ولكن الفتن المعاصرة قد كادت أن تطمس برذاذها الآسن جلاء هذه الحقيقة الناصعة، فارتاب فيها المرتابون، وأصبح الناس فيها فريقين يختصمون، ومن هنا كان لزاما علينا أن نتناول هذه القضية بشيء من التفصيل آملين في عودة الأمور إلى نصابها، مبتدئين في ذلك بتحرير محل النزاع.
محل النزاع:
لا خلاف يذكر على أن الحاكم إذا التزم بشرائع الإسلام في الجملة بحيث كانت هي مرجعه الدائم الذي يرجع إليه في كل أمر، ويعول عليه في كل قضية، ولكنه زلت به القدم في موقف عارض فحكم فيه بغير ما أنزل الله ميلا مع الهوى لشهوة أو لقرابة أو غير ذلك - فإنه لا يخرج بذلك من الملة إلا بالاستحلال أو الجحود، وأن فعله هذا يلتحق بسائر الكبائر وإن كان من أعتاها وأغلظها، وإلى هذه الصورة وأشباهها ترجع عبارات السلف: كفر دون كفر - ليس بالكفر الذي تذهبون إليه - كفر لا ينقل من الملة ... إلخ، هذه العبارات التي أثرت عن كثير منهم عند تفسير قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم ... الكافرون} [المائدة: 44]، وإنما وقع الخلاف حديثا فيمن يمتنعون عن التزام شرائع الإسلام، ويتركون الحكم بالشرع المحكم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدمون عليه شرائع اليهود والنصارى والملاحدة في خطة ثابتة ومنهاج دائم مطرد، بحيث لا يملك قاضيهم أن يرد الأمر إلى الكتاب والسنة، فإن فعل كان ناكثا لعهده وقسمه، مخالفا لما تعهد بتعظيمه والعمل به، ثم يوالون على ذلك ويعادون على ذلك، فمن تابعهم على ما هم عليه من عناد وضلالة قربوه ومكنوه، ومن دعا إلى نبذ هذا الباطل أبعدوه وحاربوه.
Page 63