شرح كتاب التوحيد لابن خزيمة - محمد حسن عبد الغفار
شرح كتاب التوحيد لابن خزيمة - محمد حسن عبد الغفار
Genres
حكم سب الرسول ﷺ
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [روى سليمان وهو الأعمش قال: سمعت أبا وائل قال: قال عبد الله: قسم رسول الله ﷺ قسمًا فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي ﷺ فذكرت ذلك له فاحمر وجهه، وغضب حتى وددت أني لم أخبره، قال شعبة: أحسبه قال: يرحمنا الله وموسى -شك شعبة في (يرحمنا وموسى) - قد أوذي بأكثر من هذا فصبر].
في هذا الحديث يشعر الإنسان بالأسى والحزن عندما يرى التجرؤ على رسول الله ﷺ، وكان في عصر الصحابة من قبل هذا الأعرابي، أما الصحابة فقد كانوا إذا سمعوا هذا الكلام عن النبي ﷺ تقوم لهم الثائرة، ويكون أحدهم كالأسد الثائر لا يهنأ بعيش حتى يقتص لرسول الله ﷺ، وقد ضرب أروع الأمثلة على ذلك رجل أعمى في امرأته التي هي من العاطفة ومن الود والمحبة منه بمكان، ولكنها كانت تتغنى بسب الرسول ﷺ، وتقول الشعر في الرسول ﷺ، في حين أنها كانت ترعى زوجها هذا، وهو رجل أعمى لا يستطيع أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يذهب ليقضي حاجته إلا مع من يساعده على ذلك، وكانت امرأته هي التي تفعل ذلك به، فلما سمعها تتكلم في رسول الله ﷺ قام فبقر بطنها وقتلها، ولما ذهب إلى رسول الله ﷺ وأخبره أهدر النبي ﷺ دمها.
فما بالنا نرى ونسمع الآن ما يحترق له القلب، وما يعتصر له القلب ألمًا عن رسول الله ﷺ من مسبة وشتم واستهانة واستهزاء به، ولا نجد من يدافع عن رسول الله ﷺ إلا بالألسنة فقط، ففي عصورنا كثر المتجرءون بدعوى حرية الرأي، وحرية النشر، فـ سلمان رشدي سب رسول الله ﷺ، وسب الصحابة، وأزواج النبي ﷺ.
وآخر أخذ جائزة نوبل، وهو الذي سب الرسول ﷺ، وهذه الأمور كلها تحصل تحت ستار حرية الرأي، فهل من حرية الرأي أن يستهزئ المرء برسول الله ﷺ أو يطعن في عرض رسول الله ﷺ؟ فإن الصحابة عندما سمعوا مثل هذا الكلام كفروا من قاله، وقد قلنا في القاعدة التي قعدناها: إن القول قد يكون كفرًا، أو الفعل كفرًا، ولكن القائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة، ولكن في هذه المسألة يختلف الأمر، ولا يحتاج فيها إلى إقامة حجة؛ لأن الاستهزاء أو السب معلوم بمجرد الوصف، فمن سب رسول الله ﷺ فقد كفر، وارتد عن دين الله.
ويدل على ذلك هذا الحديث العظيم، عندما قام هذا الخارجي غائر العينين يقول لرسول الله ﷺ وهو يقسم: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! وكأن النبي ﷺ لا يريد ابتغاء وجه الله جل وعلا، فقال النبي ﷺ مندهشًا (ويحك، أو ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل).
فلما قال هذه الكلمة كفر في وقتها، ويدل على ذلك فعل الصحابة، وذلك أنه قام خالد، وفي رواية أخرى قام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق.
ونستفيد من هذه الكلمة أمرين: الأمر الأول: أنه وصفة بالنفاق، والنفاق كان اعتقاديًا لا عمليًا، فهو يخرج من الملة، ويدل على ذلك قولهم بضرب العنق، فإن النفاق العملي هو الذي قال عنه النبي ﷺ (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب)، هل حكم من يكذب في حديثه القتل؟
الجواب
لا، فهذا النفاق الذي يستحق صاحبه القتل هو النفاق الاعتقادي، والنبي ﷺ ما أنكر على خالد هذا، ولا قال له: لا تقل له: منافق، لكنه نحاه عن القتل، وأقره على فهمه، وهو يستحق القتل، وسأدلل على هذا بأنه جاء في حديث آخر الإشارة إلى أنه يستحق القتل، لكن عدم قتله كان لأمر آخر وعلة أخرى وهي قوله ﷺ: (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)، ثم إن آخر الرواية تدل على أنه منافق يستحق القتل، وذلك أن النبي ﷺ قال: (يخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، ثم قال: (لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد وإرم).
فهذه دلالة على كفره بهذا وخروجه من هذه الملة، فسب الرسول ﷺ كفر، وليس فيه عذر بالجهل، وليس فيه إقامة حجة، ولا إزالة شبهة؛ لأنه معلوم ضرورة.
وقد وقع اتفاق أهل العلم أن حد هذا الكافر المرتد القتل؛ لقول النبي ﷺ (من بدل دينه فاقتلوه)، واختلف العلماء هل يستتاب أو لا يستتاب؟ والصحيح الراجح أنه يستتاب حتى لا يقتل ردة، والدليل فعل عمر، وإذا كانت الاستتابة يعامل بها الكافر، فمن باب أولى الرجل الذي كان مسلمًا فكفر ويرجى له أن يرجع إلى الإسلام سريعًا، فالشريعة تفتح أبوابها على مصراعيها للكافر ليدخل في الإسلام، فالمسلم من باب أولى عليه أن يرد إلى الإسلام فيستتاب فإن كان الحد حقًا لله كاستهزاء بالله أو سب له جل وعلا، فإنه يستتاب ولا يقتل، بل يسقط عنه حكم القتل.
أما في حق النبي ﷺ في عصرنا فلا يسقط عنه حد القتل على الراجح من أقوال أهل العلم، نعم يستتاب ليقتل حدًا لا ردة، يعني: فلا يعاقب يوم القيامة على سبه للرسول ﷺ بعد ما تاب وقتل حدًا، فإذا سب الله إذا تاب لا يقتل، وإذا سب رسول الله ﷺ وتاب فلا بد أن يقتل، والفارق بينهما أن الله جل وعلا بين لنا أن رحمته سبقت غضبه، وأن الله جل وعلا في حقه يسامح ويغفر.
والنبي ﷺ كذلك كان في حياته كما عمل مع عبد الله بن أبي السرح لما سب النبي ﷺ، وكان يكتب للنبي الوحي، ففر إلى مكة وقال: كنت أكتب الوحي للرسول، فيقول لي: اكتب كذا فأكتب غيره، يريد أن يشكك في رسول الله ﷺ، ثم ارتد، ولما ذهب إلى عثمان، وجاء به عثمان إلى الرسول، ومد يده ثلاث مرات ليبايع النبي ﷺ، والنبي ﷺ يغض الطرف عنه، ويريد أحدًا يقوم يقتله، وفي الثالثة بايعه النبي ﷺ، فقال لهم: (أما قام أحدكم عندما رآني لا أريد أن أبايعه يقتله، فقالوا: كيف نعرف يا رسول الله؟ لو أشرت إلينا بعينك)، ولكن أدبه النبوي جعله يقول: (ما كان للنبي أن يكون له خائنة الأعين).
يعني: أن النبي ﷺ له أن يسقط هذا الحد، وكما أسقط في هذه الحالة، ولم يرد قتل هذا الخارجي الذي قال: هذه قسمة لا يراد بها وجه الله جل وعلا، وذلك لمصلحة أعظم.
وأيضًا أسقط القتل عن ابن أبي السرح؛ لأنه حق النبي ﷺ، فإذا تنازل عنه فله ذلك، لكن أين النبي ﷺ في عصرنا ليتنازل عن حقه؟ فنقول: الأصل في زماننا إقامة الحد عليه وهو القتل، إلا أن يتنازل الرسول، وهذا ليس موجودًا في عصورنا هذه، فلا بد أن يقام عليه الحد، حيث لا ناقل لنا عن الأصل، فيستتاب فإن تاب ورجع فإنه يقتل حدًا لا ردة، بل يقتل على الإسلام، وإن لم يتب يقتل ردة، ولا يكون مسلمًا.
8 / 14