شرح الأربعين النووية للعثيمين
شرح الأربعين النووية للعثيمين
Maison d'édition
دار الثريا للنشر
Genres
مقدمة الشارح
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
الحافظ النووي: ﵀ من أصحاب الشافعي المعتبرة أقواله، ومن أشدّ الشّافعية حرصًا على التأليف، فقد ألّف في فنونٍ شتّى، في الحديث وعلومه، وألّف في علم اللغة كتاب تهذيب الأسماء واللغات، وهو في الحقيقة من أعلم الناس، والظاهر - والله أعلم - أنه من أخلص الناس في التأليف، لأن تأليفاته ﵀ انتشرت في العالم الإسلامي، فلا تكاد تجد مسجدًا إلا ويقرأ فيه كتاب (رياض الصالحين)، وكتبه مشهورة مبثوثة في العالم مما يدل على صحة نيته، فإن قبول الناس للمؤلفات من الأدلة على إخلاص النية.
وهو ﵀ مجتهدٌ، والمجتهد يخطئ ويصيب، وقد أخطأ ﵀ في مسائل الأسماء والصفات، فكان يؤول فيها لكنه لاينكرها، فمثلًا: (استوى على العرش) يقول أهل التأويل معناها: استولى على العرش، لكن لاينكرون: (استوى) لأنهم لو أنكروا الاستواء تكذيبًا لكفروا، أما من ينكر إنكار تأويل وهو لايجحدها فإن كان لتأويله مساغ في اللغة العربية فإنه لايكفر، أما إذا لم يكن له مسوّغ في اللغة العربية فهذا موجب الكفر. مثل أن يقول: ليس لله يدٌ حقيقة، ولا بمعنى النعمة، أو القوة، فهذا
1 / 3
كافر؛ لأنه نفاها نفيًا مطلقًا (١) . فهم يصدقون به ولكن يحرفونه.
ومثلُ هذه المسائل التي وقع منه ﵀ خطأ في تأويل بعض نصوص الصفات إنه لمغمور بما له من فضائل ومنافع جمّة، ولانظن أن ماوقع منه إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ - ولو في رأيه - وأرجو أن يكون من الخطأ المغفور، وأن يكون ماقدّمه من الخير والنّفع من السعي المشكور، وأن يصدق عليه قول الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود: الآية١١٤) (٢)
فالنووي نشهد له فيما نعلم من حاله بالصلاح، وأنه مجتهد، وأن كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ، إن أخطأ فله أجر واحد، وإن أصاب فله أجران. وقد ألف مؤلفات كثيرة من أحسنها هذا الكتاب: الأربعون النووية، وهي ليست أربعين، بل هي اثنان وأربعون، لكن العرب يحذفون الكسر في الأعداد فيقولون: أربعون. وإن زاد واحدًا أو اثنين، أونقص واحدًا أواثنين.
هذه الأربعون ينبغي لطالب العلم أن يحفظها، لأنها منتخبة من أحاديث عديدة. وفي أبواب متفرقة، بخلاف غيرها من المؤلفات فلو نظرنا إلى عمدة الأحكام لوجدناها منتخبة؛ لكنها في باب واحد وهو باب الفقه، أما الأربعون النووية فهي في أبواب متفرقة متنوعة. ونحن نستعين بالله تعالى في التعليق عليها. والله الموفّق.
_________
(١) ملخص من مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ ﵀ ١/١٧٦.
(٢) ملخص من كتاب العلم لفضيلة الشيخ ﵀ ص١٩٩.
1 / 4
الحديث الأول
(عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ تعالى عنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَة يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (١)
رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَهْ البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري، في صحيحيهما اللَذين هما أصح الكتب المصنفة.
الشرح
عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ وهو أبو حفص عمر بن الخطاب ﵁، آلت إليه الخلافة بتعيين أبي بكر الصديق ﵁ له، فهو حسنة من حسنات أبي بكر، ونصبه في الخلافة شرعي، لأن الذي عينه أبو بكر، وأبو بكر تعين بمبايعة الصحابة له في السقيفة، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر، ولقد أحسن أبو بكر اختيارًا حيث اختار عمر بن الخطاب ﵁. وفي قوله سَمِعْتُ دليل على أنه أخذه من النبي ﷺ بلا واسطة. والعجب أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله ﷺ إلا عمر ﵁
_________
(١) رواه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ حديث (١) . ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، حديث (١٩٠٧) (١٥٥) .
1 / 5
مع أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة. ففي القرآن يقول الله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) (البقرة: الآية٢٧٢) فهذه نية، وقوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) (الفتح: الآية٢٩) وهذه نيّة. وقال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص ﵁: وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ امْرَأَتِك (١) فقوله: تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ فهذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة. ولفظ الحديث انفرد به عمر ﵁، لكن تلقته الأمة بالقبول التام، حتى إن البخاري ﵀ صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.
قوله: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى لهذه الجملة من حيث البحث جهتان: نتكلم أولًا على مافيه من البلاغة:
فقوله: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائمًا. وكذلك قوله ﷺ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.
وفي قوله ﷺ: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ من البلاغة: إخفاء نية من هاجر للدنيا، لقوله: فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها، والفائدة البلاغية في ذلك هي: تحقير ماهاجر إليه هذا الرجل، أي ليس أهلًا لأن يُذكر، بل يُكنّى عنه بقوله: إلى ماهاجر إليه.
وقوله: مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ الجواب: فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فذكره تنويهًا بفضله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا
_________
(١) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، حديث (٥٦) . ومسلم: كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، حديث (١٦٢٨) (٥٩) .
1 / 6
هَاجَرَ إِلَيهِ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، لأن فيه تحقيرًا لشأن ما هاجر إليه وهي: الدنياأو المرأة.
* أما من جهة الإعراب، وهو البحث الثاني:
فقوله ﷺ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ مبتدأ وخبر، الأعمال: مبتدأ، والنيات: خبره.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى أيضًا مبتدأ وخبر، لكن قُدِّم الخبر علىالمبتدأ؛ لأن المبتدأ في قوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هو: مانوى متأخر.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هذه جملة شرطية، أداة الشرط فيها: مَنْ، وفعل الشرط: كانت، وجواب الشرط: فهجرته إلى الله ورسوله.
وهكذا نقول في إعراب قوله: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا.
أما في اللغة فنقول:
الأعمال جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.
فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئًا من الجوارح أكثر عملًا من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.
الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ النيات: جمع نية وهي: القصد. وشرعًا: العزم على فعل العبادة تقرّبًا إلى الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولاتعلق للجوارح بها.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ أي لكل إنسانٍ مَا نَوَى أي ما نواه.
1 / 7
وهنا مسألة: هل هاتان الجملتان بمعنى واحد، أو مختلفتان؟
الجواب: يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل. ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء ﵏ في هذه المسألة رأيان، يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى واحد، فقد قال النبي ﷺ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وأكد ذلك بقوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.
والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لامن باب التوكيد.
* والقاعدة: أنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيسًا أو توكيدًا فإننا نجعله تأسيسًا، وأن نجعل الثاني غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.
* والصواب: أن الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا مافرعه عليه النبي ﷺ في قوله: فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وعلى هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
* وتمييز العادات من العبادات مثاله:
- أولًا: الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالًا لأمر الله ﷿ في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) (الأعراف: الآية٣١) فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة
- ثانيًا: الرجل يغتسل بالماء تبردًا، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة،
1 / 8
والثاني: عبادة، ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لابد من النية، وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات. عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة. وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالًا لأمر الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوبًا جديدًا يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لايؤجر، وآخرلبس ثوبًا جديدًا يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسيًا بالنبي ﷺ، فهو عبادة.
* تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.
* إذًا المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات.
واعلم أن النية محلها القلب، ولايُنْطَقُ بها إطلاقًا، لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ماتوسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك، وحاضرك. ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرًّا أو جهرًا، خلافًا لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهرًا، وبعضهم قال: ينطق بها سرًّا، وعللوا ذلك من أجل أن يطابق القلب اللسان.
1 / 9
ياسبحان الله، أين رسول الله ﷺ عن هذا؟ لوكان هذا من شرع الرسول ﷺ لفعله هو وبيّنه للناس، يُذكر أن عاميًّا من أهل نجد كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر وإلى جانبه رجل لايعرف إلاالجهر بالنيّة، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية: اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر، أربع ركعات لله تعالى، خلف إمام المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبّر قال له العامي: اصبر يارجل، بقي عليك التاريخ واليوم والشهر والسنة، فتعجّب الرجل.
وهنا مسألة: إذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجًّا، ولبّيك اللهم عمرة وحجًّا، أليس هذا نطقًا بالنّية؟
فالجواب: لا، هذا من إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لولم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة، أو أريد الحج فيسّره لي، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولادليل. إذًا أنكر على من نطق بها، ولكن بهدوء بأن أقول له: يا أخي هذه ما قالها النبي ﷺ ولا أصحابه، فدعْها.
فإذا قال: قالها فلانٌ في كتابهِ الفلاني؟ .
فقل له: القول ما قال الله تعالى ورسوله ﷺ.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتًا عظيمًا، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب أو مما بين السماء والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد شخصين يطلبان العلم في التّوحيد، أو الفقه، أو التّفسير، أو الحديث، أحدهما بعيد من الجنّة والثاني قريب منها، وهما يقرآن في كتاب واحد وعلى مدرّسٍ واحد.
1 / 10
فهذا رجل طلب دراسة الفقه من أجل أن يكون قاضيًا والقاضي له راتبٌ رفيعٌ ومرتبة ٌرفيعة، والثاني درس الفقه من أجل أن يكون عالمًا معلّمًا لأمة محمدٍ ﷺ، فبينهما فرق عظيم. قال النبي ﷺ مَنْ طَلَبَ عِلْمًَا وَهُوَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لا يُرِيْدُ إِلاِّ أَنْ يَنَالَ عَرَضًَا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ (١)، أخلص النية لله ﷿.
* ثم ضرب النبي ﷺ مثلًا بالمهاجر فقال:
فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.
وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وهنا مسألة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب: أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلايتم إسلامه إذا كان لايستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لايتم الواجب إلا به فهوواجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله، أي: يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأحزاب: الآية٢٩) إذًا يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.
ويريد رسول الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ عنه، ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًَا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًَا (٢) فإذا أراد الله، فإن الله تعالى يكافئه على ذلك
_________
(١) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، حديث رقم (٨٤٣٨) . بلفظ (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة) وابن ماجه: كتاب العلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، حديث (٢٥٢) . وأبو داود - كتاب: العلم، باب: في طلب العلم لغير الله تعالى، (٣٦٦٤) .
(٢) رواه الأمام أحمد في المكثرين عن أبي هريرة، (٢/٤١٣) حديث رقم (٩٣٤٠) .
1 / 11
بأعظم مما عمل.
* وهنا مسألة: بعد موت الرسول ﷺ هل يمكن أن نهاجر إليه ﵊؟
والجواب: أما إلى شخصه فلا، ولذلك لايُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول ﷺ، لأنه تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه ﷺ فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ لنصرة شريعة الرسول والذود عنها. فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين، والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.
نظير هذا قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرسول ﷺ ِ) (النساء: الآية٥٩) إلى الله دائمًا، وإلى الرسول ﷺ نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته. فمن ذهب من بلدٍ إلى بلد ليتعلم الحديث، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوّجها، بأن خطبها وقالت لاأتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي فهجرته إلى ماهاجر إليه. فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا بأن علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح، فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها، وليس له إلا ما أراد. وإذا أراد الله ﷿ ألا يحصل على شيء لم يحصل على شيء.
قوله ﵀: (رواه إماما المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري من بخارى وهو إمام المحدّثين ومسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب المصنّفة أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وهما أصحّ الكتب المصنّفة في علم الحديث، ولهذا قال بعض المحدّثين: إن ما اتفقا عليه لايفيد الظن فقط بل يفيد العلم.
وصحيح البخاري أصحّ من صحيح مسلم، لأن البخاري ﵀ يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأما مسلم- ﵀ فيكتفي بمطلق
1 / 12
المعاصرة مع إمكان اللقيّ وإن لم يثبت لقيه، وقد أنكر على من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكارًا عجيبًا، فالصواب ما ذكره البخاري ﵀ أنه لابد من ثبوت اللقي. لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم ﵀ أحسن من سياق البخاري، لأنه ﵀ يذكر الحديث ثم يذكر شواهده وتوابعه في مكان واحد، والبخاري ﵀ يفرِّق، ففي الصناعة صحيح مسلم أفضل، وأما في الرواية والصحة فصحيح البخاري أفضل.
تشاجر قومٌ في البخاري ومسلم
وقالوا: أيّ زين تقدّم
فقلت: لقد فاق البخاري صحة لديّ
كما فاق في حسن الصناعة مسلم
قال بعض أهل العلم: ولولا البخاري ما ذهب مسلم ولا راح، لأنه شيخه.
فالحديث إذًا صحيح يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينيًا بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي ﷺ.
من فوائد هذا الحديث:
. ١هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولهذا قال العلماء: مدار الإسلام على حديثين: هما هذا الحديث، وحديث عائشة: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ (١) فهذا الحديث عمدة أعمال القلوب، فهو ميزان الأعمال الباطنة، وحديث عائشة: عمدة أعمال الجوارح، مثاله:
رجل مخلص غاية الإخلاص، يريد ثواب الله ﷿ ودار كرامته، لكنه وقع في بدع كثيرة. فبالنظر إلى نيّته: نجد أنها نيّة حسنة. وبالنظر إلى عمله: نجد أنه عمل سيء مردود، لعدم موافقة الشريعة.
_________
(١) رواه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث (٢٦٩٧)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، حديث (١٧١٨) (١٧) .
1 / 13
ومثال آخر: رجلٌ قام يصلّي على أتمّ وجه، لكن يرائي والده خشية منه، فهذا فقد الإخلاص، فلا يُثاب على ذلك إلا إذا كان أراد أن يصلي خوفًا أن يضربه على ترك الصلاة فيكون متعبّدًا لله تعالى بالصلاة.
. ٢من فوائد الحديث: أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض، والعبادات عن المعاملات لقول النبي ﷺ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ولنضرب مثلًا بالصلاة، رجل أراد أن يصلي الظهر، فيجب أن ينوي الظهر حتى تتميز عن غيرها. وإذا كان عليه ظُهْرَان، فيجب أن يميز ظهر أمس عن ظهر اليوم، لأن كل صلاة لها نية.
ولوخرج شخصٌ بعد زوال الشمس من بيته متطهرًا ودخل المسجد وليس في قلبه أنها صلاة الظهر، ولاصلاة العصر، ولا صلاة العشاء، ولكن نوى بذلك فرض الوقت، فهل تجزئ أو لاتجزئ؟
الجواب: على القاعدة التي ذكرناها سابقًا: لاتجزئ؛ لأنه لم يعين الظهر، وهذا مذهب الحنابلة.
وقيل تجزئ: ولايشترط تعيين المعيّنة، فيكفي أن ينوي الصلاة وتتعين الصلاة بتعيين الوقت. وهذه رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فإذا نوى فرض الوقت كفى، وهذا القول هو الصحيح الذي لايسع الناس العمل إلا به، لأنه أحيانًا يأتي إنسان مع العجلة فيكبر ويدخل مع الإمام بدون أن يقع في ذهنه أنها صلاة الظهر، لكن قد وقع في ذهنه أنها هي فرض الوقت ولم يأتِ من بيته إلا لهذا، فعلى المذهب نقول: أعدها، وعلى القول الصحيح نقول: لاتعدها، وهذا يريح القلب، لأن هذا يقع كثيرًا، حتى الإمام أحيانًا يسهو ويكبر على أن هذا فرض الوقت، فهذا على المذهب لابد أن يعيد الصلاة، وعلى القول الرّاجح لايعيد.
. ٣من فوائد الحديث: الحثّ على الإخلاص لله ﷿، لأن النبي ﷺ قسّم الناس إلى قسمين:
قسم: أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة.
وقسم: بالعكس، وهذا يعني الحث على الإخلاص لله ﷿.
1 / 14
والإخلاص يجب العناية به والحث عليه، لأنه هو الركيزة الأولى الهامة التي خلق الناس من أجلها، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: ٥٦)
. ٤ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي ﷺ وذلك بتنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وهذا للعمل وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وهذا للمعمول له.
ثانيهما: تقسيم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية، وهذا من حسن التعليم، ولذلك ينبغي للمعلم أن لايسرد المسائل على الطالب سردًا لأن هذا يُنْسِي، بل يجعل أصولًا، وقواعد وتقييدات، لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه، أما أن تسرد عليه المسائل فما أسرع أن ينساها..
٥من فوائد الحديث: قرن الرسول ﷺ مع الله تعالى بالواو حيث قال: إلى الله ورسوله ولم يقل: ثم رسوله، مع أن رجلًا قال للرسول ﷺ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: بَلْ مَاشَاءَ اللهُ وَحْدَه (١) فما الفرق؟
والجواب: أما ما يتعلّق بالشريعة فيعبر عنه بالواو، لأن ماصدر عن النبي ﷺ من الشرع كالذي صدر من الله تعالى كما قال: (مَنْ يُطِعِ الرسول ﷺ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (النساء: الآية٨٠)
وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يُقرن مع الله أحدٌ بالواو أبدًا، لأن كل شيئ تحت إرادة الله تعالى ومشيئته.
فإذا قال قائلٌ: هل ينزل المطر غدًا؟
فقيل: الله ورسوله أعلم، فهذا خطأ، لأن الرسول ﷺ ليس عنده علم بهذا.
مسألة: وإذا قال: هل هذا حرامٌ أم حلال؟
قيل في الجواب: الله ورسوله أعلم، فهذا صحيح، لأن حكم الرسول ﷺ في الأمور
_________
(١) رواه الإمام أحمد في مسند آل العباس عن عبد الله بن عباس، حديث (١٩٦٤) . وأبو داود - كتاب: الأدب، باب: لا يقال خبثت نفسي، (٤٩٨٠)، والنسائي في سننه الكبرى- كتاب: عمل اليوم والليلة، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشاء فلان، (١٠٨٢١)، والدارمي في سننه - كتاب: الاستئذان، باب: في النهي عن أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان، (٢٦٩٩) .
1 / 15
الشرعية حكم الله تعالى كما قال ﷿: (مَنْ يُطِعِ الرسول ﷺ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (النساء: الآية٨٠)
مسألة: أيهما أفضل العلم أم الجهاد في سبيل الله؟
والجواب: العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد في سبيل الله، لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم، وقد قال الإمام أحمد: العلم لايعدله شيئ لمن صحّت نيّته. ولايمكن أبدًا أن يكون الجهاد فرض عين لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (التوبة: ١٢٢)
فلوكان فرض عين لوجب على جميع المسلمين: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) (التوبة: ١٢٢) أي وقعدت طائفة: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: ١٢٢) ولكن باختلاف الفاعل واختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقّك الجهاد، والآخر الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعًا قويًا نشيطًا وليس بذاك الذكي فالأفضل له الجهاد؛ لأنه أليَق به، وإذا كان ذكيًّا حافظًا قوي الحجة فالأفضل له العلم وهذا باعتبار الفاعل. أما باعتبار الزمن فإننا إذا كنّا في زمن كثر فيه العلماء واحتاجت الثغور إلى مرابطين فالأفضل الجهاد، وإن كنّا في زمن تفشّى فيه الجهل وبدأت البدع تظهر في المجتمع وتنتشر فالعلم أفضل، وهناك ثلاثة أمور تحتّم على طلب العلم:
. ١بدع بدأت تظهر شرورها.
. ٢الإفتاء بغير علم.
. ٣جدل كثير في مسائل بغير علم.
وإذا لم يكن مرجّحًا فالأفضل العلم
. ٦ومن فوائد الحديث: أن الهجرة هي من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله، وكل عمل يقصد به الله ورسوله فإنه من الأعمال الصالحة لأنك قصدت التقرّب إلى الله والتقرب إلى الله هو العبادة.
مسألة: هل الهجرة واجبة أم مستحبة؟
1 / 16
الجواب: فيه تفصيل، إذا كان الإنسان يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولايجد من يمنعه في ذلك، فالهجرة هنا مستحبة. وإن كان لايستطيع فالهجرة واجبة وهذا هو الضابط للمستحبّ والواجب. وهذا يكون في البلاد الكافرة، أما في البلاد الفاسقة -وهي التي تعلن الفسق وتظهره- فإنا نقول: إن خاف الإنسان على نفسه من أن ينزلق فيما انزلق فيه أهل البلد فهنا الهجرة واجبة، وإن لا، فتكون غير واجبة. بل نقول إن كان في بقائه إصلاح، فبقاؤه واجب لحاجة البلد إليه في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والغريب أن بعضهم يهاجر من بلد الإسلام إلى بلد الكفر لأنه إذا هاجر أهل الإصلاح من هذا البلد، من الذي يبقى لأهل الفساد، وربما تنحدر البلاد أكثر بسبب قلة أهل الإصلاح وكثرة أهل الفساد والفسق.
لكن إذا بقي ودعا إلى الله بحسب الحال فسوف يصلح غيره، وغيره، يصلح غيره حتى يكون هؤلاء على أيديهم صلاح البلد، وإذا صلح عامة الناس فإن الغالب أن من بيده الحكم سيصلح، ولو عن طريق الضغط، ولكن الذي يفسد هذا - للأسف - الصالحون أنفسهم، فتجد هؤلاء الصالحين يتحزبون ويتفرقون وتختلف كلمتهم من أجل الخلاف في مسألة من مسائل الدين التي يغتفر فيها الخلاف، هذا هو الواقع، لاسيما في البلاد التي لم يثبت فيها الإسلام تمامًا، فربما يتعادون ويتباغضون ويتناحرون من أجل مسألة رفع اليدين في الصلاة، وأقرأ عليكم قصة وقعت لي شخصيًا في منى، في يوم من الأيام أتى لي مدير التوعية بطائفتين من إفريقيا تكفّر إحداهما الأخرى، على ماذا؟؟ قال: إحداهما تقول: السنة في القيام أن يضع المصلي يديه على صدره، والأخرى تقول السنة أن يُطلق اليدين، وهذه المسألة فرعية سهلة ليست من الأصول والفروع، قالوا: لا، النبي ﷺ يقول مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ (١) وهذا كفر تبرّأ منه الرسول ﷺ فبناء على هذا الفهم الفاسد كفّرت إحداهما الأخرى.
فالمهم: أن بعض أهل الإصلاح في البلاد التي ليست مما قوي فيها الإسلام يبدع ويفسق بعضهم بعضًا، ولو أنهم اتفقوا وإذا اختلفوا اتسعت صدورهم في الخلاف الذي يسوغ فيه الخلاف وكانوا يدًا واحدة، لصلحت الأمة، ولكن إذا رأت الأمة أن
_________
(١) رواه البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، (٥٠٦٣) . ومسلم (باختلاف): كتاب النكاحن باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه. (١٤٠١)
1 / 17
أهل الصلاح والاستقامة بينهم هذا الحقد والخلاف في مسائل الدين، فستضرب صفحًا عنهم وعما عندهم من خير وهدى، بل يمكن أن يحدث ركوس ونكوس وهذا ماحدث والعياذ بالله، فترى الشاب يدخل في الاستقامة على أن الدين خير وهدى وانشراح صدر وقلب مطمئن ثم يرى مايرى من المستقيمين من خلاف حاد وشحناء وبغضاء فيترك الاستقامة لأنه ماوجد ماطلبه، والحاصل أن الهجرة من بلاد الكفر ليست كالهجرة من بلاد الفسق، فيقال للإنسان: اصبر واحتسب ولاسيما إن كنت مصلحًا، بل قد يقال: إن الهجرة في حقك حرام.
1 / 18
الحديث الثاني
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيضًا قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثِّيَاب شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النبي ﷺ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًَا رَسُولُ الله، وَتُقِيْمَ الصَّلاَة، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيْتَ إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلًا قَالَ: صَدَقْتَ.
فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِيْمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلائِكَتِه، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآَخِر، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها، قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرى الْحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثَ مَلِيًَّا ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ) (١)
الشرح
قوله: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ بينما هي (بينا) ولكن زيدت (ما) فيها والأصل: بين
_________
(١) رواه مسلم: كتاب الإيمانن باب: الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ﷾، حديث (٨)، (١) .
1 / 19
نحن، فـ: (ما) زيدت للتوكيد.
و: جُلُوسٌ مبتدأ، وخبره: عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ
و: ذَاتَ يَوْمٍ ذات هنا تفيد النكرة، أي في يوم من الأيام.
وتستعمل في اللغة على وجوه متعددة، فتارة تكون بمعنى:
. ١صاحبة: مثل ذات النطاقين أي صاحبة النطاقين.
. ٢وتارة تكون اسمًا موصولًا: كما في لغة طي، وهم قوم من العرب يستعملون: ذات بمعنى التي، كما قال ابن مالك ﵀: (وكالتي أيضًا لديهم ذات) فمثلًا يقول: بعت عليك بيتي ذات اشتريت، أي التي اشتريت..
٣وتارة تكون بمعنى النكرة الدالة على العموم: كما في جملة الحديث ذات يوم.. وهذا أغلب ما تستعمل.
إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ الرجل هنا مبهم، وهو رجل في شكله لكن حقيقته أنه مَلَك.
شَدِيْدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ أي عليه ثياب.
شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ أي أنه شاب.
لايُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ لأن ثيابه بيضاء وشعره أسود ليس فيه غبار ولاشعث السفر، ولهذا قال: لايُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ لأن المسافر في ذلك الوقت يُرى عليه أثر السفر، فيكون أشعث الرأس، مغبرًّا، ثيابه غير ثياب الحضر، لكن لايرى عليه أثر السفر.
وَلايَعْرِفْهُ مِنَّا أَحَدٌ أي وليس من أهل المدينة المعروفين، فهوغريب.
حَتَّى جَلَسَ إِلىَ النبي ﷺ ولم يقل عنده ليفيد الغاية، أي أن جلوسه كان ملاصقًا للنبي ﷺ.
ولهذا قال: أَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلىَ رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ أي كفي هذا الرجل عَلَىَ
1 / 20
فَخِذَيْهِ أي فخذي هذا الرجل، وليس على فخذي النبي ﷺ، وهذا من شدة الاحترام.
وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ ولم يقل: يا رسول الله ليوهم أنه أعرابي، لأن الأعراب ينادون النبي ﷺ باسمه العلم، وأما أهل الحضر فينادونه بوصف النبوة أو الرسالة ﵊.
أَخْبِرْنيِ عَنِ الإِسْلامِ أي ماهو الإسلام؟ أخبرني عنه.
فَقَالَ: الإسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدًَا رَسُولُ اللهِ تشهد أي تقرّ وتعترف بلسانك وقلبك، فلا يكفي اللسان، بل لابد من اللسان والقلب، قال الله ﷿: (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: الآية٨٦)
وإعراب لاَ إِلَهَ إَلاَّ اللهُ:
لا إله إلا الله: هذه جملة اسمية منفية بـ (لا) التي لنفي الجنس، ونفي الجنس أعم النفي، واسمها: (إله) وخبرها: محذوف والتقدير حقٌ، وقوله: (إلا) أداة حصر، والاسم الكريم لفظ الجلالة بدل من خبر: (لا) المحذوف وليس خبرها لأن: (لا) النافية للجنس لا تعمل إلافي النكرات.
فصارت الجملة فيها شيء محذوف وهو الخبر وتقديره: حق، أي: لا إله حق إلا الله ﷿، وهناك آلهة لكنها آلهة باطلة ليست آلهة حقّة، وليس لها من حق الألوهية شيء، ويدل لذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (الحج: ٦٢)
وَأَنَّ مُحَمَّدًَا رَسُولُ اللهِ أي وتشهد أن محمدًا رسول الله، ولم يقل: إني رسول الله مع أن السياق يقتضيه لأنه يخاطبه، لكن إظهاره باسمه العلم أوكد وأشد تعظيمًا. وقوله: مُحَمَّدًا هو محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل، وليس من ذرية إسماعيل رسول سواه، وهو المعني بقول الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا
1 / 21
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) (البقرة: الآية١٢٩)
رَسُولُ اللهِ رسول بمعنى مرسل، والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه والعمل به.
َتُقِيْمَ الصَّلاةَ أي تأتي بها قائمة تامة معتدلة.
وكلمة: الصَّلاةَ تشمل الفريضة والنافلة.
وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ تؤتي بمعنى تعطي، والزكاة هي المال الواجب بذله لمستحقه من الأموال الزكوية تعبدًا لله، وهي الذهب والفضة والماشية والخارج من الأرض وعروض التجارة.
وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ أي تمسك عن المفطرات تعبدًا لله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وأصل الصيام في اللغة: الإمساك.
ورمضان هو الشهر المعروف مابين شعبان وشوال.
وَتَحُجَّ البَيْتَ أي تقصد البيت لأداء النسك في وقت مخصوص تعبدًا لله تعالى.
إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلِيْهِ سَبِيْلا قَالَ: صَدَقْتَ القائل صدقت: جبريل ﵇ وهو السائل، فكيف يقول: صدقت وهو السائل؟ لأن الذي يقول: صدقت للمتكلم يعني أن عنده علمًا سابقًا علم بأن هذا الرجل أصابه، وهو محل عجب، ولهذا تعجب الصحابة كيف يسأله ويصدقه، لكن سيأتي إن شاء الله بيان هذا.
شرح هذه الأركان الخمسة:
-الركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وهنا مسألة: لماذا جُعِلَ هذان ركنًا واحدًا، ولم يجعلا ركنين؟.
1 / 22