شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
شرح رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام
Genres
البيئة العامة للمستدل
- المعتبر الثالث: البيئة العامة:
من المعلوم أن بيئات المسلمين اليوم تختلف من بلد إلى آخر، وكذلك تختلف بيئة المسلمين عن غير المسلمين، والفقيه أو المستدل قد يوجد مثلًا في بيئة لم يدخلها الاستعمار، فستكون هناك أمور متعددة حافظ عليها الناس، فتجد أن الرأي الفقهي عنده يتسم بسمات معينة، إضافة إلى المؤثرات الأخرى، كالتفقه على مذهب معين، فإن هذه أمور مؤثرة، لكن من المؤثرات أيضًا: البيئة العامة، والمجتمع العام، وقد تكون هذه البيئة إقليمًا أو بلدًا واسعًا، وقد تكون أوسع من ذلك.
ولعل من الأمثلة على ذلك: الإمام الشافعي ﵀، فإنه عندما ذهب إلى مصر تغير مذهبه الذي نسجه وانتظم له في العراق كثيرًا، حتى قالوا: إن للإمام الشافعي مذهبًا جديدًا ومذهبًا قديمًا، وليس بالضرورة أن تكون البيئة المصرية قد انقلبت رأسًا على عقب على البيئة العراقية، لكن الانتقال من بيئة إلى بيئة أخرى تختلف عن البيئة الأولى ولو شيئًا يسيرًا هذا له تأثير، وأحيانًا عوارض التكليف تختلف من بيئة إلى أخرى، كذلك العلم الذي يبلغه في بيئة قد لا يبلغه في بيئة أخرى، فأثر البيئة يعتبر من أخص المؤثرات في الخلاف الفقهي وفي اعتباره.
كذلك البيئات التي طرقها الاستعمار نجد أن الفقهاء أو الذين يفتون فيها لهم أحيانًا بعض المواقف الخاصة من بعض القضايا تختلف عمن لم يقع تحت هذا التأثير، وليس بالضرورة أن نقول هنا: إن الذين لم يصبهم الاستعمار دائمًا هم الصادقون وأولئك ليسوا كذلك؛ بل بالعكس أحيانًا بعض الأمور قد لا تقدر إلا من خلال العلم المفصل بها.
والذين يعيشون مثلًا في الغرب ليسوا كالذين يعيشون في البلاد الإسلامية، والذي يعيش في مدينة ليس كالذي يعيش في نظام قرية مغلقة معينة، فإن هذه البيئات من حيث المنطق العقلي الصحيح مؤثرة؛ لأن الفقه أحيانًا ليس هو الفتوى في أمور سابقة معينة، كالفتوى في مسألة: هل لحم الإبل ينقض الوضوء أم لا ينقض الوضوء؟ بل الفقه أحيانًا يكون في قضايا جدت ونزلت، فيكون التقدير هنا يختلف.
كذلك الذي يتكلم أمام أهل مدينة ليس مثل الذي يتكلم بآراء فقهية أمام الملايين في الفضائيات؛ بل يجب أن يختلف، وإذا لم يختلف هذا نقص في فقهه، وإذا لم يختلف ذاك نقص في فقهه، وليس معنى ذلك أنه يغير الفتوى، فإذا كان في المدينة قال: هذا حلال، وإذا طلع في الفضائيات قال: هذا حرام، لكن المقصود أن هناك آراء يترتب عليها تطبيقات، فمثلًا حينما يقرر رأي فقهي فيقال: إن تارك الصلاة كافر، وترتب بعد ذلك أحكام، كما يذكر بعض الفقهاء أنه إن مات وهو تارك للصلاة أو لبعض الصلوات -على بعض الآراء- فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين ..
إلخ، فإن هذا الرأي عندما يتداول في بيئة خاصة، أو على منبر جمعة ويسمعه أهل الجماعة في هذا البلد، ليس كأن يؤخذ هذا الرأي فيطلق في منبر فضائي مثلًا، فيقال: الصحيح أن من ترك صلاة واحدة حتى خرج وقتها متعمدًا فهو كافر، لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ..
لأن هذا الرأي تحته تطبيق، والذي يسمعه قد يذهب ويطبقه.
ومن المعلوم أنه ينتشر في كثير من البيئات التي غاب عنها الإسلام زمانًا، كبعض الجمهوريات الموجودة في روسيا أو في أوروبا، وأحيانًا بعض البيئات الإسلامية -ينتشر فيها ترك كثير للصلاة؛ بل إن ابن تيمية يقول: وكثير من المسلمين في أكثر الأمصار يصلون تارة ويدعون تارة.
وليس المقصود هنا: أنه أمام الفضائيات لا يقال: إن تارك الصلاة كافر، لكن المقصود أن الإنسان لا يجوز له أن يطلق الأحكام العامة على مستوى الأمة إلا وقد اطمئن إليها اطمئنانًا محكمًا، ولا يغلق الخلاف المشهور في منبر عالمي مثل النظم الفضائية اليوم، فإن إغلاق الخلاف المشهور في مثل هذه الصور أمر غير سائع.
وأحيانًا قد يكون عند الشخص رأي يراه، لكن قد يحدث به قومًا ولا يحدث به آخرين؛ لأنه كما قال علي ﵁: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!)، وهناك انفصال بين الحكم بأن هذا الشيء كفر، وبين تطبيق حكم الردة، ولذلك يقول ابن تيمية: "ومن أغلاط كثير من الفقهاء أنهم ظنوا أن هناك تلازمًا بين الردة وبين تطبيق أحكامها"، فأحيانًا قد يكون بعض الناس كافرًا، لكن ليس هناك إمكان شرعي مصلحي لتطبيق الحكم عليه، فقد يكون عنده تأويل وشبهة ما وصلت إليك، ومن هنا فإن مراعاة التأثير العام لابد من الانتباه له.
وقولنا: إن البيئة العامة تؤثر في الرأي الفقهي، ليس معناه أنها هي التي تحكمه، ولكن الفقه يعتبر بمصالح الناس؛ لأن الشريعة جاءت بحفظ المصالح ودرء المفاسد، ولذلك فإن كل من توسع فقهه وعرف الأحوال أكثر من غيره نجد أنه صار لا يراعي في فقهه وفتواه أهل بلده فقط؛ بل يراعي أهل هذه المدينة والمدينة التي تليها والمدينة التي هي أبعد منها
وهكذا، وإنما نذكر هذا الكلام لأننا لا نتكلم هنا عن المجتهدين فقط؛ بل عمن قد يسمى مجتهدًا أو فقيهًا أو طالب علم، ولذلك أوصي طلاب العلم أن يتنبهوا لهذا الأمر، فليس كل ما يصلح لبلد بالضرورة أن يصلح لبلد آخر، وليس كل ما يصلح لطلاب العلم يصلح للجماهير والعامة من الناس، وقول علي ﵁: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) يعتبر قولًا جامعًا.
ومن المعلوم أن النبي ﷺ ترك بعض الفعل مخافة أن تنكر قلوب الناس ذلك الفعل.
3 / 6