Comprendre la Compréhension: Une Introduction à l'Herméneutique: La Théorie de l'Interprétation de Platon à Gadamer
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Genres
Eidos
لنفسه بالطريقة ذاتها التي يضمر بها الحرفي مثالا أو صورة عما يحاول أن يصنعه بيديه ويجسده في مادته؟
24
هذه هي النقطة التي يمكننا عندها أن نربط بين تحليل أرسطو للمعرفة الأخلاقية وبين المشكلة الهرمنيوطيقية الخاصة بالعلوم الإنسانية الحديثة، صحيح أن الوعي الهرمنيوطيقي لا شأن له بالمعرفة التقنية ولا الأخلاقية، غير أن هذين الصنفين من المعرفة ما يزالان مشتملين على مهمة «التطبيق» نفسها التي أثبتنا آنفا انها المشكلة المحورية للهرمنيوطيقا. إن التحكم الحقيقي في المادة الخام أمر مطلوب عمليا في الصنعة، وهذا بالتحديد يقدم نموذجا للمعرفة الأخلاقية، غير أن هناك فرقا واضحا بين المعرفة الأخلاقية ومعرفة «الصنعة»، فمن الجلي أن الإنسان ليس «تحت تصرف نفسه بالطريقة ذاتها التي تكون بها خامة الحرفي تحت تصرفه، ومن الجلي أنه لا يملك أن «يصنع نفسه» بنفس الطريقة التي يمكن أن يصنع بها أي شيء آخر، ومن ثم فلا بد أن المعرفة التي يتطلبها وجوده الأخلاقي غير المعرفة التي يسترشد بها في صنع شيء ما.»
وقد قبض أرسطو على هذا الفرق بطريقة جريئة وفريدة عندما أطلق على هذا النوع من المعرفة «المعرفة الذاتية» أي معرفة المرء لنفسه، إنه تعبير يفصل هذه المعرفة بشكل مباشر عن المعرفة «النظرية»، غير أنه يفصلها أيضا عن المعرفة «التقنية»، وهذه التفرقة الأخيرة، أي تفرقتها عن المعرفة التقنية، هي الأصعب إذا حددنا، كما فعل أرسطو، «موضوع» هذه المعرفة أنطولوجيا، لا كشيء عام يبقى كما هو على الدوام، بل كشيء مفرد يمكن أيضا أن يختلف، ذلك أن المهمتين تبدوان للوهلة الأولى متماثلتين تماما: فالشخص الذي يعرف كيف يصنع شيئا ما يعرف «خيرا» ويعرفه «لنفسه»، بحيث يمكنه فعلا أن يصنعه كلما واتت الظروف؛ فيأخذ الخامة الصحيحة ويتخير الوسيلة الصحيحة لإتمام العمل، لا بد إذن أنه يعرف كيف يطبق ما تعلمه بطريقة عامة على الموقف العيني الجزئي، أليس هذا الشيء نفسه هو ما يحدث بالنسبة للوعي الأخلاقي؟ أليس الشخص أيضا الذي يتخذ القرارات الأخلاقية هو دائما شخص قد تعلم شيئا ما تشكل بالتعليم والعرف، بحيث يعرف بصفة عامة ما هو الصواب، وفعل الشيء الصحيح في الموقف الجزئي، أي إنه رأى ما هو صواب داخل إطار الموقف واستوعبه؟ أليس هو أيضا ينبغي أن يفعل ما يفعله بتخير الوسيلة الصحيحة وأن يسيطر على مسلكه بنفس الإتقان الذي يتسم به رجل الحرفة؟ فكيف إذن تعد المعرفة الأخلاقية أمرا مختلفا كل الاختلاف عن المعرفة التقنية؟! من تحليل أرسطو للمعرفة العملية (
) يمكن للمرء أن يستمد إجابات مختلفة عن هذا السؤال، ذلك أن قدرة أرسطو على وصف الظواهر من كل جانب من جوانبها تشكل عبقريته الحقيقية.
إننا نتعلم «الصنعة» ويمكن أيضا أن ننساها، ولكننا لا نتعلم المعرفة الأخلاقية، ولا هو بمقدورنا أن ننساها، إننا لا نقف بإزائها، لا نقف قبالتها، كما لو كانت شيئا ما يمكن أن نكتسبه أو لا نكتسبه، مثلما يمكننا أن نختار أن نكتسب مهارة موضوعية ما، أي «صنعة»، إنما نحن دائما مغمورون في موقف حتمية الفعل، ومن ثم فلا بد أن نمتلك سلفا معرفة أخلاقية وأن نكون قادرين على تطبيقها، هذا هو ما يجعل مفهوم التطبيق إشكاليا للغاية؛ ذلك أننا لا يمكننا أن نطبق إلا شيئا هو في حوزتنا بالفعل، بيد أننا لا نملك المعرفة الأخلاقية بمعنى أن نحوزها بالفعل ثم نطبقها على مواقف محددة، صحيح أن لدى الإنسان صورة عما ينبغي أن يكونه (أفكاره عن الصواب والخطأ، عن الدماثة والشجاعة والكرامة والإخلاص ... إلخ) وأنه بالتأكيد يسترشد بها في سلوكه، ولكن يظل هناك فرق أساسي بين هذه الصورة وبين الصورة التي يسترشد بها الحرفي في صنعته، أي خطته لصنع الشيء الذي هو مقدم على صنعه، فما هو صواب مثلا لا يمكن تحديده تحديدا تاما بمعزل عن الموقف الذي يتطلب مني فعلا صائبا، بينما الصورة التي يريد الحرفي أن يصنعها هي صورة تحددها تماما تلك الفائدة المقصودة منها.
ومن الحق أن ما هو صواب يبدو أمرا محددا أيضا تحديدا مطلقا؛ لأننا نصوغه في قوانين وندرجه في قواعد عامة للسلوك يمكن، رغم أنها غير مدونة، أن تكون محددة بدقة كبيرة وملزمة للجميع، هكذا تعد إقامة العدل مهمة خاصة تتطلب المعرفة والمهارة معا في آن: ألا تكون صنعة إذن؟ أليست عبارة عن تطبيق القوانين والقواعد على الحالة العينية؟ ألسنا نتحدث عن «فن» القاضي؟ فلماذا لا يكون صنف المعرفة العملية التي يحوزها القاضي، كما يصفها أرسطو، هو تقنية أو «صنعة»؟
25
إذا أنعمنا النظر لرأينا أن تطبيق القوانين ينطوي على ضرب غريب من الالتباس القضائي. إن موقف الحرفي الصانع جد مختلف، فهو بواسطة تصميم الشيء الذي يضمره بذهنه والقواعد الخاصة بتنفيذه يمضي في تحقيق ذلك الشيء، وهو قد تضطره الظروف إلى تحوير خطته، وقد يعدل عن تصوره الأول إلى تصور آخر دون أن يعني ذلك أن معرفته عما يريد فعله قد تحسنت، وإنما وجه الأمر هنا أننا بإزاء القصور المؤلم المصاحب لتطبيق المرء لمعرفته.
Page inconnue