موضوع النزوع
يتناول مبحث النزوع الإقدام والإحجام، ماذا أفعل وكيف أسلك كفرد في سياق ظروفي الشخصية الخاصة لكي أؤدي بنجاح دوري ككائن اجتماعي عاقل يسعى إلى الامتياز.
من البديهي أن نتائج أفعالنا ليست خاضعة لإرادتنا خضوعا تاما؛ غير أن ميلنا إلى الفعل على نحو معين دون الآخر، وسعينا نحو مجموعة من الأهداف دون الأخرى هما في قدرتنا ومن اختيار إرادتنا. وعلى الإنسان أن يحسن هذا السعي وذاك الميل، وليس عليه أن يضمن النتائج، ما دام أمر النتائج متوقفا على عوامل أخرى ليست جميعها تحت إمرتنا وسيطرتنا. يقول الشاعر العربي في هذا المعنى:
وعلي أن أسعى ولي
س علي إدراك النجاح
ويضرب إبكتيتوس مثالا لذلك عملية الرمي بالقوس والسهم. إن الرامي يريد أن يصيب بسهمه صميم الهدف، غير أن هذه النتيجة المثالية تتوقف، إلى جانب إجادة الرمي، على عوامل أخرى ليست تحت سيطرته، فقد ينحرف السهم عن مقصده قليلا بفعل حركة الريح، وقد تنزلق أصابع الرامي، وقد ينكسر القوس ... إلخ. يقصر الرامي الرواقي اهتمامه على إجادة الرمي، ولا يبتئس البتة إذا خابت رميته ولم تصب الصميم. كذاك الأمر في الحياة بصفة عامة؛ يرى الإنسان غير الرواقي أن نجاحه في الحياة هو في أن يصيب الهدف . أما الرواقي فيرى أن نجاحه هو في أن يجيد الرمي.
لهذا الفرق الدقيق في التوجه الحياتي متضمنات سيكوباثولوجية هائلة، إن إصابة الهدف غير مضمونة مهما تصدق الجهود؛ ومن ثم فإن الإنسان غير الرواقي عرضة للإحباط والاضطراب، وحتى إن حالفه الحظ مرة ونال مراده، فإنه يظل مرتهنا للحظ وتحت رحمة الظروف ويظل طائف الخيبة يلازمه ويؤرقه. إنه من وجهة النظر الرواقية مريض حتى لو أمهلته الأعراض حينا وهادنه الحظ.
ويذهب إبكتيتوس إلى أن الأفعال القويمة إنما تقاس بالعلاقات التي ترتبط بها: علاقة الأخوة، الأبوة، البنوة، الصداقة، الزوجية، الجيرة، المواطنة، الزمالة، المهنة ... إلخ. يقول إبكتيتوس: «العلاقات تحدد الواجبات. «هو والدك» تعني أن عليك أن ترعاه وتذعن له في كل أمر، وتحتمله إذا أهانك أو ضربك. - «ولكنه أب سيئ.» - حسنا، وهل لديك أي حق طبيعي في أب جيد؟ كلا، بل في أب فحسب. - «أخي يسيء إلي.» - احرص إذن على أن تحفظ العلاقة التي تربطك به. ولا يهمك ما يفعله هو، بل ما يجب عليك أنت فعله إذا كانت غايتك أن تظل منسجما مع الطبيعة. فما كان لأحد أن يضرك ما لم ترد أنت ذلك. إنما يقع الضرر إذا افترضت أنت أنك أضرت.
كذلك إذن سوف تعرف واجبك من علاقتك: بالجار، بالمواطن، بقائد الجيش. إذا أنت اعتدت أن تتأمل العلاقات» (المختصر، 30).
إن الأفعال التي نتخذها يجب أن تكون مدفوعة بالواجبات المحددة التي علينا الاضطلاع بها وفقا لموقعنا وعلاقاتنا بالآخرين وأدوارنا التي تبنيناها في تعاملاتنا مع المجتمع الأوسع. وإن مصلحتنا في العيش الهانئ ككائنات عاقلة تقتضينا أن نسلك السلوك الفاضل وأن نتحلى بالصبر والرفق والعدل وصفاء النفس ولين الجانب، والشجاعة إذا اقتضى الأمر، و«حيثما تخليت عن أي من هذه المبادئ، فإنك تعاني الخسران في الحال، ليس خسرانا من الخارج بل خسران صادر من الفعل نفسه» (المحادثات، 4-12).
Page inconnue