ولقد صدقت هذه الرؤيا كما هي ، أما بول فقد مات بعد ذلك بثمانية أيام، وكان قد خرج في بعض خرجاته التي اعتادها بدون أن أراه، فافتقدته عدة ساعات فلم أجده، فانحدرت إلى حي بامبلموس فوجدته جاثيا على قبر فرجيني وقد ضم إلى صدره صورة بول الرسول التي خلفتها له، فحركته فإذا هو ميت، فحفرنا له ودفناه معها في قبرها، وأما مرغريت فقد لحقت بولدها بعد ثلاثة أيام من وفاته قضتها صابرة متجلدة لا تذرف لها دمعة، ولا تصعد لها أنة، وكان وداعها لصديقتها وداعا هادئا ساكنا لم تزد فيه على أن قالت لها: «سنلتقي هناك»، كأنما تفترقان على ميعاد، ثم أسلمت روحها، وأما هيلين فقد ماتت بعد شهر من ذلك التاريخ على ذلك الفراش الحقير، في ذلك الكوخ البسيط، لا يحيط بها غيري وغير ماري ودومينج، بعد ذلك الملك الكبير، والجنة والحرير، والنعمة السابغة، والمتعة الواسعة، أما أنا ... وهنا سكت سكتة طويلة كانت أوصاله ترتعد فيها ارتعادا شديدا ثم قال بصوت خافت متهدج: «فقد بقيت وحدي!» وانفجر باكيا بكاء ثاكل فجعها الدهر في أفلاذ كبدها جميعا في ساعة واحدة، فلا صبر لها ولا عزاء، وبعد لأي ما استطاع أن يعود إلى حديثه فقال: وهنا لم أجد بدا من أن أنقل ماري ودومينج إلى كوخي، فلم يعيشا بعد مواليهم إلا بضعة أشهر ثم لحقا بهم، فخلت الأرض منهم جميعا، حتى من كلبهم، وماشيتهم، وطيورهم وعصافيرهم، وأصبحوا تحت التراب أجسادا هامدة، وعظاما نخرة، تسفي عليهم السوافي، وتدور عليهم الدوائر، ويتحدث عنهم المتحدثون كما يتحدثون عن الشعوب الغابرة، والأمم الخالية، ولم يبق من آثارهم غير تلك الجدران المتهدمة التي تراها، وقد خلد أهل الجزيرة ذكرهم في كثير من الأماكن التي عاشوا فيها، فسموا الرأس الذي عجزت السفينة عن اجتيازه فكان في ذلك هلاكها «الرأس البائس»، والخليج الذي وجدت جثة فرجيني على شاطئه دفينة في الرمل «خليج القبر»، والمضيق الذي غرقت فيه السفينة «مضيق سان جيران»، وسموا مخدع فرجيني التي كانت تخلو فيه بنفسها «كهف الفتاة»، وشجرة الخيزران التي ظللت قبرهم جميعا «الشجرة المقدسة»، والوادي الذي عاشوا فيه «الوادي السعيد»، ثم لم تلبث الأيام أن ذهبت بهذه الذكرى كما ذهبت بأصحابها؛ لأن الناس أصبحوا ينطقون بهذه الأسماء ولا يفهمون معناها، فوا رحمتاه لهم! لقد ضن الدهر عليهم بكل شيء حتى بالذكرى!
وقد علمت بعد مرور بضع سنوات على هذه الحادثة أن تلك العمة القاسية التي ضنت بمالها على ابنة أخيها وتركتها تموت بؤسا وهما في أعناق المحيط، لقيت جزاء غلظتها وقسوتها، فلم تسمع بخبر غرق فرجيني وموت أمها حتى أصابها مثل الجنون، وملأت رأسها الوساوس والهواجس، فكانت تندبهما تارة وتبكي مصيرهما حتى تشرف على التلف، وتهون على نفسها أمرهما تارة أخرى قائلة: إنها لم تفعل شيئا سوى أنها أبعدت العار عنها وعن أسرتها، فكان ما قدر الله أن يكون، وكانت تنقم أشد النقمة على الفقراء والمساكين كلما رأتهم في طريقها فتصيح: أما كان خيرا لهؤلاء الأشقياء أن يذهبوا إلى المستعمرات الإفريقية فيموتوا فيها ويريحونا من شرورهم وويلاتهم؟ ثم لا تلبث أن تشعر بالعطف عليهم والرثاء لهم، فتذهب إلى الكنيسة بمال كثير تضعه في صندوقها باسمهم، كأنما تظن أن الله، تعالى، يغفر لها جرائمها وآثامها بهذه الرشوة التي تقدمها إليه، وكانت لا تزال ترى في يقظتها ومنامها، وقومتها وقعدتها، وذهوبها وجيئتها، أشباحا مخيفة تلوح لها في وجهها، وتهددها أفظع تهديد وأهوله، فتركض هاربة منها، فتراها أمامها حيثما ذهبت، وأينما حلت، فتفزع إلى الكاهن تسأله أن يشفيها من دائها، وما داؤها إلا ذنوبها وآثامها التي أسلفتها، فما حيلة الكاهن فيها! وكانت كلما مر بخاطرها أن أقرباءها البعيدين الذين لا تحبهم ولا يحبونها سيرثونها من بعدها، اشتد ذلك عليها كثيرا، فخرجت إلى الطريق حاملة بدر الذهب في يدها فتنثرها على الناس نثرا، فرفع هؤلاء القوم أمرها إلى القضاء واتهموها بالجنون، ولم يزالوا بها حتى أرسلوها إلى المارستان، وسكنوا قصرها من بعدها، ووضعوا أيديهم على مالها، وكأن الله أراد أن يسقيها الكأس حتى ثمالتها فأبقى لها من الفهم والإدراك ما تستطيع به أن تعلم أن مالها الذي تعبت كثيرا في جمعه وتدبيره واقترفت كثيرا من الذنوب والآثام في سبيل الاحتفاظ به والحرص عليه يتمتع به في حياتها خصومها وأعداؤها، فنال ذلك منها منالا عظيما، ولم تلبث أن ماتت حاملة معها حسرتها إلى قبرها.
وكذلك ينتقم الله من الأشحاء الذين يضنون بمالهم على أصحاب الحق فيه بنقله إلى الأيدي التي لا تستحقه، سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.
وصمت هنيهة، ثم ألقى نظرة عامة على ما يدور حوله وأنشأ يقول: سلام عليكم أيها القوم الأبرار، والملائكة الأطهار، لقد عشتم ما عشتم في هذه الدار وأنتم غرباء عنها، لا تعرفكم ولا تعرفونها، ولا تأنس بكم ولا تأنسون بها؛ لأنكم من عنصر غير عنصرها، وجوهر غير جوهرها، ثم رحلتم عنها كما جئتم إليها، لم يشعر بكم شاعر، ولم يحفل بأمركم حافل، فكنتم كحلم لذيذ ألم بالعيون الهاجعة ثم مضى لسبيله.
هذه آثاركم عافية، ودياركم خالية، ومساكنكم لا يأوي إليها غير الضب واليربوع، ولا يسمع فيها غير الزئير والعواء، فلا نور ولا نار، ولا روض ولا ماء، ولا ملعب ولا مرتع، ولا حديث ولا سمر، ولا عين ولا أثر، كأن وجودكم الدنيا بجمالها ولألائها، وكأن ذهابكم القيامة التي تزلزل كل شيء وتأتي على كل شيء.
سلام عليكم يا بني، لقد كنتم أنسي وحياتي، وسلوتي وعزائي، ومتعة نفسي وراحة ضميري، والروضة الأنف التي أقطف ما أشاء من أزهارها ورياحينها، وألجأ إلى ما أحب من ظلالها وأفيائها، أما اليوم فقد سمج وجه الدنيا في نظري وأصبح عبء الحياة ثقيلا على عاتقي، لا أستطيع احتماله ولا الاستقلال به.
سلام عليك أيها الولد الطيب الكريم الذي نشأ في تربة ساذجة بسيطة، فنشأ ساذجا بسيطا، لا ينال الناس بشر، ولا يعتقد في الناس شرا، ولا يضمر في نفسه إلا الوفاء والإخلاص، حتى لكلبه وشاته، والكوخ الذي يؤويه، والظل الذي يفيء عليه.
سلام عليك أيتها الفتاة الشريفة الطاهرة التي صيغ قلبها من الرحمة والشفقة، فبكت البائس والفقير، واليتيم الذي لا عائل له، والأرمل التي لا معين لها، بكاء صادقا لا تسمعه إلا أذن الليل، ولا ترعاه إلا عيون الكواكب، ولم يكن صدقها في أدبها وحيائها، بأقل من صدقها في رحمتها وإحسانها، ففرت من قارة إلى أخرى حياء من نفسها، ثم فرت من العالم بأجمعه ضنا بجسمها أن تلمسه يد منقذها.
سلام عليكما أيتها المرأتان الصابرتان اللتان علمتا ولديهما الفضيلة، وغذتاهما بلبانها، فكانتا خير الأمهات لخير الأبناء، واللتان لم تسخطا في حياتهما يوما واحدا ولم تنقما، ولم تشكوا لأحد غير خالقهما، على كثرة ما ألم بهما من المصائب ونالهما من الأرزاء، ثقة برحمة ربهما وإحسانه، وسكونا لقضائه وقدره، حتى خرجتا من دنياهما خروج السبيكة من البودقة طهارة وصفاء.
سلام عليكما أيها الزنجيان المخلصان اللذان حفظا الصنيعة من حيث لا يحفظها أحد، وشكراها من حيث لا يشكرها شاكر، ولم يحل سواد جلدهما وخشونة منبتهما، ووحشة نفسهما، من أن يحملا بين جوانحهما عواطف الود والإخاء التي لا يزال البيض في أوروبا ينشدونها في كل مكان على ألسنة كتابهم وشعرائهم، وخطبائهم ووعاظهم رجاء الوصول إليها، فلا يجدون إليها سبيلا.
Page inconnue