موسوعة مسائل الجمهور في الفقه الإسلامي
موسوعة مسائل الجمهور في الفقه الإسلامي
Maison d'édition
دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
Numéro d'édition
الثانية
Année de publication
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
Lieu d'édition
مصر
Genres
موسوعة
مسائل الجمهور
في الفقه الإسلامي
هذه الموسوعة تضمنت أمهات مسائل الفقه الإِسلامي التي قال بها جمهور العلماء من أئمة السلف وصالحي هذه الأمة في خير القرون ابتداء بعصر الصحابة والتابعين وانتهاء بآخر عصر الأئمة المجتهدين
تَأِلْيف
الدكتور: محمد نعيم محمد هاني ساعي
أستاذ الفقه وأصوله - الجامعة الأمريكية المفتوحة
الولَايات المتحدَة
المجلَّد الأوَّل
دار السلام
للطباعة والنشر وَالتوزيع والترجمَة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله دائم الفضل والإنعام والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام سيدنا محمَّد وآله الطيبن وأزواجه الطاهرات وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان على الدوام من السلف الصالح والخلف العظام المبتغين وجه مولانا ذي الجلال والإكرام وبعد.
فهذا كتابنا "موسوعة مسائل الجمهور في الفقه الإِسلامي" قد شاء ربنا ﷿ أن يرى النور بعد إذ ظل حبيس الخزائن والأوراق أكثر من سبعة عشر عامًا فلله الحمد والشكر على ما أنعم وأتم.
الباعث على تأليف هذا الكتاب
لقد كنت وما زلت أعتقد أنَّ الفقه الإِسلامي هو حياة الأمة ومبعث المتقدم والتحضر فيها بل هو عندي ميزان قوتها وضعفها ومؤشر عزَّتها وهوانها ...
إن الفقه الذي أعنيه ليس كتابًا ودرسًا أو محاضرةً وندوةً ولا حتى استفتاءً وفتوى وحسب، بل هو قبل ذلك علم وعمل ومعرفة وأخلاق، وأعظم من ذلك كله دستور وقانون وحاكم وسلطان ... إنه بكلمةٍ مختضرةٍ هوية شعبٍ وكيان أمة .... إنه كتاب ناطق وسنَّة ماضية ... إن الفقه يا أحبتنا .... القرآنُ الكريمُ بسوره وآياته وعبره وعظاته، وأمره ونهيه .... إنه سنة الحبيب المصطفى ﷺ بكل ما فيها من حب ورحمة وأدب وتواضعٍ وهدًى ورشاد ....
الناقلون لهذا العلم
وإذا كان الفقه بهذا المعنى الكبير فلابد أن يتناسق حاملوه وناقلوه مع ما ذكرناه .... نعم أيها القراء الأعزاء .. إنهم العلماء والفقهاء .. إنهم ورثة الأنبياء، وطريق الأولياء .. تلقٍ وإسناد وزهدٌ وعزوفٌ وعزة واستغناء، وخضوع وإِخباتٌ ... وصدق وإباء .. إنها بعض صفات الناقلين لهذا العلم الجليل ... ولو أنك رأيت الفقه الإِسلامي وقد تخلَّفت عنه بعض معانيه التي ذكرنا أو بعض صفات حامليه وناقليه التي إليها نوَّهنا وأشرنا فاعلم أنه ليس هو الفقه الذي أراده النبي ﷺ بقوله: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" ... نعم ليس هو الفقه ذاك .. إن فقهًا تُباع به الأديان. وتشتري به الذمم أو فقهًا تُطرق به أبواب الدنيا ويتلهى به عن الآخرة. ليس هو فقه الإِسلام والدين الذي ذكره
1 / 3
ربنا ﷿ في كتابه بقوله: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢] .. وإن الفقه الذي صار قاصرًا على الحرف والقلم. وانفصل عن ميادين الحياة والذمم .. ليس هو الفقه الذي أمر به مولانا ﷾ عندما قال: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩] ...
فإذا كان هذا الذي ذكرناه قد كان بعضه أو جله ولا زال كائنًا فهل هي نهاية الدنيا وآخر الأمر؟؟ ... لا وألف لا .. إنه نور الله لابد أن يتم (١) .. وهو دينه ﷿ لابد أن يظهره على الدين كله (٢) .. وإنه التجديد في دين هذه الأمة لابد كائن (٣) ولولا هذا وذاك لما شرع قلم أو خط بنان .. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٢١].
مسائل الإجماع
لا يختلف فقيه أو عالم على أهمية الإجماع في الشريعة الإِسلامية، إذ هو ركن ركين من أركان الفقه الإِسلامي وهو في حقيقته عمود هذا الدين الذي قام عليه في قسميه العقدي والتشريعي ونحن هنا سنخصُّ القسم التشريعي. في الكلام على مواده وبعض ما يؤخذ على المشتغلين به، وأما الإجماع في قسمه العقدي. فقد إنتهينا بحمد الله وفضله من الكلام عليه وفق قواعد النظر والاستدل في كتابنا "القانون في عقائد الفرق الإِسلامية" بوضع قانونٍ يرجع إليه المختلفون في العقائد من أصحاب المقالات والفرق الإِسلامية إذا راموا وحدةً علميةً فيما بينهم تقوم على أصول هذا الدين وفق منهاج لا مجاملة فيه ولا مداهنة يعتمد على "قواطع الوحي واللغة والعقل".
الإجماع "المتفق عليه"
والإجماع الذي نعني هو الإجماع المتفق عليه الذي مهما بحثت له عن مخالفٍ من المجتهدين كثر أو قلَّ كان مشهورًا أو مغمورًا (٤) فإنك لن تجد له سبيلًا.
_________
(١) قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ...﴾ [التوبة: ٣٢]
(٢) قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ..﴾ [التوبة: ٣٣].
(٣) قال ﷺ:"يبعث الله على رأس كل قرن (أو مائة عام) من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" [أخرجه أبو داود في السنن عن أبي هريرة ﵁ بإسنادٍ صحيح].
(٤) وسواء كان هذا الخالف صاحبيًّا أو تابعيًّا أو غيرهما من سائر المجتهدين المعتبرين، وسواء كان المخالف في زمان وقوع المسألة أو بعدها بشرط أن لا يثبت إجماع صريح في زمان المسألة أو الواقعة. إذ لا يجوز في مذهبنا إذا ثبت هذا أن يُحْدِثَ أحدٌ اجتهادًا جديدًا، وهو بالاستقراء قليل ونادر.
1 / 4
وهذا الإجماع قسمان: قسم يعلمه الخاصة والعامة من المسلمين وهو المسمى عندهم بـ "المعلوم من الدين بالضرورة" كفرض الحج والصيام والصلوات الخمس والزكاة وبعض التفصيلات في تلك الأركان كوجوب الطواف والسعي والوقوف بعرفة ووجوب الإمساك في رمضان في نهاره وحل الإفطار في ليله وأن الصلاة فيها قيام وقراءة وركوع وسجود وغير ذلك، ومن هذا القبيل علم الخاصة والعامة بتحريم الزنا والربا والخمر والميسر وقذف الأعراض ونحو ذلك، ومن هذا القبيل كذلك تحريم التبرُّج وكشف العورات في الجملة ووجوب التستر والتحشُم والعفاف، فهذا النوع من الإجماع لا يحتاج لبحث أو اطلاع أو سؤال عالم أو استفتاء فقيه.
وقسم آخر من الإجماع هو في حقيقته تفصيل للقسم الأول، وهذا إنما يعرفه الخاصة من المسلمين وهم علماء الشريعة وفقهاؤها، وأما العامة ففرضهم سؤال أهل العلم واستفتاؤهم (١) ومن هذا القبيل: إجماعهم على أن القصر جائز في السفر المعتبر (٢)، وإجماعهم على بعض أنصبة الزكاة المفروضة، وإجماعهم على بعض مناسك الحج ووجوب الدماء في بعض محظوراته، ومن هذا القبيل إجماعهم على معنى التستر الذي أمرت به المرأة وهو "الحجاب" وهو ستر البدن كله ما عدا الوجه والكفين (٣)، وغير ذلك، وإنما يقل معرفه العامة في المسلمين بهذا القسم ويكثر بحسب إقبال الناس على العلم والاحتكاك بالعلماء والتلقي عنهم، وهذا في حقيقته يعكس حال أمة الإِسلام تقدمًا وتخلُّفًا، فهذه الأمة كانت أيام عزها وريادتها مقبلة على العلم والتعلم عارفة بكثير مما أجمع عليه العلماء واختلفوا فيه، ولما تخلفت وتأخرت دبَّ فيها العجز وفشا الجهل بأبسط معارف دينها ودنياها فلله الأمر من قبل ومن بعد.
الإجماع المُدَّعى
وأما الإجماع بغير المعنى الذي ذكرناه وبقسميه السابقين فقد تعددت مراتبه وكثر مدَّعوه، من ذلك فتوى الصحابي الذي لم يعلم له مخالف بين سائر الصحابة، ومن
_________
(١) يعني طلب معرفة تلك المسائل من العلماء والفقهاء؛ إذ أن مسائل الإجماع بالمعنى الذي أشرت إليه سابقًا وبقسميها المذكورين لا تحتاج لفتوى عالم أو فقيه؛ لأنها ليست محلًّا أصلًا للاجتهاد أو البحث والنظر وإنما وظيفة العلماء والفقهاء هي بيانها والدلالة عليها.
(٢) مع اختلافهم في تحديد معنى السفر الذي يجوز فيه القصر.
(٣) أما الوجه والكفَّان ففيهما خلاف مشهور. انظر كتابنا "النقاب ودعاة الاختلاط"
1 / 5
ذلك اتفاف الخلفاء الراشدين أو اتفاف أهل الحرمين أو اتفاق أهل المدينة أو اتفاق أكثر أهل العلم فكل ذلك لا يُعَدُّ إجماعًا على التحقيق في مذهبنا ومذهب جمهور أهل العلم من الأصوليين والفقهاء، وهذا النوع من إجماع المُدَّعى أكثر من الإجماع المتفق عليه الذي ذكرته أولًا وقد شكلت مسائل هذا النوع من الإجماع (أعني الإجماع المدعى) أكثر مادة "موسوعة الإجماع في الفقه الإِسلامي" للشيخ الفاضل الأستاذ "سعدي أبو حبيب". أجزل الله مثوبته مما جعل موسوعته مزيجًا وخليطًا من مسائل الاتفاق ومسائل الاختلاف، بل حتى مسائل مقطوع بالإجماع فيها. ومسائل مقطوع بالخلاف فيها وقد صرح هو حفظه الله بهذا المزج في مقدمة كتابه، إلا أنه يعاب على المصنف أكرمه الله تعالى أنه لم يلتزم بالتمييز بين المسائل التي ثبت فيها الإجماع أو صحَّ وبين المسائل التىِ ثبت فيها الخلاف المعتبر؛ بل وفي كثير من الأحيان المسائل التي اشتد فيها الخلاف.
فإن قال قائل: لكن المصنف لم يلتزم بتعريف معين للإجماع كما ذكرت، وكما بين هو فلا يصح أن ينازع فيما أدخله في كتابه في شتى أنواع الإجماع.
والجواب: أن هذا التوجيه لا يصح لأن المصنِّف حفظه الله تعالى قد فسح المجال في هامش كتابه لنقد بعض المسائل التي ادُّعِيَ فيها الإجماع لعدةٍ من الأئمة، وكان معظمها من نصيب ابن حزم الأندلسي ﵀ تعالى، ومن كتابه "نقد مراتب الإجماع" لكن الشيخ سعدي حفظه الله كما قلت لم يلتزم بهذا المنهج في كثير من المسائل التي ثبت فيها الخلاف؛ بل والخلاف الشديد في بعض الأحيان، وكان من اليسير على الشيخ أكرمه الله أن يثبت هذا الخلاف في هامش كتابه؛ لأن هذا الخلاف موجود في نفس المصدر، وفي نفس الصحيفة في بعض الأحيان التي نقل منها أو منه المسألة التي ادعِيَ فيها الإجماع (١)، وهذا عندي خلل يذهب بفائدة كبرى من فوائد تلك الموسوعة وهي التمييز بين ما لا يجوز فيه الخلاف ولا الاجتهاد، وبين ما يجوز فيه ذلك، وبين ما ليس فيه سعة للناس وبين ما لهم فيه سعة وبحبوحة يستوي في هذا الأمر الأخير العامةُ والخاصةُ، وهناك أمور أخرى تؤخذ على موسوعة الإجماع ليس هذا مجال بسطها الآن (٢).
_________
(١) انظر (يمين) (١٠) ح ٢ [ي ٩/ ٥٢٠ م ١١٣٣] وانظر (بيع) (٤٩) فقره (٢) ح١ [ب ٢/ ١٥٧ م ٤٢٥ ن ٥/ ١٤٩] وراجع مج ح ٦ ص ٣١٧. مغ ح ٤ ص ٢١٦. وانظر (مواريث (١٥١) ح ٢ [ي ٦/ ٢٨٣ - ٢٨٤].
(٢) إلا أن هذا الذي ذكرته لا يقلل من شأن الجهد الذي بذل في تلك الموسوعة بل نحن لازلنا ندعو لمصنفها ونذكره بالخير والثناء والحسن ونعترف له بالجميل، تقبل الله منا ومنه آمين.
1 / 6
أهمية اتفاق أكثر أهل العلم أو "قول الجمهور"
لقد ذكرت فيما مضى أن "اتفاق أكثر أهل العلم" لا يُعتبر إجماعًا عند أكثر الأصوليين والفقهاء، وهو كذلك. إلا أن هذا لا يقلل من شأن قولهم، بل إنه في حقيقته يعزز من مكانته ولو لم يكن لقول "الجمهور" إلا اختلاف العلماء في اعتباره إجماعًا لكفى، فكيف إذا عرف القارئ ما لقول "الجمهور" من أهمية وفضل فوق هذا الذي ذكرناه. فلا أظنه يعجب بعد ذلك من إنفاقنا الوقت والجهد والمال لتأليف هذه الموسوعة المباركة.
موسوعة مسائل "الجمهور" صلة وصلٍ بين الأصول وبين الفروع
إن المستقرأ لأحكام الشريعة يجد أنها تنقسم إلى قسمين رئيسين: أصول مجمع عليها، وفروع مختلف فيها، ويجد كذلك أن الفروع المختلف فيها تنقسم إلى قسمين: فروع أشتد فيها الخلاف (١)، وفروع ضعف فيها الخلاف (٢)، وهذا القسم الأخير يضعف فيه الخلاف ويضيق حتى يقترب جدّا من مسائل الإجماع. وقد لا يكون هذا فتبقى المسألة أقرب إلى مسائل الخلاف، وهذا هو بكل تبسيط واستقراء حال مسائل الجمهور التي قمنا بجمعها في هذه الموسوعة المباركة إنها أشبه ما تكون بالمواد الضرورية لحماية هيكل البناء أو العمران فلا هي هيكل وقواعد وأعمدة، ولا هي في الوقت نفسه تزويق أو تزيين أو كماليات للبناء لكنها بين ذلك وذاك من غير أن يستغنى واحد منهما عنها.
مسائل الجمهور وأمهات مسائل الفقه الإِسلامي
للفقه مسائل هي قوامه وأصله، عليها وعلى أساسها قام التشريع الإِسلامي، وعليها وعلى تفريعاتها جرى معظم جهد الفقهاء وأئمة العلم، هذه المسائل تُسمى عند العلماء بـ "أمهات مسائل الفقه" وهي مسائل تتناول أبواب الفقه من أولها إلى آخرها عبادات ومعاملات، وهذه المسائل في حقيقتها تمثل المادة الخام التي تشكلت منها تصورات
_________
(١) يعني تحددت في المسألة الأقوال وكثر عدد المختلفين في كل فريق.
(٢) يعني انحصرت في المسألة الأقوال وقيل عدد المخالفين للأكثرين.
1 / 7
موالإِسلام ومفاهيمه العامة، فمسائل الطهارة في أصولها من تقسيم المياه إلى طاهرة مطهرة وطاهرة غير مطهرة ومتنجسة وتقسيم الماء إلى قليل وكثير، ومسائل تطهير المتنجس من ثوب أو بدن أو مكان، ومسائل شروط صحَّة الصلاة من وضوء وغسل وستر عورة واستقبال قبلة، وتفصيلات مسائل الوضوء والغسل وما يوجبهما ويفسدهما.
أقول هذه كلها أمهات مسائل ولو ذهبت أستقصي سائر أبواب الفقه لما انتهينا إلا بوضع مصنف برمته يلتقط درر تللث المسائل ويجمع شملها، فإذا عرف القارئ أن مسائل الجمهور هي معظم أمهات مسائل الفقه الإِسلامي (١) إن لم تكن كلها وإذا عرف القارئ كذلك أننا ضممنا إلى مسائل الجمهور كثيرًا من مسائل الإجماع أو الاتفاق المتعلقة بها، فلا أظن بعد هذا أن كتابنا هذا قد ترك من أمهات مسائل الفقه إلا القدر اليسير والنادر (٢) وكتاب هذا شأنه أرجو من الله تعالى أن تتم به الفائدة ويكثر به النفع.
مسائل الجمهور ومقاصد الشريعة وكليَّاتها الكبرى
لقد استقصينا مسائل الجمهور التىِ جمعناها واستقرأنا معانيها التي تضمنتها فما وجدناها في غالبها الأغلب إلا منسجمة ومتناسقة مع مقاصد الشريعة وقواعدها وكلياتها "الكبرى" فمقاصد الحرص على التطهر والتنظف من الأدناس والأرجاس، ومقاصد التخفيف والتيسير ورفع الحرج في العبادات خاصة؛ كلها متفقة مع ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في تفصيلات تلك المسائل، ومقاصد الأمر بالتستر والتحشم وحفظ العورات وسد أبواب التعدِّي على الأعراض والأموال والدماء، ومقاصد الردع والزجر في أبواب الحدود والجنايات، أقول: كل ذلك منسجم في معظمه كما قلت مع ما ذهب إليه جمهور الفقهاء والعلماء، وقيل الأمر نفسه في سائر مقاصد الشريعة، وكلياتها ولا غرابة في هذا؛ فإنه من مقتضيات البناء الإِسلامي الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة.
مسائل الجمهور وقواعد الفقه
وإذا كانت القواعد الفقهية التي وضعها الفقهاء بعد استنباطهم لأحكام الفقه من
_________
(١) يعني في قسمه المختلف فيه.
(٢) وهذا الذي ذكرته صادق إن شاء الله تعالى، وما على القارئ إلا استعراض كتابنا هذا لتتأكد له تلك الحقيقة العلمية الكبرى
1 / 8
أدلتها التفصيلية لا تبتعد كثيرًا في روحها عن مقاصد الشريعة، فلا عجيب بعد ذلك أن تأتي مسائل الجمهور منسجمة في غالبها الأغلب مع تلك القواعد، فقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" أو قاعدة "إذا ضاق الأمر اتسع" أو قاعدة "الأمور بمقاصدها"، أو قاعدة "العادة محكمة"، وغير ذلك من قواعد الفقه الكبرى لا تذهب بعيدًا عما قال جمهور الفقهاء والعلماء.
مسائل الجمهور وأدلَّة الفقهاء في المسائل المتنازع فيها
إن المستقرأ لمسائل الجمهور والأدلة التي استندت إليها يجد أنها في الغالب الأغلب أقوى دليلًا وأظهر حجة بالمقارنة مع أدلة من خالف الجمهور من بعض أهل العلم المجتهدين وأئمته، وهذا الترجيح الذي خلصنا إليه وإن كان ترجيحًا اعتباريًّا في أعيان المسائل وتفصيلاتها، إلا أنه في ظني ترجيح صادق في جملته وعمومه، فقد يختلف أهل النظر من المشتغلين في الفقه وعلومه في المسألة الفلانية مثلًا التي قال فيها الجمهور بقول. أهو أرجح دليلًا وأقوى حجة من قول من خالفهم؟ أم أن قول غيرهم أقوى وأظهر؟ إلا أن هؤلاء الناظرين لو جمعوا مسائل الجمهور كلها الراجح منها والمرجوح لوجدوا والله تعالى أعلم أن ما رجح منها يفوق بكثير المرجوح والضعيف (١)، وقد رأيت المشتغلين بمذاهب الأئمة ونقل أقوالهم يجنحون إلى هذا الذي ذكرته أو نحوه كابن المنذر وابن رشد وابن حجر وغيرهم رحمهم الله تعالى.
" ترجيح مذهب الجمهور في الجملة" له أسبابه
ولما بحثنا عن الأسباب الكامنة وراء قوة قول الجمهور في الجملة ورجحانه، وجدنا ما تقر به الأعين وتلذُ به الأنفس، وهاك أيها القارئ الحبيب بعضها:
_________
(١) وكما ذكرت هذا الذي توصلت إليه ظنًّا واجتهادًا يبقى الباب مفتوحًا لكل باحث وناظر ليخلص إلى النتيجة التي تهتدي إليها دراسته ويطمئن إليها بحثه وما أظنه في نهاية المطاف إلا ضامًا رأيه إلى رأينا في هذا المقام، والله تعالى أعلم.
1 / 9
مسائل الجمهور وقول "أكثر الصحابة والتابعين"
أولًا: لن تجد في الغالب الأغلب قول الجمهور من الفقهاء المجتهدين في الأعصر المختلفة إلا وهو موافق لقول أكثر الصحابة أو التابعين أو قول أكثر الصحابة والتابعين معًا إذا وجد (١) لأكثر هؤلاء رضي الله تعالى عنهم قول في المسألة التي قال بها الجمهور من الفقهاء، وهذا أمر مفروع منه توصلنا إليه بالبحث والاستقراء، وهذا السبب وحده فيه من قوة الترجيح ما يعتز به الفقيه ويفخر وذلك بالنظر إلى حقيقته ومعناه.
مسائل الجمهور وبلوغ الخبر النبوي لبعض المجتهدين دون بعض
ثانيًا: إذا كان من بين أسباب الخلاف بين الأئمه المجتهدين هو بلوغ الحديث النبوي على صاحبه أفضل صلاة وأتم سلام لبعض المجتهدين دون بعض، فإنك لن تجد في الغالب الأغلب الجمهور من الفقهاء يذهبون إلى قول إلا والحديث الشريف والنص النبوي في المسألة معهم لا يتركهم ولا يتركونه، وإن فات البعض من الأئمة هذا الحديثُ فهو من نصيب غير الجمهور في الجملة والغالب الأغلب.
مسائل الجمهور وترك العمل بالخبر النبوي لمعارضة ظاهره أصلًا من أصول بعض المجتهدين
ثالثًا: وسواء كان هذا الأصل "عمل أهل المدينة" أو "القياس" أو "عموم الكتاب" أو "النص قطعي الثبوت" أو غير ذلك، فإن هناك تلازمًا في الجملة وفي الغالب الأغلب (٢) بين صحة الخبر النبوي (وسلامته من قوادح الشذوذ والعلة ومعارضة
_________
(١) فقد لا يوجد في بعض المسائل أو كثيرها قول لأكثر الصحابة أو التابعين أو لأكثرهم معًا.
(٢) من الأمثلة التي خالف فيها الجمهور ما ذكرته: مسألة إرضاع الكبير، فقد صح فيها الخبر وترك الجمهور العمل به وجعلوه من باب الخصوصيات، ومن هذه الأمثلة كذلك ترك العمل بحديث ابن عباس في زواج السيدة ميمونة في الحج، وعذر الجمهور في ذلك دخول الوهم على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وغير ذلك من النوادر التي لا تقدح في جملة ما ذكرته آنفًا.
1 / 10
الإجماع الثابت) وبن قول الجمهور، فخلاف مالك للجمهور مشهور في مسائل ترك العمل بالحديث الصحيح والذي قد يرويه هو أحيانًا ﵀ لمخالفة ظاهره عمل أهل المدينة، وكذلك خلاف أبي حنيفة ﵀ تعالى للجمهور مشهور في مسائل ترك العمل بالحديث الثابت لمعارضته عموم نص قرآني، أو غير ذلك من خلاف بعض الأئمة المجتهدين للجمهور لبعض ما ذكرته.
مسائل الجمهور والقوة الكامنة في قول الأكثر والأغلب
رابعًا: وهذا أمر تشهد له العقول، ويرتاح له النظر، وهو أن القوة في القول والسلامة في الرأي هي في الغالب في جانب الأكثر والأغلب ما دامت قضية تقبل الخطأ والصواب، وهو أمر لا ينحصر في مسائل الفقه المختلف فيها، وإنما هو أمر عام في كل مسألة أو قضيةٍ تحتمل أكثر من رأي كونها ليست من قواطع العارف ولا من ثوابت الأمور، فما جلس جماعةً من الناس يناقشون مسألة مما يصح فيها القبول والرفض، أو الإقدام والإحجام، أو الصحة والفساد، أو غير ذلك من الأضداد وانفض مجلسهم عن ذهاب أكثرهم إلى كذا، إلا رأيت المطَّلع عليهم بداهةً يذهب في الغالب إلى الوقوف عند هؤلاء الأكثرين والأخذ برأيهم إذا ما توفر في هؤلاء المجتمعين شرطان أساسان النزاهة والأهلية، فإذا عدت أيها القارئ الفطن إلى مسائل الفقه الظنية، وهي التي تقبل الاختلاف وتعدد الآراء فلن تجد الأمر يعدو ما ذكرناه في جملته؛ والله تعالى أعلم وأعز وأحكم.
عودة إلى بيان أهمية موسوعة "مسائل الجمهور"
مسائل الجمهور "والحديث الضعيف"
لقد كان موقف بعض الأئمة من الحديث الذي قصر إسناده عن إلحاقه بمرتبة "المقبول" (١) أنهم اعتبروا أمورًا لتقوية العمل بهذا الحديث والأخذ به، منها أن يقول
_________
(١) ينقسم الحديث النبوي على صاحبه الصلاة والسلام من حيث الاعتداد به في الأحكام الشرعية العملية إلى قسمين رئيسين الأول: المقبول ويبدأ بالحديث الحسن لغيره وينتهي بالمتواتر لفظًا، الثاني: المردود ويبدأ بالمرسل وينتهي بالموضوع، وبين تلك المراتب مراتب مذكورة في مظانها من كتب علم الحديث.
1 / 11
بمعناه أكثر أهل العلم وجمهورهم.
قال الإِمام النووي ﵀ تعالى: قال الشافعي ﵀: وأحتج بمرسل كبار التابعي إذا أسند من جهةٍ أخرى، أو أرسله من أَخَذَ عن غير رجال الأول ممن يقبل عنه العلم، أو وافق قول بعض الصحابة، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه. قال (يعني الشافعي): ولا أقبل مرسل غير كبار التابعين، ولا مرسلهم إلا بالشرط الذي وصفته. قال النووي: هذا نصُّ الشافعي في الرسالة وغيرها وكذا نقله عنه الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين، كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين، ولا فرق في هذا عنده (يعني عند الشافعي) بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره، هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون .. اهـ (١).
وكان موقف كثير من الفقهاء القول بمقتضى حدثنا اختلف في قبوله ورده إذا صار إلى العمل به أكثر أهل العلم، انظر ما ذكره الموفق ابن قدامة في المغني في كثير من المسائل من هذا القبيل، منها مسألة الأضراس والأسنان في أن ديتهما واحدة، مع أن دليل المسألة حديثان مختلف في قبولها وردهما. الأول كتاب عمرو بن حزم، والثاني رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (٢) قال الموفق ابن قدامة ﵀ فكان ما ذكرناه مع موافقة الأخبار وقول أكثر أهل العلم أولى .. اهـ.
وانظر مسألة أقل الطهر أنه خمسة عشر يومًا واحتجاج العلماء بالحديث الضعيف الوارد فيه لقول جمهور العلماء به. في إعلاء السنن ج ١ ص ٢٥٣.
قول الجمهور ومجتهدو أو مرجحو المذاهب الفقهية
وكذلك كان "قول الجمهور" أحد الاعتبارات التي اعتمد عليها كثير من الفقهاء المجتهدين ومرجحي المذاهب الفقهية في اعتماد قول أو ترجيح رواية، ومن هذا القبيل قول الشافعي في مسألة توريث الجد مع الإخوة: مع أن ما ذهبت إليه قول الأكثر من أهل الفقه بالبلدان قديمًا وحديثًا (٣) .. اهـ.
ومن هذا القبيل: ترجيح المزني قول الشافعي في القديم من مذهبه بجواز المسح على
_________
(١) انظر المجموع في ج ١ ص ١٠٣ وانظر كلام الشافعي في الرسالة ص ٤٦٢، ٤٦٣.
(٢) انظر المغني في ج ٩ ص ٦١٣.
(٣) انظر الرسالة ص ٥٩٦.
1 / 12
الجرموق خلافًا لقوله الجديد بالمنع من ذلك تحرزًا من انفراد الشافعي عن سائر العلماء الذين وافقوه في مذهبه القديم. قال المزني ﵀: قال الشافعي ﵁ (١): ولا يمسح على جرموقين. قال (يعني الشافعي) في القديم يمسح عليهما (قال المزنى) قلت أنا: ولا أعلم بين العلماء في ذلك اختلافًا وقوله (يعني قول الشافعي) معهم (يعني مع العلماء) أولى به من انفراده عنهم (٢) .. اهـ.
ومن هذا القبيل: ترجيح الموفق ابن قدامة إحدى الروايتين عن أحمد ﵀ باعتبارات عدة. منها أنه قول أكثر أهل العلم، ومن أمثلة ذلك: اختلاف الروايتين عن أحمد في من جنى على سنٍّ فسودها هل فيها حكومة، أم ثلث الدية (٣). ومن أمثلته: ما قاله الموفق في مسألة الموضحة في الوجه والرأس وأنها فيهما سواء وقد روى عن أحمد ما يخالف ويوافق هذا، قال الموفق: وحمل كلام أحمد على هذا (يعني التسوية فيهما) أولى من حمله على ما يخالف الخبر وقول أكثر أهل العلم (٤) اهـ.
ومن هذا القبيل: ترجيح الإِمام ابن بطال المالكي لإحدى الروايتين عن مالك رحمه الله تعالى في مسألة التكبير بعد الفراغ من التشهد الأول من حين بدء قيامه إلى الركعة الثالثة أو بعد انتصابه قائمًا قال ابن بطال: وهذا الذي يوافق الجمهور أولى (يعني الرواية الأولى)، قال: وهو الذي تشهد له الآثار .. اهـ نقله عنه النووي رحمه الله تعالى (٥).
قال الحافظ ابن الصلاح ذاكرًا بعض ما يترجح به أحد القولين للشافعي أو الوجهين للأصحاب (يعني أصحاب الشافعي في المذهب): ويترجح أيضًا ما وافق أكثر أئمة المذاهب، قال النووي: وهذا الذي قاله فيه ظهور واحتمال (٦). اهـ.
" قول الجمهور" وقاعدة "الخروج من خلاف العلماء مستحبٌّ"
نقل غير واحدٍ من الأئمة اتفاق العلماء على استحباب الخروج من خلاف العلماء في
_________
(١) يجوز الترضي عن غير الصحابة الكرام وهو هنا من باب الدعاء وأما في حق الصحابة فهو من باب الإخبار عن شهادة الله تعالى عنهم وهذا الذي ذكرته هو الذي عليه أكثر العلماء، وذكر هذا النووي وغيره.
(٢) انظر الحاوي للماوردي في ج ١ ص ٣٦٦.
(٣) انظر المغني في ج ٩ ص ٦٣٧.
(٤) المغني في ج ٩ ص ٦٤٢.
(٥) انظر المجموع في ج ٣ ص ٤٠٦.
(٦) انظر مقدمة المجموع للنووي في ج ١ ص ١١٥
1 / 13
المسائل المتنازع فيها إذا أمكن ذلك (١) فقهًا وتطبيقًا، وقد جرى عمل الفقهاء على هذا في مصنَّفاتهم رحمهم الله تعالى وهي قاعدة جليلة فيها ورع واحتياط، وفهم لمقاصد الشريعة، وأدب بين المختلفين من أهل الفقه والمجتهدين.
قال الإِمام ابن قدامة ﵀ بعد ما ذكر القولين لأهل العلم في وقت جواز صلاة الجمعة، وهما بعد الزوال وقبله قال ﵀: إذا ثبت هذا فالأولى أن لا تصلي إلا بعد الزوال ليخرج من الخلاف ويفعلها في الوقت الذي كان النبي ﷺ يفعلها فيه في أكثر أوقاته (٢) .. اهـ.
وقال الإِمام الشيرازي صاحب المهذب ﵀: قال الشافعي: وأحب أن لا يقصر في أقل من ثلاثة أيام، قال الشيرازي: وإنما استحب ذلك (يعني الشافعي) ليخرج من الخلاف؛ لأن أبا حنيفة لا يبيح القصر إلا في ثلاثة أيام (يعني مسيرة ثلاثة أيام) (٣) .. اهـ.
قال النووي في نفس المسألة: قال الشافعي والأصحاب: والأفضل أن لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام للخروج من خلاف أبي حنيفة وغيره مِمَّن سنذكره في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى (٤) .. اهـ.
وقال النووي ﵀ تعالى في مسألة ترتيب القضاء بين الفوائت من الصلوات: إذا فاته صلاة أو صلوات استحب أن يقدم الفائتة على فريضة الوقت المؤداة، وأن يرتب الفوائت فيقضي الأولى ثمَّ الثانية ثمَّ الثالثة وهكذا لحديث جابرٍ، وللخروج من خلاف العلماء الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء (٥) .. اهـ.
فإذا كان الخروج من خلاف العلماء في الجملة مستحبًّا ومطلوبًا، وسواء قلَّ المختلفون أم كثروا، فكيف إذا كان المخالفون أكثر العلماء، وجمهورهم لا شك أن الخروج من
_________
(١) يعني أن يكون في المسألة قولان للعلماء. أحدهما بالوجوب والآخر بالندب أو أحدهما بالتحريم والآخر بالكراهة، أو أحدهما بالصحة، والآخر بالبطلان، فالخروج من الخلاف في تلك الأحوال يكون بالأخذ بقولٍ يخرج من تبعة القول المخالف، فمن قال مثلًا البسملة من الفاتحة، وقال غيره ليست منها، فإن الخروج من الخلاف أن يقال ويُستحب أن يقرأ البسملة ولو بدون جهر خروجًا من خلاف من أوجب قراءتها مع الفاتحة، ومن قال غسل الجمعة واجب وقال غيره بل مندوب، فيقال: ويُستحب أن لا يترك غسل الجمعة لمن قدر عليه خروجًا من خلاف من أوجبه، وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع. وانظر نقل النووي اتفاق العلماء على استحباب الخروج من الخلاف شرح صحيح مسلم في ج ٢ ص ٢٣.
(٢) بعد الزوال هو وقت الجمعة عند الجمهور. انظر المغني في ج ٢ ص ٢١٢.
(٣) مجموع ج ٤ ص ١٩٠.
(٤) مجموع ج ٤ ص ١٩١.
(٥) انظر مجموع ج ٣ ص ٦٧.
1 / 14
خلافهم أشد طلبًا وأكثر استحبابًا، ولا يمكن معرفة هذا إلا بمعرفة أقوالهم ونقل مذاهبهم ولعل عملنا هذا أن يسهم في ذلك. وبالله التوفيق (١).
مكانة "مذهب الجمهور" عند العلماء وموقفهم منه
لا يمكن للمشتغل في الفقه الإِسلامي اشتغال الباحثين الغواصين في بحاره وبين درره ولآلئه أن يجهل أو يتجاهل مكانة قول الجمهور ومذهبهم عند أئمة الفقه وأهل العلم، ولعل هذه المكانه تبدو جليَّة للمطَّلع على كلام أهل هذا الفن ومصنفاتهم بأمور عدةٍ، منها ما ذكرناه في الصفحات الماضية ويضاف إليه أمور:
أولًا: إفراغ الوسع في عدم مخالفتهم أو الانفراد عنهم لا من قبيل المجاملة أو المداهنة، فليس في علوم الشريعة شيء من هذا أو ذاك وإنما اعتدادًا واعتبارًا بمدرك قولهم، وأدلة مذهبهم واجتماع كثرتهم على القول أو الرأي الواحد، فاجتماع عددهم مع توفر صفات العلم والتقوى والنزاهة مظنَّة الصواب والرأي السديد، وإنفراد غيرهم عنهم مظنة الخطأ والشطط والجنوح البعيد.
وكذلك كان فعل الأئمة إذا تعارضت عندهم الأدلة في المسألة ولم يتبين لهم فيها قول، فقول الجمهور لا مندوحه عنه أو التوقف في المسألة بِرُمتها.
فإذا عرفت هذا فلا غرابة أن يقول الإِمام الكبير أبو الزناد: وربَّما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيًا (٢) .. اهـ.
وهذا مالك بن أنس إمام دار الهجرة ﵀ يقول:
إن حقّا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعًا لأكثر مَنْ مضى قبله (٣).
وهذا الشافعي يحاج خصمه في مسألةِ بيع المدبر، فيحتج عليه خصمه بأن المنع من بيع المدبر هو قول أكثر الفقهاء، فيرد عليه الشافعي ﵀ بقوله:
بل قول أكثر الفقهاء أن يباع، فيحتج الخصم أن أهل المدينة لا يقولونه، فيرد عليه
_________
(١) انظر كلام الإِمام السيوطي على قاعدة "الخروج من الخلاف مستحب" في كتابه (الأشباه والنظائر) وشروط العمل بهذه القاعدة، وكتابه هذا نفيس في بابه وهو فن أو علم قواعد الفقه ص ١٣٦.
(٢) انظر فتح الباري في ج ٢٦ ص ٣٦.
(٣) رواه ابن وهب عنه. انظر مقدمة المدونة للإمام مالك.
1 / 15
الشافعي بذكر من يقول من أهل المدينة ومكة والعراق ببيعه ثم يقول ﵀:
وقول أكثر التابعين ببيعه فكيف ادعيت فيه الأكثر والأكثر ممن مضى عليك،. مع أنه لا حجة لأحدٍ مع السنة (١) .. اهـ.
ثانيًا: الاعتناء بنقل أقوال الجمهور ومذاهبهم، فقل أن ترى مصنفًا في فقه المذاهب إلا وصاحبه مهتم بنقل قول الجمهور في المسائل التي فيها قول، ابتداءً بالإمام الكبير أبي بكر ابن المنذر النيسابوري في القرن الثالث الهجري وانتهاءً بما يعلمه الله تعالى من عمر هذه الدنيا وبقاء علوم الفقه والشريعة، ومرورًا بالإمام الماوردي وابن عبد البر وابن رشد والقرطبي والقاضي عياض والخطابي والبغوي وابن قدامة والنووي والحافظ ابن حجر العسقلاني والبدر العيني والشوكاني وغيرهم كثير وكثير رحمهم الله تعالى وحشرنا في زمرتهم آمين.
ثالثًا: قد ذكرت فيما مضى تنويهًا اختلاف الأصوليين والفقهاء في الاحتجاج بقول جمهور العلماء، أو بانعقاد الإجماع مع مخالفة العدد اليسير من الفقهاء، فالذي عليه جمهور الأصوليين والفقهاء: أن الإجماع لا ينعقد ولو مع مخالفة المجتهد الواحد الموجود في عصر الأكثرين، وهو مذهب جماهير أصحاب أئمة المذاهب الأربعة، وذهب الغزالي ﵀ إلى غير هذا، قال ﵀: والمذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل.
ونقل الآمدي مذهب الغزالي عن محمَّد بن جرير الطبري وأيي الحسين الخياط، وألمح إلى هذا الشيخ أبو محمَّد الجويني والد إمام الحرمين، لكن مراده والله تعالى أعلم إجماع الأكثر مع عدم العلم بالأقل الذي خالف، قال ﵀ تعالى: والشرط أن يجمع جمهور تلك الطبقة ووجوههم ومعظمهم، ولسنا نشترط قول جميعهم، وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم نسمع به فإن السلف الصالح كانوا يعلمون ويتسترون بالعلم (٢).
ونقل عن ابن الحاجب أن إجماع الأكثر حجة، ولكنه ليس إجماعًا، وحكى الآمدي أن المخالفين للأكثر إذا بلغوا عدد التواتر قدح في الإجماع، وإلا فلا، وذكره بعضهم عن ابن جرير في الصحيح من معنى قوله في هذه المسألة، وقيل: إجماع الأكثر أولى وليس
_________
(١) انظر معرفة السنن والآثار في ج ٧ ص ٥٢٨.
(٢) قال: كذا بالأصل ولعلَّ صوابه بالعمل أو بالخمول. قلت: ومعنى العبارة أن السلف ﵃ كانوا يكرهون التظاهر والاستعلان بالعلم خوفًا من المباهاة والتنافس على الدنيا والرياء
1 / 16
حجة، وقيل: يقدح مخالفه الاثنين فما فوق دون الواحد، وقيل غير ذلك (١).
حديث "إذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم"
استشهد بهذا الحديث من يقول إن اتفاق الأكثر حجة يجب المصير إليه وأوردوه في كتبهم ونوزع في دلالته وفي إسناده، وأنا أذكر أصل الحديث وما قيل فيه، وما جاء في معناه من الأحاديث والآثار.
أخرج أحمد في مسنده وابن ماجه وصححه السيوطي في الجامع الصغير عن أنس بن مالك ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالٍ فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم" (٢).
قال الإِمام المناوي ﵀: أي فعليكم بالسواد الأعظم من أهل الإِسلام أي الزموا متابعة جماهير المسلمين، فهو الحق الواجب، والفرض الثابت الذي لا يجوز خلافه، فمن خالف مات ميتهً جاهليةً .. اهـ.
وأخرج أحمد في مسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خطب الناس بالجابية فقال: إن رسول الله ﷺ قام فينا بمقامي فيكم فقال:
"أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد، ألا فمن سَرَّهُ بَحْبَحَةُ الجنة فليلزم الجماعة، فإنَّ الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأةٍ فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرَّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن".
استدل به الشافعي ﵀ على حجيَّة الإجماع (٣). قلت: ولو استدل به على حجية قول الجمهور لم يكن بعيدًا بل قد يكون قويًّا؛ لأن الجماعة المعنية بالحديث ليست الكل، وإنما الأكثر والأغلب والسواد الأعظم دلَّ عليه قوله ﷺ: "وهو من الاثنين أبعد" إلا أن هذا الحديث وشبهه محلُّهُ في أصول الدين والشرائع لا في الفروع، وقد بينَّت هذا أشد توضيح في كتابي "القانون في عقائد الفرق الإِسلامية" والله الموفق لا رب سواه.
_________
(١) انظر في هذه المسألة إرشاد الفحول ص ٨٩ شرح مراقي السعود للشنقيطي في ج ٢ ص٧٩ روضة الناظر لابن قدامة ص ٧١.
(٢) انظر الجامع الصغير وشرحه فيض القدير في ج ٢ ص ١٣٠٢ رقم (٣٩٥٠).
(٣) انظر مسند أحمد ج ٢٢ ص ١٦٨ وانظر الرسالة للشافعي ص ٤٧٣، ٤٧٤ وانظر تخريج أحمد شاكر للرسالة ص ٤٧٥
1 / 17
وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال "اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة؛ فإن الله ﷿ لن يجمع أمتي إلا على الهدى" أخرجه أحمد والترمذي وذكره السيوطي في الجامع الصغير وصححه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وله شواهد عند الترمذي (١).
وأخرج أحمد في المسند عن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفي (الصحابي ﵁) وهو محجوب بالبصرة، فسلمت عليه. قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان. قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة. قال (يعني عبد الله بن أبي أوفي): لعن الله الأزارقة لعن الله الأزارقة. حدثنا رسول الله ﷺ أنهم كلاب النار. قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بل الخوارج كلها.
قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم، قال: فتناول (يعني عبد الله بن أبي أوفي) يدي فغمزها غمزةً شديدةً ثم قال: ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته، فأخبره بما تعلم، فإن قَبِلَ منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه. قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات .. اهـ.
قلت: وهذه الأخبار وشبهها كلها كما قلت في الأصول لا الفروع، وقصدنا بذكرها التنبيه على هذا، وإن كان جوهر معناها لا يبعد عما نحن فيه من باب الاستئناس لا الاعتماد والاستقلال. والله ولي التوفيق.
مستند النقل عن الجمهور
ليس لآحاد الناس في هذا الزمان أن ينسبوا إلى الجمهور من فقهاء الإِسلام وأئمته قولًا أو رأيًا هكذا بالتشهِّي، أو بالتخمين، وسواء كان هؤلاء الآحاد خاصةً أو عامة؛ لأن الأمر في هذا من باب الإخبار، والخبر لابد فيه من تحري الصدق وخاصةً إذا كان نقلًا عن أكابر الأمة وصالحيها، فإذا ثبت هذا فإن النقل عن الجمهور له طريقان، أحدهما قوي، والآخر ضعيف.
أما القوي: فهو إسناد العهدة إلى من عرف من العلماء بالأمانة في النقل والاطلاع
_________
(١) انظر فيض القدير ج ١ (١٥٠ - ١٥١) وانظر الترمذي ج ٧٦ ص ٣٨٦، وذكر الحديث صاحب الجامع الكبير من قصة طويلة ج ٢/ ٥٦٠، وانظر مسند أحمد ج ٢٣ ص ٤٧ رقم ١٠٥
1 / 18
على أقاويل الفقهاء ومذاهبهم، حتى صار عمدة في هذا الباب عند الموافق والمخالف كالنووي وابن قدامة وغيرهما رحمهم الله تعالى جميعًا.
وكلما اقترب زمان هذا العالم الأمين المطلع الناقل من زمان أصحاب المذاهب والأقاويل الفقهية كلما كان النقل أثبت، وكلما كانت النسبة إلى جمهورهم أقوى وأجود.
وأما الطريق الآخر الضعيف: فهو الاجتهاد في هذا الزمان بإفراغ الوسع وبذل الطاقة في البحث والاطلاع على تلك الأقاويل والمذاهب التي بلغنا علمها وَوَصَلنا ذِكْرهَا في المطبوع من المصنفات والمؤلفات الفقهية التي اشتهرت بذكر المذاهب الفقهية، وأعني بتلك المصنَّفات والمؤلفات: القديم منها الذي يرجع إلى أقرب زمان لأصحاب المذاهب الفقهية والأئمة المجتهدين، وهذا الزمان ينتهي عندي بالاطلاع والاستقراء بالإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري، والمتوفى عام (٨٥٢ هـ) فكل من جاء بعده رحمه الله تعالى وذكر مذاهب الفقهاء وأقاويلهم إنما نقل عنه أو عمن قبله، وسواء صرّح هؤلاء الناقلون في كثير من الأحيان بذلك أو لم يصرحوا في بعض الأحيان، وهذا الطريق الضعيف لا يصح في طريقة نقله إلا أن يقال: أكثر من بلغنا قوله من أهل العلم أو الفقهاء احتياطًا وورعًا.
وإنما قلنا إنه طريق ضعيف؛ لأنه نقل وإثبات للمعلوم والموجود في زماننا فقد يكون ما غاب عنا علمه من أقاويل الفقهاء ومذاهبهم في نفس المسألة ما يقدح في نسبه هذا القول أو غيره إلى أكثر العلماء أو جمهورهم.
مستندنا في هذه "الموسوعة المباركة" (١)
لقد كان مستندنا في هذا الكتاب الجديد "موسوعة مسائل الجمهور" جُلُّهُ من الطريق الأول القوي، ولم نذكر فيه من المسائل من الطريف الثاني. إلا الشيء اليسير الذي لا يكاد يُذكر لقلته بالنظر لعدد المسائل كلها التي تضمنتها هذه الموسوعة، وقد نبَّهنا على تلك المسائل بذكر ما يوضِّح أنها من اجتهادنا وبضاعتنا ولقد جرى لنا بتوفيق الله كثير من تلك المسائل ما أبهج لساننا بالشكر والحمد لربنا ذي الفضل والإنعام، فقد
_________
(١) وكيف لا تكون هذه الموسوعة مباركة وليس فيها إلا مبارك ابن مبارك. أصحاب رسول الله ﷺ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
1 / 19
اجتهدت في بعض مسائل الكتاب في نسبتها إلى الجمهور مع التنبية على ذلك، ثم كان أن اطلعت على بعض المراجع والمصادر القديمة فوجدت المسألة مذكورةً بالتصريح بنسبتها إلى الجمهور، فحذفت ما يفيد أنها من اجتهادي ونسبتها إلى قائلها ممن صرح بأنها قول الجمهور، فكانت سعادةً ما بعدها سعادةً، وفرحةً ما بعدها فرحة أن صار لي بفضل الله ورحمته من الأنس بأقوال العلماء ومذاهبهم وأُلْفِ كلامهم ما جعل اجتهادي في نسبة القول إلى أكثرهم أو جمهورهم يقرب من الحقيقة أو يصييها، فحمدًا لله تعالى أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وسرًا وجهرًا.
مستندنا من الطريق الأول
لقد ذكرنا أن مستندنا في هذه الموسوعة كان جله من الطريق الأول، وذكرنا هناك أنه كلما اقترب زمان الناقل من زمان الأئمة المجتهدين كلما كان أثبت وأجود وأقوى، وهذا ما فعلناه بحمد الله تعالى في عملنا هذا، فقد فتشنا عن أقرب هؤلاء الناقلين رحمهم الله تعالى إلى زمان الأئمة والفقهاء المجتهدين مع التحري عن الأمانة والنزاهة والإنصاف والاطلاع الواسع والدقة في النقل، فوجدنا جماعة من هؤلاء الأفاضل والعلماء الكبار جعلناهم العمدة في هذه الموسوعة، وجعلنا ما سواهم أنسًا وعضدًا وهذا ذكرٌ مختصرٌ لهم رتبناهم حسب أسنانهم (١) أدبًا رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
الإِمام الكبير أبو بكر بن المنذر
قل أن ترى إمامًا من بعد القرن الرابع الهجري يذكر الفقه ومذاهبه إلا وهو ينقل عن هذا الجهبذ الكبير محمَّد بن إبراهيم ابن المنذر أبي بكر النيسابوري شيخ الناقلين لمذاهب الفقهاء وأقاويلهم، وُلد قريبًا من منتصف القرن الثالث. وتوفي في العقد الثاني من القرن الرابع (٢) له تصانيف كثيرة لا يوجد منها إلا شيء يسير أهمه بعض كتابه "الإشراف على مذاهب أهل العلم" والذي جعلناه بعض أهم مصادرنا في هذه
_________
(١) يعني أعمارهم "واحدها" "سن".
(٢) ذكر بعض المترجمين أنه ولد عام توفي الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وتُوفي حسب ما حققه الذهبي وأقره التاج السبكي وغيره عام (٣١٨ هـ).
1 / 20
الموسوعة، أجمع المترجمون لهذا الإِمام الجليل على سعة اطلاعه وأمانته ونزاهته ودقة نقله حتى صار عمدةً في شيئين أحدهما أعظم من الآخر، الأول: حكايته الإجماع، والثاني: نقل مذاهب الفقهاء وخاصةً مذهب الجمهور والعامة منهم، مع تحفظنا على بعض الناقلين عنه لبعض مسائل الإجماع؛ فقد ثبت لدينا أن بعضها لا يسلم من وجود المخالف المعتبر خلافه (١) وليس على ابن المنذر رحمه الله تعالى في هذا مأخذ، فقد كان دقيقًا في عبارته التي يستعملها ويصدر بها نقله للإجماع وغيره، فهو يقول: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وأجمع أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم" "وأكثر من نحفظ عنه من أهل العلم" "وبه يقول عوام أهل العلم، ولا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهم، وهذا قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم. وغير ذلك من العبارات التي تترك مكانًا ولو صغيرًا لمن قد يثبت خلافه ممن لم يصل علمه لابن المنذر رحمه الله تعالى، فإذا قال ﵀ أجمع أهل العلم، فعضَّ على ذلك بالنواجذ في الغالب، والله تعالى أعلم، رحمه الله تعالى ابن المنذر وجزاه عنا وعن الإِسلام خير الجزاء.
قاضي القضاة الإِمام الكبير أبو الحسن الماوردي (٣٦٤ هـ - ٤٥٠ هـ)
لا أظن أن أحدًا قرأ لهذا العَلَم الكبير إلا وشُغف به حبًّا ﵀، وكأنه موسوعة في الفقه والأخلاق معًا، ولِمَ نقول كأنه بل هو كذلك ولا نزكِى على الله تعالى أحدًا، فهو عمدة في نقل مذاهب الفقهاء عامة وجمهورهم خاصة وقيل الأمر نفسه في حكايته الإجماع، وحكاية أقاويل من شذَّ عن جمهور أهل العلم وعوامهم مع القصد في تخطئة المخالفين والأدب الجم في حكاية أقاويلهم وأدلتهم وهو منفرد مستقل بالنقل عن الأئمة والفقهاء صاحب إسنادٍ ورواية، ناقدٌ للأخبار والآثار، خبير في مذهب الشافعي ونصوصه، بحر في معرفة المذاهب والآراء، صاحب إنصاف وأمانة، هو عندي أجلُّ وأقدم من اعتنى بنقل مذاهب الفقهاء وأقاويلهم بعد ابن المنذر قرأ ودرس وصنَّف
_________
(١) انظر موسوعة الإجماع (ج ١ ص ٣٤٤ فقرة (٢٤) سرقة). فقد نقل صاحب الموسوعة عن ابن المنذر الإجماع على أن سرقة العبد الصغير توجب القطع، ومع أن صاحب الموسوعة نقل قريبًا من عبارة ابن المنذر في أنه إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم، ومصدره في ذلك المغني لابن قدامة، والمحلى لابن حزم، إلا أنه أثبتها في موسوعته على أنها من مسائل الإجماع دون ذكر لمن خالف فيها مع وجود خلاف أبي يوسف ﵀ صاحب أبي حنيفة وهو مذكور في المغني نفسه. انظر مغني في ج ١٠ ص ٢٤٥.
1 / 21