بذلك التدين العتيد عند المصريين القدماء من حضيض إلى حضيض أبعد منه غورا نحو الانحلال والجمود، حتى آل أمره إلى ما وجده عليه المؤرخ الإغريقي «هردوت» من مجرد شعائر ظاهرية جامدة وتقاليد كهنوتية لا حصر لها، كانت تؤدى بحذق ودقة، اشتهر المصريون بسببهما بأنهم أكثر شعوب العالم تمسكا بالدين. غير أن تلك الشعائر لم تعد بعد تعبر عن حياة باطنية نامية متطورة، كما كانت عليه الحال في تلك الأيام الخالية، وقبل أن تخمد الحيوية المبتكرة عند الجنس المصري.
هذا؛ وقد كنا نتتبع فيما تقدم على وجه عام نمو تلك الأفكار الخلقية عند ذلك الشعب المصري العظيم، الذي ظل يتطور خلال مدة تنوف على ثلاثة آلاف سنة تتنازعه فيها القوى الباطنة في ذلك الإنسان القديم مع العوامل المحيطة، حتى هيأت تصوره للقوى الإلهية وتكييفه لمقاييس السلوك البشري. فالإلهية كما كان يدركها الإنسان في كل مكان من العالم الشرقي القديم، هي من نتائج الخبرة البشرية، والآراء القديمة عن الإله ليست إلا تعبيرا عن أحسن ما أحس به الإنسان وتخيله ممثلا في أرقى كائن تصوره. والواقع على ما أظن أن ما قصده «روبرت ج. إنجرسول» عندما قال في سخرية لاذعة: «إن أسمى عمل قام به الإنسان هو صنعه لإله أمين» هو قول - بالرغم من كل ذلك - صادق حتى الأعماق؛ فقد رأينا كيف وصل المصريون القدماء في تطوراتهم البطيئة إلى «إيجادهم للإله الأمين»، ونحن
9
بدورنا قد حصلنا على إلهنا بالوراثة عن العبرانيين.
وقد وصلنا الآن إلى مركز يمكننا من الإجابة عن كنه تلك الوراثة للأفكار الخلقية والدينية. أهي من صنع وإنتاج المدنية العبرانية فقط؟ أم أن التاريخ يكشف لنا أن إرثنا الخلقي قد تكون إلى درجة عظيمة في عصر أقدم بكثير من العهد العبراني، وأنه قد انحدر إلينا على شكل إنتاج تألف من طائفة من المدنيات العظيمة، وعلى ذلك يعد أعلى وأسمى تعبير أنتجته الحياة الإنسانية القديمة برمتها؛ أي إنه يعد أسمى رسالة قام بتقديمها إلينا والدنا «الإنسان القديم»؟
الفصل السابع عشر
مصادر إرثنا الخلقي
لقد فحصنا بشيء من الإيجاز - في الفصول السابقة - أهم المصادر الأصلية التي تكشف لنا عن ظهور المبادئ الخلقية وتطورها في أفريقيا الشمالية الشرقية منذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد إلى أن انطوت مصر في غمار عاهليات البحر الأبيض المتوسط الآسيوية في القرن السادس ق.م. وعلى ذلك قد استغرق التطور الخلقي الذي كشفت لنا عنه هذه الوثائق الأصلية مدة تقرب من ثلاثة آلاف سنة، وكان غربي آسيا في خلال تلك المدة الطويلة كذلك يتمخض بدوره هو الآخر عن طائفة من المدنيات العظيمة، كانت لها أهمية أساسية في مستقبل تقدم الجنس البشري. وأقدم تلك المدنيات هي المدنية البابلية، التي يمكننا الآن أن نتتبع نشأتها خلال بضعة القرون الأولى من الألف السنة الرابعة ق.م. ولقد أحرزت الحضارة البابلية بعض التقدم السامي في عالم الفن في خلال ألف السنة الثالثة ق.م؛ فإن استعمالها المبدع للصور الحيوانية المتباينة الأشكال في تراكيب متزنة تكاد تنطق بما تمثله من مناظر القوة والحركة، قد أثر في الفن الزخرفي في جميع أدوار العالم التاريخية التالية لذلك.
وقد كان هذا الفن متأثرا تأثرا عميقا بالأساطير العتيقة التي نشأت في غربي آسيا، ولا سيما البابلية منها، مما عبر عنه الأدب المبكر أبلغ تعبير وظهرت له حيوية مدهشة، حتى صارت هذه الأساطير شائعة الانتشار إلى ما وراء تخوم «بابل» بمسافة بعيدة، وكانت ذخرا كبيرا لموضوعات الفن الزخرفي المبكر في غربي آسيا. على هذا النحو شقت أسطورة الطوفان البابلي طريقها متجهة غربا شطر البحر الأبيض المتوسط حتى انتشرت في سوريا وفلسطين، إلى أن فتحت في النهاية طريقا لها إلى الأدب العبراني، ومن ثم وصلت إلينا عن طريق «العهد القديم»، وتوجد في جميع الأدب العبراني إشارات لتلك الأساطير، وبخاصة في الأناشيد الدينية التي نسميها «المزامير».
على أننا إذا استثنينا اهتمام الحضارة البابلية الأولى بالفن، نجد أن تلك الحضارة بقيت مادية محضة لدرجة مدهشة، وأنه إنما كان بعد ظهور المملكة الكلدانية (بابل الجديدة) في القرن السادس ق.م وما تبع ظهورها من سيادة الفرس بعد عهد «كورش»، أن كشف لنا البابليون عن نشاط ذهني بارز، حيث وضع فلكيوهم العظماء الأسس التي شاد عليها علماء اليونان فيما بعد علم الفلك.
وكان البابليون - بطبعهم - شعبا تجاريا على الأخص، وجل اهتمامه منصرفا إلى المعاملات وتنظيم شئونها حسب القانون، وقد قال أحد علماء الإنجليز البارزين في التاريخ الآشوري
1
عن ذلك الشعب: «لم يوجد شعب آخر كان منصرفا على الدوام إلى طلب المال والحصول عليه ومنهمكا بكلياته في البحث وراء النجاح في هذه الحياة (أكثر من البابليين).» فقد كانت قافلاتهم وقافلات «الآشوريين» تتوغل غربا في آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين من أزمان سحيقة ترجع إلى الألف الثالث ق.م، وكانت وثائق المعاملات المكتوبة بالخط المسماري متداولة الاستعمال قبل سنة 2000ق.م في آسيا الصغرى، كما كان استعمال تلك الكتابة المسمارية في فلسطين أمرا مألوفا ذائعا عند حلول القرن الخامس عشر ق.م، وقد سرت بجانب هذه المعاملات البابلية التقاليد والقوانين التجارية التي كان التجار البابليون يسيرون على مقتضاها. وبعض هذه القوانين نفسها - مما انحدر إلينا عن طريق «قانون حمواربي» - كانت متداولة الاستعمال كذلك في فلسطين قبل عهد العبرانيين، ثم وصلت عن طريق «العهد القديم» إلى الحضارة الغربية، حيث يقابل للمرة الثانية، فوق مكتب دراسات المستشرق الحديث ، القانون العبراني قوانين «حمورابي» البابلية. ولا شك في أن مثل نظام عطلة يوم السبت قد دب إلى الحياة الفلسطينية عن طريق مثل هذه الاتصالات العملية التي كانت تستند عليها المعاملات التجارية، فإنه سواء أراد رجل الأعمال الغربي الذي يعيش اليوم في الشرق الأدنى أم لم يرد، فإنه يتحتم عليه مراعاة السير في المعاملات التجارية حسب التقويم المتبع، فيما يختص بالأيام المقدسة التي لا يجري فيها بيع ولا شراء. ولا بد أن مثل هذه الحال هي ما كان يسير عليه التجار الفلسطينيون حينما كانوا يتعاملون مع التجار البابليين.
وعلى ذلك نجد أن الفلسطينيين لم يأخذوا عن البابليين شيئا يذكر من معتقداتهم وآرائهم الدينية سوى ما يتعلق بالأوضاع الظاهرية والشعائر المرعية، أما العقائد الجوهرية المكونة لأركان الدين فلم يكن الأخذ عنها بمثل هذه السهولة. وقد تصور البابليون الأوائل آلهتهم ممثلة في القوى الطبيعية، وهم في ذلك مثل المصريين القدماء، فكانت أقدم معبوداتهم من آلهة الطبيعة؛ ولذلك نجد في أنشودة عظيمة - كانت لا بد مستعملة في عبادة «سن» إله القمر في معبده بمدينة «أور» - أن مؤلفها الكاهن كشف فيها عن أصل عالم الطبيعة حيث رأى عفوا إله القمر يقوم بعمله، ثم يذكر أن عمل ذلك الإله ينتقل في الوقت نفسه إلى دائرة الشئون البشرية. وهو في ذلك لم يسند إليه خلق كل الأشياء المادية فحسب، بل عزا إليه أيضا تأسيس كل النظم البشرية - كتأسيس الدولة - بما في ذلك من الحكومة والديانة الرسمية، وبخاصة حياة الشعب الخلقية، حيث يقول:
إن كلمتك يتولد منها الصدق والعدالة
وعلى ذلك يتكلم الشعب الصدق.
وهذه الأنشودة الرائعة، بما تحويه من صورة سامية تنطق بسؤدد إله القمر، بما في ذلك من إنشائه الحياة الطاهرة وصيانتها، تدل على أنه كانت توجد هناك عقول مفكرة بين الكهنة الذين كانوا يقومون بالواجبات الدينية الرسمية في «بابل» القديمة. على أنه من المؤكد أن الكاهن الذي ألف هذه الأنشودة لم يخصص منها غير جزء يسير جدا لسلطان القمر من الناحية الخلقية؛ فقد كان أكثر اهتمامه موجها لما لذلك الإله من السلطان الذي لا حد له على موارد البلاد المادية، ولذلك كان معظم الأنشودة منصرفا إلى تلك الناحية من الصورة التي صورها لنا. فمن بين الثمانية والأربعين سطرا التي تشملها تلك الأنشودة لا يوجد إلا نحو سطرين - بل سطر واحد على وجه التأكيد - خصصه ذلك المؤلف الكاهن «للصدق والعدالة». والأنشودة هي كما يأتي بعد حذف بعض سطورها:
أيها الأب الرحيم الشفيق
الذي في قبضته
2
حياة الأرض قاطبة
أيها الرب، إن ألوهيتك كالسماء العالية:
نهر عريض مفعم بالأثمار
هو الذي يخلق الأرض ويؤسس المعابد
ويسمي أسماءها
والوالد الذي يلد الآلهة والناس
ويجعل المساكن تقام وينشئ القرابين
وهو الذي يدعو الملكية ويعطي الصولجان
ويحدد ما هو مقدر للإنسان في الأيام البعيدة
وهو الأمير ذو البطش لا يرى ما في قلبه الفسيح أي إله ... ... ... ...
والرب الذي يقرر حكم السماء والأرض
والذي لا مبدل لأمره
والقابض على النار والماء والمرشد للمخلوقات
الأحياء، فمن ذلك الإله الذي يعادلك؟
من المعظم في السماء؟
إنك أنت وحدك المعظم
ومن المعظم فوق الأرض؟
إنك أنت وحدك المعظم
وحينما يتردد صدى كلمتك في السماء فإن آلهة العالم العلوي يسجدون لك
وحينما يتردد صدى كلمتك فوق الأرض فإن آلهة العالم الدنيوي يقبلون الأرض لك
وحينما ترتفع كلمتك إلى عليين كالهواء فإنها تجعل المراعي تنمو وعيون الماء تغزر
وحينما تنزل كلمتك إلى الأرض فإن الكلأ يخرج شطأه
وكلمتك تصير الحظائر بما فيها من قطعان سمينة
وتنشر المخلوقات الحية
وكلمتك يتولد منها الصدق والعدالة، وعلى ذلك يتكلم الناس الصدق
وكلمتك السماء العلا، والأرض المستورة التي لا يخترق حجبها نظر
ومن يفهم كلمتك؟ ومن يضارعها؟
اشمل بنظرك بيتك! انظر إلى مدينتك! انظر إلى «أور».
3
فنجد في هذه الأنشودة طموحا دينيا في مستوى عال، لا بد أنه كان قد أحدث تأثيرا واسع النطاق في آسيا الغربية. والواقع أن هذه الأنشودة تذكرنا بالمزامير العبرانية، مع أنها ترجع إلى ما قبل ظهور الدين العبراني بزمن بعيد. وعلى أية حال فإن مهمتنا الخاصة هنا لا شأن لها بالدين على وجه عام، بل تتعلق خاصة بالآراء والمبادئ الخلقية. وإذن ما الذي كانت تشتمل عليه الحياة البابلية من المبادئ الخلقية؟ وما الأفكار الخلقية التي تركها لنا البابليون؟
والواقع أن فن النحت عندهم لا يمدنا بأي برهان محسوس على براعتهم في رسم الصور الإنسانية، وهو دليل على قلة اهتمامهم بالتعبير عن أخلاق الإنسان عن طريق الرسم أو بتصوير الملامح البشرية، ذلك بأنهم لم يهتموا بالتفكير في الفروق بين مختلف أنواع الأخلاق كما تبرز لنا عندما نقابل بين حياة الطيبين وحياة الأشرار، والدليل الذي يلفت النظر لتلك الحالة العقلية هو عدم معرفتهم شيئا عن المحاكمة في عالم الآخرة فيما بعد الموت، فكل الناس عندهم، الطيب والخبيث، كان مرجعهم إلى «شول» الذي هو نفس المثوى السفلي المظلم للجميع.
وبالرغم من ذلك فإن شعب بابل قد تقدم في معتقداته فصار يؤمن بأن «شماش» إله الشمس، الذي يمثل عندهم إله العدل - كما كانت الشمس تمثل إله العدل عند المصريين القدماء - كان يبغض السلوك الذي لا ينطوي على المودة. وهذا المذهب قد عبر عنه في أنشودة «لشماش» جاء فيها:
يا شماش، أنت الذي لا يفلت من شباكك شرير
ولا يفر من فخك خاطئ
أما من يحنث في يمينه فإنك تعجل له العقاب
ومن لا يحترم كل مقدس فلن يستطيع الفرار منك
شباكك العريضة مطروحة لمن يقترف الشر
ولمن يرفع بصره إلى زوجة رفيقه ...
إذا أشهرت سلاحك عليه فلا منجى له
فإذا وقف أمام المحكمة فليس في استطاعة أحد مساعدته ولو كان والده
وليس هناك من يعارض كلمة القاضي حتى إخوته
فهو يحبس في فخ نحاسي لا مناص له منه
وأما من يضمر السوء فإنك
4
تحطم قرنه
ومن يتحيز إلى المسيء فإن الأرض التي تحت قدميه تميد به ... ... ... ...
والقاضي الجائر تجعله يشاهد الإغلال
ومن يقبل الرشوة ويلتوي في الحق
فإنك تثقله بالعقاب
أما من يأبى الرشوة ويتحيز إلى جانب الضعيف
فإنه يدخل السرور العظيم على «شماش» ويعيش طويلا
والقاضي الحذر الذي يقضي بالعدل
يعد لنفسه قصرا ويكون مثواه مقرا ملكيا ...
كمثل ماء الينبوع الأبدي فيه بذرة لا تنفد
لمن يعمل بتقى وطيبة ولا يعرف الغش ...
أما المرء الدنيء العقل فإنه يسجل (على نفسه) ذلك بالقلم
أما الذين يرتكبون الشر فإن بذرتهم لا بقاء لها.
فنجد في هذه الأنشودة مبدأ الجزاء الحسن للرجل الفاضل والعقاب للمذنب، مع الاعتراف بالصفة الاجتماعية للأخطاء. غير أن مثل هذا الاعتراف لم يسد تيار الحياة العريض في «بابل»، ولم تميز به الآراء المنبثة في أنحاء الأدب البابلي عن كنه الشر، ومع أن المزامير البابلية الخاصة بالتوبة يستشهد بها عادة على أنها تعبر عن شعور البابليين المرهف من جهة الخطيئة، فإنه يتضح منها في الحقيقة، أنها لا تحتوي على أي بيان يدل على أن الخطيئة هي ضد المجتمع الإنساني.
وقد لاحظ الأستاذ فستر مارك
Wester marck
5
بنظر ثاقب أنه لا يوجد في أي «مزمار» معروف لنا من التي وضعت للتوبة أية دلالة على أن فكرة الخطيئة فيها تشتمل الذنوب التي ترتكب ضد بني البشر، فقد كان شعور البابليين أن الذنوب لم تكن إلا مجرد تعد ظاهري على حقوق الإله، وقد لا يكون فيها في الواقع ما يدعو إلى غضب الإله. وتدل مزامير التوبة صراحة على أن العاقبة الوخيمة التي يتضرع المذنب بحرارة للنجاة منها لا يرجع سببها إلى سخط الإله على الأخلاق الشريرة، بل كانت ترجع - كما لاحظ الأستاذ «فستر مارك» - إلى «اللعنات التي كان يصبها على المذنب من حاق به الضر.» وهذا الاستنتاج يتفق تمام الاتفاق مع ما لوحظ بوجه عام من أن المبادئ الخلقية عند الشعب البابلي - وهي التي لم نر إلى الآن ما يدل بصفة قاطعة على نموها وتطورها - لم تكن من العناصر الجوهرية في حياة الشعب أو حياة حكامه. وهذه الحقيقة تتضح لنا صحتها - بصورة بارزة - من قانون «حمورابي» الشهير، الذي وردت فيه الجرائم والأحكام مدرجة حسب الدرجات الاجتماعية التي يشغلها المتقاضون أو المذنبون، فكان الرجل صاحب المنزلة السامية ينال فيه رعاية ظاهرة أكثر من الرجل الوضيع الأصل.
وقد رأينا فيما سبق أن الحكماء المصريين الأقدمين ووجهاء القوم كانوا دائما يكررون ذكر عدم اكتراثهم للفوارق الاجتماعية بين طبقات الناس؛ فقد جاء في قول أحدهم: «إني لم أرفع من شأن العظيم على الوضيع.» وهو تعبير يدل على الرجل صاحب المكانة العظيمة ومقارنته بمواطنه «المعتاد»، وبالنص الحرفي «الرجل الصغير». والواقع أن المنزلة الاجتماعية أو المرتبة العالية لم تعط المصري القديم أية ميزة في نظر القانون. ونذكر بهذه المناسبة ما أوردناه فيما سبق من أن الفرعون قد نبه وزيره الأكبر إلى أن واجبه يقضي عليه: «بألا يظهر احترامه للأفراد بصفة كونهم أمراء أو مستشارين.» أي إن هذا المبدأ كان من صلب دستور الدولة المصرية قديما، أما عند البابليين فكانت العدالة الاجتماعية التي هي بعينها الأساس الذي يقوم عليه الرقي الخلقي، ناقصة جدا، بل معدومة بالمرة، وعلى ذلك لم تساهم مدنيتهم مساهمة جوهرية في تاريخ آسيا الغربية الخلقي.
وهناك مصدر آخر يمكن اعتباره من أمثال تلك المؤثرات في تاريخ آسيا الغربية المبكر - ويجب علينا أن نعيره التفاتا حتى في مثل هذه النظرة العاجلة - وهو يستمد من الشعور الخلقي السامي عند الحيثيين، وبين أيدينا الآن قطع من قوانينهم. وإن أبرز مثل نذكره في هذا الشأن ما نراه من تقديرهم للمسئولية الخلقية في الالتزامات الدولية التي أقرها أحد الملوك الحيثيين في القرن الثالث عشر، حيث يعترف هذا الملك بهجوم - لا مبرر له - قام به ضد الدولة المصرية في عهد «رعمسيس الثاني». ولما كان هذا الملك يشعر بالخطأ الخلقي الذي ارتكبه، فقد نسب الوباء الذي كان شعبه يعانيه إذ ذاك إلى غضب إلهه عليهم بأن أرسل عليهم هذا الوباء بمثابة عقاب على تلك الخطيئة التي ارتكبها. كما يلاحظ أيضا نمو شعورهم بالحق والاعتدال في الصورة المنقحة من القانون الحيثي التي أحدثها الملك «خاتشيل» وجعلها أكثر رأفة من قبل، حيث قد قابل الملك ذلك التنقيح بالصرامة التي كان عليها القانون القديم المعمول به قبل حكمه. وقد بقي لنا من هذا القانون نحو 200 فقرة، وهي تكون جزءا كبيرا منه، مدونة على لوحات من الطين.
ومما تجدر بنا ملاحظته أن الحيثيين كانوا كذلك قد جعلوا العقوبات القانونية مدرجة حسب المركز السياسي الذي يشغله المذنب، فكانت تخف وطأة العقاب إذا كان المجرم من أهل البيئة المحلية، فيكون أقل من العقاب الذي يوقع على أحد رعايا الحكومات المجاورة.
6
على أنه لا يزال أمامنا مقدار عظيم من الحفائر والأبحاث التي لا بد من درسها وإتمامها قبل أن تكون لدينا المعلومات الوافية عن كنه المدنية الحيثية، وإلى أن يتم ذلك، تشير الدلائل إلى القول بأن الحيثيين كان لهم بعض التأثير في التقدم الخلقي في آسيا الغربية، على أنه من المهم أن نلاحظ هنا أن المدنية الحيثية بقيت ضئيلة التأثير إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، وهو وقت متأخر بالنسبة إلى تاريخ المدنية الشرقية القديمة.
وقد اتصل العبرانيون خلال أسرهم في الشرق - وهم في مرحلة متأخرة من مراحل تقدمهم الديني - اتصالا وثيقا بالمدنية الفارسية ووقفوا على الكثير من ديانة «زروستر». ومذهب «زروستر» هذا مذهب مزدوج يدعو كل إنسان أن يقف إلى جانب قوة من اثنتين؛ فإما أن يملأ روحه بالخير والنور، وإما أن يخلد إلى الشر والظلمة. وقد مثلت هذه القوى جميعها في كائنات حية، وأية طريقة منها يسلكها الإنسان لا بد أن ينتظر بعد موته حسابا عنها في عالم الآخرة، وإن ظهور فكرة الحساب في الآخرة - وهو شيء لم يعرف في آسيا الغربية قبل «زروستر» - قد أوجد نظرية قوية أن «زروستر» قد أخذ الكثير من ديانته عن الديانة المصرية القديمة.
وبعد فوات ستة أسابيع على كتابة البيان المتقدم - وكان تحت الطبع بالفعل - كنت قائما لأول مرة بين الدمن الضئيلة الباقية من قصر «كورش» الأكبر، وهو واقع على مسيرة أقل من نصف ساعة من قبره في «بازارجادة»
، ولم يبق من هذا المبنى (الذي كاد أن يختفي) إلا عمود مربع أو عمودان من الأحجار كانا لا يزالان قائمين، منقوشا عليهما بالخط المسماري باللغة الفارسية القديمة العبارة الموجزة الآتية: «أنا «كورش» [قد أقمته ].» وأحد هذين العمودين عبارة عن قائمة باب ولا يزال ظاهرا فوقه نقش بارز يمثل صورة إنسان طويل القامة - في شكل أحد أنصاف الآلهة له زوجان من الأجنحة المنتشرة في وضع رائع - كأنه واحد من سلالة الملائكة المذكورين في التوراة. وقد عرفت فيه نقشا رأيته من قبل في بعض المطبوعات،
7
غير أنني حققت النظر بدقة فيما كان متآكلا من النقش ظهر لي في الحال شيء لم يسبق أن جذب نظري من قبل قط؛ ذلك أن رأس تلك الصورة المجنحة كان يعلوها تاج «أوزير» إله الحساب المصري في عالم الآخرة عند قدماء المصريين، ولمثل هذا الرمز دائما أهمية في الفن الشرقي القديم؛ فهذا النذر (بحساب الآخرة) ذو الجناحين، بقي قائما في مدخل قصر «كورش» نحو 2500 سنة، وكل زائر دخل القصر كان يشاهده لابسا تاج الحساب لعالم الآخرة عند قدماء المصريين، وعلى ذلك يكاد يكون من الأمور التي لا شك فيها أن المحاكمة الزروستورية في الآخرة مأخوذة عن قدماء المصريين، كما أخذ الفرس الكثير غيرها في العمارة والفن عن المصريين القدماء.
وبعد أن غادرت بلاد الفرس كتب إلي الأستاذ «أرنست هرزفلد»
Ernest Herzfeld
8
في تقرير عن أعماله في الآثار الفارسية القديمة أنه كان ينقل نقوشا طويلة، لم تكن قد نشرت بعد، على واجهة قبر الملك «دارا الأكبر» وأن هذا النقش يحتوي على بيان خلقي، وعلى المثل الأعلى للسلوك، فيقول «دارا» مثلا:
لقد أحببت الصواب، وأما الخطأ فلم أحبه.
وكانت إرادتي عدم ارتكاب أي ظلم ضد أية أرملة أو يتيم.
ولم تكن إرادتي أن يحيق ظلم باليتامى أو الأرامل.
ولقد عاقبت الكاذب عقابا صارما.
وأما الذي يكد فإني كافأته مكافأة حسنة.
ويجب علينا أن ننتظر نشر النص الكامل لهذه الرسالة الجديدة المدهشة التي جاءتنا من الملك «دارا الأكبر»، غير أنه من المدهش أن المقتطفات التي أرسل بها إلي الأستاذ «هرزفلد» يشبه رنينها في الأذن صدى التعاليم الاجتماعية التي نطق بها الحكماء المصريون القدماء، هذا ولدينا الآن الأدلة الوافرة على أن التطور الديني الذي أحرزه العبرانيون بعد عودتهم من المنفى (في بابل) كان متأثرا بتعاليم «زروستر»، وأنه يجب لذلك أن نضيف إلى المؤثرات الدولية التي تعرضت لها الخلقيات العبرانية، التعاليم التي جاء بها هذا النبي «الميدي الفارسي» العظيم «زروستر».
وكان قد نما قبل ظهور الملكية العبرانية في أواخر القرن الحادي عشر، مجموعة كبيرة من الأمم المتحضرة على طول الطرف الشرقي للبحر الأبيض، تقع بين بلاد الحيثيين شمالا وتخوم مصر جنوبا. والأرجح أن أهم هذه الشعوب من وجهة تاريخ المدنية هم الفينيقيون، وقد كانت بعض العناصر الهامة في المدنيتين البابلية والمصرية القديمة عاملا جوهريا في تكييف الحياة والثقافة في مدن الساحل الفينيقي الزاهرة التي كانت تتألف منها المراكز التجارية الفينيقية، ومن ثم كان من السهل أن تدخل هذه الخيوط الأجنبية في نسيج ثوب الحياة العبرانية. وعلى أية حال فنحن لا نعلم شيئا تقريبا عن نوع التطور الخلقي عند الفينيقيين.
وأما في بلاد فلسطين التي احتلها العبرانيون فيما بعد، فإن الكنعانيين، الذين كانوا يسكنون هذه البلاد قبل العبرانيين، كانوا قد اجتازوا مرحلة من النمو المتحضر تبلغ أكثر من ألف سنة حينما غزا العبرانيون البلاد.
وقد عرفنا من النقوش التاريخية البابلية والمصرية القديمة، وكذلك من الحفائر الأثرية، شيئا كثيرا عن هذه المدنية الفلسطينية الراقية النامية السابقة لعهد العبرانيين، كما أنه كان للثقافة البابلية - كما ذكرنا - من قبل أثر هام خالد في فلسطين الكنعانية، وعن طريق الكنعانيين - بوجه خاص - وصل أثر البابليين في الفن والأدب والدين إلى العبرانيين. يضاف إلى ذلك أن هذا الإقليم كان منذ زمن بعيد واقعا تحت نفوذ الحضارة المصرية القديمة؛ فقد بدأ المصريون يبسطون سيطرتهم على الساحل الفينيقي قبل أن يطأ العبرانيون فلسطين بأكثر من ألفي سنة؛ إذ اقتحمت الجيوش المصرية فلسطين قبل سنة 2500ق.م، ولما فتح الفراعنة المصريون آسيا الغربية ووصلوا في فتحهم إلى نهر الفرات في خلال القرن السادس عشر ق.م، بقيت فلسطين مستعمرة في أيديهم أكثر من أربعة قرون. والواقع أنهم حكموا فلسطين مدة قرنين بعد دخول العبرانيين فيها، وبذلك بلغت المدنية الكنعانية مرتبة سامية في القرون التي احتلتها فيها مصر، فلما غزاها العبرانيون كانت قد صبغت مرارا وتكرارا بالعناصر المصرية.
وكان من نتائج ذلك أن العبرانيين حيثما دخلوا فلسطين صاروا على اتصال مباشر بتلك الحضارة الكنعانية المركبة، التي أنشئ معظمها من العناصر البابلية والمصرية القديمة معا، هذا فضلا عن أن تلك المدنية الكنعانية، بمرورها في تجاريب اجتماعية طويلة، كسبت كذلك عناصر ثقافية كثيرة من صنع الكنعانيين أنفسهم. والواقع الذي لا شك فيه أن اللغة التي وجدها العبرانيون الفاتحون، وهي اللغة الكنعانية لغة البلاد وقتئذ، قد اتخذها العبرانيون أنفسهم لغة لهم، وهي التي انحدرت إلينا فيما بعد في ثوب اللغة العبرانية التي كتبت بها التوراة. ومما يؤسف له أننا لا نعرف شيئا يذكر عن التاريخ الخلقي لذلك الشعب قبل الغزو الإسرائيلي.
وبتلخيصنا لموقف فلسطين من نواحيه المختلفة، نرى أن تلك البلاد من الوجهة الجغرافية تقع على جسر طبيعي ضيق بين البحر الأبيض المتوسط من جهة والصحراء العربية من جهة أخرى، وهو جسر يقع بين قارتين طالما اتخذ طريقا عاما لربط أفريقيا بآسيا منذ عهد ما قبل التاريخ.
أما من الوجهة السياسية فإن فلسطين كانت قديما كما هي الآن: كرة قدم دولية.
وأما من الناحية الثقافية فإنها - كما أوضحنا الآن - كانت داخلة ضمن الإقليم التجاري الذي طالما كانت المعاملات البابلية تسيطر عليه، كما كانت في الوقت نفسه تقع مباشرة في ظل صرح المدنية المصرية العظيمة، فالقوم الذين استقروا في أرض فلسطين لم يجدوا أنفسهم في وسط حضارة قديمة تكونت بالإقليم نفسه ومصبوغة إلى حد كبير بالصبغة المصرية القديمة فحسب، بل كانوا يطلون أيضا على مدنيات أعرق منها بكثير على كلا الجانبين في آسيا وأفريقيا، فمن هذه البيئة الدولية البعيدة الأثر بالشرق الأدنى الذي كان يضم فلسطين بين جوانحه نشأت تلك الأفكار الخلقية التي غذت العالم الغربي في النهاية بالآراء الخلقية السائدة فيه الآن؛ إذ وصلت إلينا عن طريق بقايا الأدب العبراني، وهو الذي كانت محتوياته الخلقية كما أسلفنا بعيدة كل البعد عن أن تكون من أصل عبراني محض.
ومن الحقائق المدهشة أن يكون ذلك الإرث الخلقي العظيم قد وصل إلى المدنية الغربية من شعب خامل الذكر سياسيا منزو في الركن الجنوبي الشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط، فإن هذا الشعب لم يقم له نظام قومي خاص به إلا منذ العشر أو العشرين سنة السابقة لعام 1000ق.م، ولم يبق أمة موحدة إلا نحو قرن واحد على أكبر تقدير، وعلى إثر انحلال تلك الدولة الصغيرة نجد أن الجزأين اللذين قاما على تراثها ظلا يكافحان البقاء، فاستمر أحدهما مدة قرنين تقريبا، وأما الجزء الآخر فإنه بعد أن مكث مدة قرن وربع قرن من سقوط الجزء الأول قضاها في حياة قلقة شبه مستقلة، تداولته فيها أيدي ممالك الشرق العظيمة قديما، قد حاق به كذلك الفناء التام بعد سنة 600ق.م بزمن قليل. بذلك تكون حياة العبرانيين القدامى القومية المستقلة - أو حياة جزء منهم - التي بدأت لأقل من ثلاثين سنة قبل عام 1000ق.م، قد مكثت حوالي أربعة قرون وربع قرن، وختمت في باكورة القرن السادس ق.م؛ أي إن هذا العهد من الحياة العبرانية القومية قد وقع بأكمله تقريبا في النصف الأول من ألف السنة الأخيرة قبل الميلاد المسيحي. وفي تلك الفترة كان تقدم الثقافة في مصر وفي بابل قد نضب معينه، وصار يعد خبرا من أخبار التاريخ القديم.
وإنه لمن المستحيل علينا طبعا أن نضمن هذا الكتاب المحدود الحجم التاريخ الديني والخلقي للعبرانيين القدامى حتى ولو بطريق التلخيص، على أن مهمتنا في هذا الكتاب تضطرنا إلى الكشف عن العوامل الأجنبية الهامة التي عملت في التطور الخلقي عندهم. ولكي نتمكن من القيام بذلك يجب أن نعيد إلى ذاكرتنا بعض الحقائق البارزة في التاريخ العبراني، إذا كنا نريد حقا معرفة العناصر الأجنبية في التطور الخلقي العبراني.
كان ظهور العبرانيين لأول مرة في ميدان التاريخ في خطابات «تل العمارنة» التي يرجع تاريخ أقدمها إلى ما بعد سنة 1400ق.م بقليل؛ أي في عهد يسبق بكثير أي أدب عبراني وصل إلينا.
وهذه الخطابات المسمارية تكشف لنا عن وجود جماعات من العبرانيين الرحل كانوا ينزحون إلى فلسطين، التي كانت وقتئذ تحت سيطرة مصر، حيث كانوا يدخلون هناك في سلك الجنود المرتزقة، ولا نعرف من شأنهم بعد ذلك شيئا مدة قرنين من الزمان، إلى أن كان وقت ذلك الأثر المصري الذي أقامه في «طيبة» (الأقصر) «مرنبتاح» بن «رعمسيس الثاني» قبل سنة 1200ق.م بنحو عشر سنين أو عشرين سنة، فقد حفظت لنا فيه أنشودة نصر نجد فيها ذلك الملك يفتخر بقوله: «وإسرائيل قد دمرت وبذرتها محيت.»
وقد كان ذلك الحادث في «عهد القضاة»،
9
وقت أن كانت الحياة العبرانية القومية لا تزال خاملة لا تكاد تعرف شيئا من الحكم المركزي أو النظام القومي، فقد كان العبرانيون لا يزالون متأثرين كل التأثر بحياة القرون الطويلة التي قضوها في الرعي وتلمس الكلأ على حدود الصحراء قبل أن يدخلوا فلسطين، فكانوا لا يزالون متمسكين بالعادات الساذجة المتبربرة الشائعة بين قبائل الصحراء، بل ببعض التقاليد القريبة من الوحشية التي تلازم الحياة الفطرية، مثل ذبحهم الولد البكر قربانا لإله القبيلة. وهذه الآلهة المحلية قد تكون مثل الشيطان الرجيم الذي كان في ظنهم يسكن فوق قمة الجبل أو عند غدير الماء، على غرار جني الليل المعتم الذي صارعه «يعقوب» - عليه السلام - عند غدير «جابوك» حتى أجبره على الفرار فزعا قبل انبثاق الفجر.
ومثل هذا الجني المحلي كان يطلق عليه في الصحراء الواقعة جنوبي «يهودة» اسم «إيل»، وهذا اللفظ ليس اسم علم، وإنما هو الكلمة السامية القديمة التي كانت تطلق على أي إله محلي. وقد انحدر إلينا في اسم «إسرائيل»، وهو الاسم الذي أطلقه على «يعقوب» الكائن الذي صارعه، وقد بقي لنا كذلك في طائفة من الأسماء مثل «ميخائيل»، ومعناه «الذي يشبه الإله». وفي الأنحاء الشمالية من «كنعان» كانت الآلهة المحلية عند الكنعانيين تسمى «بعولا» أو «أربابا».
ومن الواضح أن بعض العبرانيين الرحل كانوا قد استعبدوا بعد لجوئهم إلى مصر في زمن قحط حدث عندهم، وقد قام من بينهم عبراني امتاز بحسن سياسته وقوة قيادته البارعة، ونصب نفسه عليهم وخلصهم من العبودية، وبذلك صار يعد أول قائد عبراني عظيم وصل إلينا اسمه.
ومن المهم أن نلاحظ أن «موسى» - وهو اسم ذلك القائد - كان اسما مصريا، بل هو نفس الكلمة المصرية القديمة «مس» ومعناها «طفل»، وهي مختصرة من اسم مركب كامل كالأسماء «أمن مس» ومعناه «آمون الطفل» أو «بتاح مس» ومعناه «بتاح طفل». وهذه الأسماء المركبة نفسها هي الأخرى مختصرات للتركيب الكامل «آمون (أعطى) طفلا» أو «بتاح (أعطى) طفلا». وقد لقي اختصار الاسم إلى كلمة «طفل» قبولا منذ زمن مبكر؛ إذ كان سريع التداول والتناول بدلا من الاسم الكامل الثقيل.
على أن الاسم «مس» (طفل) نجده كثير الانتشار على الآثار المصرية القديمة، ولا شك في أن والد «موسى» كان قد وضع قبل اسم ابنه اسم إله مصري مثل «آمون» أو «بتاح»، ثم زال ذلك الاسم الإلهي تدريجا بكثرة التداول حتى صار الولد يسمى «موسى».
على أن ما أظهره «موسى» من الحذق في القيادة مع الشجاعة والمهارة في تخليص شعبه من العبودية الأجنبية، وكذلك حادثة التخليص نفسها التي صاحبتها بعض الكوارث الطبيعية التي قضت على الجيش المصري المقتفي لآثار «موسى» ومن تبعه، كل ذلك لقي مكانة لا تمحى في المعتقدات العبرانية وجعل للعبرانيين إرثا أصليا من الفخار كان هو أقدم الأسباب التي ألفت بينهم وجعلت منهم أمة واحدة.
وفي خلال مرحلة مبكرة من مراحل تلك الأحداث تخلف «موسى» في الصحراء جنوبي فلسطين عند قبيلة من القبائل البدوية التي تعرف بأهل «مدين»، وكان مكثه هناك كثيرا؛ وبخاصة مع أحد خدامهم المقدسين الذي يدعى «شعيب»
Jethro ، حتى إنه عرف منه شيئا عن إلههم المحلي «يهوه».
10
وهذا الإقليم الممتد من «سيناء» شمالا، وبخاصة على طول الأخدود العظيم الذي نتج فيه «البحر الميت» ووادي نهر الأردن، تتوافر فيه البينات الجيولوجية الدالة على وقوع ثوران بركاني حديث نوعا. ولا شك في أن الرواية العبرانية التي ذكرت في سفر التكوين (19: 23-28) عن تخريب «سدوم» و«عمورة»، وهما مدينتان كانتا في تلك البقعة، «بالنار والكبريت» من السماء ليست إلا إشارة مبهمة عن حدوث انفجار بركاني لم تنس ذكراه القبائل المحلية في العهد العبراني المبكر.
وقد صحب خروج العبرانيين من مصر خوارق جاء وصفها في كتاب العهد القديم، لا شك في أنها ذات صبغة بركانية، فالمظهر الغريب الذي ظهر به «يهوه» في صورة «عمود نار» أو «عمود من دخان»، ثم تجليه فوق «طور سينا» نهارا محدثا «للرعد والبرق والسحاب الكثيف»، هي بالبداهة ظواهر بركانية، وعلى ذلك كان من المعترف به منذ زمن بعيد أن «يهوه» ليس إلا إلها محليا للبراكين، وكان مقره المختار «طور سينا»، ولكن العبرانيين تخلوا بتأثير من «موسى» عن آلهتهم «إلوهيم»
11
القدامى واتخذوا «يهوه» لهم إلها واحدا.
على أنه لا بد من باعث آخر دعا إلى ذلك الانقلاب العظيم أقوى من تأثير «موسى» قائدهم الكبير، فمن الواضح أن التخلص من النير المصري كان مصحوبا ببعض الظواهر الرهيبة التي عزيت إلى بطش «يهوه» الشديد، وإن الرأي القائل بحدوث انفجار بركاني في «سينا» حينما ضاق الخناق على العبرانيين في خروجهم يجد من الأسباب ما يبرره؛ إذ يمكن أن نفرض أن الزلزال الذي صحب ذلك الانفجار، وموجة المد التي نتجت عن ذلك، هما اللذان أفضيا إلى ابتلاع الجنود المصريين الذين كانوا يتعقبون أثر القوم الفارين.
ومهما يكن من أمر فإن الاعتقاد بأن العبرانيين عندما دخلوا منطقة «يهوه» الواقعة بالقرب من جبل سينا نجاهم هو ببعض المظاهر العظيمة لقوته وعطفه، قد احتل مكانة ثابتة في المعتقدات العبرانية المأثورة، وحينما أقيم محراب ذلك الإله بعد مضي زمان طويل على ذلك في «بيت المقدس» صوره عباده من الإسرائيليين بأنه آت من «سينا» في قوة وأبهة ليتخذ مثواه فوق جبل «صهيون».
أما آلهة العبرانيين القدامى «إيل» التي لم يكن لها لون ولا أسماء أعلام يستدل بها على كل منها، وليس لها شخصية ولا أصل تاريخي، فإنهم استمروا طويلا منافسين ضعفاء لإلههم «يهوه» بعد أن استوطن الإسرائيليون فلسطين، وأما الآلهة التي كانت أشد بأسا في مناهضة «يهوه» فهم «البعول» الكنعانيون، وبالرغم من أن العبرانيين كانوا قد اتخذوا «يهوه» إلههم القومي فإنه كان يوجد الكثير من بينهم من تمسك باعتقاده في الآلهة الأخرى مثل البعول، وكثيرا ما كانوا يتخذونها معبودات لهم من دون إلههم. على أن وجود نفس اسم «يهوه» كأنه علم مثل «أبولو» أو «المريخ» لدليل على وجود آلهة أخرى لها أسماء أعلام مثله، ونجد في التعليم الأول الذي وضعه «يهوه» نفسه لبني إسرائيل أنه كان يعلم بوجود الآلهة الأخرى، ولذلك قال: «لن تكون لكم آلهة أخرى قبلي.»
وقد كان سير الإسرائيليين في الانتقال من عبادة آلهة عدة إلى عبادة إله واحد لجميع العالم بطيئا وتدريجيا حتى لقد استغرق عدة قرون، كما نجد كذلك أن تصور العبرانيين فيما يختص بأخلاق إلههم قد مر في عدة أطوار، منذ الوقت الذي كانوا فيه مبتهجين بقوة إلههم الطبيعي التي كانت تحطم الكنعانيين وتذبحهم، إلى أن وصلوا إلى تصور الإله أبا رحيما عادلا. وإن الذي يجعل في استطاعتنا للآن أن نتعرف بعض الخطوات في ذلك التطور، الذي به تخطى الإسرائيليون في تفكيرهم إله الطبيعة، هو كتابات الأنبياء العبرانيين بوجه خاص، حيث يتبين لنا أن ذلك الإله، مع استمراره في حمل اسم إله البركان القديم «يهوه»، فإن الشعب العبراني أخذ ينظر إليه تدريجا بمثابة قوة فعالة في المجتمع البشري.
ولا بد أن النشأة المصرية القديمة التي يرجع إليها الفضل في جعل موسى قائدا قوميا عظيما قد ساهمت في إدراكه لتلك الصورة الواجبة «ليهوه» في حياة قومه، فإننا نرى مثلا أن نشأة «موسى» في مصر وتسميته باسم مصري جعلاه يحض مواطنيه على الأخذ بشعيرة الختان، وهي عادة مصرية قديمة جدا كانت مراعاتها عامة في أيامه بين سكان وادي النيل، ويرجع عهدها إلى ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة أو تزيد قبل عصره.
12
وتنسب المعتقدات العبرانية دائما أصل تلك الشعيرة إلى «موسى» - عليه السلام. هذا وإن اتخاذ «موسى» لعادة مصرية مقدسة واعتبارها علامة لبني إسرائيل، مع أنها شعيرة ألفها بداهة في مصر منذ نعومة أظفاره، يعد في الوقت نفسه برهانا قاطعا على أنه كان يستقي تعاليم مما كان يعرفه عن الديانة المصرية القديمة. على أن «موسى» لم يكن عبدا لمحاكاة التقليد المصري القديم، يظهر لنا ذلك عندما نراه اتخذ عن أهل «مدين» «يهوه» إلها له. ولما كان أهل «مدين» قوم بدو سذج ليس لهم من المهارة في الفنون ما يمكنهم من صنع تماثيل لإلههم، فإنه ترك «يهوه» دون أن يصنع له صورة أو تمثالا ما، كما كان الحال عند أهل «مدين» من قبل.
على أننا نجد أن «موسى» كان يتمسك ببعض الذكريات عن التماثيل الدينية المصرية، فقد كان هو نفسه يحمل عصا سحرية عظيمة، لا شك في أنها كانت في صورة ثعبان، تسكن فيها قوة «يهوه»، كما كان ينصب ثعبانا من النحاس البراق ليشفي به الناس، وكان هذا الثعبان بطبيعة الحال أحد تلك الثعابين المقدسة العديدة في مصر، وقد بقيت صورة ذلك الإله المصري القديم عند العبرانيين إلى ما بعد استيطانهم فلسطين بزمن طويل، واستمروا في إطلاق البخور له مدة خمسة قرون بعد عهد «موسى»، ولم يبعد من البيت المقدس إلا في حكم «حزقيائيل» في أواخر القرن الثامن ق.م (سفر الملوك الثاني 18: 4).
على أنه قد احتفظ العبرانيون إلى العهد المسيحي بقول مأثور عندهم يقرر أن «موسى» كان متفقها «في كل حكمة المصريين» (الإصحاح السابع الآية 22)، وهو قول لا يكاد يوجد ما يدعو إلى الشك في صحته. على أنه لم يكن في مقدورنا إلا في السنين الأخيرة أن نفهم المصادر التي وصلت إلينا عن حياة المصريين القدماء فهما كافيا ندرك به أن «حكمة المصريين» كانت قبل كل شيء عبارة عن التأملات والتدبرات الاجتماعية. ولا شك أن «موسى» كان ملما بأقوال أولئك الأنبياء الاجتماعيين الذين كانت أقدم كتاباتهم - كما ذكرنا فيما سبق - متداولة بين المصريين منذ 1500 سنة عندما ابتدأ موسى في تعليم قومه. ومن البديهي أن رجلا مثله نشأ محاطا بمثل ذلك النوع من الأدب كان لزاما عليه أن يشعر بالحاجة إلى دين يشتمل على تعاليم خلقية يزود به قومه.
وإنه من الصعب علينا الآن أن نعين بالضبط مقدار ما خلفه «موسى» لقومه من التعاليم الخلقية والأدبية، على أن الباحث يمكنه أن يحكم بنفسه فيما إذا كان القائد الذي أقام تمثال ثعبان نحاسي ليعبده قومه - وهو صورة بقيت محفوظة تعبد عدة قرون في معابد القوم - في مقدوره كذلك أن يفرض على كل صاحب بيت من العبرانيين الأمر التالي:
محظور عليك أن تصنع لنفسك تمثالا منحوتا أو (صورة) أي شكل في السماء أو في الأرض أو في الماء الذي تحت الأرض.
ويلاحظ أن كل وصية من الوصايا العشر موجهة إلى صاحب كل بيت، وأنها في صيغة المفرد المخاطب «أنت».
ومن الواضح أنه حينما كتبت الوصايا العشر كان العبرانيون قد انتقلوا فعلا من حياة المرعى في الأرض الصحراوية ذات الكلأ إلى حياة الزراعة المستقرة في المدن، حيث كانت المؤثرات الاجتماعية تعمل في تكوين الاعتقاد الديني وتزيد في موارده، ثم إن الملكية، التي يجهلها البدو، وكذلك الحياة التجارية إلى حد ما في المدن، قد أخذتا في تكوين طبقة صغيرة من الأثرياء في المدن، في حين أن أكثرية الشعب كانت لا تزال على حالتها الأولى من الفقر، ومن ثم بدأ ظهور المناقشات بين طبقات الشعب، وما نجم عنها من الأحقاد التي لا مفر منها، وما نشأ عن ذلك من اكتساب خبرة اجتماعية مفيدة.
وقد كانت الفوارق الاجتماعية بعد تأسيس المملكة العبرانية تلاحظ بدرجة أكثر من ذي قبل، كما ظهر ميل القوم للثراء والحياة التجارية حتى عند ملوك العبرانيين الجدد؛ وذلك أن ملوك فينيقية الأغنياء قد أثروا بطبيعة الحال في مطامح الحكام الإسرائيليين، فاشترك «سليمان» - عليه السلام - في تجارة مع «هيرام» ملك «صور»، وكان هو نفسه يتجر في الخيول فيجلب نسل الخيول الجياد المنسبة من مصر، حيث كان يتمتع هنالك بامتياز خاص عن طريق الفرعون حميه، ومن ثم كان يصدر هذه الخيول شمالا ويبيعها في أسواق الخيل الحيثية. وقد كانت له حظائر للخيل في جهات متعددة في طول البلاد وعرضها، ويتضح لنا ذلك الأمر جليا ملموسا حينما نقف بين دمن حظائر خيول سليمان الأصلية التي كشف عنها بين أطلال قلعته الإقليمية القوية بمدينة «مجدو» (أرما جدون)
13
الواقعة فوق هضبة الكرمل.
وقد انبسط في هذا الموقف الذي نمت فيه الطبقات الاجتماعية وتباينت تباينا شديدا، ميدان اجتماعي كالذي شاهدنا ظهوره على ضفاف النيل قبل ذلك بنحو ألفي سنة، فقد كانت أمثال هذه الأحوال هي التي أيقظت في مصر إحساسا جديدا بالقيم الأخلاقية الثابتة، وبمثل ذلك ظهر بين العبرانيين رجال توافرت لهم الروح الإنسانية والنظرة الاجتماعية، فأخذوا يشعرون بإيحاء «الضمير» كقوة اجتماعية، واستجابة لندائهم أخذ عصر الأخلاق في الظهور بين بني إسرائيل كما سبق ظهوره في مصر قبل ذلك بزمن طويل؛ ولذلك نجد أن الشعائر العتيقة والعادات الدينية البالية، بما فيها من الطقوس والضحايا، أخذت تنحط في قيمتها بموازنتها بالأخلاق الفاضلة.
وبهذه المناسبة نذكر تلك الكلمات السامية التي وجهها ذلك الملك الأهناسي المجهول الاسم إلى ابنه «مريكارع» قبل عهد «موسى» - عليه السلام - بألف سنة، وهي: «إن فضيلة الرجل المستقيم أكثر قبولا من ثور الرجل الذي يرتكب الظلم.»
على أن ما أظهره ذلك الفرعون المسن من قوة البصيرة في تعمقه الخلقي لم يكن أثره بالبداهة قاصرا على مصر، ولا بد أن لفافة البردي التي كانت تشتمل على نصائحه الحكيمة الموجهة إلى ابنه قد وجدت سبيلا لها إلى فلسطين؛ لأن نفس هذه المعاني، مكتوبة بكلمات مشابهة جدا للكلمات السابقة، قد ظهرت في أوائل التطور الخلقي العبراني بالنص الآتي:
انظر، إن الطاعة أفضل من التضحية
والإصغاء أفضل من الكبش السمين.
وهذا الحث على حسن الإصغاء يتردد صداه في الآذان كأنه صدى نصائح «بتاح حتب» الذي نصح بها ابنه منذ أكثر من 1500 سنة قبل عهد صموئيل وبين له فيها قيمة الإصغاء.
وأما تفضيل الأخلاق على الشعائر الدينية فقد أورده حكماء العبرانيين في «كتاب الأمثال» في كلمات ليست هي أيضا إلا صدى لكلمات ذلك الحكيم الأهناسي المصري القديم، فقد جاء في سفر الأمثال:
فعل العدل والحق أفضل عند الرب (يهوه) من الذبيحة .
من سفر الأمثال 21: 3
ومما يوضح لنا أن الحكيم العبراني كان مقتفيا أثر الفكر المصري القديم في هذه النقطة ما ذكر قبل تلك الآية مباشرة (من سفر الأمثال 21: 2) حيث جاء فيها:
والرب (يهوه) وازن القلوب.
إذ لم يكن في الشرق القديم إلا عقيدة دينية واحدة تقول بأن الإله يزن القلب الإنساني، وهي الديانة المصرية القديمة بما تشتمل عليه من المحاكمة الأوزورية، وقد رأينا فيما تقدم أن ذلك التمييز بين قيمة الخلق ومجرد الشعائر الدينية الظاهرية كان من غير شك نتيجة للخبرة الاجتماعية في مصر، فهذه الخبرة الاجتماعية نفسها كانت سائرة في تكونها بين الإسرائيليين بخطى سريعة، ويرجع ذلك إلى الإرث الأدبي والخلقي الذي ورثه العبرانيون؛ إذ قد وجدوا تلك الحقائق الأساسية في كتابات وتجاريب جارتهم الأفريقية العظيمة، وأخذوا يعملون بسرعة أيضا على تهيئة هذه الخبرة لتكون ملكا لهم؛ إذ من الواجب أن يكون إدراك الشعب نفسه للقيم الخلقية الإنسانية الثابتة هو حجر الزاوية لبناء أي تقدم خلقي ثابت مضمون، ومن المعلوم بطبيعة الحال أن دائرة القيم الخلقية السامية فقط هي التي توجد البواعث وتهيئ الأحوال لظهور أدب ذي قوة حقيقية، ولذلك لم يكن من باب الصدفة أن نرى القرون الثلاثة الأولى من حياة الشعب العبراني بعد تأسيس الملكية قد أنتجت أرقى فن أدبي عرفه العالم القديم إلى ذلك الوقت.
وأعظم مثل مقنع يدل على مهارة العبرانيين الجدد في القصص المسرحي الخلاب الذي تنجذب إليه النفس البشرية هو قصة يوسف - عليه السلام. ويبلغ مغزى هذه القصة الجميلة قمته في الثبات الخلقي الذي كانت تنطوي عليه نفسية ذلك الشاب المبعد عن وطنه، فنراه وهو غريب في بلدة أجنبية يجازف بحياته بلا تردد محافظة وإبقاء على سلامة أخلاقه وطهارتها، مع أنه لم يأت بذلك العمل تمسكا بالمثل الأعلى في إنكار الذات والعفة والتنسك، بل قياما بواجب الاحترام لشرف سيد وضع كل ثقته فيه. ومن الحقائق المدهشة أن هذه الحادثة التي توجت القصة كلها بتاج الفخر مستقاة من قصة مصرية قديمة شعبية كانت - لا بد - قد انتشرت في فلسطين الكنعانية حيث سمع بها ذلك الكاتب الموهوب الذي ألف قصة يوسف.
وهذه القصة المصرية تعرف الآن عادة «بقصة الأخوين»، والإلهان اللذان يظهران فيها بشكل الأخوين، اللذين يعتبران أهم شخصيات القصة، قد مثلهما الخيال القصصي الساذج في صورة اثنين من الفلاحين وسماهما بالتوالي «أنوبيس» و«باتا»، وهما اسمان يكشفان عن أن بطلي القصة يمثلان إلهين كانت لهما مكانة في الديانة المصرية القديمة منذ زمان متوغل في القدم.
فكان «أنوبيس» أكبر الأخوين متزوجا، وكان «باتا» أصغرهما يعيش مع الزوجين كأنه ابنهما، إلى أن قدر لتلك الحياة الريفية الخلابة التي احتسوا كئوسها أن يقضى عليها بإقدام الزوجة على أمر شائن؛ وذلك أنها كانت ذات يوم تنظر إلى الشاب الصغير وهو يحمل فوق منكبه القوي خمس حقائب مملوءة قمحا دفعة واحدة، فاستولى حبه على قلبها، ولما أخذت تراوده عن نفسه انقلب الشاب ثائرا غاضبا كأنه فهد من فهود الوجه القبلي، هاج من جراء تلك الكلمات الأثيمة التي وجهتها إليه، وخافت الزوجة عند ذلك خوفا شديدا من افتضاح أمرها، ثم خاطبها قائلا: «انظري، إنك عندي بمنزلة الأم وزوجك بمنزلة الوالد؛ لأنه أكبر مني سنا وقد رباني، فما معنى هذا الأمر المخزي الذي تذكرينه لي؟ لا تعيديه علي مرة ثانية، وأنا بدوري لن أفوه به لأحد، ولن أجعل شفتي تفتران عنه لأي إنسان.» ثم حمل حمولته وخرج إلى الحقل، غير أن زوجة «أنوبيس» الكاذبة خدعت زوجها فجعلته يصدق رواية معكوسة لفقتها هي للحادث، وكانت العاقبة أن «أنوبيس» تربص لقتل أخيه الصغير، فكمن له خلف باب حظيرة البيت وسلاحه بيده، وحينما اقترب الشاب الصغير من البيت وهو يسوق أمامه قطيع أنعامه حذرته البقرتان اللتان كانتا في مقدمة ماشيته وفاء له بالجميل؛ لأن ذلك الراعي الصغير كثيرا ما ساقهما إلى أحسن المراعي وأنضرها، فقفل الشاب موليا هاربا.
ويعتبر ذلك الامتحان الخلقي الذي اجتازه ذلك الشاب في «قصة الأخوين» أروع مثال لنزاهة النفس ومتانتها، لا في الأدب المصري وحده، بل في كل الأدب الشرقي القديم حتى ذلك الوقت. ومن الأمور الهامة جدا أن تكون هذه الحادثة بالذات من بين كل الأدب المصري هي التي جذبت نظر المؤلف العبري حتى ساقه ذلك إلى اتخاذها برهانا ساميا على طهارة أخلاق بطل قصته.
وقد أنزل الله - سبحانه وتعالى - هذه القصة على سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
في القرآن
14
بعد ذكرها في التوراة بنحو 1400 سنة، وقد ظهرت هذه القصة في صور متنوعة في أوقات مختلفة من تاريخ الأدب لمدة تبلغ نحو 3000 سنة منذ أول ظهورها في وادي النيل، وكذلك نجد لها بعض الأهمية في تاريخ فن التصوير الغربي، والفحوى الخلقي لاختيار تلك القصة ضمن الأدب العبراني أمر له أهمية أساسية؛ لأن مجرد وجودها في الأدب العبراني يعتبر برهانا قاطعا على أن الإسرائيليين في القرن الثامن قبل الميلاد كانوا قد دخلوا في عصر الأخلاق فعلا.
وفي هذا العصر الذي سادت فيه التأملات الخلقية أخذ إله الطبيعة القديم الذي ينتمي إلى صحراء «مدين»، والذي قاد الإسرائيليين إلى فلسطين ووجد لذة وحشية في تقتيل الكنعانيين يتحول تدريجا في نظر العبرانيين إلى أن صار إله عدالة، يتطلب بدوره أن يتصف عباده أيضا بالعدالة في أخلاقهم. ومع أن هذا التحول الذي نبت في الأذهان نتيجة لتجارب العبرانيين الاجتماعية الشخصية يرجع بدرجة عظيمة إلى العبرانيين أنفسهم، فإن التفكير الديني عند هؤلاء القوم الذين سكنوا فلسطين اعتمد جوهره في هذه الحالة - كما اعتمد في تجاريب كثيرة مشابهة لها - على الاستقاء من تراث الماضي كما وجدوه باقيا في الجماعات الكنعانية التي اندمجوا فيها تدريجا.
وكان هذا التراث مفعما بالأفكار المصرية القديمة التي تتناول صفات إله الشمس وتعده حاكما عادلا بين الناس، ولذلك نجد أن نبيا من العبرانيين يقول لقومه:
إليكم يا من تخافون اسمي
تشرق شمس العدالة بالشفاء في أجنحتها.
15
رأينا فيما سبق أن «العدالة» كانت ممثلة في شخص الإلهة «ماعت» التي كان يعتقد المصريون أنها بنت إله الشمس، وبما أن «شمس العدالة» العبرانية وصفت بأن لها أجنحة فلا يمكن أن يكون المراد بذلك شيء سوى الإشارة إلى إله الشمس ذات الأجنحة؛ لأنه لم يكن يوجد بين جميع التصورات العبرانية القديمة للإله «يهوه» أية صورة تمثله بأجنحة.
هذا؛ وقد دلت الحفائر الحديثة في «سامرا» على أن هذه التصورات المصرية لإله الشمس العادل كانت شائعة الانتشار في الحياة الفلسطينية، فقد كشف الحفارون في خرائب قصر ملوك بني إسرائيل في «سامرا» بعض ألواح من العاج منقوشة نقشا بارزا كانت تستعمل يوما ما في التطعيم الزخرفي الذي كان يحلى به أثاث الملوك العبرانيين، ومن بين تلك القطع قطعة نقشت عليها صورة إلهة العدالة «ماعت» يحملها إلى أعلى ملاك شمس هليوبوليس في وضع نفهم منه أنه كان على ما يظهر يقدم تلك الصورة لإله الشمس. وتصميم الرسم مصري في كل نواحيه، إلا أن صناعته تدل بوضوح على أن نقشه من صنع أياد فلسطينية. ومن ذلك يتضح أن الصناع العبرانيين كانوا على علم ومعرفة بمثل تلك الرسوم المصرية القديمة، وأن وجهاء العبرانيين كانوا ينظرون كل يوم إلى هذه الرموز التصويرية الدالة على عدالة إله الشمس المصري وهي تزين نفس الكراسي التي يجلسون عليها. ولم يكن إله الشمس ذات الأجنحة المتأصلة في وادي النيل معروفا عند العبرانيين بأنه إله عدالة فقط، بل كان كذلك معروفا بأنه الإله الحامي لعباده الرءوف بهم، وقد أشارت المزامير العبرانية أربع مرات إلى الحماية الموجودة «تحت (أو في) ظل أجنحتك».
على أننا لم نجد قط - كما ذكرنا ذلك فيما تقدم - أن «يهوه» كان يصور عند العبرانيين بأجنحة، في حين أنه قد عثر على صور رائعة منحوتة للفرعون وإله الشمس يرفرف عليه في شكل صقر له جناحان منتشران يحميان المليك.
16
وعلى ذلك نرى أن تصور إله الشمس المصري القديم كأنه ملك عادل يعد من بين العوامل التي ساهمت في تحويل «يهوه» هذا إلى حاكم عادل بين الناس.
وقد كان ظهور الملكية العبرانية عاملا قويا في ذلك التطور؛ لأن العبرانيين كونوا في أذهانهم بالتدريج صورة لما يجب أن يكون عليه الملك الأمثل، فكان لذلك التصور أكبر تأثير في تخيل «يهوه» في شكل ملك عادل.
وقد رأينا فيما تقدم أنه قبل ظهور الملكية العبرانية بألف سنة كان الحكماء
17
الاجتماعيون المصريون القدماء قد رفعوا أصواتهم مطالبين بالعدالة الاجتماعية، آملين بذلك الوصول إلى عصر يكون فيه المثل الأعلى للسعادة البشرية في ظل حكم عادل يهيمن عليه ملك رءوف، ولذلك نددوا بالغش والظلم اللذين يرزح تحت عبئهما كل من الفقير والوضيع على يد الغني والقوي، وكثيرا ما أعلنت شكوى هؤلاء الحكماء في حضرة الملك نفسه.
وقد كانت أمثال مقالات «إبور» و«نفرروهو» شائعة الانتشار - كما سبق ذكره - حوالي سنة 2000 قبل الميلاد، ولدينا ما يدل بوجه قاطع على أن هذه الكتابات قد وجدت مجالا مبكرا لانتشارها في آسيا الغربية؛ وبخاصة بين الفينيقيين الذين أثروا في العبرانيين تأثيرا عظيما لقربهم الشديد منهم كما تقول التوراة نفسها. وقد حدث منذ عشرة أعوام أن سقطت صخرة من واجهة الجبل المشرف على البحر الأبيض المتوسط في «ببلوص» (جبيل) القديمة الواقعة على الساحل الفينيقي شمالي بيروت، فكشفت عن حجرة للدفن منحوتة في الصخر لأحد ملوك ذلك العصر الذي كان يعيش فيه أولئك الحكماء
18
الاجتماعيون المصريون القدماء الذين كنا بصدد ذكرهم. وهذا الكشف مضافا إلى أعمال الحفر التي عملت في جبانة «جبيل» الملكية التي أعقبت ذلك، قد أماط لنا اللثام عن سلسلة من المقابر التي استعملت لدفن ملوك «جبيل» الفينيقيين، وهذه المقابر مصرية في طرازها وبنائها ومحتوياتها؛ لأنها تشتمل على توابيت حجرية ضخمة من الطراز المصري القديم وضعت فيها الجثث الملكية وجهزت بأوان وحلي غاية في البهاء، وجميعها ما بين مصنوع في مصر ويحمل أسماء فراعنة من الأسرة الثانية عشرة المصرية، أو مصنوع في فينيقية على الطريقة المصرية القديمة. وهذه المقابر تدل بدون شك على انتشار العادات الجنازية والدينية المصرية في فينيقية في ذلك العصر. على أن وجود مثل هذه العادات المستقاة من وادي النيل لا يكاد يدع لدينا أي شك في أن لفائف البردي التي كتبها الحكماء
19
الاجتماعيون المصريون القدماء كانت كذلك معروفة في فينيقية في ذلك الوقت. هذا إلى أنه قد كشف عن عدد عظيم من المقابر في منحدرات تل بلدة «مجدو» عثر فيها على مقدار كبير من الجعلان «الجعارين» المصرية وغيرها من الرموز المقدسة التي يرجع عهدها إلى أيام حكماء الاجتماع المصريين القدماء.
فمن المحتمل إذن أن العقائد التبشيرية الاجتماعية التي قامت في مصر كانت معروفة في آسيا الغربية منذ عصر مبكر يرجع إلى سنة 2000 قبل الميلاد، وأن الكنعانيين كانوا على علم بها قبل قيام العبرانيين بغزو فلسطين بزمن طويل. وقد صرح «زكر بعل» ملك «ببلوص» (جبيل) الفينيقي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد (أي في زمن القضاة العبرانيين) لرسول مصري في بلاطه، رغم امتهانه له، أن المدنية قد جاءت إلى فينيقية عن طريق مصر. فقال ما نصه:
إن آمون يمد كل الأقطار، وهو يمدها بعد أن أمد مصر التي جئت منها؛ إذ إن المهارة في الحرف قد خرجت من مصر لتصل إلى مكان مقامي، والتعليم قد خرج منها ليصل إلى مكان مقامي.
20
ومن الجلي أن هذه الكلمات تكشف لنا عن الاعتراف بأن مصر كانت منبعا لمدنية سامية في ذلك العهد.
ومن المهم أن نشير هنا في هذه المناسبة إلى أن ذلك الرسول المصري قد شاهد بنفسه شابا فينيقيا يقع في غيبوبة نبوة تماثل بالضبط ما كانت تمتاز به صورة النبوءة العبرانية المبكرة بين بني إسرائيل كما حدث مثلا في أمر شاءول، ومنه جاء المثل الذي يقول: «أشاءول أيضا بين الأنبياء.»
21
ولا بد إذن أن تعاليم الحكماء المصريين القدماء الاجتماعية كانت قد كونت جزءا من التقاليد الدينية لدى الفينيقيين والكنعانيين، وبقيت بينهم عدة قرون قبل أن تظهر «المسألة الاجتماعية» وتشحذ عواطف الرجال ذوي الشعور الخلقي الحي من العبرانيين أمثال «عاموس» و«هوشع» في خلال القرن الثامن قبل الميلاد. وكما حصل في مصر من قبل، كانت رسالة أنبياء العبرانيين في أول أمرها أيضا لا تكاد تخرج عن كونها سخطا على سوء حالة العدالة الاجتماعية،
22
كما كان المسرح والإخراج التمثيلي لذلك السخط يقام في غالب الأوقات في البلاط الملكي ، بل كان يواجه به الملك نفسه، كما كان يحدث بالضبط في مصر.
وكانت أقوال النبي العبراني هي أيضا مثل ما كان يحدث في مصر بالضبط، تنتقل من مجرد السخط إلى تصوير لعصر جديد يحل عندما يتولى الحكم ملك عادل يسود في عهده حكم العدالة، ولعلنا نذكر تلك الصورة التي صورها «نفرروهو» لذلك الحكم حيث قال:
إن العدالة ستعود إلى مكانتها، والظلم سينبذ.
وعند هذه النقطة نجد أن النبي العبراني يرتفع في تصريحاته إلى تصورات سامية تصور لنا أن رسالة قومه الخلقية موجهة لجميع العالم، فهي بذلك تسمو تماما على صورة المستقبل الذهبي الذي رسمه الحكماء المصريون المبشرون القدماء. ومع ذلك يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن فكرة التبشير بعصر جديد قد نشأت بحذافيرها من التفكير الاجتماعي الذي قام به رجال الفكر المصري في وقت لم تكن قد أشرقت فيه بعد على روح الإنسان مثل تلك الصور للمثل العليا الإنسانية في أية بقعة من بقاع الأرض، ففي عالم كانت فيه القوة دائما هي الحق، وكانت الكلمة العليا للقوة، قد نظر المفكر المصري الاجتماعي إلى ما وراء الأمور الواقعة، وتجاسر على الاعتقاد بحلول عصر عدالة مثلى. وحينما علق بذهن النبي العبراني بهاء تلك الرؤيا وارتفع إلى أفق أعلى منها فإنه كان في الواقع يقف فوق كتفي المصري القديم. وحري بالعالم الحديث أن يدرك أن تلك الرؤيا التبشيرية كان لها تاريخ يرجع إلى ما قبل وجود الأمة العبرانية بأكثر من ألف سنة.
والواقع أن هذه الرؤيا السامية للمثل العليا الاجتماعية هي تراث ورثناه عن ماضي بني الإنسان بأجمعه، ولم يكن ميراثا عن شعب واحد بذاته.
وكذلك الحال في عالم السلوك، حيث نجد أن العبرانيين قد استقوا كثيرا من مؤلفات أو «أدب» الأمثال والأساطير التي كانت منتشرة إذ ذاك انتشارا عالميا قبل سنة 1000 قبل الميلاد.
وحينما حاول النبي «أشعيا» أن يبرهن على أن «آشور» لم تكن إلا آلة في يد «يهوه» ضرب لذلك مثلا عن الآلات الجامحة، يتضح أنه بلا شك يرجع إلى أصل أجنبي، قال:
هل تفتخر الفأس على القاطع بها، أو يتكبر المنشار على مردده؟ كأن القضيب يحرك رافعه، كأن العصا ترفع من ليس هو عودا.
أشعيا، الإصحاح العاشر: 15
وكان يظن أولا أن مصدر ذلك النوع من القصص أو الأمثلة الخرافية هو بلاد الهند، ولكن الأستاذ «مسبرو» وجد منذ زمن طويل أقدم خرافة معروفة من تلك الخرافات على لوح كتابة مصري بمتحف «تورينو».
وقد تأثر الأنبياء العبرانيون أيما تأثر بالمقابلة بين الرجل المستقيم والرجل الخبيث كما صورتها كتابات ذلك الحكيم المصري القديم؛ فقد اقتبس «أرميا» تلك الصورة الهامة للشجرتين اللتين تصورهما «أمينموبي»، كما يتضح ذلك من المقارنة الآتية:
أمينموبي (الحكيم المصري القديم)
النبي أرميا (من أسفار الكتاب المقدس)
والرجل الأحمق الذي يخدم في المعبد مثله كمثل شجرة نامية في غابة، ففي لحظة يفقد فروعه ويجد نهايته في [مرفأ الخشب] وينقل بعيدا عن مكانه.
ملعون ذلك الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه.
والنار مأواه.
وعن الرب «يهوه» يحيد قلبه ويكون مثل العرعر في البادية، ولا يرى إذا جاء الخير.
والرجل الحازم حقا ينتقي لنفسه مكانا.
بل يسكن الحرة في البرية أرضا سبخة وغير مسكونة.
فإنه مثل شجرة نامية في حديقة يزدهر ويتضاعف ثمره ويجلس في حضرة سيده.
ومبارك ذلك الرجل الذي يتكل على الرب «يهوه»، وكان الرب متكله.
وثمرته حلوة وظله وارف، ويجد آخرته في الحديقة.
فإنه يكون كشجرة مغروسة على مياه وعلى نهر تمد أصولها ولا تخشى إذا جاء الحر. ويكون ورقها أخضر، وفي سنة القحط لا تخاف ولا تكف عن الإثمار. (أمينموبي 6: 1-12) (أرميا 17: 5-8)
وحينما يتأمل الباحث تلك الصورة الشيقة التي رسمها «أمينموبي» للشجرتين فإنه يثب إلى ذهنه المزمور الأول الذي جاء فيه:
المزامير (1)
طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس. (2)
لكن في ناموس الرب «يهوه» مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارا وليلا. (3)
فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح. (4)
ليس كذلك الأشرار لكنهم كالعصافة التي تذروها الريح. (5)
لذلك لا تقوم الأشرار في الحساب ولا الخطاة في جماعة الأبرار.
المزمور الأول: 1-5
ونلاحظ أن الحساب المذكور هنا لم يرد ذكره في «سفر المزامير» كله إلا هذه المرة، وهذه ملاحظة لها خطرها؛ لأن فكرة الحساب في عالم الآخرة - كما رأينا فيما تقدم - هي من ثمرات التمدين المصري القديم.
وكذلك نلاحظ أن توكيد ذكر مجاري المياه في الصور العبرانية أمر هام أيضا؛ وذلك لأن النصف الجنوبي من فلسطين شبه صحراوي، وكانت قلة الماء فيه من أسباب المتاعب الشديدة كما هي الحال هناك إلى يومنا هذا.
ونلاحظ من جهة أخرى أن العلامة «الهيروغليفية» الدالة على كلمة «حديقة» كانت ترسم بصورة «بركة حديقة»، ولذلك كان مجرد ذكر كلمة «حديقة» دلالة على الماء لاعتبار ذلك عندهم من الأشياء البدهية، ومن ثم لم تذكر كلمة «ماء» بعينها في الوصف الذي وضعه «أمينموبي».
ولذلك نرى أن مشابهة الصور المصرية للصور العبرانية أدق مما يبدو في الظاهر.
ومما يلفت النظر ذلك التعديل الذي أدخله كاتب المزامير بتركه كلمة «شجرة» واستعماله بدلا منها كلمة «العصافة» للتعبير عن الرجل الشرير، كما أن «أرميا» فضل ذكر كلمة «العرعر» البري الجاف الذي يكثر وجوده في وطنه «يوده». وقد صار كل من الزمان والمكان اللذين عاش فيهما رجال الإصلاح الاجتماعيين الدينيين - وهم الذين نسميهم الأنبياء العبرانيين - مما يدخل في تاريخ تطور حياتهم الخلقية والدينية أمرا مفهوما ذائعا الآن، بفضل ما قام به العلماء المحدثون. ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نقول مثل هذا القول عن الأغاني العبرانية الدينية؛ إذ قد قامت بشأنها اختلافات عريضة بين العلماء العبرانيين ومؤرخيهم من حيث تحديد تاريخ «المزامير»، فقد كان هناك رأي فيه غلو ينسبها إلى أصل متأخر جدا، حتى لقد اعتبر تاريخ وضعها كلها بعد عهد نفي العبرانين في بابل، ولكننا نعرف أن الأناشيد الدينية كانت منتشرة في عهد مبكر جدا في كل من «بابل» و«مصر»، ولم يكن هناك من الأسباب على ما يظهر ما يدعو أهل فلسطين - سواء أكانوا من الكنعانيين أم من العبرانيين - إلى عدم استعمال ذلك النوع من الأدب قبل عهد «النفي العبراني» بزمان طويل، أسوة بما رأيناه من اقتباس أنبياء العبرانيين للآراء الاجتماعية المصرية. ولا يمكننا أن نشك في أن النبي «أرميا» كان على علم بالصورة التي صورها الحكيم المصري «أمينموبي» للشجرتين، ولا بد من أن تلك الصورة كانت كذلك معروفة عند مؤلف «المزمور» الأول.
وقد لاحظنا فيما سبق أن مؤلفي «المزامير» العبرانيين قد رسموا صورة تدل على الحماية الإلهية المستمدة من تحت جناحي إله الشمس المصري الظليلين، ولا بد أنهم كانوا كذلك على علم بأنشودة «إخناتون» العظيمة التي وضعها لإله الشمس. وهنا أيضا يحتمل أن يكون الأصل المصري القديم لتلك الأنشودة قد انتشر في فلسطين أو فينيقية قبل ظهور المزامير العبرانية بزمن طويل؛ فقد انتهى «إخناتون» من إخراج أنشودته هذه قبل منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ومن البدهي أن أعداءه الحانقين عليه ما كانوا يتركونها تنتشر في مصر مدة ستة أو سبعة قرون (أي إلى ما بعد سنة 1000 قبل الميلاد بكثير)، وهو الوقت الذي ابتدأ فيه العبرانيون يبدون اهتمامهم بها، وعلى ذلك يجب التسليم بأن تلك الأنشودة انتقلت إلى آسيا في عهد «إخناتون» نفسه، وأنها بذلك أفلتت هناك من الدمار المحقق على يد أعدائه.
وقد حدث فيها تغيير عظيم بعد أن ترجمت إلى بعض اللهجات السامية من لهجات آسيا الغربية، كاللغات الفينيقية أو الآرامية أو العبرية على الأرجح. على أنه بفحص محتويات الفقرات المشابهة لها (من المزمور 104) التي أوردناها فيما تقدم مع ترجمة الأنشودة، يظهر لنا مدى الشبه المدهش بين الصورتين، لا من حيث مضمون «أنشودة إخناتون» فحسب، بل إننا كذلك نجده في تتابع الأفكار وترتيبها الظاهري، فإن ذلك بقي في الرواية الآسيوية كما كان في أنشودة إخناتون، ولا يمكن بحال أن تكون تلك المشابهات من قبيل الصدفة، بل إنها بالعكس دليل على وجود جزء عظيم من الأنشودة المصرية الدينية القديمة منشورا بشكل معدل في المزامير العبرانية.
وقد مضى الآن ما يقرب من جيل منذ أن لفت المؤلف الحالي الأنظار إلى التشابه المدهش الموجود بين المزمور 104 وبين الأنشودة الإخناتونية المنظومة لإله الشمس.
23
ولم يكن في استطاعتي في ذلك الوقت أن أتعرض لأكثر من بيان وجه الشبه فقط؛ إذ كان من الحكمة ألا تبنى أية نتيجة على مجرد وجود تلك الحقيقة، ولكن الأبحاث والكشوف التي تلت ذلك العهد قد غيرت موقفنا تغييرا جوهريا، حيث صار لدينا الآن الأصل الهيروغليفي المصري الذي ترجمت ونشرت منه فقرات كاملة برمتها في «كتاب العهد القديم العبراني»، فقد تعرف الأستاذ المأسوف عليه «هوجو جرسمان»
Hugo Gressman ، البحاثة الضليع وصاحب الرأي الثاقب في الأدب العبراني، بلا تردد على المنهل المصري الذي استقى منه «المزمور 104» المذكور الذي انحدر إلى فلسطين على ما يعتقد عن طريق فينيقية، بل قد ذهب الأستاذ «جرسمان» هذا إلى أبعد من ذلك، بأن تعرف على وجود مؤثرات أجنبية في المزامير العبرانية، حيث يقول:
إن أقدم موضوع أسطوري تناولته «الأناشيد العبرانية» هو خلق العالم، وهو وأسطورة الخلق نفسها يحتمل أنهما نشآ في بابل، وأما موضوع العناية الربانية بالعالم فإنها فكرة جاءت فيما بعد، وقد شقت طريقها إلى المزامير الفلسطينية بتأثير مصر القديمة.
وبذلك تكشف لنا أنشودة إخناتون عن المنهل الذي استقى منه مؤلف المزمور العبراني إدراكه لرحمة الله في عون مخلوقاته حتى أصغرها؛ أي إن موقف العبرانيين من جهة الطبيعة بصفتها عالم الكون، وتصورهم لعناية الخالق الرءوف بخلقه، يرجع أصله إلى أنشودة إخناتون وما يشبهها من الأناشيد الدينية بمصر القديمة، ومن المحتمل كذلك أن الشعور بهذه الطيبة والشفقة الإلهية المعبر عنه في الأنشودة الإخناتونية - والذي ظهر فيما بعد على الأخص في عصر التنسك الشخصي في مصر - كان له أيضا تأثير هام في ظهور التدين الشخصي بين العبرانيين.
ومن المهم كذلك أن نعرف ما إذا كانت أنشودة إخناتون بين العوامل التي أدت تدريجا إلى اعتراف العبرانيين بالوحدانية، ولا شك أنه من المحتمل جدا أن يكون لها بعض المكانة بين مثل هذه العوامل؛ ذلك بأنه لما كان إخناتون ملكا على أمة ذات سيطرة عالمية فقد أكسبه ذلك تلك النظرة الأولية الواسعة التي رأينا صورتها من قبل منعكسة في أنشودته العظيمة. والواقع أن أنشودة لها نظرة شاملة كهذه تتردد في أنفاسها الوحدانية الإلهية المطلقة وتنتشر في آسيا الغربية قبل ظهور الأدب العبراني الذي جاء به الأنبياء العبرانيون بعدة قرون، لا يستغرب أن يكون لها بعض التأثير في تكوين النظرة العالمية التي فرضت فيما بعد على الأنبياء العبرانيين بسبب حرج الموقف الذي وجد فيه شعبهم حيث قد صاروا ألعوبة في يد الممالك العظيمة وقتئذ، وقد بقيت حالهم تزداد حرجا إلى أن غيروا نظرتهم إلى «يهوه» الذي كان يوما ما معبودهم المحلي البدوي، فصار في نظرهم إلها مسيطرا على كل الأمم، يدير حركات جميع ملوك الأرض، ويستطيع السيطرة على كل مقاصدهم العدائية وتحويلها لخير بني إسرائيل ثم لخير جميع العالم في النهاية.
على أن وجهة نظر كهذه تؤدي - طبعا - إلى الاعتراف بنظام خلقي عالمي، ولعلنا نذكر أن كلمة «إخناتون» العليا حينما حاول نشر عقيدة التوحيد الشمسية خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت هي «العدالة»، فكانت الحركة التي قام بها هي التطور المنطقي للعقيدة الشمسية القديمة التي اعترفت بسيادة «ماعت»؛ أي «العدالة» بصفة كونها نظاما خلقيا قوميا، فكان مرمى الأنشودة الإخناتونية التوسع في تلك السيادة القومية للعدالة وجعلها نظاما خلقيا عالميا تحت سيطرة إله واحد. على أنه ليس من السهل أن يستدل الباحث على انتقال الأفكار من جهة إلى آخرى، غير أن البحوث الحديثة قد وضعتنا في موقف يمكننا من إثبات الحقيقة الجوهرية في هذا الشأن؛ وهي أن العبرانيين اطلعوا على الأدب الخلقي والديني عند الأمم الأخرى ونقلوا ما عثروا عليه من أفكارهم، بل إنهم كانوا ينقلون هذه الآراء أحيانا بنفس التعابير التي صيغت فيها تلك الأصول الأجنبية.
والواقع أنه لا يوجد شيء في كل مجال الأدب العبراني كان له من التأثير العميق في الحضارة الغربية أكثر من تأثير نصائحهم في السلوك المستقيم عن طريق الأمثال، وهي التي نسميها «سفر الأمثال»؛ إذ إن ما في هذا الكتاب من التصوير السامي للأخلاق، وما احتواه من الحكمة الخلقية النافذة، قد امتزج بنفس مادة تصوراتنا الحديثة للحياة الفاضلة. ونجد في الترجمة الخلابة التي أقر بها «الملك جيمس»
24
من الأمثال السائرة الحاذقة ما يتمثل به بيننا يوميا.
وقد أدت العبارة الشائعة «أمثال سليمان» إلى اعتقاد القارئ المعتاد أن أمثال ذلك الكتاب هي من عمل «الملك سليمان الحكيم»، وفي الحق أنه يبتدئ بنسبة الكتاب إلى «سليمان» في مطلع الفصل الأول، ثم تكررت تلك التسمية في بداية الفصل العاشر في شكل عنوان لمجموعة أخرى من «أمثال سليمان»، كما أنه توجد به مجموعة ثالثة تحمل اسم «سليمان» وتبتدئ بالفصل الخامس والعشرين، في حين أن الفصلين النهائيين من الكتاب ينسبان إلى مؤلفين آخرين مجهولي الاسم وأحدهما منسوب إلى امرأة، فيتضح من ذلك ومما يشهد به «كتاب العهد القديم» نفسه أن كتاب الأمثال هو مجرد مؤلفة جمعت من مجموعات متفرقة، ويوجد بالكتاب فضلا عن هذه المجاميع الخمس التي كانت يوما ما متفرقة، مجموعة سادسة؛ لأننا نجد في صلب الفصل الرابع والعشرين (حتى في الترجمة الإنجليزية) ما يكشف لنا عن عنوان جديد بهذا النص «هذه أيضا «كلمات» الحكماء»، ويلي ذلك مباشرة جزء قصير يجوز أنه ملحق وضعه مؤلف مجهول، كما نجد مدفونا في قلب الفصل الثاني والعشرين، دون أي إشارة تعليقية من جانب المترجمين حتى في النسخة المنقحة، ما هو بالتأكيد بداية جزء آخر إن لم يكن عنوانا له (22-17) يسمى «كلمات الحكماء» مثل ما وجدناه في الفصل الرابع والعشرين سواء بسواء. فمن هم يا ترى (هؤلاء الحكماء) المعلمون الاجتماعيون - لأن كلمة «حكاميم» العبرية يدل معناها على صيغة الجمع - الذين قاموا بكتابة هذا الجزء الذي يبلغ نحو فصل ونصف فصل؟
الواقع أن هذا السؤال قد عجز عن الإجابة عنه كل الباحثين إلى وقت قريب جدا، غير أنه قد طبعت ورقة بردية كانت قد مكثت مدة طويلة في المتحف البريطاني، فكشفت لنا عن أن مؤلف ذلك الجزء لم يكن سوى صديقنا المصري القديم أمينموبي ! وجميع العلماء بكتاب العهد القديم الذين يعتد بآرائهم وأبحاثهم فيه يجزمون الآن بأن محتويات ذلك الجزء الذي يؤلف نحو فصل ونصف فصل «كتاب الأمثال» قد أخذ معظمه بالنص عن حكم الحكيم المصري القديم أمينموبي؛ أي إن النسخة العبرانية هي تقريبا ترجمة حرفية عن الأصل الهيروغليفي العتيق. وكذلك صار من الواضح أيضا أن حكم «أمينموبي» شائعة في مواضع عدة من كتاب العهد القديم، حيث نراها مصدرا لتلك الأفكار والتشبيهات والمقاييس الخلقية؛ وبخاصة لروح الشفقة الإنسانية الحارة، لا في كتاب الأمثال فحسب بل في القوانين العبرانية وفي سفر «أيوب»، وكما ذكرنا سابقا في سفر شاءول و«إرميا» أيضا. وقد أشرنا آنفا إلى وجود عناصر أجنبية في كتاب الأمثال لم يتردد المصنف القديم في الإشارة إليها في العناوين؛ لأن الحكيم «أجور» الذي تؤلف حكمه الفصل الثلاثين والملك «لمويل» الذي يدين لأمه بحكمه التي تؤلف الفصل الحادي والثلاثين لم يكونا بداهة من أصل عبراني.
ويتضح بجلاء من «سفر الملوك» (4: 30-31) أن أمثال «سليمان» نمت في جو عالمي؛ إذ نرى فيه ما يأتي:
وفاقت حكمة سليمان جميع بني المشرق (البدو) وكل حكمة مصر.
وكان أحكم من جميع الناس من إيثان الأزراحي وهيمان وكلكول ودردع بني «ماحول»، وكان صيته في جميع الأمم حواليه.
من سفر الملوك 4: 30-31
فأسماء هؤلاء الأشخاص التي لا تنتمي إلى أصل عبراني تدل على أن كل أولئك الحكماء كانوا أجانب بالنسبة إلى العبرانيين.
وقد كان المعروف من زمان طويل أن «محاكمة»
25
سليمان المشهورة ترجع إلى أصل هندي شرقي، ومع ذلك فإن الأبحاث العلمية لم تكشف لنا من قبل عن مؤلف شرقي قديم بلغة غير فلسطينية ترجم عنه بالتحقيق جزء بأكمله من «كتاب العهد القديم» كما نرى في هذه الحالة. ولهذا الكشف أهمية بعيدة المدى، لدرجة أننا مع إشفاقنا من ملل القارئ نرى أنه لا بد من إيراد بعض الأمثلة الدالة على ما تقدم؛ فكلمات الحكماء في «سفر الأمثال» العبراني، وفي حكم «أمينموبي» تبتدئ بما يأتي:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
أمل أذنيك لتسمع أقوالي (17) أمل أذنك واسمع كلام الحكماء
واعكف قلبك على فهمها
ووجه قلبك إلى معرفتي.
لأنه شيء مفيد إذا وضعتها في قلبك. (18) لأنه حسن إن حفظتها في جوفك.
ولكن الويل لمن يتعداها.
إن ثبتت جميعا على شفتيك.
سفر الأمثال (22: 17-18)
والمقصود من مثل تلك النصائح قد عرفته «الأمثال»، وهو ما أشار إليه «أمينموبي» من أن المهارة العملية أصل جوهري في المعاملات الرسمية، كما نرى في نص كل منهما:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
لأجل أن ترد على تقرير لمن قد أرسله. (21) لأعلمك قسط كلام الحق لترد جواب الحق للذين أرسلوك. (سفر الأمثال 22: 21)
غير أن العبارة «كلام الحق» الواردة في «سفر الأمثال» هي بالطبع تحريف لما يقابل كلمة «تقرير» الواردة في الأصل المصري القديم.
وعلى أية حال فإننا نجد في كل من «سفر الأمثال» وحكم «أمينموبي» أن الغرض الخلقي من تلك النصائح ظاهر في كافة ثناياهما، ولذلك نرى أن إيراد بعض أمثلة هنا مفيد جدا، فمن ذلك:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
لا تزحزحن علامات حدود الحقول (10) لا تنقل التخم القديم ... ... ... ... ...
ولا تدخل حقول الأيتام.
ولا تكونن شرها من أجل ذراع،
أرض ولا تتعدين على حدود أرملة. (أمينموبي 7: 12-15) (سفر الأمثال 23: 10)
ومن المهم أن نلاحظ أنه قبل انكشاف النقاب عن حكم «أمينموبي» هذه أبدى نقاد «العهد القديم» أن كلمة «قديم» التي تشبه في اللغة العبرانية كلمة «أرملة» هي بلا شك غلطة في النسخة الخطية صحتها «أرملة»، وعلى ذلك اتفقوا على جعل تلك الفقرة كالآتي:
لا تزحزحن حدود الأرملة
ولا تدخلن في حقول اليتامى.
وقد جاء انكشاف الأصل المصري القديم مؤيدا لذلك التصحيح ومثبتا له، وقد يكون من أهم المشابهات العديدة البارزة التي يمكننا إيرادها هنا تلك التحذيرات الخاصة بالثراء، وهي:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
لا تتعبن نفسك في طلب المزيد حينما تكون قد حصلت بالفعل على حاجتك. (4) لا تتعب لكي تصير غنيا. ... ... ... ...
وإذا جلب إليك المال بالسرقة فإنه لا يمكث معك سواد الليل، وعندما يأتي الصباح لا يكون بعد في منزلك. (5) هل تطير عينيك نحوه وليس هو؟
بل يكون قد صنع لنفسه أجنحة كالإوز وطار إلى السماء.
لأنه إنما يصنع لنفسه أجنحة كالنسر يطير نحوه السماء. (أمينموبي 9: 14-10: 5) (سفر الأمثال 23: 4-5)
والسطر الذي حذفناه هنا من نص «الأمثال» مشوه في الأصل العبراني، ومن المحتمل أنه يمكن إصلاحه بفحص الأصل المصري القديم، غير أن تناول مثل هذه المسائل التحليلية لا يمكن في مثل هذا الكتاب.
وفيما قبل سنة 2000ق.م كان حكماء الاجتماع المصريون قد وازنوا بين الغنى والأخلاق، وفضلوا، بصراحة، الأخلاق على الغنى، واعترفوا تمام الاعتراف بتفاهة الثراء المادي، وأنه لا يجدي شيئا وبخاصة في عالم الآخرة. وقد وفى المفكرون الاجتماعيون البحث في حماقة الاتكال على الغنى في نواح كثيرة مختلفة، ونجد في المواضع الكثيرة التي تناولت فيها الأمثال العبرانية هذا الموضوع ما يدل على أنها كانت واقعة بالبداهة تحت تأثير أقوال الحكماء المصريين القدماء. وقد تكون الموازنة الآتية إيضاحا آخر لذلك:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
الفقر في يد الله خير من الغنى في الهري (المخزن). (16) القليل مع مخافة الرب (يهوه) خير من كنز عظيم مع هم.
وأرغفة (تحصل عليها) بقلب فرح خير من ثروة (تحصل عليها) في تعاسة. (17) أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة. (أمينموبي 9: 5-8) (سفر الأمثال 15: 16-17)
والمثال الآتي في نفس الموضوع أيضا:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
والثناء على الإنسان كشخص محبوب عند الناس، خير من الغنى في الهري (المخزن). (1) لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام. (أمينموبي 16: 11-12) (سفر الأمثال 17: 1)
على أن تاريخ العبرانيين فيما يلي هذا العصر لا يترك مجالا للشك في أنهم كانوا لا يكترثون بالقوة المالية، أو النجاح في الأعمال، فضلا عن أن المصنف لسفر الأمثال في «العهد القديم» لم يتجاهل الحكمة المصرية القديمة التي من هذا القبيل كما سيأتي ذكره، وربما لاحظ الباحث أن تلك التحذيرات التي جاءت في سفر الأمثال بشأن الغنى والترف ليست مستقاة من «كلام الحكماء» في التوراة («الأمثال» 22: 17، 24: 22).
وهذه حقيقة جديرة بالاهتمام، فإذا ما درست تلك الأمثال درسا أوفى فإن ذلك بلا شك يكشف لنا عن أن أفكار المصنف العبراني في كافة موضوعات سفر الأمثال كانت تعتمد على حكم «أمينموبي»، ولدينا فيما يلي مثال آخر، لا يدخل في حدود «كلمات الحكماء» يحذر من الحقد والانتقام (الأمثال 20: 22).
ويهتم «أمينموبي» كثيرا بتحذير الشباب من الحماقة أو مخالطة رجال ذلك الطراز، كما ترى المصنف العبراني أيضا يحذر من ذلك، حيث قالا:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
لا تصاحبن رجلا حاد الطبع ولا تلحن في محادثته. (24) لا تستصحب غضوبا، ومع رجل ساخط لا تجيء. (أمينموبي 11: 13-14) (سفر الأمثال 22: 24)
ونجد أن الكلمة العادية التي تعبر عن الرجل الطائش صاحب الطبع الحار في حكم «أمينموبي» هي بكل بساطة «الشخص الحاد». ومن المهم أن نلاحظ هنا أن الأصل العبراني لتلك الفقرة إذا ترجم حرفيا يكون معناه «الرجل ذو الحرارة»؛ وهي عبارة لا توجد قط في أية جهة أخرى من كتاب «العهد القديم»، وهي بالبداهة محاولة من المصنف لنقل التعبير المصري القديم إلى العبرانية. وعلى كل حال نجد أن الغضب الطائش والانتقام مذمومان في كل من «سفر الأمثال العبراني» وفي حكم «أمينموبي المصري»، وإليك ما قالاه في شأن ذلك:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
لا تقولن قد وجدت حاميا.
لا تقل أني أجازي شرا.
والآن يمكنني أن أهاجم الرجل الممقوت.
انتظر الرب (يهوه) فيخلصك.
ضع نفسك في ذراعي الإله يهزمهم صمتك (يعني الأعداء). (لا تقل أجزي على الشر بل انتظر الرب فيخلصك.) (أمينموبي 22: 1-8) (سفر الأمثال 20: 22)
وقد كان «أمينموبي» ينصح ابنه بنفس هذه الطريقة الشديدة ناهيا إياه عن مشاحنة الشخص الحاد الفم «لأن الإله يعرف كيف يجيبه على عمله (5: 10-17).» وذلك يشبه أيضا ما جاء في سفر الأمثال وهو: «انتظر الرب (يهوه) فيخلصك.»
وتتفق نصائح «أمينموبي» فيما يختص بالسلوك في حضرة أصحاب المقامات العالية مع الحياة المصرية القديمة أكثر بكثير مما تتفق مع الحياة العبرانية؛ ذلك لأن مراعاة السلوك اللائق في مصر من جانب الموظف المصري الشاب كان لا مناص منه لمن كان يريد مستقبلا ناجحا، فكما أن آداب اللياقة الرشيقة المرعية في البلاط الباريسي في عهد اللوايسة المتأخرين من ملوك فرنسا قد انتشرت في كل العواصم الأوروبية التي كانت أقل ثقافة من باريس، كذلك كانت تلك الآداب العالية ورسميات القصور في المعاملات الرسمية المستحدثة في أخلاق شعب في أصوله خشونة الصحراء البدوية، في عهد الملكية العبرانية الفتية، متأثرة أيما تأثر بآداب اللياقة التليدة المرعية في بلاط الفرعون الذي قبض موظفوه على زمام الحكم في فلسطين مدة قرون عديدة. ومن أجل ذلك لم يتردد مصنف «سفر الأمثال» العبراني في توصية الإسرائيليين المعاصرين له باتباع آداب اللياقة المصرية الرسمية. وإليك ما ذكر في ذلك في كل من النص المصري والنص العبراني:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
لا تأكل الخبز في حضرة رجل عظيم. (1) إذا جلست تأكل مع متسلط فتأمل ما هو أمامك تأملا.
ولا تعرض فمك في حضرته. (2) وضع سكينا لحنجرتك إن كنت شرها.
وإذا أشبعت نفسك من طعام محرم. (3) لا تشته أطايبه؛ لأنها خبز أكاذيب.
فإن ذلك ليس إلا لذة ريقك.
وانظر فقط (وأنت على المائدة) إلى الوعاء الذي أمامك وكن مكتفيا بما فيه. (أمينموبي 23: 13-18) (سفر الأمثال 23: 1-3)
وكان المترجمون للرواية المنقحة من «كتاب العهد القديم» غير متأكدين مما إذا كانوا يترجمون النص العبري بقولهم: «ما هو أمامك» أو يترجمونها «بالشخص الذي أمامك»، وقد حل تلك المسألة ما جاء عن الحكيم المصري «أمينموبي» حيث قال ما ترجمته: «الوعاء الذي أمامك.» وقد غير المصنف العبراني ترتيب الأفكار فنقل العبارة «خبز أكاذيب» التي توازي في الأصل المصري القديم: «طعام محرم»، (وحرفيا: طعام خطأ) إلى السطر الأخير.
على أن نصيحة «أمينموبي» المصري هذه قديمة جدا؛ لأنها مستقاة من حكم «بتاح حتب»، فكان عمرها في زمن «أمينموبي» قد بلغ حوالي ألفي سنة، ولذلك نجد نص النصيحة بالكلمات الأصلية التي فاه بها الحكيم «بتاح حتب» أكثر وضوحا، قال:
إذا كنت امرأ من الذين يجلسون (على المائدة)
في حضرة رجل أعظم منك فخذ منه حينما يعطيك
ما يضعه أمامك، ولا تنظر إلى ما هو أمامه
بل انظر (فقط) إلى ما هو أمامك، ولا تقذفنه (حرفيا ترمينه)
بنظرات عديدة (لا تحملقن إليه)
واخفض من وجهك إلى أسفل إلى أن يخاطبك
وتكلم فقط حينما يوجه إليك الكلام.
26
فنجد هنا إذن حكيما عبرانيا يفرض على الشباب الإسرائيلي نصائح في آداب اللياقة كانت هي بنفسها المرشد الهادي للموظفين المصريين القدماء في البلاط الفرعوني في العهد الذي ظهرت فيه الأهرام؛ أي قبل ذلك العهد العبراني بألفي سنة، وعلى ذلك يحتمل أن تكون تلك الفقرة أقدم مادة في كتاب العهد القديم. ونجد في ذلك مثالا رائعا على أن الحياة العبرانية في فلسطين كانت تتطور تحت تأثير خبرة آلاف السنين من التجاريب الاجتماعية التي قد صارت تعد تاريخا قديما حينما ظهرت الأمة الإسرائيلية في عالم الوجود.
وقد لا يوجد في كتاب «العهد القديم» مثل من الأمثال كثر اقتباسه في عصرنا الحالي الذي ساد فيه الاهتمام بالمعاملات أكثر من ذلك المثل الذي يطري من يحسن عمله، وهو:
هل ترى رجلا ماهرا في عمله
إنه سيقف أمام الملوك.
والترجمة السبعينية (وهي الترجمة الإغريقية القديمة) «لكتاب العهد القديم» لا تحتوي على الفعل «ترى»، بل كانت تبتدئ بكلمة «رجل»، وقد أوضح الأستاذ «جرم» أن الفعل الذي تبتدئ به الجملة تابع للفقرة السابقة من الأصل العبراني،
27
ولذلك نجد أنه بعد إصلاح ذلك الخطأ تصير الموازنة هكذا:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
الكاتب الماهر في وظيفته سيجد نفسه كفوا لأن يكون من رجال البلاط. (29) أرأيت رجلا مجتهدا في عمله، أمام الملوك يقف؟ (أمينموبي المصري 27: 16-17) (سفر الأمثال العبراني 22: 29)
ولا حصر لما نستطيع إيراده من أمثال تلك المماثلات المتشابهة، ولكن ما أوردناه من الأمثلة التي ذكرت يكفي بلا شك للدلالة على أن «سفر الأمثال» العبراني يحمل في ثناياه جزءا جوهريا من كتاب حكم لمصري قديم سابق له.
وقد جرى ذلك النقل عن حكم المصريين القدماء دون ذكر المصدر المنقول عنه، وهذا أمر طبعي حصوله في مثل ذلك الأوان، غير أنه من الأمور الهامة أننا عثرنا في كتاب «سفر الأمثال » على إشارة تدل بلا شك على الاقتباس من كتاب «أمينموبي» المصري القديم، ولو أن هذه الإشارة لم تكن بطبيعة الحال على شكل عنوان أو بذكر اسم ذلك الحكيم المصري الذي عاش في مثل ذلك العصر البعيد؛ ذلك بأننا نجد في المقدمة «لكلمات الحكماء» السؤال الغريب الآتي، وهو الذي قد حار في ترجمته مصنفو الترجمة المنقحة لكتاب العهد القديم، وهاك نص السؤال:
ألم أكتب لك أمورا شريفة
من جهة مؤامرة ومعرفة؟
سفر الأمثال 22: 20
وقد وضعت لجنة التنقيح ملاحظة في الهامش خاصة بعبارة «أمورا شريفة» لفتوا بها النظر إلى أن «تلك العبارة مشكوك فيها». والواقع أن المصنفين العبرانيين الأقدمين كانوا أنفسهم يشكون فيها بعض الشك أيضا؛ وذلك لأنهم وضعوا هجاء آخر لتلك الكلمة على هامش النسخة العبرانية فصارت الكلمة بحسب هجاء المصنفين العبرانيين القدامى تعني «ثلاثين»، فإذا ارتضينا هذه الكلمة يصير السؤال هكذا: «ألم أكتب لك أمورا ثلاثين من جهة مؤامرة ومعرفة؟» ويبدو لنا لأول وهلة أن صيرورة السؤال بهذه الصيغة يحدثنا بشيء لا معنى له، ولكننا عندما نلاحظ كما لاحظ الأستاذ «إرمان» أن «أمينموبي» قد قسم كتابه المذكور إلى ثلاثين فصلا ورقمها، فإن كل شيء بعد ذلك يصير واضحا.
ولا بد أن لفافة البردي المصرية الحاوية لهذا الكتاب كانت تسمى في فلسطين باسم «ثلاثون فصلا في الحكمة» أو ما يشبه ذلك، ثم اختصر الاسم بعد ذلك على ما يظهر إلى عنوان بسيط أطلق عليها وهو «الثلاثون».
وعلى ذلك تعطينا تلك الترجمة الحقيقية التي وصلنا إليها عن طريق اقتراح العالم «جرم» وبدون أي تغيير في أصل المتن العبراني الموازنة التالية:
أمينموبي المصري
سفر الأمثال العبراني
تبصر لنفسك في هذه الفصول الثلاثين (20) ألم أكتب لك ثلاثين فصلا
حتى تكون مسرة (لك) وتعليما.
من جهة مؤامرة ومعرفة؟ (أمينموبي 27: 7-8)
سفر الأمثال (22: 20)
وإن ذكر أحد مؤلفي «العهد القديم» - على غير المألوف - لكتاب أجنبي عن العبرانية، كان ينقل عنه من غير تحفظ، يؤكد لنا أنه كان تحت يده ترجمة عبرانية كاملة للكتاب الذي وضعه «أمينموبي» المصري، بمعنى أن تلك الترجمة كانت تحتوي على جميع الثلاثين فصلا التي حواها الأصل المصري الهيروغليفي، وإلا كانت كلمة «ثلاثين» بعد وضعها في كتاب الأمثال لا تدل على أي معنى. ولكي يحافظ الناقل العبراني على هذا المعنى نراه، مع عدم نقله للثلاثين فصلا التي يحويها الأصل المصري القديم برمتها، قد استعمل بالضبط «ثلاثين» مثلا في نسخته العبرية المختصرة (الأمثال 22: 17، 24: 22).
ولا شك أن القارئ قد كون لنفسه ملاحظة ذات أهمية بارزة بعد أن تأمل تلك الفقرات من كتاب الحكمة العبرية القديم، ووضعها جنبا لجنب مع الأصل المصري القديم الذي اقتبست منه. على أنه يتضح لنا، خلافا للأجزاء التي ترجمت ترجمة حقيقية، أن مصنف «كتاب الأمثال» لم يكن مستسلما ولا آلة جامدة في نقل تلك الحكم المصرية القديمة عن الترجمة الفلسطينية.
وليس لدينا أمل كبير في العثور يوما ما على تلك الترجمة، ولعله من الجائز أن يكون المترجم الفلسطيني نفسه قد أخرج الترجمة غير المقيدة التي وجدناها في «سفر الأمثال»، وعلى ذلك كان مصنف الأمثال ينقل عن تلك الترجمة كما هي.
ومهما يكن من الأمر فإن الحقيقة الناصعة هي أن الصورة التي ظهرت بها حكم «أمينموبي» مرارا في «سفر الأمثال» توضح لنا بجلاء أن المترجم أو المصنف العبراني قد اقتبس في الغالب مجرد الأفكار المصرية القديمة ونشرها بتصرف بما له من نظر ثاقب إلى الحياة، وبما له من المهارة الأدبية السامية والدراسة باللغة التي ينقل إليها، وهي عادة لغته. ويتضح ذلك تماما من إيراد بعض الأمثلة الواضحة القاطعة؛ فنجد مثلا أن «الغنى» يتخذ له أجنحة في كل من مصر وفلسطين، غير أن الأجنحة المصرية كانت أجنحة «إوز»، وأما الأجنحة في فلسطين، حيث لم تكن هناك مستنقعات زاخرة بالإوز البري، فقد أبدل المترجم بها أجنحة النسر.
وكذلك نجد في مصر أن رجل الأعمال الناجح كان في العادة «كاتبا»، أما في فلسطين حيث لم تكن الأحوال كذلك، فإن المترجم العبراني قد سماه «رجلا» فقط، ثم أردف ذلك بوصفه «بالمهارة في عمله» ليتم تحديد صفته.
ونجد في مصر أيضا أن أهم دين كان يدان به الإنسان لإله الشمس قبل ظهور «سفر الأمثال» بأكثر من ألف سنة هو هبة الماء، وقد اتخذ من شمولها لكل العالم دليلا على المساواة بين جميع الناس، وأما في فلسطين حيث يندر الماء ويكثر القحط، فإننا نجد أن خلق يهوه لجميع العالم هو الذي اتخذ سببا للمساواة بين جميع الناس بالرغم مما يوجد من الفرق بين الغني والفقر. وهاك ما جاء من التشابه في ذلك بين متون التوابيت المصرية القديمة وبين «سفر الأمثال» العبراني:
متون التوابيت المصرية
سفر الأمثال العبراني
لقد خلقت المياه العظيمة حتى يتمكن الفقير من استعمالها مثل الغني.
الغني والفقير يتلاقيان صانعهما كليهما الرب (يهوه). (سفر الأمثال 22: 2)
وقد أشرنا من قبل إشارة خفيفة إلى أن وجود روح الاتكال على المشيئة الإلهية في حكم «أمينموبي» قد أثرت تأثيرا دينيا عميقا لا شك فيه في حكماء فلسطين وأنبيائها، ففي نصيحة «أمينموبي» الجميلة القائلة: «ضع نفسك بين ذراعي الله» لا يكاد يخفى علينا أنها المصدر الذي نجد صداه في الكلمات التي يسميها الناس «بركات موسى» وهي:
إن الله الأبدي مكان سكن
وتحته ذراعاه الأبديتان.
فالرجل الأمثل في نظر الحكيم «أمينموبي» هو الذي يتكل على الله ويصبر على تحمل الظلم في صمت، واثقا من نزول الانتقام الإلهي على الظالم. فهل كان من باب الصدفة أن نجد الصيغة العبرانية، التي ظهرت فيما بعد، تقول عن أخلاق «موسى» ما يأتي:
وأما الرجل «موسى» فكان حليما جدا، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض.
سفر العدد 12: 3
على حين أن «موسى» قد مثل في الصيغة القديمة بالرجل القوي المعتمد على نفسه، وأنه رجل عمل مهاجم لا يحتمل وقوع أي ظلم على نفسه أو على قومه (؟) ولقد لفت الأستاذ «سلن»
Sellin
النظر إلى أن المثل الأعلى في الأخلاق عند العبرانيين القدامى كان يتمثل في رجل العمل والقوة والحكمة ذي المال والبنين العديدين، ولكن ظهرت بعد منتصف القرن الثامن ق.م فكرة مخالفة لهذه بالمرة تصور الرجل المثالي بأنه هو الحكيم المتواضع المهذب الصامت المجرد من الممتلكات المادية، ونرى هذا المثل الأعلى في ذروته متمثلا في صورة الخادم المتألم الذي يوصف بأنه:
لن يصيح أو يرفع صوته أو يجعله يسمع في الشارع.
أشعيا 42: 2
وأقوى من ذلك ما نجده في تصور «أشعيا» السامي عندما يقول:
وكان مضطهدا، ومع ذلك فإنه حينما عذب
لم يفتح فاه كالحمل الذي يساق إلى المجزرة
وكالنعجة الصامتة أمام من يجزها، فهكذا
هو لم يفتح فاه.
أشعيا 53: 7
وكان الحكيم «أمينموبي» يجد دائما مثله الأعلى في الرجل الصامت الذي يترك أمره لله.
والآن وقد علمنا أن كتابه كان يقرأ في «أورشليم»، وأن الحكماء والأنبياء العبرانيين كانوا ينتخبون منه المختارات ويقتبسون الاقتباسات، فإنه يجدر بنا أن نتساءل عما إذا كانت فكرة المتألم الصامت عند بني إسرائيل لا ترجع في أصلها إلى الاجتماعيين المصريين. وعلى أية حال فإنه صار من الواضح الآن أن المثالية الاجتماعية التي قامت على سمو التقدير للأخلاق، والتي هي أقدم ما عرف لنا من مذاهب تفويض الأمور للأقدار، بل كانت في ذلك العصر المذهب الوحيد من نوعه، قد ظهرت في مصر قبل سنة 2000ق.م، وكانت نفس الكتب التي تحتوي عليها يقرؤها في «أورشليم» أولئك الرجال الذين أنتجوا تلك الكتابات التي نسميها الآن «العهد القديم».
وكيف كان يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ فكما أننا نجد الآداب الأوروبية الحديثة قد نمت مشبعة بما ورثناه من قديم أدب الإغريق والرومان، كذلك كان محتما أن يتأثر العبرانيون في فلسطين كل التأثر في أفكارهم وكتاباتهم بآداب تلك الأمة العظيمة التي قبضت على زمام فلسطين ووضعتها تحت سيطرتها الثقافية والسياسية مدة تفوق مدة نفوذ «روما» في بلاد الغال (فرنسا القديمة).
وعلى ذلك فإن تراثنا الخلقي الديني العظيم الملهم الذي انحدر إلينا من العبرانيين يمكن التسليم بصفة قاطعة بأنه ميراث مزدوج.
فهو أولا: قد تكون من خبرة بضعة آلاف من السنين مارسها الشرق الأدنى القديم، وبخاصة مصر، قبل ظهور الأمة العبرانية.
وثانيا: أن تلك الخبرة قد رسخت قدمها بشكل مدهش وزيد عليها بما اكتسبه العبرانيون أنفسهم من التجارب الاجتماعية المتواصلة، على يد أولئك الأنبياء والحكماء الإسرائيليين.
وقد كان تبادل عوامل الثقافة بين فلسطين وجيرانها من كل الجهات واضحا منذ زمن بعيد على أساس ما لدينا من الكتابات العبرانية فقط، فهذه الكتابات تكشف لنا عن دوام مرور قوافل التجارة الأجنبية بهذه الأنحاء، فحينما كان العبرانيون في حاجة إلى الحدادين فإنهم كانوا يجلبونهم من المدن الفلسطينية، واقتبس مهندسو «سليمان» تصميم معبده في «أورشليم» من تصميم معبد مصري، وكذلك مهرة الصناع الذين قاموا ببنائه فقد أرسلهم «هرام» ملك «صيدا» إلى صديقه «سليمان»، وتزوج «إهاب» ملك بني إسرائيل من أميرة فينيقية وتولى حمايتها في إحضار آلهة لها أجنبية عن العبرانيين، وغيره من تلك الأمثلة التي لا حصر لها.
ويجب علينا الآن أن نضيف إلى هذه الأدلة المبينة المستقاة من «كتاب العهد القديم» تلك الأدلة التي أسفرت عنها الأبحاث الأثرية الحديثة، فقد أماطت لنا الحفائر الفلسطينية اللثام عن قائمة طويلة من البضائع الأجنبية التي اشتريت هناك ومعها عدد عظيم من الرسوم الزخرفية الأجنبية التي اجتلبت مع تلك البضائع، فضلا عن أدلة أخرى لا حصر لها تنطق بتأثير العوامل الأجنبية، فالأثاث الذي عثر عليه في قصر الملك «إهاب» في «سامرا» كان محلى بقطع من العاج نقشت عليها صور آلهة أجنبية، وبخاصة من آلهة مصر القديمة (انظر شكل
18 ). والواقع أنه يمكن كتابة مجلد بأكمله عن العناصر الثقافية الأجنبية التي انتشرت في فلسطين قبل أن يستوطنها العبرانيون، وظل أثرها يزداد بعد ظهور الملكية العبرانية في عالم الوجود. وربما كان من الواضح أيضا منذ زمن بعيد أن الأدب العبراني، بصفته معبرا عن الحياة العبرانية، لا بد أنه كان بطبيعة الحال، مطعما، مثل تلك الحياة نفسها، بالمؤثرات الثقافية المنحدرة من الخارج، سواء كانت في القانون أم في الأساطير أم في الدين بوجه عام. ولا يقل عن ذلك كله المبادئ الخلقية، وقد رأينا فيما سبق أن العبرانيين أخذوا الكثير من قوانينهم وأساطيرهم عن المدنية البابلية، أما في الأخلاق والدين والتفكير الاجتماعي بوجه عام - الذي هو أول نواحي اهتمامنا في هذا الكتاب - فإننا نجدهم قد بنوا حياتهم على الأسس المصرية القديمة؛ فالإسرائيليون بعد استيطانهم فلسطين كانوا في الواقع يسكنون أرضا من الأملاك المصرية مضت عليها في هذه الحال قرون بأكملها، وقد استمرت بلادا مصرية عدة قرون بعد استيطان العبرانيين لها، وحتى في عهد متأخر كعهد حكم «سليمان» نجد أن الفرعون المصري أهدى إلى الملك العبراني مدينة «جزر»، وهي بلدة حصينة من بلدان فلسطين كانت تقع على وجه التقريب في كنف «بيت المقدس».
هذا إلى أن النتائج الأساسية التي قامت وستقوم عليها دعامة المبادئ الخلقية في الحياة المتحضرة في أيامنا، كانت قد اهتدت إليها الحياة المصرية قبل الوقت الذي ابتدأ فيه العبرانيون تجاريبهم الاجتماعية في فلسطين بزمن طويل، كما كانت تلك المبادئ الخلقية المصرية موجودة فعلا في فلسطين بصورة مدونة منذ قرون عدة حينما استوطنها العبرانيون.
حقا إن التوسع الذي أدخل على تلك التعاليم كثمرة من ثمرات الفكر والحياة العبرانية، يعد ذا قيمة عظيمة للإنسانية لا تقاس بأي مقياس كان، غير أننا عندما نعترف بهذه الحقيقة يجب ألا يفوتنا أن تلك المشاعر الخلقية التي تسود المجتمع المتمدين الآن ترجع في أصلها إلى عصر أقدم بكثير من «عصر النبوات» المعترف به من زمن بعيد، وأنها قد انحدرت إلينا نحن أهل هذا العصر الحاضر من عهد لم تكن فيه الكتابات العبرانية قد وجدت بعد. وعلى ذلك تكون مصادر تراثنا من التقاليد الخلقية بعيدة كل البعد عن انحصارها في فلسطين وحدها، وأنه يجب اعتبارها مشتملة كذلك على الحضارة المصرية. على أن السبيل الذي وصل منه هذا التراث المجيد إلى العالم الغربي هو على وجه خاص ما بقي لنا من الأدب العبراني وحفظه لنا «كتاب العهد القديم».
فإن زوال مدنيات الشرق القديم التي بنيت على أسسها المدنية العبرانية، وما نتج عن ذلك من حرمان العالم الغربي من فهم كل كتابة وكل لغة لتلك المدنيات البائدة حتى ظلت في عالم صمت مدة ألفي سنة، قد ترك الأدب العبراني يضيء لنا وحده كأنه شعلة وحيدة من النور تحيط بها الظلمة الدامسة من جميع جهاتها. وعلى ذلك يكون ما ورد إلينا حديثا بالوسائل العلمية من بعض المعلومات عن المدنيات الشرقية المفقودة بمثابة قبس يضيء تلك الظلمة ويحيط بني إسرائيل بنور يرجع إلى ما قبل عهدهم ببضعة آلاف من السنين. ولو أن العالم الغربي لم يفقد قط كل علم بأصول المدنية وتطورها لما كان يخطر ببال أي باحث قط أن يجعل للعبرانيين أي منزلة في التاريخ فوق أنهم بلغوا ذروة ذلك التطور الطويل السابق في الأخلاق والدين، وأول ما كان يحصل بالتأكيد هو عدم ظهور ذلك المذهب اللاهوتي القائل بانفراد شعب واحد بالتمتع بالوحي الإلهي، وهو المذهب الذي أعمى أبصارنا عدة قرون عن تعرف ذلك التراث الخلقي الجليل الذي ورثناه عن تأملات وإلهامات العالم بأسره، لا عن تاريخ أو تجاريب أي أمة من البشر بعينها.
وعلى ذلك فإن أعظم فائدة إنشائية نجنيها من وراء الاهتداء إلى حقيقة تلك المدنيات الشرقية القديمة المفقودة هي أنها ردت إلينا تراثا عرضه عرض الأفق، وهو التراث الذي قد خلفته لنا حياة بني الإنسان أجمعين؛ ففيه نجد أعظم وحي يخطر لنا، وبه يمكننا الآن أن نستدل على أن انبثاق إدراك الإنسان للمميزات التي تفرق بين السلوك الطيب والخاطئ إنما هو خطوة من خطى التاريخ ونتيجة للخبرة الاجتماعية، وأن قيمة هذا الإدراك فوق كل تقدير؛ لأنه إدراك نام لم تكمل بعد تطوراته التاريخية؛ فإن استردادنا لتلك المدنيات المفقودة هو الذي أمكننا به إقامة البراهين على أننا لم نقطع مرحلة تذكر بعد خروجنا من عهد الظلمة الحالكة السابق لظهور القيم الخلقية، وأن «فجر الضمير» لا يزال خلفنا بالضبط لم نكد نبتعد عنه شيئا، وأننا ما زلنا للآن نقف عند مطلع شمس عصر القيم الخلقية.
وإني أعتقد أن الأستاذ «لويس أجاسيز»
Louis Agassiz
هو الذي (بعد أن فحص التزعزع الدائم في الجبال الثلجية السويسرية، وراقب انحدار كتل الصخر الكبيرة والصغيرة وهي في قبضة الثلج، ثم انفصالها عنه بتأثير شمس الصيف الحارة فتستحيل بذلك إلى سور من الصخور المتراكمة يحف بفوهة الوادي) أدرك في نهاية الأمر أن هذه الحركة الجليدية كانت دائبة على عملها هذا منذ أزمان بعيدة، ثم أشرقت على عقله فجأة تلك الحقيقة الرائعة؛ وهي أن تلك العمليات الجيولوجية التي جرت في أزمنة سحيقة وأفضت إلى تكون الأرض لا تزال دائبة مستمرة في طريقها إلى يومنا هذا، وأنها لم تنقطع ولن تنقطع عن عملها قط. وبعد هذه النظرة القصيرة التي ألقيناها على أدوار التطور الخلقي، قد نكون محقين إذا قررنا من باب الموازنة والقياس أن ما ذكر عن فعل الثلوج ينطبق كل الانطباق على ما نحن بصدده من التطور الخلقي في بني الإنسان.
الخاتمة
إن زبدة جميع الأشياء، وما ترمي الحرية
والتعليم والمخالطة والثورات إلى تكوينه ومنحه،
هو «الأخلاق»، كما أن غاية الطبيعية هي أن
تصل بمليكها (الإنسان) إلى هذا التتويج (يعني الأخلاق).
عن إمرسون
Emerson
من مقال له في السياسة
إني أحب التاريخ؛ لأنه يظهر لي نشأة
العدالة وتقدمها، ويزيد من تقديري
لجماله أنني أرى فيه منتهى ارتقاء الطبيعة.
عن رسائل للكاتب «ه. تين»
H. Taine (1) الطبيعة ومصادقتها للبشرية
يحكى عن «هيكل»
Haeckel
المتخصص في علم الحياة أن بعض الناس سأله ذات مرة السؤال المثير للنفس الآتي:
إذا فرض أنه كان في مقدورك أن توجه إلى «الكون» سؤالا، وكنت واثقا من أنك ستتلقى الإجابة الحقيقية، فما هو ذلك السؤال الذي كنت ترغب في توجيهه إليه؟
عندئذ ظل «هيكل» غارقا في التفكير بضع لحظات، ثم قال: إن السؤال الذي أفضل أن أسمع الإجابة عنه أكثر مما عداه هو: «هل الكون مصادق للبشرية ؟»
والواقع أننا هنا أمام سؤال عميق ملهم.
فإن التطور الخلقي الذي تتبعنا خطواته في الفصول السابقة يمكننا الآن من مناقشة سؤال الأستاذ «هيكل» هذا في ضوء حقائق ثبتت لنا أخيرا، ويحتمل أن بعضها كان غير معروف له؛ إذ ذاك، وإن كانت لا غنى عنها في هذه المناقشة.
وقد جرى العرف من زمن بعيد بأن مهمة المؤرخ هي أن يعرض النتائج التي وصل إليها، وأن يشير بقدر المستطاع إلى الوثائق الأصلية التي نبتت منها نتائجه، وبعد ذلك يكون قد أدى واجبه وليس له أن يدخل في المغازي الخلقية، بل تعد مهمته منتهية عند ذلك الحد.
فإذا كان القارئ قد احتفظ بما يلزم من الصبر في مطالعته، فإنه لا بد قد استطاع الإلمام بأهم الأدلة المدونة التي تكشف لنا عن أصول أخلاقنا الموروثة وتاريخها المبكر كما جاءت مرتبة في فصول هذا الكتاب. وإني كمؤرخ لا يحق لي ذكر شيء فوق ما تحتاجه هذه الأدلة من مناقشة، غير أن ما لهذه الأدلة نفسها وللنتائج الناشئة عنها من الأهمية البعيدة المدى يرغبني في الإدلال ببعض ملاحظات إضافية خارجة في الأصل عن دائرة اختصاصي، ولا سيما أن خاتمة كتاب ما - إذا كان هناك شيء يسمى بهذا الاسم - تسمح بأن يدلي المؤلف فيها بكل ما يروقه قوله.
والآن نعود إلى سؤال الأستاذ «هيكل»، إنني مع شعوري بشيء من الاعتزاز بالرأي أقول إني كنت أود أن أسأله هو السؤال التالي: «من أين أتيت بكلمة «مصادق» هذه؟» ذلك لأن الأستاذ «هيكل» قد اعتبر مدلول كلمة «مصادق» أمرا بديهيا كما يعتبر المؤرخ الطبيعي المادة عاملا من عوامل بحثه دون أن يطالب بتفسيره.
ولكن مدلول كلمة «مصادق» ليس أمرا بديهيا، بل إن مجرد ظهورها في سؤال الأستاذ «هيكل» هو في الواقع إجابة عن السؤال نفسه، وكان من الواجب أن يسأل عن إيضاح تلك الكلمة؛ فلولا أن الأستاذ «هيكل» قد مات منذ زمن طويل لكان من الأمور الشائقة أن نسمع إجابته عن ذلك، ومن المحتمل أن إجابته كانت تكون شيئا شبيها بما يأتي:
ولم هذا؟ «إن كلمة «مصادق» كلمة مألوفة في جميع اللغات الحديثة المتمدينة.»
ولكن المعترف به من زمن بعيد هو أن اللغة أكثر من مجرد أداة نقل للتعبير عن الفكر، بل الواقع أن اللغة هي أداة نقل مؤلفة من تجاريب البشر، لدرجة أنها من الوجهة التاريخية تعتبر إلى حد ما سجلا لتجاريب البشر في جميع نواحيها المتعددة، سواء أكانت اجتماعية أم صناعية أم علمية أم ميكانيكية أم فنية أم خلقية أم دينية أم حكومية، إلى غير ذلك. فإذا توجهنا بنظرنا مثلا إلى سلعة هامة من نتائج تجاريبنا الميكانيكية في الوقت الحاضر، وهي السيارة، فإننا نجد أن الكلمات «جراج» و«شوفير» (سائق) و«شاسي» (الجزء الأسفل من هيكل السيارة) «وتنو» (نوع من العربات) ونحوها قد بدأ استعمالها ينتشر في اللغة الإنجليزية منذ حوالي جيل من الزمن، وسيستمر ظهور هذه المجموعة الصغيرة من الكلمات بأصلها الأجنبي إلى ما قد يبلغ آلاف السنين برهانا على حقيقتين تاريخيتين في تجاريبنا؛ الأولى: ظهور استعمال «الأتوموبيلات» في أواخر القرن التاسع عشر، والثانية: أن أصل «الأتوموبيل» ومبدأ استعماله العام كمخترع عملي يرجع إلى فرنسا.
ومن الأمثلة الشائقة التي يمكن اقتباسها من الحياة البشرية المبكرة كلمة «ببلوص»
Biblos
التي يحتمل أنها ظهرت في أوروبا في وقت يرجع إلى حوالي عام 1000ق.م، وقد أدخلت في اللغة الإغريقية بمدلول كلمة «بابيروس» (ورق). ويعد ظهور هذه الكلمة في اللغة الإغريقية قبل سنة 500ق.م بعدة قرون (على الأرجح) دليلا على وقت بداية دخول الورق في أوروبا، كما يعتبر اسمه غير اليوناني - يعني اسمه الأجنبي الذي اشتقت منه كلمتنا «بيبل» ومعناها «التوراة» - دليلا قاطعا على أن مدينة «ببلوص» الفينيقية الواقعة على ساحل سوريا الشمالي كانت هي المصدر المباشر لأول ورق استعمل في أوروبا.
وهكذا نجد في مدفون طيات اللغة إيضاحا لمنشأ اختراعين بشريين ملموسين تماما، وهما «الأتوموبيل» الذي بدأ استعماله في عصرنا الحالي، والورق (البابيروس) الذي كان أول دخوله إلى أوروبا منذ زمن يزيد على خمسة وعشرين قرنا. وما يسري على هاتين الكلمتين من حيث إدلائهما بالمعلومات عن الاختراعات الميكانيكية الحديثة يسري بطبيعة الحال كذلك بالنسبة للشئون الأقل مادية في ارتقاء الحياة الإنسانية، عندما نهضت من حالة الهمجية أو الوحشية وسارت نحو بلوغ تلك القيم النفسية الباطنة التي أفضت إلى ظهور مثل الكلمات: «صديق» و«مصادق» و«مصادقة».
وما دام الأمر كذلك أفلا يكون الأستاذ «هيكل» حينما وضع سؤاله المتقدم ذكره: «هل الكون مصادق للبشرية؟» قد فاتته أهمية مجرد وجود كلمة «مصادق»؟ وقد رأينا عند فحصنا للوثائق المصرية القديمة أنه يوجد في لغتها وفي تاريخها ما يدل على بزوغ فجر تلك الصفات البشرية وارتقائها المبكر عند قدماء المصريين مما تنم عليه كلمة «مصادق».
ومن المؤكد أنه لو كان الأستاذ «هيكل» يشاركنا الآن في هذه المناقشة لكان له فيها تعليق يعتد به ربما كانت صيغته على الصورة الآتية: «وكيف يكون ما برهنت عليه تاريخيا من ظهور كلمة «مصادق» جوابا على سؤالي الأصلي؟ إننا إذا سلمنا أن الإنسان الطبيعي قد نشأ من أصل الكون المتطور، ثم سلمنا أن الخبرة البشرية هي التي ابتكرت «المصادقة» وأنمتها، فإن معنى ذلك أنك تتكلم عن الخبرة البشرية، في حين أن سؤالي منصب على الكون. فما شأن الخبرة البشرية إذن بالكون؟»
وعلى الرغم من أن الفكرة القائلة بأن الإنسان جزء من الطبيعة سابقة لعهد الفيلسوف «لوك»، فإن المقدمات التي بنى عليها آراءه هي التي على ما يظهر قد أدت بالفلاسفة إلى تلك النتيجة. وهي نتيجة من عمل الفلاسفة بنوها - طبعا - على مقدمات فلسفية. أما في أيامنا هذه فقد صار في استطاعة أبحاث علم الحفائر الجيولوجية وعلم آثار ما قبل التاريخ أن يتتبعا تاريخ الإنسان الطبيعي وهو ينهض من العصور الجيولوجية ويخرج من العالم الطبيعي، وعلى ذلك تزداد الأدلة باطراد على أن الإنسان جزء من الطبيعة، ولو من ناحيته الطبيعية على الأقل، ثم إن أقدم الوثائق المدونة التي وصلت إلينا عن ماضي البشرية تكشف لنا أيضا عن ارتقائه حتى بلغ عهد الوعي الأخلاقي.
ومن العجيب أن هذه الحقيقة قد خفيت - على ما يظهر - على المفكرين. وعلى كل حال فقد صرنا الآن لا نعتمد على أقوال الفلاسفة، كما كان الحال في عهد «جيته»
Goethe ، في مجرد الافتراض بأن الإنسان فيض من إنتاج الطبيعة، ووثائق الشرق الأدنى القديمة تبرهن بالدلائل التاريخية هذه الحقيقة.
وقصة نشأة بني البشر كما أماطت عنها اللثام الأبحاث الأخيرة في الشرق الأدنى القديمة تظهر لنا بأجلى بيان، لا من الوجهة الفلسفية بل من الوجهة التاريخية، أن خبرة بني البشر هي آخر مرحلة في تاريخ الكون؛ أي إن الخبرة البشرية، هي بقدر ما وصلت إليه معارفنا، ثمرة من ثمرات ذلك التاريخ.
وفي قصة حياة الرقي البشري التي كنا نتتبع سير خطواتها في هذا الكتاب التقطنا خيوط الحياة الإنسانية الآخذة في الارتقاء عند النقطة التي صار فيها الإنسان أول مخلوق عرف بمقدرته على صنع الآلات في زمن لا يقل بعده عن مئات الآلاف من السنين، بل قد يبلغ مليونا من السنين. ونحن الآن نعتبر الأبحاث عن تلك المرحلة من حياة الإنسان ملكا شائعا بين علماء الحفائر وعلماء الجيولوجية من جهة وعلماء الآثار من جهة أخرى.
ونحن علماء الطبائع الإنسانية عندما نريد البحث عن ذلك العصر السحيق نتكاتف مع علماء التاريخ الطبيعي - لما نجنيه كلانا من جهودنا المشتركة - فهي تجربة نافعة لكلينا.
فالإنسان - في الحالة التي وجد عليها في فجر العصر الحجري - يعتبر موضوعه داخلا في أبحاث العلماء الطبيعيين، وإن كان العلم لم يبين لنا النقطة التي انقطعت عندها صلة البشرية بذلك الكون المتطور فلم تعد جزءا منه.
ولنرجع بالبصر كرة عاجلة بالرغم مما سيوقعنا فيه ذلك من بعض التكرار، ناظرين في مدى تاريخ الحياة البشرية منذ ذلك الوقت، للبحث عما إذا كان في مقدورنا أن نجد نقطة لم تعد البشرية بعدها جزءا من ذلك الكون.
وبالرغم من السرعة التي اتبعناها في هذا الكتاب فقد استطعنا أن نقتفي أثر أقدم من عرفنا من أجداد الحضارة في أدوار حياتهم التي قامت على الصيد في أنحاء هضبة الصحراء الكبرى، المترامية الأطراف، في ذلك العهد السحيق الذي كانت فيه مرتفعاتها - الماحلة الآن - لا تزال خضراء يكسوها الكلأ الأخضر. ويقول علماء الحفائر العلمية: إن ذلك الصائد الفطري الذي كان يهيم في غابات الصحراء خلال عصر ما قبل التاريخ، كان مخلوقا نشأ من تطور حياة الكون؛ أي إنه كان لا يزال جزءا غير منفصم من ذلك الكون.
ثم نرى أنه في أنحاء جميع شمالي أفريقيا أخذت تلك الحلقة الخضراء المترامية الأطراف تذوي وتنقبض ببطء في خلال مائة ألف سنة أو تزيد، حتى صرنا نرى تلك الخمائل والغابات البرية تتلاشى وتختفي تدريجا، كما كانت المياه التي تنخفض في بحيرة صحراوية ما، على امتداد وادي النيل، كالرمل المتناقص في ساعة رملية زجاجية، تقيس لنا مدى تلك الأزمان الطويلة التي كان يتناقص في خلالها سقوط الأمطار في شمالي أفريقيا فيحيل تلك الصحراء الشاسعة تدريجا إلى بيداء ماحلة لا تشتمل إلا على صخور ورمال جامدة، وعندما اضطر أولئك الصيادون المتوحشون إلى هجر هضبة تلك الصحراء بهذه الصورة والنزول إلى وادي النيل، ألم يعودوا جزءا من ذلك الكون المتطور؟
وحينما قاموا على أثر ذلك بحبس حيواناتهم المتوحشة في الحظائر العظيمة ليتخذوا منها ماشية أنيسة كالبقر والغنم والمعز والحمير، وحينما أصبحوا لا يكتفون بأكل بذور الحشائش البرية، وصاروا يزرعونها ويتعهدونها كالشعير والقمح، ثم خلعوا عن أنفسهم حياة الصيادين المتجولين واستوطنوا قرى صغيرة رعاة وزراعا. ألم يعودوا جزءا غير منفصم من ذلك الكون المستمر في الارتقاء؟
وبعد بناء تلك القرى التي من عصر ما قبل التاريخ - وهي التي كان يقطنها أولئك الرعاة والحراثون - والتي كانت مبعثرة فيما يبلغ 700 أو 800 ميل على طول وادي النيل، وبعد تحولها بتأثير عدة آلاف من السنين من التطورات الاجتماعية إلى أقدم دولة معروفة في غضون التاريخ يتألف سكانها من عدة ملايين من النسمات، تعرف المعادن والكتابة وتسيطر عليها حكومة منظمة تنظيما ساميا، وتقوم ببناء أضخم المباني التي لم يبن مثلها قط في ذلك العالم القديم، دالة بذلك على قوة تغلبها الهائل على العوامل المادية. ألم يعودوا بعد كل ذلك بأية حال جزءا من ذلك الكون المتطور؟
وحينما بدأ تخمر تلك العوامل الاجتماعية عند فجر ما يسمى عصر التاريخ؛ أي قبل عام 3000ق.م ببضعة قرون، وظهر تأثير أقدم عصر عرف فيه الاحتكاك الاجتماعي، الذي استمر نحو ألف سنة ثم ظهر أخيرا قبل عام 2000ق.م في صورة أقدم حرب مقدسة في سبيل العدالة الاجتماعية وابتغاء إيجاد عهد جديد قوامه الشفقة الأخوية؛ أي حكم المصادقة. فهل يجب بعد ذلك أن نفصم أولئك النفر الذين هم أقدم دعاة للمثل العليا في الاجتماع عن تلك المراحل السابقة في ذلك الكون المتطور؟
وهنا نجد القيمة الأساسية لنتائج الكشوف التي كشفتها لنا الطبقات الجيولوجية ومدائن الشرق القديمة وجباناته، فإن هذه الكشوف تميط لنا اللثام عن مجموعة من الصور الرائعة نرى فيها المرحلة تلو المرحلة في طريق تقدم البشر وارتقائه. ففي بداية الطريق نرى الإنسان يبدو بشكل واضح خارجا من العصور الجيولوجية، وبعد مضي عدة مئات من آلاف السنين ينهض من ذلك الفتح المادي المحض إلى المستوى الذي يدرك فيه معنى الشفقة الأخوية: فهنالك نرى ظهور الإنسان الطبيعي في وحشيته الحيوانية التي ترجع إلى العصور الجيولوجية، وهنا نجد دنيا رحيمة رفيقة تستعمل كلمة «مصادقة» التي هي موضوع السؤال الثاقب الذي أراد الأستاذ «هيكل» أن يوجهه إلى الكون! وبين هاتين المرحلتين نرى ذلك التقدم الذي يربط بعضهما ببعض، وهو تقدم لم نجد للآن ما يبرهن عليه من الشواهد والأدلة غير الحياة الإنسانية المبكرة فوق ضفاف النيل، حيث رأينا ذلك التقدم وكأنه معمل اجتماعي عظيم، بما كان يحويه من الحياة البشرية التي ترجع بدايتها إلى تلك التقلبات السحيقة في القدم التي كونت سطح الكرة الأرضية في شكله الحالي. وبذلك نجد أن وادي النيل هو الميدان الفريد الذي نستطيع أن نرقب فيه صراع الإنسان وهو يخطو بحياته في سبيل الرقي، من أول ظهور الإنسان الطبيعي، إلى ما تلا ذلك من جميع انتصاراته على ما اعترض حياته الناهضة، إلى أن رأيناه في آخر المطاف يصل إلى إدراك ما تشمله الإنسانية من الإخاء والمصادقة. (2) الانتقال العظيم وبطء التقدم البشري
مما تقدم يتضح أن الاعتراض الذي نفترض إبداءه من الأستاذ هيكل (وربما كنا غير منصفين في ذلك الافتراض) وهو أن الخبرة الإنسانية ليست مرحلة من مراحل تقدم الكون، قد فند لأول مرة تفنيدا تاريخيا في قصة مصر القديمة، وقد فحصنا فيما سبق، على عجل، بعض الإشارات والمعالم الموضحة لذلك الطريق الطويل الذي اجتازه الإنسان منذ فتوحه في عالم المادة إلى أن وصل إلى تلك الكشوف المدهشة للقيم النفسية الباطنة؛ أي إلى ذلك الانتصار الذي أحرزه على ذاته وإدراكه للمسئوليات الاجتماعية. فبفضل هذه الوثائق الاجتماعية صرنا نعرف أننا كنا نقتفي منها حركة لا تتصل بتاريخ الكون فحسب، بل ما يعد فوق ذلك أروع انتقال في ذلك التاريخ، على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا.
والحقيقة أن ذلك الانتقال هو موضوع هذا الكتاب، ويضاف إليه أيضا تلك الحقيقة العظمى؛ وهي أن «الانتقال العظيم» - كما سنسميه هنا - لا يزال ناقصا؛ أي إنه لا يزال سائرا في طريقه نحو الرقي. وقد حاولنا فيما تقدم الكشف عن تكوينه واقتفاء تاريخه المبكر، فرأينا أنه أوجد لأول مرة - لا في الحياة الإنسانية وحدها بل في الكون نفسه كما هو معروف للإنسان - معاني جديدة وكلمات جديدة للدلالة عليها، وهي معان لقوى تسمو على تقلبات المادة وتنتقل بنا إلى عالم البواعث والاحتمالات النفسية، الفردية منها والشعبية، مما بدأ بنو البشر يشعرون به الآن فقط شعورا مبهما.
وبداية «الانتقال العظيم» هي التي تتميز على وجه خاص بظهور كلمات جديدة خطيرة الشأن، فإن كلمة الأستاذ هيكل «مصادق» ليست إلا كلمة من مجموع كلمات من هذا القبيل ظهرت لأول مرة، وكانت أشبه شيء بصور إشارات الأصبع إلى طريق جديد، فصارت بذلك عندنا بمثابة آثار تاريخية مؤذنة بحلول «العصر الأخلاقي» أو «عصر الخلق».
وقد سبق أن أشرنا فيما تقدم إلى ما ذكر في مقال عن الجراحة والتشريح عند قدماء المصريين كتب في باكورة الألف الثالثة ق.م، ويحتوي على أقدم استعمال لكلمة «مخ». ولما لم تكن هناك - بطبيعة الحال - في ذلك الوقت كلمة شائعة الاستعمال للدلالة على المخ يمكن لمؤلف ذلك المقال استعمالها، فإنه أخذ كلمة معتادة تعني «لين» أو «شبه سائل ثخين» يشبه النخاع. ولكي يتجنب التباس المعنى بغيره أضاف إليها كلمة «الجمجمة»، فصار التعبير الجديد بذلك «عجينة الجمجمة» أو «نخاع الجمجمة»، وأطلق التعبير حتى صار علما على «المخ»، وذلك في أقدم بحث تناول هذا الموضوع. وهذا الطبيب المختص في التشريح الجراحي الذي يرجع عهده إلى نحو 5000 سنة مضت، كان يعرف فعلا أن المخ هو المركز الحساس للشعور والسيطرة على أعضاء الجسم الإنساني، غير أن معرفته العلمية كانت حديثة العهد في زمنه لدرجة أنها لم تستطع أن تحل محل الاعتقاد القديم القائل بأن القلب هو مكان الفهم.
وعلى ذلك لما صار أولئك القوم المبكرون يشعرون بوظيفة الفهم الإنساني الذي يميز بين السلوك المستقيم الصائب وبين ضده من السلوك المعوج الخاطئ، استعملوا له - كرها لا طوعا - تلك الكلمة القديمة «قلب»، يريدون بها الإدراك الخلقي الذي يقوم به القلب، وبذلك صار المعنى الجديد وهو قدرة الإنسان على إدراك المميزات الخلقية (أي ضميره) يسمى في نهاية الأمر كذلك بكلمة «قلب». وبهذا الاسم «القلب» لم يبدأ هذا المعنى الجديد (الضمير) تاريخه كقوة اجتماعية فحسب، بل استمر يحمل هذا الاسم كذلك آلافا من السنين، كما رأينا، إلى يومنا هذا.
وربما كان من المهم لرجال الكهانة وغيرهم من معلمي الأخلاق في أيامنا هذه أن يعرفوا أن ذلك المعنى (الذي كان في يوم ما جديدا) لكلمة «قلب» القديمة، وهو ذلك المعنى الذي اكتسبته منذ حوالي خمسة آلاف من السنين الماضيات، قد جعل هذه الكلمة تذكارا أثريا لذلك الانتقال العظيم الذي نحن بصدد بحثه الآن.
وهذه الوظيفة الجديدة للعقل الإنساني هي التي سهلت علينا إدراك معنى الأخلاق أو الخلق. وإنه لمن الممتع حقا أن نعرف الوقت الذي بدأت تظهر فيه نفس كلمة أخلاق أو «خلق» لأول مرة في كلام أبناء البشر. لقد بدأ ذلك في عصر الأهرام، وسرعان ما صارت متداولة في موضوعات التعليق والتأمل؛ ففي حكم «بتاح حتب» نرى ذلك الوزير الحكيم المسن يذكر ابنه بأن «الفضيلة في الابن لها قيمة عظيمة عند الوالد، وأن الأخلاق الحسنة شيء جدير بالذكر.» وبذلك ينسب أقدم استعمال لتلك الكلمة إلى القرن السابع والعشرين ق.م. وبعد انقضاء نحو خمسة قرون على ذلك العهد نجدها في تلك النصائح التي وجهها أحد الفراعنة إلى ابنه «مريكارع»، حيث يقول إن الله - عز وجل - هو «الذي يعرف الأخلاق.»
على أن كلمة «أخلاق» أو «خلق» في حد ذاتها كلمة تثير اهتماما كبيرا؛ لأن معناها الأصلي مأخوذ من فعل معناه «يشكل» «يكون» «يبني»، وقد كانت تستعمل في عصر مبكر للدلالة بنوع خاص على العمل الذي يقوم به صانع الفخار أثناء تشكيله للأواني الصلصالية فوق عجلته. ومعنى كلمة «أخلاق» المشتق من أصلها يشبه بصورة تلفت النظر كلمتنا «أخلاق» التي معناها في الأصل اليوناني «الطابع الذي يتركه الختم المنقوش فوق الطين الطري أو الشمع» أو «الطابع الذي فوق المعدن في صك النقود.»
وقد رأينا كيف أن العوامل الجديدة التي تنطق بها هذه الكلمات الجديدة أخذت تعمل عملها بمثابة قوى اجتماعية حتى أفضت إلى نظام جديد أبرزه أيضا حكماء الأخلاق المصريون، وصار يعبر عنه عندهم بكلمة «ماعت» التي يريدون بها «الحق» و«الاستقامة» و«العدل» و«الصدق»، كما كان يراد بها عندهم أيضا النظام الخلقي الذي كانت فيه تلك الصفات هي القوى المسيطرة. وهذه الألفاظ، مضافا إليها «الضمير» والأخلاق، تعد آثارا خالدة لذلك الانتقال الذي ظهر في الحياة فوق كوكبنا الأرضي، وقد ظهرت لنا ظهورا تاريخيا عن طريق الوثائق المصرية القديمة التي دونت فيما بين سنتي 3000 و2000ق.م.
وفي هذا الانتقال التاريخي، الذي حدث لأول مرة فوق كرتنا الأرضية - بل في الكون على ما نعلم - نجد أن المصريين هم الكاشفون للأخلاق.
ومن الأمور ذات الأهمية الأساسية أن يعرف العالم الحديث مبلغ حداثة ذلك الكشف؛ فإن الحضارة البشرية مبنية على الأخلاق، وإذ إن هذه الأسس لا تزال حديثة جدا فلا داعي لأن نشعر بشيء من القنوط أو خور العزيمة إذا وجدنا أن هذا البناء لم يظهر عليه بعد ذلك الثبات الذي كنا نتمنى وصوله إليه.
ولا نزاع في أن سخرية المستر «منكن»
Mencken
اللاذعة كثيرا ما تكون في محلها، كما أن شدة الحاجة البادية للعيان لعمل إصلاحات في البناء تهيئ الفرص الكثيرة للغمزات المسلية التي نراها على صفحات مجلتي «بنش»
1
و«لايف»
أو في روايات «برنارد شو»
Bernard shaw
الذي يجد أن انتحال الشخصيات والأوضاع عمل أسهل وأربح بكثير جدا من أية محاولة للنظر إلى تقدم الإنسانية نظرة جدية.
وكذلك يوجد كثير من الاتهامات أكثر خلوا من الغرض وقائمة على اعتبارات جوهرية تقول بأن البناء مصدع بدرجة لا تدع مجالا لإصلاحه، فنجد أن «أزفالد سبنجلر»
Oswald Spengler
2
يصرح علنا بالسقوط النهائي للمدنية الغربية، مع أنه ليس من الصعب أن نبرهن على أن مراثيه المحزنة مبنية على جهل فاضح بحقيقة التقدم الإنساني، فإنه يلاحظ أن «سبنجلر» يشير إلى المدنية المصرية القديمة بتوسع في كتابته، فلو كان لديه علم كاف بهذه المدنية لما وجد فيها سندا لنتائجه التشاؤمية، فإن المدهش العجيب هو أن نجد مخلوقا ناهضا من الوحشية الحيوانية يرتقي إلى درجة تجعله يبتدئ هذا الانتقال العظيم؛ ولذلك يجب ألا نقلق كثيرا إذا رأينا هذا الإنسان يتردد تارة أو يضل أخرى حينما يخطو متقدما إلى الأمام في سبيل الارتقاء بهذا الانتقال.
على أن ذوي العقول الرزينة جميعهم يقفون في حيرة مؤلمة، بينما يطرح بعضنا ثوب الأوهام جملة، عند تأمل حال الإنسان الحديث وقد استولت عليه قوة التخريب التي وضعها في يده العلم الحديث بما وصل إليه من المقدرة والتفنن في صنع الآلات الحربية.
والواقع أن رجال العلوم الطبيعية يهتمون أيما اهتمام بأن قوة الإنسان، المنشئة منها والمخربة، في تقدم مستمر منذ أزمنة سحيقة، وبخاصة بعد أن كشف أخيرا عن «رجل بكين» الذي يحتمل أن يرجع زمنه إلى نحو مليون من السنين الماضيات؛ إذ قد اتضح أنه لم يكن في قدرته أن يوقد النار فحسب (أي إنه أقدم مثل معروف لإشعال الإنسان للنار)، بل إنه أيضا «صنع الأسلحة من الحجر»، وبذلك صرنا نعتبره أول بشر معروف لنا كان في قدرته صنع الأسلحة في عالم الوجود.
غير أنه قد فات رجال العلوم والمؤرخين على السواء تقدير مركز الإنسان الحالي تقديرا كافيا بالنسبة لوقت ظهور الضمير كعامل من العوامل الاجتماعية؛ لأن ذلك لم يكن إلا في الأمس القريب، وهو في الحقيقة حادث جدير بأن يؤرخ به كما يؤرخ بعهد استعمال المعادن التدريجي ، وإن عصر الأخلاق الذي نتج عن ظهور الضمير لا يكاد يزيد عمره على أربعة آلاف من السنين. والواقع أن تطور حياة الإنسان، كالتطورات الطبيعية الأخرى، يسير في بطء، وقد يكون سير الانتقال العظيم نحو الكمال كبطء النشوء والتطور الإنساني في الطبيعة؛ لأنه في مدة مئات آلاف السنين العديدة التي تقع بين «رجل بكين» المكشوف حديثا وبين «رجل ناياندرتال»
Neanderthal
قد ازداد المخ البشري نحو 50٪ من حجمه، في حين أنه من وقت «رجل ناياندرتال» حتى الآن - ذلك الوقت الطويل نسبيا - لم يزد حجم المخ البشري شيئا قط؛ أي إن نسبة تطور الإنسان بطيئة بدرجة هائلة. على ذلك يكون أوج ذلك اليوم الخلقي الذي انبثق فجره علينا الآن فقط لا يزال بعيدا جدا عنا، ويجب أن نتذرع بالصبر الطويل، وبعبارة أخرى: بصبر ذلك الذي يعرف كيف ينتظر في سكون واطمئنان إذا لزم الأمر ذلك.
ولعله لا يوجد مثل يدل على بطء ارتقاء الروح البشرية وتقدمها أوضح من الموازنة التالية بين أفكار أحد الحكماء المصريين القدماء الذي يرجع عهده إلى نحو 3000 سنة مضت وبين أفكار أحد الروائيين المفكرين الحديثين في عصرنا الحالي، وها هي ذه:
حكيم مصري قديم من منذ حوالي 1000ق.م
شارلس مورجان في كتابه الينبوع *
في سنة 1932
يا آمون، أنت أيها الينبوع الحلو الذي يشفي الظمأ في الصحراء. إنه لموصد لمن يتكلم، ومفتوح لمن يتذرع بالصمت. وحينما يأتي الصامت تأمل فإنه يجد الينبوع.
ومع ذلك فإنه كان في سكينة، بل يظهر أنه قد دخل الردهة القصوى للسكينة نفسها حيث كان ينبوع الروح ينبثق كجدول من الماء فوق الأرض. (ص107) *
The Founfain, by Charles Morgan .
ومن المعلوم أن مثل هذه المعاني عن الروح المتأملة كانت بطبيعة الحال من مميزات الشرق القديم، غير أنه يمكننا أن نقتبس موازنة أخرى كهذه من حياة العمل والمخاطرة، وهي:
السندباد المصري حوالي 2000ق.م
فرجيل
سعيد من يتحدث عن مآسيه بعد مضيها.
ومن المسرات أحيانا ذكر تلك التجاريب.
وبعد انقضاء الحياة، سواء أكانت حياة تأمل أم حياة مخاطرة مملوءة بالأحداث، نجد أن أفكار «سبنسر»
Spenser
في مدح الموت تماثل صدى أقوال أيوب مصر القديمة، وهو الذي سميناه في هذا الكتاب باسم «التعس»، كالآتي:
أيوب المصري
سبنسر الإنجليزي من كتابه
Faerie Queene
إن الموت أمامي اليوم كمثل المريض الذي يقرب من الشفاء ومثل الذهاب إلى حديقة عند النقاهة من المرض. إن الموت أمامي اليوم مثل مجرى الفيضان من الماء ومثل رجوع الرجل من سفينة حربية إلى منزله.
إنه ينعم الآن براحة أبدية. أليس الألم القصير الذي يحتمله الإنسان هو الذي يجلب له الراحة الطويلة ويطرح بالروح لتنام في قبر صامت؟ إن النوم بعد التعب والوصول بالسفينة إلى المرسى بعد انتهاء العاصفة البحرية والراحة بعد الحرب والموت بعد الحياة، فيه السرور العظيم. (خطبة اليأس)
على أن مثل هذه الأصداء الحديثة العهد نسبيا ليست نادرة حتى في المدافن الكنسية الإنجليزية، (حيث نجد فوق لوحة أحد قبورها ما يماثل لوحة أحد قبور قدماء المصريين)، وإليك البيان:
لوحة قبر شريف مصري قديم من حوالي 2000ق.م
لوحة قبر لأحد الإنجليز في مدفن كنيسة بيرفورد بأكسفوردشير
Burford, Oxfordshire
من القرن الثامن عشر م
إن فضيلة الرجل هي أثره، ولكن الرجل السيئ السمعة منسي.
إن المدائح المدونة فوق الحجر ليست إلا ألقابا مستعارة بالباطل، وحسن سمعة الرجل هو أعظم أثر له.
ومن الممكن أن نورد هنا ما لا حصر له من الأمثلة التي تبين كيف تمر الأجيال، ألف السنة تلو الأخرى، وكل جيل يجمع تجاريبه الخاصة به، ومع ذلك يعيد ويكرر الكثير مما أوحت به تجاريب العصور التي جاءت قبل عصره، وهكذا دواليك في جميع الأزمان. (3) الانتقال العظيم
بصفته تعبيرا عن تجاريب البشرية
مهما يكن من بطء تجمع التجاريب الإنسانية فمن المهم جدا أن نعترف بالحقيقة التاريخية التي تنطق بأن الانتقال العظيم الذي كنا نناقشه أخيرا هو ثمرة التجاريب البشرية ونتيجتها، وأن القوة المحركة للتقدم الإنساني منذ ذلك الوقت كانت هي الخبرة البشرية، وأن خبرة الإنسان نفسه كانت وستبقى دائما أعظم معلم له.
فإن سن قانون التعديل الثامن عشر إنما كان محاولة من أهل الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بتجربة جديدة، ولكن الخبرة الاجتماعية أثبتت أن محاولة السيطرة على العادات الاجتماعية كان نصيبها الفشل؛ فالخبرة الاجتماعية إذن هي المعلم الذي لا تلين قناته لغامز.
حقا إنه ليس من عالم مفكر من علماء الأدب العبراني الذي نسميه «العهد القديم» إلا ويشعر بقوة ذلك الكتاب، ويقدر الدور الأساسي الهام الذي لعبه في تقدم المدنية الغربية. غير أنه يجب علينا أن نعترف أيضا بأن «كتاب العهد القديم» كجزء من الأدب العبراني القديم لا يخرج كذلك عن كونه سجلا للتجاريب البشرية القديمة؛ فقد كنا في الصفحات السابقة نربط الحياة السامية في عالم مدنيتنا الغربية الحديثة بمصادرها الأصلية الأولى من حياة الإنسان في الشرق القديم في زمن يرجع عهده إلى ما قبل بداية التاريخ العبري بأكثر من ألفي سنة، وبعملنا على هذا النهج لم نعثر على أصول الشعور الخلقي فحسب، بل عثرنا كذلك على فصول بحذافيرها من التاريخ الاجتماعي، ونقصد بذلك قصة حياة أمة عظيمة كما تجلت أمامنا في مدة تقرب من ثلاثة آلاف من السنين، أنتجت في خلالها أقدم التصورات الخلقية العميقة وتمخضت تجاريبها عن المبادئ الخلقية الناضجة التي عبر عنها فيما خلفته من الأدب الضخم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل رأينا ذلك التقدم يسير في طريقه حتى أنتج ذلك الأدب قبل بداية ما يسميه علماء اللاهوت القدامى «بعصر الأنبياء» بعدة قرون، وقد برهنا بالأدلة التاريخية على أن ذلك الأدب لم يبق فقط إلى العهد المسمى بعصر الأنبياء، بل كان له أيضا تأثير عميق في التطور الخلقي والديني عند العبرانيين، وهم الذين ورثنا عنهم تراثنا الخلقي العظيم.
على أن مصادر تراثنا الخلقي كانت تمتد إلى مسافة بعيدة جدا وراء الحدود الفلسطينية؛ إذ كانت تشمل كل أنحاء الشرق الأدنى القديم؛ وبخاصة مصر التي ظهرت فيها أقدم التصورات الروحية السامية في المثل العليا الاجتماعية. ولم يكن في مقدورنا قط من قبل أن ندرك تلك المصادر الكبرى التي أخذنا عنها ذلك التراث الخلقي المنعدم المثيل؛ لأن السبيل الذي وصل منه إلى العالم الغربي هو الأدب العبراني وحده، بل إننا لم نكن نعرف من قبل ذلك الأصل العالمي المركب الذي تألف منه ذلك الأدب.
وإن الفكرة المنبوذة الآن التي تفترض وحيا مميزا منحصرا في شعب واحد دون سواه، نمت في وقت كانت فيه المدنية الغربية تجهل تمام الجهل قصة نهوض الإنسان وتاريخ المدنيات البائدة التي سبقت عهد العبرانيين. وعلى ذلك نعيد هنا ما قلناه من قبل من أن مثل ذلك التصور الذي يقصر الوحي على شعب واحد ما كان ليظهر قط لو لم تكن لغات الشرق القديم قد فقدت ولم تعد سجلاتها مفهومة لأي إنسان، مما أدى إلى اختفاء الأدب الأخلاقي والديني لتلك المدنيات العظيمة التي يزيد عمرها على عمر العبرانيين بضعة آلاف من السنين.
ولعل أجل خدمة خدمتها لنا الحفائر الأثرية هي إماطتها اللثام عن التقدم الاجتماعي والخلقي الذي أحرزته تلك الجماعات الشرقية القديمة قبل نهوض الأدب العبراني وقيامه بزمن طويل.
وإن هذا الكشف الذي وصل إليه العلم الحديث يعد من أهم الكشوف العميقة البعيدة المدى؛ فلقد أبان لنا أننا كنا الوارثين لحياة الإنسان المبكرة على وجه عام، وبخاصة تلك الحياة التي سارت في مدارج التقدم حول الطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط.
ومن الظاهر بالطبع أنه لا يدخل في دائرة أبحاثنا هنا تلك الزيادات النفيسة التي أضيفت إلى ذلك التراث نتيجة للتفكير الخلقي في أوروبا القديمة والحديثة.
وفي اعتقادي أن تصورنا الجديد للأدب العبراني، مما أثبت التاريخ صحته، لا يحط من شأن ذلك الأدب، بل على العكس يرفع من قدره؛ إذ إنه يكشف لنا في الواقع عن صورة جديدة للمصادر الكبرى التي نبعت منها تلك المؤثرات الإنسانية التي ضربت بأعراقها في مادة المدنية الغربية. وكثيرا ما نسمع عما يسمى «النزعة الإنسانية الجديدة»؛ فهذه النزعة تتجلى روحها في البحث الحديث الذي يجري في التربة التي غرست فيها أول حبة خلقية فنمت وآتت أكلها. وقد كشفت لنا الأبحاث الشرقية عن حقيقة واضحة؛ هي أن التربة التي أخرجت أجمل زهرة من المثل العليا الاجتماعية هي الحياة البشرية ، ومتى اقتنعنا، عن هذا الطريق، أن تصور الإنسان للأخلاق البشرية المثلى أقدم بكثير من «عصر الأنبياء»، فإننا نكون قد وصلنا إلى أساس جديد عريض للثقة ببني الإنسان. (4) الماضي الجديد كمؤثر خلقي جديد
لقد أصاب اللورد «أكتون» كبد الحقيقة حين قال: «إن إماطة اللثام عن العالم القديم يعد بعد كشف الدنيا الجديدة، الحادث الثاني الذي يفصل بيننا وبين القرون الوسطى ويميز الانتقال إلى الحياة الحديثة.» ونجد في رأي هذا المؤرخ الفذ أن العاملين العظيمين اللذين أخرجا الناس من العصور الوسطى إلى الحياة الجديدة ينحصران في الرؤية التي تنظر إلى الأمام وإلى الوراء معا، وهي التي لم تفطن فقط إلى المجال الذي لا حد له أمام مستقبل العالم الجديد بعد سنة 1492م، بل استمدت كذلك أعمق الإلهام من الماضي الذي كشف عنه حديثا بصورته التي تعرفها الناس من مدوناته التي وصلت إلينا، ومن الأعمال العامة الأخرى التي قام بها أعاظم رجاله. فماذا كان ذلك «العالم القديم»؛ أي الماضي الذي أشار إليه اللورد «أكتون»؟
الواقع أنه لم يكشف لأوائل أهل العصر الحديث عن أقل إشارة تدل على ذلك «الانتقال العظيم» الذي نحن بصدده؛ إذ إن كل ما كان يعرفه أولئك الذين برزوا من العصور الوسطى عن الماضي هو كما نعلم كلنا قصة «كتاب العهد القديم»، ومن بعدها تاريخ اليونان والرومان. لكننا الآن نعرف أن الجهد الذي بدأ عند فجر عصر النهضة لتعرف أخبار العالم القديم، لم ينقطع حبله في عصر النهضة، بل إنه - كما رأينا - قد استمر متواصلا في خلال جميع القرون التي مضت منذ ذلك الوقت، وسائرا بخطى سريعة، وبخاصة في خلال الجيلين الأخيرين. فنحن الآن لا نصغي فقط إلى صوت «أشعيا» و«داود» و«سقراط» و«شيشرون» كما كان يصغي إليهم وحدهم رجال عصر النهضة، بل إننا نصغي كذلك إلى أصوات ملوك الشرق العظام في قصصهم التي يفاخرون فيها بفتوحاتهم في البحر الأبيض المتوسط، وإلى أصوات الحكماء المصريين وهم يبشرون بحلول العصر الذهبي للعدالة الاجتماعية، وإلى صوت «خوفو» الذي ينطق مبناه الهائل المنبئ عن انتصارات أول دولة عظيمة منظمة، وإلى صوت أقدم سباك للمعادن يغني في رنات سندانه الحديدي الساذج نشيد تغلب الإنسان المقبل على أنحاء الأرض، وإلى صوت أولئك الأجيال من الناس الذين تقادمت عليهم العهود فصاروا نسيا منسيا فلا تسمع أصواتهم الآن إلا عن طريق رسالة تلك الآلات الحجرية المنقطعة النظير في دقة صنعها، وإلى أصوات أهل العهود الجيولوجية الذين كانوا يهمهمون بحناجرهم الخشنة بتلك الكلمات البشرية الساذجة التي يخيل إلينا أننا نسمع رنينها يدوي في أنحاء الغابات التي يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ، مرددا صدى أول كلام واضح لتلك المخلوقات التي يصعب تمييزهم وهم على وشك أن يصيروا بشرا بالمعنى الذي نعرفه.
ونحن الآن ننظر إلى الوراء من خلال تلك الآباد والعصور، من تاريخية وسابقة للتاريخ، ونصغي إلى الأصداء التي تأتي إلينا من مشاهد تلك الأزمان، وقد تمثلت هذه الرؤية أمام الشاعر الإنجليزي «تنيسون» وهو ينظر في مهد بكر أولاده، حيث يقول: «من الأعماق يا ولدي.» ومثل هذه الصورة لهذا «الماضي الجديد» إنما أخذت تشرق الآن فقط على عقول رجال هذا العصر الحديث، ولها من القيم ما لم نبرهن بعد على شيء منه. وإن من يدرك هذه الرؤية على حقيقتها فإنه يكون قد بدأ يقرأ قصة «أوديسى» بني البشر الجليلة، وهي التي تظهر لنا الإنسان وهو خارج من ظلام الأبديات، مندفعا بجبهة مرفوعة إلى شمس حياة جديدة سامية تفوق أحلامه؛ أعني بذلك مغامرته السامية على مدى العصور.
وأحيانا كانت تأخذني الحيرة فيما إذا كانت الرؤيا التي قد تشرق على الروح الإنسانية في الفن والأدب وتكون باعثا لها على التعبير عن نفسية صاحبها، يمكن موازنتها بما تحقق من الإمكانيات الإنسانية كما رأيناها في ذلك الانتقال في الحياة البشرية الذي حاولنا تتبعه في هذا الكتاب.
وليس هناك من شك في أن ما رآه «إمرسون» في نفس الموضوع الذي ذكرناه هنا في شكل تطور مؤيد بالأدلة التاريخية لم يكن إلا مجرد حدس محض، وفيما عدا ذلك فإن الروح البشرية لم تعبر عن ذلك قط، اللهم إلا ما يحتمل حصوله في الموسيقى؛ فإنني حينما أستمع إلى القوة الهائلة التي يفتتح بها مطلع سيمفونية «بتهوفن» الخامسة، ثم أتتبع انتقاله إلى انتصاره الهادئ في آخر حركة في هذا الإيقاع، فإنه يخيل إلي أن «بتهوفن» مثل «إمرسون» قد أشعرته الإلهامات النبيلة التي أشرقت على روحه السامية بالحقيقة العميقة الأساسية التي يقوم عليها الأمل الإنساني، وهو ما يجعلنا نتوقع للأخلاق من تأثير بالغ نبتت أصوله من أعماق كون غير ممكن لنا سبر غوره.
على أننا حينما ننظر إلى الوراء في ماضي تلك الجهود البشرية الهائلة، فإننا لا نجد لها قيمة أو أهمية إلا حينما نراها تنهض نهوضا باهرا نحو «الانتقال العظيم»، ونحو العثور على القيم البشرية المثلى في عصر الأخلاق.
والواقع أن عدم تكامل «الانتقال العظيم» هو الذي يجعلنا ننتظر من وراء رحلة بني الإنسان الطويلة عاملا خلقيا فعالا، على ألا يكون ذلك عن طريق استيعاب الإنسان لمحتويات أي دين من الأديان القديمة بحيث تصير جزءا من كيانه، بل يجب أن يكون ذلك عن تصور ما للمحجة العليا التي لا تخرج مثل هذه الأديان عن كونها علامات مرشدة إلى الطريق التي تؤدي إليها؛ إذ من السهل أن يسيء الإنسان فهم قيمة تجاريب الشرق القديم من ناحية الدين والأخلاق.
وإنه لمن المناظر الشائعة والباعثة على أشد الأسف، وبخاصة في أمريكا وإنجلترا، ما نشاهده الآن من بعض تلك الأنوثة المخبولة وهي يتأملن الحقائق السامية، معتقدات في بلاهة، أنها منحصرة في دين ما من أديان الشرق القديم دون سواه، ناسيات بذلك كل ما قدمته عصور التجاريب الإنسانية لإنماء ورفعة وإغناء كل ما وصل إلينا من الديانات التي ترجع إلى أصل قديم.
على أن تجاهل القرون الأخيرة وما أحدثته من تقدم مشرف، والرجوع إلى الوراء والتعلق بالمراحل الأولى الأصلية لدين ما دون تغيير، يكون مثله كمثل إنسان اشتد به الظمأ في يوم شديد القيظ، فالتمس ما يشفي به غلته في الرقود تحت شجرة من البلوط، ثم حاول إطفاء عطشه ببذرة من البطيخ.
وقد حذرنا صديقي «جيمس هارفي ربنسون»
James Harvey Robinson
من الخضوع للماضي في كتابه المنبه للآراء بدرجة عظيمة، المسمى «العقل في التكوين»
The Mind in the Making ، غير أني أعتقد أنه يقصد بذلك الاستسلام الأعمى للماضي. على أن طريق التقدم السليم هو أن يتخذ الإنسان وسطا متزنا بين الدروس المستقاة من الخبرة، والرؤية الجديدة.
على أن ما أرمي إليه بهذه الآراء الختامية لهذا الكتاب هو أن أذكر الباحث بأن دراسة التجاريب الإنسانية - بدون تحيز - وبخاصة إذا كان قد كشف عنها حديثا، هي التي تكون في الغالب الدافع الملهم إلى رؤية جديدة. فليتأمل القارئ بعض الحقائق البارزة التي كشف عنها فحص التاريخ القديم للأخلاق البشرية، مما كنا بصدد بحثه فيما تقدم، ونعيده الآن فيما يأتي: «لقد وجدنا أولا أن الارتقاء الخلقي فوق كوكبنا هو تطور لم يكمل بعد.» وفي هذه الحقيقة نجد أكبر سبب لأملنا في المستقبل.
وثانيا نجد - كنتيجة للحقيقة السابقة - أن الإنسان من الوجهة الخلقية لا يزال طفلا يلعب في داخل حجرة مملوءة بلعب خطرة جدا لم يتعلم بعد كيفية استعمالها، وبذلك يحدث باستمرار أضرارا جسيمة، لا لنفسه وكفى، بل لكل المبنى الذي يعيش فيه.
ويدل تاريخ الاقتصاد الحديث على أن القصور الطفلي في الإنسان لا ينحصر في حدود الأخلاق فقط.
وأخيرا فإن الإنسان الحديث، وقد عرف طبيعة الرقي الخلقي الذي أظهر التاريخ البشري المبكر أنه إنتاج وفيض للخبرة الاجتماعية، قد صار لأول مرة في مركز يؤهله لأن يمد يده للتعاون عن قصد مع العوامل الغريزية في كيانه، للتأثير في تطور الرقي الخلقي وتعجيله.
وقد أظهر الأستاذ «توماس ه. مورجان» بكل وضوح أن التطور الطبيعي ليس إلا نهجا يجب أن يدرس جوهره وقوانينه بالتجربة الفعلية، وإذا كان الارتقاء الاجتماعي شيئا من حقنا أن نسميه «تطورا» فإن إجراء تجاربه تعترضه بلا شك بعض العقبات. غير أن وجود معمل تجارب اجتماعي كمصر كفيل بأن يلقي ضوءا ذا قيمة على خطوات ذلك التطور الإنساني السامي، ويبشرنا بإمكان وجود عالم تتمكن فيه الحكومة والقيادة - مع تجنب الوقوع في مهاوي تشريع باهظ النفقات - من العمل بجد على إيجاد جو صالح تتقدم فيه الأخلاق الراقية، ويظهر فيه من العوامل المؤثرة ما يكون أكثر قوة من العوامل التي تحيط بنا الآن.
وها نحن أولاء الآن أول جيل من الناس يستطيعون أن ينظروا إلى الوراء في الماضي، وبإلقائنا نظرة على ذلك الماضي الطويل لحياة الإنسانية برمتها يمكننا أن نتتبع مجرى ذلك الانتقال العظيم إلى الحد الذي بلغه الآن من التقدم. وعقولنا بحكم مركزها هي أولى العقول التي تدرك أن نشأة الضمير والشعور بالمسئولية الاجتماعية، فيما بعد سنة 1000ق.م، وهما اللذان كانا بداية الانتقال العظيم، لم يكونا إلا من حوادث الأمس القريب.
وتلك الحوادث كانت بمثابة دليل على اقتراب «أبينا الإنسان» من حدود «مملكة جديدة»، وها نحن أولاء أولاده في أيامنا هذه لم نكد نعبر تلك الحدود حتى أخذنا في استطلاع ما وراءها من مشاهد تلك «المملكة الجديدة»، ونقف في حيرة المتردد عند تخومها الخارجية، يخفي عنا جمالها وسمو مستقبلها البعيد ضباب الضعف البشري، أو يغشاهما سواد دخان ذلك الطمع الخانق والأنانية والحرب العالمية. وبما نزل على أعيننا من غشاوة وما حل بنا من ضعف، زلت بنا القدم حتى اضطربنا على مقربة من سفح تلال تلك المملكة الجديدة، وهي تلال كلها ماثلة أمامنا، ولو كلفنا أنفسنا مئونة رفع أعيننا إلى ما وراءها لحظينا برؤية تلك المشاهد البديعة التي تطل علينا من تلك «الجبال البهية». وتدل المحجة الطويلة السامية التي خلفنا على مرتفعات هذه الجبال التي لم يتسلقها أحد بعد ، كاشفة لنا في نهوضها بالإنسان من عهد الوحشية إلى عهد الأخلاق عن تسام لا يقهر في الروح الإنسانية، التي قد خرجت بطريقة ما من الأعماق وارتقت حتى بلغت هذا الارتفاع الشاهق.
على أنني باستعمال الكلمات «تسام لا يقهر في الروح الإنسانية» لم أكن أستعمل مجرد عبارة بليغة جوفاء خالية من المعنى، ولقد استعملت هذه الكلمات لأول مرة في محاضرة طلب مني إلقاؤها منذ بضع سنوات على أثر عودتي من رحلة قمت بها بين أطلال المدن البائدة بالشرق القديم، ففي تلك الرحلة شعرت بما لم أشعر به قط من قبل من معنى تلك الحقيقة البالغة؛ وهي أنه في الحياة التي كانت ذات يوم تدب في شوارع تلك المدن التي صارت منذ زمن بعيد أثرا بعد عين، نهض الإنسان لأول مرة من التغلب على الموارد المادية إلى إدراك قيمة تلك المثل العليا الاجتماعية التي كان لها من الحيوية ما جعلها قوة باقية بيننا نحن الذين نقيم صرح المدنية الغربية على ضوء الحقائق التي لا تزال تسطع علينا من الشرق.
والواقع أن عبارة «التسامي الذي لا يقهر في الروح الإنسانية» تنطوي على معنى أكثر مما تعبر عنه مجرد كلماتها، ولكنني أؤكد للقارئ أن هذه الكلمات تمثل حقيقة واقعية في الحياة الإنسانية لا يمكن دحضها سواء أكان ذلك في الماضي أم في الحاضر، وهي حقيقة لم يتناولها أمثال «أزفالد سبنجلر» وجميع من على شاكلته من أصحاب مبدأ التشاؤم؛ لأنهم على ما يظهر لم يشعروا بها أصلا. والواقع أنها شيء موجود في روح الإنسان يمكن الاستدلال على وجوده كما يستدل على الدورة الدموية في جسمه الطبيعي، فأية قوة أخرى كانت هي الدافع الذي ساق الإنسان إلى ذلك الانتقال المدهش من الوحشية إلى السمو الخلقي الذي كنا نتتبع بدايته فيما تقدم؟ بل ما الذي نقل ذلك الإنسان المبكر من الفتح المادي المحض إلى تقدير المراثي الباطنية وجاذبيتها التي لا تقاوم؟
وفي هذا يذيع علينا فيلسوف مثل «برجسون»
Bergson
يسميه «الدافع الحيوي»
Elan Vital ، غير أني لا أبحث هنا في الأفكار الفلسفية؛ لأني لست فيلسوفا، وإنما أنا أناقش تاريخ الإنسان وأناقش شيئا يكشف عنه التاريخ صراحة، وبخاصة في مراحله الأولى، ويبرزه قوة ظاهرة ماثلة أمام العيان تعمل من مئات آلاف السنين البائدة، ولا تزال على ما أعتقد تؤدي عملها للآن، وهذه القوة لا يمكن أن يحددها أحد أو يعرفنا بكنهها، غير أنها، مثل قوة الجاذبية، يمكن مشاهدة ما تفعله. وإني أستعمل هنا التعبير بصيغة المضارع عمدا، فإنه ليس علينا إلا أن ننظر فيما حوالينا من أمر ذلك الهبوط الذي بلغ قمته في سنة 1933م، فندرك أن ذلك التسامي التاريخي في الروح الإنسانية لا يزال معنا.
ومنذ ذلك اليوم المتوغل في القدم المظلم الذي صنع فيه الإنسان أول آلة من الظران إلى يومنا هذا الذي نشاهد فيه الإنسان يحيط الكرة بالإذاعات الأثيرية ويرسم الخطط لمحو مدن برمتها بقذفها بقنابل الغازات السامة من السماء، كان مجرى الحياة البشرية في جميع تلك العصور في مجال تسوده الرغبة في إحراز الانتصارات المادية، وقد سار هذا الفتح المادي في طريقه مدة مئات الآلاف من السنين، ثم هو لا يزال يسير في هذا الطريق إلى الآن.
غير أنه حدث حادث وكأنه بالأمس، وهو أن «أبانا الإنسان»، في وسط غبار معمعة متعقد، أخذ يدرك إدراكا مبهما جلال تلك المرئيات الخلقية المستورة، ويستمع إلى صوت جديد باطني، يطلب الاستجابة له عن ألف من خواطره، القديم منها والحديث، فكان هذا الصوت مزيجا من حب البيت والزوجة والأولاد، وحب الأصدقاء، وحب الجيران، وحب الفقير والوحيد والمظلوم، وحب الوطن وإجلال المليك، ومع حب كل هذه الأشياء الجديدة امتزج تقديسه لأشياء ترجع إلى أقدم المراحل البشرية عهدا في التاريخ، كحب الإنسان للسحاب وقمم التلال، وحب الغابة والغدير، وحب الأرض والنجم والسماء، ولا يقل عنها حب الإنسان للحلة السندسية الخضراء التي تمده على مدى السنين بما تنبته من حاجات الحياة والغذاء اللازم لأطفال بني الإنسان.
وبذلك انتقلت آلهة الطبيعة القدامى إلى عالم جديد زاخر بالعوامل الاجتماعية، وبذلك اندمجوا في إله واحد، هو إله الحاجات الإنسانية والمطامح الإنسانية؛ فهو الأب العالمي الذي بدأ الناس يرون فيه جميع القيم السامية التي كشفت عنها تجاريبهم الاجتماعية نفسها.
على أن مثل هذا الماضي قد تكدست فيه حتما طائفة من التجاريب الإنسانية لا تقدر بقيمة، وقد أقرها محبو النهوض الإنساني، ويرون أنها لا تزال تحتوي على عناصر عظيمة للقوة يكون من الوبال إهمال الاستعانة بها في حياتنا الحديثة.
وقد بحث «والتر لبمان»
Walter Lippmann
في كتابه البديع: «مقدمة في الأخلاق»
A Preface to Morals
بنظر ثاقب عظيم موضوع انهيار أسس السلطة الخلقية، وإني أعتقد إزاء ذلك أننا نستمد قوة خلقية من التأمل في اتصال حلقات هذه الأشياء التي هي أنفس ما في الحياة الإنسانية، فإن أثمن ممتلكات الروح الإنسانية إصرارنا الشديد على التمسك بشعور حب الاستقامة، والعمل على التقدم إلى الأمام نحو فتوحات جديدة في الأخلاق، وكلها أشياء لم تكن أرومتها ثابتة في تجاريب الإنسانية فحسب، بل إن ظهورها في حياة الإنسان إنما كان في شكل قيم جديدة نابتة من تجاريبه نفسها، وقوتها باعتبارها مؤثرا ناميا في المجتمع البشري لم يطرأ عليها شيء من الاضمحلال، وإن ما وصل إلينا من الوثائق يدلنا دلالة تاريخية على أن الشيء الذي كان يسمى منذ زمان طويل «شعور بني الإنسان الخلقي» قد نما مع كل جيل من النظم والعواطف الخاصة بحياة الأسرة، مضافا إليها أفكار ونصائح الشيوخ المجربين. ومن ذلك نرى، كحقيقة تاريخية، أن القيم العالية التي تكمن في الروح الإنسانية قد جاءت إلى الدنيا لأول مرة عن طريق التأثر بتلك العوامل الرقيقة المشرفة التي نشعر بها على الدوام في حياتنا الأسرية. ولن نصل قط إلى معرفة ما إذا كان لها من قبل بداية سابقة في مكان ما خارج عالمنا في ذلك الكون الشاسع، غير أنها لم تكن في أي مكان فوق كرتنا الأرضية إلى أن أوجدتها حياة الأب والأم والأولاد. والواقع أن شمس أقدم البيوت الإنسانية وبيئتها هما اللذان أوجدا المثل العليا في السلوك الأخلاقي عند الأنام، وكشفا عن جمال إنكار النفس في سبيل الغير.
وقد ذكر لنا «برتراند رسل»
Bertrand Russel
في أحدث كتاب له
3
في تحبيذ اعتناق مذهب الشيوعية، أن أهم تغيير ترمي الشيوعية إلى إحداثه هو العمل على محو الأسرة. وهو يدافع عن ذلك مقصيا التجاريب البشرية أصالة عن حياتنا. على أنه رغم هذا الانقلاب الذي يقوم به الجيل الحديث فإن الخبرة البشرية لا يمكن القضاء عليها ومحوها، كما لا يمكن محو الصفات التي غرستها فينا ولا تجاهلها.
حقا إن شباب اليوم قد ثار على السلطة سواء أكانت سلطة الكنيسة أم أوامر الكتب المقدسة، وما ذلك إلا لأن المناداة باستعمال السلطة تكون دائما موضعا للمعارضة؛ وبخاصة في عقول الشباب، ولكن ماضي البشرية يسطع علينا بنوره العظيم وليس ثمة ما يدعو إلى طلب تطبيق السلطة. وإذا تصفح أي باحث كان من الشباب هذا الكتاب فلست أرجو منه إلا تأمل حقائق تلك التجاريب الإنسانية التي كشفت لنا الآن بحالة واضحة لم نر مثلها من قبل في أي وقت كان. على أنه توجد هناك مصادر أخرى تدعو إلى الإجلال علاوة على ما جاء في الكتب المقدسة أو تعليمات الكنيسة، فإن رجالا من أمثال «وليم مورس»
William Morris
و«والت ويتمان»
Walt Whitman
قد أحبوا ووقروا حياة الإنسان فوق الأرض، ووجدوا في تأمل علاقاتها مصدرا للإلهام والإرشاد. على أنه توجد علاقة واحدة سامية تفوق كل العلاقات الإنسانية الأخرى، وهي تلك العلاقات التي كونت البيت وجعلت من حول موقد الأسرة المصدر الوحيد الذي نمت منه أنبل الصفات الإنسانية التي كان لها شأن عظيم في تغيير حالة العالم.
4
ومن الحقائق التاريخية أننا مدينون إلى أبعد حد لحياة الأسرة بأعظم دين يمكن للعقل الإنساني تصوره، فإن نفس أصداء ماضينا الآتية من أزمان سحيقة تنادينا في صراحة بالاعتزاز والاحترام والمحافظة على علاقة الأسرة، المدينة لها حياة الإنسان بهذا الدين الجليل. (5) القوة والأخلاق
لقد صارت حياة الإنسان فوق الأرض بسبب ذلك «الانتقال العظيم» عراكا مستمرا بين المثل العليا الجديدة في إنكار النفس (الأمر الذي لم يكن ظهوره إلا بالأمس القريب) وبين شهوة حب القوة الشديدة التأصل والقديمة قدم الجنس الإنساني نفسه.
فإن حب الإنسان للقوة أقدم بكثير جدا من العصر الأخلاقي، ولذلك كانت القوة هي المنتصرة انتصارا خطرا على الضمير والخلق المولودين حديثا، لدرجة أننا صرنا أمام معضلة خطيرة، هي مسألة بقاء المدنية. ولقد لخص «السير ألفريد إيونج»
Sir Alfred Ewing
مركز الإنسان الحالي في خطاب الرياسة الذي ألقاه أمام مجمع تقدم العلوم البريطاني فيما يأتي: «لقد وضع في يديه (يعني الإنسان) قيادة الطبيعة قبل أن يعرف كيف يقود نفسه.»
وإني مقتنع تمام الاقتناع بأن تصور «الماضي الجديد » على حقيقته كفيل بالتأثير في سلوك الفرد، أما أن الأمم أو البشرية بأكملها - بعد أن تدرك حقيقة هذه الصورة - تستطيع أن ترى فيها مؤثرا قويا يكفل حقيقة شفاء غلة الأحقاد الدولية، أو يأتي بما هو أعظم من ذلك من توثيق عرى المودة والمراعاة الكريمة، فهو أمر تحوطه الشكوك الخطيرة.
ولقد أبدى المستر «ه. ج. ولز»
H. G. Wills
تفاؤلا كبيرا في تصريحاته عن هذا الموضوع، وكنت أود أن أشاركه تفاؤله، غير أني لما كنت قد قضيت سنين عدة أتأمل في خلالها كل يوم تقريبا آثار القوة البشرية، فقد ترك ذلك في نفسي شعورا ليس من السهل علي محوه.
وقد كنا نرقب في هذه الصفحات ارتقاء مميزات الروح البشرية المبكرة مع الاهتمام بوجه خاص في عملنا هذا بملاحظة ظهور القيم العليا. غير أنه من جهة أخرى كان في مقدورنا أن نستعين بعدد عظيم من الآثار القديمة لتكشف عن الجانب الآخر لتلك الصورة، وبخاصة عن أعظم قوة مضادة لتلك القيم؛ وأعني بذلك ازدياد شراهة الإنسان لحب الاستئثار بالسلطة كلما ارتقى النظام القومي، إلى أن صارت آلة الحكومة البشرية هي التعبير المنظم عن التعطش للسلطة؛ أي الشهوة الحافزة على استعمال القوة.
وقد تأثرت في خلال تجوالي في أنحاء الشرق الأدنى عدة سنين بالحقيقة الساطعة الآتية؛ وهي: «إن الآثار التي لا تزال باقية في جميع تلك البلاد النائية كانت قبل كل شيء عنوانا لمدى قوة الإنسان.» فكأن عراكه مع عوامل الطبيعة - وهو عراك يسير في طريقه من مدة بعيدة يحتمل تقديرها بنحو مليون من السنين - قد أشربه شعورا عدائيا بأنه لا يمكنه أن يفوز بغرضه إلا بالمحاربة على طول الخط كما كانت حالته مع قوى الطبيعة المناوئة التي كانت تنازله من كل جانب. وبهذه الروح نفسها كان ينازل إخوانه من بني البشر عندما انتهى الأمر بقيام ذلك النزاع الطويل على السيادة بين أقدم الأمم. وفي أيامنا هذه قد تدخل إلى أحد الأودية المهجورة في «سينا» فتواجهك هناك على حين غفلة صورة فرعون طويل القامة نقشت فوق واجهة جدار الصخر، وقد ظل الفرعون واقفا هناك منذ القرن الرابع والثلاثين ق.م
5
ممثلا في هذه الصورة التي هي أقدم الآثار التاريخية في العالم، وهو واقف بسلاحه شاهرا إياه بما يشعر أنه على وشك تحطيم جمجمة أحد الأسرى الآسيويين، وقد أرغمه على أن يجثو على ركبتيه أمامه. وهذا الأثر الدال على القوة الغاشمة كان إعلانا للتملك بحق الفتح، نقش هناك بمثابة بلاغ قاطع للآسيويين ينذرهم بأن ملك مصر قد عبر من أفريقيا إلى آسيا، واستولى على مناجم النحاس والفيروز المحيطة بذلك المكان. ففي هذه البقعة، التي فيها بدأت الآثار التاريخية والسجلات المدونة، نرى الاستيلاء على الموارد الطبيعية باعثا أساسيا للعمل القومي، ونرى الأثر المعبر عن ذلك يضرب على وتر نغمة القوة التي ظلت تسود التاريخ البشري منذ ذلك العهد.
وعلى أثر انعقاد الهدنة في أوروبا (في سنة 1918م) مباشرة، بينما كانت الحرب الجزئية لا تزال مشتعلة في نقط متفرقة في غربي آسيا، قمت برحلة عند نهر الفرات في وسط قبائل العرب المعادين، بقصد العودة إلى المدنية الغربية ثانية، وقد كانت بعثة «معهدنا الشرقي» أول جماعة من الغربيين حاولوا، منذ عدة شهور، عبور تلك الصحراء الغاصة باللصوص، من «بغداد» إلى البحر الأبيض المتوسط. ففي اليوم السابع من مغادرتنا «بغداد» دخلنا قلعة شاسعة الأرجاء واقعة عند منتصف نهر الفرات تعرف عند الأهالي الآن «بالصالحية»، وأما اسمها القديم فلم يكن معروفا بعد. وحينما صرنا داخل جدرانها الضخمة ومررنا حول أحد أركانها، ظهر أمامنا فجأة جدار عال يملأ وجهه رسم فخم ذو ألوان عدة يشمل صورة جماعة مؤلفة من أحد عشر شخصا بحجمهم الطبيعي وهم عاكفون على الصلاة بخشوع. وقد وقفنا محملقين مشدوهين أمام تلك الأشكال العجيبة التي تنظر إلينا في جد ووقار، وقد كشف عنهم فجأة كأنما قد استدعوا بعزيمة سحرية صادرة في فيافي تلك الصحراء الشاسعة الصامتة التي كانت تمتد تحت أقدامنا.
وكان قد كشف عن ذلك الأثر قبل ذلك ببضعة أيام على يد جنود «الهند الشرقية الإنجليزية» أثناء التجائهم إلى هذا المكان للاحتماء من قبائل العرب المعادية الذين كانوا يحيطون بهم من كل جانب. وفي اليوم الثاني من قدومنا أخذنا نعمل بشغف بمساعدة هؤلاء الجنود أنفسهم، فكشفنا عن جدران أخرى عديدة، فظهر لنا فوق جدار منها - كان ينكشف أمامنا بالتدريج أثناء إزاحة الأتربة المتساقطة من فوقه ببطء - رسم طائفة من الجنود الرومانيين وعلى رأسهم قائدهم (التربيون) «يوليوس ترنتيوس»، فقد كتب اسمه أمام صورته فوق الجدار، وكان يؤم المصلين من جنود الحامية الرومانية التي كانت في وقت ما تحتل هذا المعقل الصحراوي الماحل الذي يقع على مسافة بعيدة خارج الحدود الشرقية التي توطدت نهائيا للدولة الرومانية على نهر الفرات. وقد عثرت كذلك على نقش في الصورة يبين بالإغريقية الاسم القديم لتلك المدينة المفقودة، وهو «دورا»، ولم يعثر قبل هذا على أي أثر تصويري يمثل وصول جنود الرومان إلى مثل هذا المدى شرقا.
6
ولقد كانت لحظة مؤثرة تلك التي تحققت فيها أنني وأنا في قلب الصحراء السورية، على مسافة تقرب من 300 ميل شرقي البحر المتوسط، أنظر إلى أقصى مدى شرقي بلغته قوة تلك العاهلية الحربية الهائلة التي كانت تمتد من الشطر الآسيوي الغربي وكل أوروبا حتى شواطئ الأطلنطي والجزر البريطانية غربا مما يربي على مسافة 3000 ميل. وقد امتد خاطري عندئذ بعيدا إلى ما وراء الصحراء تجاه صورة الفرعون العظيمة المنقوشة فوق جانب الصخر في الوادي المهجور الواقع في «سينا»، حيث نشأت أولى الآثار التي تمثل هذه القوة، ثم تعاقبت الأمم وقامت الدول الواحدة إثر الأخرى لمدة تناهز أربعة آلاف سنة حتى بلغت القوة ذروتها في تلك الإمبراطورية الرومانية الضخمة التي امتدت من المحيط الأطلنطي غربا إلى نهر الفرات شرقا.
ومع ما في كلمة «إثارة» من المبالغة، فإننا نجد في النظر إلى مظهر تلك العظمة الباهرة التي بلغتها الدولة الرومانية ما يثيرنا حقا؛ وذلك عندما نتأمل في الصورة المرسومة فوق ذلك الجدار ونرى فيها علم لواء الجنود الرومانية القرمزي اللون يحمله الدليل سائرا به أمام أولئك الجنود الذين كانوا يقومون بالمحافظة على عظمة قوة الرومان الحربية في فيافي هذه الصحراء فوق شواطئ نهر الفرات النائية في هذا الزمن البعيد. وهذا الوقت؛ أي وقت وجود الرومان عند الفرات، يبعد - كما ذكرت - بنحو 4000 سنة إلى الوراء من عهد ذلك الأثر المهجور الذي أقامه الفرعون لنفسه في مناجم النحاس بسينا. ومع ذلك فإنه في نهاية هذه الآلاف الأربعة من السنين كانت القوة - ظاهرا - هي العامل السائد في حياة الإنسان السائرة في سبيل التقدم.
وبعد أن مضى على ذلك الحادث بضعة أسابيع كنت جالسا مع السير «هربرت صمويل»
Sir Herbert Samuel
أول حاكم بريطاني لفلسطين، في الحدائق الجميلة بدار المندوب السامي البريطاني الواقعة فوق «جبل الزيتون»، وكانت مدينة «أورشليم» المقدسة تقع خلفنا تجاه الشمس الغاربة، على حين كان أمامنا أخدود «وادي الأردن» و«البحر الميت» وخلفهما جبال «مواب» ذات اللون الأزرق واللون الأرجواني. وقد صور «اللورد اللنبي» في صورة حية انخفاض ذلك الشق الهائل في قصة ذكرها لي عن حملته في فلسطين، فقد أرسل إلى وزارة الدفاع ذات يوم رسالة هذا نصها:
لقد أطلقت حاملات قنابلنا هذا الصباح قذائفها على المواقع التركية في وادي الأردن وهي محلقة على ارتفاع 600 قدم تحت سطح البحر.
على أن مصب نهر الأردن وسطح البحر الميت كانا يقعان على مسافة 700 قدم تحت هذه القاذفات؛ أي إن سطح «البحر الميت» يقع تحت مستوى سطح البحر بألف وثلاثمائة قدم. أما عمق «البحر الميت» نفسه فيبلغ 1300 قدم من تحت سطح مياهه الملحة، وعلى ذلك يكون قاع «البحر الميت» منخفضا عن مستوى سطح البحر بألفين وستمائة قدم، فهو بذلك يعد أسفل أخدود في سطح الأرض، وتشرف عليه الجبال التي حول «أورشليم» التي يبلغ ارتفاعها فوق سطح البحر بمقدار انخفاض قاع «البحر الميت» عن ذلك السطح. فالفرق إذن يكون أكثر من خمسة آلاف قدم؛ أي ما يكاد يبلغ ميلا بالضبط. فهذا المشهد حينما تشرف عليه العين من قمة «جبل الزيتون» يمثل صورة هائلة لتلك القوى المروعة التي أحدثته، فكأن يدا ماردة قد دست أصابعها الضخمة في الأرض ففلقتها شطرين حتى تخلف عن ذلك أخدود يبلغ عمقه ميلا كاملا.
وحينما كنت أتأمل مع «السير هربرت» - السالف الذكر - هذا المشهد خيل إلينا أنه أكبر برهان مروع يمكن أن تقع عليه العين لتمثيل شدة القوى الطبيعية.
ولم يكن يوجد بعد أناس ما حينما انفلق ذلك الأخدود، وعندما ظهر الإنسان فوق وجه البسيطة كانت تعترضه قوى من هذا القبيل أينما حل. وقد كان التاريخ الأرضي يسير في طريقه بفعل مثل هذه القوى. وإننا لنجد صدى لبعض أهوالها في قصة «سدوم» و«عمورة»؛ إذ قد رأى أهل هذا الإقليم القدامى آلهتهم تتمثل في مثل هذه الظواهر المروعة. وقد أدرك العبرانيون في شخص تلك القوى البركانية التي كنا نطل عليها أقدم إله لبني إسرائيل، وقد مضى وقت طويل قبل أن يشربوا طبيعته المنطوية على تلك القوى المخيفة بصفات إنسانية تنطوي على المصادقة.
وبعد ذلك مددنا بصرنا إلى مسافة بضعة أميال شمالا، وهناك فوق منحدرات تلال الأردن المشرفة على ذلك الأخدود المخيف رأينا تلك القرية الصغيرة التي كانت مسقط رأس «أرميا»، ذلك النبي العبراني وموطنه. لقد أشرف بنظره طول حياته على ذلك المنظر الهائل الذي يدل على قوة التطورات الطبيعية وعنفها، ومع ذلك فإنه كان يشعر بعالم تلك القوى الباطنة التي كان يعتقد عدم فنائها، ونجد ذلك فيما عزاه من الأقوال إلى إلهه فيما يأتي:
اجعل شريعتي في داخلهم واكتبها على قلوبهم.
أرميا 31: 33
ولقد أثبت لنا ذلك المشهد فعلا حقيقة ما قيل من أن ذلك الانتقال المدهش من عالم القوى الطبيعية المحضة إلى عالم القيم الإنسانية التي لا تفنى، قد حدث فعلا على وجه ما في الشرق الأدنى القديم. وبينما كنا جالسين بعد ذلك مشرفين على قرية ذلك النبي «أرميا» الصغيرة، إذ حولنا أعيننا نحو الجنوب الغربي، عبر تلال «يهودا» الماحلة التي يقع خلفها وادي نهر النيل، موطن أقدم شعب وصل إلى الشعور بقوة المثل العليا في السلوك الخلقي - وهي المثل التي بدأت «الانتقال العظيم» - وتذكرنا أنه، قبل مولد «أرميا» بألفي سنة، كان حكماء الاجتماع المصريون أسبق الناس إلى إدراك قيم الأخلاق ومعرفة القيم القلبية الباطنة عند الإنسان، وكيف أن كتاباتهم قد انتقلت إلى فلسطين فأثمرت ثمرتها في حياة العبرانيين، وبذلك صار الأنبياء العبرانيون، الذي نبهتهم الظواهر الاجتماعية التي نهضت فوق ضفاف النيل، منارا يستضاء به في كل أنحاء العالم.
وهنالك بدأنا ندرك بالتدريج مدى تأثير قصة البشرية الطويلة، على وجهها العام، حينما أخذت تنتشر بسرعة في أقطار الشرق الأدنى القديمة.
وقد كانت ذكرى عظيمة عندما نظرت مرة ثانية في خلال يوم آخر من قمة تل «أرماجدون» نحو الشمال عبر ذلك السهل ذي الطبقات المسمى باسم التل، وتأملت مرتفعات أراضي الجليل، فهنالك بين جبال قرية الناصرة لا بد أن الطفل عيسى كان يشرف كثيرا على هذه الساحة التي كانت ميدانا للحرب على مدى العصور، وقد كانت إذ ذاك ظلال السحاب تزحف وئيدا فوق تلال الناصرة التي كان يخيم عليها الضباب مع أنها لا تبعد عنا إلا ثمانية أميال فقط. وكانت شرفات حصون «أرماجدون» تطل من تلك الأتربة التي كنت واقفا فوقها، وكانت أعمال الحفائر التي كنا نقوم بها وقتئذ في ذلك المكان آخذة في إزالة تلك الأتربة، وكانت هذه الشرفات تشرف على كل ذلك السهل التاريخي. أما مدينة «أرماجدون» الحصينة التي تعد أثرا من آثار تلك القوة البشرية فكانت لا بد ظاهرة للعيان من خلال تلال قرية «الناصرة»، وقد كانت تشرف طوال أزمان حكم القوة على مشاهد الفتح وسفك الدماء التي كانت تقع في ذلك السهل الواقع أسفل منها وهي أزمان كانت أسمى آلهتها آلهة العنف والتقتيل الذي كانت تبتهج به نفوس أمثال أولئك الأنبياء الأشداء كالنبي «إيليا». ثم قضت على ذلك بالتدريج تلك المثل العالية للسلوط الأخلاقي التي جاءت من وادي النيل، إلى أن أشرق نور ذلك الإله الرحيم فوق تلال «الناصرة»، وهو ما رآه ابن نجار يهودي المنبت
7
نشأ في قرية صغيرة من قرى «الجليل» تقع خلف حافة التلال الشمالية بالضبط، وتشاهد بجلاء من شرفات «أرماجدون». وكما كان النبي «أرميا» يشاهد وهو ينظر من خلال قريته فعل تلك القوى الطبيعية الهائلة ويبقى في الوقت نفسه متمسكا بعقيدته في القيم النفسية الباطنة، كذلك كان نبي قرية «الناصرة»، ذلك الشاب الذي شب وترعرع فيها، ترى عيناه كل يوم تلك المناظر التقليدية الدالة على وحشية القوة البشرية، ويبقى مع ذلك متمسكا بأهداب وحيه عن تلك المملكة الجديدة التي كانت قائمة في قرارة نفسه. ففي فلسطين كان هذا في الواقع هو الانتقال السامي من النبي «إيليا» إلى يسوع، ومن جبال الكرمل و«أرماجدون» إلى قرية «الناصرة».
على أن الوصول إلى هذه الذروة الرفيعة في فلسطين إنما أتى في وقت متأخر نسبيا، فهو ثمرة مهد لها الطريق ذلك الانتقال المبكر - وهو الذي سميناه «الانتقال العظيم» - والذي رفع الإنسان من النضال الذي كان مقتصرا على الطبيعة ونقله إلى ميدان آخر جديد هو ذلك النزاع القائم بينه وبين نفسه للتغلب على روحه نفسها، واحتضان تلك القيم الجديدة التي تسمو به فوق عالم المادة فتكون مادة لحقيقة جديدة، وهي التي نسميها الأخلاق أو الخلق.
وقد رأينا أن العوامل التي كونت ذلك الانتقال المبكر نشأت في مصر، ثم انتقلت منها إلى فلسطين، ثم إلى سائر أمم العالم التي ظهرت بعد ذلك، فلم يكن من باب مجرد الاتفاق والصدفة أن يتتبع التاريخ العبراني أصول القومية العبرانية إلى وادي النيل، الأمر الذي نجد صدى تقاليده باديا في العقيدة المسيحية، حيث نجد في الأسفار المسيحية ما يأتي: «من مصر قد ناديت ابني.»
وفي عهدنا الحاضر نبحث نحن أيضا في بلاد الشرق القديم عن أعمال الطبيعة وعن أعمال الإنسان، وفي القيام بجهاد جديد من المحاولة العلمية لاسترداد قصة كل منهما، ولكننا قد أدركنا مما مضى ما فيه الكفاية لأن يثبت لنا أن قصتهما واحدة؛ أي إن حركات الطبيعة وحياة الإنسان السائرة نحو التقدم هما في الواقع فصول من قصة واحدة عظيمة، وأن في النظر إلى ذلك الأخدود المخيف الذي يتكون منه الآن «البحر الميت»، والذي يواجهنا في صورة رهيبة بسؤال «هيكل»، قد نجد جوابا عليه ليس في استطاعة العلوم الطبيعية أن تقدمه، وهو جواب لا يأتينا إلا إذا تأملنا تلك التجاريب البشرية التي قامت في الشرق القديم، وأدركنا أن ذروة الكون السائر في سبيل الارتقاء هي الأخلاق.
وقد كان الغرض الذي نرمي إليه في هذا الكتاب هو تقديم الأدلة التاريخية على أن حركة الرقي البشري الذي أنتج الأخلاق لم تتكامل بعد،
8
وأنها لا تزال سائرة في طريقها، وأن احتمالات مستقبلها غير محدودة، وأن الواجب يقضي علينا بأن نجعل ما لتلك الحقيقة الجديدة من أهمية خطيرة نصب أعيننا لتكون مؤثرا عمليا في سلوكنا الأخلاقي. فإذا عملنا بذلك نصل إلى الاقتناع التام بأننا لا نعتمد في حياتنا على مجرد حقائق تقليدية وتعاليم موروثة ربما كانت لا تكاد تتفق مع ميولنا، ولكن كما انبثق نور الأخلاق في ظلمة لم تكن تعرف مثل هذا النور من قبل، فكذلك لا نشك في نمو ذلك النور حتى يضيء نواحي أخرى من الوجود لم تتحقق بعد في العصور التي لم يسبر بعد غورها للآن، والتي إليها تتجه رؤيتنا المحدودة ولكنها لا تراها.
الصور والأشكال
شكل 1: «الشاطئ الغربي للنيل عند طيبة.» إن وادي النيل الضيق، الذي تشرف عليه المرتفعات - ومن ورائها هضبة صحراوية غير صالحة للسكنى - قد تكونت منه بيئة منعزلة منيعة، هيأت «معمل تجارب» اجتماعي لا مثيل له. وفوق الأرض السوداء التي تكونت من رواسب مياه النيل على جانبيه، بامتداد أكثر من 700 ميل، نشأت أول أمة زراعية في التاريخ، وبلغت عدتها عدة ملايين من الأنفس.
شكل 2: «تمثال لتوت عنخ آمون في صورة «أوزير» تحرسه «البا» (روحه) من اليسار، و«الكا» (قرينته) من اليمين.» هذا التمثال البديع المصنوع من الخشب لا يتجاوز طوله 12 بوصة، وهو مثال لجمال الصنع الذي امتازت به محتويات قبر توت عنخ آمون حتى أصغرها حجما. وتدل النقوش المحفورة على قاعدته على أنه هدية جنازية قدمت للملك من مدير الجبانة الملكية.
شكل 3: «قرص الشمس المجنح: حلي به تابوت الملك «آي».» هذا التابوت الرائع المنحوت من قطعة واحدة من الجرانيت الأحمر قد صورت على أركانه أربع إلهات واقفات وقد نشرن أجنحتهن على جانبي التابوت لحمايتهما. ويزيد في جمال كل جانب نقش بديع لقرص الشمس المجنح: «شمس العدالة ... تحمل الشفاء في جناحيها.»
شكل 4: «بتاح الأعظم قلب الآلهة ولسانهم.» رأس تمثال من الجرانيت الأسود للإله «بتاح» معبود منف.
شكل 5: «أهرام الجيزة كما ترى من الجو.» الثلاثة الكبرى من هذه الأهرام شيدت لتكون مثوى أبديا منيعا لأجسام ثلاثة ملوك من الأسرة الرابعة بمصر القديمة (بعد سنة 2900ق.م)، أما الأهرام الصغيرة فهي لأعضاء من الأسرة المالكة، كما أن القبور الأخرى كانت لرجال البلاط.
شكل 6: «قمة هرم أمنمحات الثالث بدهشور.» العينان - اللتان هما عينا الملك - تتجهان شطر الشمس عند شروقها فتستطيعان بذلك «رؤية جمال الشمس». أما النقوش المدونة بأسفلهما فراجع بشأنها ما جاء في صلب الكتاب في الفصل الرابع العقيدة الشمسية ومكافحة الموت (عن حجر القمة الموجود بدار الآثار المصرية).
شكل 7: «أحد السادة المصريين وزوجته وهما يتعبدان أمام «أوزير» في عرشه.» هذه الصورة الجميلة المنقولة عن بردية جنازية، تمثل المتوفى وقد خرج من منزله (إلى اليمين) وأخذ يجتاز حديقته إلى حضرة الإله الأعظم (إلى اليسار) الذي وقفت في حضرته «ماعت» إلهة الحق. وقد كان المصري ينتظر أن يجد في الآخرة منزلا وضيعة شبيهين بما كان يملكه في هذه الحياة الدنيا. ومن معالم المنزل المصري القديم النموذجي أن يكون شاملا مسكنا وبركة مستطيلة الشكل تحف بها الأشجار. وقد تمثل في الصورة بوضوح كبير استحواذ «أوزير» بالتدريج على صفات إله الشمس: يظهر ذلك من وجود قرص الشمس فوق رأس «ماعت» ومن أنشودة الشمس التي كتبت في النطاق العمودي الوارد بأعلى الصورة.
شكل 8: (على اليمين): إله الشمس مشرقا في شكل صقر (عن صورة
Vigneite
ملونة من كتاب الموتى). المنحنيان المثبتان في أسفل الصورة يمثلان الصحراء الرملية التي رسمت فوقها مرتين السيدة «إتهاي» المتوفاة في شكل طائر برأس آدمي (با) واقفة فوق سطح قبرها. وقد رفعت ذراعها - كما رفع جميع من فوقها في الصورة أذرعهم أيضا - تعبدا لإله الشمس وقد صعد من الصحراء في صورة صقر بديع الشكل يعلو رأس قرص الشمس.
شكل 9: «رأس تمثال من الديوريت للملك خفرع (من القرن التاسع والعشرين ق.م).» لعل هذه أعظم صورة معبرة من عصر الأهرام؛ فهي تبرز بشكل قوي المعالم الفردية لهذه الشخصية السامية - الملك - في عصر كانت فيه الشخصية ومعالم الفرد من الناس في دور الظهور لأول مرة.
شكل 10: «العازف الأعمى وهو يغني مع فرقته أغنية العازف على العود.» وقف الكاهن يؤدي الشعائر الدينية أمام الأمير، الذي لم يظهر في الصورة (إذ كان مكانه في الجزء الذي فقد منها من اليسار) بينما كانت الفرقة الموسيقية تعزف الموسيقى المرافقة لأغنية «العازف على العود» وهي التي ألفاظها منقوشة بأعلى الصورة فوق رءوس الفرقة. وقد ضاع الجزء الأعلى من الأغنية، غير أن ما بقي منها يكفي لمعرفتنا أنها صورة من نفس الأغنية الواردة في البردية.
شكل 11: «صورة الملك أمنمحات الثالث من العهد الإقطاعي بمصر القديمة.» إن ما يتمثل في الصورة من دلائل الحزم وضبط النفس وما تبرزه قسمات الوجه من أمارات الاهتمام، كل ذلك ينطق بأن صاحب التمثال ملك كله شعور بما يحمله من المسئوليات الخطيرة، وذلك في مصر استيقاظ خلقي.
شكل 12: «رأس من الحجر البركاني لأمنمحات الثالث.» إننا نرى في هذه الصورة تعبيرا مجسما لتأثير زوال الأوهام الخادعة. ويدل منظر الوجه المكتئب على أن صناع التماثيل الملكية أحسوا بتشاؤم الحكماء الاجتماعيين وعبروا عنه ببراعة فائقة في قسمات وجه الملك.
شكل 13: «منظر من الداخل لأحد جانبي تابوت خشبي لأمير من أمراء العصر الإقطاعي.» في الجزء الأسفل من يمين الصورة كتابة في سطور رأسية هي عبارة عن أجزاء من الأدب الجنائزي المعروف «بمتون التوابيت». وإلى أقصى اليسار تجد الباب الوهمي الذي تستطيع روح الميت الدخول والخروج منه. وكل هذه الموضوعات نقشت بالألوان على لوح سميك من خشب الأرز مكون لأحد جانبي التابوت.
شكل 14: «منظر المحاكمة في الآخرة كما ورد في كتاب الموتى: وزن القلب.» نصب الميزان (في الوسط) ويدير حركته (من اليمين) «أنوبيس» (برأس ابن آوى) ومن خلفه المعبود «تحوت» الكاتب برأس «أبيض» (أبو منجل) ليدون الحكم، وفي أقصى اليمين تربص «الملتهمة» بشكلها المفترس تنتظر التهام الروح إذا صدر الحكم بأنها ظالمة. وإلى يسار الميزان يقف «شاي» (القدر) ووراءه إلهتا الولادة. وإلى اليسار من أسفل نرى «آني» وزوجته يدخلان في خشوع، ويحدق «آني» بنظره إلى قلبه وقد وضع في كفة الميزان اليسرى لموازنته في الكفة اليمنى بالريشة، التي هي رمز الحق والعدل. وفوق الميزان كتابة هي صلوات «آني» يرجو فيها قلبه ألا يخونه. وفي أعلى الصورة صف من الآلهة القدامى يشهدون المحاكمة.
شكل 15: «تابع منظر المحاكمة: المتوفى يقاد بعد تبرئته للمثول أمام «أوزير» وهو في كرسي القضاء.» أثبتت محاكمة الميزان (المبينة في الصورة السابقة) عدم إدانة المتوفى. وترى «آني» في الصورة مرتين: الأولى وهو يقوده «حوريس» بن «أوزير» إلى حضرة الإله الأعظم. وفي المرة الثانية نراه راكعا أمام عرش «أوزير» إجلالا للإله. ولأن «أوزير» هو إله الحضرة نرى جسمه هنا ملونا باللون الأخضر الزاهي ويجلس في كشك أخضر؛ ولأنه إله قد مات نراه ممثلا في شكل مومية، وتقف خلفه «إيزيس» و«نفتيس». وعندما يدخل «حوريس» ممسكا بيد «آني» يعلن «أن قلب آني بريء».
شكل 16: «معبد «آمون» الأعظم بالكرنك كما يرى من الجو.» يرجع تاريخ المؤسسات الأولى لهذا المعبد إلى القرن العشرين ق.م على الأقل. وابتداء من عهد الملوك الأوائل في (القرن السادس عشر ق.م) جرى ملوك مصر على إحداث شيء من الزيادة في مبانيه أو تجميله.
شكل 17: «توت غنخ آمون وزوجته الملكة في إحدى حجرات قصره.» الملك الشاب وقد جلس في استرخاء جلسة خالية من كل كلفة، مخالفا بذلك كل التقاليد المرعية في الصور الملكية وضاربا مثلا للتحرر الذي أتت به ثورة «آتون» في الفن، وزوجته الملكة (ابنة إخناتون الثالثة) التي يغلب عليها مظهر الفتاة الصغيرة تميل نحوه في رشاقة إلى الأمام، وقد أمسكت بإحدى يديها إناء عطور صغير، وبيدها الأخرى تصلح وضع عقد رقبته المزركش أو تعطره - فهو منظر للعلائق الشخصية عبرت عنه الصورة تفصيلا وإجمالا في رشاقة وإبداع. وفي أعلى الصورة ترى رمز معبود إخناتون - قرص الشمس - وقد ظهرت أشعته منتهية بأيد بشرية، وذلك رمز جديد يظهر التحرير الذي أتت به ثورة آتون في شئون الدين. وأرضية الصورة صفحة سميكة من الذهب، أبرزت عليها الملابس بالفضة وأجزاء الجسم بالزجاج المائل إلى الحمرة، أما الحلية التفصيلية فقد رصعت أجزاؤها بأحجار ثمينة زاهية الألوان مثل العقيق، ويتألف من الجميع منظر رائع كان في وقته غاية في التلألؤ، وقد خف سطوعه الآن بمضي العصور. والصورة منقولة عن ظهر كرسي عثر عليه في قبر توت عنخ آمون.
شكل 18: «نقوش بارزة على العاج تمثل بعض الآلهة المصرية من قصر الملوك العربانيين بمدينة «سامرا».» وهي عبارة عن بعض النقوش الزخرفية العامة التي حلي بها بعض الأثاث بقصر ملوك الشمال العبرانيين (حوالي 850-750ق.م) وهي مثل من البذخ الملكي الذي نهى عنه الأنبياء العبرانيون. فالشكل (أ) يمثل الطفل «حور» عند ظهوره من زهرة السوسن. والشكل (ب) يمثل إله الشمس برأس صقر وعلى رأسه قرص الشمس، وهو يقدم لإلهة العدالة «ماعت» الجالسة أحد أشكال «شمس العدالة». والشكل (ج) يمثل الإلهتين «إيزيس» و«نفتيس» (المجنحتين) تحميان رمز «أوزير».
شكل 19: «في ظل الجناحين.» هذه الرسوم البارزة على أحد جدران معبد «مدينة هابو» بالأقصر تمثل إله الشمس في صورة صقر يحمي بجناحيه المبسوطتين فوق رأس «رعمسيس الثالث» آخر ملك عظيم في العاهلية المصرية القديمة وهو يخاطب وزيره الأول وغيره من رجال حكومته. وقد رأينا مثل هذه الحماية من الصقر الشمسي ممثلة فوق رأس «خفرع» قبل ذلك بأكثر من 16 قرنا (شكل
9 ). وقد ورد ذكر هذه الحماية الإلهية (ظل الجناحين) في المزامير (العبرانية) أربع مرات (المزامير 17-8 و26-7 و57-1 و63-7).
Page inconnue