باسم الله
لا بد لكل كتاب من مقدمة تهيئ الأذهان لقراءته مجاراة للطبيعة في شتى كتبها؛ إذ نقرأ للنهار مقدمة الفجر، ولليل مقدمة الشفق، وللبحر مقدمة الشاطئ، وللربيع مقدمة الطيور، والحب مقدمة الحياة!
ولعل تلك المجاراة إحدى غايات الفن، بل لعلها أهم تلك الغايات.
على هذا سألت سيدي الصديق الكبير، شاعر القطرين، خليل مطران أن يقدم هذه الأوراق إلى القراء، وسرعان ما أجاب على ذلك السؤال بالقطعة الشائقة المدرجة في صدر هذا السفر، فشكرا له على عطفه ولطفه، ولا بد أن يكون قد نظر إلى شعر الكتاب بعين الرضى، وفيما خلا هذا، فإن في تلك المقدمة من الحكم الغوالي ما يجب أن يتدبره كل متعشق لهذه الصناعة. •••
لما افتك الحاضر قيود الماضي، ونفض عن الشعر غبار التقييد والتقليد، وقف الشعراء بين حيرتين: حيرة اللفظ وحيرة المعنى، فمنهم من نبذ اللغة وقواعدها وأساليبها، ورمى بكل ذلك التراث الفخم عرض الحائط، صارفا جهده إلى المعنى، مغاليا فيه ما شاء، مقيدا كل آبدة تسنح له، مبالغا في تقصي آخر ما تستلمح مخيلته، متخيرا له من اللفظ ما يلتبس عاميه بفصيحه وجميله بقبيحه، فثأرت اللغة لنفسها من هؤلاء بما أضعفت من معانيهم، وأفسدت من صور خيالهم؛ لما أنهم ثائرون عليها، متنكبون عن جادتها، وهل يصح الرسم إذا اختل قلم الراسم، أو تثبت القدم إذا وعرت الطريق؟ لأنه مقضي على المرء أن يعبر عن المعاني غير المتناهية في نفسه بلفظ متناه محدود، فاللفظ للمعاني ثياب لا بد من إتقان صنعها والتوفيق بين ألوانها وهيئتها؛ لئلا تصير مدعاة للضحك والسخرية؛ لذلك كان كثير من شعر هؤلاء شنشنة تنبو عن سماعها الآذان، ورطانة لا تظفر الأفهام بشيء منها.
أما الآخرون؛ فإنهم احتفظوا باللغة سليمة مما يشوب جمالها، ثم عالجوها للمعاني الجديدة، فلم يوفقوا إلا قليلا، فكان شعرهم أجوف لا يهز عاطفة ولا يحرك ذهنا؛ لأنه لا هنا ولا هناك، كدرداب الطبل يوقظ النائم؛ ولكنه يصدع الرأس.
إنه يجب التعبير عن المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، وكل معنى لا يجدد في الذهن صورة نادرة أو فكرة سامية فهو سقيم، وكل لفظ يصور المعنى بوجه التقريب أو يكدر صفاء الصورة في الذهن فهو عقيم، ونحن اليوم ألح ما نكون حاجة إلى ابتكار المعاني، وتنسيقها وجلائها، والتعبير عنها بلفظ يلائمها، على أن طائفة من نوابغ المحدثين تتمشى اليوم بشعرها في هذا السبيل، وقد وفقت فيه أحسن توفيق، والمستقبل كفيل الرقي.
ليس الشعر وحيا يهبط من السماء، وليس قائلوه من الأنبياء، وإنما هو قوة في الشعور والخيال، وقدرة على تصوير هذه القوة؛ حتى تدخل في حيز من المكان والزمان.
الشعور والخيال جناحان تطير بهما نفس الشاعر إلى مراقي الفن الأبدية، وترفرف بهما على الحياة، تستشرفها استشراف الطائر وجه البسيطة.
والفن شمس الحياة تنير مكامنها المظلمة، وتدل على مخابئها البعيدة، وتزيد في جمال صورها البارزة، فتستجليها العيون على قدر ما أعطيت من قوة الباصرة.
Page inconnue