فاستطير بول فرحا وسرورا، وتناول الكيس الصغير الذي أرسلته إليه فوجد على نسيجه الرقيق الأبيض الحرفين الأولين من اسمه واسمها مطرزين بالقصب على شكل زهرتين متعانقتين، فسر بذلك سرورا عظيما، وكان اغتباطه بالكيس أكثر من اغتباطه بما اشتمل عليه.
وقد كتبت هيلين إلى ابنتها كتابا قالت لها فيه: إنها وجميع أفراد الأسرة قد أصبحوا بعد فرقتها في وحشة مخيفة لا يهونها عليهم شيء من الأشياء، وإن الموت أهون عليهم من أن يعيشوا بعيدين عنها، منقطعين عن رؤيتها، وإنها لا ترى بأسا من رجوعها إلى الجزيرة متى أرادت ذلك. وكتب إليها بول يشكر لها هديتها، ويقول لها: إنه قد أصبح الآن عالما من علماء الفلاحة، وإنه سيقوم بغرس تلك البذور في أماكنها المناسبة لها حسب القواعد التي يرسمها ذلك الفن، وإنها ستراها حين عودتها زاهرة نامية، تحييها بابتساماتها اللطيفة، وتنشر عليها ظلالها وأفياءها، ثم أخذ يبثها آلام نفسه ولواعجها التي قاساها من بعدها، ويشكو لها شكاة لم تترك دمعة في محاجرها عندما قرأتها إلا استذرفتها.
ثم أخذ بعد ذلك يهيئ الأحواض لغرس تلك البذور ويعد لها عدتها من طل وماء، فأنفق في ذلك وقتا طويلا ثم غرسها، فلم تلبث إلا قليلا حتى ذبلت وتضاءلت، إما لأنها ميتة لا حياه فيها، أو لأن التربة غير صالحة لنمائها، أو لأن الشرق شرق، والغرب غرب، فمحال أن يمتزجا ويختلطا ويشتركا في نظام واحد وحياة واحدة، فتطير بذلك وتشاءم، وزاده حزنا وألما ما أصبح يسمعه من أفواه بعض المهاجرين الطارئين على الجزيرة من الروايات الغريبة التي تفترق ما تفترق ثم تتفق على أن فرجيني موشكة أن تتزوج، فلم يحفل بذلك في مبدأ الأمر، ثم حفل واهتم؛ لأن أخبار السوء لا يمكن أن تمر بدون أن تترك أثرها في النفس، بدأ يصدق ما يسمعه، لا لأنه يعتقد صدق القائلين؛ بل لأنه وقع في الخطأ الذي يقع فيه الناس دائما، وهو اعتقاد أن الدخان لا يمكن أن ينبعث من غير نار، وفاتهم أن تلك النار التي يتحدثون عنها قد تكون نار الحقد والبغض المشتعلة في الصدور، فيكون الدخان الذي ينبعث عنها إنما هو دخان المختلقات والمفتريات، وكان يقرأ فيما يقرأ من الروايات أحاديث الغدر والخيانة التي يرويها الراوون عن النساء فيقول في نفسه: ربما أفسد ذلك المجتمع الخبيث نفسها، وحول حياتها الطيبة الطاهرة إلى طريق غير طريقها؛ فنسيت أقسامها وعهودها، وأيمانها المحرجة التي أقسمتها بين يدي ألا تستبدل بي أخا سواي، والنفس الإنسانية كما يقول «روسو» مرآة تتراءى فيه مختلفات الصور والألوان، والمرء كما يقول «موبسان» ابن البيئة التي يعيش فيها.
فكأن استنارة ذهنه وسعة دائرة معارفه واضطلاعه بشئون العالم وأحواله كان شقاء عليه وويلا له، ولعله لو بقي فدما جاهلا كما كان، لا يجول نظره في أفق أوسع من الأفق الذي يعيش فيه، كان من أبعد الأشياء عن ذهنه أن يتصور أن فرجيني غادرة خائنة.
وكان إذا حزبه الأمر، ولجت به الوساوس والهموم، فزع إلي وألقى بين يدي أثقاله وأعباءه، فأحدثه أحاديث كثيرة عن الدهر وتقلباته، والأيام وصروفها، وما يتداوله الناس في دنياهم من نعيم وبؤس، وجدة وفقر، وراحة وتعب، وصحة ومرض، ورجاء يشرق في ليل اليأس حتى يحيله نهارا ساطعا، ويأس يغشي نهار الرجاء حتى يبدله ظلاما قاتما، وخير لا يزال يطارد الشر حتى يطرده ويأخذ مكانه، وشر لا يزال يغالب الخير حتى يغلبه ويفلج عليه، فيجد في أحاديثي هذه ملهاة يتلهى بها حينا عن شواغله وهمومه.
الفصل العشرون
الطبيعة
وهنا قلت للشيخ: هل لك يا سيدي أن تحدثني قليلا عن نفسك، فإني أشعر مذ جلست إليك أني أجلس إلى رجل من عظماء الرجال، ليست مثل هذه الأرض مما تنبت مثله في وفور عقله، وسعة مداركه، واكتمال أهبته، وكثرة تجاربه واختباراته، ولا بد أن حادثا من حوادث الدهر العظام قد قذف به إلى هذه الجزيرة النائية فعاش فيها كما أرادت المقادير أن يكون.
فرفع رأسه إلي وقال: نعم سأحدثك عن نفسي قليلا يا بني، فلا أحب للمرء من أن يجد إلى جانبه جليسا يستطيع أن يسكب نفسه في نفسه، ويفضي إليه بسريرة قلبه، ثم اعتدل في جلسته وأنشأ يقول: إني أسكن يا بني على بعد فرسخ ونصف من هذا المكان على ضفة جدول صغير ممتد بجانب ذلك الجبل الذي يسمونه «الجبل الطويل»، وهناك أقضي أيام حياتي منفردا، لا زوج لي ولا ولد، ولا أنيس ولا عشير، وعندي أن سعادة المرء لا تعدو إحدى حالتين: أن يوفق إلى زوج صالحة تحبه ويحبها، وتخلص إليه ويخلص إليها، فإن أعوزه ذلك فسعادته أن يهجر العالم كله إلى معتزل ناء كهذا المعتزل، يتمتع فيه بجوار نفسه وعشريتها، وقد قضى الله أن أحرم الأولى، فلم يبق لي بد من اختيار الثانية.
والعزلة هي المرفأ الأمين الذي تلجأ إليه سفينة الحياة حين تتقاذفها الأمواج، وتصطلح عليها هوج الرياح، وهي الواحة الخصبة التي يفيء إليها السفر بعد الأين والكلال، فيجدون في ظلها الظليل راحتهم من سموم الصحراء، ولوافح الرمضاء، وهي المنزلة الأولى التي ينزلها المرء في طريقه من الدنيا إلى الآخرة؛ ليستجم ذهنه، ويجمع أمره، ويعد عدته للقاء الله، تعالى؛ لذلك كانت العزلة دائما في الشعوب الشقية المضطهدة التي لا إرادة لها أمام إرادة حاكميها الظالمين، وملوكها المستبدين، كما كان شأن المصريين والرومان واليهود فيما مضى من التاريخ، وكما هو شأن الهنود والصينيين والإيطاليين والشعوب الشرقية اليوم.
Page inconnue