شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل
شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل
Genres
٣ - من أدلتهم أيضا قوله ﷿ ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام:١٠٣]، قالوا: فَنَفَى الإدراكَ، ونَفْيُ الإدراك مستلزم لانتفاء الرؤية.
& والجواب أنَّ هذا غلط كبير؛ لأنَّ نَفْيَ الإدراك لا يستلزم انتفاء الرؤية، فإنَّه قد ترى الشيء ولا تدركه؛ يعني لا تحيط به، فهذه السماء نراها ولا أحد يشك في أنه يرى السماء، ولو قلت لأي أحد يرى السماء: هل تدرك السماء رؤية وتحيط بها؟
فسيكون جواب كل أحد: لا، يعني لا يدركها رؤية، وإنما يرى منها ما يمكنه أن يرى وكما قال ﷿ ﴿فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا﴾ [الشعراء:٦١-٦٢] ووجه الدلالة أنَّهُ نفى الإدراك، ومع نَفْيِ الإدراك أثبت الله ﷿ الترائي وهو رؤية كل جمع لآخر فقال ﴿فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ﴾ هذا الجمع رأى الجمع وذاك الجمع رأى الجمع ومع ذلك ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ فقال موسى (كَلَّا) يعني لن نُدْرَكْ يعني لن يُحاطَ بنا.
فنَفْيُ الإحاطة لا يستلزم أن تُنْفَى الرؤية؛ بل نَفْيُ الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية نقيض ما قالوا، وهو الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية.
الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية أنَّ نفي الإدراك ليس كمالًا، والقاعدة المعروفة أنَّ كل نفي في القرآن فكماله بإثبات ضده، فربنا ﷿ قال ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾، وذلك لكمال سعته ﷾ وكمال علوه وكمال استغناه عن خلقه، إلى غير ذلك من أفراد صفات الجلال للرب ﷿.
فلا يقال إنه لا يُدْرَك ويكون المراد كمالًا إلا وأَصْلُ ذلك ثابتًا، وهو أنه في محل من يُرَى أو في محل الرؤية.
مثال ذلك أنك لو قلتَ: إنني لم أر العقل، ولم أر الفهم، ولم أر القلب، ولم أر السمع، ولم أر الإبصار، وهكذا الصفات ولم أر الرحمة، ولم أر الرأفة، إلى آخرها، فإنَّ نفي هذه الرؤية ليس كمالًا في أنَّ هذه الأشياء تُرى، ولكنك عجزت.
لأنك متى ما قلت في شيء إنك تراه أو لا تدركه رؤيةً فإنما يكون كمالًا إذا كان في محل ما يمكن أن يُرَى.
أما الأشياء التي لا تُرَى أصلًا فإنه ليس من الكمال أن تَنْفِي الرؤية عنها.
فكونك تنفي الرؤية عن الرحمة لا يعد هذا كمالا في الرحمة، وإنما هكذا وُجِدَتْ، كونك تنفي الرؤية عن الإبصار والإدراك لا يدل على كمال فيها.
فإذًا دَلَّ نَفْيُ الإدراك عن الرب ﷿ أنَّ نَفْيَ الإدراك لأجل أنه عظيم ﷿ فإنه يُرَى، ولكنه لا يُدْرَكْ.
والإدراك ينقسم إلى قسمين:
- إدراكٌ بِرُؤْيَةٍ
- وإدراك بعلمه
والإدراك بعلم: نَفَاهُ الله ﷿ في قوله سبحانه ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠] .
وإدراك الرؤية: نفاه الله ﷿ في هذه الآية.
وهذه الآية في إدراك الرؤية لا في إدراك العلم، دلَّ عليها قوله بعد النفي ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام:١٠٣] .
فكونه سبحانه ﴿يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ يعني يراها، وخَصَّ الإدراك بإدراك الأبصار لأنَّ الأبصار هي محل نَفْيِ الإدراك السابق، فقال ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام:١٠٣]، فلما قال ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ دَلَّنَا على أَنَّ المنفي هو إدراك الرؤية لا إدراك العلم.
والأدلة التي استدلوا بها متنوعة كثيرة، لا نُشْغِلُكُم بها معروفة وهذه المسألة من أطول المسائل التي فيها الكلام، لكن دائمًا المؤمن أحق بالحجة من غيره، وفهم الحجة يكون بالأناة، تتأنى في فَهْمِ احتجاج أهل السنة، فإننا -ولله الحمد- بتجرد لا نعلم مسألة قال فيها أهل السنة قولًا واستندوا فيها إلى الأدلة، ويكون ثَمَّ فيها شبهة لا في الأصول -أصول صفات الرب ﷿ - ولا في الغيبيات بعامة؛ لأنَّ قولهم مُبَرَّأْ من الهوى، لا يدخلون متوهمين بأهوائهم ولا متأولين بآرائهم وقلوبهم، وإنما يثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة، وإنما هم مستسلمون لنصوص الوحي، كما سيأتي إن شاء الله في الدرس القادم بإذن الله تعالى.
من العجيب أنَّ الحجج عند المعتزلة يحتجون بما ذكرنا ويَرُدُّونَ حُجَجَ أهل السنة على حسب أقوالهم بتفسير النظر كما قلنا بأنها ناظرة يعني منتظرة، إلى آخر ما ذكرت لكم.
لكنهم إذا أتت السنة والأحاديث في تفسير الآيات وفي إثبات الرؤية وهي بالغة مبلغ التواتر فإنهم يشرحون ولا يستطيعون حتى الإبانة عن وجه ربها.
يعني أنهم يقلقون ولا يحسنون إبانةً ولا تَفْقَهُ لهم قولًا.
وقد سمعت كلام بعضهم، سمعته بأُذُنَيَ وقرأت كلام بعضهم أيضًا بعينيَّ فما أحسنوا جوابًا ولا خَلَصُوا إلى قول يردُّونَ به الأدلة من السنة.
1 / 137