شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الأول)
مكانة العلم عظيمة، وأهميته كبيرة، وثمرته جليلة وعليه دأب العلماء وحرص على طلبه الفطناء؛ متحلين بآدابه من الإخلاص والعمل به، وكان من هؤلاء النجباء والأذكياء الفطناء علم الأعلام وقدوة الأنام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني مولدًا، وفي ثنايا هذا الدرس مولده ونشأته وطلبه للعلم وتدريسه وتصنيفه، وموقفه من أهل البدع والأهواء، وجهاده بلسانه ويده، وما لقيه من اضطهاد وتشريد، وما عاناه من خصوم حاقدين حتى توفي وهو سجين، خلف ﵀ تراثًا علميًا هائلًا في جميع علوم الدين، فقدس الله روحه وأنار ضريحه.
1 / 1
نص عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀
قال شيخ الإسلام:
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل
اسمع كلام محقق في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل
حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسل
ولكلهم قدر وفضل ساطع لكنما الصديق منهم أفضل
وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل
وجميع آيات الصفات أمرُّها حقًا كما نقل الطراز الأول
وأرد عهدتها إلى نقّالها وأصونها من كل ما يُتخيل
قبحًا لمن نبذ القرآن وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل
والمؤمنون يرون حقًا ربهم وإلى السماء بغير كيف ينزل
وأقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه ريًا أنهل
وكذا الصراط يمد فوق جهنم فموحد ناج وآخر مهمل
والنار يصلها الشقي بحكمة وكذا التقي إلى الجنان سيدخل
ولكل حي عاقل في قبره عمل يقارنه هناك ويسأل
هذا اعتقاد الشافعي ومالك وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل
فإن اتبعت سبيلهم فموفق وإن ابتدعت فما عليك معول
1 / 2
فضل العلم وأهله
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: في مقدمة شرحنا لـ لامية شيخ الإسلام وتسمى (عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى) أود أن أنبه على أهمية العلم وفضله.
فقد ورد في فضل العلم آيات وأحاديث، وليس درسي هو بيان فضل العلم، ولكني أحث الأحبة جميعًا أن يبدءوا قبل بدايتهم في هذه الدورة، حبذا لو أنهم قرءوا خمسة كتب في آداب طالب العلم؛ وذلك لأهميتها؛ نظرًا لأننا نرى كثيرًا من الشباب ينطلقون إلى حلق العلم انطلاقًا عاطفيًا، فسرعان ما يسمع فضل العلم وأهميته، ثم تراهم جثوا بالركب في المساجد أسبوعًا أو أسبوعين، وربما بلغوا شهرًا أو شهرين، ثم انعطفوا عن الطريق وعن المواصلة، ولعل السبب في ذلك أعزوه إلى أمرين: الأمر الأول: أن الواجب عليهم أن يدرسوا كتبًا في آداب الطلب، خاصة الكتب المتقدمة، وكم هي -ولله الحمد- متوفرة في الأسواق، يمكن للإنسان أن يطلع عليها ويقرأها، وتكون تلك القراءة ليست قراءة عاطفية، وإنما قراءة المتمعن المستفيد، ليعلم خبر العلم الذي يطلبه، وفائدته وثمرته.
الأمر الثاني: أن كثيرًا من الأحبة لعلهم لا يقرءون سير العلماء وطلاب العلم الذين مضوا، وسير بعض العلماء وطلاب العلم في عصرنا وفي حاضرنا، وكم الشباب في حاجة إليها حاجة صادقة، وكم هي كتب التراجم والسير التي كتبت عن العلماء، وعن حياتهم، وأوقاتهم، وعلمهم، ومشايخهم، وطريقتهم، وظروفهم إلى غير ذلك، فقراءة تلك تغرس في النفس هممًا عالية في مواصلة الطلب والاستمرار عليه.
وأقول للأحبة: إننا ربما نحضر حلقات للعلم، ولكننا نحضر لها مدة معينة، ثم نجد من أمثلة ذلك: تلك الدورات التي أعتبرها أو أراها في نفسي أنها من الترقيع وليست من التأصيل، وأرى أن طالب العلم ينبغي له أن يجثو بركبتيه عند العلماء وطلاب العلم سنين عديدة، فلا يكفي مجرد دورة يحضرها لمدة أسبوعين أو ثلاثة أو شهر أو شهرين، فتلك أسميها مفاتيح فقط، وهي جرعات تُعطى لطالب العلم لينطلق بعدها للمواصلة، ليس ليعتمد عليها على أنه حصل العلم كله، وعلى أنه استفاد من العلوم كلها بمجرد حضور وقت، ولكنها شحذ للهمم، وفتح للمدارك، وبيان لفضل العلم وأهميته، والمواصلة في الطريق، ولنعتبرها زادًا، لكنه ليس زادًا يستمر إلا في الاستمرار في المواصلة في حضور حلقات العلم.
واقرءوا في تراجم السلف رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم، تجد فيها أنه يقال: إنه لازم شخص شيخه عشرين سنة! جاثيًا بركبتيه عند شيخه لا يفلت عنه، ولازم العلماء دهرًا طويلًا إلى غير ذلك، وقلت: نحن بحاجة إلى دراسة حياة سلفنا ﵏ ورضي عنهم.
قضية فضل العلم: في الذهن أنني أتحدث في مقدمة كل درس شحذًا للهمم للمواصلة، وعلها أن تكون مفاتيح خير، وتكون نواة للاستمرار في الطلب، ومعرفة قيمة العلم وثمرته وأهميته في واقع الناس.
قضية فضل العلم قد ذكر الله في غير ما آية ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران:١٨] وكما في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:١١٤] يقول الإمام القرطبي: لو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله به نبيه ﷺ أن يسأل ربه المزيد منه، فلم يوجد شيء أفضل من العلم.
ولذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: "إن طلب العلم أفضل من جميع نوافل العبادات" فجلوسك للعلماء ولطلب العلم والقراءة والتحصيل أفضل من صيام الإثنين والخميس، وأفضل من قيام الليل، وأفضل من كثير من العبادات، بل ربما يكون طلب العلم الذي يحصله الإنسان ويجثو على ركبتيه أفضل من الذهاب إلى العمرة والحج نافلةً وغيرها؛ لأن العلم لا يعدله شيء أبدًا.
وسبحان الله! موسى كليم الرحمن يطلب أن يزداد علمًا حين سأل الخضر: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف:٦٦] وأيهما أفضل: موسى أم الخضر؟ نحن نعلم بأن موسى لا يفضله الخضر أبدًا ولن يفضله، ومع ذلك لما آتاه الله شيئًا من العلم سأله سؤال المتأدب المتلطف معه: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف:٦٦] وبعد ذلك واصل موسى، ولكن كما قال محمد ﷺ: (رحم الله موسى ليته صبر، لنعلم من أخبار الخضر وأعاجيبه) .
ولعل من اللطائف في قصة موسى مع الخضر، وفيها دروس وآداب لطالب العلم عجيبة جدًا، وكم يستنبط العلماء منها من الآداب، ذكر ابن كثير وذُكر في الصحيح وغيره في أصل هذه القصة: أن موسى ﵊ خطب في بني إسرائيل بعد أن ذكرهم: إني لأعلم أهل الأرض، فعتب الله عليه، ثم بين له أنه يوجد في الأرض من هو أعلم منه، وسأل ربه أن يستفيد منه، وإذا هو الخضر، مشى موسى مع الخضر وفي آخرها بعد أن علَّمه الخضر الأحداث الثلاثة وأسبابها، كان معه على السفينة فوجد طيرًا ينقر في البحر، فقال الخضر لموسى ﵊: يا موسى! إنما علمي وعلمك في علم الله تعالى كمثل ما نقر هذا الطير من هذا البحر.
فمهما حصلت من العلم ستجد أنه ليس عندك شيء، وسبحان الله! كلما ازداد الإنسان علمًا ازداد معرفة بجهله إذا كان صادقًا في الطلب والعلم، ولكن مشكلتنا أن الإنسان يقرأ كتابًا أو كتابين ويحفظ متنًا أو متنين، ثم يتصدر للناس بمسائل تبصير وتوجيه وإفتاء وشرح للمتون وقراءة للمطولات، وهو لم يؤسس القواعد التي نعتبرها كما قال سلفنا من قبل: (من حفظ المتون حاز الفنون) .
ولعل الأحبة يرون أننا أخذنا متنًا صغيرًا وهو لا يجاوز (١٥) بيتًا، وفي بعض النسخ (١٦) بيتًا، ولكني أعتبر أنه يجب علينا أن نعلم أنه لا بد أن نبدأ بالمتون لنؤسس بها، ثم ننطلق على ضوء تلك في الاستفادة والتحصيل.
ثبت عن النبي ﷺ كما في البخاري ومسلم من حديث معاوية أن النبي ﷺ قال: (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين) وتكلم العلماء على هذا الحديث كلامًا عظيمًا عجيبًا، وأخذوا بمفهومه المعاكس أن من لم يطلب العلم فإنه لم يرد الله به الخير حتى ولو كان هذا الإنسان على توجيه وعلى حرص على الخير والاستقامة، لكن هذا الخير الذي ميز الله به العلماء وطلاب العلم نعتبره اصطفاءً ربانيًا يؤتيه الله من يشاء ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الجمعة:٤] .
وأقول للأحبة: إن هذا الحديث الذي سأذكره يجب أن نستشعره دائمًا في حضورنا لحلقات العلم، وجثونا بالركب للاستفادة والتحصيل، فقد ثبت من حديث أبي الدرداء الذي رواه أبو داود والترمذي وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني وهو حديث: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة) .
أخي المسلم: إنك إذا انطلقت لدرسٍ أو لعلم -وأخاطب أحبتي الذين يدرسون في الكليات الشرعية- هل إذا انطلقت تشعر بأنك تمشي في طريق الجنة، وتبحث عن رضا ربك، وأنك تريد من هذا العلم فائدةً وتحصيلًا ترفع الجهل عن نفسك، ثم تعمل بسنة محمد ﷺ، ثم تبلغ ما علمت إلى الناس وتوصله إليهم، أم أنك تذهب وترجع بمجرد الحضور والبركة؟ لا شك أن حضور حلقات العلم ولو لم يستفد الإنسان شيئًا كما ثبت في الصحيح: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وهنيئًا لأولئك الذين يحضرون حلقات العلم، ولو لم يكن لهم تخصصًا شرعيًا، فالعلم الشرعي ليس خاصًا بطائفة معينة، وليس لصنفٍ معين، لا للصغير ولا للكبير، وليس لطلاب الكليات الشرعية فقط، بل كل من جثا بركبتيه في المساجد لطلب العلم فإنه يحظى بما ورد من الفضائل في القرآن والأحاديث، وفي غيرها من كلام السلف في فضل العلم وأهميته، ولذلك فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ومن يوازي محمد ﷺ؟! وإنما هذا من باب التشبيه؛ شحذًا للهمم من حضور حلقات العلم والاستفادة منها؟ وهذا الحديث قد رواه الإمام الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (سلوا الله علمًا نافعًا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع) في سجودك وفي آخر تشهدك سل ربك دائمًا أن يرزقك علمًا نافعًا، وكم من الناس قد يؤتون علمًا ولكنهم لا يستفيدون منه شيئًا، ولا يفيدونه لغيرهم، ولذلك لما وصف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى علماء أهل الكلام، قال: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاءً، ولما ترجم الإمام الذهبي رحمه الله تعالى لأحد علماء أهل الكلام قال: إنه من بحور العلم، لكنه قال بعدها: من بحور العلم الذي لا ينفع؛ لأنه بعيد عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ بعيد عما كان عليه سلف الأمة، فلا يستفد من ذلك العلم شيئًا.
1 / 3
إخلاص النية في طلب العلم
أتكلم حول أدب واحد وأسكت بعدها؛ لأنطلق لشيخ المسلمين وشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: أقول للأحبة: أول أدب: إخلاص النية لله تعالى في الطلب، كيف لا وطلب العلم يعتبر عبادة! وعندنا قاعدة: أن العبادة لا تصح إلا بنية خالصة، وأي إنسان يطلب ثوابًا للعبادة بدون نية وبدون إخلاص فإنه لا يستفيد من ذلك أبدًا، والله تعالى قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة:٥] .
ويقول الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى في مسألة حسن النية في طلب العلم: إن حسن النية لا يكون إلا بأمور: ١- أن يقصد الإنسان بطلب العلم وجه الله تعالى.
٢- أن يقصد به أن يعمل بهذا العلم، وإن العلم الذي يحمله ربما يكون حجة عليه لا حجة له بين يدي الله تعالى.
٣- أن يقصد به إحياء الشريعة ونشرها في الناس، وتبصير الناس فيما علم.
٤- تنوير قلبه وتحلية باطنه.
٥- القرب من الله تعالى يوم القيامة والتعرض لما أعده الله لأهل العلم من رضوانه وعظيم فضله.
يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "ما عالجت شيئًا أشد علي من نيتي".
وسبحان الله! فقد نقل عن كثير من السلف أن بعضهم ربما تصدر يومًا لإلقاء كلمة أو بيان شيء للناس ثم يسكت، قيل: لِمَ لم تتكلم؟ قال: "أعجبتني نفسي فأردت أن أهينها" كأنها استشرفت فأراد أن يؤدبها تأديبًا عمليًا، فأعظم ما يؤدب الإنسان أن يؤدب نفسه، وغيره ربما لا يطلعون عليه، وما في القلب والنفس لا يعلم به إلا الله ﷾ تحتاج تصفية.
ولهذا وجب على المسلم أن يقصد بطلبه للعلم وجه الله، لا يريد منه أغراضًا دنيوية، ولا تحصيل رياسة، ولا جاه، ولا مال، ولا مباهاة الأقران، فربما بعض الأحبة يحضر حلقات العلم، قال: لأكون أفضل من فلان وفلان، أو من أجل أنك إذا بحثت مسألة ناقشته وأفحمته في هذه المسائل.
نقول: أبعد هذا المرض من قلبك فإنه يفسد عليك العلم، ويسحب منك بركته، وبعضهم قد يطلبه لتعظيم الناس له، وللتصدر في المجالس.
لقد ثبت عن النبي ﷺ، كما في حديث ابن عمر ﵄: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) والحديث رواه ابن ماجة، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله.
فنعوذ بالله أن نسير على طريق آخره إلى النار، بل نسأل الله أن يكون طريقنا إلى جنات عدن.
أختم بحديث عظيم جدًا ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وقد بين فيه النبي ﷺ أوائل من تسعر بهم النار، وأول من يقضى عليه يوم القيامة، ذكر منهم النبي ﷺ والحديث طويل: (رجل تعلم العلم وقرأ القرآن، ولكنه أوتي به، فعرفه الله نعمه، ثم قيل له: تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ ثم يؤمر به فيلقى في النار) نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء القوم.
وبناءً عليه: وجب علينا أن نحرص على طلب العلم، وأن نستفيد منه.
أذكر قصة واقعية: كنا في حلقة شيخنا قريبًا من عشر سنوات أو أكثر من ذلك، وهو شيخنا العلامة مفتي هذه الديار، وكان أحد طلابه يقرأ عليه من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان فيه بيان فضل العلم وطلبه وأهميته، وقد ذكر شيخ الإسلام حديث النبي ﷺ الذي في الصحيح، والحديث طويل: (إن لله ملائكة سيارة يبحثون عن حلق العلم، حتى إذا وجدوها نادى بعضهم بعضًا: هلموا إلى بغيتكم، فتجتمع الملائكة، وتحضر إلى حلقة العلم، فإذا انقضى الدرس ذهبوا إلى ربهم وسألهم وهو أعلم بهم) -الحديث بطوله: يسألونك الجنة، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد لها طلبًا يستعيذون بالله من النار، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد هربًا منها وفزعًا منها ثم يقول الله: ماذا يسألون؟ قالوا: يسألونك يا رب مغفرة الذنوب، فيقول الله: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: إن فيهم فلانًا ليس منهم -كمن مر حول المسجد فسمع هاتفًا فدخل ولم يكن في نيته طلب العلم- فيقول الله: (أشهدكم أني قد غفرت لهم جميعًا، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وقال الشيخ هنا وقفة عجيبة: وبكى الشيخ في هذا الموطن وهو في حلقة علم، وأعظم حلقة أشعر بها في نفسي في وجه الدنيا حلقة شيخنا، ومع ذلك قال: "وإنا لنرجو الله أن نكون منهم".
إذا كان هذا الشيخ يقول هذه الكلمة، نقول نحن: وإنا لنسأل الله أن نكون منهم، وهذا يدلنا على فضل حلقات العلم وحضورها، وأنها ليست هينة، ولئن زهد الناس فيها فهي عند الله عظيمة، ولها منازل عالية.
وسبحان الله! إني أرى عجبًا، أخيار السماء -ملائكة الله- ينزلون على أخيار الأرض، جمع الله الطيبين مع الطيبين، ولذلك سل ربك دائمًا أن تكون من القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، فإن في ذلك الخير والبركة والنفع.
1 / 4
ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀
هو شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا أدري ما أحدثكم عن أخباره وعن واقعه، ولكني أذكر لكم وقفات، وللعلم بأن هذه الدورة أعتبرها دورة مختصرة، ولعل الله أن ييسر أن نكمل هذه الأبيات، وإن في نفسي أن هذا الوقت ربما لا يكفي، ولكن سوف نجاهد النفس ما استطعنا ألا نتوسع توسعًا كثيرًا في بعض الأمور، لكن ما سنحتاجه سنقف معه.
وسوف يكون منهجنا -إن شاء الله- حل العبارات التي ذكرها المؤلف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ثم التعرض للمسائل العلمية التي تطرق لها، ثم ذكر ما نحتاج إليه مما نراه مكملًا لهذه المسائل، ولعلنا -إن شاء الله- في كل جزئية من الجزئيات نذكر المصادر والمراجع العلمية التي يمكن أن يستفيد منها طالب العلم حول هذه القضايا التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى، وربما نذكر في أثناء عرضنا مقدمات نحتاج لها دائمًا، ويحتاج لها كل دارس لكتب العقيدة، خاصة أن الناس في حاجة إلى ذكر شيء من القواعد والتأصيل في المنهج، وخاصة في مسائل الاعتقاد.
وإذا عرف الناس قواعد في الصفات، وقواعد في الربوبية، وقواعد في الألوهية، وقواعد في الغيبيات، وكيف كان السلف رحمهم الله تعالى يتعاملون مع النصوص، أصبح يقرأ في أي كتابٍ على ضوء بصيرة ونور، فتلك القواعد كان قصب السبق في تأصيلها أو جمعها وتبينها هو شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀.
1 / 5
نسب شيخ الإسلام ابن تيمية
شيخ الإسلام: هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، ويقال: الحنبلي، وإن كان في النفس منها هنيهة، ولكنا نقول: إنه درس على مذهب الحنابلة، ونعتبره إمامًا مجتهدًا رحمه الله تعالى، ويفتخر الحنابلة وإن كان السلفيون منهم أن شيخ الإسلام منهم، ويوجد من لا يكون من الحنابلة على منهج سلف الأمة، وهذا أمر سيأتي الكلام عليه، ولكنا سنذكر تقعيدًا -إن شاء الله- حول هذا الأمر، وهو أن الأئمة الأربعة كلهم على منهج سلف الأمة.
وما نقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه مر في مراحل حياته، واستتيب عدة مرات كما نقله الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه: السنة، نقول: هذه مرت في أول حياته، وأما آخرها فإنه كان على ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى.
والحنابلة كغيرهم من الأئمة من الطوائف أو المذاهب الأخرى، فيوجد من أتباع أبي حنيفة والشافعي ومالك من ليس على منهج سلف الأمة في باب الصفات أو في باب القضاء والقدر، ولكن التقعيد عندنا: من وافق الكتاب والسنة سرنا على ضوئه، ومن خالف ذلك لم نلتفت إليه، والعبرة بالمنهج لا بالأشخاص، نحن لا نعبد أناسًا أو أشخاصًا معينين، وقد يرد في الذهن ما قاله الشاعر:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
نقول: المقصود من هذا البيت أنه على مذهب الإمام أحمد في مسائل الاعتقاد، وهذا أمر سيأتي -إن شاء الله- بيانه: أن كل من انحرف ثم رجع إلى منهج أهل السنة أعلن أنه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونقول: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِى﴾ [الجمعة:٤] شرَّف الله هذا الإمام بأن أصبح منافحًا عن سنة النبي ﷺ، وعن عقيدة الإسلام، ومبينًا للمنهج الحق.
ذكر العلماء من صفات شيخ الإسلام بأنه الإمام الفقيه، المجتهد الناقد، المفسر البارع، الأصولي، علم الزهاد، نابغة دهره، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين، صاحب المنتقى ﵀، قال كثير من أهل العلم: إنه كالعلم فلا يحتاج أن يطلب فيه.
1 / 6
مولد شيخ الإسلام ابن تيمية وبداية طلبه العلم
ولد رحمه الله تعالى يوم الإثنين العاشر من ربيع الأول سنة (٦٦١هـ) بـ حران، وقدم به والده مع إخوانه إلى دمشق عند استيلاء التتر على كثيرٍ من بلاد الإسلام سنة (٦٦٧هـ)، فسمع في أثناء قدومه من علماء دمشق عددًا كبيرًا رحمه الله تعالى، عُني ﵀ بعلم الحديث، وسمع المسندات وحفظ كثيرًا منها، وسمع كتب السنة الستة، ومعجم الطبراني، وكتبًا حديثية كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم ومن معاصريه: أي حديث لا يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية فليس بحديث، وإن كنا نقول: في هذا نوع من المبالغة، لكنه ثناء عليه بما آتاه الله من العلم.
قرأ ﵀ كتبًا كثيرة، ورزقه الله حافظة قوية، وكان سريع القراءة ﵀، وسبحان الله! أقول للأحبة: من آداب طالب العلم أن يكثر من القراءة، ويسهل عليه بعد ذلك أن يقرأ، بعض طلاب العلم ربما يقرأ في كتاب فيشعر أنه لا يقضي عشر صفحات إلا في وقت طويل، وبعضهم مع الاستمرار يقرأ في جلسة واحدة ما بين الظهر إلى العصر مقدار مائتي صفحة إلى ثلاثمائة صفحة ويفهم ما فيها؛ نظرًا لأنه ينمو عنده قضية التحصيل والقراءة، وهكذا ما ينمو من قضية الحفظ.
أقبل رحمه الله تعالى على تفسير القرآن، وكان متميزًا فيه، وذكروا أنه فسر سورة نوح في سنوات عديدة، كان يشرحها يوم الجمعة رحمه الله تعالى، وهذا يدل على سعة إطلاعه ومعرفته وإدراكه بتفسير القرآن.
كان لسجنه أثرًا عظيمًا جدًا في تعمقه وفهمه لكتاب الله تعالى، يقول لما سجن: لا أدري ماذا أجزي من سجنني على ما حصل لي من الخير، فسجن معه أخويه، وكان يسجن هو ويدخل أخوه معه من أجل أن يخدمه رحمه الله تعالى، وكانا يعرضان القرآن، يسمع بعضهم لبعض، وفي سنته الأخيرة التي توفي فيها مكث في السجن سنتين ثم توفي، قالوا: إنه ختم ثمانين ختمة وهو يتأمل القرآن، وكان يستحضر الآيات كأن المصحف أمام عينيه رحمه الله تعالى، مما يدل على قوة حافظته، يقول لما سجن: سبحان الله! بدأنا نفهم القرآن ونتأمله، والسبب أنه لما كان خارجًا كان اهتمامه بمناظرة المبتدعة، وبشرح بعض الكتب والتوسع فيها، وتبيين وتأليف بعض المسائل في الاعتقاد وغيره، فلما سجن تفرغ لكتاب الله تعالى ﵀ ورضي عنه.
قالوا: إنه تأهل للإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين سنة، وأصبح يفتي بعد أن بلغ عشرين سنة.
قالوا عن حافظته: إنه ما حفظ شيئًا فنسي، وتولى التدريس بعد وفاة والده الذي تعلم عليه، ودرس بدار الحديث في أول سنة (٦٨٣هـ) .
كان يحضر دروسه بعض مشايخه وعلمائه ويتعجبون من فطنته وذكائه، ومن استحضاره للنصوص، وسبحان الله! رجل تميز بفنون عديدة، وإذا تكلم بفنٍ معين ظن السامع أنه لا يجيد إلا هذا الفن، بل والأعجب من ذلك أنه درس علم الفلسفة، وهو خلاف ما كان عليه الإمام الغزالي عفا الله عنا وعنه وهو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الذي يسمى حجة الإسلام الفقيه الشافعي المشهور.
ذاك درس العلم وخاض في الفلسفة قبل أن يؤصل عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتب كتابه العجيب الذي اسمه (المنقذ من الضلال)، ذكر في مقدمته أنه كان من منهج الإمام أحمد رحمه الله تعالى عدم القراءة في كتب أهل البدع، وعدم الحضور في حلقاتهم، وعدم الاجتماع بهم، ولا التعلم عليهم، ولا دراسة علومهم، قال: ولكني لم آخذ بها، فدرس الفلسفة وخاض فيها، حتى قيل فيه: أراد أن يبتلعها فغُص بها، حتى توفي وفي قلبه شيء من الفلسفة، ولم يرجع إلى ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ فإنه ما درس الفلسفة إلا لحاجة بيان بطلان ما كانوا عليه، ولأن الفلاسفة كان لهم قوة وصولة في عصره ﵀، وحتى أنه يناظر الفلاسفة ويبين لهم شيئًا من أصولهم لم يفهموها هم، بل لم يطلعوا عليها من كلام كبار أئمة أهل الكلام، مما يدل على اطلاعه رحمه الله تعالى.
ومن اللطائف: أنه تناظر مع أبي حيان ﵀، وهو الإمام المفسر، وكان أبو حيان قد أعجب بـ شيخ الإسلام أشد الإعجاب، وأثنى عليه أشد الثناء، وكتب ﵀ ثناءً عليه، ولكنه لما ناظره في مسائل نحوية -وكان من كبار أئمة النحو- وبين أن هذا القول ليس بصحيح، فرد عليه بأن سيبويه قد قال كذا، قال: لقد أخطأ سيبويه في كتابه (الكتاب) -وهو من أنفس الكتب التي كتبت في النحو- في ثمانين موضعًا، ثم قال: لا تعرفها أنت ولا غيرك، فغضب عليه أشد الغضب، وبعدها عاداه أشد المعاداة، مما يدل على سعة اطلاعه في النحو والفلسفة وفي مسائل الاعتقاد وغيره.
وقالوا عنه ﵀: كان يتميز بأن عنده دراية ومعرفة بأقوال الصحابة أمرًا عجيبًا، ويتميز بالإسناد.
ولذلك كلما وجدت عالمًا يربطك بما كان عليه سلف الأمة في الفقه، والأصول، والعقائد، والحديث، وغيرها فامسك بغرزه؛ لأنه يرجعك إلى المنبع، ويؤصل لك المنهج، وتستفيد منه استفادة عظيمة.
ذكر الإمام الذهبي ﵀ ترجمة له وافية، وذكر في معجم شيوخه في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إنه برع في التفسير وغاص في دقائقه ومعانيه بطبع سيال، وخاطر إلى واقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ مثلما يحفظه ﵀، وكان لا يحفظ شيئًا إلا ويعزوه إلى أصوله وإلى صاحبه الذي قاله، وكان شديد الاستحضار للأدلة وإقامتها، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف مذاهب الفقهاء، وفتاوي الصحابة والتابعين ﵃، بحيث أنه إذا أفتى في مسألة لم يلتزم بمذهب معين، بل يقوله مع دليله ﵀، وأتقن العربية أصولًا وفروعًا وتعليلًا واختلافًا، ونظر في العقليات إلى غير ذلك مما قال.
ثم قال في آخره: وأوذي ﵀ في ذات الله تعالى من قبل المخالفين، وأخيف في نصرة السنة المحضة، حتى سار على منارة، وعلى وضوح، ولكن الله جمع له قلوب أهل التقوى، وجمعهم على محبته، والدعاء له، وكبت الله أعداءه، وهداه إلى صراطه المستقيم، وبين أن له علمًا بالملل والنحل وغيرها.
قال الإمام الذهبي ﵀ مع جلالته في آخر ترجمته له: وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي -يعني في عظمته ومحبته له وإعجابه به- فلو حلفت بين الركن والمقام وكنت صادقًا لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله رحمه الله تعالى ورضي عنه، مما يدل على تمكنه ومعرفته.
1 / 7
تصانيف شيخ الإسلام ابن تيمية
تصانيفه ﵀ كثيرة جدًا، ولن أتعرض لتصانيفه لوجود كثير منها، وقد ذكروا أنها بغلت (٣٠٠) مجلد، وبعضهم أوصلها إلى (٥٠٠) مجلد، وذكروا أن كتبه لو قسمت على حياته فكأنه يكتب كل يوم مائة صفحة، وكان له خطًا عجيبًا ربما لا يقرؤه إلا ابن القيم ﵀ من سرعة كتابته وتأليفه، وذكروا أنه لما سجن في القلعة كان يكتب كتبًا هناك، وكان الطلاب يصلون إليه، وذكروا أنه كتب في آخر حياته لما سجن ستين مجلدًا، وبعدها كان الناس يفدون إليه إلى السجن ويتعلمون، فعلم الوالي هناك بهذا فأمر بسحب كتبه، وسحبت كذلك أقلامه، وما كان يكتب، قالوا: فكان يكتب بالفحم -لعله كان في السجن يوقد له- على الأوراق وغيرها رحمه الله تعالى.
1 / 8
صفة شيخ الإسلام الخلقية
ذكروا في صفته الخلقية أنه: كان أبيض أعين أسود الرأس واللحية قليل الشيب شعره إلى شحمة أذنيه وكأن عينيه لسان ناطق، يعني في نظرته تشعر بالرجولة والقوة والشجاعة، بعيد ما بين المنكبين جهوري الصوت فصيحًا سريع القراءة تعتريه حدة، أي: شدة، ولكنه يقهرها بالحلم ﵀ وغفر له.
قال الإمام الذهبي ﵀ في صفاته الخلقية: كان محافظًا على الصلاة والصيام، معظمًا لشعائر الله ظاهرًا وباطنًا، لا يؤتى على سوء، أي: لا يذكر فيه شيء مما يقدح به، سبحان الله! ادعى عليه أناس واتهموه.
1 / 9
الاتهامات والامتحانات التي واجهها شيخ الإسلام
نقول قاعدة: كل صاحب نعمة محسود، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد حسده من كان في عصره من أقرانه من العلماء وطلاب العلم، وكان من أكبرهم ابن مخلوف المالكي القاضي، اتهمه ﵀ بأنه خالف ما كان عليه سلف الأمة، وذكر اتهامات له في العقيدة وهي باطلة: منها: أن شيخ الإسلام يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وإن الله يتكلم بحرف وصوت، ولعل هذا الكلام يومئ إلى أن هذا الإمام المالكي كان على مذهب الأشاعرة نتيجة هذا التهمة لما وشى به عند الحاكم، وكان ذلك في عشرين رمضان سنة (٧٠٥هـ) نتيجة حبس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في برج من الأبراج هناك أيامًا، ثم نقل منه ليلة العيد إلى حبس معروف بالجب عندهم، رافقه أخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن.
وممن اتهمه كذلك الصوفية، وكان شيخ الإسلام من أشد الناس إنكارًا على الصوفية، وتكلم عليهم كلامًا قاسيًا قويًا، وسبحان الله! عجبًا من هؤلاء الصوفية ما أقل عقولهم، وما أقل فقههم، ابن عربي وابن الفارض وغيرهم من الذين يتكلمون بكلام إلحادي وكفري، ومع ذلك يبجلونهم هؤلاء القوم، يقول أحدهم وهو ينفض جبته: ما في الجبة إلا الله، ويذكرون أشعارًا شركية وإلحادية ومع ذلك يعتبرونهم من كبار الأئمة، ابن الفارض قُتل بفتوى علماء زمانه لإلحاده، ومع ذلك يعتبر شهيد الصوفية، وأن الناس وشوا به ولا يعرفون كلامه.
لما تكلم شيخ الإسلام ﵀ في الصوفية وعقد له مجلس قضاء الشافعية، وادعي عليه بأشياء ﵀، ومع ذلك لم يثبت منها شيء، ودحض حجتهم وباطلهم.
ومما حدث له كذلك: الإفتاء في مسألة الطلاق، وكان رحمه الله تعالى يفتي بأن الطلاق الثلاث يعتبر طلاقًا واحدًا وقد رجع، وهذه المسألة خلافية ولن أتعرض لها بشيء، ويفتي بها سماحة شيخنا العلامة حفظه الله وأمد في عمره، نتيجة لما أخبر الناس بهذا الخبر امتحن ﵀ من قبل علماء زمانه وقضاتهم، وكان نتيجتها أنه رحمه الله تعالى مُنع من الإفتاء بذلك، ولكنه سئل مرة أخرى فافتى بها وكانت النتيجة أن حبس في القلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، وأخرج يوم الإثنين في عاشوراء سنة (٧٢١هـ) .
ومنها كذلك: افترى عليه بعض المفترين ومنهم الطوفي، وكان على مذهب الحنابلة ولكنه أشعري، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد رد على الأشاعرة وأبطل ما كانوا عليه من المذهب في أغلب كتبه رحمه الله تعالى، وتكلم على الإمام الغزالي وبأنه من أئمة الأشاعرة ومن منظريهم، وله كتب في ذلك في الرد عليهم.
وتكلموا عليه كذلك في مسألة النزول، وكذلك في غيرها من المسائل، وكانت النتيجة أن عقد له مجلس ونوقش فيه ورد عليهم.
من الاتهامات العجيبة التي اتهمه بها ابن بطوطة، قد نقول: يستحق أن نقول له: قبحه الله إن ثبتت عنه هذه الكلمة، ذكر ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة أنه دخل دمشق، وذكر أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إنه من كبار فقهاء الحنابلة، ورآه يتكلم في فنون عديدة، وتكلم قال: وحضرت له يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، قال: فكان من جملة كلامه -أي: شيخ الإسلام- أن قال: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل شيخ الإسلام درجتين، وهذا كلام باطل وليس بصحيح، وأصبح الناس يتناقلون هذا الكلام، ورد عليه جمع من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، ومنهم: ابن عبد الهادي ﵀ وهو من كبار تلامذته، ومنهم: أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب في طبقات الحنابلة وغيرهم، وذكروا أن الوقت الذي زار فيه ابن بطوطة دمشق كان شيخ الإسلام ابن تيمية في القلعة مسجونًا، فكيف يخرج هنا وهناك، ذاك أمر لا يقر به إلا غلاة الصوفية.
ولكننا نقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يقول مثل هذا الكلام وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة رحمه الله تعالى، وحاشاه أن يتكلم، ولكن ليس إلا الحسد والكذب، وليس غريبًا أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، أو من المبتدعة في مقالاتهم.
ولعلي أذكركم بقصة من اللطائف للصوفية كانت لهم، ذكرها الشعراني في طبقاته، وكان من العجائب التي ذكر: أن أحد أئمة الصوفية، وكان يعتبر وليًا من أولياء الله، ويعظمونه ويجلونه، دخل المسجد يوم الجمعة فصعد المنبر، ثم قام خطيبًا في الناس، وقال: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس ﵊، فقال الناس وهم حضور: كفر الشيخ، كيف يقول هذا الكلام، فنزل عليهم بسيفه وخرج أغلب من في المسجد مخافة منه، قالوا: فجلس على المنبر والناس لم يستطيعوا الدخول لما رأوا من كلامه، ومكث إلى قريب العصر، يقول: فجاء رجل من قريةٍ من القرى إلى هذه البلدة التي فيها الشيخ القبيح، فقالوا: أما علمت ما قال الإمام والشيخ والولي؟ قال: ماذا قال؟ فذكروا له، فقال: قبحكم الله، والله لقد كان بنا خطيبًا صلى بنا الجمعة وخطب بنا أربع خطب، وهو في قرية وقال كذلك، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية لن يقول مثل هذا الكلام، وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة وحاشاه أن يتكلم بهذا، ولكن هذا سببه الحسد والكذب، وليس غريبًا أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، وخاصة إذا كانوا من المبتدعة.
وقد ذكروا أنه ﵀ سجن سجونًا عديدة، منها: أنه سجن في قلعةٍ في الشام في رجب سنة (٧٢٠هـ) إلى عاشوراء سنة (٧٢١هـ)، وسجن في القلعة في القاهرة، كذلك سجن في الجب، أُدخل ﵀ سنة (٦٩٨هـ) وذكر بعضهم أنه أخرج بعدها بسنوات.
ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى كلامًا عظيمًا جدًا في سجن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنه توفي رحمه الله تعالى في السجن، ويقال: لما توفي كانت وفاته يومًا مشهودًا، ضاقت بجنازته الطرق، وسارع الناس من كل فج عميق يتقربون إلى الله بحضور جنازته رحمه الله تعالى، وكلهم يسارع إلى حمل جنازته.
ذكروا من صفاتها: أنه أغلقت الحوانيت والمحلات، حضرها عدد من الرجال والنساء قدَّر بعضهم بأنها أكثر من مائتي ألف شخص.
وذكروا -وإن كان هذا غلوًا ولا نرتضي بالغلو- أن طاقيته ﵀ بيعت بخمسمائة درهم، ولكنا نقول: إن هذا من التبرك غير المشروع، وقاعدتنا أنه لا يجوز التبرك بأحدٍ كائنًا من كان إلا برسول الله ﷺ بذاته، أما ما عداه فسوف يأتي إن شاء الله بيان شيء من التبرك.
ذُكر في جنازته الضجيج والبكاء والتضرع إلى الله، والناس أخذوا يزورون قبره ﵀، ورثاه جمع من الناس، صلي عليه مرارًا، صلى عليه الشيخ محمد بن تمام مع الناس في القلعة، ثم صُلي عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، ثم صلى عليه أخوه زين الدين في سوق الخيل مرة ثالثة، ثم دفن بعد ذلك، توفي في الصباح ولم يدفن إلا قريب العصر رحمه الله تعالى.
ذكر بعضهم أنه صلي عليه صلاة الغائب في كثير من البلدان المجاورة، حتى ذكروا -وإن كان هذا فيه مبالغة- أنه صلي عليه في الصين، وفي اليمن وفي غيرها من البقاع.
1 / 10
أعداء وخصوم شيخ الإسلام ابن تيمية
من أشد الناس عداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية -أنا أذكر لكم بعض الأمثلة سريعًا، وإلا فأعداؤه كثر وأغلبهم من المبتدعة، وليس غريبًا أن المبتدعة يقفون في وجوه أئمة أهل السنة.
ممن ذكر اليافعي في مرآة الجنان في كلامه على شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إن له مسائل غريبة أُنكر عليه فيها، وحبس بسببها مباينة لمذهب أهل السنة.
سبحان الله! كل طائفة مبتدعة ترى أنها على السنة، ولكن هذا كلام باطل، وإنما كما قال الشاعر:
وكل يدعي وصلًا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
أي: ليست ليلى تعرف صاحبها، وكل الناس يتمنى أن ليلى له.
ذكر اليافعي أن من أقبح ما نقد على شيخ الإسلام ابن تيمية نهيه عن زيارة قبر النبي ﷺ، وطعنه في مشايخ الصوفية العارفين، وذكر منهم: حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، والإمام أبو القاسم القشيري، وابن عربي، والشاذلي، وخلائق من أولياء الله الكبار، والصفوة الأخيار.
سبحان الله! ذكر الغزالي في المنقذ من الضلال بعد أن بحث في المذاهب وتخبط فيها، ذكر في آخر الأمر أن أصح المذاهب وأرجحها والذي تبين له الحق فيها هو مذهب الصوفية، ولكن هذا الكلام باطل، وهو مسكين لم ير النور، وإنما رأى ظلمة فظن أنها خير، ولا شك أن هذا الكلام ليس بصحيح.
وممن ذكر كلامًا ينقد فيه شيخ الإسلام ابن تيمية عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، قال: ومن أشنع وأبشع ما نقل عنه ﵀ في حديث النزول: (ينزل ربنا ثلث الليل الآخر) كما ذكره ابن بطوطة، وقد بينا كلام ابن بطوطة أنه كلام ليس بصحيح، ونقل من مسألة شد الرحال، وغيرها من الأمور.
ومن أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا العصر أو في العصر القريب، وله تلامذة ولا زالوا: محمد بن زاهد الكوثري، نذر حياته كلها للقدح في عقيدة أهل السنة والجماعة، وكان أسلوبه ساخرًا وقحًا قبيحًا في تكلمه على شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى تلامذته، اتهم ابن تيمية رحمه الله تعالى بأنه يلعب في دين الله تعالى، وأنه يفتي بفتاوي منحرفة عن الدين، ونقل عن شيخ الإسلام عقائد فاسدة ذكرها ابن حجر الهيتمي المكي وهذا من أعداء شيخ الإسلام، وذكر نقلًا عن اليافعي قال: وهو بشر له ذنوب وأخطاء.
وذكر كذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى، وعرج على شيخ الإسلام في هذا العصر الحديث القريب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بأن أمهات العقائد التي عند ابن تيمية وابن القيم وتلامذته تنحصر بأمهات عقائد موجودة عند محمد بن عبد الوهاب، وذكر بأنها تشبيه الله بخلقه، وتوحيد الألوهية والربوبية، وعدم توقير النبي ﷺ، وتكفير المسلمين، وهي شنشنة نسمعها من قديم، ولكن الحق أبلج والباطل لجلج.
وذكر أن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى قلد فيها ابن تيمية، وهو مخترع توحيد الألوهية والربوبية الذي تفرع عنه عدم توقير الرسول ﵊، وتكفير المسلمين، ولكن كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
ذكر عن ابن تيمية كلامًا ومن ألفاظه التي يقول في ابن تيمية: كافر، مفتون، شاذ، ضال وغير ذلك، بل ذكر عن ابن القيم: المتعصب الشاذ المعتوه والوقح المزور إلخ، قاتله الله أنى يؤفك، وذكر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀ وأخف ما قال عنه: إن وصفه بالجهل والكفر إلخ.
ذُكر في رسالة لطيفة جدًا لشيخنا الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله وأمد في عمره اسمها: براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة، ذكر فيها كلامًا لطيفًا، وذكر في كلامه لـ ابن القيم الكوثري وأتباعه، من كلامهم: أن ابن القيم غبي وجاهل ومهاتر وتيس حمار ومعتوه إلى غيره قبح الله الظالمين، وذكر من كلامه في ابن تيمية قال: وقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في شتى البدع، وتكلمنا على الشيخ السقيم ما يشفي! ولا شك أن كلامه هذا كلام باطل، ورحم الله شيخنا الشيخ أحمد ابن تيمية ورضي عنه، وجعلنا ممن يستفيد من علمه وعلومه.
وختامًا: أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما نعلم، وأن يجعل ما نعلم حجة لنا لا علينا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 11
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني)
إن الذي يريد أن يطلب علمًا في مسائل الاعتقاد لابد أن يعرف قواعد وأسسًا في ذلك، حتى يسير على منهج واضح لا لبس فيه ولا غموض، ولمنهج أهل السنة والجماعة مزايا وخصائص من وسطية واعتدال ووحدة مصدر التلقي والتوقف في الأمور الغيبية، وغيرها من المزايا المبثوثة في هذا الدرس، كما تناول أيضًا أسباب انحراف أهل البدع عن المنبع الصافي والمنهج الرباني وذكر سماتهم وعلاماتهم التي بها يعرفون وعلى منوالها يسيرون.
2 / 1
فضيلة الالتزام والتمسك بالسنة
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قبل أن أبدأ بالدرس لعلي أقول للأحبة توجيهًا لهم ولنفسي.
أولًا: إن ثمرة العلم التقيّد بسنة محمد ﷺ، ولعلي لاحظت ملحوظة لطيفة، ولا بد من بيان التناصح والتوجيه فيما بيننا، أن بعض الأحبة يسارع إلى مكانه قبل أن يؤدي سنة محمد ﷺ، وأقول لكم قاعدة: كلما عظم في نفس الإنسان الحرص على تأدية سنة محمد ﷺ، كل ما يسر الله للعبد أموره، ويسر له كلما يحتاج إليه، ورفع منزلته وأعلى كلمته؛ لأن مبعث الحرص والتقيّد هو التأسي بمحمد ﷺ.
وأقول: هذه الظاهرة ليست موجودة هنا بل في كثير من حلقات العلم، ومن أعظمها حلقة شيخنا العلامة، تجد بعض الأحبة ينسى أوراد الصباح في درس الفجر، وفي المغرب ينسى السنة الراتبة، وينسى ورد المساء وغيره حرصًا منه على المكان، ويبقى الأحبة يزدحمون فلا يجد أحدهم موقعًا يصلي السنة فيه.
وبناءً عليه نحن بحاجة إلى الحرص على التأسي بمحمد ﷺ، ولعل على ضوء ما شاهدته لم أجد شخصية فيها من الحرص على سنة محمد ﷺ كشخصية شيخنا العلامة، وما أظنه نسي وردًا أبدًا فيما علمت، ولا أداء سنة، وسبحان الله! أمر هذا الرجل عجيب! وما علم بسنة ثبتت عن محمد ﷺ إلا حفظها وعمل بها مباشرة، ولهذا أبقى الله ذكره، وأعظم الله منزلته، وأصبح يشار إليه بالبنان؛ لما لسنة محمد ﷺ في قلبه من التعظيم والإجلال.
ونحن ينبغي أن نتربى على مثل هذا المنهج، وهو منهج سلفنا رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم.
وقلت: لا بد أن نعلم أن ثمرة العلم هو الأدب والسلوك، والامتثال والانقياد، وقديمًا قال سلفنا رحمهم الله تعالى: (إن نصف العلم الأدب) ليس العبرة بكثرة ما يحفظ الإنسان، أو يقرأ، وإنما الثمرة هو أن يحرص على أن يطبق ما علمه؛ حتى يكون لذلك أثرًا عظيمًا في حياة الإنسان وسلوكه.
2 / 2
قواعد مهمة في أبواب الاعتقاد
أنطلق إلى ما أود أن أنبه عليه، وسأذكر عددًا من القواعد وإن كنت لم أرتبها ترتيبًا علميًا دقيقًا يُحتاج إليه، ولكني أذكرها لكم خواطر، وأرى أن طالب العلم الذي يريد أن يطلب علمًا في مسائل الاعتقاد لا بد أن يعلمها:
2 / 3
القاعدة الأولى: الأصل في جميع الناس هو التوحيد
الأصل في الناس هو التوحيد وليس الشرك، والدليل على ذلك: أن آدم ﵊ كان على توحيد الله تعالى، وبقي آدم ﵊ وذريته على التوحيد عشرة قرون، وقد دل على ذلك حديث ورد عن النبي ﷺ وهو قدسي: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) .
فأصبح الأصل في الناس هو توحيد الله ليس الانحراف، وقبول هذا الدين، والعمل به، وبقي آدم ﵊ يبلغ دين الله لأولاده، وأولاده ساروا على ذلك حتى مضى عشرة قرون وهم على ذلك، ودليله: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل النبي ﷺ: أو يمسلمانه؛ لأن الأصل فيه هو الإسلام، والأصل فيه هو قبول هذا الدين والعمل به.
سبحان الله! لم تقتضِ حكمة الله أن يستمر الناس على التوحيد إلى أن يلقوا ربهم، وتبدأ قضية الانحراف في مسائل الاعتقاد، وأول انحراف وقع هو في قوم نوح ﵊، إذ أنه وُجد عندهم عباد صالحون كما ذكرت كتب السيرة، وورد كذلك لها أصل في الصحيح، كان منهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكانوا أهل صلاح وإيمان وتقوىً وزهد وبعد عن الدنيا، وكان الناس يحبونهم حبًا جمًا، ويفرحون إذا رأوهم أو لقوهم، فإذا شاهدهم أحد من عصرهم يجتهد في طاعة الله تعالى، ويحرص على الانقياد، وقد روي في الأثر: (إن من خير الناس من إذا رأيته ذكرك الله) إذا رأيته تعترف بتقصيرك وتفريطك في حق ربك، وإذ تراه تشعر أنه أنموذجًا فريدًا في العبادة والصلاح والتقوى.
ويقدر الله أن يموت هؤلاء في خلال شهر، وحزن الناس على فقدهم حزنًا عظيمًا، وكانت النتيجة أن جاء الشيطان فقال لهم: ألا أصنع لكم مثل صورهم؛ حتى إذا أردتم أن تنشطوا في العبادة ترونهم فتذكروا الله تعالى وتزدادوا طاعة وقربى؟ وأقول: إن هذه شبهة قد ترد في الذهن، وهذه ذكرى طيبة أن يتذكر الإنسان طاعة الله ويجتهد، ولو جاء الإنسان بمجرد العقل لقال: إن هذا العمل طيب، إذ يذكرنا الصلاح والخير والإيمان، ويمضي القرن الأول وهم على ذلك، ثم يأتي جيل بعده، فأتاهم الشيطان فقال: إن أهلكم لم يضعوا هذه الصور وهذه التماثيل إلا لأنهم يرجون بركتها ويرجون نفعها، فأخذ هؤلاء وبدأت بوادر الشرك بتوسل وبتبرك.
ويمضي هذا القرن، ثم يأتي جيل بعده فقال: إن أهلكم لم يضعوها إلا لأنهم يدعونها، ويستشفونها، ويطلبون العلاج منها وغيره ذلك، فعبدت من دون الله تعالى.
ثم كانت النتيجة أن بعث الله نوحًا ﵊ إلى هؤلاء القوم، ومكث فيهم تسعمائة وخمسين عامًا يدعوهم إلى الله تعالى.
سبحان الله! نوح ﵊ تعتبر حياته أعظم مدرسة للدعاة إلى الله تعالى، وللذين يريدون أن ينشروا توحيد الله، فإن نوحًا مكث تسعمائة وخمسين عامًا كان حصيلته: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود:٤٠] ويقال له بعد هذا الجهد الطويل: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ﴾ [هود:٣٦] .
ويقدر الله بعد هذا الجهد الذي يتعب من أجله نوح في الليل والنهار وفي السر والجهر، وفي مجتمعاتهم وفي أفرادهم، حتى أصبح القوم كلما رأوه استغشوا ثيابهم وغطوا وجوههم، لا يريدون أن ينظروا إليه، ووضعوا أصابعهم في آدانهم لا يريدون أن يسمعوا دعوته، وهم يعلمون ما عنده، ولا يريدون أن يقبلوا منه إطلاقًا، ومع ذلك يستمر ويستمر، كأنها تربية للأنبياء من بعده، ولنا نحن وللدعاة إلى قيام الساعة أننا لا نيأس من هداية أحدٍ كائنًا من كان.
إن كثيرًا من الأحبة قد ينصح أخاه أو قربيه في معصية، وترى النتيجة بعد ذلك يقطع الأمل بمجرد أن يقول له: لا تنصحني، فإني أعرف ولا أقبل منك شيئًا، وهذا نعتبره خلاف ما كان عليه أنبياء الله ورسله.
وإنا لنرى عجبًا وخوارق عجيبة في قصة نوح، كموضع هذه الديار ليس فيها بحار ولا غيرها، ولو رأينا شخصًا من الناس يصنع سفينة في الأرض المجاورة عندنا لقلنا: سبحان الله! لعل في عقله شيئًا، وما تغني السفينة في صحراء قاحلة، وفي أرض ليس فيها أنهار ولا بحار، وأصبح قومه كلما مروا ونظروا إليه سخروا منه، ولكنه إيمان النبي الموقن بوعد الله: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [هود:٣٨-٣٩] .
وينتظر نوح ﵊ متى ترسو هذه السفينة وتطفو وترتفع، ووعد الله صادق وسيكون لا محالة، ثم دعا نوح بعد ذلك على قومه: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر:١٠] وفجر الله الأرض عيونًا، وانهمرت السماء بالأمطار، وأغرقت الأرض كلها، وطفت سفينة الإيمان والتوحيد، ويُحمل فيها نوح ﵊ ومن آمن معه ومن كان من أهل التوحيد الذين ساروا على منهاج هذا النبي الكريم، ويُحمل فيها أهل الإيمان، ويُحمل فيها ما أمر الله من كلِّ زوجين اثنين.
وسبحان الله! تدرك هذا النبي شفقة الأبوة، وينادي ابنه ولم يكن مؤمنًا: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود:٤٢] وإننا بمنظارنا الواقعي الحسي المادي أن كل إنسان إذا وجد شيئًا يبحث عن أعلى موقع، فما كان من الابن إلا أن قال: ﴿سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ [هود:٤٣] ولكن نوحًا ﵊ عالم بأن الله مريد إهلاك هؤلاء ولن ينجو إلا من كان معه، قال له كلمة الموقن: ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود:٤٣] .
ولا زال نوح يتعلق بابنه وفلذة كبده، ويدعو ربه: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ [هود:٤٥] ويرد الله عليه مبينًا المنهج إلى قيام الساعة أنه لا رابطة بين أحدٍ كائنًا من كان إلا رابطة الإيمان والتوحيد: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي﴾ [هود:٤٦] وتقطع العلائق والوشائج كلها، وتبقى رابطة الإيمان وحدها، ورابطة التوحيد التي ينبغي أن نؤصلها في نفوسنا؛ لنسير على ضوء ما كان عليه أنبياء الله ورسله، وما كان عليه سلف الأمة.
2 / 4
القاعدة الثانية: براءة الصحابة من البدع
الصحابة ﵃ وأرضاهم لم يكن أحد منهم مؤسسًا لبدعة ولا لفرقة ضالة أبدًا، ولعلي إذ أرسي هذه القاعدة؛ لأبين أن بعضًا من الناس أو بعضًا من الكتَّاب، أو الوعاظ، أو المذكرين، تجده يتكلم عن ظواهر منحرفة، فيقول: ظاهرة الغلو كانت في حياة محمد ﷺ إذ قال أحدهم: لا أتزوج، وآخر: ظاهرة الإرجاء كانت في حياة الصحابة موجودة إذ قال قدامة بن مظعون قولته، ونقول: رويدك!! فإنك لم تعرف الأدب مع هؤلاء القوم.
لم يكن أحد من أصحاب محمد ﷺ مساندًا لمبتدع، ولا مؤسسًا لبدعة أبدًا، فإن أصحاب رسول الله ﷺ إذا حدث منهم شيء من التقصير أو الخطأ ﵃ وأرضاهم يوجهون مباشرة فينقادون للمنهج مسارعين، وليس كالمبتدعة يُبَين للمعتزلة ويصرون على باطلهم، ويبين للمرجئة ويصرون، ويبين لغيرهم من طوائف الانحراف ولا يقبلون دين الله مع وضوحه كالشمس، أما أصحاب رسول الله ﷺ فإنه متى وضح له فإنه سرعان ما يلتزم بما جاءه عن الله وعن رسوله.
قدامة بن مظعون ﵁ أحد الصحابة الأخيار، جلس مع الصحابة يتذاكرون القرآن، فتلوا قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [المائدة:٩٣] ويكملون الآية فقالوا: الحمد لله نحن ممن آمن، ونحن على صلاح وتقوى، وليس علينا جناح فيما طعمنا، فجاءوا بالخمر فشربوه ﵃ وأرضاهم، فعلم عمر بالخبر، وأُخبر بهذا الأمر، وأنه فهم عجيب وغريب، ثم جاء عمر بـ قدامة ومن كان معه، فقال له: اجتمع رأي الصحابة جميعًا فيهم وسألوا قدامة بن مظعون لِمَ؟ وتأول لهم الآية، فقال له عمر بن الخطاب: أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو كنت اتقيت لما شربت الخمر.
ثم قال لمن حوله من القضاة: سلوهم فإن شربوها مستحلين كفروا، وإن شربوها متأولين جلدوا، وعلم قدامة بن مظعون ﵁ وأرضاه بعد ذلك أنه قد أخطأ وعصى الله ورسوله، فماذا كانت النتيجة بعدها؟ قالوا: مكث دهرًا وهو يبكي على نفسه حتى وصل به الحد إلى أن يئس من رحمة الله، متعجبًا كيف به وهو صاحب رسول الله لا يفهم هذا الفهم، كيف يقع في مثل هذه الكبيرة العظيمة؟ أين أثر الإيمان وغيره، فجاء به عمر ﵁ مرة أخرى، ثم قال له: لا أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك الخمر؟ أم يأسك من رحمة الله؟ وتلا عليه أول سورة غافر: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر:٣] وبعدها سار على ما كان عليه سلف الأمة، وهو ما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ.
وبناءً عليه لا يمكن أن نجعل لطائفة بدعية منحرفة أن تقول: هذا هو قول أصحاب رسول الله ﷺ، أو أن الصحابة هم الذين أسسوا هذه الطائفة الضالة، أبدًا وكلا، بل لهم المنازل العليا ﵃ وأرضاهم.
2 / 5
القاعدة الثالثة: الخلاف بين الصحابة في الفروع لا في العقائد
يجب أن نعلم أن أصحاب رسول الله ﷺ قد وقع بينهم خلاف في مسائل كثيرة، في مسائل التشريع والفروع، أما مسائل العقائد ومسائل الأسماء والصفات فلم يقع بينهم شيء من الاختلاف ﵃ وأرضاهم، وقد أسسنا هذه القاعدة لكي ننطلق إلى مفهومٍ نعلم أن كل قول في مسائل العقيدة لم يكن عليه أصحاب رسول الله ﷺ نعلم بأنه مبتدع ومنحرف عن منهج الله ورسوله ﷺ، وأن هذا ليس منهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى.
كم حدث بين الصحابة من خلافٍ في مسائل الطهارة، وفي مسائل الصلاة والصيام والزكاة وفي غيرها، لكن أين الاختلاف في أصول الدين، وفي مسائل الاعتقاد وباب الأسماء والصفات؟ لم يكن ذلك موجودًا، ليعطينا أنهم كانوا على ما كان عليه محمد ﷺ، ولم يتجاوزوا ذلك أبدًا.
ويرسيها الصحابة فيما بينهم بوصايا: [من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمَنُ عليه الفتنة] ثم يذكر لنا ابن مسعود وغيره ﵁ وأرضاه ما كان عليه الصحابة ﵃ وأرضاهم معطيًا منازلهم: [أولئك أصحاب محمد، -ويصفهم بالصفات العلى- أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا وفهمًا وتصورًا، ثم يقول: اعرفوا لهم قدرًا] .
وهذا هو الواجب علينا أن نسير على ضوء ما سار عليه هؤلاء الصحابة، وأن نعلم يقينًا أنه ما حدث بينهم شيء من الاختلاف في مسائل الاعتقاد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
2 / 6
المقصود بسلف الأمة
أمر آخر وأسميه نوع تقعيد، وهو حول مفهوم نحن بحاجة إلى فهمه وتصوره، وهو قضية سلف الأمة ومن يكون سلف الأمة هؤلاء؟! إن كثيرًا من الناس يدعي أنه من سلف الأمة وعلى منهج السلف، ولكن انطلق لمعرفة هؤلاء من هم، وعند ذلك نفتخر ونتشرف بأن كنا على منهاج سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
وأصح ما ورد أننا كثير ما نسمع أن سلف الأمة هم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، ومنهم من يقول: القرون المفضلة، ونجد أن من في التابعين من عليه ملحوظات في المعتقد، وفي القرون المفضلة وجدت بعض طوائف الانحراف، ولكن التعريف الصحيح لذلك: أن سلف الأمة أولهم رسول الله ﷺ، ثم الصحابة من بعده، ثم نقول: ومن سار على ما كان عليه رسول الله ﷺ، وما كان عليه أصحابه ﵃، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ولما ذكر النبي ﷺ افتراق الأمم، وذكر أن أمته ستفترق إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، أرسى النبي ﷺ القاعدة إذ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ربطنا بنفسه ﷺ وبصحابته ﵃ وأرضاهم، وبناءً عليه: كل من كان على ما كان عليه النبي ﷺ، وما عليه الصحابة فهو يعتبر على منهج سلف الأمة، وسار على الصراط المستقيم، ويسمى الإنسان (هذا سلفي) ويقصد به: من اقتفى أثر الرسول ﷺ، وأثر الصحابة الأخيار ﵃ وأرضاهم.
2 / 7
خصائص ومزايا منهج أهل السنة والجماعة
2 / 8
الأمر الأول: الوسطية والاعتدال
مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه مذهب وسط بين الإفراط والتفريط، وانطلق إليه في كل جزئية من جزئياته، سواء في الفروع، أو الأصول، أو في مسائل الاعتقاد، أو كذلك في مسائل التأصيل تجد أنهم وسط، فهم وسط في صفات الله وسط في أصحاب رسول الله وسط كذلك في باب الإيمان وسط في باب القضاء والقدر وسط فيما هم فيه من التحسين والتقبيح إلى غيرها من مسائله الكثيرة في مسائل التأصيل وما كان عليه أولئك السلف.
2 / 9