تمهيد
1 - ما بعد الحداثة
2 - القيم ما بعد الحداثية
3 - التجربة الجمالية ما بعد الحداثية
4 - نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار)
ملحق ختامي
تمهيد
1 - ما بعد الحداثة
2 - القيم ما بعد الحداثية
3 - التجربة الجمالية ما بعد الحداثية
4 - نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار)
ملحق ختامي
دروب ما بعد الحداثة
دروب ما بعد الحداثة
تأليف
بدر الدين مصطفى
تمهيد
لم يكن مفهوم ما بعد الحداثة في بداية ظهوره يحيل إلى موقف نظري محدد أو نسق قيمي ما يكشف عن وعي بتحولات جذرية مر بها المجتمع الغربي، بقدر ما كان يصف بعض التغيرات الفنية التي تمثلت في معمار فانتيري وجونسون، وموسيقى كايج وفن وارهول ورستشبرج، وروايات بنشن وبالارد، وأفلام مثل «المخمل الأزرق»
Blue Velvet (1986م) وميتركس
Matrix (1999م).
لكن هذه التحولات سرعان ما أخذت تبحث عما يمكن أن يمثل شكلها الواعي، ليوحدها نظريا، ويؤسسها فلسفيا. وقد استطاعت أن تجد في فلسفة كل من نيتشه وهيدجر ما يمكن أن يكون تأصيلا لحركتها. إلا أن منظري ما بعد الحداثة، على اختلاف مشاربهم، ظلوا متمسكين بالتمييز بين صيغتين متباينتين لما بعد الحداثة؛ صيغة وصفوها بالصيغة «القوية» اعتبروا أنها تمثلت في القراءة ما بعد البنيوية لنيتشه، وصيغة نعتت ب «الرخوة» اعتبروا أنها انحدرت من القراءة التأويلية لهيدجر. وقد اعتبروا أن الصيغة الأولى صيغة تفكيكية تركز على نقد نظرية المعرفة الخاصة بحركة التنوير، بينما تركز الثانية على إعادة التركيب وعلى محاولة بناء نسق بديل للقيم. وعلى الرغم من هذا التباين «المفتعل»، فإنه يمكننا أن نرد أسس ما بعد الحداثة إلى نظرة إلى الزمان ومفهوم عن تولد المعنى نجد أسسه في جينيالوجيا نيتشه ونزعته المنظورية التي تبدي نفورا كبيرا من كل نزعة شمولية، وترفض إمكانية استناد المعرفة إلى أية «حكاية كبرى».
من هنا كان النقد اللاذع الذي تعرض له مفهوم التمثيل عند هؤلاء، ورفضهم القوي أن تتمكن نظرية بعينها من عكس غنى الواقع، وعدم قبولهم بأن يكون وراء المعرفة ذات إنسانية عقلانية موحدة، ووراء المجتمع قوة موحدة وتماسك يربط أجزاءه «فلا عجب إذا أن تحل مفهومات التعددية والاختلاف والانفصال والتشظي عند هؤلاء محل مفهومات العلية والوحدة والاتصال.»
1
وقد مثلت هذه المفاهيم انقلابا على الفكر الحداثي الشمولي وتوصيفا لواقع متشابك لا تحكمه قواعد منطقية، بل تحكمه الصيرورة، وأحيانا الفوضى الخلاقة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز
G. Delueze .
نحاول عبر هذا الكتاب أن نعرض لأهم الأسس الفكرية التي تأسس عليها المشروع الغربي ما بعد الحداثي، فنرصد في الفصل الأول الظروف والتحولات المجتمعية التي أدت إلى ظهور إطار فكري مختلف عن ذلك الذي كان سائدا في مرحلة الحداثة، التي يؤرخ لها بالفترة الممتدة من القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن العشرين. كما نسعى في الفصل الثاني إلى التأصيل النظري لما بات معروفا باسم حركة ما بعد الحداثة؛ وذلك عبر تتبع مصادرها الفكرية ومبادئها التي انطلقت منها. وفي الفصل الثالث، الذي يحمل عنوان التجربة الجمالية ما بعد الحداثية، نرصد تجليات ما بعد الحداثة في الفنون المختلفة. ثم ننتقي في الفصل الرابع أربعة نماذج مختارة من فلاسفة ما بعد الحداثة، كان لهم التأثير الأكبر في بلورة أفكار تلك الحركة؛ رولان بارت، وميشال فوكو، وجيل دولوز، وجان بودريار. ثم نختم هذا الكتاب بترجمة لنص من النصوص المهمة التي قدمت رصدا وشرحا متميزا لتلك الحركة، وهو نص للمفكر المصري الأمريكي إيهاب حسن بعنوان سؤال ما بعد الحداثة.
الفصل الأول
ما بعد الحداثة
الدوافع والمنطلقات
تحولت ما بعد الحداثة
منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى مفهوم إشكالي حاضر باستمرار، وإلى ساحة صراع للأفكار المتناقضة والقوى المختلفة لا يمكن بحال تجاهلها. وبحسب ناشري مجلة «بريسي
»، فإن «ثقافة المجتمع الرأسمالي المتقدم قد خضعت لنقلة حاسمة من حيث بنية المشاعر فيها.»
1
وهذه النقلة لزمتها بطبيعة الحال نقلة أخرى على الصعيد الثقافي يلخصها هويسنز
Hyssens
قائلا: «إن ما يظهر الآن [على الساحة الثقافية] إنما هو في الحقيقة نتاج تحول ثقافي تراكم ببطء في المجتمعات الغربية.»
2
وهو تحول نجح مصطلح «ما بعد الحداثة» في إضفاء صيغة مفهومية عليه. هذه التحولات ومدى عمقها هما بالتأكيد موضع نقاش، إلا أن التحولات نفسها هي أمر واقع فعلا، يشهد عليها تغير الوقائع والمناهج والنظريات. وكما يقول جيمسون
F. Jameson «ما بعد الحداثة ليست مجرد كلمة أخرى لوصف أسلوب معين، وإنما - على الأقل - مفهوم له وظيفة زمنية يربط بين ظهور نوع جديد من الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادي جديد.»
3
سنحاول في هذا الفصل تتبع الظروف والعوامل التي أدت إلى ظهور نمط فكري جديد، له خصائص مميزة، أدت إلى وصفه ب «الفكر ما بعد الحداثي». لهذا سنقف عند دوافع ومنطلقات تلك الحركة، محاولين تحديد المقصود بما بعد الحداثة وما بعد التحديث والشرط ما بعد الحديث ... إلخ.
Demolition of Pruitt-Igoe (1972). (1) ما بعد الحداثة: النشأة والمصطلح
بدأت إرهاصات ثقافة ما بعد الحداثة في العالم الغربي كانعكاس مجتمعي من نقطة الوعي بمشكلات الحداثة، وعدم مقدرتها على مسايرة الواقع بشروطه الجديدة، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. والحال أننا لا بد أن نقرأ ما بعد الحداثة في ضوء مبررات ولادتها في أرضها الأم بوصفها انعكاسا لهذه الشروط الجديدة (الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية) في المجتمعات الغربية، وهو ما يكرس خصوصية الظاهرة بحكم نشأتها في الغرب تحديدا. ومن ثم لا ينبغي بالضرورة خضوع المجتمعات الأخرى التي لم تمر بتحولات مشابهة لهذا النمط من الفكر الجديد. يجب إذا النظر إلى تلك الثقافة باعتبارها نتيجة طبيعية لما مر به الغرب من تناقضات وانقسامات في الأيديولوجيات الحداثية، لا سيما في علاقة المركز بالهامش وما نشأ عنها من قيم الاستغلال والاستعمار، وغياب المساواة، وسيطرة النخبة ... إلخ. ومن ثم من الطبيعي أن تنشأ، كنوع من ردة الفعل، اتجاهات مضادة، تنادي بسقوط الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى، ونهاية الميتافيزيقا، وتطالب بالخروج عن كل قياس معياري، وترسيخ مبدأ الانتماء الفردي، وربما تشيع أيضا ملمح الثقافة السلعية الاستهلاكية، ورفض مقولات وفرضيات عصر التنوير، وخطاب الحداثة المتمثل في الإيمان المطلق بالعقلانية الشمولية.
4
وعلى الرغم من خصوصية الظاهرة ما بعد الحداثية، انطلاقا من أن كل مجتمع يفرز شكله وقيمه الأكثر ملائمة له، عبر احتياجاته وشروط وجوده وتحولاته الراهنة ؛ فإن هذه الخصوصية تتلاشى أمام سطوة ونفوذ «وسائل الإعلام» وثورة الاتصالات، بالإضافة إلى التأثير الذي تمارسه الفنون المختلفة، لا سيما السينما، بحيث بات التأثر بمظاهر ونتاجات «ثقافة ما بعد الحداثة» من قبل المجتمعات «ما قبل الحداثية» أمرا واضحا ومستشريا على كافة المستويات. هذا فضلا عن أن المقارنة واردة أصلا بين قيم المجتمع «ما بعد الحداثي» وقيم المجتمعات «ما قبل الحداثية»؛ يقول جياني فاتيمو
G. Vattimo : «إن الثقافة الغربية مع نهاية الحداثة يسودها خطاب ميتافيزيقي (خطاب التكنولوجيا)، وهي بذلك ليست أفضل من الثقافات ما قبل الحداثية التي يسودها خطاب الأسطورة، وهي بهذا المعنى تهمش الإنسان وتقهره تماما كما تفعل مجتمعات الجنوب بإنسانها المهمش.»
5
على كل، فإن مراجعة سبل التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهو موضوع ربما نوقش كثيرا في الغرب، أمر ضروري لفهم كيف يشكل توجه بعينه إلى المستقبل مواقفنا واختياراتنا في المرحلة التاريخية الحالية. وربما هذا الفهم يتطلب أيضا التوقف عند مفاهيم التحديث وما يخص التقدم والتطور التاريخي من أفكار. وهذا ما سنحاول أن نعرض له تفصيلا. (1-1) هل استنفدت الحداثة شروط وجودها؟
المتأمل في تاريخ الفكر الغربي منذ بدايات عصر النهضة وحتى منتصف القرن العشرين يلاحظ أن هناك معالم ثابتة حكمت تطور هذا الفكر، وظلت هي المحرك والدافع لمعظم أشكاله. هذه المعالم اعتبرها البعض «شرط الحداثة»
La condition modernisme
بحيث إنها تفصل وتسم المرحلة «الحداثية» عن المرحلة ما قبل «الحداثية». يقول جان بودريار
Jean Baudrillard : «ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا، أو مفهوما سياسيا، أو مفهوما تاريخيا ... وإنما هي صيغة مميزة للحضارة، تعارض صيغة التقليد؛ أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية. فأمام التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الثقافات، تفرض الحداثة نفسها وكأنها وحدة متجانسة، مشعة عالميا - انطلاقا من الغرب. ومع ذلك تظل الحداثة موضوعا غامضا يتضمن في دلالته، إجمالا، الإشارة إلى تطور تاريخي بأكمله، وإلى تبدل في طرق التفكير.» هذا التطور والتبدل يجعل من الحداثة - في نظر بودريار - مفهوما غاية في «الالتباس»، يصعب معه الحديث عن قوانين ثابتة لها «بل فقط معالم».
6
هذه المعالم، على الرغم من تعرضها لتصدعات عديدة على يد بعض الفلاسفة، ظلت هي الركائز التي يقوم عليها المشروع الفلسفي الغربي الحديث. لقد ذهب فوكو
M. Foucault
إلى أن الفكر الأوروبي الحديث قد مر بثلاثة عصور متتابعة تتعاقب على أساس من «انقطاعات إبستمولوجية» تنتقل بها المعرفة من حقبة إلى أخرى؛ أول هذه العصور هو «عصر النهضة» الذي يستمر من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر. وثانيها هو «العصر الكلاسيكي» الذي يؤرخ فوكو بدايته بظهور اللحظة الديكارتية في أواسط القرن السابع عشر؛ وثالثها هو «العصر الحديث» الذي يبدأ مع مطلع القرن التاسع عشر بظهور مفهوم «الإنسان» من حيث هو «ذات تاريخية» وذلك - وفقا لفوكو - هو العصر الذي نشهد نهايته.
7
هذه المراحل الثلاث التي مر بها الفكر الغربي يضمها مصطلح «الحداثة»، وتتسم جميعها بمعالم حددت موقف الإنسان من المعرفة، والعلم، والوجود:
تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التأملية تتسم بكونها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية؛ أما المعرفة التقنية فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الرياضي؛ أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية. النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية، التي أصبحت نموذج كل معرفة. ومن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة المنهج أهمية قصوى. فالمنهج هو تنظيم وتحقيق لعملية المعرفة، وطريق يؤدي إلى تحقيق التقدم، ويقود إلى اكتساب القدرة على تملك الأشياء. والعقل من المنظور الحداثي يتسم بالأداتية؛ أي أنه وسيلة لتقنين العالم الطبيعي، ومن ثم السيطرة عليه. ومبدأ العقل
principe de raison
هو مبدأ السببية
Causalité ؛ قانون صارم تخضع له كل ظواهر الطبيعة.
لقد جلبت السيطرة العلمية على الطبيعة الوعد بالتخلص من الندرة والحاجة، وتعسف الطبيعة، إلى الأبد. وجلب التخطيط العقلاني للتنظيم الاجتماعي ولأنماط التفكير، الوعد بالتحرر من لا عقلانية الخرافة، والدين، والأسطورة، ومن الاستخدام المتعسف للسلطة، والتحرر كذلك من تسلط الجانب اللاعقلاني داخل طبيعتنا البشرية. عبر مشروع كهذا فقط، يمكن أن تتحقق الخصائص الكلية والثابتة والدائمة لكل البشر باعتبارهم بشرا.
وابتداء من القرن ال 18 - الذي عرف بعصر التنوير - سيبدأ فصل جديد من الإيمان المطلق بالعقل وإطلاق طاقاته وقدراته في شتى ميادين المعرفة. إنه عقد انتصار قيم الحرية والعدالة والديمقراطية والانفتاح. يقول كانط مجيبا على سؤال «ما التنوير؟»: «إن معنى التنوير خروج الإنسان من تبعيته؛ أي أن يملك الإنسان شجاعة استخدام عقله بنفسه.»
8
لقد قبل فكر التنوير بقوة فكرة التقدم، وذلك الإعراض عن التاريخ والتقاليد التي تعتنقها الحداثة. وقد كان ذلك الفكر بمثابة حركة علمانية ابتغت تحرير المعرفة من الأوهام والمقدسات وتنظيم المجتمع في سبيل تحرير البشر من القيود؛ وفي هذا يقول كوندرسيه
Condorcet
خلال آلام مخاض الثورة الفرنسية: «القانون الجيد لا بد أن يكون جيدا لكل إنسان، تماما كما أن القضية الصحيحة هي صحيحة بالنسبة للجميع.» لقد كانت تلك الرؤية متفائلة بصورة مدهشة، وكما لاحظ هابرماس
Habermas
فإن مفكرين، مثل كوندرسيه، كانوا «مأخوذين بتوقع مفرط مؤداه أن الفنون والعلوم ستجلب، ليس فقط السيطرة على قوى الطبيعة، وإنما كذلك فهم العالم والذات، والتقدم الأخلاقي، والعدالة في المؤسسات، بل والسعادة لبني البشر.» لذا يعرف هابرماس الحداثة بأنها محاولة «لإنشاء العلم الموضوعي، وتأسيس الأخلاقيات العامة وقواعد القانون والفن المستقل، كل وفق منطقه الداخلي الخاص.» في نفس الوقت أرادت الحداثة أن «تطلق الإمكانيات المعرفية لكل هذه الميادين من أشكالها الخفية.»
9
كان مشروع الحداثة الغربي مشروعا طموحا، ينادي بحقوق إنسان عالمية، وقيم العقل ... العقل أعدل الأشياء قسمة بين الجميع، قيمه ثابتة لا تتغير، كلية شمولية، صارمة تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان. وعلى الرغم من ذلك، فقد جاء القرن العشرون ليقلب كل قيم عصر التنوير رأسا على عقب. وعبر الحربين العالميتين، وخطر الفناء النووي والمد الاستعماري الغربي، حكم على مشروع التنوير أن يتحول إلى عكس ما يعلنه، وأن يحيل مطلب التحرر الإنساني إلى نظام اضطهاد عالمي باسم تحرير البشر. تلك كانت الأطروحة الهامة التي تقدم بها هوركهايمر
M. Horkheimer
وأدورنو
T. Adorno
في عملهما «ديالكتيك التنوير»
Dialektik der Aufklärung
الصادر عام 1947م. لقد حاولا البرهنة، وفي الذهن تجربة ألمانيا هتلر، وروسيا ستالين؛ على أن المنطق الذي يقبع خلف عقلانية التنوير هو منطق هيمنة واضطهاد. والتلهف إلى السيطرة على الطبيعة جلب معه السيطرة على البشر، ولم يكن يمكن أن يوصل ذلك في النهاية «إلا إلى كابوس قهر للذات».
10
والسؤال الآن هو: هل كان مشروع التنوير، أم لم يكن، محكوما منذ البدء بالإفضاء إلى مثل هذا العالم الكافكاوي؟ وهل كان، أم لم يكن، سيقود عاجلا أم آجلا، إلى هذا الخراب وتلك الحروب التي لحقت بالبشرية؟ وهل تبقى فيه ما يمكن استلهامه والبناء عليه؟
انطوى فكر التنوير، بالطبع، على لائحة طويلة من المشكلات الصعبة، وعلى قدر غير قليل من التناقضات. وفي الوقت نفسه تبدو أهدافه نفسها عصية على التحقيق، على نحو دقيق، إلا عبر مشروع «طوباوي» مثالي، وقد بدا هذا المشروع قائما على الاضطهاد بالنسبة للبعض، بينما مثل للبعض الآخر نموذجا للتحرر. لكن السؤال الذي طرحه هذا المشروع، والذي لم يكن هناك مفر من مواجهته حتى لو تم هذا بعد حين، هو: من يملك حق إعلان سلطة العقل العليا؟ وكيف تحول ذلك العقل إلى سلطة ملموسة؟
مع مطلع القرن العشرين كان قد تبلور في هذا النقاش موقفان نقديان رئيسان، رغم كونهما متعارضين:
الأول: عند ماكس فيبر
M. Weber
الذي يقول: «بعد أن زالت الأقنعة وتبدت الحقيقة، تبين أن تراث التنوير إنما قام على انتصار العقلانية الأداتية ذات الأغراض المحددة. هذا الشكل من العقلانية حفر عميقا في جملة حياتنا الاجتماعية والثقافية، ومن ضمنها البنى الاقتصادية، والقوانين ... وحتى الفنون. وعليه فلا يقود نمو العقلانية الأداتية إلى تحقيق ملموس للحرية الشاملة، وإنما إلى إيجاد «قفص حديدي» من العقلانية البيروقراطية لا فرار منه.»
11
إذا أمكن قراءة تحذير فيبر - يقول هارفي
12 - كما لو كان آية ننقشها على شاهد قبر عقل التنوير؛ فإن هجوم نيتشه المبكر على مقدماته الأساسية إنما كان إحدى غضبات آلهة الإغريق: «تحت سطح الحياة الحديثة المغطى بالمعرفة والعلم، تكمن قوى دافعة بربرية، بدائية، وخالية من كل أثر للرحمة.» فكل صور التنوير المتعلقة بالحضارة، والعقل، والحقوق الكلية، والأخلاق انتهت إلى لا شيء. وما يدعوه نيتشه ب «أزمة الزمن الحاضر» و«إفلاس الزمن الحاضر» ودعوته إلى «إدارة الظهر إلى العصر»، ومعاملة الحاضر معاملة ملؤها «القسوة والتجبر»؛ لا ينفصل عن حديثه عن «افتقاد الزمن الحاضر لكل قيمة أيا كان شأنها.»
13
لقد نشأ التحول في نبرة الحداثة عن الحاجة للتصدي للحس بالفوضوية وعدم النظام واليأس الذي بذره نيتشه في زمن حفل بالحراك الصارخ والتوتر وفقدان الاستقرار في الحياة السياسية والاقتصادية، وهو اضطراب تشبثت به وأسهمت فيه الحركة الفوضوية التي سادت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وتلازم ذلك مع إعلاء الرغبات الجنسية والنفسانية واللاعقلانية (من النوع الذي حدده فرويد
Freud
ثم تابعه كليمت
Klimt
14
في تداعياته الفنية الحرة) التي أضافت بعدا آخر إلى الفوضى القائمة. لقد كشف هذا الزخم الدافق من الحداثية أنه من المستحيل تقديم العالم في لغة واحدة. والفهم الحقيقي إنما يبنى من خلال الكشف عن زوايا العالم المتعددة. كانت إبستمولوجيا الحداثة، باختصار، تدفع بقوة نحو تعدد الرؤى النسبية، في الكشف عما ظل يعتقد أنه الطبيعة الحقيقة لواقع قائم متجانس، رغم ما فيه من تعقيدات، يقول فرويد: «إن ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي أن نحمله إلى حد كبير تبعة بؤسنا، وإن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية سيكفل لنا قدرا من السعادة أكبر بكثير ... كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية إلى الأخذ - على ما في ذلك من غرابة - بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ أعتقد أن استياء دفينا، من منشأ ناء للغاية، كان يتجدد في كل طور من أطواره، هو الذي حث على تلك الإدانة، التي كانت تتكرر بانتظام، بفضل ظروف تاريخية مؤاتية.»
15
هذه الروح الانهزامية النكوصية التي يتحدث بها فرويد كانت هي السائدة في مطلع القرن العشرين، وتبدو كطرف نقيض للخطاب الحداثي التنويري الشمولي. ولنقرأ توصيف مارشال بيرمان
M. Berman
في كتابه «كل ما هو صلب قد تبخر في الهواء»
All that is Solid Melts into Air ، وعنوان الكتاب هو إحدى جمل البيان الشيوعي لماركس، يذهب مارشال بيرمان إلى «أن الحداثة تحتوي على تناقضاتها الداخلية؛ فأنماط الفكر الحداثي قد تتحول إلى سلفية جامدة يصيبها التقادم؛ لأن أنماطا من الحداثة قد تحتجب لأجيال طويلة دون أن تخلفها أنماط بديلة.» ويرى بيرمان أن المشروع الحداثي قائم على فكرة توحيد البشرية وتجاوز الحدود والاختلافات «لكنها وحدة أضداد، وحدة اللاوحدة؛ فهي تحيلنا جميعا إلى خضم تيار من العزلة المتزايدة والولادة من جديد، من الكفاح والتناقض، من الغموض والقلق العميق. فأن تكون حديثا هو أن تكون جزءا من عالم حيث يكون.» كما يقول ماركس: «كل ما هو صلب قد تبخر في الهواء.»
16
لقد أصبح واضحا آنذاك أن مأزق الحداثة الحقيقي هو أنها تبنت شعارات غير قابلة للتحقيق في مجتمع تسيطر عليه الآلة الرأسمالية ... وقد وجد بعض نقاد الحداثة
17
في قصة فاوست
Faust
لجوته
Goethe
معبرا جيدا عن المأزق الحداثي: ففاوست هو البطل الملحمي المستعد لهدم الخرافات الدينية، والقيم التقليدية والتقاليد، من أجل بناء عالم جديد شجاع من رماد العالم القديم. ولهذا يسعى فاوست، ومعه كل الآخرين (بمن فيهم الشياطين)، بالفكر والعمل، من أجل بلوغ الحد الأقصى من التنظيم، وصولا إلى السيطرة على الطبيعة، وخلق عالم جديد، رائع وسام، يفجر ويستوعب كل الطاقات الكامنة ... عالم كفيل بتحرير البشرية من الفاقة والحاجة (التي هي نفسها، لو لاحظنا، نفس أهداف المشروع الحداثي). ولإظهار إرادة التغيير هذه، لا يتورع فاوست، رغم ما يبديه من رعب، عن ترك شياطينه تقتل زوجين متحابين طاعنين في السن، يعيشان في كوخ صغير على شاطئ البحر، لا لسبب إلا لكونهما ببساطة لم يعودا ملائمين للعيش طبقا لتصميم العالم الجديد؛ هذا هو مأزق الحداثة كما تصوره جوته في فاوست.
يضاف إلى ما سبق تنامي وتضخم الرأسمالية العالمية، وبحسب دولوز،
18
فإن آثار هذا التضخم قد انعكست على البيئة الخارجية، بحيث أضحى ما يطلق عليه تدمير بيئة الكرة الأرضية
La destruction de l’environnement de la terre
قد اقترب من نهايته. أما آثار هذا التضخم على الإنسان فهي عديدة، أهمها البطالة والفقر وسيطرة التكنولوجيا وإحلالها محل الإنسان، وما يحدث مسبقا في أطراف المركز الهامشية، يحدث الآن في مركز النظام نفسه. هذا بالإضافة إلى الانعكاسات النفسية الخطيرة، والتي أبرزها الفصام.
إزاء هذا الوضع المرتبك من فقدان الثقة في المشروع الحداثي الذي بدأت مقولاته في الانهيار واحدة تلو الأخرى، بدأ الوعي الغربي يطرح تساؤلات تحمل بداخلها إيذانا بنهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى. يلخص دولوز هذه التساؤلات كالآتي: «ما الوظائف الجديدة التي صارت تناط بالمثقف، والذي أضحى مثقفا نوعيا بعد أن كان ينظر إليه على أنه مثقف شمولي؟ ما الأنماط الجديدة لتولد الذات والتي أمست أنماطا لا هوية لها بعدما كان ينظر إليها على أنها متطابقة ومتماسكة ذات هوية محددة؟ ما هي رؤيتنا وما هي لغتنا، وما هي حقيقتنا أو هويتنا اليوم؟ وما دمنا نشارك ونساهم في إنتاج ذات جديدة، فأية سلطة يلزم مواجهتها، وما هي قدراتنا على المواجهة؟ ألا تجد تقلبات الرأسمالية نفسها وجها لوجه، وبكيفية غير متوقعة، مع انبثاق بطيء لذات جديدة كبؤرة مقاومة؟ في كل مرة يحدث فيها تحول اجتماعي ما، ألا تكون ثمة حركة انقلاب وتحول ذاتي، بإبهاماته والتباساته، بل وبإمكاناته أيضا؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها جيلنا.»
19 •••
في عام 1971م كتب إريك هينش
E. Henche
مقالا حملته مجلة «الفن في أمريكا»
Art in America
عنوانه «تحطيم كل القواعد»
Breaking All the Rules ، وكان مما جاء فيه «على الرغم من أن ما بعد الحداثة تشخيص لكل ما يحدث حولنا؛ فإننا لم نعطها حتى الآن تعريفا واضحا.»
20
على النقيض من ذلك وفي ربيع 1995م أصدر مجموعة من المفكرين ونجوم المجتمع الأمريكي بيانا تحت عنوان «انتفاضة ضد طبقة الإعلام»
Revolt Against the Media Class
وصفه أصحابه بأنه صرخة احتجاج ضد استشراء القيم ما بعد الحداثية في المجتمع الأمريكي.
21
ولعل هذا الاختلاف بين المواقف يدفعنا للتساؤل عن معنى مصطلح «ما بعد الحداثة».
22
ثمة صعوبات عديدة بالتأكيد تقف حائلا بين إمكانية التحديد الدقيق للمصطلح أو المفهوم؛ ولعل إيهاب حسن في مقالته «سؤال ما بعد الحداثة»
The Question of Postmodernism
23
يعرض لتلك الصعوبات، يقول: «إنها إشكالية متعددة الجوانب، ولعل هذه الأسئلة تلقي بعضا من الضوء عليها. هل ثمة ظاهرة جديدة في الثقافة المعاصرة عموما، وفي الأدب المعاصر بشكل خاص، تستدعي أن نطلق عليها اسما جديدا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يفيدنا هنا اسم مبدئي من قبيل «ما بعد الحداثة»
؟ وكيف يمكن لهذه الظاهرة، دعونا نتوافق على تسميتها الآن بما بعد الحداثة، أن تتواصل مع مفاهيم أخرى، مثل الحداثة أو الطليعة
avant-garde ؟ وهل ثمة إشكاليات نظرية وتاريخية تخفيها تلك الظاهرة؟ لقد جاءت معظم الاجتهادات التي سعت لتعريف ما بعد الحداثة مضطربة؛ وتبدو في أحسن الأحوال نوعا من التكرار الذي لا يفيد، فيخبرنا بما نحن متأكدون من معرفته بالفعل. إذا، ما الذي سنجنيه من هذا المسار الاستفهامي الذي بدأناه؟»
الواقع أن منظري ما بعد الحداثة لم يتفقوا حتى على تعبير «ما بعد الحداثة»؛ فالبعض مثل ليوتار
Lyotard
يفضل صيغة أكثر تحديدا كالوضع ما بعد الحداثي
La condition postmoderne ، فيما يراها آخرون كجيمسون «منطقا ثقافيا للرأسمالية المتأخرة» أو «عصرا ثقافيا أخيرا في الغرب».
24
وهو يرى أن المصطلح «متضارب ومتناقض داخليا ... فما بعد الحداثة ليس شيئا يمكن أن نثبته في مكانه مرة واحدة لكي نعاود استعماله لاحقا.» أما أمبرطو إيكو
Umberto-Eco
فعلى الرغم من أن أعماله ما بعد حداثية بامتياز - فهو يرفض التسمية ويقترح بدلا منها ما يطلق عليه «تعدد اللغات المعمم لزمننا»
il multilinguismo della nostra generalizzate ؛ كذلك هو الحال أيضا مع فوكو ودولوز اللذين اعتبرا أعمالهما تشكل انقطاعا وتواصلا مع الحداثة.
25
كل هذه الآراء تدعونا للتساؤل: هل يمكن تعريف ما بعد الحداثة؟ وفقا لمنظري الحركة فإن لفظة «تعريف»
definition
هي لفظة حداثية موروثة من نماذج الوضعية المنطقية، ولا تنسجم مع الإطار العام المفتوح لما بعد الحداثة، والذي لا يحوي ضمن مفرداته مقولة التحديد. فالتعريف يوحي بالثبات كما أنه يفترض مقدما أن كل من سيقرؤه سيفهمه كما حدده كاتبه، وكما سيفهمه جميع القراء، وهذا ما يرفضه منظرو ما بعد الحداثة الذين لا يؤمنون بوجود حقيقة موضوعية. ويذهب إيهاب حسن إلى «أن المصطلح، فضلا عن المفهوم، ينتمي إلى ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة المتنازع عليها جوهريا، وبلغة أبسط - يقول حسن - إذا وضعنا أهم المفكرين الذين ناقشوا المفهوم في غرفة واحدة، ثم أضفنا الإرباك الملازم للمفهوم، وأغلقنا الغرفة، وألقينا بالمفتاح بعيدا، فلن يحدث اتفاق بين المناقشين، بل سنجد خيطا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة.»
26
رغم تلك الصعوبات التي تكشف لنا مدى تعقيد المصطلح، فضلا عن المفهوم أو الظاهرة؛ فإننا سنحاول الاقتراب من المصطلح بتحديد بعض الملامح العامة له:
ينبغي أن نفرق بداية بين ما بعد الحداثة
كمصطلح يشير إلى نوع من الثقافة المعاصرة، وما بعد التحديث
كحقبة زمنية يمر، أو مر، بها الغرب، نتيجة لبعض المتغيرات التي لحقت بعملية التصنيع والإنتاج وارتباط ذلك بتنامي وتضخم المنظمات الرأسمالية العالمية. ما بعد التحديث يشير إلى الفترة التاريخية أو المدة الزمنية؛ أما ما بعد الحداثة فيشير إلى أسلوب أو طريقة التفكير أو الحركة الفكرية والثقافية التي انبثقت من هذا الوضع التاريخي الذي يطلق عليه «ما بعد التحديث».
27
تشير البادئة
في مصطلح
في الإنجليزية والفرنسية إلى ما يأتي «بعد» كلازمة تعبر عن الزمان، كأن نقول «ما بعد الكلاسيكية، ما بعد الرومانسية، ما بعد البنيوية ... إلخ.» غير أنها لا تتوقف عند العلاقة الزمنية ولكن تتجاوزها للعلاقة الفكرية؛ إذ تشير إلى ترك الإطار أو النموذج
السابق عليها. ويعود استخدام المصطلح أول مرة - بحسب إيهاب حسن - إلى الإسباني فيدريكو دي أونيس
F. De Onis
وذلك في كتابه «مختارات من الشعر الإسباني والإسباني الأمريكي»
Antologia de la Poesia Espanola e Hispano Americana
الصادر عام 1934م، ثم التقطه دودلي فيتس
D. Fitts
في كتابه «مختارات من الشعر الأمريكي اللاتيني المعاصر»
Anthology of Contemporary Latin-American Poetry
عام 1942م، وكان كلاهما يشير إلى رد فعل ثانوي على الحداثة قائم في داخلها. يرى حسن إذا أن المصطلح نشأ في حقل النقد الأدبي، ثم وظف في حقول معرفية أخرى كالفلسفة والاجتماع والسياسة والتحليل النفسي واللغويات والدين ... إلخ. لكن المؤكد أيضا - وهو ما يشير إليه حسن - أن المصطلح اكتسب مدلولا لأول مرة في كتاب فيلسوف التاريخ الإنجليزي أرنولد توينبي
A. Toynbee
A Study of History «دراسة التاريخ»، عندما استخدمه ليشير إلى ثلاث خصائص رآها تميز الفكر والمجتمع الغربيين منتصف القرن العشرين، وهي اللاعقلانية والفوضوية واللامعيارية، بسبب أفول البورجوازية في التحكم بتطور الرأسمالية الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحلول الطبقة العاملة الصناعية محلها، وهو ما رآه انقلابا، بل انحطاطا، للقيم البورجوازية التقليدية.
28
في بداية الستينيات استخدم المفهوم على نطاق أوسع؛ إذ استخدمه ليونارد ماير
L. Mayer
في دراسته (1882م) «نهاية عصر النهضة»
The End of the Renaissance (1963م) ليشير به إلى التغير المعماري الذي طرأ على المدينة الغربية. وفي نفس الاتجاه نشر المعماري الشهير روبرت فنتوري
Robert Venturi
مقالته «مبررات عمارة البوب» 1965م قدم خلالها مبررات وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة، عوضا عن المفاهيم الجامدة البليدة المضجرة التي تبنتها الحداثة. ثم أتبع هذه المقالة بكتاب «التعقيد والتناقض في العمارة»
Complexity and Contradiction in Architecture (1966م) وضع فيه تصوره لخصائص العمارة ما بعد الحداثية قائلا: «نحن نطالب بعمارة تعلي الثراء، بمعنى الوفرة والكثرة والزخم في التفاصيل والاقتباس والغموض، فوق الوحدة والنقاء؛ وتقدم التناقض والتعقيد على التناغم والبساطة.»
29
ومع أن الجدل بشأن مفهوم ما بعد الحداثة بدأ في عقد الستينيات، العقد الذي يصفه هويسنز
30
بالخط الفاصل العظيم، في النقدين الأدبي والثقافي في أمريكا؛ فقد امتد هذا الجدل إلى حقول معرفية أخرى. وقد أعلن تشارلز جينكس
C. Jencks ، وهو أحد المنظرين الأساسيين لما بعد الحداثة في فن العمارة، أن المصدر الأساسي الذي استقى منه فهمه النظري لمفهوم ما بعد الحداثة هو النقد الأدبي؛ وحسب جينكس فإن «إيهاب حسن كان هو بالفعل من عمد مفهوم ما بعد الحداثة وجعله أكثر استقرارا.»
31
ويصادق على رأي جينكس ما ذكره جان فرانسوا ليوتار في كتابه «الوضع ما بعد الحداثي» (1979م) من أن عمل إيهاب حسن «أدب الصمت»
The Literature of Silence
هو المصدر الذي نبهه إلى أهلية مفهوم ما بعد الحداثة.
32
بدأت ثقافة ما بعد الحداثة في سبعينيات القرن العشرين - بعد التغيرات التي طرأت على الساحة الفكرية الفرنسية نتيجة انتفاضة الطلبة في مايو 1968م - تتلاقى مع المشروع الفرنسي ما بعد البنيوي. وبمعنى أدق تجد المناخ النظري الملائم لها من خلال أعمال رولان بارت
R. Barthes
وفوكو وجيل دولوز وجاك دريدا وجاك لاكان
J. Lacan . وسيكون هذا التلاقي هو البداية الحقيقية لما عرف بحركة ما بعد الحداثة الفلسفية. وفي العام 1979م يصدر كتاب جان فرانسوا ليوتار «الوضع ما بعد الحداثي» الذي يعتبره البعض البيان النظري الأول للحركة التي لا يجمعها اتجاه واحد ، وإن كان يجمعها بعض الخصائص المشتركة، التي حاول ليوتار تكثيفها في كتابه.
وفي الثمانينيات يستمر الإنتاج الفكري لمنظري التيار (فوكو، دولوز، ليوتار، دريدا، إيهاب حسن) غير أن المصطلح سيظهر بقوة أكثر في ميدان علم الاجتماع: في فرنسا مع جان بودريار؛ وفي بريطانيا لدى سكوت لاش
S. Lash
في «علم اجتماع ما بعد الحداثة»
، ولدى أنتوني جيدنز
A. Giddens
في «نتاجات الحداثة»
The Consequences of Modernity
الذي يقترح فيه مفهوم «الحداثة الجذرية»
Radical Modernity
بديلا ل «ما بعد الحداثة».
وفي ظل تنامي المفهوم وتشعبه وتداخله مع مصطلحات أخرى عديدة - كما بعد التصنيع
وما بعد الاستعمار
- ظهر تيار مناهض بقوة لتيار ما بعد الحداثة، يستند في بنيته المضادة على الإرث العقلاني الحداثي، داعيا إلى تصحيح مسار الحداثة بوصفها «مشروعا لم يكتمل بعد»، وأن هذا التصحيح لا يستدعي أبدا تقويض المشروع الحداثي المبني على الأسس العقلانية. يتزعم هذا التيار الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس المنتمي إلى مدرسة فرانكفورت
Frankfurt School . وبالإضافة إلى هابرماس هناك مجموعة من النقاد الماركسيين الذين وجهوا كل طاقاتهم وإنتاجهم الفكري لمناهضة تيار ما بعد الحداثة ك «تيري إيجلتون، وديفيد هارفي، وفريدريك جيمسون»، وما زالت إنتاجاتهم الفكرية حتى الآن تدور في هذا السياق.
شعار الحركة المناهضة لثقافة ما بعد الحداثة.
في عام 1995م يذهب فالتر أندرسون
W. Anderson
إلى أن «ما بعد الحداثة سوف يأتي ويذهب، مثل باقي تيارات الفكر؛ أما ما بعد التحديث - أي الظرف ما بعد الحداثي - فسيظل قائما.»
33
وفي نفس السياق ونفس العام يقول ديفيد هارفي: «ثمة علامات، في هذه الأيام، تشير إلى أن هيمنة ثقافة ما بعد الحداثة هي في عملية ضعف مستمر في الغرب.»
34
في حين يذهب إيهاب حسن في آخر مقالة نشرت له إلى أن «ما بعد الحداثة صارت الآن شبحا ... وكلما نظن أننا قد تخلصنا منها، ينهض شبحها مرة أخرى.» ويستطرد قائلا: «ما زالت أفكار ما بعد الحداثة تتردد في خطاب الهندسة المعمارية، والفنون المختلفة، والعلوم الإنسانية، وأحيانا الفيزياء، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية، بل نجدها أيضا في الخطاب الشعبي، وعوالم السياسة والاقتصاد، والميديا، وصناعات الترفيه ، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة، مثل طريقة طهو ما بعد حداثية، ومطبخ ما بعد حداثي ... إلخ.»
35
والسؤال الآن: هل تمثل ما بعد الحداثة كسرا جذريا مع الحداثة، أم أنها ببساطة انتفاضة داخل الحداثة ضد شكل من أشكال الحداثة العليا؟ هل ما بعد الحداثة أسلوب أو طريقة للنظر في العالم والأشياء أم أنها تعتبر عصرا كاملا يحياه الغرب الآن؟ ومن ناحية أخرى هل تغيرت الحياة الاجتماعية في الغرب منذ مطلع السبعينيات حقا، وإلى الحد الذي يسمح بالقول إن الغرب يعيش الآن مرحلة ما بعد الحداثة؟ أم أن تيارات ما بعد الحداثة - يتساءل هارفي.
36
مجرد تيارات تضرب البنى العليا للثقافة، والتي ما انفكت توغل في الغرابة على وقع التغيير الذي يحدث دائما في «الموضة» الأكاديمية؟
يمكننا التمييز هنا بين رأيين متعارضين: الأول يرى أن «حركة ما بعد الحداثة تنتهج نهجا ينفي الحداثة ويعلن رفضه لكل أسسها ومبادئها.»
37
والثاني يرى أن «ما بعد الحداثة نوع خاص من التأزم داخل حركة الحداثة.» فحجم الاستمرار هو أكثر بكثير من حجم الاختلاف بين التاريخ الممتد للحداثة والحركة المسماة ما بعد الحداثة.
38
ويمثل الرأي الأول إيجلتون وهارفي وفريدريك جيمسون؛ أما الثاني فيمثله ليوتار ودولوز وفوكو. الرأي الأول يستند في دعواه إلى أن الخطاب ما بعد الحداثي هو نقيض الخطاب الحداثي فهو خطاب يتبنى مبادئ تقوم أساسا على هدم القيم التي أورثتها الحداثة مثل الواحدية، والنقاء، والشعور بامتلاك اليقين وأحكام القيمة والسلطة الأبوية بكل صورها؛ لا سيما أشكال السلطة التي أفرزها المجتمع الرأسمالي كالعقل الأداتي واللوجوس، وغيرها من مفردات الخطاب الحداثي الشهير. وكنقيض لهذه القيم، تبنت ما بعد الحداثة خطابا رافضا الكلي ومكرسا النسبي واليومي، مقابل الحتمي والتاريخي، متحررا من الزمن الخطي، وهادما التمايزات بين الاجتماعي والثقافي، وداحضا ومهشما الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية، كمحاولة لإقصاء السياسات وحيدة الجانب، وكرد فعل لتشظي المجتمع الراهن وتصدعه، ومن أجل التعبير عن تفكك العلاقات السائدة في الزمن الراهن. وكان أن نادى معظم منظري ما بعد الحداثة بتبني مفاهيم جديدة تحل محل مفاهيم الحداثة السائدة تجلت في ركائز ثلاث: الأولى هي الوعي بالفردانية واستقلال الذات عوضا عن النزوع الجمعي الشمولي القديم، والثانية تكريس مفهوم سقوط السلطة بكل أنواعها، وبالتالي نقض مفهوم المركزية والواحدية انتصارا للتعددية والتنوع. وهما معا الركيزة الثالثة. هذا هو رأي الفريق الأول الذي يرى في ما بعد الحداثة انفصالا عن المشروع الحداثي وانقلابا عليه.
أما الرأي الثاني فيرى أن المشروع الحداثي الغربي هو «مشروع متأزم في الأساس بحيث يحتاج إلى تصحيح مسار، وأن نهايات هذا المشروع (ما بعد الحداثة) جاءت نتيجة طبيعية لما آل إليه المشروع الحداثي في القرن الثامن عشر (عصر التنوير).»
39
وهذا الفريق يرفض الرؤية التاريخية «لما بعد الحداثة» بوصفها شيئا يأتي بعد «الحداثة»، فما بعد الحداثة كامنة في قلب المشروع الحداثي، بحيث إنها لا تمثل انقطاعا عنه، إنما هي تفعيل لبعض المقولات والأفكار المتضمنة في الحقبة الحداثية. يقول ليوتار: «لا الحداثة ولا ما بعد الحداثة يمكن تحديدهما كحقب تاريخية واضحة، تكون ما بعد الحداثة فيها شيئا يأتي «بعد» الحداثة. يجب القول على العكس من ذلك إن ما بعد الحداثة محايث للحداثة، بما أن الحداثة الزمنية تحمل في داخلها رغبة في الخروج من ذاتها داخل حالة أخرى.»
40
ما يقوله ليوتار هنا يتوافق مع مبادئ المشروع الحداثي بوصفه مشروعا «مفتوحا» يقبل الاختلاف والتطور، كما يتوافق مع حضور النص الحداثي في المؤلفات الكبرى لفلاسفة ما بعد الحداثة، بداية من ليبنتس وسبينوزا مرورا بكانط وهيجل وحتى ماركس ونيتشه وهيدجر.
هذا الحضور للنص الحداثي لا يفهم إلا بكونه محاولة لإعادة النظر في مقولات الحداثة من داخلها، وكما يقول دولوز في «منطق المعنى»
Logique du Sens 1969 «يتعين على الفلسفة أن تبرز في الحداثة شيئا كان نيتشه يحدده كشيء ضد الزمان؛ أي شيء ينتمي إلى الحداثة، ولكنه في الوقت ذاته ينبغي أن ينقلب ضدها، من أجل زمان بديل.»
41
والواقع أن أعمال دولوز كلها تسير في هذا الاتجاه، العمل على نصوص الفلاسفة الحداثيين من أجل إعادة قراءتها وتأويلها بحيث يخرج الفيلسوف في النهاية في صورة جديدة غير المتعارف عليها، وقد اتبع دولوز هذه الطريقة في كتاباته عن هيوم وليبنتس وسبينوزا وبرجسون ونيتشه «لا ينبغي لتاريخ الفلسفة إعادة ما يقوله فيلسوف ما، بل قول ما يضمره بالضرورة؛ أي ما لا يقوله وهو ماثل مع ذلك فيما يقوله.»
42
ومن نفس المنطلق يرى دريدا «أن تفسيراته لنصوص أفلاطون وروسو وماركس وهيدجر هو نوع من الوفاء لهم. لكنه يتصور الوفاء، لا بوصفه عرضا مخلصا لما كانوا يريدون قوله - فهذا في رأيه مجرد مساهمة في عملية دفن الموتى، إنما الوفاء الحقيقي يكون في المساءلة النقدية لما قدموه.»
43
وفي نفس السياق يقول فوكو: «إننا لا نخرج عن الفلسفة ببقائنا داخلها، لا، بل بمعارضتها بنوع من الاندهاش، كاندهاش نيتشه من الفلسفة السابقة عليه.»
44
والواقع أن الإنتاج الفكري لفلاسفة ما بعد الحداثة يؤكد أن هذه الأخيرة لحظة من لحظات المشروع الحداثي، ربما تكون لحظة قلق واضطراب وشك، لكنها استمرار بصورة أو بأخرى للمشروع الحداثي. لحظة شك داخل الإطار وليست انقلابا عليه وعودة إلى الوراء، إحساس أكبر بواقع متأزم، لحظة استشعرها نيتشه وفلاسفة النظرية النقدية من قبل. لكنها لحظة يتبعها إعادة البناء وتغيير المفاهيم. لذلك فنحن - في رأيي - لا نستطيع أن نصف ما بعد الحداثة بأنها عودة إلى الوراء ونكوص للخلف وهدم للإرث العقلاني الحداثي، إنها فقط رد فعل مثلما كانت الحداثة رد فعل. ليست ما بعد الحداثة نهاية للوعي الأوروبي - كما ذهب البعض، إنما هي فقط لحظة شك وإعادة مساءلة للتراث الحداثي. •••
استخلاصا مما سبق يمكن تحديد بعض السمات العامة لاتجاه ما بعد الحداثة،
45
وتختلف السمات عن القيم والمبادئ؛ إذ السمات تعبر عن الشكل الخارجي (المظهر)، في حين تكشف القيم والمبادئ عن الأسس الداخلية التي تنبني عليها الظاهرة: (أ) انفتاح الإطار النظري
ليس لدراسات ما بعد الحداثة إطار نظري ثابت؛ فالمفكر ما بعد الحداثي يرى الحياة موقفية، متشظية، سائلة، انطباعية ... ولذا لم يطور ما بعد الحداثيين نموذجا معرفيا أساسيا يصلح بعد ذلك للتطوير في اتجاه نظرية متكاملة؛ فالنظرية في عرفهم مجرد خطاب لحيازة القوة في فضاء اجتماعي. من هنا اهتمام فلاسفة ما بعد الحداثة باللغة، واحتفاؤهم بالنص. سيولي فوكو اهتماما خاصا بالخطاب، وسيقوم بتحليل البنى الخطابية التي كانت سائدة منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، من خلال منهج وصفي يكشف عن نمط وجود الخطاب وكيفية تجليه وما يترتب عليه من آثار. وستمثل فكرة الأسلوب في علاقته بالمفهوم والمعنى مكانة هامة في أعمال جيل دولوز. كما يتخذ ليوتار من مقولة فتجنشتاين
Wittgenstein
أن المعرفة مؤلفة من «ألعاب لغوية»
sprachspiele
أساسا لنقد ما أسماه «بالسرديات الكبرى»
Les Grands recits ؛ أما دريدا فيتخذ من تفكيكه لنصوص كبار الفلاسفة وسيلة لتفكيك البنية الميتافيزيقية الغربية التي أطلق عليها ميتافيزيقا الحضور
La métaphysique de la présence .
تعد سمة «انفتاح الإطار النظري» لما بعد الحداثة، نتيجة طبيعية لموقف فلاسفتها من مفهوم «الحقيقة الموضوعية»
La vérité objective - أحد المفاهيم الأثيرة لفلاسفة الحداثة. فإذا كانت الأسئلة الأساسية التي كان يطرحها كل مفكر حداثي هي: لماذا أنا هنا في العالم؟ وما هو هدفي النهائي، وما معايير الصواب والخطأ؟ فإن هذه الأسئلة الجاهزة يسبقها مسلمة مؤداها أن هناك إجابة صحيحة واحدة عن كل سؤال، وعليه فالسيطرة على العالم وإدارته عقليا أمر متوقف فقط على إمكانية عثورنا على تلك الإجابة. وهذا يفترض ضمنا أن هناك طريقا واحدا صحيحا إذا وفقنا باكتشافه نكون قد عثرنا على الأداة الصحيحة للإجابة على أسئلتنا. وكبديل لهذه الرؤية يرى فلاسفة ما بعد الحداثة أن الواقع المتشظي، الذي تحكمه فكرة الصيرورة، لا مكان فيه لمفهوم «الحقيقة»، كما أن مفهوم الحقيقة من المفاهيم السلطوية التي توظف دائما لخدمة فئة بعينها، يقول بودريار: «لم يعد بوسع الفرد أن يضع حدودا لكيانه، ولم يعد بوسعه أن يلعب دوره ... إنه الآن صفحة نقية ومعبر لكل شبكات التأثير.» (ب) انفتاح الموضوعات البحثية
ليس لتيار ما بعد الحداثة موضوعات بحثية بعينها؛ فهو يدرس كل شيء في الحياة بداية من نمط الإنتاج وعلاقاته في المرحلة الرأسمالية المتأخرة مرورا بنظم المعرفة والخطابات وحتى عروض الأزياء والمصارعة الحرة.
46
والملاحظ أيضا في الإنتاج الثقافي ما بعد الحداثي غياب المباحث التقليدية المعهودة في الفلسفة، وربما يكون مرجع هذا إلى رفض فلاسفة ما بعد الحداثة لمفهوم «النظرية»، لا توجد نظرية في الوجود والمعرفة والقيم، هناك فقط خواطر وتأملات ومفاهيم دون وعاء نظري شامل يجمعها في وحدة واحدة. والواقع أن افتقاد هذا الإطار النظري، بحسب رورتي
R. Rorty ،
47
كان أحد أهم الانتقادات التي وجهها هابرماس لفلاسفة من أمثال فوكو ودولوز وليوتار.
يرتبط بهذه السمة خاصية أخرى واضحة في معظم الإنتاج ما بعد الحداثي؛ وهي محو بعض الحدود والفواصل: هذه الخاصية لها تمثلات عديدة، أولها محو التمييز القديم بين الثقافة العليا والثقافة الجماهيرية أو الشعبية، وهي خاصية سنعود إليها بالتفصيل عند الحديث عن استطيقا ما بعد الحداثة. وثانيها محو الفواصل القديمة بين الأنواع الأدبية وأنواع الخطاب الأخرى؛ حيث كان السائد فيما مضى إمكانية التمييز بين أنواع الخطاب المختلفة: «الخطاب السياسي»، و«الاجتماعي»، و«التاريخي»، و«الأدبي»، أما الآن فكل هذه الخطابات متداخلة مع بعضها بحيث يصعب تصنيفها، وربما هذه هي صورة أخرى من صور مفهوم «التناص»
intertextualité . وقد كان جيل دولوز يقول: «أريد أن أكتب تاريخ الفلسفة كالرواية.»
48
كما أننا نلمس داخل النص الدولوزي انفتاحا على العديد من المجالات المعرفية، وكما يقول ريمون بيلور: «إن أعمال دولوز على اتصال مباشر بالفن والعلم والجسد وعلم الأحياء.»
49
وربما يفسر هذا سبب حضور النص الأدبي، بكل أشكاله، في النص الفلسفي ما بعد الحداثي ربما بدرجة تفوق حضور النصوص الفلسفية. يرتبط هذا أيضا «بتماهي وتداخل المجالات المعرفية المختلفة وإدراجها تحت ما يسمى ب «الدراسات الثقافية»
Cultural Studies »
50
وهو مصطلح يعبر بصورة أكثر واقعية عن الممارسات الفكرية لمنظري ما بعد الحداثة، وفي هذا السياق يتساءل فريدريك جيمسون وديفيد هارفي عن «هل يمكن تسمية أعمال ميشال فوكو، وهذا ينطبق أيضا على معظم مفكري ما بعد الحداثة، فلسفة أم تاريخا أم نظرية اجتماعية أم علوما سياسية؟»
51 (ج) شيوع فكرة النهايات
وهي فكرة بدأت مع هيجل ورددها بعض تلامذته من بعده، كان إريك فيل
Eric Weil
يقول: «إن هيجل قد وضع للفلسفة نقطة النهاية.»
52
وقد أعلن اشبنجلر
Spengler (1880-1936م) صراحة «نهاية الغرب »
Der untergang des western
وأفوله. وأزكى نيتشه
Nietzsche
هذه الروح عندما أعلن «موت الإله»
Tod Gottes . هذه التيمة - تيمة النهايات - أصبحت حاضرة بقوة في الخطاب الفلسفي الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين. يكتب بنيامين
Walter Benjamin
عن «نهاية الفن في عصر الإنتاج الآلي»، ويؤسس هيدجر
Heidegger
مشروعه الفلسفي على «تقويض الميتافيزيقا»، ويعلن بارت
R. Barthes
عن «موت المؤلف»، ويكتب فوكوياما
Fukuyama «نهاية التاريخ»، ويعلن فوكو «موت الإنسان»، ويحدثنا رورتي عن «نهاية الفلسفة النسقية». وفي نفس السياق يحاول «فاتيمو» حصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في خمسة مبادئ هي: نهاية الفن وأفوله - موت النزعة الإنسانية - العدمية - نهاية التاريخ - تجاوز الميتافيزيقا.
53
وهي كلها تنويع على فكرة النهايات. لا يوجد علم أو فلسفة أو فن، بل إعلان النهاية لكل شيء؛ «دق أجراس الموت» بتعبير دريدا. ومع ذلك لا نستطيع أن نقول إن كل فلاسفة ما بعد الحداثة نادوا بفكرة النهايات؛ فجيل دولوز، على سبيل المثال، من الفلاسفة القلائل الذين لم يولوا فكرة النهايات أية أهمية؛ لذا فهي غير حاضرة في نصوصه، وهو يقول في الحوار الذي أجراه معه فرانسوا إوالد: «لم أهتم بتجاوز الميتافيزيقا أو بموت الفلسفة قط. فللفلسفة وظيفة تظل حاضرة تماما، وهي خلق المفاهيم، ولا يمكن لأحد أن ينوبها في ذلك.»
54
وفي موضع آخر يقول: «إن مستقبل الفلسفة لم يكن أبدا مشكلة بالنسبة لنا، وما يقال عن نهايتها أو موتها، هو فقط لحظة يأس وإرهاق.»
55
وقد خصص دولوز كتابه «ما الفلسفة؟»
Qu’est-ce que la philosophie?
لمناقشة هذه الإشكالية، وقد طرح السؤال عن ماهية الفلسفة من أجل تأكيد دورها في ظل تنامي هذه الروح العدمية. ومع ذلك تظل هذه الروح هي السائدة في النص ما بعد الحداثي. وسيكون لها بالتالي العديد من النتائج؛ أولا: افتقاد النص ما بعد الحداثي لروح النقد، ليس نقد الحداثة بطبيعة الحال، وإنما نقد الأوضاع والسياسات الراهنة؛ لذا يعمد معظم فلاسفة ما بعد الحداثة إلى استخدام منهج وصفي خالص للظواهر دون محاولة الانتقال إلى مستوى التحليل النقدي. ثاني هذه النتائج، انهيار فكرة التقدم الخطي للتاريخ؛ فالتاريخ الإنساني، مفتوح على احتمالات متعددة، قد يتقدم، ولكنه قد يتراجع أيضا - كما حدث في الحربين العالميتين. وكما لاحظ أدورنو من قبل فإن التقدم البشري له تاريخ بالفعل، إنه التاريخ الذي انتقل «من المقلاع إلى القنبلة الذرية».
56
ثالث هذه النتائج، خلو العالم من أي معنى وافتقاده لأي قيمة، وما يترتب على ذلك من تغير مفهوم القيمة ونسبية المعايير الأخلاقية. (د) تصور مختلف لأسلوب الكتابة
سمة مشتركة في النص ما بعد الحداثي، أنه نص ملتبس يشعر معه القارئ بالصعوبة والغموض وعدم التحديد. نص لعوب، يصعب الإمساك به، أو تحديد معناه لدرجة يشعر معها القارئ أن المؤلف يتعمد اللبس في حد ذاته. وهذا اللاتحديد للمعنى يستند - في ظني - إلى الفهم البارتي (نسبة لبارت) لطبيعة النص. فالنص كما يتصوره بارت لا بد أن يولد أكبر عدد من الدلالات والمعاني، وهذا لن يتحقق إذا تعمد النص الوضوح والشفافية؛ لا بد أن يكون النص ملتبسا عصيا على القراءة. من هنا يحدثنا بارت بحفاوة عما أسماه «عدم القابلية للقراءة»
illisibilité
فكلما زادت صعوبة النص وقدرته على الإيحاء، تعددت معانيه وكثرت دلالته، يقول بارت: «ليس الوضوح صفة مطلقة لا غنى عنها في الكتابة، بل هي من ملحقات الطبقية؛ أي طريقة في الكتابة بمثابة علامة على أنك عضو في طبقة معينة تتحدث إلى الأعضاء الآخرين من نفس الطبقة.»
57
والواقع أن هذه السمة - الالتباس - حاضرة بقوة في كافة النصوص ما بعد الحداثية، ولا أدل على ذلك من قول ليوتار: «لقد قرأت في مجلة فرنسية أن البعض ساخطون على كل من دولوز وجاتاري لأنهم - أي هذا البعض - يتوقعون أن يكافئوا بقدر من المعنى، خاصة من قراءة عمل فلسفي.»
58
فقد كان لدولوز تصور خاص لعملية الكتابة،
59
كما أن تجربة الكتابة المشتركة مع المحلل النفسي فليكس جاتاري
F. Guattari
قد منحت مؤلفاتهما طابعا خاصا.
الفصل الثاني
القيم ما بعد الحداثية
إذا كنا قد حاولنا في الفصل الأول تتبع نشأة ظاهرة ما بعد الحداثة وتحديد أهم السمات الشكلية المتعلقة بفلسفة ما بعد الحداثة، فإن الحديث عن القيم أشبه بمحاولة تحديد الموضوعات المشتركة أو المبادئ التي يتفق عليها فلاسفة ما بعد الحداثة، والتي يمكن أن نستقيها من كتاباتهم، وهي تمثل في الوقت نفسه الاختلافات والفوارق التي تفصل الفكر ما بعد الحداثي عن نظيره الحداثي.
يصنف ليمرت المفكرين ما بعد الحداثيين إلى ثلاث فئات:
الراديكاليون: ليوتار، وبودريار، وإيهاب حسن، الذين يعتبرون الحداثة شيئا ينتمي للماضي، وأن الوضع الثقافي الراهن لا يحتمل مقولاتها.
الاستراتيجيون: ميشال فوكو، ودريدا، ودولوز الذين يتخذون من اللغة أو الخطاب أساسا لتحليلاتهم، ويرفضون أية صياغة لمفهوم الجوهر الشامل، والكلية أو القيم الشمولية.
الحداثيون المتأخرون: مثل هابرماس وجيمسون، الذين يتخذون موقفا نقديا من الأنساق الشمولية الكبرى، ولكنهم لا يرفضون مفاهيم الحداثة.
1
وتفرق باتريشيا ووه بين صيغتين قادمتين من أسس فلسفية منفصلة: صيغة عفية، وأخرى هشة، ولكل منهما ميله التفكيكي ونزعتها القائمة على إعادة التركيب: لقد جاءت الصيغة القوية من قراءة ما بعد البنيوية لنيتشه. أما الصيغة الهشة، فقد خرجت من القراءة التأويلية لهيدجر. وعادة ما ينصب الميل التفكيكي على نقد نظرية المعرفة الخاصة بحركة التنوير، بينما ترتكز إعادة التركيب على محاولة بناء نسق بديل للقيم.
2
ما يمكن أن نخلص إليه إذا أن هناك ما بعد حداثات عديدة، قد يصعب حصرها أو تصنيفها، والسؤال هو: ما القاسم المشترك بين هذه الاتجاهات العديدة؟ هل يمكن الحديث عن قيم أو مبادئ عامة تشترك فيها هذه التوجهات؟
في كتابه «المنعطف ما بعد الحداثي»
The Postmodern Turn
يرسم «إيهاب حسن» سلسلة من التعارضات النمطية بين الحداثة وما بعد الحداثة، تبدو من خلالها الثانية كرد فعل على الأولى، فيجعل «حسن»، على سبيل المثال، الفوضى
anarchy
ما بعد الحداثية مقابل مفهوم التراتبية
hierarchy
الحداثي، والشمولية
totalization
مقابل التفكيك
deconstruction ، والحضور
presence
مقابل الغياب
absence ، والجذر
root
مقابل الجذمور
rhizome ... إلخ.
3
والواقع أن المصطلحات التي استخدمها «حسن» في جدولته هذه ليست خاصة بالحداثة أو ما بعد الحداثة، بقدر ما هي أمثلة على تواترات ثقافية وفكرية، كانت ولا تزال شائعة في كلتيهما وغير مميزة لأيهما على حدة. وربما يكون الأكثر جدوى ودقة من ذلك هو القول بأنه في مراحل معينة من ثقافة الحداثة سادت - بدرجة أو بأخرى توجهات ما بعد حداثية، وفي مرحلة ما بعد الحداثة ما زالت هناك جذور حداثية. وباختصار، إن الثنائيات التي أوردها «حسن» في جدولته ينقصها الدقة والإحكام، ويمكن النظر إليها على أنها تعطينا مؤشرات على التوجه العام لتيار ما بعد الحداثة، ولا تكشف بدقة عن طبيعة هذا التوجه.
غير أن «حسن» في موضع آخر، يحدد بطريقة أكثر دقة، وإن كانت بالسلب، بعض الأسس المشتركة في تيارات ما بعد الحداثة، وهي كالآتي: (1)
رفض النظريات الشمولية، لا سيما النظريات الكبرى مثل: نظريات كارل ماركس، وهيجل، ووضعية كونت، والتحليل النفسي، مع التركيز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود. (2)
رفض اليقين المعرفي المطلق، ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول؛ أي تطابق الأشياء والكلمات. (3)
رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة، ولا سيما مفهوم التطور الخطي. (4)
مناهضة كل أشكال السلطة، سواء في الخطاب أو في السياسة أو في الفن.
4
وقد حاول كينيث آلن تقنين بعض المقولات النظرية لتيار ما بعد الحداثة ليضعها في شكل (السبب/النتيجة) أو (المتغير المستقل/المتغير التابع)، متخذا من الرأسمالية المتأخرة أو رأسمالية العولمة موضوعا لدراسته، وعلى سبيل المثال رأى آلن أن إعادة توطين رأس المال وسرعة حركته، هو سبب نتيجته زعزعة الرموز الثقافية وافتقادها القدرة على تقديم المعنى، كما ذهب إلى أن هيمنة التكنولوجيا في عملية الإنتاج، وهو متغير مستقل، يؤثر على متغير تابع هو (عدم ثبات الذات وتشظيها وتفككها).
5
والواقع أنه يصعب حصر المسألة في مجرد سبب ونتيجة؛ إذ النتيجة تتحول إلى سبب، والسبب يتحول بدوره إلى نتيجة، وهكذا. كما أن عبارات مثل «فقدان المعنى» و«تشظي الذات وتفككها» هي عبارات شديدة التركيب والتجريد يصعب ردها إلى سبب واحد.
ويذهب كريستوفر نوريس
C. Noriss
إلى أن ما تشترك فيه اتجاهات ما بعد البنيوية، رغم ما بينها من اختلاف في المنهج والاهتمامات، هو التزامها بشكل أو آخر بالتحول إلى اللغة والخطاب والنص. وهو تحول يشكل سمة بارزة في مجالات عديدة لا تقتصر على الفلسفة والتاريخ. أما موضع الخلاف بينها فهو القدر الذي يسمح به كل منها بحيز لفكرة الحقيقة التاريخية ، وسط انهماكها في النصوص والدلالات اللانهائية المتولدة عنها، وهي تختلف كذلك في مدى تقبلها لمقولة فريدريك جيمسون أن التاريخ «أفق لا يمكن تجاوزه».
6
على الرغم من وجاهة رأي كريستوفر نوريس؛ إذ النصية هي السمة الأبرز التي تشترك فيها معظم تيارات ما بعد الحداثة على اختلافها، إلا أن هذه واحدة من أسس عديدة أخرى تبنى عليها وتشترك فيها هذه التيارات، سنحاول العرض لها تفصيلا كما يأتي: (1) ضد السلطة
هي القيمة الأبرز والأهم، وهي الأصل الذي تفرع منه باقي القيم الأخرى. وباختصار يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة على أنها الثقافة التي تجتهد في البحث عن السلطة في كل شيء كي تهدمها؛ سلطة التاريخ، السلطة السياسية، سلطة الخطاب، سلطة المجتمع والأسرة، سلطة العقل والحقيقة والميتافيزيقا، سلطة الشمولية والكلية، سلطة الإعلام والصورة والفن.
ولا يشير مفهوم السلطة عند فلاسفة ما بعد الحداثة إلى شيء محدد المعالم يمكن الإمساك به وتحديده، إنما هو مفهوم فضفاض يتسرب إلى كل مجالات الحياة وظواهرها، وهو ذو مستويات متعددة وأشكال خفية كامنة خلف كل خطاب من الخطابات التي تحيطنا، ذلك إذا اعتمدنا تعريف فوكو للخطاب من أن كل ظواهر المجتمع يمكن النظر إليها على أنها أنظمة خطابية. والنتيجة أن العالم خطاب، والتاريخ خطاب، والعالم سلطة، والخطاب سلطة، والحقيقة سلطة، والتاريخ سلطة والفيلسوف هو أيضا سلطة، سلطة الأستاذ؛ يقول رولان بارت: «ها نحن نرى أن السلطة حاضرة في أكثر الآليات التي تتحكم في التبادل الاجتماعي رهافة، في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، ولكن أيضا في أشكال الموضة والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية والأخبار والعلاقات الأسروية
Familialism
والخاصة، بل وحتى عند الحركات التحررية التي تسعى إلى معارضتها.»
7
بل إن السلطة تمتد لتشمل حروف اللغة ذاتها «إننا نحس سلفا أن
A, Z, E, R, T ، على ملامس الآلة الكاتبة، مجموعة من بؤر السلطة، مجموعة من علاقات القوى بين الحروف الأبجدية في الفرنسية، حسب نظام ورودها، وبين أنامل اليد، حسب البعد الذي يفصل بعضها عن بعض.»
8
كان تجاوز تاريخ الفلسفة ومحاولة الخروج عليه والالتفاف حوله الهم الأول عند فلاسفة ما بعد الحداثة، يقول دولوز: «لقد كان تاريخ الفلسفة دائما عاملا سلطويا داخل الفلسفة وحتى داخل الفكر. لقد لعب دور المضطهد (القامع)، كيف تودون التفكير دون قراءة أفلاطون وديكارت وكانط وهيدجر وكتاب فلان أو فلان عنهم؟ ... لقد تكونت عبر التاريخ صورة عن الفكر تدعى «الفلسفة تمنع الناس تماما من التفكير».»
9
لذا يدعونا دولوز لتجاوز تاريخ الفلسفة والتمرد عليه من أجل إبداع جديد. إن خطورة تاريخ الفلسفة هو أنه يقدم صورة نمطية لأساليب التفكير وطرق البحث بحيث تصبح مع الوقت هي الصورة المشروعة التي من خلالها يجب أن يفكر الآخرون، يتحول تاريخ الفلسفة إلى «تابو»
Taboo
مقدس يحدد شكل التفكير وموضوعات البحث وأسلوب الكتابة والصياغة، وفي هذا يقول فوكو: «خلال السنوات (1945-1965م)، أفكر في أوروبا، كانت هناك طريقة مستقيمة معينة في التفكير، كان هناك أسلوب معين في الخطاب السياسي، وأخلاقية معينة للمثقف. كان عليك أن تكون مع ماركس في كل شيء، وألا تترك أحلامك تتيه بعيدا عن فرويد، وأن تعالج نسق العلامات - الدال - باحترام كبير. كانت هذه هي الشروط الثلاثة التي تعطي الاعتبار وطابع القبول لهذا الاهتمام المتفرد الذي هو فعل الكتابة، وقول جانب من الحقيقة حول ذات المثقف وعصره.»
10
في هذا الإطار يدعونا دولوز إلى الخروج عن تاريخ الفلسفة؛ «إذ الهدف ليس الإجابة على أسئلة، وإنما الخروج، الخروج منها.» لا توجد نقطة نهاية أو لحظة اكتمال، كأن ندعي أنها موجودة عند هيجل؛ ذلك أن نقاط النهاية أو فجوات الخروج لا متناهية، يقول: «كنت أفضل الكتاب الذين كان يبدو كأنهم ينتمون إلى تاريخ الفلسفة. لكنهم كانوا ينفلتون من إحدى جوانبه، ومن ثم يخرجون منه كلية، أمثال لوكريس وسبينوزا وهيوم ونيتشه وبرجسون. ففي ميدان الفكر، ليس هناك أساس مشترك، والمفكرون لا يطرحون الأسئلة ذاتها، ولا يستعملون المفاهيم عينها. ليس هناك ما يجمع المفكرين ويضمهم داخل تاريخ موحد. كل ما هناك حركات متفردة وخطوط متقاطعة ... ينبغي الخروج من الفلسفة والقيام بأي شيء كان للتمكن من إنتاجها من الخارج.»
11
ولا يتعلق الأمر فقط بتجاوز تاريخ الفلسفة، وإنما بفك وحدته الموهومة للعثور فيها على ما هو متفرد «يتعلق الأمر ببعث الحدث في وحدته وتفرده داخل ما يسمى حركة كلية. ذلك أن متابعة أحداث الفكر من شأنها أن تبرز الفكر كحدث. فلسنا هنا، كما يقول فوكو، أمام وحدات، أو كليات، وإنما أمام تفردات.»
12
لذا يشبه دولوز تاريخ الفلسفة بفن البورتريه في الرسم؛ فكل فيلسوف لديه بورتريه خاص به ... بورتريه ذهني مفهومي. ومهمة المتعامل مع تاريخ الفلسفة ليس مجرد ترديد أو استنساخ ما قاله الفيلسوف، بل «قول ما يضمره بالضرورة؛ أي ما لا يقوله وهو ماثل مع ذلك فيما يقوله.»
13
هذه الروح المتمردة على كل ما هو متصل وثابت تقف موقفا مماثلا أمام استخدام المنهج في الفلسفة «إن كلمة منهج كلمة رديئة.»
14
فالمنهج يمارس سلطته أيضا على المؤلف، كما أن المنهج ذو قوالب ثابتة تقف عثرة أمام كل تغيير وصيرورة. في مقدمة الكلمات والأشياء
Les Mots et les choses
يقول فوكو: «إن بعض المعلقين الذين تنقصهم الفطنة، في فرنسا، يلحون على إلحاق صفة «البنيوي»
structural
بشخصي. وقد عجزت عن أن أدخل إلى عقولهم الضيقة حقيقة أنني لا أستخدم المناهج والمفاهيم أو المصطلحات الأساسية التي يتميز بها التحليل البنيوي، ولا أي منهج آخر.»
15
والحق أنه لا دولوز، ولا فوكو، ولا فلاسفة ما بعد البنيوية يستخدمون أيا من المناهج المتعارف عليها في تاريخ الفلسفة بصورة أساسية؛ بمعنى أنه إذا كان شائعا في تاريخ الفلسفة انتماء الفيلسوف لمذهب ما، أو إخلاصه لمنهج ما، فإن هذه القاعدة لم تعد سارية في فلسفة ما بعد الحداثة. فهناك مستويات منهجية متباينة داخل النص الواحد دون التلميح أو الإشارة إلى استخدام منهج بعينه، حتى تفكيكية دريدا ليست منهجا إنما هي ممارسة على النصوص والظواهر، أو استراتيجية
stratégie
كما يفضل هو نفسه وصفها. يقول دريدا: «إن تفكيك الفلسفة يعني الاشتغال عبر الجينولوجيا، التي قد شيدت مفاهيم الفلسفة، اشتغالا يقيم عند هذه المفاهيم إقامة يداخلها الشك، ويعين في الوقت نفسه - من منظور خارجي ليس بالإمكان منحه اسما أو وصفا بعد - بقدر ما قد حجبه هذا التاريخ أو أبعده، ذلك التاريخ الذي قد أنشأ نفسه من أوله إلى آخره، تاريخا لهذا الكبت. وها هنا يكمن الرهان.»
16
سيحتل مفهوم السلطة مكانة بارزة في أعمال دولوز وفوكو - على وجه التحديد، وسيكون حاضرا - بل مستهدفا - في كل تحليلاتهم الخطابية، بدءا من الأعمال الأولى وحتى مؤلفاتهم المتأخرة؛ فقد كانت أولى أعمال دولوز الإشراف على مجموعة من الدراسات حول مفهوم السلطة، وقد صدرت تحت عنوان «الغرائز والمؤسسات»
Instincts et institutions ، كما كان موضوع السلطة، هو الموضوع الأساس، في دراسته المطولة عن «الرأسمالية والشيزوفرنيا»
Capitalisme et schizophrénie ، كما كان مدخله لدراسته عن «فوكو». وقد رأى دولوز أننا لسنا في حاجة إلى نظرية في السلطة، بقدر ما نحن في حاجة إلى سياسة وتدبير جديد لعلائق السلطة «لن نجد أبدا معنى شيء ما، إذا لم نعرف ما هي القوة التي يمتلكها الشيء، والتي يستغلها ويحتكرها ويعبر عن نفسه من خلالها. إن الظاهرة ليست مجرد مظهر أو حتى عملية ظهور، ولكنها علاقة أو عرض يجد معناه في قوة آنية. الفلسفة بأسرها هي علم للأعراض
syptomologie
وعلم للعلامات
séméiologie .»
17
ويمكن صياغة سؤال دولوز كالآتي: كيف تعمل السلطة؟ وكيف تنتظم الحقيقة والسلطة معا ضمن تشكيلة خطابية واحدة؟ ينطلق دولوز، تمهيدا لمناقشة هذه الإشكالية، من انتقاد احتكار الفكر السياسي لمفهوم السلطة؛ فمفهوم السلطة يتجاوز السياسي، ليشمل العديد من المظاهر الأخرى «كل قوة هي امتلاك وسيطرة واستغلال لكم من الواقع، حتى الإدراك في كل مظاهره المتنوعة هو تعبير عن القوى التي تمتلك الطبيعة.»
18
ذلك أنه لا ينبغي في نظره، أن نبحث عن السلطة عند نقطة مركزية تكون هي الأصل، عند بؤرة وحيدة للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولد عنها، وإنما ينبغي رصدها عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي تولد، دونما انقطاع، حالات للسلطة «إن تاريخ شيء ما بشكل عام هو تتابع القوى التي تحتكره، والتواجد المشترك للقوى التي تكافح لحيازته.»
19
ومن نفس هذا المنطلق، يرى فوكو أن هناك مفهوما ميتافيزيقيا لاهوتيا عن السلطة ينبغي تقويضه للوقوف عند تلك العلائق. فليست السلطة تنزل من أعلى أو تنبع من فوق، إنها تأتي من كل صوب، وهي منتشرة في كل مكان، حاضرة في جميع الأفعال وأنماط السلوك، وهي لا تفتأ تنتج نفسها في كل لحظة وحين. ولكن ليس ذلك لأنها تتمتع بقدرة جبارة على احتضان كل شيء، وضمه تحت وحدتها التي لا تقهر، وإنما لأنها تتولد، كل لحظة، عند كل نقطة، أو بالأحرى، في علاقة كل نقطة بالأخرى.
لذا فإن السؤال «ما السلطة؟ أو ما مصدرها وأصلها؟» في غير محله، والأجدى أن نتساءل عن الكيفية التي تتحقق بها أو كيف تمارس نفسها وتظهر إلى الفعل؛ يقول دولوز: «إن السلطة تتغلغل في كل جانب حيثما توجد فرديات مهما كانت بسيطة ومتناهية في الصغر ... تارة تقمع، وأخرى تموه أو تخدع وتوهم، تارة تتقمص زي الشرطة، وتارة ثانية تتخذ شكل الدعاية.»
20
لا معنى إذا للقول بمراكز للسلطة، إن السلطة ليست متاعا يكتسب. إنها ليست «شيئا» يحصل عليه وينتزع أو يقتسم، شيئا نحتكره أو ندعه يفلت من أيدينا. السلطة استراتيجية تمارس، وهي تمارس انطلاقا من نقاط لا حصر لها، وفي خضم علائق متحركة لا متكافئة «إنها كالفأر لا ترى بوضوح إلا في متاهات الممرات الأرضية وداخل جحورها متعددة المنافذ ... إنها تمارس نفسها كسلطة، انطلاقا من نقاط لا حصر لها ... تمارس نفسها في خفاء.»
21
من نفس المنطلق رأى فوكو أن هناك علاقة وثيقة بين أنظمة المعرفة (الخطابات) ونوع الممارسات التي تحقق السيطرة والهيمنة الاجتماعية داخل سياقات محددة متعينة كالسجون ودور العبادة، والمستشفيات، والجامعات، والمدارس، وعيادات الطب النفسي، فكلها أمثلة على المواقع التي تمارس فيها كل أشكال القمع والقهر. وكل موقع من هذه المواقع له استراتيجية للقمع تختلف عن الموقع الآخر؛ لذا فإن تفاصيل ما يحدث في كل موقع لا يمكن فهمها بمجرد الإحالة على نظرية تعميمية كبرى. والموقع الوحيد الذي لا يمكن محوه، بحسب فوكو، هو الجسد البشري، فعليه تسجل وإلى الحد الأقصى كل أشكال القمع. ويذهب فوكو إلى أنه «لا يمكن أن تقوم علاقات سلطة بدون مقاومات.»
22
وبؤر المقاومة عند فوكو، كما هي عند دولوز أيضا، تتمثل في جماعات المهمشين، والجماعات الإثنية، والملونين، وحتى الشواذ جنسيا، هذه الجماعات تحدث خرقا في النظام، وفي القواعد؛ لأن القوى المسيطرة تسقطها دائما من حساباتها.
23
وقد عبر الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز
H. Marcuse
عن هذا المعنى من قبل في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»
Der eindimensionale Mensch
عندما قال: «خلف الطبقات الشعبية المحافظة يوجد أساس للمهمشين، والخارجين على قواعد المجتمع ... السلالات الأخرى ... الألوان الأخرى ... الطبقات المستغلة المضطهدة، والعاطلون، وأولئك الذين لا يمكن توفير فرص عمل لهم. إنهم يتموقعون خارج المسلسل الديمقراطي، وحياتهم تعبر عن الحاجة، الأكثر إلحاحا وواقعية، إلى وضع حد للظروف والمؤسسات التي لا تطاق ... إن معارضتهم تضرب النظام من الخارج، ومن ثم، فإن النظام لا يمكنه أن يدمجها. إنها قوة أساسية تخرق قواعد اللعبة، وبفعل هذا العمل تظهر أن تلك اللعبة - لعبة الديمقراطية - كانت فاسدة.»
24
والواقع أن هذا هو النموذج الجديد للثورات التي يرى فيها دولوز إمكانية للتحقق، في ظل تنامي وتوحش الرأسمالية العالمية، وسيطرة وسائل الإعلام. فنموذج الثورة الشعبية التقليدية، بات وفقا لدولوز، ينتمي إلى الماضي، والبديل يكون عبر قيام ثورات جزئية على يد الأقليات المهمشة، تحدث بالتدريج خرقا في النظام، يؤدي لانهياره.
25
ثمة ارتباط دائم بين اللغة والسلطة؛ فالبناء اللغوي المستقر يمارس دورا سلطويا «لم تصنع اللغة من أجل الاعتقاد فيها وإنما من أجل الخضوع لها.»
26
والعلاقة وثيقة بين إنتاج المعنى والقوى التي تهدف إلى الإخضاع والسيطرة؛ ففي اللغة تجد مفاهيم السلطة إمكانية دوامها وخلودها. من هنا تصبح اللغة ذاتها فعل سلطة، صادر عمن بيده الهيمنة «حينما تفسر المعلمة عملية معينة للأطفال أو حينما تعلمهم التركيب، فإنها لا تعطيهم في الحقيقة معلومات، وإنما تمرر لهم تعليمات وتبلغهم أوامر وتنتج لهم تلفظات «وجيهة»، وأفكارا «صحيحة» مطابقة بالضرورة للدلالات السائدة.»
27
من هنا تصبح استراتيجية إطلاق الأسماء وتحديد العبارات والمعاني، استراتيجية هيمنة وتسلط. لقد قال نيتشه من قبل: «إن حق السيد في إطلاق الأسماء يذهب إلى مدى بعيد، إلى حد أنه يمكن اعتبار أصل اللغة كفعل سلطة صادر عن هؤلاء الذين يهيمنون. إن هؤلاء قالوا هذا كذا وكذا، وألصقوا بموضوع ما وفعل ما لفظا معينا فتملكوهما.»
28
وبالتالي لن تصبح مسألة المعنى متوقفة على تحديد مواطن الحقيقة. بل إن مفهوم الحقيقة ذاته سيتخذ معنى آخر ليصبح مجموع الطرق والعمليات التي يتم بفضلها إنتاج العبارات وتوزيعها وتداولها. صحيح أن الحقيقة ستظل مرتبطة بأنظمة السلطة التي تولدها وتدعمها، لكنها سترتبط أيضا بنتاجات السلطة التي تتولد عنها، يقول فوكو: «لا شيء أضعف من نظام سياسي لا يكترث بالحقيقة، لكن لا شيء أخطر من نظام سياسي يدعي تحديد الحقيقة.»
29
حينئذ سيصبح لكل مجتمع نظام معين للحقيقة، وسياسة للمعرفة؛ أي أنواع من الخطابات يقبلها ويسمح بتداولها على أنها خطاب الحقيقة، وآليات ومنابر تسمح بتمييز الصواب من الخطأ، وتقنيات وطرق للتوصل إلى الحقيقة، ووضعية معينة لأولئك الذين يوكل إليهم إصدار قول ما يعمل كحقيقة. يقول جرامشي
Antonio Gramsci : «الجماعة التي تمسك بزمام السلطة في المجتمع تصر دوما على أن المناقشة الفكرية يجب أن تتم من خلال اللغة التي تستخدمها (هذه الجماعة) أو التي تفهمها وتقدم طريقتها للنظر إلى العالم وتأويله والهيمنة عليه.»
30
وقد رأى دولوز في نظرية العلامات ل «دي سوسير»، ما يعضد هذا الجانب السلطوي للغة، وما يجعل من النص بنية مغلقة لا تسمح بتعددية المعنى.
إن أحد الإسهامات الهامة لدولوز، في تيار ما بعد الحداثة، هو الاهتمام بتفكيك الخطاب السلطوي والكشف عن تجلياته وأشكاله في مجالات عدة،
31
وسيكون هذا عبر تحرير المعنى، وتأسيس تعدديته. وبعد أن كان الحديث عن السلطة ولغتها لا يتم إلا لماما وبواسطة طرق رمزية ملتوية - مثل جعل الخطاب على لسان الحيوانات كما في مزرعة الحيوان لأورويل
Orwell - أصبح الآن يتم الحديث عنها على أساس هذا التعدد الحضوري لها في كل خطاب «فهناك دائما تعدد في المعنى، تركيز وتكثيف وتركيب من التتابعات اللغوية وأشكال التواجد المشترك، التي تجعل من التفسير والتأويل فنا ممكنا.»
32 (2) ضد العقلانية والحقيقة الموضوعية
هي قيمة بارزة أيضا من القيم النظرية لاتجاهات ما بعد الحداثة؛ إذ دائما ما توصف بأنها «نزعات معادية للعقل»
hostile à la raison . وهذه القيمة تعود إلى نيتشه في الأساس. فالواقع أن الكثير من الطرق الرئيسة والفرعية لاتجاهات ما بعد الحداثة تعود إلى نيتشه؛ لذا ينبغي أن نتوقف عند نقد نيتشه للعقل، ثم نوضح كيف تم توظيف ذلك النقد في تيار ما بعد الحداثة.
لقد رأى نيتشه أن صنم الفلاسفة الأكبر هو العقل: لقد آمنوا بقدرته على اكتشاف الحقيقة والوجود، وجعلوا منه حاكما مطلقا، وجعلوا من قوانينه قوانين الوجود، ثم نزعوه من الحياة، وجعلوه في منزلة أعلى من الوجود. وبدءوا يخلعون عليه صفات القداسة والسيادة، وتحول من كونه أداة للحرية إلى أداة للقمع والقهر.
وقد نظر نيتشه إلى المنطق وقوانين الفكر، على أنها مجرد أوهام ضرورية للحياة، وأدوات للتملك والسيطرة. فهي ضرورية للعقل كي يقوم بالتفكير، لكنه ما يلبث أن يفرضها على العالم والوجود، ثم يدعي أنها مستمدة منه ونابعة من داخله، في حين أنها أوهام من خلق العقل ولا تمت للواقع بصلة. فأشياء العالم الخارجي لا تسير وفق قوانين محددة، إنما هي في صيرورة دائمة وتدفق مستمر، ومن المستحيل وجود قانون يحدها أو يستوعبها، إنما القوانين مجرد أداة وحيلة اخترعها العقل فقط كي يقوم بعملية الإدراك. وبالتالي فإن «عدم معقولية شيء من الأشياء ليست حجة ضد وجوده، بل بالأحرى إنها شرط لوجود هذا الشيء»؛ لأن الوجود المليء بالصيرورات يتناقض مع العقل ويتنافى مع المعرفة العقلية؛ «إن الذي يمكن تصوره عقليا، لا بد أن يكون وهما لا حقيقة له.»
33
يستبدل نيتشه في فلسفته «إرادة القوة»
Der Wille zur Macht
ب «إرادة المعرفة»
Der Wille zur Wissen ؛ فليست المشكلة عند نيتشه متعلقة بالبحث عن الحقيقة أو محاولة الكشف عنها؛ لأن الحقيقة نفسها كلمة مضللة، فهي تنفي الاختلاف الذي هو من صميم الحياة. والمشكلة، وفقا لنيتشه، أنه لم يتوقف فيلسوف من قبل للتساؤل عن كنه الحقيقة، بل كانت كل الأسئلة متمحورة حول كيفية بلوغها أو شروط إمكانها. كل الفلسفات اعتبرت أن مسألة الحقيقة ليست في حاجة إلى ما يبررها «اسألوا أقدم الفلسفات وأحدثها عن هذه المسألة تجدوا أنه ليس هناك من فلسفة واحدة تعي أن إرادة الحقيقة بالذات تحتاج إلى تبرير.»
34
بل وأكثر من ذلك، غدت مسألة الحقيقة هي المنطلق والأساس الذي تتأسس عليه كل فلسفة، وبالتالي أصبحت الحقيقة «صنما أو إلها يقدسه الفكر باحثا عن كل سبيل لبلوغه.»
35
في مقابل هذا الفهم، ينظر نيتشه للحقيقة على أنها حشد من الاستعارات والكنايات التي تكونت عبر التاريخ، وتم التعامل معها بعد ذلك بوصفها بديهيات أو حقائق؛ «فالحقائق أوهام نسينا أنها كذلك.»
36
وبالتالي فالعقل هو أكبر منتج للأوهام. من هنا يعلن نيتشه في «أفول الأصنام» الحرب على كل الأصنام التي رسختها الفلسفة من قبله استنادا إلى قوانين العقل، التي هي في صميمها محض تلفيق.
كان طبيعيا أن يلجأ نيتشه إلى الفن بوصفه الميدان البديل الذي تغيب عنه مفاهيم الحقيقة والعقل والضرورة، وبوصفه منتجا للزيف والوهم، وقد قام نيتشه بنقل مفهوم الوهم من الميتافيزيقا إلى الفن ليتحول إلى مفهوم جمالي؛ «فالفن والوهم مفهومان مرتبطان يشكلان وحدة ينبثق داخلها معنى جديد للحياة؛ حيث يتم التزاوج بين الفكر والحياة داخل أحضان الجمالي؛ فالفن والوهم إمكانية جديدة للحياة.»
37
وقد تابع فلاسفة ما بعد الحداثة تلك المقولات النيتشوية وأعادوا تفعيلها وتطبيقها على ظواهر مختلفة؛ فقد تابع دولوز، على سبيل المثال، نيتشه في نفيه لوجود حقيقة متعالية، وفي رفضه للتقسيم الأفلاطوني للعالم إلى ظاهر ومتعال، كما مضى بمحاولة نيتشه «قلب الأفلاطونية» إلى نهايتها. كما أن تصور دولوز للعالم الذي تحكمه الصيرورة والعود الأبدي ... الاختلاف والتكرار، مستمد في مجمله من فلسفة نيتشه. أما بالنسبة للفن، فقد اعتبره دولوز، مثل نيتشه، أرقى قوة للزائف؛ إذ هو «يعظم الحياة بوصفه خطأ، ويقدس الكذب ويجعل من إرادة الخداع مثلا أعلى.»
38
وإذا كان الفن يقف عند ظاهر الأشياء ولا يعبر عن حقيقتها، كما ذهب أفلاطون، فإن دولوز يرى أنه ليس ثمة «ما وراء» لهذا الظاهر، وأن أكثر الأماكن عمقا هو السطح الخارجي للشيء. كل هذه الآراء مستمدة من نيتشه، وقد وظفها دولوز في فلسفته، وبنى عليها العديد من مواقفه.
توصف حركة ما بعد الحداثة بأنها حركة «جمالية»
Aesthetics .
39
تعلي من الشأن الجمالي بوصفه بديلا معاصرا للعقلانية، ومن «الجسد» و«الرغبة» بديلا للعقل والفكر، ومن الصيرورة والاختلاف بديلا لقوانين الهوية وعدم التناقض. وقد استمر الخط النيتشوي في التضخم بعد الدعم الذي تلقاه من فلاسفة النظرية النقدية وفلسفة هيدجر، ليصل إلى أقصى إمكاناته وقدراته الكامنة عند فلاسفة ما بعد الحداثة. كان نيتشه يقول عن نفسه إنه «ديناميت»، وقد ظل هذا الديناميت في النمو والتضخم إلى أن انفجر مدويا في مرحلة ما بعد الحداثة، محدثا أثرا تفجيريا - وربما تدميريا - هائلا.
لقد رأى فلاسفة ما بعد الحداثة أن إخراج الإنسان من النسق الذي حوله إلى ماهية عقلية مجردة، يمكن أن يتحقق خارج لغة المنطق وأسوار العقل؛ وذلك بالعودة إلى الفن واللغة، هنا يمكن أن يتجلى البعد الوجودي للإنسان. إن الحكماء السابقين على سقراط لم يكونوا يتكلمون بلغة «المنطق الصوري» للتعبير عن الإنسان وعن الوجود، بل كانوا يعبرون بواسطة القصائد الشعرية وبلغة الرمز. لكن عندما جاء أفلاطون، ومن بعده أرسطو، وضع الشعر في أدنى مراتب القول؛ لأن الشعر لا يتحرك في فضاء الحقيقة وإنما يتحرك في مجال المجاز. وبعد أفلاطون سيطرت لغة المنطق والعقل على الخطاب الفلسفي، وتحول الإنسان إلى قضية منطقية تتكون من موضوع ومحمول. لذا، فتحرير الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا إذا غيرنا الطريق الذي أوصله إلى العبودية. وقد وجد فلاسفة ما بعد الحداثة - متابعين في ذلك نيتشه - أن البديل هو أن نستبدل القول الفني أو الجمالي بالقول المنطقي؛ أي العودة إلى ديونيزوس من جديد. لذا تحفل مؤلفات فلاسفة ما بعد الحداثة بالإحالة على تاريخ الفن، أكثر من إحالتهم إلى تاريخ الفلسفة.
يكتب فوكو عن «تاريخ الحمق»
Histoire de la Folie
لا عن «تاريخ العقل»؛ لأن الحمق هو خطاب اللاعقل، إنه الخصم العنيد للنظام الذي ينبني عليه العقل. أعاد فوكو قراءة تاريخ الحمق لاكتشاف بنيته؛ فالحمق واقعة إنسانية وظاهرة مرتبطة بالمدنية الحديثة التي استبعدته باعتباره شذوذا عن القاعدة باسم العقل؛ لذا يذهب موريس كلافيل
Maurice Clavel
إلى أن كتاب فوكو «ولادة العيادة »
Naissance de la Clinique
هو الكتاب الأول الذي برهن على أن العقلانية أداة هيمنة واستعباد للناس.
40
لقد نظر فوكو إلى الحمق في سياق علاقته بمفهوم السلطة؛ فالسلطة العقلية هي التي أعطت لنفسها حق التمييز بين «العقل» و«الحمق». إن المجنون كمريض، قدمته الشرطة بعد إلقاء القبض عليه إلى الطبيب، أصبح موضوعا لعلم جديد. لذا فالعلم الجديد لم يكتشف موضوعه طبقا لشروط إبستمولوجية معينة، بل قدمته له السلطة ك «قضية» أو «ملف». لقد أظهر فوكو أن السلطة تعاقب من يخرج عن طاعتها وتهمشه بوصفه شاذا،
41
بوصفه آخر؛ أي إن كل من يخرج عن منطق «العقل الاجتماعي» القائم على قيم الإنتاج، سوف يلقى به في دائرة الشذوذ.
والواقع أن ما يمكن أن نستخلصه من أطروحة فوكو هو أن الحقيقة، أو ما يبدو على أنه حقيقة، هو في عمقه لعبة سلطوية تمارس على فئة بعينها من أجل خدمة القوى المتحكمة في الصراع، يقول فوكو: «إن الحقيقة مرتبطة بأنظمة السلطة التي تولدها وتساندها.»
42
في نفس السياق تقريبا يرى دولوز أن هناك تنظيما يوجه الفكر إلى ممارسة ذاته وفق قواعد سلطة أو نظام سائدين، وبمرور الوقت «يتحول هو ذاته (أي الفكر) إلى سلطة، أو محكمة»، هذه المحكمة التي تمثلها «سلطة العقل»، حدث بينها وبين الدولة (كنظام سياسي) نوع من التواطؤ، بحيث أصبحت الفلسفة اللغة الرسمية للدولة. وبالتالي فإن من مصلحة الدولة أن تجعل من الفلسفة أداة للسيطرة على الفكر ووضعه في قوالب جامدة.
43
وبديلا لهذه القوالب الجامدة الموروثة من تاريخ الفلسفة، يطرح دولوز العديد من المفاهيم التي تقف أمام ثبات الفكر، والصورة التقليدية للعقل ومقولاته، ك «الصيرورة» و«الارتحال» و«خطوط الهروب» و«الرغبة».
44
ويجعل جاك دريدا من «تفكيك الأنساق الميتافيزيقية التي شيدها العقل المحض» هدفا لمشروعه التفكيكي. ويجعل ليوتار من مبدأ الرغبة أساسا لمناهضة فكرة «العقل»، ويحاول رورتي (1931-2007م) من خلال ما أسماه الفلسفة المنشأة
La philosophie édifiante
أن يزيل التمييز بين مفهوم «الحقيقة » و«المجاز»، ليجعل من الفلسفة «جنسا أدبيا بسيطا» يمكن إدراجه تحت تاريخ الفنون. ومن نفس المنطلق أيضا يرى بودريار أن محاولة اكتشاف الحقائق الثابتة الكامنة خلف الأشياء هو وهم يجب التخلص منه «فما بعد الحداثة في الأصل مناهضة لفكرة المعنى الكامن وراء الأشياء.»
45
والنتيجة ضياع مفهوم «العقل»، وغياب «الحقيقة»، في واقع تتجاور به قوى عديدة تسعى للسيطرة عليها واستحواذها.
والواقع أن نفي ادعاء امتلاك الحقيقة الذي ينادي به فلاسفة ما بعد الحداثة لا يستوجب أبدا نفي وهدم كل المقولات المعرفية الخاصة بمسألة المعنى والحقيقة والواقع. وهنا ربما تجدر العودة إلى هابرماس:
46
لقد رأى هابرماس أن المآل الذي وصلت إليه هذه الطرق، أسوأ من الأزمة التي انتهت إليها الحداثة. ذلك أن رد الفعل العنيف تجاه العقلانية الحديثة التي تلازمت مع الحداثة، أدى بأصحابه إلى السقوط في الاتجاه المضاد؛ أي في الطرف الأقصى للحداثة، وهو اللاعقل. كما أن محاربة النسق أدى إلى تدمير الذات المسجونة فيه، مما جعل الإنسان يغيب من مشاريع ما بعد الحداثة. لم ينتبه هؤلاء إلى أن سحقهم للأنساق، جرف معه انسحاق الإنسان أيضا. وما عبارة فوكو التي يقول فيها إن النزعة الإنسانية هي أثقل ميراث انحدر إلينا من القرن التاسع عشر ... وقد حان الأوان للتخلص منه، ومهمتنا الراهنة هي العمل على التحرر نهائيا من هذه النزعة؛
47
إلا دليل سافر على ذلك.
لهذا يرى هابرماس أن البديل الممكن للعقل الحديث ليس هو اللاعقل، بل هو العقل التواصلي
Der Grund Kommuniationsmaschine ؛ أي البحث عن بديل لنوعية العقل، وليس إلغاء العقل كليا. فالعقل الخالص الذي حول الإنسان إلى ماهية ميتافيزيقية، يمكن أن نقارنه بعقل آخر قادر على الربط بين هذه الذرات المنعزلة، وهذه الماهيات الكامنة وراء الوجود. إذا فالقضية ليست هي: كيف نسحق النسق؟ بل هي: كيف نحرر الذات من سجن النسق؟
العقل التواصلي - كحل للخروج من أزمة العقل النظري - لا يهدف إلى إنتاج معرفة علمية عن الموضوع أو عن الذات، كما كانت تهدف فلسفات الحداثة، بل هدفه إقامة أرضية صالحة للتفاهم بين الذوات وإخراجها من عزلتها. هدف العقل التواصلي إقامة الجسور القادرة على الربط بين الأنا والآخر، والبحث عن الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الهدف. ولهذا يعود هابرماس إلى هيجل؛ لأن هيجل هو الذي حاول إقامة التواصل بين الأنا والآخر بواسطة الجدل. فالذات يمكن أن تتحول - بفضل المنهج الجدلي - إلى نقيضها؛ أي إلى الموضوع، وبذلك تتمكن من تحقيق حريتها. إلا أن هيجل عندما أوقف حركية الجدل، انغلق النسق من جديد.
48
ورغم أننا نعثر عند هيجل على نظرية للسلطة والسيادة (جدل السيد والعبد) تصلح للبناء عليها، إلا أن ما بعد الحداثة لا تلتفت إلا إلى ما يخدم تصوراتها، يقول هابرماس: «لقد كان هناك نضج مبكر في نقد الأوجه القمعية للعقل عندما يكون هذا الأخير مشدودا إلى بعد واحد ... وهذا النقد الذاتي للعقل، والذي نظر إليه منذ نيتشه بوصفه كشفا جديدا، كان حاضرا منذ البداية عند كانط، ثم استمر مع هيجل ونيتشه، كان حاضرا في قلب الحداثة ذاتها، لكنه لم يستثمر.»
49
وأمام دعاوى موت الإنسان، ونهاية الفلسفة، وتفكيك العقل، والانتصار للاعقل، يلاحظ هابرماس، بنوع من الهدوء أنه «في العشر سنوات الأخيرة، أصبح النقد الراديكالي للعقل مجرد موضة.»
50 (3) ضد الكلية والشمولية
كانت فكرة النسق سائدة في الحقبة الحداثية؛ حيث كان الفيلسوف ينظر إليه، وينظر هو إلى نفسه، على أنه مفكر كوني شمولي، وبالتالي لا بد أن يكون له رأي في كل قضية، وهذا الرأي يشكل، بجوار آرائه الأخرى، نسقا متكاملا يتصف بالكلية والشمولية. وقد ظلت فكرة النسق سائدة حتى القرن العشرين، وإن خفتت حدتها مع ظهور الفلسفات التي اهتمت بالمناهج لا المذاهب - كالفينومينولوجيا والفلسفة التحليلية. لكن ظلت فكرة النسق كامنة بصورة أو بأخرى في لا وعي الفيلسوف، يقول دولوز: «لقد اعتبر المثقف نفسه خلال فترة طويلة ممتدة من القرن الثامن عشر حتى الحرب العالمية الثانية (ربما حتى سارتر وزولا) حاملا لقيم شمولية.»
51
ونتيجة للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي زادت وتيرتها في القرن العشرين، بدأ بعض المفكرين (من أمثال فلاسفة مدرسة فرانكفورت، والفلاسفة الوجوديين) النظر إلى مفهوم الكلية والشمولية بعين الريبة؛ أولا: لأن الواقع لا يتجاوب مع كل ما هو كلي أو شمولي. ثانيا: لأن التاريخ لم يقدم لنا نموذجا متحققا لفكر شمولي. وثالثا: لأن هذه الأفكار تم توظيفها من قبل قوى تهدف للسيطرة والهيمنة. من هذا المنطلق رأى أدورنو
Adorno
أن الكلية ينبغي أن ينظر إليها على أنها حقل من القوة متشظ ومتنافر بعيد عن الانسجام، فكل ما هو مفرط في نظاميته وسلاسته ينبغي أن ينظر إليه بعين الريبة والشك، وعلى أنه يعكس ضروبا زائفة من التناغم والانسجام تنبعث من المجتمع. والحال، أن أدورنو يرفع شعارا مقتضبا يقول «الكل غير حقيقي».
52
استثمر فلاسفة ما بعد الحداثة انتقادات أدورنو - ومن قبله نيتشه - وغيره من فلاسفة مدرسة فرانكفورت، للأنساق الكلية الشمولية، وبدءوا في عملية نقد عنيف لكل النظريات والفلسفات التي ادعت الكلية والشمولية، يقول إيجلتون: «تشير ما بعد الحداثة إلى موت السرديات الكبرى، تلك التي كانت تتمثل وظيفتها الإرهابية السرية في وضع أساس لوهم تاريخ بشري «شامل» وإضفاء الشرعية عليه. نحن الآن في سياق عملية الصحوة للانتقال من كابوس الحداثة، مع عقلها المخادع
Manipulative
وتبجيلها المبالغ فيه لفكرة الكلية، إلى التعددية الراسخة ما بعد الحداثية، تعددية المجال المتنافر اللامتجانس لأساليب الحياة وألعاب اللغة التي تخلت عن دافع الحنين إلى الكليات وإلى شرعنتها. وعلى العلم والفلسفة أن يتخليا بالتالي عن ادعاءاتهما الميتافيزيقية الفخمة والنظر إلى ذاتهما بتواضع أكبر، باعتبارهما فئة أخرى بالضبط من الروايات.»
53
هذا النص يلخص تماما الموقف ما بعد الحداثي من فكرة الكلية والشمولية والأنساق المغلقة، وفي مقابل ذلك يختص فلاسفة ما بعد الحداثة بالتعددية والاختلاف والتشظي.
في كتابه «الوضع ما بعد الحداثي» (1979م) يعلن ليوتار وفاة «السرديات الكبرى» أو الحكايات الميتافيزيقية
méta-récits ، ويقصد بها التصورات الشمولية التي كانت سائدة إبان عصر الحداثة، والتي تعتمد في بنائها على تصور كلي، كالروح المطلق وخلق الثروات والشيوعية والديمقراطية والنزعة الإنسانية والروح العلمية ... إلى آخر تلك الأفكار التي أطلقها الغرب وأثبت الواقع فشلها «ذلك أن معسكر التعذيب في أوشفيتز ينتقص القول العقلاني، وتجبر وعناد ستالين يفندان الأطروحة الإنسانية، واندلاع ثورة مايو 1968م إيذانا بانزلاق مزاعم الليبرالية في هوة سحيقة.»
54
وقد ميز ليوتار على الخصوص بين ثلاث من تلك السرديات وهي: العلم الوضعي باعتباره مفتاحا للتقدم البشري، على ما يقول ماخ، وهرمينوطيقا (المعنى) باعتبارها مفتاحا للتكوين الذاتي البشري على ما يذهب إليه همبولت والمثالية الألمانية، والصراع الطبقي كمفتاح لخلاص الجنس البشري أو الإنسان على ما يقول ماركس. إلا أن هذه الميتاحكايات أو السرديات الثلاث قد ظهر فسادها على الرغم من كل ما قدمته من قضايا ونظريات عامة كلية وشاملة، وهو الشمول الذي يرفضه ليوتار وفلاسفة ما بعد الحداثة، ويقفون منه موقف التشكيل والمعارضة؛ فمشروعية المعرفة في مجتمع ما بعد الحداثة تتم عن طريق أمور أخرى بعد أن فقدت هذه الأساطير مصداقيتها، ولم يعد هناك في نظر ليوتار أي أسطورة أو قصة أو حكاية عليا مسبقة، كما لم يعد هناك أي صورة واحدة أو صيغة واحدة للخطاب يمكن أن تقوم وتعلو وترتفع فوق غيرها من الصور أو الصيغ، كما أنه لم يعد هناك شكل واحد للمعرفة يمكن اعتباره أساسا لبقية أشكال المعرفة الأخرى، وإنما هناك بدلا من ذلك أشكال وأنواع وصيغ متعددة لما يسميه الألعاب اللغوية، وهو مصطلح مستمد من كتابات فتجنشتاين المتأخرة كما سبق لنا القول، وتقوم فكرته عند ليوتار على أساس أنه لكي نعرف معنى كلمة أو عبارة ما فلا بد من أن نعرف طريقة استخدامها، وكيف تؤدي دورها في التفاعل بين الناس. وعلى ذلك، فليس هناك لغة ماورائية (أو ميتا-لغة) واحدة يمكن أن تضم كل أشكال وألوان العبارات والتعبيرات وتؤلف خلفية أو أرضية لها كلها. وإذا كان العلم يصدر أحكاما وتعبيرات معرفية، فإن هناك أنواعا أخرى كثيرة من التعبيرات تخرج عن نطاق العلم مثل التعبيرات الأدائية، فحين يعلن رئيس جامعة - مثلا - أن العام الدراسي قد بدأ، فإن هذه العبارة لا تؤلف تعبيرا أو حكما معرفيا، وإنما هي تعبير عن فعل أدائي فحسب. وعلى ذلك فإن قواعد وشروط الخطاب ليست مقررة سلفا، وإنما هي تظهر وتتضح أثناء الحديث نفسه. ولذا فقد يكون من التعسف محاولة إقرار وفرض نوع واحد أو شكل واحد من أشكال الخطاب أو التفكير، وليوتار يصف مثل هذه المحاولات بأنها «شمولية» أو «فاشية» أو حتى «إرهابية» خليقة بأن تقابل بالرفض لأنها تهدف إلى تحطيم الآخر. والخلاصة من هذا كله، هي عدم وجود قاعدة عامة أو دستور أو قانون كلي
Code
مطلق للمعرفة وعدم وجود أي معيار كلي مطلق للصدق، وأن ما بعد الحداثة تؤلف من الناحية المعرفية البحتة الخطوة أو الحركة الأخيرة في (الحرب ضد الشمولية) والكلية والعمومية التي كانت تسيطر على الفكر الغربي الحديث حتى منذ ما قبل أيام ماكس فيبر.
55
ويرى ليوتار أن هذه السرديات روجها الغرب للحفاظ على الاستقرار والنظام، وهي أوهام ينفيها الواقع العملي. وكل مجتمع - في نظر ليوتار - له سردياته التي يروج لها؛ «فالوهم الكبير في الثقافة الأمريكية هو أسطورة أن الديمقراطية هي شكل الحكم الأكثر تنويرا و«عقلانية»، وأن «الديمقراطية ستقود إلى السعادة الإنسانية».» والأمر نفسه في الماركسية أيضا؛ «فوهم الماركسية هو أن الرأسمالية ستنهار وينهض على أنقاضها عالم اشتراكي طوباوي.» ويؤكد ليوتار أن كل جوانب المجتمعات الحديثة، بما في ذلك العلم كشكل أولي للمعرفة، تعتمد على هذه السرديات الكبرى، والتي يكون الهدف منها استخدامها كقناع لإخفاء التناقضات والاختلافات في أي تنظيم أو ممارسة اجتماعية. بعبارة أخرى، فإن كل محاولة لخلق «نظام» ينتج عنها دائما خلق مواز من «الاضطراب والفوضى»، ولكن «السرد الكبير يخفي تناقض هذه النماذج الفوضوية من خلال التأكيد على أن «الاضطراب» بالفعل فوضوي ورديء، وأن «النظام» بالفعل عقلاني وخير.»
56
وبديلا لذلك يدعو ليوتار إلى حكايات صغرى
petits récits
موضوعية، تتناول قضايا المهمشين والمنبوذين وثقافات الأطراف، «إنها حكايات عارضة، ظرفية، لا تدعي العالمية والحقيقة، أو العقل والاستقرار.»
57
وهو بهذا، يؤكد على التخلي عن الأطر المستقرة، وعلى عدم جدوى أية محاولة للتغيير الجذري للمجتمع الراهن، وهو ما يتضح في مفاهيمه كالتجاوز والذات والتاريخ والتقدم، واعتباره التاريخ مفتوحا على احتمالات عدة.
لقد رفض فلاسفة ما بعد الحداثة فكرة أن تستطيع بنية فكرية ما، أو وحدة منطقية مزعومة، أن «تمثل» عددا معينا من البنيات أو الوحدات الفكرية الأخرى . فالواقع متعدد ومختلف، لا قانون له سوى قانون الصيرورة، ولا مكان فيه لفكرة الاتساق والاكتمال.
في مقالته «بلاغة الصورة»
Rhétorique de l’image (1987م) رأى بارت أن الأحكام الكلية تنبثق غالبا من «منظومات فكرية مكتملة» أو من تكوينات منطقية تدعي «الشمول»، ثم تصير نفسها سجينة النظرة المقعرة التي تشكلها هذه النظم. وفي النهاية يغيب الواقع ووقائعه عن هذه النظم وما تحتويه.
58
ووفقا لهذا الفهم فإن المفكر لا بد أن ينطلق من إشكاليات جزئية يحاول الإجابة عليها إجابات جزئية لا تدعي الشمول. ويعطينا دولوز أمثلة من هذه الإشكاليات يصيغها على شكل أسئلة كالآتي: ماذا أستطيع أن أعرف؟ ماذا أستطيع أن أرى؟ ماذا باستطاعتي التعبير عنه؟ ماذا بإمكاني أن أعمل وإلى أية سلطة نطمح، وأية مقاومة يلزم إبداؤها؟ ماذا باستطاعتي أن أكون؟ كيف أولد كذات؟ في هذه الأسئلة - يقول دولوز - لا يشير ضمير المتكلم إلى شيء كلي، بل إلى جملة من المواقع الفردية تشغلها أفعال غير مبنية للمعلوم ولا تستند إلى فاعل؛ فهي مبنية للمجهول ... وأي إجابة كيفما كانت لا يمكن نقلها والقفز بها من عصر إلى آخر.
59
ومن هنا يدعو دولوز لصورة جديدة للمفكر والمثقف، صورة أكثر واقعية وأكثر التصاقا بالحياة «لقد صار المثقف يتقلب اليوم بين أمكنة نوعية وبين نقاط فردية ... لقد بات المثقف قادرا على أن يتكلم لغة الحياة، بدل لغة الحق.»
60
وهو يرى أن ما حدث في 1968م ساهم بصورة قوية في ظهور هذه الصورة الجديدة. في نفس السياق يقول ميشال فوكو محددا أرضية ميلاد هذا الجيل الجديد: «لقد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة سارتر وميرلوبونتي؛ حيث كان على كل نص فلسفي، أو نص نظري ما، أن يعطيك في نهاية المطاف معنى الحياة والموت ومعنى الحياة الجنسية، ويقول لك هل الله موجود أم لا، وما هي الحرية وما ينبغي عمله في الحياة السياسية، وكيف تتصرف مع الآخرين ... إلخ. لقد تكون لدينا انطباع بأنه لم يعد ممكنا اليوم ترويج مثل هذه الفلسفة، وبأن الفلسفة قد تكون في حالة تشتت، إن لم تكن قد تبخرت، وبأن ثمة عملا نظريا يغلب عليه بشكل أو بآخر طابع التعدد.»
61
ويميز فوكو بين «المفكر الشمولي» والمفكر «المتخصص»؛ فالأول يعتبر نفسه مالك الحقيقة والعدالة «ضمير الجميع وممثل الكل»؛ أما الثاني فهو مفكر في «حدود معينة» في «نقط دقيقة» ومجالات ومشكلات خاصة «لا يتمثل عمل المثقف في تشكيل الإرادة السياسية للآخرين؛ إذ بأي حق يفعل ذلك، بل في إعادة مساءلة البديهيات والمصادرات عن طريق التحليلات التي يقوم بها في المجالات الخاصة به، وفي زعزعة العادات وطرق العمل والتفكير، وفي تبديد المألوف والمسلم به، وفي استعادة حدود القواعد والمؤسسات.»
62
ولا يتم هذا - بحسب فوكو - وفقا لنظريات وأنساق كبرى، ولا بأن يتصور المفكر أنه ضمير المجتمع والمتحدث نيابة عن الآخرين. إن ما اكتشفه المثقفون منذ انتفاضة 1968م - يقول فوكو - هو أن الجماهير لم تعد تحتاج إليهم لمعرفة واقعها، إنها تعرف ذلك تماما وبوضوح وبشكل أفضل منهم، لكن يوجد نظام من السلطة يسد ويمنع ويقلل من قيمة هذا الخطاب وهذه المعرفة. سلطة لا توجد فقط في الأوامر العليا للرقابة ولكن تتجذر بعمق وبدقة في كل شبكات المجتمع. والمثقفون أنفسهم يشكلون جزءا من نظام السلطة هذا، وفكرتهم القائلة بكونهم أدوات «الوعي» و«الخطاب» تشكل أيضا جزءا من هذا النظام.
63
وقبل فوكو ودولوز اضطر سارتر نفسه تحت وطأة الضربة القوية التي أحدثتها ثورة مايو 68 في ذات المثقف، إلى تغيير تصوره للمثقف: «إن أحداث مايو 68 التي انخرط فيها، والتي مسته بعمق، كانت بالنسبة له فرصة لمراجعة جديدة. لقد أحس بتشكك من وجوده كمثقف، ومن ثم اضطر في غضون السنتين اللاحقتين، إلى التساؤل حول دور المثقف، وإلى تغيير التصور الذي كان لديه عنه.» وهو في هذا يتشابه كثيرا مع مفكري 68 «إن المثقف محكوم عليه بالانسحاب من الأفق كإنسان يفكر بدل الآخرين: أن نفكر بدل الآخرين، أمر غير معقول يضع مفهوم المثقف ذاته موضع سؤال .»
64
يعد مفهوم «التشظي»
fragmentation
من المفاهيم الحاضرة باستمرار داخل النص ما بعد الحداثي «إن حقيقة ما بعد الحداثة الأكثر بروزا هي قبولها الكامل للحظي ، المتشظي والمتقطع والفوضوي.»
65
ذلك أن الحياة ذاتها متشظية، لا تخضع لأي نوع من الوحدة والانسجام. وإذا كان ذلك كذلك، فإن طريقة استجابة ما بعد الحداثة لهذه الحقيقة، إنما تجرى بطريقة خاصة؛ فهي لا تحاول تجاوزها ولا الهجوم عليها، ولا حتى بلوغ العناصر «الثابتة والدائمة» التي يمكن أن تكون فيها. ما بعد الحداثة واقع يسبح، بل يتمرغ، في موجة من التشظي والتغير والصيرورة كما لو كان ذلك هو كل ما في الأمر
66 «أن يكون كل شكل وقتيا وعابرا، تلك هي البداهة نفسها، ما دام يتبع علاقات القوى ويكون رهينا بتقلباتها.»
67
ويقترح علينا دولوز «تطوير ممارسة وفكر ورغبات» عبر «تفضيل ما هو وضعي ومتعدد، وتفضيل الاختلاف على التجانس، والمتحرر على الموحد، والمنفلت على النظام، والمتغير على الثابت.»
68
ذلك أن «كل شيء يتسم بالتغير وعرضة للتنوع.»
69
بل إن الكتابة نفسها عند بارت «ليست أبدا وسيلة اتصال ... إنها فوضى تنثال عبر الكلام وتمنحه الحركة ...»
70
يستند مفهوم التشظي عند فلاسفة ما بعد الحداثة على تصورهم للتاريخ البشري بوصفه مكونا من لحظات منفصلة غير مترابطة، وبدلا من محاولة تقديم أساس لإمكانية قيام ذات متماسكة في ظل عالم من الوقائع المتغيرة، يحاول فلاسفة ما بعد الحداثة السباحة مع التيار، استنادا لعدم إيمانهم بفكرة التقدم الخطي للتاريخ «لقد انهار نظام الكوزموس، وتفتت عبر تداعيات ووجهات نظر لا تتواصل فيما بينها.»
71
ووفقا لهارفي فإن مقولة ماركس وفلاسفة النظرية النقدية عن «استلاب الذات» ستكون بلا معنى؛ إذ إنه لتكون الذات مستلبة، يجب أن تكون أولا متماسكة متجانسة، وليست مجرد أجزاء أو شظايا. وقدرة الفرد على التفكير في المستقبل، إنما هي ممكنة فقط «بفضل شعوره بمركزية ذاته أو هويته.»
72
لذا فإن اختزال حياتنا في «سلسلة من لحظات الحاضر المجردة وغير المترابطة» ينجم عنه «أن عيش الحاضر» يغدو موقوفا وبقوة ل «المادي» وللظاهر، «إنه عالم يأتي إلى الانفصام عنيفا ، وحاملا قوة المشاعر السرية والقمعية، ومتوهجا بدوافع الهلوسة. وعليه فما الذي يحدث إذا فقد العالم آنئذ عمقه وبات عرضة لأن يكون سطحا رقيقا ، ووهما، أو مجرد تتابع لصور فيلم من دون معنى؟»
73
والنتيجة أن هذه الروح المتشظية قد حولت الذات من كونها واعية لديها القدرة على تكوين المعنى، إلى ذات انفصامية تفتقد المعنى في كل ما يتراءى لها (الانفصام هنا ليس بالمعنى السريري الضيق).
74
ويفترض دولوز وجاتاري في «أوديب-مضادا
l’Anti-Oedipe » علاقة بين انفصام الشخصية والرأسمالية التي تشيع «في المستوى الأعمق نفسه من الاقتصاد، وعملية الإنتاج» مستنتجين أن «مجتمعنا ينتج الانفصامات مثلما ينتج شامبو «بريل» وسيارات «فورد» مع فارق وحيد هو أن «الانفصامات لا تباع».»
75
لكن في ظل غياب مفهوم العقل والحقيقة والنسق والمعيار، وحلول قيم العدمية والتشظي والتعددية والاختلاف، هل يوجد في الخطاب ما بعد الحداثي مفهوم محدد للأخلاق؟ هل يمكن الحديث عن أخلاق ما بعد حداثية؟ أو عن معايير أخلاقية في عالم ما بعد الحداثة؟
ما دمنا لا نستطيع، كما يشدد مفكرو ما بعد الحداثة، أن نطمح إلى أي تمثيل موحد للعالم، أو تصوره كلا مشتملا على روابط وصلات، وإنما مجرد شظايا في حالة تدفق مستمر؛ فإن الحديث عن «ما هو معياري» سيصبح ضربا من الوهم. لذا يضيع مفهوم «الأخلاق» بالمعنى التقليدي ويتم استبداله بمفهوم «القانون»؛ فالقانون وقتي ووضعي وقابل للتغير وهو مرتبط بظروف المكان والزمان الذي يوجد فيهما. سوف تصبح إذا مفاهيم «الخير» و«الشر» مفاهيم نسبية عابرة داخل حدود وظروف ما محدودة وفي إطار تفسيري ما، وحين ينظر إلى أي فعل خارج هذين المجالين سيصبح بلا معنى. ويرى رورتي في مقالة كتبها بعنوان «التضامن»
Solidarity
أن هؤلاء الذين ساعدوا اليهود في الحرب العالمية الثانية قد فعلوا ذلك ليس لأنهم رأوا فيهم إخوانا في الإنسانية، ولكن لأنهم ينتمون إلى نفس المدينة، أو نفس المهنة، أو نفس المجموعات الاجتماعية التي ينتمون إليها هم أنفسهم. ونفس الدافع أيضا هو الذي يدفع الأحرار الأمريكيين العصريين إلى مساعدة الأمريكيين السود المقهورين، ويتساءل رورتي : «هل ينبغي أن نقول إن هؤلاء الناس يجب أن نقدم لهم المساعدة لأنهم إخواننا في الإنسانية، إنهم قد يكونون كذلك بالفعل، لكن الشيء المقنع سواء أخلاقيا أو سياسيا، هو أن نصفهم بأنهم إخواننا في الوطن الأمريكي، وأن نصر على أنه شيء مخز أن يعيش أي أمريكي بلا أمل.»
76
يربط إذا رورتي الأخلاق بالعرقية ويجعلها تابعة لمفهوم الوطنية والانتماء، رغم أن الوطنية والانتماء ينبغي النظر إليهما على أنهما «فضيلتان أخلاقيتان».
التعددية: القيمة الأبرز لفلسفة ما بعد الحداثة.
من نفس المنطلق أيضا ترفض ما بعد الحداثة فكرة «المساواة» و«حقوق الإنسان» بصيغتها العالمية بما تتضمنه من تنميط للإنسان؛ فهي أقرب إلى الأفكار الشمولية الحداثية؛ لأنها تنطلق من فرضية مفادها وجود قاسم مشترك بين البشر (المساواة)، لكن الواقع وتجارب الشعوب تثبت تهافت هذا الادعاء؛ فهو مفهوم طوباوي غير قابل للتحقق في عصر الرأسمالية، وانفصام الشخصية، والإنسان الذي يحكمه فقط قوانين الربح والخسارة والقيم الاستهلاكية. كما أن «الدعوة لحقوق إنسان عالمية» تلغي الاختلاف والتمايز بين الشعوب، ولا تضع الأقليات والجماعات الإثنية في حساباتها. إنها تهدف إلى «توحيد» البشر و«تنميطهم»، وبالتالي المؤالفة بينهم بدل المخالفة، كما أنها «أداة» في يد القوى المهيمنة تلوح بها وقتما تشاء وتتغاضى عنها حسبما تقتضيه مصلحتها. والسؤال هو من يمتلك تحديد الحقوق؟ من الذي يملك تحديد العادل من غير العادل؟ يقول ليوتار في مقاله «شرطة الفكر»
La Police de la Pensée
77 «إن إضفاء الشرعية على حقوق الإنسان يشترط إبراز اللحظة اللاإنسانية للقانون.» ويقصد ليوتار بذلك أن تحديد حقوق عالمية للإنسان تفترض وجود ذات لا إنسانية هي التي قامت بتحديدها، وما دام هذا لم يتحقق، فإن شرط مشروعيتها قد سقط.
وكبديل لهذا الخطاب الشمولي، يرى فلاسفة ما بعد الحداثة (ليوتار، فوكو، دولوز، دريدا) أن وظيفة المثقف في عصرنا الحالي أن يكون ممثلا في المجال العام لأناس لا يجدون من يعبر عنهم، أو كما يقول دولوز: «إننا نمنح دائما، بفعل كتابتنا، الكتابة لأولئك الذين لا يملكونها.»
78
ويقول دريدا: «على المثقف اليوم أن يكون لسان حال الهامشيين أو المرأة أو شعوب العالم الثالث.»
79
وبنفس منطق ما بعد الحداثة يحق لنا أن نتساءل نفس سؤالهم الذي ورد في سياقات مختلفة، بأي حق يجعل المثقف من نفسه لسان حال المهمشين أو الأقليات؟
في مقابل الكلية والشمولية يطرح فلاسفة ما بعد الحداثة مفهوم التعددية والاختلاف كأرضية مشتركة للتفاعل والحوار مع «الآخر» أو «العوالم الأخرى»، ويطرح فوكو مصطلح «اليوتوبيا غير المتجانسة»
L’utopie hétérogène
ليعبر عن الرؤية ما بعد الحداثية للآخر، وما يعنيه فوكو بهذا المصطلح، هو تساكن «عدد كبير من العوالم المتشظية الممكنة» في «فضاء افتراضي»، أو على نحو أبسط، تواجد فضاءات متجاورة ومفروض بعضها على الآخر.
80
ولا تتوقف الشخصيات في هذه الفضاءات طويلا عند كيفية حل أو البحث عن إجابة للأسئلة المركزية؟ إلا أنها ملزمة في المقابل بالتساؤل عن «أي عالم هو الذي نحياه؟ ما العمل حياله؟ وأي «أنا» ستقوم بذلك؟ ... إلخ.»
يحتل مفهوم التعددية والاختلاف مكانة بارزة في الخطاب الفلسفي لما بعد الحداثة، بحيث وصف فلاسفتها ب «فلاسفة الاختلاف».
81
ويصعب تحديد ما إذا كانت فكرة الاختلاف نتيجة للأفكار السابقة أم سببا لها، لكن المؤكد أن الفلسفة ستتحول من كونها أداة نسقية تبتغي الوحدة إلى أداة مهمتها تفتيت الأشياء وتفكيكها «إن الحاجة تدعو إلى تفتيت الأشياء وتهشيمها ... تفتيت الكلمات والجمل والقضايا، تفتيت الكيفيات والأشياء والموضوعات.»
82
سيتلاشى مفهوم الجوهر من الخطاب ما بعد الحداثي ليحل محله مفهوم «التعددية» ... التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى؛ فالفلسفة وفقا لدولوز وجاتاري منطق للتكثر والتضاعف
logique de la multiplicité ،
83
تضاعف المعنى للشيء وللظاهرة الواحدة. وهذا التضاعف يرجعه دولوز إلى تتابع القوى والعلاقات التي تتناوب على الشيء الواحد «فكل خضوع وكل سيطرة تعادل تفسيرا جديدا.» من هنا يفسر دولوز صيحة نيتشه الشهيرة «لقد ماتت الآلهة» تفسيرا جديدا حينما يقول: «لقد ماتت الآلهة، ولكنها ماتت من الضحك عندما سمعت إلها يقول إنه الواحد.» لا يوجد حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد؛ فأي شيء قد يكون هذا أو ذاك وأحيانا يكون شيئا أكثر تركيبا بحسب القوى التي يحوزها . من هنا لا يوجد معنى حقيقي للشيء الواحد، هناك تعددية ... وجهات للنظر ... تجاوبات مع الأحداث والوقائع ... فالظاهرة الواحدة لها أقنعة عديدة و«خلف كل قناع يكمن قناع آخر». وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة وأن تخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها، وإنما لكي تعطي لكل قناع معنى جديدا «أن تكتشف ما يتقنع ولماذا، ومن أجل أي هدف نحتفظ بقناع مع تعديل شكله في كل مرة.»
84
لقد أخذ فكر الاختلاف على الفلسفة الكلاسيكية إقصاء الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيا وإبستمولوجيا وسياسيا. ففي الوقت الذي كانت تقر فيه بأن العالم متعدد ومتنوع، فإنها تحاول دوما إلغاء تعدده وتنوعه في وحدة معنى تفترض أنها ثابتة. وإذا عرض عليها أن تفكر في المتعدد الاجتماعي فإنها ستؤكد أنه غير منسجم أو غير مستوى في وحدة واحدة، لكنها ستحاول أيضا أن توحده وتضمه في وحدة الدولة. منطق الفلسفة الكلاسيكية إذا هو «منطق التطابق»
logique de l’identité
سواء تعلق الأمر بتطابق الوعي أو الكوجيتو أو الذات أو الدولة. كل هذه المقولات مطلقة وبواسطتها تحولت الفلسفة إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة نحو إلغاء التعارضات. غير أن الحلم يشكك في وضوح الوعي (دريدا)، والفن يدحض التمثيل (دولوز)، والمنبوذ يخترق الوحدة السعيدة للدولة (فوكو).
كان هيجل نموذج الفيلسوف الذي اجتمعت في فكره كل المقولات التي جاءت ما بعد الحداثة لتتبنى عكسها، إنه مثال للمفكر السلطوي الذي أراد أن يحكم مستقبل الفلسفة وهو يرقد في قبره. يقول كوجيف
Alexandre Kojive - الذي انتقلت على يديه الهيجلية إلى فرنسا: «إن خطاب هيجل يستنفد كل إمكانات الفكر، فلا يمكننا أن نعارضه بأي خطاب دون أن ينتهي هذا الخطاب إلى أن يشكل جزءا منه أو أن يعيد صياغة فقرة من النسق باعتباره عنصرا مؤسسا «للحظة» من المجموع.»
85
وأفضل دليل على هذا الغرور الهيجلي ما ردده إريك فيل من أن هيجل كان ينوي أن يضع للفلسفة نقطة النهاية.
86
والحق أن هذه الرؤية سواء أكانت منطلقة من هيجل، أم من تلامذته وشراحه، لا يمكن أخذها على محمل الجد؛ إذ هي ليست إلا نوعا من الغرور البشري الساذج، ولا يمكن أن تفهم إلا في هذا السياق، بالإضافة إلى أن أي نقطة نهاية، سرعان ما ستتحول إلى بداية جديدة.
كانت البداية الجديدة التي وجدها فلاسفة ما بعد الحداثة في الهيجلية هي مفهوم الاختلاف أو بالتحديد التناقض. الطرف الثاني في معادلة الجدل الهيجلية؛ لقد احتل التناقض مكانة بارزة في النسق الهيجلي، بصورة ربما لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفلسفة. لكن المشكلة أن لحظة الاختلاف في هذا النسق سرعان ما تتحول إلى لحظة تطابق وهوية لتدخل في مركب واحد يتلاشى بداخله أي أثر للاختلاف والتناقض. إنها لحظة التطابق بين الشيء ونقيضه، لحظة انتصار الهوية على الاختلاف، والوحدة على التعدد. إن التناقض عند هيجل يشكل جوهر الاختلاف وليس مجرد نمط من أنماطه، وهذا التناقض سرعان ما يرتد نحو التطابق «إن هذا الاختلاف يقحم عنوة داخل تطابق مسبق، فيقاد نحو منحدر التطابق الذي يحمله بالضرورة حيث يشاء، ويجعله ينعكس حيث يريد التطابق.»
87
يتعلق الأمر إذا بتحرير السلب من هيمنة الكل، إطلاق سراحه من داخل النسق، وعدم توقيف عمله بفعل أي تركيب، أو سجنه داخل منطق التعارض. الاعتراف به كآخر لا كنقيض. هذا الآخر قد يكون كتابة (دريدا) أو رغبة (دولوز) أو حمقى (فوكو). إنه «الانسياب اللانهائي للخارج» (بلانشو).
في كتابه حوارات يرى دولوز أن إحدى مهام الفلسفة الآن هي الإعلاء من قيمة السلب في الفكر، الجذمور أو العشب ضد الأشجار، آلة الحرب ضد آلة الدولة، التعددية ضد الشمولية، قوة النسيان ضد الذاكرة، الجغرافيا ضد التاريخ، الخط ضد النقطة. ويرى دولوز أنه لحل إشكالية الثنائية لا بد أن نحدث ثورة في مجال اللغة، أن نناضل ضدها، وأن نبتكر طرقا مختلفة للتعبير. فموطن الثنائيات هو اللغة «إن اللغة مؤسسة في عمقها على التقسيمات الثنائية: مذكر/مؤنث، مفرد/جمع، تركيب اسمي/تركيب فعلي.» وهكذا فنظرتنا للشيء ونقيضه تنطلق من داخل اللغة، إذا ينبغي تحرير اللغة من منطق التعارضات الثنائية «يمكننا دائما إضافة «ثالث» إلى «اثنين» ورابع إلى «ثلاث» ... إلخ .» وحتى في حالة وجود حدين فقط فهناك بين الحدين عناصر لا يمكن ضمها إلى أي منهما (المذكر والمؤنث والمخنث). ينبغي في نظر دولوز إحلال حرف العطف «واو» محل العلاقة «أو».
88
هل يمكن بهذا المعنى إذا أن نتجاوز حد السياج والانغلاق
clôture
الذي ضربه هيجل على الفكر من بعده؟ مع فكر الاختلاف ستتطور الفلسفة عبر هوامشها، عبر «تفتيت الخط الذي يفصل بين نص وهامشه» (دريدا)، أو «جعل تاريخ الفلسفة مشابها لعملية رسم البورتريه في فن الرسم» (دولوز)، أو «أن نتحدث في لغة الذات عن قيمة الآخر» (فوكو). كان «فكر الاختلاف» في أوانه يبدو غريبا فلم ينتبه إليه لكنه ما لبث أن أصبح شعارا لجيل وعصر بأكمله، يقول دولوز: «إن ما حاولت أن أقوم به في هذا الميدان من جانبي استقبل بصمت كبير في أوساط اليسار الفرنسي المثقف، وإنه فقط بعد 1968م، أخذت هذه الأسئلة دلالتها.»
89
ستحتل مقولة الاختلاف مكانة هامة، وسيكون لها حضور قوي في كتابات كل فلاسفة ما بعد البنيوية، بوصفها مقولة مؤسسة ينبني عليها العديد من الرؤى في ميادين متباينة، عند كريستيفا
Kristeva
وبارت ودريدا في النقد الأدبي، وعند بودريار في تحليله لوسائل الإعلام، وعند دولوز وجاتاري وليوتار في نقدهم وقراءاتهم للفلسفات الكلاسيكية، وفي تصوراتهم الأنطولوجية والفنية.
الفصل الثالث
التجربة الجمالية ما بعد الحداثية
شعار الحركة المناهضة لثقافة ما بعد الحداثة.
في الفصل السابق ونحن بصدد الحديث عن مناهضة ما بعد الحداثة للتصور الحداثي للعقل ومفهوم النسق، أشرنا إلى أنه ينظر إلى «ما بعد الحداثة» على أنها «حركة جمالية»؛ أي أنها تعلي من الشأن الجمالي على العقلاني، ومن الجانب الشعوري على الفكري. كما أن الخطاب ما بعد الحداثي في الأصل نشأ داخل الفن ... نشأ كحركة فنية ثم انتقل تأثيره إلى المجالات الثقافية الأخرى. والواقع أنه في النصف الثاني من القرن العشرين نستطيع أن نشهد تغييرين رئيسين في المجال الفني: الأول على مستوى «النظرية الجمالية»، والثاني على مستوى «الممارسة الفنية»، وربما تكون التغيرات التي حدثت في هذه الأخيرة هي المسئولة عن التغيرات التي حدثت على المستوى «النظري». هذه التغيرات لم تحدث بطريقة مفاجئة، إنما سبقتها إرهاصات عديدة بدأت مع بدايات القرن العشرين، عندما دخلت متغيرات جديدة في المعادلة الجمالية، لاقت ترحيبا كبيرا من بعض الفنانين والكثير من المتلقين. يقول جيمسون: «إن طبيعة التلقي والإنتاج الفني، في عصرنا، مرت بتغير جوهري جعل القواعد والنماذج القديمة غير ذات معنى بالنسبة لها، أو على الأقل موضة قديمة أو مهجورة.»
1
تبدو العلاقة بين ما بعد الحداثة ك «حركة فلسفية» وما بعد الحداثة ك «حركة فنية»، ملتبسة بعض الشيء؛ إذ لا توجد نصوص صريحة لفلاسفة ما بعد الحداثة تدافع عن التغيرات التي لحقت بمفهوم الفن أو تهاجمها، كما أن «النظرية الجمالية» بمعناها التقليدي قد فقدت بريقها وحل محلها مجموعة من التأملات والتحليلات لبعض الأعمال الفنية - خاصة الأدبية - مما أدى إلى طغيان الجانب التطبيقي على الجانب النظري، وربما أدى هذا إلى صعوبة استخلاص نظرية جمالية عامة لأي من منظريها. لكن مع ذلك يمكن القول إن هناك تلاقيا واضحا بين المقولات التي ينادي بها فلاسفة ما بعد الحداثة والتغيرات التي طرأت على مجال الفنون، ثمة تواؤم وتصالح بين الاثنين، بل إن المقولات التي أفرزتها الفنون المختلفة وأصبحت تتحرك من خلالها وفي ضوئها، هي نفسها المقولات والقيم التي ناقشناها في الفصل السابق. وفي هذا يقول بريان ماسومي: «إن المفاهيم التي طرحها دولوز وجاتاري تتقاطع مع كل النتاج الفني ما بعد الحداثي.»
2
يهدف هذا القسم إلى تتبع التغيرات التدريجية التي لحقت بمفهومي الفني والاستطيقا، وعلاقة ذلك بالتأملات النظرية الجمالية لفلاسفة ما بعد الحداثة، وخاصة دولوز. (1) معادلة بودلير
في أوائل الستينيات من القرن العشرين، نشر ليونارد ماير
L. Mayer
دراسته الشهيرة «نهاية عصر النهضة» التي قال فيها إن مفهوما جديدا للجمال يولد آنئذ، هذا المفهوم يتنكر لمبدأ الغائية ويكرس فنا لا يهدف إلى شيء. وفي علم الجمال الجديد، حسب ماير، لم يعد الإنسان هو المعيار الذي تقاس به الأشياء والموجودات؛ لأنه ببساطة لم يعد مركز الكون، كما ذهب فلاسفة الحداثة، ولهذا فإن علينا أن نستعيد إحساسنا بالأشياء من خلال إعادة اكتشاف الواقع والإنصات الجيد للحياة؛ الاستمتاع بالصوت كما هو، واللون كما هو، والوجود والموجودات كما هي. وبشر بولادة فن ديمقراطي جديد بوسعه أن يذيب الجدر الغليظة بين الثقافة العليا
high culture
وثقافة الجماهير
mass culture ، وبوسعه تفكيك الاستقلالية النخبوية للحداثة. وفي نفس السياق أيضا يقول رايموند ويليامز
R. Williams : «في أواخر القرن العشرين، كان من الضروري للمرء أن يلحظ مدى بعد الشقة بيننا وبين أهم حقب الفن الحديث.»
3
ما يدعو إليه ماير - وآخرون - هنا يشير إلى تغير كلي في مفهوم الفن وفي تصور الجمال، تغير تجسده عبارة بيوز
Beuys «إن مجرد إزالة قشرة البطاطس يمكن أن يكون عملا فنيا لو اتسم بالوعي.»
4
كيف حدث هذا التحول؟ وما هي طبيعته وأسبابه؟
كان الفن في العصور الوسطى جزءا لا يتجزأ من كل يحتويه؛ فكان تعبيرا عن الروح الدينية التي كانت تهيمن على هذا العصر. وتظهر تجليات هذه الروح في كل نواحي الحياة، في السياسة والعلم والفلسفة ... إلخ؛ لذا فإن الفن آنذاك كان فنا دينيا
art sacré . ولم يكن العمل الفني عملا بالمعنى المفهوم، بل كان حرفة أكثر منه أي شيء آخر، ولم يكن أسلوب الإنتاج فرديا؛ فلم يكن الفنان ينظر إلى نفسه بوصفها ذاتا مستقلة مبدعة، بل جزءا من فريق يهدف لإتمام سقف كنيسة ما أو لوحة جدارية أو ترنيمة كنسية. وكما كان أسلوب الإنتاج يغلب عليه الطابع الجماعي، كان أسلوب التلقي أيضا يتم بصورة جماعية؛ فمشاهدو هذا الفن أو مستمعوه كانوا مجموعة من رواد الكنيسة الذين يستهدفونها لأداء صلواتهم. أما الأدب والمسرح فلم يختلفا كثيرا عن باقي الفنون، فكانت المسرحيات ذات الصبغة الوعظية
morality plays
وتلك التي تقوم على فكرتي «اللغز» و«السر»
mystery plays - والتي تستمد جوهرها من حكايات من الكتاب المقدس - هي المنتشرة آنذاك. أما الشعر فقد كان يستمد موضوعاته كذلك من نفس التراث، ويظهر ذلك في ملحمة حكايات كانتربري
Canterbury Tales
للشاعر الإنجليزي جيفري شوسر
Geoffrey Chaucer (1343-1400م) وبعض الأشعار الأخرى الأقل أهمية لشعراء آخرين. ومن هذا الفن انبثق نوع آخر؛ وهو فن البلاط الملكي
courtly art . وقد استبدل هذا الفن موضوعات أخرى بالموضوعات الدينية، وهي تمثل حياة البلاط الملكي وعظمة الأمير أو الملك وحياة الحاشية المحيطة به. تحول الفن إلى جزء من حياة الطبقة الأرستقراطية ورواد البلاط الملكي. وعلى الرغم من أن الفن - رغم تغير موضوعاته - ظل مرتبطا بمفهوم الوظيفة، إلا أن هذه النقلة في طبيعة الموضوعات المتمثلة، انعكست على رؤية الفنان لذاته؛ إذ لم يعد الفنان «حرفيا يؤدي وظيفة»، بل أصبح «فنانا» يتصف بصفة الإبداع. وقد ظهر هذا التغير بقوة مع مايكل أنجلو
Michael Angelo (1475-1564م) الذي على الرغم من أن نحوتاته ظلت مخلصة للموضوعات الدينية المستمدة من قصص الكتاب المقدس، إلا أن وعيه الذاتي بكونه فنانا، قد تجسد عبر توقيعه على أعماله، مما يعني أن إحساس الفنان بذاته، وبقيمة ما يقدمه، قد بدأ بالفعل في التغير.
5
سرعان ما بدأت مكانة الإنسان «الفرد» في الرسوخ مع عصر النهضة، الذي يعد بحق عصر النزعة الإنسية، والعودة لكل ثقافة مركزها الإنسان؛ فلقد شيد الفن في عصر النهضة ذاته على فكرة العودة للماضي اليوناني والروماني، في محاولة لإبطال مفعول التوجهات الدينية لكل مناحي الحياة، والبحث عن مصدر أكثر ثراء لحياة الإنسان، ولكنه في عودته تلك كانت عينه على المستقبل الذي يصير فيه الإنسان مركز العالم وبؤرته. وعلى الرغم من بقاء الموضوعات الدينية في برنامج الأعمال الفنية (أعمال يوهن باخ
Bach (1685-1750م)، على سبيل المثال)، إلا أنه بدأ مع عصر النهضة النزوع للخروج إلى تصوير الطبيعة واتخاذها موضوعا للفن، وكذلك العمل على معالجة الموضوعات الحياتية الأخرى. ولم يكن هذا التحول ممكنا، إلا من خلال الافتراض المسبق بأنه من وراء الذات والموضوع تقبع مجموعة من القوانين العامة لنظام كوني راسخ، والصالحة بشكل غير مشروط، حين تستقي منها كل قاعدة فنية، وبالتالي يعتبر فهم هذه القواعد والشروط والقوانين من صلب النظرية الفنية في عصر النهضة. وقد كان النزوع نحو الدراسة المتأنية للطبيعة، بوصفها مقدمة ضرورية لتحقيق الصدق الفني؛ يعطي المشروعية لفناني هذا العصر بحيث يصير إبداعهم مؤسسا على الدراسة والعلم، إلى جانب الملكة الإبداعية والخيال الحر الخلاق، حتى لا يصير الفن مجرد صيغة أو حرفة، يمكن لأي أحد أن يمتهنها، أو مجرد نتاج لشطحات ميتافيزيقية لا يمكن الوقوف فيها على محددات تمكننا من فهم الفن على نحو إنساني محض.
ومع ظهور كتاب ألكسندر بومجارتن
A. G. Baumgarten «في الاستطيقا»
Ästhetik
في منتصف القرن الثامن عشر، ستبدأ الجماليات تخطو خطواتها الأولى نحو الاستقلال. وحين استبدل جان جاك روسو
Rousseau «أنا أشعر»
Je me sens
ب «أنا أفكر»، فهو «إنما يؤشر إلى تحول حاسم من استراتيجية عقلانية خالصة إلى استراتيجية جمالية أكثر وعيا في تحقيق أهداف التنوير.»
6
وفي الفترة نفسها تقريبا (1790م) كان كانط
Kant
يعرف بدقة الحكم الجمالي ويميزه بوضوح عن الحكم العقلي والحكم العملي، ويجعله جسرا ضروري - وإن بدا إشكاليا - بين الاثنين. كان اكتشاف الجماليات كحقل معرفي متميز منفصل هو الإنجاز الأكبر للقرن الثامن عشر. وإذا أضفنا إلى ذلك تنامي «الذاتية» و«الفردية»، والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية التي كانت تتصاعد وتيرتها على شكل طفرات، فإن آثار هذا كله مجتمعا قد أحدث تغيرات عديدة على مفهوم الفن، وعلى الممارسة الفنية، وعلى تصور الفنان لذاته ولفنه.
نستطيع أن نرقب هذه التحولات في تعريف بودلير
C. Baudelaire
للحداثة في دراسته المهمة «رسام الحياة الحديثة»
Le Peintre de la vie moderne
الصادرة عام 1863م يقول: «إن الحداثة هي المؤقت، وسريع الزوال، والجائز، هي نصف الفن؛ بينما الأبدي والثابت هو النصف الآخر.» فالفن وفقا لبودلير هو استخلاص السرمدي من العابر والزائل. هذا الزائل أو العابر لا يمكن للفنان: أن يتجاوزه: «هذا العنصر العابر والمنفلت، والذي تكون تحولاته جد متواترة، ليس من حقك ازدراؤه أو الاستغناء عنه. إنك بإلغائه ستسقط لا محالة في تجريد جمالي مستعص على التحديد ... كجمال المرأة الوحيدة قبل الخطيئة الأولى.»
7
ومثلما كان بودلير سريعا في رؤية ما إذا كان الدفق والتغيير، والتشتت والتشظي، قد شكلا القاعدة المادية للحياة الحديثة، فإن تعريفه السابق للفن الحداثي قد استند أيضا، وعلى نحو حاسم، إلى موقع الفنان في هذه العملية؛ ففي وسع الفنان الفرد تحدي الصيرورة تلك، أو التعايش معها، أن يحاول السيطرة عليها، أو السباحة في مياهها، إلا أنه لا يستطيع، في كل الأحوال، تجاهلها. وإذا عدنا إلى صياغة بودلير، فإننا نجده يعرض الفنان كشخص قادر على تركيز رؤيته على الموضوعات العادية للحياة المعاصرة، وعلى فهم خصائصها المتغيرة، ويستطيع مع ذلك أن يستخرج من اللحظة العابرة كل عناصر الخلود الكامنة فيها. كان الفنان الحداثي الناضج، وفقا لبودلير، هو ذلك الذي يستطيع العثور على الكلي الدائم، وأن «يقطر طعم خمر الحياة المر» من «أشكال الجمال العابر والزائل في حياتنا اليومية»، وبمقدار ما ينجح الفن الحداثي في ذلك، يصبح فنا لنا؛ إذ إنه وبدقة «الفن الذي يستجيب لسيناريو فوضانا.»
8
إن الحداثة في نظر بودلير - ووفقا لهابرماس
9 - تستهدف الاعتراف باللحظة الانتقالية كماض أصيل لحاضر سيأتي؛ لذا يأخذ بودلير على فناني عصره حنينهم الدائم للماضي دون الالتفات لما هو راهن «إننا إذا ألقينا نظرة سريعة على ما نشاهده في معارضنا من لوحات حديثة، فإن ما سوف يصدمنا هو نزعة الفنانين العامة إلى إلباس جميع الشخوص ثيابا قديمة.»
10
كانت المواجهة بين الخالد والعابر
11
حاضرة في كل النقاشات التي تدور حول الموقف من الحداثة. وتبدو حالة بودلير هنا نابعة من موقف يسعى للدفاع أكثر عن استقلالية الجمالي وعدم تبعيته، وهو موقف نابع في الأساس من كانط. التبعية التي نعنيها هنا، كانت نابعة من داخل تلك النزعات التي كانت حاضرة بقوة على الساحة الفنية في القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن ال 19، أهمها النزعة الرومانسية، التي رأت في العودة إلى الماضي أو تمثيل الطبيعة موضوعات شائقة للأعمال الفنية. كما كانت نابعة أيضا من اتجاهات ترى أن للفن وظيفة تتجاوز إنتاج الجمالي، وقد ذهب ماثيو أرنولد
Matthew Arnold (1822-1888م) إلى «أن الفن في العصر الحديث يمكن أن يشغل المكانة التي كان الدين يشغلها في العصور الوسطى؛ لذا فهو منوط به وظيفة توفير رؤية كلية للحياة الإنسانية، توضح موقف الإنسان في الحياة، وترسم له صورة ذاتية، وتضفي الطابع النظامي على العالم والتجربة الإنسانية.»
12
ومن نفس المنطلق يقول تي إس إليوت
T. S. Eliot (1888-1965م): «كان الناقد يتعامل مع الأدب دائما على أنه وسيلة لاستخلاص الحقيقة أو اكتساب المعرفة، وإذا ما كان الناقد يتمتع بعقلية فلسفية أو دينية، فسوف يبحث عن تلك اللمحات الفلسفية أو الدينية في أعمال الكاتب الذي ينتقده.»
13
في مقابل ذلك يدعو بودلير إلى تخلي الفن عن أي وضع متعال؛ أي يرفض كل وضع يخرج به من حيز إنتاج الجمال إلى أي مسئولية فلسفية أو أخلاقية. ولذا فالفن لن يضطلع سوى بوظيفته الداخلية
immanent - ألا وهي إنتاج الجمال - وهذا سوف يؤدي بالضرورة إلى فرض معايير جديدة للحكم على الفن، وهذه المعايير سوف تكون معايير داخلية (استطيقية)، لا علاقة لها بالأخلاق أو بوضع الفن في المجتمع.
لكن لكي يتضح موقف بودلير وكيفية تجسيده للموقف الحداثي في القرن التاسع عشر، تلزم الإشارة إلى الأوضاع الطبقية التي جعلت بودلير، أحد أبرز ممثلي اتجاه الفن للفن، يعبر عن تناقضات الحداثة ومفارقتها. ولعل التصنيف الذي انتهى إليه بيير بوردو
(1930-2002م) في دراسته لحقلي السلطة والثقافة في القرن ال 19، يساعدنا على استحضار الواقع الاجتماعي والأيديولوجي الذي ظهر فيه موقف بودلير؛ لقد أوضح بوردو في تحليله أن الحقل الثقافي والفني بين 1830م و1850م، بل على امتداد القرن 19، كان يتوزع وينتظم حول ثلاثة مواقع: «الفن الاجتماعي»
Social l’art ، «والفن للفن»
L’art pour l’art ، «والفن البورجوازي»
bourgeoi l’Art . وكل موقع من تلك المواقع النموذجية داخل الحقل الثقافي يطابق شكلا نموذجيا للعلاقة بين الفئة المسيطر عليها، والفئات السائدة. على هذا الأساس نستطيع أن نفهم محددات مواقف كل اتجاه:
فبينما الفنانون والكتاب - يقول بوردو
14 - «البورجوازيون»، يجدون في الاعتراف الذي يقدمه لهم الجمهور «البورجوازي»، جميع الأسباب التي تجعلهم يتحملون مسئوليتهم بوصفهم ناطقين باسم طبقتهم التي يتوجه إليها إنتاجهم مباشرة، فإن أصحاب «الفن الاجتماعي» يجدون في ظروفهم الاقتصادية وعزلتهم الاجتماعية، أساسا للتضامن مع الطبقات المسودة التي تتخذ دائما مبدأ أوليا لها: العداء تجاه الفئات المسيطرة داخل الطبقات السائدة، وتجاه ممثليها في الحقل الثقافي. أما أصحاب «الفن للفن» فإنهم يحتلون داخل الحقل الثقافي موقعا ملتبسا بنيويا، يجعلهم يستشعرون بطريقة مضاعفة، التناقضات اللازمة للوضعية الملتبسة للفئة المثقفة داخل بنية فئات الطبقات السائدة، فلكون موقعهم داخل الحقل الثقافي يرغمهم على أن يفكروا - على نحو متزامن أو متعاقب (وفقا للظرف السياسي) - في هويتهم الفنية والسياسية من خلال التعارض مع الفنانين البورجوازيين أو من خلال التعارض مع الفنانين الاشتراكيين نظراء الشعب؛ فإنهم (أصحاب الفن للفن) منذورون لالتقاط صور متناقضة، سواء عن جماعتهم الخاصة أو عن الجماعات التي يعارضونها.
ذلك الوضع الملتبس موضوعيا هو ما يتيح فهم الحداثة التي انتهى إليها بودلير: محاولة تحويل اليومي (الزائل) إلى الرمزي (الخالد). ومن خلال ذلك العمل على تعميم التجريد في بقية أشكال التعبير (الرسم، النحت، الموسيقى ...) ورفض النزعة الواقعية التي يصفها بودلير ب «أنها إهانة مقززة ألقيت في وجه كل المحللين، إنها كلمة غامضة وزئبقية لا تعني بالنسبة للإنسان وصفا دقيقا للأمور.»
15
في هذا الطريق الممهد لاغتراب الإنسان والطبيعة عن الفن، سار الشاعر تي إس إليوت. لقد أكد إليوت «أن القصيدة لا تقول شيئا ما، وإنما هي الشيء نفسه»، وهو يتتبع تطور الشعر، واستقبال القراء للشعر، على أنه تطور مستمر نحو زيادة إدراك القارئ بالرمز. وهذه المرحلة من التقدم هي ما يعتبره إليوت الحداثة التي بلغها الشعراء الرمزيون الفرنسيون من بودلير إلى فاليري
Valéry
مرورا بمالارميه
Mallarmé . فالحداثة هنا تتميز بالاهتمام بالرمز، في مقابل الاهتمام الأقل بالموضوع الذي يصبح مجرد وسيلة لنقل الهدف أو بلوغه، والهدف بالطبع الجمال في حد ذاته. وهذا هو ما يطلق عليه كل من إليوت والفيلسوف الإسباني أورتيجا إي جاسيت
Ortega Y Gasset (1883-1955م) «الشعر النقي»
poesía pura ، أو الفن الخالص
arte puro . فإذا كان الجمال جوهر الفن، وإذا ما كان الشكل هو مصدر الجمال، فسيهتم الفن الحداثي بالشكل اهتماما تاما، ويحاول تنقيته من الموضوع الذي صار دخيلا عليه لأنه ليس مصدر الجمال. وهذا هو جوهر الحداثة الذي يميزه جاسيت في موسيقى ديبوس
Dubosc
ولوحات بيكاسو
وشعر مالارميه وفاليري
Valery «هناك بلا شك توجه نحو تنقية الفن، وهذا التوجه سوف يؤدي إلى عملية محو متزايدة للعناصر الآدمية السائدة في النتاج الفني الرومانسي والطبيعي
naturalistic . وفي هذه العملية، يمكن الوصول إلى نقطة يصبح فيها «المضمون» الإنساني ضئيلا جدا لدرجة يمكن تجاهلها .»
16
ما يقصده جاست ل «لا أنسنة الفن»
La Deshumanización del Arte
هو محو أي أثر لفكرة تقديم أو تمثيل الحياة
representation ؛ فالفن ليس محاكاة
mimesis
ولا تقديما للحياة، وإنما هو نتاج عقلي يهدف إلى الإمتاع. وإذا ما كان الجمال عنصرا ذاتيا وشكليا، لا موضوعيا؛ أي لا علاقة له بالموضوع، يتحول اهتمام الفن الحداثي عن المحاكاة التي تهتم بموضوع الفن، لا شكله، إلى الاهتمام بالشكل الخالص؛ أي يتحول الفن الحداثي إلى رفض صريح وقاطع للواقعية.
ثمة سمتان هامتان يتميز بهما الفن الحديث في نهايات القرن ال 19: الأولى هي الدرجة العالية جدا من الوعي الذاتي للفنان بفنه على أنه فن وليس موظفا لخدمة شيء آخر - وتلك هي المرحلة الثالثة من تصنيف بيتر برجر
لتطور الفن الحديث. والسمة الثانية معتمدة على الأولى، وهي أن هذا الوعي الذاتي قد دفع الفنان إلى المزيد من الفردية والذاتية، ومحاولة خلق أسلوب خاص به يميزه عن الفنانين الآخرين، سواء المعاصرون له أو السابقون عليه. من هنا نلاحظ احتفاء هذا العصر بالأسلوب؛ فالتراث الفني أصبح عبئا على الفنان وجزءا من العالم الخارجي يسعى لتحرير نفسه منه، وإنتاج فنه بمعزل عنه. وهكذا يصبح الأسلوب وسيلة لتأكيد الذات مقابل العالم. ويصبح الأسلوب كنتاج للذات أو للجزء الذاتي أو المثالي في الفنان تأكيدا لهذا الجانب مقابل الجانب الموضوعي أو ذلك الذي ينتمي للعالم. هذا التمرد العنيف على العالم قد بلغ أوجه مع مقولة أوسكار وايلد
Oscar Wilde : «إن الطبيعة هي التي تقلد الفنان، لا العكس.»
نستطيع هنا أن نستنتج أن تنامي الاتجاه الرمزي والشكلي في هذه الفترة قد أدى إلى صعوبة لغة الفن وعدم قدرة الكثيرين على فهمه؛ لذا أصبح الفن الحداثي فنا لا يتميز بالشعبية، بل تحول إلى فن الصفوة
L’élitisme
وهي القلة القليلة المختارة التي لديها الثقافة الكافية، والوعي بتاريخ الفن وتطوره.
وإذا عدنا إلى تحديد بودلير من جديد للفن الحداثي بأنه «التقاط الثابت من المتحول» فإننا نلاحظ أن الفن الحداثي لم يتخل عن البحث عن الثبات أبدا. يتضح هذا من تحليل الأعمال الشهيرة التي صدرت آنذاك، فإذا ما كانت «الأرض الخراب»
The Waste Land
نموذجا للتشظي، نجد إليوت
17
يعلق على عناصر الوحدة في القصيدة قائلا إن كل الرجال هم رجل واحد، وكذلك كل النساء، وكل الرجال والنساء يلتقون في شخصية تيريلياس الذي يمثل الراوي، والمتحدث السائد في القصيدة، والممثل لوحدة الخبرة الإنسانية. أما بروست
«فهو يستجمع ما لا يمكن تصويره من خلال لغة لا تتبدل في نحوها وألفاظها، ومن خلال كتابة لا تزال تنتمي في معظمها إلى جنس السرد الروائي.»
18
وإذا ما كانت رواية «أوليسيس»
Ulysses
لجويس
Joyce
تصور الشتات والفوضى المعاصرة، فإن الفن يضفي شكلا أو نوعا ما من أشكال النظام على هذه الحياة، وهذا ما يقوم به الشكل الأسطوري للرواية.
بين نهاية القرن ال 19 والنصف الأول من القرن العشرين، عرفت الحداثة الفنية تحولات كثيرة وجذرية، نتجت عن مجموعة التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سادت آنذاك. غير أن ظهور ما يسمى بحركة «الطليعة»
Avant-Garde
في الفن، كان إيذانا بتحول كبير على مستوى مفهوم الفن، وعلى طبيعة الإنتاج الفني.
انتقدت حركة الطليعة استقلال الفن وانكفاءه على ذاته، وانفصاله عن النشاطات الإنسانية، والمؤسسة الاجتماعية. كان الهدف الرئيس لهجوم الطليعة على الحركات الفنية المنتشرة آنذاك، ارتباط هذه الحركات بالطبقة البورجوازية «الفن باعتباره ملجأ آمنا وأنيقا للطبقة البورجوازية التي تتميز بالذوق الرفيع.» وفي المقابل دعت الطليعة إلى إلصاق الفن بالواقع، وإزالة الحدود بين ما هو «نخبوي» وما هو «شعبي»، واستخدام الفن لتوعية الجماهير وتثقيفهم، وكل هذا لن يتأتى إلا إذا جعل الفنان من موضوعات الحياة العادية موضوعات لفنه.
19
وتتوازى هذه الدعوة التي أطلقتها الطليعة مع دخول متغير جديد في المعادلة الفنية: «إنه تلك اللعنة القديمة؛ المال.»
20
هذا المتغير كان موجودا من قبل، بصورة أو بأخرى، لكنه كان يتوارى أمام رغبة الفنان الصادقة في إنتاج عمل فني حقيقي ومميز. أما في القرن العشرين - ومع دعوة الطليعة لإزالة الحواجز بين ما هو «شعبي» وما هو «نخبوي» - فقد دخلت بعض المؤسسات الرأسمالية ميدان المنافسة لتسويق الأعمال الفنية المختلفة. والنتيجة الانتقال التدريجي للفن من عالمه إلى عالم السلعة «ما يحدد الفن الصناعي ليس الإنتاج الآلي، وإنما العلاقة التي غدت داخلية مع المال.»
21
وبداية ظهور مصطلحات من قبيل «تسليع الفن» و«تسليع الثقافة». والمشكلة التي تنشأ هنا هي أن الذوق ليس بمقولة سكونية، إنه دائم التغير. فقوى السوق المهيمنة تبني الأذواق في الفن كما في سائر المنتجات الأخرى، والهدف النهائي هو كيف تستفيد هذه القوى من ذلك كله.
مع دخول التكنولوجيا - التي اعتبرها توينبي قد أخذت مكانة ووظيفة الدين في القرن العشرين - اكتمل الثالوث (إزالة الحدود بين الشعبي والنخبوي - دخول رأس المال في ميدان الفن - التطور التكنولوجي) الذي سيوجه ضربة قاضية للفن الحداثي. وقد ظهرت بوادر هذه الأزمة مع ظهور تيارات فنية جديدة عضدت من هذا الوضع:
فقد ظهرت النزعة المستقبلية
Futurism
والنزعة الدادية
Dada . دعت الأولى على يد الشاعر الإيطالي فليبو مارينيتي
Fillippo Marinetiti
إلى نبذ التاريخ والماضي والتقاليد وإلى البحث الدائم عن أشكال فنية وفكرية جديدة، وأساليب وتقنيات مبتكرة. وبرغم قصر عمر هذه الحركة الأدبية فإن انتشارها كان سريعا ومؤثرا خاصة في فرنسا وروسيا إبان وبعد الحربين العالميتين. أما الدادئية فقد بدأها هوجو بول
H. Paul
في سويسرا عام 1916م، وكما يقول فالتر بنيامين
Walter Benjamin : «لقد كان التدني المتعمد والمدروس لقيمة مادتهم من بين الوسائل التي اتبعوها لتحقيق هذه العبثية واللاجدوى. فكانت قصائدهم عبارة عن «مزيج عشوائي من الكلمات» يضم معاني إباحية، وكل ما تلفظه اللغة من ألفاظ غير مستساغة. كان هدفهم، وما حققوه، هو تجريد إبداعاتهم من شذاها. فأمام لوحة رسمها آرابش
Arap
أو قصيدة نظمها شترام
Stram ، يستحيل المرء أن يستغرق في لحظة تأمل أو تقويم كما يفعل أمام لوحة رسمها ديران
Durrant
أو قصيدة نظمها ريلكه
Rilke . كانت أعمالهم الفنية تصيب المشاهد بما يشبه الرصاصة.»
22
في مقالته الشهيرة التي صدرت عام 1936م «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تكنولوجيا»
Das Kunstwerk im Zeitalter Seiner Technischen Reproduzierbarkeit
يتأمل بنجامين - على حد تعبيره - «تقلص» و«ذبول» و«تدمير» ما يسميه ب «هالة الفن»
Glanz der Kunst
أو «الإحساس بخصوصية وتفرد العمل الفني»، مفترضا أن هذه الهالة لا يمكن فصلها إطلاقا عن كونها جزءا لا يتجزأ من نسيج التقاليد الفنية والحضارية «فأي تمثال قديم لفينوس
Venus ، مثلا، يمثل بالنسبة للإغريق، الذين يرون فيه رمزا للجمال، سياقا تراثيا، يختلف عنه لدى رجال الدين في العصور الوسطى ممن كانوا ينظرون إليه باعتباره وثنا ينذر بالشؤم. إلا أن كلا الفريقين لم يكن ينكر ما له من تفرد أو شذى.»
23
غير أن معنى العمل الفني راح يتغير في عصر إعادة الإنتاج الآلي الحديث، فتقنيات وآليات إعادة الإنتاج تعمل على فصل «المنتج المعاد إنتاجه» وانتزاعه من أبعاده التاريخية؛ ومن ثم يتهاوى هذا الشذى أو تلك «الهالة» ويتلاشى التفرد والخصوصية التي كانت للأعمال الفنية. هذا بالإضافة إلى أن الظروف والأوضاع التي أصبح يتلقى فيها العمل الفني قد تغيرت؛ «فالمعرض الفني وقاعة الموسيقى يفقدان صفتهما «المقدسة» حيث يمكن إعادة إنتاج العمل الفني واختباره أو عيش تجربته في عدد كبير من الظروف أو الأوضاع.»
24
وعلى الرغم من الروح النقدية التي يتحدث بها بنيامين، إلا أنه قد رأى في ضياع «هالة» الفن إمكانية لتعزيز التفكير النقدي للجمهور حيال ما يعرض عليهم من أعمال فنية. فهالة الفن قديما كانت تشكل عائقا أمام التلقي الموضوعي للعمل الفني، كانت تخلق نوعا من القداسة للفن، يطلق عليه بنيامين الربقة اللاعقلانية «كلما انخفضت الأهمية الاجتماعية لأحد الأشكال الفنية، ازداد تمييز الجمهور للفارق بين النقد والمتعة.»
25
في مقابل ذلك يرى أدورنو أن إعادة النسخ هو عرض من أعراض النكوص
regression «فالبشر يستهلكون أفلامهم أو موسيقاهم بطريقة ذاهلة لأن حيواتهم ليست ملكا لهم، بل تتوقف على التقيد بقيود الشركات الاحتكارية.»
26
وبدلا من أن تثير الفكر النقدي، فإنها تجعل الفكر ذاته أمرا لا ضرورة له. فالغرض الأساس لصناعة الثقافة - ومن ضمنها الفن - هو إزالة الفوارق الاجتماعية والأيديولوجية، وفي الأسواق كل شيء يتساوى، أما الاختلاف الوحيد الممكن فهو أن المنتجين المتخصصين يقفون في جانب، والمستهلكين يقفون في الجانب الآخر. وفيما بينهم تقع أدوات التوزيع الثقافي، ووسائل الإعلام الجماهيري.
في العصر الإلكتروني، يصبح المثل الرومانسي الأعلى للإبداع الأصلي، أمرا مفارقا، ويصير مفهوم «الأصالة» وهما عبثيا في عصر «وسائط الاتصال» وقابليتها اللانهائية للتولد والتعدد.
ياوس
في أطروحته الناقدة «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» 1984م يرى جيمسون
27
أننا ومنذ مطلع الستينيات قد دخلنا حقبة جديدة بحيث أصبح إنتاج الثقافة مندمجا في الإنتاج السلعي عموما؛ «فالسعي المحموم لإنتاج موجات متجددة من سلع تبدو دائما مبهرة (من الثياب إلى الطائرات)، وبأذواق تبدو دائما عصرية، هو الآن، وعلى نحو متزايد، الوظيفة البنيوية الأساسية للإبداع والتجريب الجماليين.» هذا التحول يستدعي - فيما يرى جيمسون - تغييرا محددا في عادات وموقف المستهلك، ودورا جديدا في التعريفات والتحديدات الجمالية. وقبل أن نعرض لانعكاسات هذه التطورات التي لحقت بمفهوم الفن على الفنون المختلفة، سنحاول أن نحدد بعض السمات العامة التي تشترك فيها فنون ما بعد الحداثة: (1) «إزالة الحدود بين الثقافة النخبوية والثقافة الجماهيرية»: فإذا كان الفن قديما حكرا على طبقة بعينها، فإن الفن في الحقبة ما بعد الحداثية متاح للجميع؛ فالسطحي والعميق، في نظر ما بعد الحداثي، كلمتان يستعملهما النخبويون، لا كحكم جمالي، إنما للتمييز الطبقي. لذا ترفض ما بعد الحداثة تراتبية الأذواق والثقافات. من هنا يرى روشنبرج أن عالم الفن الشعبي هو «عالم الفن المتسع»،
28
في حين يرى دانيال بل
Daniel Bell
أن انحلال سلطة الثقافة العليا في الذوق الثقافي منذ الستينيات واستبدالها بفن البوب
، وثقافة البوب، والأسلوب العرضي، والذوق العامي، لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه رمزا للمتع الغبية في الاستهلاك الرأسمالي.
29
وكما يقول هويسينز: «لقد أصبح البوب الآن هو المرادف لأسلوب الحياة الجديد للجيل الحالي؛ أي أسلوب الحياة الذي انقلب على السلطة، وأراد التحرر من معايير المجتمع.»
30 (2) «تسليع الفن»: وهو ما حاول الحداثيون تجنبه، ولكن ما بعد الحداثة استطاعت أن تمد سلطة السوق على سلسلة طويلة من المنتجات الثقافية ومن ضمنها الفن «هناك ميل متنام في المشهد الأدبي الحالي في الغرب يتجه إلى إبراز الفن المشتمل على إنتاج تافه، فأصبح الأدب فرعا من صناعة وسائل الترفيه. وبدلا من الواقعية الاشتراكية صار لدينا «واقعية السوق»، الذي أصبح قيدا مفروضا علينا ... إنه أدب نتعامل معه كسلعة مقدسة ذاتية المحتوى ، ذاتية الإشارة.»
31
في هذا الاتجاه أيضا يرى كريمب «أن ما شاهدناه في السنوات القليلة الماضية ليس إلا السيطرة الصريحة لمصالح الشركات الكبرى على الفن.»
32
وأيا يكن الدور الذي لعبه رأس المال في فن الحداثة، فإن المدى الذي بلغته الظاهرة الآن قد تجاوز كل حد؛ فقد غدت الشركات هي الموجه الرئيس للفن بكل المقاييس. (3) «الارتباط بالتكنولوجيا»: فالتكنولوجيا والإعلام الآن هما الحامل الحقيقي للوظيفة المعرفية. والمشكلة الآن أن التكنولوجيا أضفت على بعض الفنون عوامل إبهار لا حدود لها، دون وجود موضوع فني حقيقي. وأصبح المتلقي العادي يبحث عن الإبهار والمفارقة في كل ما يشاهده، يقول فوجل
Vogel
عن مشاهد السينما: «إن المتفرج يدخل دار السينما برغبة منه ودون ضغط من أحد - هذا إذا لم يكن بلهفة - مهيئا نفسه للاستسلام والقبول بما سيحدث، وإذا اكتشف أن الفيلم «سيئ» وأن الوهم «لم يحقق غرضه»، فإنه يستاء كثيرا.»
33
والواقع أن قول فوجل يصلح تعميمه، بحيث إن الربط بين جودة العمل الفني وقدرته على الإبهار صار شائعا على مستوى الفن بصوره المختلفة. لقد حلت التكنولوجيا الآن محل الفن من خلال خلقها ما يسمى ب «الواقع الافتراضي»
La réalité virtuelle
هذا الواقع الذي كان قديما حكرا على الفن، أصبحت التكنولوجيا تخلقه، ربما بصورة أكثر إبهارا وجاذبية. (4) «التشظي»: ثمة خلل أصاب معادلة بودلير، التي عرضنا لها في بداية هذا الجزء، فتحول الطرف الثاني فيها إلى النقيض. تحولت معادلة بودلير من الفن = الخالد، إلى الفن = سريع الزوال. لم تعد الأعمال الفنية خارج قانون الزمن، بل أصبح هذا القانون يسري عليها بعنف وصرامة «لقد تشظت الممارسات والأحكام الجمالية إلى نوع من «القصاصات الجنونية» المملوءة بأنواع لا تحصى من المداخل الملونة التي لا رابط بينها، ولا يجمعها إطار محدد، عقلاني أو عملي.»
34
والتشظي كسمة أساس في الفكر ما بعد الحداثي، إن كان يعني في عالم الصناعة والاقتصاد أن تتم صناعة المنتج الواحد في أكثر من بلد حسب توافر الموارد واليد العاملة. وما نجده كذلك في الاقتصاد الراهن القائم على الشركات متعددة الجنسيات ذات أصول أموال تدعمها دول عديدة، فربما يكون انعكاس ذلك التشظي في الأدب - على سبيل المثال - سقوط الجدر الفاصلة بين الأجناس الأدبية والفنية، وهو ما أطلق عليه «الكتابة عبر النوعية»؛ إذ نجد القصيدة الجديدة وقد كرست تيمات السرد وتقنيات المسرح والسينما والتشكيل إلى آخر ألوان الفنون البصرية والسمعية المتباينة. ويتضح هذا أيضا في الرواية «تمثل الروايات الطويلة التي تكتب اليوم تناقضا؛ فالبعد الزمني قد تمزق إربا، وبتنا لا نستطيع العيش أو التفكير إلا في أجزاء من الزمن، يذهب كل منها في مداره الخاص ثم سرعان ما يتلاشى. وإذا كان لنا أن نعيد اكتشاف استمرار الزمن فإنما في روايات تلك الحقبة؛ حيث لم يكن على الزمن أن يتوقف، ولم يكن عليه بالتالي أن يتفجر. حقبة لم تستمر أكثر من مائة عام.»
35
ما يحدثنا عنه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو
Italo Calvino
هنا من تشظ للزمن والذات، وهو ما جسده لنا في أعماله بقوة ك «مدن لا مرئية»
Le città invisibili
وغيرها، هو السمة الأبرز للفن ما بعد الحداثي. لا توجد خصوصية للحظة الحاضرة، الذات نفسها مشتتة بين الماضي والحاضر والتطلع للمستقبل؛ لذا لا توجد خصائص أسلوبية مميزة، هناك فقط استخدام وتوظيف لكل ما أنتجته الحضارة البشرية من قبل «إعادة تدوير»
recyclage
و«إعادة إنتاج»
reproduction
بلغة الصناعة، وهي اللغة التي يحتفي بها فنانو ما بعد الحداثة. وهكذا يغدو العقد المؤقت - كما لاحظ ليوتار - في كل شيء، هو العلامة المميزة لحياة ما بعد الحداثة.
36 (5) «الحنين إلى الماضي»: وهي سمة حاضرة بقوة في معظم الأعمال الفنية ما بعد الحداثية، فما بعد الحداثة لا ترفض الماضي وتنبذه، إنما تعيد توظيفه وإنتاجه، بصورة ربما تبدو للبعض «مشوهة»، تأكيدا منها على الروح الديمقراطية التي تتعامل بها مع التراث، وفي نفس الوقت محاولة محو الهالة التي كانت تحيط بالأعمال التراثية الشهيرة، أو حتى السخرية منها (كما فعل مارسيل دوشام عندما وضع شارب لموناليزا دافنشي). على أن هذه العودة إلى الماضي ربما يكون سببها أيضا ضعف الطاقات الإبداعية للفنان المعاصر وعدم قدرته على إنتاج الجديد، وهو حكم ليس تعميميا بطبيعة الحال، ومن ثم العودة إلى الماضي وإعادة استغلاله وإنتاجه، يقول جان بودريار: «منذ هذه اللحظة لم يعد هناك تاريخ للفن ... فالفن نفسه يرتد في تاريخه، وهذا هو أحد مظاهر انعدام قيمته ... يستهلك نفسه في تاريخه الخاص بأن يبعث على هذا النحو كل الأشكال ... نوع من انقلاب الأشياء، ومرحلة لا تنتهي من التكرار ... إعادة استخدام لا تنتهي.»
37
وما يقوله بودريار هنا يبدو متوافقا إلى حد كبير مع ازدهار ما يسمى في الغرب منذ مطلع السبعينيات ب «صناعة التراث»
heritage industry ، وهو مصطلح تناوله دوجلاس كريمب
D. Crimp
وهويسنز بالتحليل، ويشير إلى أن التاريخ قد تحول إلى مجرد أرشيف كبير «يمكن استعادته جاهزا واستهلاكه المرة بعد المرة». وهو - أي صناعة التراث - وما بعد الحداثة على اتصال وثيق؛ إذ «إنهما تآمرا على خلق شاشة سطحية تدخل بين حياتنا الحاضرة وماضينا»، ويصبح التاريخ «خلقا راهنا أكثر مما هو خطاب نقدي» ويستنتج هويسنز من هذا «أننا بتنا محكومين بطلب التاريخ عبر صور البوب التي لدينا، وعبر تلك الصور الزائفة.»
38
هذه هي أهم السمات الحاضرة بقوة في الأعمال الفنية بما بعد الحداثية، وهناك سمات أخرى تتفرع عنها ربما يكون أهمها: التقطيع
cutting ، المزج
collage ، المحاكاة الساخرة
parody ، الميل لزخرفة السطوح
surfaces decorated ... إلخ.
39
وربما ستبرز لنا هذه السمات بصورة أقوى عندما نستعرض التغيرات التي لحقت بكل فن على حدة، وسنحاول أن نستعين في ذلك ببعض النماذج التطبيقية. لكن ربما يلزمنا قبل ذلك أن نشير إلى تغير حدث في طبيعة مفهوم التمثيل، الذي هو على علاقة رئيسة بالفنون المختلفة، هذا التغير كان نتاجا للتحولات التي تحدثنا عنها فيما سبق، وإلقاء الضوء عليه سيكون مفيدا بصورة كبيرة في فهمنا لطبيعة الفنون وتحولاتها في القرن العشرين. •••
الواقع أن مفهوم التمثيل
Representation
هو أحد المفاهيم الحاضرة في تاريخ الفنون والنظريات الجمالية حضورا كبيرا منذ أفلاطون وحتى القرن العشرين. ويعني التمثيل أن الوعي الإنساني يمثل موضوعات العالم الخارجي ويخلق بداخله صورة ذهنية عنها، هذه الصورة تتعرض لتحولات معرفية عديدة بحيث تصبح مكونا رئيسا من مكونات الإنسان المعرفية، وتتحكم بالتالي في رؤيته للعالم، ومن ثم آراؤه وتصوراته عنه. كانت علاقة الإنسان - قبل ابتكار الصورة وتقنيات صناعتها - بتلك الموضوعات علاقة مباشرة دون وسيط، وبالتالي كانت الصورة الذهنية مطابقة في واقع الأمر للموضوع الذي تجسده (إذا رمزنا للموضوع الخارجي ب «أ »، فإن الصورة الذهنية الناتجة عن التمثيل الذهني له ستصبح «أ» أيضا) بمعنى أن هناك علاقة هوية بين الموضوع الخارجي والصورة الذهنية التي تمثله. على هذا الأساس أسس أرسطو لمنطق الهوية وجعله أحد القوانين الرئيسة للعقل الإنساني.
لكن مع اعتماد الصورة كوسيلة معرفية أساسية وخاصة مع ظهور وسائل الإعلام، ستتغير تلك المعادلة (لن تصبح «أ» في علاقة هوية مع «أ») ثمة وسيط دخل بين الموضوع وتمثله، وسيترتب على دخول هذا الوسيط حدوث اختلال ما في المعادلة التمثيلية؛ فالصورة كوسيط هنا بين الموضوع والذات التي تتمثله، لا تنقل هذا الموضوع بطريقة محايدة بريئة، كما العين الإنسانية. فالواقع أنه لا توجد صورة بريئة، تماما كما لا توجد كاميرا محايدة. وهناك مبدأ معروف في الإعلام المعاصر يقول: «ليس المهم أن تنقل الحدث ولكن الأهم كيف تنقل الحدث.» تحولت الواقعة إذا من كونها واقعة محايدة تكون علاقة الإنسان بها علاقة مباشرة، إلى كونها واقعة مجسدة في صورة تحمل بداخلها رسالة، وتكون هذه الرسالة فاعلة ومؤثرة في تشكيل الواقع.
ويبدو فن التصوير، عبر تاريخه، من أكثر الفنون التي ارتبطت بمفهوم التمثيل، وذلك نظرا لطبيعته التي ارتبطت منذ نشأته بتصوير أشياء وموضوعات تمت بصلة قوية للعالم الخارجي، وبالتالي فإن المشاهد، غالبا، ما يقوم باستحضار الموضوع المناظر للشيء الذي تجسده اللوحة، ويبحث في اللوحة عن مدى مطابقتها لهذا الموضوع. ويبدو هنا مدى توافق منطق الهوية، والبحث عن أساس، بالصورة التي تحدثنا عنها، مع رؤية المتلقي العادي الذي يبحث عن التشابه والتوافق، بين ما يشاهده وبين الأشياء كما يألفها في العالم الخارجي. هنا يتضح أن منطق الهوية متغلغل في العقل الإنساني، بوصفه قانونا من قوانينه. لكن هذا القانون قد عطل مسيرة التلقي الجمالي، بالإضافة بالطبع إلى تأثيره القوي على النظرية الجمالية ، والدليل الأكبر على ذلك أن مشكلة التمثيل في الفن من أقدم وأهم المشكلات، ولا يوجد فيلسوف جمال إلا وتعرض لها.
ومثل النقلة التي حدثت في الفلسفة من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف، فإن تاريخ فن التصوير هو ذاته تاريخ الانتقال من النزعة التمثيلية إلى النزعة اللاتمثيلية «إن التخلي عن المجاز البسيط هو الحقيقة العامة في الفن الحداثي، كما أنه كان حقيقة فن التصوير ككل، وفي كل زمان.»
40
فالتصوير الحداثي يصل بدحض التمثيل إلى أبعد الحدود.
بالإضافة إلى ما أحدثه اكتشاف قوانين المنظور في فن الرسم الكلاسيكي من ثورة على مفهوم التمثيل - إذ الحديث عن «رؤية منظورية» للمكان لا يصح إلا عندما يتجاوز الرسام التمثيل البسيط الذي يكتفي «بتقليص» الموضوعات الخارجية، ويعمد على عكس هذا إلى تحويل لوحته في كليتها إلى «نافذة»،
41
نلقي فيها ببصرنا على المكان فنحوم في أرجائه بالكيفية نفسها التي يريد أن يخلقها عندنا الرسام؛ فإن ما أحدثه فن الباروك لا يقل أهمية عن هذا الاكتشاف «لقد ساهم فن الباروك
Le baroque
مساهمة فاعلة في خلق «منظورات خادعة» بفعل القيمة الكبيرة التي منحها «للخداع البصري»
Les illusions d’optique
بعد أن غدت قوة الإيهام والخداع عنده أكثر حقيقية من الواقع نفسه.»
42
ونستطيع إجمالا أن نقول مع فولفلين
Wölfflin
بأن الباروك «لا يمثل تقهقرا، مقارنة بالفن الذي ساد في عصر النهضة بقدر ما يمثل أسلوبا تشكيليا جديدا سيرفع من مكانة الزيف.»
43
وإذا كان الفن الكلاسيكي-النهضوي يميل إجمالا إلى إعطاء الخصائص التشكيلية طابعا ثابتا بناء على النموذج المعماري
Le type architectural ، فإن فن الباروك يكتسي طابعا موسيقيا؛ ولذلك فهو يميل أكثر إلى إثارة الإدراكات العاطفية-الانفعالية وإلى فتح المجال أمام ردود فعل حركية؛ إذ إن الانتظام الهندسي الذي طبع النهضة بطابعه الصارم سيتقلص نوعا ما ليحل محله اندفاع القوى في حركيتها.
وفي حين مجدت رسوم النهضة الأشكال الدقيقة بفعل الأهمية التي كان يحظى بها التخطيط
designe ، فإننا نجد لدى فن الباروك ميلا صريحا إلى الأساليب الإيحائية بعد أن أصبح اللون هو العنصر الأساس الذي يولد الإيحاء. لقد رد رسامو عصر النهضة جمالية وتناسق الأجسام إلى مبدأ الوحدة
Le principe de L’unité ؛ ولهذا نجد عندهم ولعا بالتماثلات
Les symétries
والأشكال المنغلقة والمراكز
Les centres
بنفس القدر الذي نجد عندهم إطنابا في تجسيد «المنظورات المتقاربة»
Les perspectives convergentes . أما في الرسوم الباروكية فإن اللجوء إلى اللاتماثلات
Les dissymétries
وإلى الفضاءات المتمددة
Les espaces expansifs
والأشكال المفتوحة ، سيصبح السمة البارزة؛ ويسير في موازاة مع هذا كله اهتمام شديد بتصوير الخدع البصرية.
والواقع أن ما يسمح بوجود هذه الاختلافات بين الرسم في عصر النهضة وبين الرسم الباروكي لا ينحصر عند هذه المعطيات بمفردها؛ لأن الفن في عصر النهضة ينطلق أساسا من رؤية شاملة هدفها الجوهري تحري الحقيقة، في حين يتخذ في الباروك مظهرا بلاغيا
aspect rhétorique
بعد أن أصبحت غايته، ليست هي نقل الحقيقة، بل تحريفها أو تحويرها. ولذلك فإن ما أصبح يهم الرسامين الباروكيين بالدرجة الأولى هي الأشكال البلاغية التي تظهر عليها الأشياء، وهو ما يسير طبعا بشكل منسجم مع الأسلوب الباروكي الذي يعتبر الفن وسيلة إيحاء واستهواء، الأمر الذي سيسمح في المقابل بجذب التعبير الفني إلى دائرة المظهر والزيف.
نفس المبدأ المعادي لفكرة التمثيل، هو الذي نجده عند ماجريت، لكن على مستوى آخر لا يقضي نهائيا على مفهوم التمثيل في حد ذاته، بقدر ما يقضي على فكرة الانعكاس والشفافية التي اقترنت دائما في الفكر الكلاسيكي وفي فن الرسم التقليدي بأسمى درجات التمثيلية؛ ففي كثير من أعمال ماجريت يحضر موضوع المرآة التي لا تعكس الواقع بل تنتج ما تشاء دونما التزام بقواعد الانعكاسية. إن مرايا ماجريت لا تعيد إنتاج موضوعاتها وفق مبادئ التمثيلية التي تأسس عليها فن الرسم الكلاسيكي، بل إنها تعمد إلى خلق عوالمها الخاصة، بما فيها الواجهات الخفية التي لا تستطيع المرايا الواقعية التقاطها، مما يعطي الانطباع منذ الوهلة الأولى بأننا لم نعد أمام مرايا تنسخ الأشياء كما هي ولا أمام تمثيلات حقيقية، بل أمام قوة شيطانية
Une force diabolique
توالي خلق السمولاكرات، وتوسع الهوة بين موضوعات الرسم وموضوعات الواقع.
لا يتعلق الأمر هنا بخدع بصرية كما هو مألوف في الرسومات الباروكية، وإنما يتعلق بماهية الرسم التي غدت تحتل مع ماجريت منزلة مغايرة؛ ففي لوحة «المرآة الزائفة»
Le faux-miroir (1935م) يجسد ماجريت عينا وقد ارتسمت على سطحها مجموعة من السحب فبدت زرقة العين وكأنها امتداد لزرقة السماء. هذه اللوحة كافية بمفردها لتبين الدور الكبير الذي لعبته الحركة السريالية في خلخلة مفهوم التمثيل؛ ففيها رسالة واضحة من ماجريت فحواها «أن عين الرسام هي دوما «مرآة مزيفة» لأنها لا تنقل الوقائع كما هي، ولا تمثلها كما هي متمثلة فعلا بالعين العادية وإنما تحرفها.»
تلك أيضا هي القضية التي تطرحها لوحة «ارتباطات خطيرة»
Les liaisons dangereuses (1926م)، في هذه اللوحة يجسد ماجريت امرأة عارية وهي تمسك بمرآة تدير سطحها العاكس جهة المشاهد. وبدل أن تعكس المرآة أطراف الجسم التي تناسب وضعه أمام المشاهد، فهي لا تمثل سوى الجهة اللامرئية؛ أي ظهر المرأة الذي لا يستطيع المشاهد ولا المرآة التقاطه، وكأن ماجريت تعمد بهذا الإخلال بقوانين الانعكاسية حتى يؤكد بأن ثمة جانبا «لا تمثيليا» في التمثيل.
وتبدو المفارقة في أن ماجريت في رسوماته يلتزم حرفيا بقوانين التمثيل الكلاسيكي؛ لأن استعادته للأشياء والأجسام هي دوما استعادة دقيقة. لكن بدل أن تعكس المرآة الجسم في أوضاعه المناسبة التي تتفق مع أوليات عملية الانعكاس، فهي تنصب أعضاء في غير مواضعها المناسبة؛ وما ذلك إلا لأن فن الرسم عند ماجريت لم يعد يعمل - كما يقول مارسيل باكي - بالكيفية التي تعمل بها المرآة المنفعلة: فهو لا يكرر المظهر بل يغيره ويحوله. وهكذا فإن فن الرسم لا يعيد إنتاج جسد المرأة وإنما يقوم على العكس بإنتاج مظهر جديد وصورة جزئية، مجمدة، مؤطرة وميتة.
حتى على مستوى فن التصوير الفوتوغرافي، الذي هو في الأساس صورة ضوئية منعكسة لأشياء العالم الخارجي، احتل مفهوم «السيمولاكرا» موقعه على خارطته، بل إن المصطلح نفسه ساهم في وضع حجر الأساس لممارسة فنية جديدة باتت معروفة على نطاق واسع في الغرب باسم «النزعة التشبيهية»
simulationism ، التي يعتبرها هال فوستر
Hal Foster «استثمارا لمفهوم السيمولاكرا عند دولوز وفوكو.»
44
وهي حركة وجدت إرهاصاتها الأولى في أعمال بعض الرسامين كرينيه ماجريت، وإندي وارهول
A. Warhol ، وما لبثت أن انتقلت إلى مجال التصوير الفوتوغرافي على يد سيندي شيرمان
Cindy Shirman
وشيري ليفين
S. Leiven
وباربرا كروجر
B. Kruger
وسارة وورث
S. Worss
وغيرهم. وقد حاول هؤلاء العمل على تخليص التصوير الفوتوغرافي من فكرة التمثيل، وكان سبيلهم إلى ذلك التخلص من فكرة النموذج المصور عبر مجموعة من الطرق؛
45
فهذه شيري ليفن تدور معظم أعمالها حول إعادة تجميع أو إنتاج أو دمج لصور سابقة بحيث تكون النتيجة في النهاية صورة غير ذات أصل محدد. وهذه سيندي شيرمان، تتخذ من جسدها مادة للتصوير الفوتوغرافي، وكل أعمالها تدور حول هذا الموضوع، بحيث تكون النتيجة تصوير الجسد في أشكال وأوضاع مختلفة، وليس بصورته الحقيقية، وبحيث تكون الصورة في النهاية صورة لشيء غير حقيقي أو مزيف. يقول الناقد دوجلاس كريمب
D. Crimp
عن شيرمان: «إنها تجعل من نفسها وسيطا، و«صورة» تسبق هذا الوسيط، وبالتالي فهي نسخة من دون أصل.»
46
وفي نفس هذا السياق تندرج أعمال كروجر التي جعلت من الدعاية والإعلانات مادة لأعمالها.
ثمة إحساس متزايد الآن - كما يقول كيفين روبنز - بأننا نشهد ميلاد حقبة جديدة، حقبة ما بعد التصوير الفوتوغرافي. وتمثل هذه الحقبة نوعا من التطور في التكنولوجيا الرقمية الجديدة الخاصة بتسجيل ومعالجة وتبادل وتخزين الصور. وهكذا شهدنا خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين نوعا من التقارب المتزايد بين تكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي وتكنولوجيا الفيديو والكمبيوتر، وقد أدى هذا التقارب إلى تمهيد الأرض لظهور سياق جديد تكون فيه الصور الفوتوغرافية الثابتة مجرد عنصر صغير في ذلك العالم الكبير، الذي أطلق عليه اسم الميديا أو العليا
hypermedia
الفائقة. فالتكنولوجيا الافتراضية بقدرتها على توليد أو إنشاء صور «واقعية» على أساس بعض التطبيقات الرياضية التي تحاكي الواقع وتنمذجه، أسهمت في الرفع من شأن التوقعات للتطورات اللاحقة والاستباق لها.
47
يمكن النظر إلى مفهوم «الواقع الافتراضي»
réalité virtuelle
الذي ظهر في بدايات الثمانينيات، وتنامى بعد ذلك حتى اتخذ موقعا هاما في الثقافة المعاصرة، على أنه شكل من أشكال الصورة الزائفة أو السيمولاكرا، فالواقع الافتراضي هو واقع غير محاك لعالم ما؛ أي صورة غير ذات أصل محدد، لكنها تمتلك قوة الأصل، بل تفوقه من حيث القدرة على الإبهار والتأثير. ويذهب بيزني
J. M. Besnier
إلى أن «الجهاز المفاهيمي الذي نحته كل من دولوز وجاتاري يمنح للتكنولوجيات الجديدة بعدا فلسفيا غير متوقع، سواء تعلق الأمر بمفهوم «انمحاء المكان والزمان» المرتبط بالسرعة الفائقة التي يتم فيها تبادل المعلومات، أو «مضاعفة السيمولاكرات» بواسطة التقنيات الرقمية؛ أو تعلق الأمر بمفهوم «الواقع الافتراضي».»
48
كما تذهب كلير كوليبروك إلى وجود صلة حقيقية بين مفهوم السيمولاكرا وبين الواقع الافتراضي الذي صار شعارا لمرحلة الحداثة البعدية التي يعيشها الغرب الآن.
49
ليس الافتراضي صورة مزيفة للواقع أو سيمولاكر، بل هو نسف للواقع ذاته وتخليصه من الهالة التي كان يحظى بها في السابق، على أساس أن الواقع لم يعد مبدأ للتحقق باعتباره إحالة مرجعية يتم على إثرها التحقق من صدق قضية من القضايا. وبالتالي غدت الإحالة معطاة للافتراضي بما هو منبع جديد للحقيقة. إن الواقع، كمبدأ للإحالة وكمادة خام وكحدث خاص، تلاشت هيمنته بفعل التدخل المفاجئ للعالم الافتراضي.
إننا نعيش الآن عالم ما بعد الواقع، عالم الفضاء التكنولوجي والواقع الافتراضي والفضاء اللانهائي الذي يتحكم فيه الكمبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا الافتراضية،
50
عالم الصور المحاكية التي تشبه الأصل ولا تشبهه، تحاكيه ولا تحاكيه، بل تتفوق عليه وتفارقه، عالم يشبه كثيرا كهف أفلاطون الذي تملؤه الظلال والنسخ المزيفة.
أخيرا تبدو السينما هي المثال الأبرز لفن السيمولاكرا؛ فالسينما هي فن الوهم بامتياز، سواء كان هذا بسبب طبيعتها أم لأنها تخلق عالما ليس له أصل أو مرجع، فهي مرجع ذاتها. إن الصورة السينمائية لا تعيد إنتاج عالم، وإنما تبني عالما مستقلا بذاته، مصنوعا من انقطاعات وتفاوتات، مجردا من مراكزه كافة. وقد طرح المنظر السينمائي بيير بورديل
هذا السؤال: هل السينما فن الخداع والسيمولاكر؟ وأجاب قائلا: «مما لا شك فيه أن السينما هي نموذج لفن السيمولاكر؛ لأنها تقدم لنا عالما مستقلا من الصور يجسد مظهر الأشياء ومعناها في الوقت ذاته.»
51
والواقع أن السينما منذ ظهورها وهي تثير مثل هذه الأسئلة التي تتعلق بطبيعتها وعلاقتها بالواقع؛ ذلك لأنها أكثر الفنون التصاقا بالواقع وابتعادا عنه في الوقت نفسه أو كما يقول ميتز
Metz : «هنا سر آخر من أسرار السينما؛ حيث تدمج واقعية الحركة في لا واقعية الصورة، من ثم يتحقق المتخيل أو الخيال إلى درجة لم يتم التوصل إليها من قبل.»
52
وقد ربط العديد من منظري السينما بين ما تخلقه السينما من إيهام بالواقع، وبين طبيعة المشاهدة السينمائية التي تتفاعل مع هذا الإيهام لدرجة تجعل منه واقعا موازيا أو بديلا للواقع الحقيقي، وقد قال أندريه بريتون: «إنه في السينما يتم الاحتفاء بالطقوس السرية العصرية.»
53
وهو بذلك يعبر بشكل جيد عن التقاء النقيضين: التكنولوجيا والميتافيزيقا في شيء واحد يسمى السينما. •••
سنحاول عبر الصفحات التالية تتبع السمات ما بعد الحداثية في الفنون المختلفة:
إذا بدأنا بفن العمارة، وهو الفن الذي يرى البعض أنه أولى الفنون تأثرا بصيحات ما بعد الحداثة. يقول جيمسون: «ليس هناك حقل من الحقول المعرفية شعر فيه رجاله بموت الحداثة وأعلنوا عن ذلك بصورة حادة، مثلما حدث في فن العمارة.» لقد ذهب جانكس في كتابه «لغة العمارة ما بعد الحداثية»
The Language of Postmodern Architecture
إلى أن النهاية «الرمزية»
54
للحداثة يمكن تحديدها عند الساعة 20 : 3 من يوم الخامس عشر من يوليو عام 1972م عندما جرى نسف مبنى برويت-إيجو
لسكن ذوي الدخل المحدود في سانت لويس باعتباره بيئة غير صالحة للسكن فيها.
55
لقد تهاوت أفكار لو كوربوزييه
Le Corbusier (كان المبنى قد نال جائزة لي كوربوزييه حول «آلة العيش الحديث») وممثلين آخرين ل «الحداثة العليا» وأفسحت الطريق أمام تقدم صارخ لإمكانات متعددة. لقد رأى جانكس أن الأهم في هدم مجمع «برويت إيجو» الطريقة التي تم بها الهدم وهي (النسف)،
56
والتي أضحت مثالا على النسق الفكري، والنموذج الأساس لما بعد الحداثة. فالنظرية الحداثية المعمارية كانت تعتمد في الأساس على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى الشكل، أن يحقق البناء وظيفته على النحو الأتم بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بشكل البناء ومكامن الجمال فيه.
57
وكما يقول جين جاكوبس
J. Jacobs
في دراسته الهامة «موت المدن الأمريكية الكبرى وحياتها»: «إن المسطحات الحضرية التي أقامتها الحداثة كانت نقية ومنظمة وناجحة من الناحية المادية، أما اجتماعيا وروحانيا وإنسانيا فهي أقرب إلى الموات، وإن زحام وصخب القرن التاسع عشر هما ما أبقى على الحياة الحضرية المعاصرة.»
58
في عام 1965م نشر الناقد المعماري روبرت فنتوري
Robert Venturi
مقالة بعنوان «مبررات عمارة البوب» في مجلة «الفن والعمارة»
Art and Architecture ، قدم خلالها مبررات وحتمية ولادة مفهوم جديد للعمارة عوضا عن المفاهيم التقليدية الموروثة من الحداثة. ثم أتبع هذه المقالة بكتابيه «التعقيد والتناقض في العمارة» و«التعلم من لاس فيجاس»، ينتقد فنتوري في الكتاب الأول ما أسماه «البساطة الزائدة» في التصميم المعماري الحداثي واصفا إياه ب «النقيصة التكوينية»، داعيا إلى «إثراء الناتج المعماري»، ومبشرا بميلاد مفاهيم نظرية جديدة، تخالف وتعارض المناهج المعمارية السابقة وتطبيقاتها البنائية المستقرة. وفي الكتاب الثاني يوصينا فنتوري بأن نتعلم جمالياتنا المعمارية من عرى لاس فيجاس أو من الضواحي القذرة كما في ليفيتاون؛ لأن الناس باختصار تحب هذه الأمكنة «وليس شرطا أن يكون للإنسان توجه سياسي محدد حتى يدعم حقوق متوسطي الطبقة الوسطى في جماليتهم المعمارية الخاصة بهم، وقد وجدنا فعلا أنه يتشارك في نمط ليفيتاون الجمالي معظم متوسطي الطبقة الوسطى، السود كما البيض، الليبراليين كما المحافظين.»
59
كان المعماري الفرنسي لو كوربوزييه هو الأب الروحي للمعمار الوظيفي الذي ساد إبان مرحلة الحداثة. وقد مثلت نظريته المعمارية مرحلة رئيسة ومهمة من مراحل تطور «العمارة الحديثة» في فرنسا، فترة ما بين الحربين. واعتبرت أطروحاته الأسلوبية وأعماله المعمارية بمنزلة أمثلة ناصعة للفكر المعماري الحداثي ليس فقط في فرنسا، وإنما في مناطق عديدة من العالم. كان لو كوربوزييه شخصية متعددة الاهتمامات؛ فبالإضافة إلى كونه معماريا مجددا كان مخططا للمدن، ورساما وكاتبا، ومصمما ومنظرا، وساهمت اهتماماته المتعددة تلك إلى تكريس حضوره اللامع في المشهد المعماري العالمي. وعلى الرغم من أن الأبنية التي نفذها لو كوربوزييه تعد قليلة نسبيا فإن كلا منها كان بمثابة خطوة كبيرة في تطور مبادئ «العمارة الحديثة». وتمتاز المباني التي صممها بحضور واضح للمعايير للهندسة الخالصة المعتمدة على الأشكال الأساسية كالمكعب، ومتوازي الأضلاع والأسطوانة، وقد كتب يقول ذات مرة: «إن مشاكل البناء الحديث الكبرى يمكن حلها فقط عبر استخدام الهندسة المنتظمة؛ إذ يتجه مهندسو اليوم نحو إنتاج الكتل ذات الخطوط الهندسية الواضحة فيكتشفون أشكالا واضحة وقوية التأثير، تريح الأبصار وتوفر للعقول متعة النظر إلى أشكالها الهندسية. كذا هي المصانع، أولى ثمار العصر الجديد . وهكذا يضع مهندسو اليوم أنفسهم في اتساق مع ذات المبادئ التي طبقها أمثال برامنته ورافائيل منذ زمن بعيد.»
يتضح من عبارة لو كوربوزييه أن التشبه بالآلة وبنتاج المهندسين الصناعيين لا يراد به الوظيفية البحتة
، بقدر ما يراد به التعبير عن إنجازات مهندسي العصر الصناعي في تقنين نماذج نمطية اعتمادا على حجوم هندسية بسيطة يسهل التعامل معها ضمن إمكانيات الصناعة الآلية، وهي في ذات الوقت ذات مظهر جمالي جاذب.
جان باتيليه: التدمير الحداثي للنسيج المديني القديم.
إن الحقبة الجديدة في رأي لو كوربوزييه لا بد أن تعبر عن روح العصر الصناعي الذي يعتمد على التنظيم والنمذجة ضمن مواصفات ومقاييس معيارية تنسجم والأهداف المتوخاة من الأداة قيد التصميم. ومثلما هي الصناعة، أرادها لو كوربوزييه في العمارة. فكلما كان الحل بسيطا ومباشرا كان أقرب إلى الأشكال الهندسية؛ لذا ذهب إلى أن الجمال في التصميم المعماري رهن استخدام الحجوم الهندسية البسيطة أو النقية أو التي تمثل الحلول التنظيمية الأنموذجية.
لو كوربوزييه: فيلا سافوي
Savoye .
لو كوربوزييه: كنيسة نوتر دام دي أو.
وبالعودة إلى جانكس نجده يصف العمارة ما بعد الحداثية بأنها تميز نفسها عن العمارة الحداثية «النخبوية» من خلال التأكيد على أولويات «الشعبوية»، وذلك يعني أنه بينما سعت الحداثة المعمارية الكلاسيكية الأنيقة إلى تمييز نفسها عن بقية نسيج المدينة الأرضي الذي تظهر ضمنه، فإن بنايات ما بعد الحداثة تنهمك، على العكس من ذلك، بإدراج نفسها ضمن النسيج الآخذ في التغير الذي تشكل عناصره الأبنية التجارية والفنادق الصغيرة ومطاعم الوجبات السريعة المنتشرة على الطرقات السريعة في المدن العالمية الكبرى. وإذا كانت نصيحة دانيال بيرن
D. Burne
للموجة الأولى للمصممين الحداثيين في نهاية القرن التاسع عشر هي «لا تصنع تصاميم صغيرة»؛ فإن في وسع مصمم ما بعد حداثي مثل ألدو روس
A. Rosse
أن يكون أكثر تواضعا ويتساءل: «مم أستلهم أعمالي إذا؟» ليجيب: «من الأشياء الصغرى بالتأكيد، بعدما تبين أن القدرة على تحمل الأشياء الكبرى كان تاريخيا عائقا كبيرا.»
60
إن الأبنية ما بعد الحداثية لا ترى ضيرا مثلا في مزج الأفكار المعمارية الجديدة مع الأشكال والرموز التقليدية الغابرة بهدف إحداث نوع من الصدمة والإدهاش، وربما المرح والتسلية للرائي. وهو ضرب من الإيمان بأن الجمال قد يتولد من التنافر مثلما يتولد من الاتساق، ومن الفوضى مثلما يتولد من النظام. لقد انعكس التحول الذي حدث في المجالات الثقافية على الناتج المعماري وعلى اهتمام المعماريين، وساهم كل منهما في إثراء الفنون الأخرى؛ لأن الحواجز بينهما قد سقطت «فاستوعب الخطاب المعماري المعاصر اتجاهات مختلفة نحتية وتشكيلية تنهل من طرز عديدة. ورأى بعض النقاد المعماريين أن التعددية والصخب ما هما إلا تعبير عن تعددية وصخب الأحداث التي بداخل جدران البنايات وفيما حولها. أو هي لون من الديمقراطية وحرية التعبير تسمح لكل معماري أن يطرح أفكاره الخاصة دون الالتزام بقالب يحده أو نموذج يتمثله، وهو أمر لم يكن بمقدور المعماريين أن يفعلوه في السابق.»
61
وفي سياق مشابه يقول جان نوفيل: «لم يعد المكان يعاش بنفس الطريقة، ولم تعد نفس الأشياء موجودة بالداخل؛ فاللعب بالمقياس يتم بطريقة مختلفة، ويتم تغيير معناه، فنتمكن انطلاقا مما كان كبير الحجم غير واضح ووظيفي على نحو خالص، وعبر انحرافات متعاقبة، من إعادة خلق وتجديد لم يكن باستطاعة أي أحد تخيل أنها ممكنة.»
62
سيطرح دولوز مفهوم «المدينة الكولاج»
collage city
63
ليصف نوع المعمار السائد في الغرب في الحقبة ما بعد الحداثية، والذي يتخذ من «الانتقائية» قاعدة أساس له. والانتقائية - التي يعدها دولوز السمة الأبرز للحياة المعاصرة - تعني «الجمع» و«المزج» بين العديد من «الطرز» و«الأساليب»، كما تعني أيضا «الانفتاح على الماضي» والحنين إليه.
64
والمثال الجلي الذي يستخدمه المعماريون عادة لشرح مفهوم «الانتقائية» كما تتجلى في فن المعمار، هو مبنى مؤسسة
At&t (مبنى سوني
Sony
الآن) الذي صممه فيليب جونسون
في مدينة نيويورك؛ إذ تعد هذه البناية الأكثر جدلا في النطاق المعماري كونها تجمع ما لا يجتمع معماريا؛ فهي ناطحة سحاب مبنية على الطراز الحداثي الوظيفي المتقشف الخالي من الزخارف والحليات التي لا وظيفة لها، فيما تعلو قمتها مقصورة مثلثة الشكل على الطراز القديم المميز للقرن السابع عشر الذي يتسم بوفرة الزخارف والتفاصيل الشكلانية التي لا تخدم وظيفة بعينها سوى تحقيق المتعة الجمالية. هذه الانتقائية أو المزج أصبحت هي لغة العمارة ما بعد الحداثية، فأصبح من الطبيعي أن نجد بناية شديدة الحداثية محمولة على أعمدة بيزنطية أو رومانية موغلة في القدم. وكما يقول بودريار «فإن العمارة تترجم عالما بأكمله.»
65
إن هذه الانتقائية هي انعكاس لعالم يسوده التشظي والتعددية «فيستمع الفرد إلى موسيقى الريجاي ويشاهد أفلام رعاة البقر ويتناول أطعمة مكدونالد على الغداء وطعاما محليا على العشاء، ويضع عطور باريس في طوكيو ويرتدي أزياء «ريترو» في هونج كونج ...»
66
فالتجاور وتزامن الأنماط والقيم والأمزجة والأشكال والمباني والمساحات والحضارات، هما ما يئولان إلى ما يسمه جينكس «القرية الكونية»
Global Village . ولما كانت القرية تعني ما هو محدود ومحلي ومتجانس، في حين تشير الكونية إلى ما هو كبير ومتعدد ومتباعد الأطراف ومختلف وغير متكافئ، فإن لقاء هذين الحدين يعني تجاور قيمهما وواقعهما، بحيث نحصل على إنتاج انتقائي متبادل التأثر والتأثير. وباختصار فإن «التشظي، والكولاج، والانتقاء، والمزج، مع الإحساس بالعرضية والفوضى، هي الأطروحات الأساسية، ربما، التي تهيمن اليوم على ممارسات العمارة والتصميم المديني.»
67
وهو ما يجمعها بالتأكيد مع ممارسات مشابهة في حقول أخرى، مثل الرسم والأدب والسينما والاجتماع وعلم النفس والفلسفة.
يذهب إيان بوكانان
Ian Buchanan
إلى أن دولوز وجاتاري في كتابهما «ألف ربوة» يقدمان تقسيما للمكان يميزان فيه بين «الأمكنة الملساء»
espaces lisses
و«الأمكنة المخددة»
espaces striés ؛ ويجاري هذا التقسيم التمييز الذي يقيمانه بصفة عامة بين«فن الرحل»
L’art nomade
الذي يميل أكثر إلى الأمكنة الملساء، و«الفن الحضري»
L’art sédentaire
الذي يناسب إلى حد كبير الأمكنة المخددة. ووفقا لدولوز يتعلق الأمر بنوعين من الرؤية؛ أولا: «الرؤية القريبة»
La vision rapprochée
التي تساير «المكان اللمسي»
L’espace Tactile (أو بالتحديد الفضاء الذي يمكن أن يكون في آن واحد لمسيا ومرئيا)، وهي الرؤية التي تنطبق بشكل دقيق على «الأمكنة الملساء»، وتتوافق في طبيعتها مع فن الرحل. ثانيا: «الرؤية البعيدة»
La vision éloignée
التي تساير «المكان البصري»
L’espace optique (أو بالتحديد الفضاء المليء بالطيات، والذي يكون قابلا للرؤية فقط) وتنطبق إلى حد كبير على «الأمكنة المخددة» لتكون بذلك خاصية مشتركة لأنماط الفن الحضري.
68
ولا يحصر دولوز وجاتاري تمييزهما بين هذين النوعين من الأمكنة في فن الرسم والهندسة المعمارية فقط، بل يتعقبانه في النموذج التكنولوجي والموسيقي والجغرافي والرياضي والفيزيائي. وإذا كانت الأمكنة المخددة توازي من الناحية الفنية المكان البصري وتنسجم بشكل مناسب مع فن العمارة الكلاسيكي في عصر النهضة حيث التداخل الكبير بين العمق والشكل، وحيث الحضور الجلي لمفهوم الحجم والمنظور، فإن الأمكنة الملساء توازي فن العمارة ما بعد الحداثي؛ حيث لا قيمة لفكرة المنظورية ولا اعتبار للمركز والعمق، بعد أن فقدت المعالم نموذجها البصري
Les repères
الذي كان يوحدها في صنف ثابت معين أمام الملاحظ الذي يقع خارج المشهد «إذ لا خط يفصل ما بين الأرض والسماء، فهما يمتلكان نفس المادة. كما أنه لا وجود للأفق ولا للعمق ولا للمنظورية ولا للحد ولا للتخم أو الشكل والمركز.»
ووفقا لبوكانان فإن العمارة المعاصرة قد ساهمت في إبداع أمكنة ملساء بعد أن أصبح التصميم متضمنا لاتجاهات متغيرة دون أن يعين التخوم ويحدد الأشكال، أو إذا شئنا استعمال لغة ميكائيل فرييد
Michaël Fried - التي يستعيرها كل من دولوز وجاتاري - لقلنا معه «لقد أصبحنا ها هنا أمام خطوط تشكيلية متعددة الاتجاهات، بلا عمق ولا خارج، بلا شكل ولا قعر، لا تحد أي شيء ولا تمثل أي تخم؛ فهي لا تملأ إلا مكانا أملس.»
69
ومن نفس المنطلق يقارن بوكانان، في موضع آخر، بين هذا التصور الدولوزي للمكان وبين التحليل الذي قدمه جيمسون لفندق بونافنتور
Bonaventura hotel ، يخلص جيمسون من تحليله للطراز المعماري للفندق إلى أنه يجسد «التجلي المعماري لمفهوم سقوط سلطة الإنسان وهيمنته على الوجود؛ إذ لم يعد هو محور الحياة ومركزها.» وقد كرس المعماريون ذلك المعنى عن طريق عمل واجهات زجاجية مرآوية عاكسة ضخمة، بحيث يقف الرائي عند مدخل البناية فيرى انعكاس العالم والأبنية المقابلة للمبنى، ويرى صورته كذلك فيجد نفسه ضئيلا موغلا في التقزم والتشظي وسط العالم والضجيج المنعكس أمامه. وبحسب جيمسون، فإن واجهات الزجاج العاكس للفندق إنما تهدف إلى «طرد المدينة خارجيا»؛ لإبقاء الرائي بعيدا من أن يرى، وجعل صلة الفندق بالجوار أقرب إلى «القطيعة الخاصة من دون مكان» (وهو طرد تماثله النظارات الشمسية العاكسة التي تجعل من المستحيل على محدثك رؤية عينيك، مما يمنحك أفضلية وسلطة عليه). يمنح الزجاج العاكس للفندق أيضا انفصالا عن الوسط المحيط به، فما نراه عندما نقف في مواجهته صور مشوهة ومفتتة للمباني المحيطة التي تنعكس على واجهته.
70
At&t.
Bonaventura Hotel.
في سياق مشابه يجد أندرو بالنتين
Andrew Ballantyne
في مفاهيم دولوز عن التعددية والتجاور والانتقائية علاقة وثيقة بالتطور المعماري المعاصر، وعلى سبيل المثال يقارن بالنتين بين مفهوم الجذمور
rhizome
عند دولوز
71
وبعض النماذج المعمارية التي تنتمي إلى الطراز ما بعد الحداثي: فالجذمور - ذلك المصطلح الذي يشير إلى اللامركزية واللاتحدد - يعد مدخلا لفهم العديد من الطرز المعمارية المعاصرة، وعلى سبيل المثال «فإن مدينة بورتمان
صممت بطريقة لا يمكن للناظر إليها أن يرى أي مدخل لها، فهي أشبه بالتيه الذي يصعب تحديد نقطة بداية أو نهاية له.»
72
ومن نفس المنطلق يقارن جرانت كيستر
Grant Kester
بين بعض مفاهيم دولوز، كالتشظي والتجاور والطية والأمكنة الملساء والجذمور، وبين بعض الطرز المعمارية المعاصرة «إن قوة نموذج دولوز تكمن في قدرته على الحفاظ على تنظيمات متعددة بشكل متجاور وآني، وهكذا ففي مشروع آيزنمان
Eisenman
لمركز ويكسنر
Wexner center
نجد أن البرج والشبكة لا يشتملان على أي تناقض.»
73
عمارة ما بعد الحداثة: مبنى
Dancing House
جمهورية التشيك.
في نهاية ثمانينيات القرن العشرين تكرس مصطلح العمارة التفكيكية، كتعبير رمزي ونظري في آن واحد عن وصف مجمل تجارب تصميمية ترسخت في الممارسة المعمارية العالمية وقتذاك. وبحسب دريدا لا تعد العمارة التفكيكية نمطا معماريا، بل هي طريقة لجعل كل عنصر من عناصر التصميم المعماري أشبه بالمجاز بصرف النظر عن الوظيفة التي يؤديها. وبمعنى آخر تركز العمارة التفكيكية على الصور والعلامات، وتسقط من حساباتها تماما أغراض الوظيفة والمنفعة. ويضيف دريدا بأن التفكيكية ليست بالضرورة تقويض المباني المبنية، وإنما خلق تضارب بين ما بات أمرا عاديا ومألوفا لدى المرء في إدراك اللغة والمعنى، وبين من يراه أو يشاهده.
74
إن العمارة التفكيكية هي نوع من التحدي المعماري، تحد يمكن صياغته في الأسئلة الآتية: هل بمقدور العمارة أن تتخلى عن هيمنة أقانيم علم الجمال الكلاسيكي؟ هل بإمكانها أن تتنصل عن النفعية؟ عن الوظيفية؟ هل ثمة مفاهيم راسخة تحدد النظام أو اللانظام؟ هل بالإمكان تشييد مبنى بالتخلي عن تلك المبادئ الأساسية المتعارف عليها والمألوفة لخلق عمارة (التوازن، الخطوط الأفقية والعمودية، التدرج ... إلخ)؟ في محاولته للإجابة عن تلك الأسئلة يرى دريدا أنه يتعين أولا التخلص من المفاهيم التقليدية القديمة عن العمارة، ومن ثم ابتكار أشكال جديدة تتحرر من التصورات الجمالية الكلاسيكية. فالنظرية الحداثية المعمارية كانت تعتمد في الأساس على فكرة الوظيفة دون الالتفات إلى الشكل؛ أي أن يحقق البناء وظيفته على النحو الأتم بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى تتعلق بشكل البناء ومكامن الجمال فيه. إن الحداثة هي العقل والعلم والمنطق، من هنا نستطيع أن نتفهم لماذا لجأت العمارة الحداثية في تصاميمها إلى الأشكال الهندسية الصارمة التي خلعت عليها شكلا نمطيا واحدا، دون أدنى التفات إلى متطلبات الشكل والجمال.
وعلى الرغم من أن أوجه التشابه بين العمارة التفكيكية والنمط المعماري ما بعد الحداثي كثيرة (التقطيع - التصاميم غير الخطية - الاعتماد على الهندسة اللاإقليدية - إبراز التناقضات ...) إلا أن بعض المنظرين قد رأوا أن ثمة اختلافات جزئية بين الاثنين؛ فعمارة ما بعد الحداثة لا ترى غضاضة في استدعاء الماضي وإدخال بعض التعديلات عليه أو مزجه مع أنمطة معمارية أخرى. في حين أن العمارة التفكيكية تسعى إلى تحقيق القطيعة التامة مع التاريخ والتقاليد الراسخة في المعمار، بالإضافة إلى أن العمارة التفكيكية لم ترتبط بالنزعة «الشعبوية» الواضحة التي يسعى مصممو ما بعد الحداثة دوما لإبرازها في شكل المباني.
إحدى خصائص المعمار التفكيكي، وفقا لدريدا، أن يأتي متجنبا الوصول بالمكان إلى حالة التشبع. فيجب أن يبقى المعمار مفتوحا أمام فرصة تحول آت «بمعنى التخلي عن العلو المطلق؛ أي أن تلامس المدينة السماء، والعمل وفق ما قد يسميه المناطقةبداهة النقص
Axiome d’incomplétude . فالمدينة كل يجب أن يبقى غير متشبع بنيويا، وأن يبقى منفتحا على إمكانية التحول، وعلى الإضافات البسيطة التي تغير أو تحدث إزاحة في ذاكرة تراث المدينة. يجب أن تبقى المدينة منفتحة لحقيقة أنها لا تعرف بعد ما سوف تكون عليه، ومن الضروري ترسيخ عدم اليقين هذا في العناصر المعمارية وفي علم تخطيط المدن، كما لو كان رمزا. وإلا فما هذا الذي سيقوم به المرء سوى تنفيذ بعض المخططات وإتمامها وإشباع المدينة وخنقها؟»
75
وقد ذكر دريدا مثال معبد إيسي في اليابان، والذي يتم تفكيكه وإعادة بنائه كلما مر عليه عشرون عاما، كمثال على هذا الانفتاح المعماري.
اليابان: معبد إيسي
Ise .
إن الأفكار النظرية التي نادى بها دريدا وجدت صداها القوي لدى بيتر آيزنمان. كان آيزنمان من أشهر معماريي الاتجاه التفكيكي، آمن بأفكار دريدا حول علاقة الميتافيزيقا بالمعمار. وقد رأى أن فلسفة الحضور قد تجسدت عبر مفهومين مزدوجين هما: الوحدة والأصل. هذه المفاهيم بالنسبة له ناجمة عن الرغبة والحنين لدى الإنسان لمعرفة من أين أتى وما هو موقعه في هذا العالم. لذا فالإنسان يحتل موقعا مركزيا ضمن إطار العمل المعماري. أما المفاهيم الأخرى مثل الجمال والوظيفة، فهي كلها خاضعة للبعد البشري الذي يعتبر الإنسان حقيقة الكون المركزية. بالإضافة لذلك رأى آيزنمان أن إنسان ما بعد الحداثة يتطور في عالم لا يحتوي نموذجا مثاليا موحدا بل متعددا ومقطعا. وانطلاقا من هذه الحقيقة رأى آيزنمان أن التساؤل الديني حول الأصل لم يعد متطابقا مع عصرنا ويجعل الإنتاج المعماري منغلقا في أفكار مسبقة كالمركز والنسق والتنظيم والوظيفة، وهي كلها تعمل على تساوي التعبيرات المعمارية.
76
من هنا رأى آيزنمان أن الهندسة الإقليدية والأفلاطونية لا يمكن أن تعبر وبسبب نقائها الجوهري عن حالة التعقيد والتقطيع التي تميز إنسان هذا العصر. لذا فلا بد من القيام بثورة على «العمارة الحديثة » بغية تفكيكها وإعادة بنائها من جديد وفقا لتلك المتغيرات. كتب آيزنمان قائلا: «الكتل الأفلاطونية التي عمل عليها لو كوربوزييه لم تعد مناسبة لفهم الظواهر الحالية. التناظر غير قادر على أن يتكلم عن علاقاتنا مع المحيط؛ إنها أشياء أصبحت من الماضي.»
77
ويرى آيزنمان أنه يجب التخلص من مفهوم الوحدة والأصل كيما تتحرر العمارة من الميتافيزيقا التقليدية، وهي «فلسفة الحضور» بمصطلح دريدا؛ وذلك لإسقاط النموذج الكلاسيكي للعمل المعماري. وسيغدو التفكيك عند آيزنمان بمثابة تمرد على كافة الصيغ التقليدية للتفكير ولفهم الأعمال المعمارية.
بيتر آيزنمان: مركز وكينسر للفنون.
بيتر آيزنمان: ماكس رينهارت هاوس (برلين)
Max Rinhardt House 1992 .
ومثل آيزنمان كانت المصممة العراقية زها حديد من أشهر المعماريين الذين تأثروا بالتفكيكية. لكنها قامت بمزج التفكيكية بالأسلوب المعماري العربي، خاصة الخطوط العربية المائلة والأشكال الدائرية التي تعكس دلالات التكرار واللانهائية. بالإضافة لذلك احتوت أعمالها على جرأة كبيرة في كسر القوالب الهندسية التقليدية. أعمالها تعكس حالة من القلق وعدم الاستقرار نابعة من توزيع الكتلة في الفضاء الخارجي بشكل لا متناه، واستخدام الخطوط المتموجة التي تحل محل الزخارف التقليدية التي لم تستخدمها العمارة التفكيكية. ثمة أيضا خاصية مميزة لأعمالها تتمثل في تحطيم الفروق بين الرسم والنحت وإعادة خلطها في قالب معماري واحد. إن الجمال في أعمال زها حديد ينبع من توزيع العلاقات الشكلية بين الكتل والفراغات بطريقة لا يمكن توقعها، إنه الجمال النابع من الفوضى المنظمة، أو لو شئنا لقلنا إن أعمالها تؤسس لما يمكن أن نطلق عليه «جماليات التيه»
Aesthetics of Labyrinth .
78
زها حديد: المركز العالمي للثقافة والفنون (اليابان).
زها حديد: دار الأوبرا (دبي).
زها حديد: مسجد الأفنيوز (الكويت).
أما فرانك جيري فقد قامت أعماله على فكرة استقلالية المبنى وعناصره؛ حيث يرى أن المبنى يجب أن يكون مستقلا بذاته لا يحده مبان أخرى تفسده وتقطع الصلة بمكوناته. كما تميز بجرأته في استخدام الألوان والخامات الجديدة، يقول جيري: «لقد وجدت في الفن شيئا جديدا، طالما بحثت عنه في العمارة. لقد اكتشفت أهمية مواد الإنشاء الجديدة لمحاولة تجسيد الشعور والروح داخل التكوين، ساعيا بذلك إلى إيجاد كيان لمفهومي الخاص.»
79
أخيرا يرى جيمسون أن عمارة ما بعد الحداثة هي عرض من أعراض اضمحلال حضاري مزمن، إنها «ليست إعادة بناء للمدن، وإنما موت لها»؛ فانتشار ما يسمى ب «الصناديق الزجاجية المترهلة» بمعظم المراكز المدنية في العالم، يشهد على ما يبدو بأن «الحداثة العليا قد ماتت ودفنت للأبد، وأن إبداعاتها التشكيلية قد نفدت نفادا كاملا، وأن أحلامها الأفلاطونية غير قابلة للتحقق.»
80
ويواصل جيمسون: «المدهش في التكوينات المعمارية الجديدة حول باريس وفي بقاع متعددة من أوروبا هو أنها جميعا لا تقدم أي «منظور» محدد على الإطلاق. القضية ليست فقط في أن الشوارع بمفهومها المعروف وقيمها الضمنية قد اختفت تماما من هذه التكوينات المعمارية، بل في أن كل الحدود المعروفة للشكل المعماري قد تلاشت أيضا. ذلك مذهل ومربك إلى حد كبير. وفي ظل هذا الارتباك الوجودي المدمر، الذي تمارسه ما بعد الحداثة على فضائها المكاني، يظهر لنا تشخيص نهائي وأخير لمدى عجزنا عن طرح أنفسنا في المكان وتعريفه بصورة تعكس وعيا حقيقيا به، وهو الأمر الذي يفسر بدوره ظهور التوجه الداعي لثقافة عالمية متعددة الجنسيات تذوب فيها الهويات فتصير مفتتة عاجزة عن موضعة ذواتها.»
81 •••
كان فن الرسم المعاصر أكثر تأثرا - مقارنة بالفنون الأخرى - بالقيم ما بعد الحداثية، ربما يعود ذلك إلى قابليته السريعة لاستيعاب التغيرات المتلاحقة، وربما أيضا لكثرة مدارسه وتنوعها، وقدرتها الكبيرة على التفاعل مع الجديد. والحال أن سمات ما بعد الحداثة يمكن ملاحظتها في فترة مبكرة عند النزعة المستقبلية والدادية. ولعل أعمال مارسيل دوشام
Marcel Duchamp
تعطينا نموذجا جيدا للإرهاصات الأولى لتيار ما بعد الحداثة في فن التصوير. اشتهر دوشام (1887-1968م) بالنزعة العدمية، التعبير عن اللاشيء، أو كما يقول بودريار: «لقد تمثل فعل دوشام في تقليص الأشياء إلى اللامعنى.»
82
وكان يراهن في فنه على أن الفنان لديه القدرة على تغيير أذواق المتلقين، وكانت قولته الشهيرة «نستطيع أن نجعل الناس تتقبل أي شيء» هي المحرك له، والسر الذي يكمن خلف كل أعماله الفنية الصادمة وغير المستساغة. قام بإدخال ما يسمى ب «الأشياء جاهزة الصنع»
ready-made
إلى مجال الفنون التشكيلية، وهي أشياء كان يقوم بتصنيعها بنفسه أو بمساعدة آخرين، ثم يضيف عليها بعضا من لمساته، وتعرض كما هي في صالات العرض. من أشهر هذه الأعمال، العمل الذي عرض في أحد معارض السريالية في باريس 1936م وحمل اسم «الاستخفاف، نعم ولم لا؟»
فهذا العمل عبارة عن عدة تناقضات متجاورة، لم يسع دوشام نحو تقديم أي تفسير لها: قفص طيور زينة قديم له شكل مستطيل ويمكن أن يحمل باليد، يحوي مجموعة من الأشياء ... مكعبات من الرخام الأبيض المحتشدة والتي تبدو كقطع السكر، وترمومتر، وهيكل سمك. القفص يبدو للرائي خفيف الوزن، لكن عندما تحمله فسوف تتعجب بالوزن الثقيل غير المتوقع ... الترمومتر ليقيس درجة حرارة الرخام؟ (الاستخفاف، نعم ولم لا؟) فرغم توقعك لخفة وزن القفص (الرخام ثقيل جدا)، ورغم أملك الخاص في تذوق السكر (فهناك قطع سكر مزيفة)، وأيضا لا توجد حرارة ودفء (وهذا يظهر على الترمومتر الذي لا يرتفع زئبقه، بالإضافة إلى ارتباط هذا القفص بصوت عصفور يغني ... إلخ. والنتيجة كل هذه الأشياء مجتمعة تضعنا في عالم من الارتباك واللاتحدد؛ فهي لا تلتقي في صفة مشتركة من حيث الشكل أو المضمون، لكن باجتماعها معا تشترك جميعها في صفة «كسر التوقع»، وكأن دوشام يريد أن يقول لنا «هذا الذي يبدو لك، ليس على النحو الذي يبدو عليه.»
83
موناليزا مارسيل دوشام في سخرية واضحة من موناليزا دافنشي.
وعلى كل، فقد برع دوشام في تحويل كل ما هو ليس مألوفا إلى مفردات فنية تدخل في تركيب أعماله الفنية.
84
وقد تنامى هذا التيار على يد إندي وارهول
Andy Warhol (1982-1987م)، الذي بدأ حياته كفنان دعاية، لكن وارهول كان يستخدم الشاشة الحريرية والتصوير الفوتوغرافي لعرض الأشياء جاهزة الصنع. اشتهر بشعاره «أريد أن أكون آلة»، وهو شعار يعبر عن حالة من الخواء وعدم الانفعال. والمسألة هنا لا تتعلق بالاغتراب أو الشعور بالغربة، إنما يمكن تلخيصها في عبارة وارهول «ما لا يمكنك التغلب عليه، فعليك بالانضمام إليه، ولو أنه استغرقك، فلا بد أن تكون انعكاسا له.»
85
ولم يدخر وارهول جهدا من أجل تنفيذ هذه المقولة. (على سبيل المثال رأى وارهول أنه قد استغرق طوال عشرين عاما في تناول نوع واحد من الطعام على وجبة الغداء - «وهو حساء كامبيل
Cambil »؛ لذا جاء أحد أعماله نسخا عن طريق تقنية الشاشة الحريرية لإحدى عبوات هذا الحساء). وقد رأى وارهول «أن المحلات الكبرى تحتوي على العديد من مفردات العمل الفني»؛ لذا ينظر لها وارهول على أنها نوع من «المتاحف» لدرجة أننا - في رأيه - من الممكن أن نعكس العبارات فتصبح «أحب روما للغاية، فهي نوع من المتحف، مثل محلات بلومينجد إل الكبرى.»
86
في عام 1967م يقول وارهول: «لا أرى أن الفن للنخبة، بل لعامة الشعب الأمريكي.» ولكن السؤال هو كيف يمكن للمرء أن يمثل «جماهير الشعب الأمريكي» خاصة وأن الذوق ليس بمقولة سكونية؟ رأى وارهول أنه من الممكن أن يتم هذا بالتعبير عن الأشياء التي تمثل قاسما مشتركا بين الجميع، ووجد وارهول في المنتجات الاستهلاكية (حساء كامبيل، عبوات المياه الغازية، صور مشاهير النجوم)
87
غايته؛ لذا كانت موضوعا لأعماله منذ 1963م حتى وفاته، وقد لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا.
كامبل: إندي وارهل.
لقد قال بير بوردو عن هذا التيار الذي يمثله دوشام ووارهول: «إن الفنان الذي يضع اسمه على قطعة جاهزة الصنع فيمنحها قيمة تجارية لا تقاس بمقدار كلفة الصنع، إنما يدين بالفاعلية السحرية لمجمل منطق الحقل الفني الذي يعترف به ويمنحه الشرعية، ولن يكون فعله هذا، سوى إيماءة مجنونة أو غير ذات أهمية، لو لم يساندها حشد من المحتفين والمؤمنين المستعدين لتقديمه كما لو كان عبقري المعنى والقيمة.»
88
وفي مقابل رؤية بوردو يربط دولوز بين تيمة التكرار الحاضرة في أعمال وارهول وبين مفهوم السيمولاكر (الصورة غير ذات الأصل) والذي يدحض، في رأيه، فكرة التمثيل في الفن. فالتكرار الذي تعمده وارهول في لوحاته، مهما بدا متطابقا، يولد أقصى درجات الاختلاف، وقد رأى دولوز أن هذا هو إنجاز فن البوب، وإندي وارهول، الذي تستخلص أعماله المسلسلة تفردات من عاداتنا الاستهلاكية والتدميرية، يقول دولوز في الاختلاف والتكرار
Différence et Répétition : «ليس هناك إشكالية استطيقية أخرى، خلاف تلك الخاصة بإدراج الفن في الحياة العادية. وكلما تبدو حياتنا اليومية قاسية، نمطية، وخاضعة لإعادة إنتاج متصاعدة لموضوعات الاستهلاك، توجب حقن الفن فيها لكي ينتزع منها ذلك الاختلاف الضئيل الذي يلعب بشكل آني بين المستويات الأخرى من التكرار .»
89
إن اهتمام وارهول بالسطوح، وعبارته التي يقول فيها: «لو كنت تريد أن تعرف كل شيء عن إندي وارهول، فكل ما عليك أن تنظر إلى سطح لوحاتي وأفلامي وأنا نفسي، وعندها ستجدني. فلا شيء يختفي خلف ذاك السطح.»
90
ستجد اهتماما من نوع خاص عند دولوز، خاصة أنها تتفق واهتمامه بمفهوم الوجهية
Visage
وبما يتشكل على السطح.
في مقالته «على أنقاض المتاحف»
On the Museum’s Ruins
يرى دوجلاس كريمب
D. Crimp
أن المزج والتقطيع والحنين إلى الماضي هي الصفات الأبرز في فن التصوير المعاصر. وهو يقدم لنا أمثلة عديدة على ذلك: فأولمبيا
Olympia
مانيه
Manet ، إحدى أشهر لوحات بدايات الحركة الحداثية، إنما أسست على موديل فينوس
Venus of Urbino
لتيتان
Titian . لكن الأسلوب الذي استخدم يشير إلى انقسام في الوعي بين الحداثة والتقليد، والتدخل الفاعل للرسام في إحداث هذا التحول من خلال إدخال تعديلات جوهرية على العمل الذي تأثر به، بحيث يمكن القول إن المسألة لا تتعدى مجرد الإيحاء. أما عند فناني ما بعد الحداثة، فإن الأمر يختلف، ينشر روشنبرج
Rauschenberg ، أحد فناني الحركة، صورتي «فينوس روكبي»
Rokeby Venus
لبلاثكث
Velazquez
و«فينوس في حمامها»
Venus at Her Toilet
لروبنز
Rubens
في سلسلة من لوحاته في الستينيات، إلا أنه يستخدم الصورتين بطريقة مختلفة تماما؛ حيث يجري تصور رسم الأصل على شاشة من حرير
silk screen ، بالإضافة إلى أرضية من خليط فيه كل شيء (شاحنات، طوافات، مفاتيح سيارات، أطباق). ما يفعله روشنبرج هو ببساطة إعادة إنتاج
reproduction
للأصل، لكنه إعادة إنتاج سطحي. أما مانيه فكان ينتج بالفعل، وهذا هو الفارق «الذي يدعونا» بحسب كريمب «إلى اعتبار روشنبرج فنانا ما بعد حداثي. أما «شذا» الحداثة لدى الفنان كمنتج فلم يعد له من مكان.»
91
ومن نفس المنطلق يقول جيمسون: «لست أعرف كيف يمكن رؤية قيمة أعمال روشنبرج، لكنني كنت قد شاهدت معرضا كبيرا لأعماله في الصين، أشياء لماعة براقة تطرح الكثير من خبرات ما بعد الحداثة وتجاربها، إلا أنها تنتهي انتهاء كاملا بمجرد أن ينتهي حدث الرؤية، بمجرد أن ينتهي المعرض ويخرج المشاهدون ... إن ما ينتجه روشنبرج ليس عملا فنيا.»
92
وعلى النقيض من ذلك يرى دولوز أن قوة أعمال روشنبرج تكمن في أن لوحاته مكتفية بذاتها؛ أي أنها لا تحيل إلى شيء خارجها «من خلال أعمال روشنبرج تحديدا يمكن أن نقول إن السطح يتوقف عن أن يلعب دور النافذة المطلة على العالم ويصير الآن شبكة معلومات معتمة ... تلك الشبكة التي تدون عليها الخطوط والأعداد والخصائص المتغيرة.»
93
ويستشهد دولوز بمقولة كيدج
Cage
التي يقول فيها إن أعمال روشنبرج «تبدو متنوعة وقابلة للنفاد كأي من أعمال سابقيه الحداثيين بشرط أن نتعلم فقط كيف نراها.»
94
روبرت روشنبرج
R. rauschenberg : كولاج لموضوعات عدة.
في مجال التصوير الفوتوغرافي يمكن اعتبار «سيندي شيرمان» إحدى الشخصيات البارزة في حركة ما بعد الحداثة؛ إذ هي قد جعلت من نفسها موضوعا لكل صورها، فقط في كل مرة تغير من شكلها باستخدام وسائل التجميل والأقنعة المختلفة، بالإضافة إلى تغيير الأوضاع والخلفيات «ولن تكتشف إلا من خلال الكتيب المرفق في المعرض أنها مشاهد لامرأة واحدة، هي الفنانة نفسها.»
95
إن مرونة الشخصية الإنسانية من خلال طواعية تحولات المظاهر والسطوح والواجهات، هي من المقولات الهامة لما بعد الحداثة.
وترى هوتشيون
Hutcheon
في كتابها «سياسات ما بعد الحداثة»
«أن التصوير الفوتوغرافي عند مصوري ما بعد الحداثة يضمر التمرد ما بعد الحداثي على السلطة المهيمنة بكل أشكالها، بما فيها سلطة الطبيعة والواقع.»
96
لذا لجأ التصوير الفوتوغرافي، متأثرا في ذلك بفن الرسم، إلى التحرر من تصوير وتمثيل الواقع كما هو، عبر مجموعة من الطرق والأساليب.
سيندي شيرمان
Cendy Sherman
تتخذ من جسدها مادة للتصوير الفوتوغرافي في مشاهد مزيفة. بلا عنوان (1987م، 1990م، 1991م). •••
المجال الفني الثالث الذي تبرز فيه مقولات ما بعد الحداثة بقوة هو «السينما»؛ «فالسينما» هي الفن الذي يتمتع بشعبية لا محدودة، وهي بصورة أو بأخرى مرتبطة بالمنطق الرأسمالي - سواء على مستوى الإنتاج أو التوزيع، كما أنها تستخدم التقنيات الحديثة بصورة تفوق استخدام كل الفنون الأخرى لها، مما يجعلها في حالة تطور وتحول مستمرين. وبصفة عامة، نستطيع أن نلحظ حضور التيمات ما بعد الحداثية في السينما المعاصرة على مستويين؛ الأول: أفلام أراد صانعوها التعبير من خلالها عن قيم المجتمع ما بعد الحداثي، كالتجاور والاختلاف والتعددية، وعن التغيرات المتلاحقة التي أصابت المجتمع ما بعد الصناعي. والثاني: أفلام تنطلق من رؤى ما بعد حداثية للعالم، رؤى مفككة ومتشظية، تستند في الأغلب على الانتقاء، والمزج، والرؤية غير المنفعلة بالعالم، وغالبا ما تعتمد هذه الأفلام على توظيف التاريخ وتحويره لخدمة السياق العام للفيلم.
في نفس الوقت الذي كانت سينما الحداثة تمثل فيه اتجاها جديدا يحاول الهيمنة على الواقع السينمائي بدلا من سينما هوليود، بدأت مظاهر ثقافة ما بعد الحداثة في الظهور، وكانت إحدى معالمها الأساسية الثقافية الجماهيرية التي شملت التليفزيون وانتشار أفلام من نوع
B ؛ أي قليلة التكاليف، وموسيقى الروك آند رول، وأفلام الكارتون والمسلسلات التليفزيونية، وعرض أفلام هوليود القديمة على شاشة التليفزيون، وازدهار الإعلانات.
وقد مثلت هذه الثقافة إضافة إلى تاريخ سينمائي حافل، الخلفية الأساسية لمخرجي ما بعد الحداثة. وبدلا من أن يسعى المخرجون الجدد إلى هضم كل هذه المظاهر وخروج كل منهم بفكر خاص وأسلوب متميز، لجئوا إلى الاستعارة المباشرة من الأفلام الأمريكية والأجنبية، ومزج الأنواع المختلفة للفيلم، وابتعدوا إلى حد كبير عن الغموض الشديد الذي كان يميز أفلام الحداثة، وأصبحوا على اتصال أقوى بالجمهور العريض.
من المتغيرات الجديدة التي كان لها تأثير في ظهور سينما ما بعد الحداثة، ظهور نظرية استجابة القارئ، التي تقول إن كل متفرج أو قارئ يقرأ الفيلم بطريقة تختلف عن الآخر وأيضا عن الفكر الأصلي لصانع العمل، وبالتالي فهناك شبه استحالة في أن يصل المتفرج إلى ما كان يقصده المخرج أو صانع الفيلم بدقة. فهنا نرى أن ثقافة ما بعد الحداثة قد نقلت الاهتمام من المخرج إلى المتفرج.
إذا حاولنا أن نرصد أهم سمات سينما ما بعد الحداثة، فيمكن تحديدها في الآتي: (1)
المعارضة أو الاقتباس والكولاج من أعمال أخرى. فعلى سبيل المثال يستعير المخرج الأمريكي ديفيد لينش فيلم ساحر أوز كمرجعية أساسية في معظم أفلامه. كما يقوم بمزج الأنواع الفيلمية مثل الفيلم الأسود، وأفلام الطريق، والرعب، والميلودراما، والخيال العلمي، والأفلام السريالية، بالإضافة إلى الاقتباس والكولاج من أعمال أخرى. (2)
النوستالوجيا أو الباروديا أو المحاكاة الساخرة وهم حالتان متناقضتان تنتابان المشاهد عند مشاهدة أفلام ما بعد الحادثة نتيجة لاستخدام المعارضة أو التضاد، بمعنى محاولة استعادة تقاليد السينما الكلاسيكية بما تحمله من قيم أخلاقية وإنسانية، ووضعها في زمن معاصر. بالإضافة إلى ذلك تنتج الباروديا عن مقابلة أنواع فيلمية متضادة مثل الكوميديا والميلودراما أو إعادة تقديم مشاهد قديمة بشكل ساخر. (3)
محو الحواجز بين الماضي والحاضر بحيث يصبح من المتعذر تحديد الزمن الذي تدور فيه الأحداث، وذلك من خلال استخدام ديكورات وملابس وسيارات وأدوات تنتمي إلى عقود زمنية مختلفة مما يجعلك تشعر وكأنك تعيش في حلم تراه في الحاضر. ونرى ذلك بوضوح في فيلم «المخمل الأزرق»
Blue Velvet
لديفيد لينش، وقد استخدم لينش أيضا في فيلمه الطريق السريع المفقود
Lost High way
هذه الفكرة إلى أقصى الحدود بإدخالها في التركيب السردي للفيلم. (4)
الكرنفالية، وهو مفهوم طرحه باختين أحد رواد المدرسة الشكلانية الروسية، وتبناها مفكرو ما بعد الحداثة مثل إيهاب حسن، والتي تشتمل على مقاومة التسلسل المنطقي للأحداث واستخدام الشخصيات غير السوية والأحلام والغرام بفكرة الازدواجية، وتشمل الكوميديا والتراجيديا، وإظهار التفككية.
ويرى جيل دولوز أن التطور الأبرز في السينما المعاصرة هو تفكك المونولوج الداخلي
monologue intérieur
للفيلم وفقدانه وحدته الداخلية أو الكلية؛ فالطريقة التي يرى بها المؤلف، والطريقة التي ترى بها الشخصيات، والطريقة التي يكون العالم بها مرئيا، تشكل وحدة دالة (ذات دلالة أو معنى)، تعمل عبر الرموز. لكن في السينما المعاصرة انهارت هذه الوحدة وتحطم المونولوج إلى شظايا فاقدة الملامح؛ وذلك هو التحول - يقول دولوز - الذي كان دوس باسوس
J. Dos Passos
97
قد أدخله إلى الرواية، من خلال استناده إلى وسائل سينمائية. على أن ذلك، وبحسب دولوز، لم يكن سوى الوجه السلبي لتحول إيجابي أكثر عمقا ، وأكثر أهمية؛ فقد أخلى المونولوج الداخلي المكان للصورة، وأصبحت الصورة لها مطلق السيادة والاستقلالية، بحيث تكتسب الصورة قيمتها في ذاتها من خلال ما يسبقها وما يلحقها. لم يعد ثمة تناغمات كاملة و«مستقرة»، ولكن فقط تناغمات غير متطابقة أو انقطاعات لا معقولة، أصبحت الصورة متحررة من القيود السردية التقليدية. كما أصبحت الصورة مكتفية بذاتها لا تحيل إلى شيء خارجها واختفى منها كل مجاز أو رمز. ذلك، في نظر دولوز، يفتح إمكانات غير عادية للفيلم السينمائي ويجعله أكثر قدرة على التواصل، وأكثر استقلالا واعتمادا على تقنياته الداخلية «إذا كان الثوريون يقفون حقا على أبوابنا، ويحاصروننا، مثل أكلة لحوم البشر، فينبغي إظهارهم وهم يأكلون اللحم البشري، إذا كان رجال المصارف قتلة، وكان الطلاب سجناء، وكان المصورون الفوتوغرافيون قوادين، إذا كان العمال مستلبين من قبل أرباب العمل، فينبغي إظهار ذلك وليس تحويله إلى صورة مجازية؛ إذ لم يعد الأمر أمر مجاز وإنما برهنة وإثبات.»
98
السمة الثانية البارزة لأفلام ما بعد الحداثة هي «الحنين إلى الماضي»، ليس إعادة تقديم التاريخ برؤى مختلفة أو «وجهات نظر»، إنما إقحام للتراث أو للماضي للتأكيد على إمكانية «التجاور»، ربما بصورة تبدو هزلية في أحيان كثيرة، وكما يقول جيمسون «فيلم الحنين إلى الماضي في عصر ما بعد الحداثة هو مجموعة من الصور المستهلكة يميزها المشاهد في الغالب عن طريق الموسيقى والموضة وتصفيفة الشعر والمركبات أو السيارات.»
99
وقد ربط دولوز بين هذا الحنين إلى الماضي وبين ما أطلق عليه السقوط في «الكليشيه»
Cliche
100
أي الصورة النمطية المكررة.
السمة الثالثة هي «التشظي والفوضى والبنية اللامعقولة للفيلم».
101
وقد اهتم ستيفن كونور
S. Connor .
102
بتحليل موجة أفلام الخيال العلمي، لا سيما تلك التي تهتم بالمخلوقات الغريبة القادمة من كواكب أخرى
aliens
وعلى رأسها سلسلة (حروب النجم)
Star Wars
لجورج لوكاش
G. Lucas ، ورأى أنها تحمل معنى العزوف عن تقديم أية رؤية بصدد المشكلات الاجتماعية الراهنة في الغرب، وهو ما يعني الانفصال عن العالم. وقد أشار بودريار إلى أن هذا النمط من الأفلام يفضي إلى ما أطلق عليه «نشوة الاتصال»
Extase de la communication ؛ أي فعل المشاهدة التي ينتفي منها أي غرض غير المشاهدة، الصورة الخاوية من المعنى، أو على حد وصف بودريار «انتصار لرغبة الإنتاج على رغبة تقديم المعنى.»
103
بوستر فيلم
Clockwork Orange 1971
لستانلي كابريك. نموذج لسينما ما بعد الحداثة.
بوستر فيلم
للمخرج كوينتين تارانتينو
Quentin Tarantino . نموذج لسينما ما بعد الحداثة. •••
أما عن الأدب ما بعد الحداثي، وبخاصة الرواية، فإنه من السمات البارزة فيه محاولة استخدام تقنيات السينما في السرد الروائي مثل «القطع، المزج، تداخل الأزمنة، تشظي الزمن». كما يمكن إضافة المحاكاة الساخرة للواقع، وعدم انفعال شخصيات السرد بالإحداث ... إلخ. من هذا المنطلق يشير آلان روب جرييه إلى تمسكه بنوع من الرواية أسماه ب «العمل الفني غير الإنساني» تلك الرواية التي ترتمي فيها عيون الشخصية الرئيسة على الأشياء «دون إسقاط أو تخريج ذاتي»، وبالتالي، يرى البطل الأشياء، ولكنه يرفض تقويمها أو تشكيلها بنفسه، يرفض أن يفرض عليها أي فهم محتمل، أي تآمر عليها؛ فهو لا يطلب منها شيئا البتة، حاسة النظر عنده راضية باتخاذ أبعاد هذه الأشياء فقط، وعواطفه بالمثل ترتمي على سطحها دون محاولة منها لاختراق هذا السطح؛ وذلك لأنه لا شيء يختبئ تحت السطح. وقد رأى دولوز أن أعمال جرييه، سواء الروائية أو السينمائية، تشي بقوة من نوع خاص ... قوة تزييف الواقع، أو قوة المختلق حسب وصف دولوز.
104
ويبدو التشابه بين مبادئ روب جرييه وما يطرحه بارت في مقالة «موت المؤلف» واضحا. فبارت مثل روب جرييه، يرى أن الناقد عليه أن يتخذ «أبعاد» النص والكتابة دون محاولة منه للنفاذ فيما تحت السطح. فالكتابة كما يراها بارت - على نحو ما سنرى - تسمح «لكل شيء أن ينحل، لا أن تحل شفرته وتفك رموزه»؛ فهو «فضاء يجب أن يحجب، لا أن يخترق أو يثقب». لذا فليس من المدهش إذا أن يعجب دولوز وبارت بأعمال روب جرييه الروائية فينظرا إليها بوصفها «معكوس» الكتابة الشعرية تماما، فهي «لا تحاول النفاذ للأشياء، بل تبقى على سطح الأشياء تتأملها بحيادية.»
105
وهذا في نظرهم مكمن قوة في النص لا ضعف. ومن نفس منطلق روب جرييه يقول كيدج: «أعمل الآن أيضا في عمل جديد أسميه بوروبيرا، وهو عبارة عن أوبرا بدون نص أوبرالي، أو حبكة مزيج من العناصر المسرحية كلها، ليس بينها اتصال متعمد، وأعتقد أن ما سيحدث في عملية توالي هذه العناصر وتلقائيتها يمكن أن يكون مدهشا وغير مألوف.»
106
والواقع أن تصنيفات من قبيل الأنواع شبه الأدبية
para littérature ، والآداب الهامشية
litteratures périphériques ، والأدب الجماهيري
littérature de masse ، والأدب سريع الزوال
Le fiction fragile
ستحتل موقعها في النقد الأدبي المعاصر. •••
أما موسيقى ما بعد الحداثة فهي مزيج من موسيقات إثنية
ethnique
مختلفة، سواء على مستوى الآلات أو الأصوات، لخلق هوية موسيقية جديدة متعددة الثقافات، والأمثلة على ذلك كثيرة في محاولة إدماج موسيقى الريجي
Reggae ، والراب
Rap ، والهيب هوب
Hip Hop ، وموسيقى البوب الأمريكية والأوروبية فيما يسمى بالروك الفني
art rock
تمييزا له عن موسيقى الروك التقليدية.
107
وبالإضافة للمغزى السياسي والثقافي لهذا النوع من التداخل أو الكولاج (إظهار أن العالم قرية صغيرة، الدعوة لسلام عالمي ... إلخ)، فإن فناني الباستيش
pastiche
الموسيقي يرفضون تقسيم الموسيقى إلى جادة وهزلية، أو راقية وشعبية، وهم يتبنون اتجاها رافضا لأن تعبر الموسيقى عن نزعة جادة للحياة. وهو ما نجد جذورا له فن موسيقى التمرد
punk
في السبعينيات.
108 •••
في ظل هذا الوضع الملتبس للفنون في المرحلة ما بعد الحداثية. هل يمكن الحديث عن علم للجمال؟ أو نظرية للفن؟ أو حتى ما هو معياري؟
إن بعض النقاد، من أمثال فريدريك جيمسون وتيري إيجلتون وديفيد هارفي، يرون أن هناك صعوبات عديدة أمام إمكانية تأسيس نظرية جمالية تواكب التطورات التي لحقت بمفهوم «الفن»: خلخلة مفهوم الإبداع والتجربة الجمالية مع تفشي القيم الاستهلاكية والتطور التقني، وتكنولوجيا الواقع الافتراضي وتغليب عناصر الشكل على المضمون (عناصر الإبهار في الصورة)، بالإضافة إلى محاولة تقديم عمل فني يفهمه الجميع، ويخلو من الرمز حتى يحقق الانتشار المطلوب، مع الوضع في الاعتبار مفهوم «موت المؤلف» وآثاره على النظرية الجمالية، والاحتفاء بالنص، وفقدانه لخصوصيته من خلال مفهوم «التناص». كل هذه التغيرات سيصطدم بها أي منظر للفن يحاول الحديث عن تجربة جمالية للمبدع أو للمتلقي. ويرى جيمسون أن نهاية الحداثة تعني بالتالي نهاية الجمالي نفسه أو علم الجمال بصفة عامة؛ إذ هو يرهن وجود علم للجمال باستقلال وذاتية العمل الفني، لكن أن يصبح العمل الفني مزيجا أو امتزاجا لأعمال أخرى، فإن العمل الفني نفسه سينحل إلى صور متعددة، صور ثقافية مختلفة عن التصور التقليدي لمفهوم الفن، ويستنتج جيمسون من ذلك أن «انجذاب علم الجمال المعاصر للفن الزائف واليومي، مناورة أيديولوجية وليس موردا للإبداع.»
109
على الرغم من وجاهة رأي جيمسون السابق، إلا أننا لا نعدم وجود تأملات بالفعل حول مفهومي الفن والجمال، حقا أن هذه التأملات قد اختفت منها بعض المباحث التقليدية التي كانت موضوعا حاضرا في أي نقاش استطيقي، كخبرتي الإبداع والتلقي، إلا أنه في النهاية لا يوجد نموذج ثابت لا يتغير؛ فكل فكر وكل عصر يستدعي نموذجه الملائم وفقا لطبيعته الخاصة. بالإضافة إلى أنه لا يمكن القول، بإطلاق، إن اتجاه ما بعد الحداثة يرفض «كل ما هو معياري»، فقط هم رفضوا القواعد الجاهزة المعدة سلفا، والتي هي، في رأيهم، تقولب العمل الفني، وتلغي تعدديته، وفي هذا يقول رزبرج: «إن الفنان أو الكاتب ما بعد الحداثي يلعب دور الفيلسوف؛ فالعمل الذي ينتجه أو النص الذي يكتبه ليس محكوما بعدد من القواعد أو المقاييس التي وضعت بصورة مسبقة، ومن ثم لا يمكن الحكم على هذه الأعمال وفقا لتصور مسبق من خلال تطبيق صيغ أليفة أو جاهزة على النص أو العمل.»
110
ثمة إجماع من معظم منظري ما بعد الحداثة على المعارضة الحاسمة لفكرة امتلاك العمل الفني لنوع من الوحدة العضوية أو الشكل المتماسك الذي «يحميه من الرياح العاتية للتغير الثقافي والاجتماعي والتاريخي» بتعبير هارفي، ويشير ذلك إلى تحول واضح من التركيز الماركسي الأكثر تقليدية على «السياق الأصلي للإنتاج» إلى الاهتمام «بمختلف السياقات الخاصة بالاستقبال».
111
لقد ذهب بارت ومن بعده دولوز ودريدا إلى أن اللغة الواحدة في حالة تدفق دائم، ولا يوجد ما نسميه المعنى في النص ... لا توجد أية سلطة نهائية تقرر معنى النص، كما لا يوجد معنى نهائي مقترن بالعلامة. فالعلامات تتغير دوما حسب السياق. من هذا المنطلق يرى دولوز أن التركيب بين المتضادات، والأشياء التي على غير ذات صلة، هو وظيفة الفن في كل العصور. كما يرى دريدا أن الكولاج/المونتاج هو الشكل الأساس في الخطاب الفني ما بعد الحداثي. والتنافر الداخلي داخل العمل الفني (سواء أكان رسما أم نصا أم معمارا ) هو الذي يمنحنا، نحن متلقي العمل، الحافز لإنتاج دلالة (ليست أحادية أو مستقرة).
112
فالعمل الفني يخلق التعددية ... تعددية المعنى والدلالات ... عودة المعنى كاختلاف وليس كتطابق، ولذلك لا يمكن إخضاعه لتفسير أو تأويل إنما فقط كل ما نملكه أمام العمل الفني هو تفجيره ... وهذا ما يضمن خلوده لأنه لا يفرض معنى وحيدا على أناس مختلفين وإنما لكونه يوحي بمعان مختلفة لإنسان وحيد. إن العمل الفني - وبالأخص النص - يقرأ في تعدده وفي تناميه، في اختراقه، وفي فاعليته ... باختصار، كما يقول دولوز، يمكن أن نستعيد عبارة كافكا «ليس عندي ما هو جاهز.»
113
أو كما يقول إيتالو كالفينو: «أتفق معكم على أن كتبي قد تفسر من وجهات نظر مختلفة، قد تفسر في ضوء الوجودية، أو البنيوية، أو المفاهيم الماركسية، أو الكانطية الجديدة أو الفرويدية أو مذهب يونج، بالرغم من كل هذا؛ يسرني عدم وجود مفتاح واحد لفتح جميع أقفال قصصي وحل رموزها.»
114
في العام 1968م أصدر رولان بارت مقالته الأشهر «موت المؤلف»
La mort de l’auteur
ليقلب حال النظرية الأدبية المعاصرة» رأسا على عقب، وليضع بذلك أحد المصطلحات البارزة والمؤثرة في النقد الأدبي المعاصر. لقد قال بارت: «إن النص من الآن فصاعدا على كافة مستوياته وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غيابا كاملا.»
115
ويدعو بارت إلى أن نحذف من قاموسنا كلمة «مؤلف» لنحل محلها «الكاتب»
Le scripteur ، والكاتب - وفقا لبارت - ليس في داخله «عواطف» ولا «أمزجة» ولا «مشاعر» ولا «انطباعات». لا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمد منه كتابة «نشاط لفظي» لا يمكن أن ينفد أبدا. ويعترف بارت بأن الحياة الخاصة للكاتب من الممكن أن تكون ذات جاذبية حكائية كبيرة جدا، ويمكن أن تفسر كيف ولماذا ظهرت الكتب إلى حيز الوجود، وغالبا ما تفعل ذلك ... لكنها ليست ذات أهمية بالنسبة للقيمة الأدبية لكتبه، أو لمعناها، مثلما أن الحياة الشخصية لعالم الفيزياء ليس لها قيمة بالنسبة لقبول أو رفض أفكاره عن نظرية الكم أو بنية الذرة.
وفي هذا السياق أيضا يقول دولوز: «إن العمل الفني مستقل تماما عن مبدعه.»
116
ومن هنا أيضا دعوة فوكو إلى أن يصدر المؤلف كتابه دون أن يضع اسمه عليه؛ «فمعرفة الاسم لا تفيد في شيء، والأفضل قراءة الكتاب لذاته.»
117
المؤلف دوره ينتهي بكتابة النص، والعبء يقع بعد ذلك على القارئ في عملية القراءة ... عبء اقتناص المعنى في تعدديته واختلافه. وهذا ما يجعل القارئ مشاركا في عملية إنتاج النص. فدور القارئ لا يقل أهمية عن دور المؤلف، ولا يمكن فصل عملية القراءة عن الكتابة؛ إذ هما متلازمتان. والقارئ هو الذي يقرر معنى النص من خلال استرشاده بالعلامات التي يستخدمها المؤلف، لكنه لا يتقيد بها، ويمكنه أن ينتصر، من خلال النص، للمعنى الذي تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يمكن أن يتغير من يوم لآخر ومن قارئ لآخر. على أن الكاتب - في رأي بارت - لا بد أن يساهم في جعل عملية القراءة مثمرة، ويتم ذلك عن طريقين؛ الأول: ألا يقدم نصا مغلقا محملا بالأحكام القاطعة، ذاخرا بالنتائج النهائية، والتي عادة ما تقوم على وهم مبناه أن المؤلف يمتلك اليقين، ويعرف الحقيقة المطلقة. وأن يقوم على العكس من ذلك بتقديم نص مفتوح (وهو ما عبر عنه إيكو بالأثر الأدبي المفتوح
Apri Letteraria Impatto ؛ أي انفتاح النص على عوالم عديدة يصعب حصرها). ومعيار انفتاح النص عند بارت هو الغموض والالتباس والإيحاء بالمعنى دون تحديده. والطريق الثاني: ألا يتدخل الكاتب في عملية القراءة بأي صورة من الصور، كأن يؤيد وجهة نظر على أخرى أو معنى على معنى آخر أو يقول «لست أقصد هذا بالضبط» ... إلخ. هذا التدخل كفيل بإفساد عملية القراءة وتحويل مسارها التعددي.
يرتبط مفهوم «موت المؤلف» عند بارت بفكرة أخرى أشار إليها ضمنا - ولم يعطها اصطلاحا - عندما وصف عملية الكتابة بأنها «امتزاج للكتابات»، وأن معنى النص «ما هو إلا تعددية لنظمه، وقابليتها اللامتناهية (الدائرية) للنسخ.»
118
وهو الوصف الذي أعطته جوليا كريستيفا
J. Kristeva
مصطلح «التناص»، ويعني أن أي نص في النهاية ما هو إلا تجميع واقتباس وتداخل مع نصوص أخرى سبقته؛ أي أنه في «فضاء النص تلتقي مجموعة من الملفوظات المأخوذة من نصوص أخرى، ويبطل أحدها مفعول الآخر.» ويوضح شلوفسكي
119
هذا بقوله: «كلما سلطت الضوء على حقبة ما، ازددت اقتناعا بأن الصور التي تعتبرها من ابتكار الشاعر إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين وبدون تغيير تقريبا.» فلا يوجد نص أصلي، إنما النص هو تلاق بين النصوص، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر. وفي ضوء ذلك، يكون هدف التفكيك - بحسب دريدا - البحث عن نص داخل نص آخر، وإحالة نص على نص، وبناء نص من نص آخر ... إلخ.
120
إحدى النتائج الهامة التي يمكن استخلاصها من موقف بارت وفلاسفة ما بعد الحداثة، بخصوص النص ودور المؤلف والقارئ، أنه في الوقت الذي كانت ترى فيه البنيوية أن الحقيقة قائمة وراء نص ما أو داخله، فإن ما بعد البنيوية تبرز أهمية التفاعل بين القارئ والنص في إنتاج الدلالة العامة لأي نص؛ وهكذا أصبحت القراءة إنجازا مبدعا، بعد أن كانت مجرد استهلاك أو تلق سلبي. لكن المشكلة أن منح القارئ هذه الأهمية لم يكن يتطلب بالضرورة «تهميش المؤلف» واعتباره «آلة ناسخة للكلمات»؛ فموت المؤلف هو في الأصل تهميش للإنسان ... لوجوده وفاعليته ... النص أنتج في غير زمان ومكان ومؤلف ... تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي. لقد تم التعامل مع المؤلف وكأنه منتج لمجموعة من المنتجات الاستهلاكية التي لا يعني مستهلكيها من الذي أنتجها وما ظروف إنتاجها. يتحول المؤلف إلى منتج ثقافي ينتج المواد الخام فقط (الأجزاء والعناصر)، تاركا العمل مفتوحا للمستهلكين لإعادة تجميع هذه العناصر وبالطريقة التي يرغبون. النتيجة افتقاد التواصل والاستمرارية ... التواصل مع المؤلف، والاستمرارية داخل النص؛ «ففي وسع أي عنصر، في أي موضع، بحسب دريدا، كسر استمرارية أو خطية الخطاب، فيقود بالتالي إلى قراءة مزدوجة: قراءة للجزء مدركا في علاقته بالنص الأصلي، وقراءة أخرى له وقد خلط في كل جديد ومختلف. أما نتيجة ذلك فهي إخضاع أوهام الأنظمة الثابتة كلها للمساءلة والنقد.»
121
يتفرع عن هذه النقطة، نقطة أخرى تتعلق بنظرة ما بعد الحداثيين لمعايير الحكم الجمالي باعتبارها معايير سلطوية؛ فهم يرفضون عملية التقييم للعمل الفني، ويرون أنها ليست من مهام الناقد الأدبي المعاصر، مهمة الناقد الكشف عن مستويات مختلفة للقراءة، أما عملية التقييم فهي ممارسة للسلطة: «أنا لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول: إن هذا لجيد، وإن هذا لرديء؛ إذ ليس ثمة قائمة للجوائز، كما أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلب دائما هدفا تكتيكيا، واستخداما اجتماعيا، كما يتطلب دائما نمطا خياليا، وأنا ليس في مقدوري توقع أو تصور النص كاملا، حتى يتسنى له الدخول في لعبة الإسناد المعياري.»
122
إن هذا الفهم لعملية الكتابة ودور المؤلف والقارئ عضده دريدا في استراتيجيته التفكيكية. فحين تصدى جاك دريدا للكشف عن نقاط التناقض والضعف في شرح فرديناند دي سوسير للطريقة التي تعمل بها اللغة وتؤدي وظائفها، قدم مفهوما أو تصورا للغة ترتب عليه القول بأن المعنى لا يتحقق أبدا بصورة كاملة. فنظرية سوسير في علم اللغة تعتمد على فكرة أن اللغة تعمل كنظام قائم بذاته، ونسق مستقل يتكون من مجموعة من الدوال، وأن هذا النسق هو الذي يحدد هوية ووظيفة عناصره الفردية. لقد عارض سوسير مفهوم اللغة كظاهرة يتحكم فيها التاريخ ويحكم مسار تطورها، وتتكون من إجمال العناصر والقواعد التي اكتسبت المعنى على مر الزمن، وقدم في مقابل هذا المفهوم القديم للغة مفهوما جديدا يرى في اللغة نظاما مستقلا بذاته. ويقصد بالاستقلال هنا أن اللغة تعمل باستقلال تام عن الإطار التاريخي الذي نشأت فيه. ويعتمد هذا المفهوم الجديد بصورة رئيسة على التمييز بين الجانبين اللذين يتكون منهما أي نظام لغوي وهما: الكلام
واللغة
Langue . واللغة وفق سوسير تفصح عن نفسها دائما في صورة الكلام؛ أي في صورة استخدام محدد خاص لعناصر معينة. لكن هذا الاستخدام يعتمد بدوره دائما على اللغة؛ أي على مجموعة القواعد والعلاقات التي تشكل النظام اللغوي. والتي ينطوي عليها أي استخدام لأي عنصر من عناصر اللغة. وفي إطار تلك العلاقة بين الكلام واللغة يعيد سوسير مراجعة المفهوم التقليدي لبناء العلامة، الذي كان ينظر للعامة على أنها تتكون من جانبين: الدال والمدلول، وعن طريق اتحاد الدال والمدلول تتكون العلامة وتظهر كوحدة دال. غير أن سوسير في مراجعته لهذا المعنى ذهب إلى أن العلاقة بين أي دال ومدلوله غير مرهونة بصلاحية كل منهما للآخر، بل ينتجها النظام اللغوي ببنيته المستقلة المكتفية بذاتها.
ويخلص دي سوسير من تأملاته اللغوية إلى نتيجتين رئيستين فيما يتعلق بنشاط اللغة ونظام عملها؛ أولا: إذا كان الرابط بين الدال والمدلول هو نتاج لما تقوم به الأبنية اللغوية التقليدية المكتفية بذاتها، سيكون ما تشير إليه العلامة (المشار إليه) لا دور له في إنتاج المعنى؛ فاللغة كنظام مستقل لا تعتمد في تأدية وظائفها على أي شيء خارجها. ثانيا: أن اللغة سابقة على التفكير، وشرط لوجوده، وبالتالي شرط لأي معرفة بالأشياء التي يمكن أن تشير إليها. إن القول بأن الصلة بين الدال والمدلول تحددها العلاقة الاعتباطية التي تشكل النظام اللغوي، يعني منطقيا أن قدرة الدال على الارتباط بمدلول معين تعتمد في كل لحظة على علاقة الدال بكل العناصر الأخرى التي يتكون منها النظام اللغوي. ومعنى هذا في مجال الممارسة أن قراءة أي دال وتفسيره تتضمن بالضرورة إقصاء لكل أنواع القراءات واحتمالات التفسير الأخرى التي تشتمل عليها بنية اللغة. ويترتب على هذا أن المعنى لا يتحقق نتيجة لطبيعة الدال وتكوينه، أو لقيمة أو خاصية إيجابية يمتلكها في ذاته، بل فقط من خلال نشاط مجموعة من الاختلافات التي تشكل بنية لغوية معينة.
وقد ذهب دريدا في نقده لسوسير إلى أن تصوره للدال في علاقته بالمدلول يشوبه نقص خطير يتمثل في أنه حين ذهب إلى أن الدال ينشط كحامل للمعنى من خلال اختلافه عن الدوال الأخرى، ثم يؤكد على الرغم من ذلك أن هذا الاختلاف يمكن الدال من الارتباط بمدلول معين، فإنه يقع في التناقض إذ يفترض وجود عالم من المدلولات وبالتالي من المعاني، التي توجد في انفصال عن نشاط الدوال. ويرى سوسير أن لعبة الاختلاف
difference
التي ينشط من خلالها الدال لا يمكن أن تتمخض عن حضور المعنى إلا بالدخول في عالم المدلولات. وهذا العالم كما سبق وأشرنا لا بد أن يسبق وجود اللغة ويقع خارج حدودها؛ ذلك أن كلا من الدال والمدلول لا يمكن أن يوجد في استقلال عن الآخر. والنتيجة أن مجموعة التقابلات والتعارضات التي تكسب العلامة معناها في نظام سوسير لا تستطيع وحدها أن تحقق حضور المعنى.
على أن نقد دريدا لسوسير كان هدفه الرئيس التشكيك في إمكانية تحديد المعنى من الأساس. فإذا كانت قدرة الدال على إقامة علاقة مع المدلول لا تعتمد - وفق تصور سوسير للغة - على تعريف الدال إيجابا (أي تحديد هويته)، بل على تعريفه سلبا (أي تحديد ما ليس هو)، فإن عملية إنتاج الدلالة تغدو برمتها عملية تتحقق من خلال الغياب (غياب الدال واختلافه عن غيره من الدوال) بدلا من الحضور (أي حضور الدال)، ذلك أن الدال لا يقوم بوظيفته إلا بالرجوع إلى كل إمكانيات التفسير واحتمالاته التي يشتمل عليها النظام اللغوي والتي يتحدد معناه في اختلافه عنها. ويترتب على ذلك أن الدال إذا انقطعت صلته بأي مدلول مستقل، وفي الصلة التي توحد بين المعنى ونشاط الدوال بحيث لا يمكن الفصل أو التمييز بينهما، فإن المعنى بدوره يخضع في هذه الحالة لعمليات الاختلاف ذاتها التي تسمح للدال القيام بوظيفته، وهذا على سبيل المفارقة. وهكذا يصبح تحديد المعنى يعتمد على تعريفه سلبا (أي على تحديد ما لا يكونه) بدلا من تعريفه إيجابا برصد ما يعنيه. والنتيجة المترتبة على قيام المدلول بوظيفة الدال بصورة دائمة تتمثل في أن العلامة لا يمكنها أن تصبح مماثلة لمعناها أو أن تمتلك المعنى بصورة كاملة، وهذا لأن في سعيها لاقتناص المعنى تقع دائما في سلسلة لا نهائية من العلاقات والإحالات المتبادلة بين الدوال، ما يجعل عملية تحديد المعنى بصورة نهائية حاسمة أمرا مستحيلا.
123
على أن النتيجة بعيدة الأثر التي تترتب على هذا الفصل بين المشار والمشار إليه أو استقلال الدال عن المدلول، هي تلك الخاصة بعملية استقبال العمل الفني. وفي هذا تذهب نك كاي إلى أن دريدا حين تصدى لتفكيك المدلول المتعالي
Transcendental Signified
استند إلى فرضية مفادها أن حركة الدوال القلقة المترددة دوما بين المدلولات تخضع المدلولات بدورها لتأثير علاقات الاختلاف
Difference
والإرجاء
Deferral
داخل أي نظام لغوي، وهي العلاقات التي اشتق منها دريدا مصطلح
Differance . الذي يشير إلى أن المعنى يتم تأجيله بصورة مستمرة ولا يلبث على حال.
124
نستطيع أن نستنبط من هذا الفهم الدريدي، بتطبيقه على الأعمال الفنية من حيث شروط إنتاجها واستقبالها، أن الحداثة كانت تنحو نحو البحث عن الأصول والقواعد كمحاولة للتغلب على اعتباطية العلامة وعدم استقرار معناها. فسعي العمل الفني الحداثي للوصول إلى الجوهر هو سعي لتحقيق خصائص وقيم فنية مشروعة بذاتها، ولا تحتاج لتبرير من خارجها. قيم من شأنها أن تتخطى تأثير علاقات الاختلاف والإرجاء التي كشف عنها دريدا داخل النظام اللغوي، ومن ثم تستطيع الوصول إلى «المدلول المتعالي» لتحقق حضور
المعنى. يقول بودريار معبرا عن هذا المعنى: «اعتمد النقد الفني في نشأته على فرضية وجود علامات مشبعة بالمعاني والصور، تمتلك منطقا باطنيا لا واعيا إلى جانب منطقها المعروف القائم على التمييز عن طريق الاختلاف. ويكمن وراء هذا المنطق الثنائي ما يمكن أن نسميه بالحلم الأنثربولوجي؛ أي حلم الإنسان بوجود مملكة مثالية تحيا فيها الأشياء والأعمال الفنية في استقلال تام عن عمليات التبادل والاستخدام. وبعيدا عن ضرورة إيجاد معادلات محسوسة لها.»
125
الفصل الرابع
نماذج من فلاسفة ما بعد الحداثة (رولان بارت - ميشال فوكو - جيل دولوز - جان بودريار)
(1) رولان بارت: من البنيوية إلى ما بعدها (1-1) مقدمة
كانت المفاهيم التي ظهرت في حقلي النقد الفني والأدبي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، على صلة وثيقة بالمفاهيم الفلسفية التي ظهرت خلال هذا القرن، والتي نتجت عن التغيرات العديدة التي لحقت البنى المعرفية التي سادت إبان العصر الحديث. وكان من نتائج تلك الصلة ذلك التداخل المعرفي الذي حدث بين العديد من الحقول المعرفية؛ الفلسفة وعلمي الاجتماع والنفس ومجالي النقد الفني والأدبي. والواقع أن هذا الأمر قد أدى إلى صعوبة في تصنيف مفكري النصف الثاني من القرن العشرين وفقا للحقول المعرفية التي ينتمون إليها؛ فتحت أي حقل معرفي يمكن إدراج كل من رولان بارت، وميشال فوكو
M. Foucault (1926-1984م)، وجورج باتاي
G. Bataille (1897-1962م)، وجاك دريدا
J. Derrida (1930-2004م)، وجاك لاكان
J. Lacan (1901-1981م)؟! (الفلسفة، النقد الأدبي، علم الاجتماع، علم النفس، النقد الثقافي ... إلخ.) هي مسألة محيرة، لكنها في الوقت ذاته مؤشر مهم يدل على أن الحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية المختلفة قد تلاشت، وأصبح المجال أكثر اتساعا للدراسات البينية التي تقع على التخوم بين مختلف المجالات المعرفية.
1
يقدم بارت نموذجا لطبيعة الفكر وصورة المفكر في تلك الفترة «إذ يبرز من خلال كتاباته كاتبا متميزا، فلا هو بالناقد ولا هو بالفيلسوف ولا هو بالشاعر أو الفنان أو الروائي، ولكنه كل هؤلاء مجتمعين. وبذلك يتجاوز بارت الأكاديمية الجامعية آخذا كل مكتسباتها ونظرياتها، ويدخل عالم الإبداع محملا بفكر نظري ثاقب، فيجمع بين تلك المهارات ليكسر الحواجز بين الكلمة الشاعرة والكلمة العلمية، ويكون بذلك أبرز مثال حضاري على ثقافة الغرب الفلسفية والأدبية.»
2
لقد سئل بارت في أحد الحوارات التي أجريت معه سؤالا يكشف هذا المعنى؛ إذ سأله محاوره: «لقد لاحظت أن كتبك في المكتبات ليست معروضة في مكان واحد بل هي تتوزع في أماكن عديدة؛ اللغويات، الفلسفة، علم الاجتماع، الأدب ... إلخ. هل يعود هذا التصنيف الملتبس إلى طريقتك في مقاربة الموضوعات؟» فرد قائلا: «نعم. لقد كان سارتر ذاته آلة ناسخة عظيمة. كان فيلسوفا، وكاتب مقالة، ومسرحيا، وناقدا ... لقد بدأت مكانة الكاتب عند تلك اللحظة تصبح أكثر مرونة ... هناك بعض الدعاوى المنتشرة تلك الأيام إلى شطب أنواع الكتابة التقليدية التي يمكن تصنيفها في اتجاه واحد.»
3
لم تكن أطروحة موت المؤلف، التي صاغها بارت في مقال له يحمل العنوان ذاته، سوى انعكاس لمناخ عام شاع فيه فكرة النهايات، وهي الفكرة التي ظهرت بوادرها في القرن التاسع عشر، وانتشرت بقوة في القرن العشرين، لتصبح تيمة حاضرة باستمرار في فلسفات النصف الثاني من هذا القرن. وقد عكس هذا الانتشار للفكرة شعورا عاما لدى الغرب آنذاك بفقدان الثقة في المقولات التي تأسس عليها المشروع الحداثي الغربي، فجاءت فكرة النهايات لتعلن موت تلك المقولات وضرورة استبدالها بمقولات بديلة تصلح لطبيعة تلك المرحلة. ربما بدأت فكرة النهايات في الظهور بعد وفاة هيجل من خلال تلاميذه؛ فقد قال إريك فيل
Eric Weil
إن «هيجل»
Hegel
قد وضع للفلسفة نقطة النهاية.
4
وقد أعلن اشبنجلر
Spengler (1880-1936م) بعد ذلك صراحة نهاية الغرب
Der Untergang des Western
أو أفوله. ثم جاء نيتشه
Nietzsche (1846-1900م) ليزكي تلك الروح عندما أعلن «موت الإله»
Gott ist tot . كما كتب بنيامين
Walter Benjamin
عن نهاية الفن في عصر الإنتاج الآلي، وأسس هيدجر
Heidegger (1976-1989م) مشروعه الفلسفي على «تقويض الميتافيزيقا»، وأعلن فوكو «موت الإنسان»، كما أعلن رورتي
Rorty (1931-2007م) «نهاية الفلسفة النسقية»، وكتب فوكوياما
Fukuyama (1956-...م) بعد ذلك نهاية التاريخ
The End of History
وفي نفس السياق حاول فاتيمو
Vattimo (1936-...م) حصر توجهات النصف الثاني من القرن العشرين الفكرية في خمسة مبادئ رئيسة: نهاية الفن وأفوله - موت النزعة الإنسانية - العدمية - نهاية التاريخ - تجاوز الميتافيزيقا.
5
وهي كلها تنويع على فكرة النهايات. لا يوجد علم أو فلسفة أو فن بل إعلان النهاية لكل شيء، دق أجراس الموت، كما يشير عنوان أحد مؤلفات دريدا.
هذا هو السياق العام إذا الذي وضع فيه بارت أطروحته عن موت المؤلف، وبالتالي فقد جاءت تلك الأطروحة ملائمة تماما للحظة الثقافية التي تم صياغتها فيها. وهي كما سنرى كان لها أصولها الفلسفية الواضحة: (1-2) من موت الإله إلى موت المؤلف
افتتح القرن العشرون بوفاة نيتشه في العام 1900م بعد أن صاغ أطروحته الشهيرة «موت الإله» وقدمها في كتابه «العلم المرح». والواقع أن تلك الأطروحة لم تؤثر فقط على المجال الميتافيزيقي، بل كان لها تأثير مماثل على مفهوم المركزية ومنطق الهوية اللذين سادا الفكر الغربي ردحا طويلا من الزمن. فمفهوم المركز يعني أن ثمة أصلا أو نموذجا رئيسا تدور حوله المعارف والنشاطات الإنسانية المختلفة. وهذا المركز أو النواة يختلف باختلاف العصور والأزمنة. وقد ظل تصور الإله أو الكائن المفارق مسيطرا على الذهن البشري ومركزا تدور أفكاره حوله. حتى الفلسفات الحديثة التي اتخذت موقفا مناهضا أو ناقدا لهذا التصور، ظل معظمها يدور حوله بطريقة لا واعية؛ إذ إنها كانت تقدم ذاتها كبديل لهذا التصور من خلال نقده، ما يجعله حاضرا باستمرار كنموذج يتم معارضته بنموذج آخر، إنها تلك الثنائية التي يعد أحدها شرطا لوجود الآخر.
لقد حاول نيتشه الخروج من تلك الثنائية من خلال إعلانه موت الإله، والنتيجة أن المركز ذاته قد تلاشى، أما نتائج ذلك فهي جد عظيمة، وربما استطاع نيتشه أن يعبر عن ذلك أفضل تعبير في القسم 125 من كتابه العلم المرح
Die fröhliche Wissenschaft (1882م) عندما صور الأمر على شكل حدث كالتالي: يدخل رجل مجنون إلى ساحة السوق بحثا عن الإله، ويسخر منه كل أولئك الذين لا يؤمنون بوجود إله. «أين هو الإله؟ يبكي ... سوف أخبرك، لقد قتلناه، أنا وأنت، كل منا قاتله.» ويستمر في تأكيده على الآثار الكارثية لهذه الفاجعة: «لقد محونا الأفق كله»، «لقد حررنا هذه الأرض من شمسها»، «لقد أرسلناها باستمرار إلى القاع ... وإلى الوراء ... إلى الجنب وإلى الأمام، في كل الاتجاهات ... ألا زال هناك أي شروق أو غروب؟» لقد أصبح عالمنا أكثر برودة، ونحن أناس «قتلة كل القتلة»، تركنا دون أية طريقة لتطهير أنفسنا. وعندما ينهي الرجل المجنون حكمته، تحدق فيه الجماهير وتتملكهم الدهشة، يصرح قائلا: «لقد جئت مبكرا ... لم يحن وقتي بعد ... هذا الفعل لا يزال بعيدا عنهم أكثر ما تبعد أقاصي النجوم، ومع ذلك فإنكم قد فعلتموه بأيديكم.»
6
ما قام به نيتشه هنا هو أنه قتل الإله من أجل إحياء العالم «لقد فصلنا حقيقة هذا العالم عن فكرة أن الإله قد خلقه»، ونتيجة ذلك انفتاح العالم على الإنسان، لكن هذا الانفتاح ما زال يفتقد البوصلة الموجهة له، بحسب نيتشه؛ لأنه يحتاج إلى نسق قيمي جديد يحل محل النسق القديم المؤسس على فكرة الإله. وقد حاول نيتشه عبر مؤلفاته اكتشاف هذا النسق الجديد من أجل ترسيخه، وهو نسق يستمد معاييره من عالم الحياة لا من عالم مفارق.
هل ثمة علاقة بين ما قام به نيتشه في مجال الميتافيزيقا وبين ما قام به بارت في مجال النص؟
لم يفصل نيتشه بين حضور الميتافيزيقا ومقولاتها وبين اللغة المستعملة؛ فقد وجد نيتشه أن هناك قوى تقف وراء عملية إنتاج المعاني، هذه القوى تهدف إلى الإخضاع والسيطرة. وما تفعله الميتافيزيقا هو اختزال تلك القوى، وحصر المعنى في الألفاظ اللغوية التي تحد المعنى وتختزله في إطار معين؛ لهذا فقد رأى نيتشه أن اللغة هي معقل الميتافيزيقا. ففي اللغة فقط تجد مفاهيم الوجود والجوهر والهوية إمكانية دوامها وخلودها. إن الميتافيزيقا تنظر إلى الألفاظ اللغوية كوعاء يحفظ للمعاني أزليتها ويبقي على تطابقها؛ فبدلا من أن ترى في العلامة مكانا للاختلاف والتعدد والتأويل، ترى فيها على العكس من ذلك مناسبة لحضور المعنى. من هنا تصبح اللغة ذاتها فعل سلطة، صادرا عمن بيده الهيمنة.
7
وقد سعى نيتشه من وراء التاريخ الذي يقيمه للميتافيزيقا، إلى التوصل إلى منظومة القيم التي حكمت هذا التاريخ، والبنية التي وضعت المعاني وأطلقت الأسماء وأولت العالم ولونته. من هنا تصبح استراتيجية التسمية استراتيجية هيمنة وتسلط.
في الواقع لم يفعل بارت سوى استكمال ما قام به نيتشه ودعا إليه، فموت المؤلف هو ذاته موت الآلهة، والنتائج التي ترتبت على أطروحة بارت في مجال النقد الأدبي ونظرية التلقي الجمالي تتشابه مع تلك النتائج التي ترتبت على أطروحة نيتشه في مجال الميتافيزيقا ونظرية الوجود. أما النسق القيمي الذي حاول نيتشه التأسيس له وإحلاله محل النسق القيمي القديم، فهو ما قام به بارت من خلال التأسيس لقواعد جديدة للتعامل مع النص الأدبي محل القواعد التي كان معمولا بها من قبل في حقل النقد الأدبي، وقد كتب بارت في العام 1968م ما يلي: «نعرف الآن أن النص ليس مجرد مجموعة من الكلمات التي تحرر معنى «لاهوتيا» وحيدا (إله - رسالة - نبي). بل هو حيز متعدد الأبعاد تمتزج فيه وتتصادم تنويعات من الكتابة، ليس منها ما كتب في الأصل.»
8
إن نسبة النص إلى مؤلفه، بحسب بارت، معناه إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولا نهائيا، إنه إغلاق للكتابة، يقول: «عندما يأبى الفن النظر إلى العمل الفني كما لو كان ينطوي على سر؛ أي على معنى نهائي، فإن ذلك يولد فعالية يمكن أن نصفها بأنها ضد اللاهوت، وأنها ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه معناه في النهاية رفض الإله ودعائم وجوده.»
9
إن هذا الرفض لمركزية الإله لا ينبغي التعامل معه على المستوى اللفظي؛ فهو في الأصل تعبير مجازي عن رفض فكرة المركز الذي يدور المعنى حوله؛ تحرير للنص من أي هيمنة فرضت عليه تسعى لاختزاله في اتجاه ذي بعد واحد.
أما فيما يتعلق بمسألة السلطة وكيف تمارس تأثيرها عبر اللغة، فقد ذهب بارت إلى أن مفهوم السلطة لا يمكن اختزاله في المعنى السياسي له؛ لأن السلطة حاضرة في كل شيء داخل المجتمع وهي تمارس تأثيرها بصورة خفية مخادعة. إنها توجد في الدولة، وعند الطبقات والجماعات، وفي أشكال الموضة، والآراء الشائعة، والمهرجانات، والألعاب، والمحافل الرياضية، والأخبار والعلاقات الأسرية، وحتى داخل حركات المعارضة والتحرر الوطني. ودور المثقف هنا، بحسب بارت، ليس العمل المباشر ضد السلطة بالمعنى السياسي لها «فمعركتنا تدور خارج هذا الميدان، إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة. وليست هذه بالمعركة اليسيرة؛ ذلك أنه إن كانت السلطة متعددة في الفضاء الاجتماعي، فهي بالمقابل ممتدة في الزمان التاريخي. وعندما نتصدى لها وندفعها هنا سرعان ما تظهر هناك؛ وهي لا تزول البتة. قم ضدها بثورة بغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة. ومرد ذلك هو أن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسي وحده. هذا الشيء الذي ترتسم فيه السلطة، منذ الأزل، هو اللغة.»
10
والواقع أن هذا الفهم البارتي لمفهوم السلطة يجعله عصيا على التحديد أو التعريف؛ إذ لا ينبغي وفقا لهذا الفهم البحث عن السلطة عند نقطة مركزية تكون هي الأصل، عند بؤرة وحيدة للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولد عنها، وإنما ينبغي رصدها عند القاعدة المتحركة لعلائق القوى التي تولد أشكالا للسلطة، لكنها حالات غير مستقرة ذات مستويات متعددة وأشكال خفية كامنة خلف كل خطاب من الخطابات التي تحيط بنا. والنتيجة أن العالم سلطة، والخطاب سلطة، والحقيقة سلطة، والتاريخ سلطة، والفيلسوف هو أيضا سلطة، بل إن السلطة تمتد لتشمل اللغة التي يتم التعبير بها، فعملية التعبير ذاتها تكون أسيرة للحروف والألفاظ والمعاني المتداولة.
ينحو إذا بارت منحى فلاسفة ما بعد الحداثة في نقدهم لمفهوم السلطة. وهو يتفق مع نيتشه في أن اللغة هي بيت السلطة، وقد ذهب إلى القول بأن «نيتشه قد حاول خلخلة ذلك الاستعباد الذي تمارسه السلطة.»
11
وعلى المفكر إذا أراد مقاربة السلطة ومقاومتها بغية الكشف عن مظاهر تموضعها أن يبدأ باللغة.
هذا النقد البارتي لمفهوم السلطة يضمر نقدا داخليا لعملية التلقي الجمالي التي تختزل العمل الفني في معنى واحد؛ فهذا ضرب من ضروب السلطة التي يمارسها المتلقي على العمل الفني. لهذا السبب يرفض بارت عملية تقييم العمل الفني، ويرى أنها لا تدخل في صميم عمله، فمهمته الكشف عن مستويات مختلفة للقراءة، أما عملية التقييم فهي نوع من ممارسة السلطة «إنني لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالقول إن هذا لجيد، وإن هذا لرديء؛ إذ ليس ثمة قائمة للجوائز، كما أنه ليس ثمة نقد. فالنقد يتطلب دائما هدفا تكتيكيا، واستخداما اجتماعيا، كما يتطلب دائما نمطا خياليا، وأنا ليس في مقدوري توقع أو تصور النص كاملا، حتى يتسنى له الدخول في لعبة الإسناد المعياري.»
12
ربما بدا هذا الرأي لبارت متناقضا مع موقعه في تاريخ النقد الأدبي، وهو موقع متقدم بطبيعة الحال. لكن هذا التناقض سيزول عندما نعلم أن هذا الرفض لعملية التقييم الجمالي هو في الأساس رفض لاختزال العمل الفني وحصره داخل قالب محدد، أو رفض لممارسة وصاية على النص تجعل من الناقد سلطة تفسيرية مهيمنة عليه. والواقع أن هذا النوع من النقد الذي رفضه بارت كان نتاجا للمنطق الذي ساد تاريخ الفكر عموما، والذي انتقل منه إلى مجالي النقد الفني والأدبي؛ منطق الهوية. (1-3) من منطق الهوية إلى منطق الاختلاف
كان لمفهوم التعددية والاختلاف مكانة بارزة في الخطاب الفكري والنقدي الذي ساد في النصف الثاني من القرن العشرين، بحيث يعد هذا المفهوم مفتاحا لفهم النتاج الفكري لهذا الخطاب؛ فالفلسفة ستتحول من كونها أداة نسقية تبتغي الوحدة إلى أداة مهمتها تفتيت الأشياء وتفكيكها . وربما كان السبب الرئيس الذي أحدث هذا التحول هو تلاشي منطق «الهوية» من الخطاب ليحل محله مفهوم «التعددية»؛ التعددية بكل أشكالها، تعددية الخطاب والمعنى والظاهرة والقوى، لا يوجد حدث ولا ظاهرة ولا كلمة ولا فكرة إلا ومعناها متعدد، فأي شيء قد يكون هذا أو ذاك وأحيانا يكون شيئا أكثر تركيبا بحسب القوى التي يحوزها. من هنا لا يوجد معنى حقيقي للشيء الواحد، هناك تعددية، وجهات للنظر، تجاوبات مع الأحداث والوقائع. فالظاهرة الواحدة لها أقنعة عديدة وخلف كل قناع يكمن قناع آخر.
13
وعلى الفلسفة أن تغزو هذه الأقنعة وأن تخترقها لا للوصول إلى جوهرها وأصلها، وإنما لكي تعطي لكل قناع معنى جديدا.
وهذا المعنى تحديدا هو ما أكد عليه بارت في تحليله للعمل الأدبي؛ إذ تمثلت محاولته في فهم آلية توليد المعنى داخل العمل الأدبي إلى التعامل معه لا باعتباره تمثيلا أو تواصلا (بين مرسل ومستقبل) بل كسلسلة من الصور التي تولدت من خلال المؤسسة الأدبية والشفرات الخطابية الثقافية. فلا يتجه التحليل هنا صوب اكتشاف المعاني الكامنة، وهو في الأصل لا يهدف لذلك. لهذا يكتب بارت مشبها العمل الأدبي بالثمرة ذات الطبقات المتعددة «فهو من طبقات (أو مستويات أو نسق)، ولا يحتوي على مركز، أو جوهر، أو سر، أو مبدأ لا يمكن اختزاله، بل لا شيء سوى عدد لا متناه من الأغلفة - التي لا تغلف شيئا سوى وحدة أسطحها.»
14
والتحليل البنيوي لا يقدم «تأويلا» للعمل الأدبي، بل ينطلق من وجهة نظر مبدئية عن محتوى العمل، ومن ثم يتناول الشفرات المكونة لهذا المحتوى، فيحدد علامتها، ويقدم تصورا لتسلسلاتها، ولكنه في الوقت ذاته يسلم أيضا بوجود شفرات أخرى ستنبثق عبر تلك الشفرات الأولى.
كان بارت من دعاة فكر الاختلاف والتعدد، وقد كانت مؤلفاته في مجملها ضد أي محاولة لإقصاء الآخر والاستحواذ عليه أنطولوجيا وإبستمولوجيا وسياسيا، وهذا بخلاف الفكر الكلاسيكي الذي كان سائدا في العصر الحديث. ففي الوقت الذي كان يقر فيه هذا الفكر بأن العالم متعدد ومتنوع، كان يحاول دوما إلغاء تعدده وتنوعه في وحدة معنى يفترض أنها ثابتة. وإذا عرض عليه أن يفكر في المتعدد الاجتماعي فإنه سوف يؤكد أنه غير منسجم في وحدة واحدة، لكنه سيحاول أيضا أن يوحده ويضمه في وحدة الدولة. منطق الفكر الكلاسيكي إذا هو «منطق الهوية»
logique de l’identité ، سواء تعلق الأمر بتطابق الوعي أو الكوجيتو أو الذات أو الدولة. كل هذه المقولات مطلقة وبواسطتها تحول الفكر إلى تقنية لاختزال الفوارق، وأداة نسقية موجهة نحو إلغاء التعارضات.
والواقع أن مقولة الاختلاف ستحتل مكانة هامة في فكر بارت؛ إذ إن النتيجة الرئيسة التي ترتبت على إعلانه موت المؤلف تمثلت في تخليص النصوص من معناها الأحادي الذي كانت أسيرة له وانفتاحها على المعنى في تعدديته واختلافه، فليس ثمة جوهر واحد للنص ينبغي على القارئ اقتناصه ليزعم بعد ذلك أنه يمتلك الحقيقة والمعنى، بل ثمة معان مختلفة ومنظورات متعددة لا تتعامل مع النص على أنه وحدة منغلقة لها معنى واحد ووحيد، بل تتعامل معه بوصفه «عملا مفتوحا» على حد تعبير أمبرطو إيكو،
15
مفتوحا على عوالم عديدة يصعب حصرها أو حتى توقعها.
يبدو أن كل الطرق لفهم النتاج الفكري لمفكري النصف الثاني من القرن العشرين تفضي بالضرورة إلى نيتشه. كان نيتشه يصف نفسه بأنه «ديناميت»، والواقع أن هذا الديناميت قد تضاعف حتى انفجر في النصف الثاني من القرن العشرين محدثا دويا هائلا. لقد قدم نيتشه نقدا لمفهوم الحقيقة، كان مؤثرا بقوة في التصور الذي قدمه بارت لطبيعة النص؛ فقد رأى نيتشه أن هناك فهما ميتافيزيقيا مضللا لمفهوم الحقيقة؛ فالشيء الحقيقي هو الخير والعام والواضح والنافع والجميل، وقد سعى الفلاسفة حول هذا الوهم طوال تاريخ الفلسفة محاولين الوصول إلى ما هو حقيقي. لكن السؤال الذي تناساه هؤلاء: من يملك تحديد الحقيقي؟ وما هو هذا الحقيقي؟ وليست المشكلة عند نيتشه متعلقة بالبحث عن الحقيقة أو محاولة الكشف عنها، بل المشكلة أن كلمة الحقيقة نفسها مضللة؛ فهي تنفي الاختلاف الذي هو من صميم الحياة. ولم يتوقف مفكر من قبل للتساؤل عن كنه الحقيقة، بل كانت كل الأسئلة متمحورة حول كيفية بلوغها أو شروط إمكانها. فكل الفلسفات اعتبرت أن مسألة الحقيقة ليست في حاجة إلى ما يبررها. بل وأكثر من ذلك، غدت مسألة الحقيقة هي المنطلق والأساس الذي تتأسس عليه كل فلسفة، وبالتالي أصبحت الحقيقة صنما أو إلها يقدسه الفكر باحثا عن كل سبيل لبلوغه. في مقابل هذا الفهم، ينظر نيتشه للحقيقة على أنها حشد من الاستعارات والكنايات التي تكونت عبر التاريخ، وتم التعامل معها بعد ذلك بوصفها بديهيات أو حقائق.
16
إن هذا المعنى النيتشوي لمفهوم الحقيقة سيجد تجلياته في النص البارتي. لهذا نجد بارت يفرق منذ البداية بين الأثر والنص، ويدعو للانتقال من الأول إلى الثاني؛ «فالأثر لا يزعج فلسفات الهوية، والتعدد عند تلك الفلسفات هو الشر بعينه.»
17
الأثر له معنى متوارث مغلق لا يقبل التجديد، بل يعتبر التجديد فيه نوعا من الهرطقة، أما النص فهو متعدد. ولا تعني صفة التعدد التي يحوذها النص أنه يحتوي فقط على معان عدة، وإنما يحقق تعدد المعاني ذاته؛ «فالنص ليس تعددا لمعان، بل هو مجاز وانتقال. وبناء على ذلك لا يمكن أن يخضع لتأويل، وإنما لتفجير وتشتيت.»
18
ويمكن تحديد الاختلافات التي يسوقها بارت بين الأثر والنص في الآتي:
19 (1)
على المستوى المنهجي، فليس الفرق بين النص والأثر الأدبي ماديا (حسب الغلاف، الطبعة، عدد الصفحات، التاريخ ...) ففي الأثر القديم تستقر نصوص، كما أنه ليست كل الإنتاجات المعاصرة نصوصا؛ فالاختلاف بينهما راجع أساسا إلى كون الأثر قطعة من مادة (يشغل فضاء فيزيائيا في المكتبة)، أما النص فهو حقل منهجي تعمل عليه اللغة. (2)
على مستوى الأجناس، فالاختلاف بين النص والأثر لا يدخل ضمن تراتب هرمي (أدب جيد، أدب رديء، أدب شعبي ...) ففي الأدب الشعبي تكمن نصوص (وهو ما حاول بارت إظهاره عبر مسرح بريخت الشعبي)، كما لا يدخل هذا الاختلاف ضمن تقسيم للأجناس (شعر، رواية، نقد)، فما يحدد النص خلافا للأثر الأدبي هو الخلخلة؛ خلخلة الآراء الشائعة والمتداولة، خلخلة اللغة ذاتها والأسلوب المتعارف عليه في الكتابة. (3)
على مستوى الدليل، فالأثر الأدبي ينحصر في مدلول واضح أو خفي، يستدعي التعامل معه إما على المستوى الاصطلاحي أو التأويلي. أما النص فمجاله الدال. وهو يحيل على فكرة اللعب ليجعل النص غير خاضع على الإطلاق إلى أي منطق تفسيري محدد. (4)
على مستوى التعدد، فالأثر أحادي أما النص فتعددي. ولذلك تحاول المؤسسات السلطوية ترسيخ الأول والدفاع عنه ودحض الثاني وتغييبه لأنه يهددها في كيانها، ويخلق التعددية على مستوى الفكر. من هنا لا يمكن إخضاع النص إلى تفسير أو تأويل وإنما فقط يتم التعامل معه بغية تفجيره، وهو ما يضمن خلوده؛ لأنه لا يفرض معنى وحيدا على قراء مختلفين، بل يوحي بمعان مختلفة للقارئ الواحد. (5)
على مستوى القراءة، فالأثر من حيث بنيته اللغوية الواضحة يمكن التعامل معه بالمناهج التقليدية (ومنها التحليل النفسي والاجتماعي)، أما النص فيستدعي مقاربة مختلفة تحرره من سلطة المؤلف وهيمنة التقاليد المتوارثة في الكتابة النقدية. (1-4) سلطة المؤلف وهيمنة السياق
كانت المناهج النقدية في مراحلها الأولى منصبة في الأساس على عنصر الفنان، لما له من أهمية قصوى في تفسير العمل الفني؛ فالسبب الرئيس لوجود العمل الفني هو صانعه؛ أي الفنان. لذلك كان إيضاح العمل من خلال شخصية الكاتب وحياته من أقدم مناهج الدراسة الأدبية وأكثرها رسوخا. وهكذا شكل قطب المؤلف نقطة تقاطع مجموعة من الدراسات النقدية المتمثلة في المناهج التاريخية والنفسية والاجتماعية، والمنبثقة أساسا من روح الفلسفة الوضعية والفرويدية والماركسية. يقول أندريه جرين
A. Green : «هل من الممكن أن نعزل الإنسان عن إبداعه؟ فمن أي قوى يقتات هذا الإبداع إن لم يكن من تلك التي تعمل عند المبدع؟»
20
فقد اعتبر جورج لوكاش
G. Lukacs (1885-1971م)، على سبيل المثال، أن الأدب انعكاس للحياة أو الواقع في السياق الاجتماعي والتاريخي،
21
وفي إطار هذا التصور يقول طه حسين: «فلا يكون الأدب أدبا حتى يصور حياة الناس، وليس في الأرض أدب إلا وهو يصور حياة أصحابه (مؤلفيه)، فكل أدب في أي أمة لا بد أن يصور واقعها وشعورها وذوقها وثقافتها وأنماط تفكيرها، وهو في النهاية انعكاس صور الحياة في نفوسها.»
22
أما أوغسطين سانت بوف
A. S. Beuve (1804-1869م) فقد ذهب إلى أن «الهدف الرئيس للنقد الفني هو أن تكشف عن الإنسان وراء العمل. والمعيار الأساسي لتقييم العمل هو الدقة والصدق اللذان يحول بهما الكاتب حياته الشخصية - إلى شكل أدبي.»
23
وتفاعلا مع هذا المسعى البيوجرافي - وتقاطعا مع قطب المرجع أو السياق - تنظر هذه الدراسات النقدية إلى النص الأدبي بما هو «مرآة» تعكس السياق التاريخي العام، أو السياق اللاشعوري الخاص الذي أفرزه، بحيث تحتشد في الدراسات النقدية إفادات متنوعة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والنفسية، يستحيل معها النص إلى مجرد وثيقة، والناقد إلى مؤرخ وعالم اجتماع وعالم نفس ... إلخ.
أما التحليل النفسي كما يتصوره سيجموند فرويد
S. Freud (1856-1939م)، فإنه يهدف إلى تحليل الظاهرة الأدبية من خلال علاقتها بالعقد النفسية للمؤلف؛ حيث «إن صورة الأدب التي يمكن أن نجدها في الثقافة المتداولة تتمركز أساسا، حول المؤلف وشخصه وتاريخه وأذواقه وأهوائه، وما زال النقد يردد، في معظم الأحوال، أن أعمال بودلير، وليدة فشل بودلير الواقعي، وأن أعمال فان جوغ وليدة جنونه، وأعمال تشايكوفسكي وليدة نقائصه، وهكذا يبحث عن تفسير للعمل من جهة من أنتجه، كما لو أن وراء ما يرمز إليه النص، صوت شخص وحيد هو المؤلف الذي يبوح ب «أسراره» من وحي لا شعوره.»
24
وإذا كانت المقاربة السيكولوجية تنطلق في تفسيرها للعمل الأدبي من الأوضاع النفسية للكتاب، فإن المقاربة السوسيولوجية تعمد هي الأخرى إلى المعطى الخارجي، ولكن من منظور يتجاوز الفردية ليعانق الطبقة أو الإطار الاجتماعي العام، كما هو الحال في التحليل الماركسي للعمل الفني.
لقد ظلت تلك النظرة إلى العمل الفني على أنه ابن شرعي لمؤلفه، وانعكاس لحياته، وثقافته ، وعالمه النفسي، وواقعه الاجتماعي؛ هي المسيطرة على التوجه العام للنقد الفني حتى منتصف القرن العشرين. لهذا كانت مؤلفات النقد الفني السائدة خلال تلك الفترة تبدأ دائما بمقدمة عن حياة الفنان وعالمه الخاص والمشكلات التي صادفته في حياته، وكانت بالمثل تقدم النصيحة للمتلقي بأنه إذا أراد أن يكون رأيا سليما وفهما دقيقا لعمل الفنان فعليه قبل أن يشرع في التعامل مع العمل أن يكون على دراية بتلك المعطيات، حتى يساعده ذلك على التماهي مع أفكار الفنان ومقاربة تجربته الشعورية؛ ومن ثم القدرة على التعامل مع أعماله وفهمها. ويتوقف نجاح عملية التلقي الجمالي للعمل الفني على مدى استطاعة المتلقي بلوغ تفسير مرض للعمل الفني يعتمد في المقام الأول على تلمس أبرز الأحداث الفاعلة في حياة الفنان، والتي يمكن اكتشافها وتتبعها داخل عمله.
على أن تلك المقاربة التي فرضت ذاتها على حركة النقد الفني آنذاك تعرضت إلى نقد كبير على يد النزعة الشكلانية.
25
فقد هاجم الشكلانيون الرأي القائل بأن الأدب فيض من روح المؤلف أو وثيقة تاريخية اجتماعية أو تجل لمنظومة فلسفية ما، وبهذه الطريقة كان توجههم النظري مماثلا للحساسية الجمالية في الفن الحداثي التي نحت نحو التجريد. كان الجانب الذي وجد ما يقابله في الشاعرية الشكلية الروسية، هو تركيز الفن الحداثي آنذاك على التأثير من خلال الابتعاد عن تمثيل موضوعات الواقع والطبيعة بصورة مباشرة؛ «فقد مثلت المدرسة الشكلانية نقلة هائلة، بعيدا عن نظرية الفن السائدة السابقة عليها، وهي تلك النظرية التي كانت قائمة على المحاكاة.»
26
ثم اقتربت الشكلانية من البنيوية عندما ازدهرت مدرسة براغ على يد رومان ياكبسون الذي دعا إلى تحليل النصوص من خلال بنيتها اللغوية والتنظيم الصوتي المستقل لدوالها من خلال العلامات الدالة.
ويؤكد رولان بارت أن عددا من النقاد الأوروبيين قد سبقوه إلى إعلان «موت المؤلف» مثل الأديب الفرنسي مالارميه الذي كان من أوائل المتنبئين بضرورة إحلال اللغة ذاتها محل من كان مالكا لها؛ فاللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف. وكذلك أشار بارت إلى جهود بول فاليري التي جاءت مكملة لآراء مالارميه؛ حيث كان فاليري دائم السخرية من المؤلف، ودائم التأكيد على أن اللجوء إلى دواخله خرافة، وأنه لا بد من التركيز على البنية اللغوية لعمل المؤلف وإقصائه عنها.
27
بناء على ما سبق، يتضح أن المناهج السابقة، تمشيا مع احتفائها بسلطة المؤلف وهيمنة السياق، تقوم بتفسير العمل الأدبي وإيضاحه وفق شروط خارجة عن فلكه، فتفسر العمل الفني بالتجارب النفسية السابقة للفنان، وتبحث عن علامات تلك التجارب داخل العمل الفني، وبالتالي يصبح العمل الفني أسيرا للماضي ورد فعل عليه من قبل الفنان، فليس ثمة جديد إذا. وهي إذ تقوم بتكريس تلك النظرة، فإنها بذلك تلغي المعطيات الجوهرية التي تشكل الإبداع الفني، وهو ما تم تداركه فيما بعد من قبل المناهج المرتكزة على النقد النصي
Textual Critique
بتنويعاته المتعددة (اللسانية والبنيوية والأسلوبية والسيميائية ...) وذلك بفضل القطيعة المنهجية التي أحدثها إعلان «موت المؤلف». (1-5) سلطة النص ولذة القراءة
في العام 1967م نشر رولان بارت مقالته «موت المؤلف»
La Mort De L’auteur
ليقلب النظرية الأدبية المعاصرة رأسا على عقب، وليضع بذلك أحد المصطلحات البارزة والمؤثرة في فلسفة الجمال والنقد الفني المعاصر. لقد قال بارت: «إن النص من الآن فصاعدا على كافة مستوياته وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غيابا كاملا.»
28
ويدعو بارت إلى أن نحذف من قاموسنا كلمة «مؤلف» لنحل محلها «الكاتب»
Le Scripteur . والكاتب - وفقا لبارت - ليس في داخله «عواطف» ولا «أمزجة» ولا «مشاعر» ولا «انطباعات». لا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمد منه كتابة «نشاطا لفظيا» لا يمكن أن ينفد أبدا «فالحياة لا تعرف شيئا سوى أن تحاكي الكتب، وما الكتب ذاتها إلا مجرد أشياء مصنوعة من العلامات.»
29
فإذا افترضنا مع فرويد أن العمل الفني ما هو إلا انعكاس لحياة الفنان وتجاربه النفسية وحياته الشخصية فإن هذا الافتراض يلغي تعددية العمل الفني ويجهض إمكاناته التأويلية؛ لأنه في تلك الحالة سيكون ثمة معنى واحد للعمل الفني، وسيفقد العمل الفني قيمته وخلوده في الزمن، سيفقد هالته وبريقة إذا شئنا أن نستخدم مصطلحات فالتر بنيامين؛ إذ يكفينا في تلك الحالة أن نعرف الدلالات السيكولوجية للعمل الفني وعلاقتها بحياة الفنان ليترسخ لدينا في نهاية الأمر أننا أحطنا بالعمل الفني في مجمله، وأننا لسنا بحاجة للعودة إليه؛ فقد استنفد غرضه. وهكذا فعل فرويد في تعامله مع دافنشي، فمن منا بعد قراءة هذا التحليل يرغب في العودة إلى دافنشي ورؤية أعماله، فالمعنى قد تم كشفه، وما كان محتجبا بالنسبة إلينا أصبح الآن واضحا وجليا. هذا هو الحال إذا اعتمدنا التحليل النفسي للفن كما قال به فرويد وأصحاب نظرية التحليل النفسي.
لنأخذ معا هذا المثال الكاشف: لنفترض أن كاتبا ما ينتمي إلى أيديولوجيا سياسية أو دينية تختلف عن تلك التي ينتمي إليها القارئ. غير أن هذا الكاتب قد قام بكتابة نص بديع من الناحية الجمالية، فما الذي سيحدث في هذه الحالة؟ من المؤكد أن السيرة الذاتية للكاتب ستطغى على الجانب الجمالي المتحقق، وعوضا عن الاستغراق في الحالة الجمالية التي يفرضها النص، والتي هي في الأساس هدف الفنان، سيبحث القارئ بكل حماس عما يؤيد وجهة نظره وموقفه النفسي والأيديولوجي منه، وتلك لن تكون سوى قراءة مختزلة للعمل تفقده مستوياته الدلالية وتحوله إلى بنية منغلقة تفتقد تعددية القراءة وانفتاحها.
وقد استطاع تي إس إليوت
T. S. Eliot (1888-1948م) التعبير عن هذا المعنى في مقال له بعنوان «التراث والموهبة الفردية» عندما أكد أن «الانطباعات والتجارب المهمة للإنسان قد لا يكون لها دور في عمله، بينما الانطباعات والتجارب المهمة في شعره يمكن أن تلعب دورا، حتى لو كان ضئيلا، في شخصية الإنسان.»
30
ويمكن أن نضرب مثالا آخر يوضح هذا المعنى؛ فربما نشعر بالإعجاب تجاه مجموعة من الكتب التي تحتوي على قيم أخلاقية نبيلة كالشجاعة والوفاء والإخلاص، لكننا نكتشف بعد ذلك أن من كتبها لا يتمتع بأي صفة منها، فهل يجوز لنا الخلط بين العالمين؟ ربما صاغ بارت أطروحته عن موت المؤلف للإجابة عن هذا السؤال تحديدا. فالتعارض بين العالمين لا يمكن أن يقلل من أحدهما، فلنا أن ننتقد مواقف الكاتب الواقعية، لكن هذا النقد لا ينبغي أن ينسحب على مؤلفاته. حقا إن الحياة الخاصة للكاتب من الممكن أن تكون ذات جاذبية حكائية كبيرة جدا، ويمكن أن تفسر كيف ولماذا ظهرت الكتب إلى حيز الوجود؛ وغالبا ما تفعل ذلك. لكنها ليست ذات أهمية بالنسبة إلى القيمة الأدبية لكتبه، أو لمعناها، مثلما أن الحياة الشخصية لعالم الفيزياء ليس لها قيمة بالنسبة لقبول أو رفض أفكاره عن نظرية الكم أو بنية الذرة.
العمل الفني، وفقا لبارت، مستقل تماما عن مبدعه. والمؤلف دوره ينتهي بكتابة النص، والعبء يقع بعد ذلك على القارئ في عملية القراءة، عبء اقتناص المعنى في تعدديته واختلافه، وهذا ما يجعل القارئ مشاركا في عملية إنتاج النص. فدور القارئ لا يقل أهمية عن دور المؤلف، ولا يمكن فصل عملية القراءة عن الكتابة؛ إذ هما متلازمتان. والقارئ هو الذي يقرر معنى النص من خلال استرشاده بالعلامات التي يستخدمها المؤلف، لكنه لا يتقيد بها، ويمكنه أن ينتصر، من خلال النص، للمعنى الذي تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يمكن أن يتغير من يوم لآخر ومن قارئ لآخر.
إن الخطوة الإجرائية الأولى للتعامل مع النصوص وفقا لبارت هي التخلص من الفروض المسبقة، وهي خطوة تذكرنا بالفينومينولوجيا.
31
فوسيلة مقاربة العمل الفني الانطلاق من بنيته الداخلية بهدف استكشاف الأنظمة أو العلاقات التي تشكل دلالاته، من داخل النص إلى خارجه، وليس من خارجه إلى داخله، عبر افتراضات مسبقة تتمثل بالمؤلف والسياق والعصر والبيئة، وقد ذكر بارت في «النقد والحقيقة»
Critique et vérité (1966م) «أن نمط النقد البيوجرافي الذي يؤكد العلاقة بين النص والمؤلف قد انتهى، وقد حظرت السيكولوجيات الجديدة هذا النوع من التحليل.»
32
لقد حدد بارت مساره التحليلي من خلال التعامل مع الداخل النصي على حساب الخارج السياقي، بقصد الكشف الدلالي عن فضاءات المعنى التي لا تظلها سحب المؤلف، أو تكدرها غيوم ثقافته وبيئته؛ «إن التحليل البنيوي لا يهدف إلى تأويل النص تأويلا باطنيا نحو حقيقة النص، نحو بنيته العميقة، نحو سره؛ وهو نتيجة لذلك يختلف أساسا عما يسمى النقد الأدبي التأويلي من النوع الماركسي والفرويدي؛ فالتحليل البنيوي يختلف عن تلك الأنواع النقدية التي تهدف إلى بلوغ السر المقدس للنص. وبالنسبة له كل جذور النص ظاهرة للعيان، وليس عليه أن يكشف عن هذه الجذور ليعرف الرئيس منها.»
33
لقد وجد بارت «أن ميلاد القارئ رهين بإعلان موت المؤلف.»
34
وللقارئ الحرية الكاملة في تأويل النصوص حتى لو جاوز البنية الدلالية الواضحة للنص. ولذلك فإن وظيفة القارئ إغلاق النص دون ذات المؤلف وانفتاحه على موضوعه وفضائه الدلالي. لقد عبر فلوبير
Flaubert (1821-1880م) عن هذا قائلا: «كل ما أريد أن أفعله هو أن أنتج كتابا جميلا حول لا شيء، وغير مترابط إلا مع نفسه وليس مع عوالم خارجية.»
35
على أن الكاتب - في رأي بارت - لا بد أن يساهم في جعل عملية القراءة مثمرة، ويتم ذلك عن طريقين: الأول؛ ألا يقدم نصا مغلقا محملا بالأحكام القاطعة، ذاخرا بالنتائج النهائية، والتي عادة ما تقوم على وهم مبناه أن المؤلف يمتلك اليقين، ويعرف الحقيقة المطلقة. وأن يقوم على العكس من ذلك بتقديم نص مفتوح. ومعيار انفتاح النص عند بارت هو الغموض والالتباس والإيحاء بالمعنى دون تحديده؛ لهذا يتحدث بارت عن عدم القابلية للقراءة
illisibilité ، ولا يعني هذا المصطلح عنده استحالة القراءة، بل هو وصف للنصوص التي لا تقبل قراءة واحدة؛ أي النصوص اللامنغلقة «إنني لأتصور أن القصة المقروءة هي تلك التي نعلن بعد قراءتنا لها أنها لا تقرأ.»
36
والطريق الثاني، ألا يتدخل الكاتب في عملية القراءة بأي صورة من الصور كأن يؤيد وجهة نظر على أخرى أو معنى على معنى آخر، أو يقول «لست أقصد هذا بالضبط» أو «لقد أسأتم فهم مقصدي» ... إلخ. هذا التدخل كفيل بإفساد عملية القراءة وتحويل مسارها التعددي. يقول أمبرطو إيكو
U. Eco (1932-2016م) معبرا بوضوح عن هذا المعنى: «... ففي نص لكانط لا يمكن القول إنه استخدم كلمة ما ليوحي بفكرة ما؛ فهو يفرض فكرة واحدة وفكرة واحدة لا غير. أما بخصوص النص الأدبي، كنصوص بروست على سبيل المثال، فإننا إذا بحثنا عن الهدف وراء استخدام النص لكلمة ما، وتوصلنا لاستنتاج محدد، ثم سألنا الأديب عن صحة استنتاجنا هذا، لكان جوابه، إذا ما كان أمينا: ربما، أنا لا أدري، قد يكون الأمر صحيحا أو خاطئا لكن التأويلين صحيحان ... إن غاية كل فيلسوف الوصول إلى صياغات شبه رياضية. وبعكس ذلك إن حلم الأديب هو أن يحيط الكلمات بهالة من الغموض، ليس ذلك جريا وراء الغموض، بل لأن دوره يتمثل في تصوير كيف أن كل عاطفة وكل حالة هي متناقضة وغامضة. فإذا ما قرأنا الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني وجدنا أن الله خير والشيطان شرير وانتهى الأمر. لكن لنقرأ الفردوس المفقود لملتون ولنطرح السؤال: هل الشيطان شرير؟ ليس هذا أكيدا، يجب التعمق في المسألة. وإذا ما طلبنا من ملتون مزيدا من التوضيح سيجيبنا: لتقرءوا الخلاصة اللاهوتية.»
37
يفرق إيكو هنا بين أسلوبين للكتابة: الأسلوب الفلسفي الذي يتخذ من الصياغات الرياضية هدفا له؛ أسلوب ينشد الوضوح والتميز، يخاطب العقل، يسعى لتحديد المعنى وحصره في أضيق حدود ممكنة. وهذا الأسلوب هو المتبع في الكتابة الفلسفية على مختلف العصور، فهو ذاته الأسلوب الذي عبر به ديكارت وكانط وهيجل ومن قبلهم أفلاطون وأرسطو. هناك بالطبع استثناءات لبعض الفلاسفة الذين حاولوا التعبير بأسلوب مختلف يقع على التخوم بين الأسلوب الفلسفي والأدبي، غير أن هذه المحاولات ليست سوى محاولات فردية وتظل الغلبة في النهاية لأسلوب التعبير الصارم الذي ينشد الدقة ويهدف إلى الوضوح والتميز. أما الأسلوب الثاني فهو الأسلوب الفني الذي يعمد الالتباس والغموض، ولا يقدم المعاني الجاهزة المباشرة، بل يستفز ملكة التأويل لدى المتلقي ويشحذ قدراته النقدية. جاء بارت إذا ليقول إن النص أنتج في مكان وزمان مجردين، وإن الفنان ما إن يضع فرشاته أو قلمه وينتهي من عمله، فإن مهمته قد انتهت. وبالتالي لن يفيدني كثيرا أن أقرأ اسم المؤلف على الكتاب. ينتهي دور المؤلف ويكون من باب الخيانة أن يقوم بترجيح تفسير على تفسير آخر.
والعمل الفني ما إن يتحرر من منتجه يعتبر بنية مستقلة عنه لها عالمها الخاص. ويعبر هارولد بنتر عن هذا المعنى قائلا: «أحيانا يقول لي المخرج أثناء جلسات التحضير للعمل: «لماذا تقول هذه المرأة تلك العبارة؟» فأجيبه: «انتظر لحظة حتى أرجع إلى النص.» وهكذا أعود إلى النص وربما أقول «إنها تقول ذلك لأن ذلك الرجل قال تلك العبارة قبل صفحتين» أو أقول «لأنها تعبر عما تشعر به، أو لأنها تشعر بشيء آخر ولذلك تقول هذه العبارة، أو أقول لا أعرف السبب على الإطلاق ولكن علينا أن نعرف بطريقة ما».»
38
ثمة صراع دائم بين المؤلف ونصه، وهذا الصراع يحسمه النص في نهاية الأمر «فإذا وضع الكاتب مخططا هندسيا لشخصياته، وحافظ على التزامه به بصرامة، ولم يتح لها في أي وقت أن تفسد خططه، ونجح في السيطرة التامة عليها، فإنه يكون أيضا قد قتلها، أو بالأحرى أنهى ميلادها، فأصبحت بين يديه مسرحية ميتة.»
39
فهل على القارئ إذا أن يتبع المنتصر أم المهزوم؟ النص أم المؤلف؟
كان بارت عاشقا للنص كتب «لذة النص» و«خطاب عاشق»، وكان عليه أن يقتل غريمه (المؤلف) حتى يصل إلى مبتغاه (النص). وقد ميز بارت بين «اللذة»
و«المتعة»
Jouissance
ويقترح أن نكافح لتحقيق الأولى «المتعة معيارها الزوال أما اللذة فهي إلى الدوام أقرب.»
40
وبحسب هويسنز فإن بارت هنا يعيد تأسيس التقسيمات الحداثية والبرجوازية الأكثر سخافة «فهناك المتع الأدنى لعامة الجمهور؛ أي ثقافة الجماهير، وهناك لذة أخرى أعلى للنص، لذة البهجة»، وهي عودة أخرى إلى تراتبية الحداثة (الأعلى/الأدنى).
41
لقد بدأ بارت بمفهومين أساسين هما اللغة والأسلوب؛ فاللغة أفق اجتماعي، وعلى الكاتب أن يظل ضمن حدودها لو أراد التواصل مع الآخرين. أما الأسلوب فهو البعد الرئيس المميز لكل كاتب عظيم، إنه شيء شديد الخصوصية، وحتى لو كان محكوما بدوافع فطرية، فليس له طابع اجتماعي. كما أنه ذو طابع مجرد لا يختلط برغبات الشخص المشكلة تاريخيا. ويلعب هذان المحوران دورا أساسيا عند بارت؛ حيث يضفي عليهما قيما محددة بالحرية والالتزام.
42 (1-6) العمل الأدبي المفتوح أو الفوضى الخلاقة للعلامات
يصف بارت في الدرجة صفر للكتابة
Le Degré zéro de l’écriture (1972م) الكتابة بأنها «فوضى تنثال عبر الكلمات وتمنحها هذه الحركة التي لا تظل على حال أبدا ... فهي، أي الكتابة، تتطور ولا تسير أبدا بطريقة خطية، كما لا يمكن توقع ما سينتج عنها.»
43
فهل هذه صيغة أخرى لمفهوم الفوضى الخلاقة الذي انتقل من المجال العلمي إلى المجال الثقافي ومنه إلى المجال السياسي؟ ليس ثمة إجابة بطبيعة الحال عن هذا السؤال، لكن من المؤكد أن العديد من المفاهيم والمقولات التي يتم ترديدها في المجال العام لها أصولها النظرية والعلمية الواضحة.
44
ما هو تصور بارت لطبيعة العمل الأدبي ؟ وهل كان يهدف من تحليله الإجرائي للنصوص القيام بجهد تأويلي يهدف إلى ترسيخ أحد مستويات المعنى داخل النص؟ كان بارت دائم الإشارة في مؤلفاته إلى أن تحليله لا يهدف أبدا لإثبات المعنى «الواحد والوحيد» للنص، بل هو في الأصل لا يحاول إثبات «أحد» معاني النص؛ إنه يختلف أساسا عن التحليلات اللغوية الأخرى التي تروم التحديد والمعنى، إنه تحليل يهدف إلى رسم «الموقع الهندسي»؛ أي موقع المعاني، موقع ممكنات النص. فكما أن لغة من اللغات هي ممكن الأقوال (اللغة هي الموقع الممكن لعدد لا نهائي من الأقوال)، فإن هدف المحلل هو مواقع إمكان المعاني، أو تعدد المعنى أو المعنى باعتباره متعددا «ليس ثمة اختيار هنا أو محاولة الظهور بمظهر الليبرالي في التعامل مع النصوص؛ فالمعنى بالنسبة لي ليس إمكانا، وليس أحد الممكنات، إنه كينونة الممكن ذاتها، كينونة التعدد.»
45
إن العمل على معنى أو معان للنص، وفقا لبارت، لا بد أن ينطلق من قاعدة فينومينولوجية؛ فلا توجد آلة لقراءة المعنى، وليس ثمة خطوات منهجية تفضي إلى نتيجة واحدة. لهذا رفض بارت وصف مقاربته للنص بالمنهج، وفضل استخدام كلمة إجراءات لقراءة النص «فالتحليل البنيوي للسرد ليس فرعا من فروع المعرفة، كالبيولوجيا وعلم الاجتماع؛ فهو لا يمتلك قواعد صارمة تشكل نظاما ما. كما أن قراءة باحث ما لا تشكل إلزاما لباحث آخر، وليس بإمكان قارئ أن يتحدث باسم قارئ آخر. ومن جهة أخرى يظل البحث الفردي على مستوى كل باحث في حالة من الصيرورة؛ إذ إن لكل باحث تاريخه الخاص، وليس ثمة وصفة جاهزة للتعامل مع النص.»
46
ما هو المعنى إذا داخل النص؟ يقول بارت: «إننا لا نبحث عن مدلولات نعتبرها نافذة، أي مدلولات معجمية، ومعان حسب المفهوم الشائع للكلمة ... إن المعنى ليس مدلولا تاما، كما قد يكون في المعجم، إنه نظام من الترابط المتبادل، نظام من الاقتباس اللانهائي.»
47
أحد أهم الأفكار التي قدمها بارت تأكيده على أن النص الأدبي، من حيث كينونته، متعدد المعاني، بمعنى أنه يخضع لشتى التأويلات المتباينة. ويفسر بارت ذلك بأن المعنى الخاص للنص يكون فارغا «المعنى الثانوي للأدب غير ثابت، فارغ، بغض النظر عن أن النص يعمل كدال لهذا المعنى الفارغ.»
48
وهذا هو المقصود بالدرجة صفر؛ أي درجة اللامعنى، درجة كل الاحتمالات الممكنة. فالدوال متحررة من كل ما يقيدها؛ ولذا فهي لا تعني شيئا، ومن الممكن أن تعني كل شيء.
لا يهدف علم الأدب إلى «تعليمنا ما هو المعنى الذي ينبغي أن نطرحه في العمل، لا يتعين على علم الأدب أن يطرح أو يكشف أي معنى كان، وإنما مهمته وصف المنطق الذي ولد الدلالة.»
49
المهمة الأولى يعمل عليها النقد الأدبي، وهو ليس علما وإنما ممارسة عملية، لكن النقد الأدبي يظل دائما وحيد الجانب؛ لأنه ينتقي من بين عدد كبير من الدلالات الممكنة معنى واحدا. عندما يكون معنى أي نتاج «فارغا» دائما، فمن الجلي أن القارئ يمنح تفسيره للعمل، مستخدما في ذلك منظومة محددة من المفاهيم التي تشكل في كليتها شفرة ما، على سبيل المثال، يمكننا أن نفسر هذا النص حسب المشروع الثقافي/التاريخي؛ أي نضعه في عداد مؤلفات العهود السابقة؛ في هذه الحالة فإننا نستخدم إحدى الشفرات «الثقافية» الممكنة. لكن، يمكننا أن نقارب هذا النص بشكل آخر، كأن نستخدم شفرة التحليل النفسي، ويمكننا استخدام شفرات أخرى كثيرة، وعندئذ نحصل على تفسيرات متباينة عديدة. لكن، ما هو التفسير الأكثر صحة ودقة؟ وفقا لبارت فإن مثل التساؤل بلا معنى؛ ذلك لأن النص المتعدد الدلالات، طبقا لتعريفه، يمكن أن يتقبل جميع هذه التفسيرات جيدا وبالتساوي «فأنا لست ذاتا بريئة تتواجد قبل النص وتتعامل معه كشيء يمكن تنقيته، أو كحيز شاغر ينبغي ملؤه. أنا الذي ألج النص الذي يشكل عددا من النصوص الأخرى ذات الشفرات التي لا تنتهي ... النص الذي تضيع بدايته ...»
50
تعددية المعاني لا تشكل - حسب رأي بارت - الجوهر الأساسي للأدب فحسب، وإنما هي المعيار الوحيد للقيمة الجمالية للعمل. فالأدب العظيم هو ذلك الذي يصارع وبدون هوادة إغواء المعنى الواحد. ومن ناحية أخرى فإن انفتاح العمل يعني أن القراءة ستتحول إلى عمل إبداعي، ليصبح القارئ مبدعا مشاركا في النص؛ بمعنى أنه يشارك في إنجاز ما تركه الكاتب «مفتوحا». وهذه المشاركة تحقق ما يمكن أن نطلق عليه «اللذة الجمالية». فتعدد المعاني يهب اللذة للقارئ، والعكس أيضا، فإن تأطير النص ليس سوى تقييد لتلك اللذة «فلذة القارئ تبدأ عندما يكون منتجا؛ أي عندما يسمح له النص أن يقوم بتشكيل قدراته الخاصة.»
51
واستثمارا لهذا الطرح الذي قدمه بارت، طور التفكيكيون، وعلى رأسهم جاك دريدا، مبدأ انتفاء قصدية المؤلف، إلى فوضى التفسير المتمرد على فضاء التأويل «فقصد المؤلف غير موجود في النص، والنص نفسه لا وجود له، وفي وجود ذلك الفراغ الجديد الذي جاء مع موت المؤلف وغياب النص تصبح قراءة القارئ هي الحضور الوحيد، لا يوجد نص مغلق ولا قراءة نهائية، بل توجد نصوص بعدد قراء النص الواحد، ومن ثم تصبح كل قراءة نصا جديدا مبدعا.»
52
وهكذا انتقل نقاد التفكيك من رفض تصور بارت لفكرة اكتمال المعنى، إلى قدرة القارئ على تحقيق المعنى الذي يراه في رؤى لا نهائية عند كل قراءة جديدة للنصوص.
في أعماله المتأخرة، مثل
S/Z
ومقالات نقدية جديدة
Nouveaux essais critiques ، يتجاوز بارت مفهوم البنية، الذي انطلق منه في مؤلفاته المبكرة، ليقترب أكثر من التفكيك. وهو يعترف صراحة أن أعمال جاك دريدا هي التطبيق العميق لتصوره عن تعددية المعنى وارتحاله المستمر.
53
يتحول بارت من البنية إلى التفكيك. فإقراره بأن النص الأدبي متعدد المعاني في كينونته، يترتب عليه استحالة أن يمتلك النص بنية؛ فهو لا يمكن أن يكون شيئا آخر سوى كونه غير مكتمل، كما لن يتحقق اكتماله مستقبلا؛ «فكل عنصر يكتسي دلالة متوالية لا تتوقف، ولا يعود بنا في المحطة الأخيرة إلى أية بنية.»
54
وعليه، فإن بارت يهدم البنية، لدى تحليله لقصة «ساراسين»
Sarrasine ،
55
ويحولها إلى خليط غير متشكل من الوحدات النصية المصغرة.
لكن هل يمكن بالفعل فصل العمل الأدبي، والفني على وجه العموم، عن المحيط الاجتماعي والثقافي السائد في المجتمع والتعامل معه على مستوى الألفاظ والدلالات اللغوية فقط؟ وما قيمة البناء اللغوي إذا كان لا يحيل إلا إلى ذاته؟ يبدو أن هذا ما لم يكن بارت يقصده. فقد كان هدف بارت الرئيس ألا يتم التعامل مع النص الأدبي بفروض مسبقة عن الكاتب والمؤلف وعدم اتخاذ مواقف نفسية من المؤلف قبل الدخول إلى عالمه. إن الفرضية المسبقة تعني أن القارئ لديه فكرة ما يحاول إثباتها والتحقق منها من خلال تعامله مع النص الأدبي، هي أشبه بالنتيجة التي يحاول أن يستقي مقدماتها من داخل العمل، وهذا يفضي في النهاية إلى قراءة أحادية للنص تزعم امتلاك حقيقته واكتشاف غاياته، وهذا الفهم نابع من تصور مؤداه أن ثمة حقيقة كامنة وراء النص، وتلك الحقيقة مرتبطة، في الأغلب، بحياة المؤلف أو الإطار الثقافي الذي أبدع فيه مؤلفه. هذا الفهم للنص الأدبي وطريقة التعامل معه هو ما جاء بارت ليناهضه من خلال مقولته عن موت المؤلف. فالنص بنية مستقلة بذاته، ودلالته ليست مسبقة بل هي لاحقة، وبالتالي فهو لا يشير إلى الماضي بل إلى المستقبل. وبمجرد أن ينتج النص فإنه يترك مداره الخاص وسياقه المرتبط بنشأته، حتى يدخل في مدار آخر وسياق مختلف تماما. هذا السياق الجديد هو سياق النصوص الأخرى السابقة عليه والمتزامنة معه، وهذا السياق هو الذي لا بد أن يتعامل معه القارئ دون أن يحاول نزعه منه. ولا يعني ذلك أن الوقوف عند حدود الألفاظ والدوال هو المبتغى النهائي للقارئ؛ إذ إن أطروحة بارت تقطع الطريق أمام الفروض المسبقة التي يدخل بها القارئ على النص لكنها لا تلغي الدلالات المختلفة للعمل الأدبي؛ فالنص قد يكشف عن أبعاد مختلفة مرتبطة بالواقع والمجتمع، لكن هذه الأبعاد لا بد من بنائها واكتشافها داخل النص وليس بصورة مسبقة أو على شكل افتراضات سابقة يسعى القارئ لإثباتها عبر قراءته.
إحدى النتائج المهمة المترتبة على هذا الأمر أن العمل الأدبي سيتحول إلى عمل مفتوح على قراءات لا نهائية وغير محدودة؛ إذ ليس ثمة حقيقة ثابتة ومسبقة يحيل إليها العمل، وبالتالي يفقد العمل دلالته ومستوياته التأويلية، بل إن العمل وقد تحرر من مداره الخاص وظروف نشأته لينتقل إلى مدار آخر هو مدار الافتراضي والممكن والمتخيل، وبالتالي ساحة للتأويلات والقراءات اللامحدودة. (1-7) التناص والعود الأبدي للنصوص
هل العمل الفني نتاج عبقرية الفنان وملكته الخلاقة؟ كما كان لأطروحة موت المؤلف صداها الواسع على مفهوم التلقي الجمالي كان لها بالمثل صداها على مفهوم الإبداع. وعلى الرغم من أن بارت لم يكن يعنيه مقاربة هذه القضية بطريقة مباشرة، إلا أن شبكة الاصطلاحات التي صاغها يمكن أن تقدم لنا تفسيرا لآلية إنتاج العمل الفني وفقا لتصوره.
إن تعددية معاني النص وحيويتها تفترض فهما خاصا للعملية الإبداعية. ووفقا لرأي بارت، فإن من الخطأ أن نظن أن الكاتب ينطلق من أية أفكار فلسفية أو أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية، يسعى من خلال وسائل الفن أن يجسدها في نتاجه. فإذا تنازعت الكاتب أية أفكار تمهيدية أولية، سيغدو العمل ذا بعد واحد فقط. ولما كان بارت يعتبر العمل الفني متعدد المعاني، فإنه مضطر، انطلاقا من منطقه الخاص هذا، أن يسلم بأن الكاتب يبدع بصورة متحررة وبدون قصد تمهيدي. وهذا ما كان يعنيه بارت بانتفاء قصدية المؤلف؛ فالمؤلف، كما القارئ، لا يمتلك افتراضات مسبقة قبل الشروع في عمله. تتكون العملية الإبداعية - حسب بارت - من فعلين أساسيين: تفريد العالم إلى جزئيات
Dàcoupage ،
Agencement
ودمج هذه الجزئيات، هذان الفعلان هما المحددان للعملية الإبداعية بشكل عام، وهما ذاتهما المحددان لعملية القراءة ذاتها.
56
لقد ارتبطت أطروحة «موت المؤلف» عند بارت بفكرة أخرى أشار إليها ضمنا في مؤلفاته عندما وصف عملية الكتابة بأنها «امتزاج للكتابات»، وأن معنى النص «ما هو إلا تعددية لنظمه، وقابليتها اللامتناهية (الدائرية) للنسخ.»
57
وهو الوصف الذي أعطته جوليا كريستيفا
J. Kristeva (1941-...م) مصطلح «التناص»
Intertextualité ، وأقره بارت في حينه.
58
ويعني التناص أن أي نص في النهاية ما هو إلا تجميع واقتباس وتداخل مع نصوص أخرى سبقته؛ «فالكاتب لا يستطيع إلا أن يحاكي حركة سابقة له على الدوام، دون أن تكون هذه الحركة في الأساس أصلية.»
59
ويوضح شلوفسكي هذا بقوله: «كلما سلطت الضوء على حقبة ما، ازددت اقتناعا بأن الصور التي تعتبرها من ابتكار الشاعر إنما استعارها هذا الشاعر من شعراء آخرين وبدون تغيير تقريبا.»
60
فلا يوجد نص أصلي، إنما النص هو تلاق بين النصوص، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر. وفي ضوء ذلك، يكون هدف التفكيك - بحسب دريدا - البحث عن نص داخل نص آخر، وإحالة نص على نص، وبناء نص من نص آخر ... إلخ.
إن التناص نتيجة طبيعية أيضا لموت المؤلف؛ فالنصوص هي التي تفسر بعضها، ومن ثم وجب إبعاد العوامل الخارجية عن النص؛ فالسياق الخارجي لا يمكن أن يحدد علاقات النص ودلالته؛ لأن النص قد تجاوز هذا الخارجي وتحرر عنه واستقل عنه بوجود جديد، ينبني عليه عالم جديد.
61
والتناص كآلية لعمل النصوص تقضي تماما على مفهوم التمثيل
Representation
الذي كان سائدا في الفكر الغربي؛ والذي كان يحدد علاقة الفنان بعالمه بوصفها تمثيلا يعاد إنتاجه في العمل الفني. كما يجهز على نظرية المحاكاة؛ التي تعني أن الفنان يحاكي تجاربه السابقة في الحياة أو واقعه الاجتماعي والسياسي. فالعمل الفني، وفقا لمفهوم التناص، ما هو إلا خليط ومزج لأعمال سابقة وثقافات مختلفة، وعلى المتلقي أن يكتشف تلك الأعمال، ليبدع فهمه الخاص.
لقد كان بارت دائم التأكيد في مؤلفاته على أن تحليله للعمل الأدبي يهدف إلى تفجير الوحدة والانغلاق داخل النص للكشف عن الطريقة التي بها يعمل، فنسيج النص يتشكل عبر تضافر عدد من الأنساق وتشابكها معا. لكن ما هو النسق؟
إنه مجموع الإحالات والاقتباسات والبناء الرمزي الذي يمنح النص مظهر الانسجام والاتساق، إنه منطلق لبنيات أخرى ونصوص مغايرة؛ أي أن النص ليس كيانا متفردا مبتكرا لا نظير له، حسب المفهوم الرومانسي التقليدي للإبداع، بل إنه يتشكل مما يسميه بارت «ما سلف»؛ أي ما سلف قراءته وكتابته ومشاهدته؛ أي النص المجتمعي والثقافي.
62
إن التناص هنا يتسع ليشمل كينونة النص ذاته، إنه ماهيته، إذا كان ثمة ما يمكن أن يطلق عليه ماهية في فكر بارت.
لم يكن هدف بارت إذا البحث عن بنية النص ولا عن معناه النهائي، أو المدلول الأخير (فهذا شأن القراءات التأويلية)، بل كان بحثه منصبا على محاولة اكتشاف تلك الحركة الدائبة التي تكون النص وتفتحه على تفاعل مستمر مع النصوص الأخرى ومع الأنساق الثقافية. وإحدى مهام الناقد اكتشاف هذه المسارات داخل العمل، وعليه أن يحذر في تلك العملية من الوقوع في فخ التحديد؛ أي محاولة اكتشاف المحددات الخارجية في التحليل النصي واختزاله في مسارات ينظر إليها بوصفها «محددات للهوية» كما هو الحال في المنهج التاريخي أو المناهج الاجتماعية والنفسانية التي تجعل من النص فضاء لاكتشاف حقيقة تتجاوزه أو حتى تتجلى فيه.
إن التحليل النصي يقدم المادة الخام للمناهج النقدية المختلفة. وبالتالي فعملية التحليل تنتج نصا جديدا، هو النص الواصف للنص موضوع التحليل، وهذا الأخير ما هو إلا نص تأليفي لنصوص أخرى هي بدورها تجميع لأخرى ... إلخ. إنها تلك الحركة الدائرية التي لا تنتهي، أو لكأنها التطبيق العملي لمفهوم العود الأبدي الذي أعاد نيتشه إحياءه في القرن التاسع عشر «فالمعنى يعود كاختلاف، كما يقول نيتشه، وليس كتطابق وهوية.»
63
والكتابة، بصفة عامة، عملية مقطعية تنبذ الاستمرار والتواصل، وتقضي على الزمان كتواصل، وتهاب الامتلاء والتحقق. كتابة تقحم الزمان داخل النص ذاته. لكنه ليس زمان الميتافيزيقا، ليس زمان الحاضر المتحرك، بل زمان العود الأبدي، إنها كتابة بدون ذات، لكنها كتابة غنية «بالصمت الذي يتخلل خطابها، والنقص الذي يعوز مفاهيمها، والبياض الذي يتسلل إلى سواد كتابتها الدقيقة.»
64
لكن كيف للناقد بعد ذلك أن يقدم نصا موازيا للنص موضوع القراءة؟ يرد بارت على هذا التساؤل قائلا: «إن تلك الذات التي تقترب من النص هي نفسها مشكلة سلفا من نصوص أخرى متعددة، وأنساق لا نهائية. والقراءة هنا ليست فعلا عرضيا على كتابة تمنحها كل امتيازات الإبداع والأولوية، بل هي في الأساس نص مواز لا يقل من حيث الدرجة عن النص المقروء.»
65
فعملية القراءة لا تهدف إلى مجرد تقديم تفسير للعمل أو بحث عن الآليات التي تعمل علاماته وفقا لها، بل تقديم نص مواز للنص المقروء يصبح بدوره هو نصا مقروءا. يتساءل بارت: «ألم يصادفكم قط، وأنتم تقرءون كتابا، أن توقفتم مرارا عن القراءة، ليس لأنكم لا تهتمون بما تقرءون، ولكن بسبب دفق الأفكار، وشدة الإثارة، وكثرة التداعيات؟ باختصار، ألم يصادف أن قرأتم وأنتم للرأس رافعون؟» ليرد: «إن هذه القراءة بالذات التي تتصف في وقت واحد بقلة الاحترام لأنها تقطع النص، وبالافتتان لأنها تعود إليه وتتغذى منه، هي التي أحاول أن أكتبها. ولكي أكتبها، ولكي تصبح قراءتي بدورها موضوعا لقراءة جديدة (مثل
S/Z )
66
كان علي أن أشرع بتنسيق كل هذه اللحظات التي يرفع المرء فيها رأسه.»
67
كان آلان روب جرييه
A. Robbe-Grillet (1922-2008م) من الكتاب الذين يعود إليهم بارت في مواضع عديدة من مؤلفاته. وكانت أعماله موضعا لإعجاب بارت الذي وصفها بأنها تمثيل «معكوس» للكتابة الشعرية؛ فهي «لا تحاول النفاذ للأشياء، بل تبقى على سطحها تتأملها بحيادية.»
68
ومن خلال مناقشات بارت لروب جرييه، استخلص بارت أمرين مهمين؛ فهناك أولا الزعم بأن الكلمات، وبالتالي الأعمال، لا تكتسب المعنى إلا بالارتباط بالتقاليد الخطابية وبعادات القراءة، وهو ما يتوجب على المرء دراسته إن كان يسعى إلى دراسة البنية الأدبية. وبالتالي يكتسب القارئ أهميته بوصفه وعاء لهذه التقاليد، وعاملا لتطبيقها. يقول بارت إن القارئ هو «الأنا التي تقارب النص، وهي في ذاتها مجموعة نصوص أخرى، وشفرات لا نهاية لها أو مفقودة (أصلها مفقود) ... إن الذاتية متصورة في العموم على أنها تشمل وفرة من النصوص، والحقيقة أن هذه الوفرة المصطنعة ليست سوى صحوة لجميع الشفرات التي تكونني.»
69
أما ثانيا فتتمثل في أن الأدب الأكثر قيمة هو ذلك الذي يمرس القارئ بعنف، ويتحداه ويجتذب انتباهه، بهدف تنظيم نشاط القراءة نفسه «الحكم على العمل الأدبي، إذا جاز ذلك، يكون من خلال قدرته على تحويل القارئ من مستهلك إلى منتج للنص.»
70
لقد اعتمد بارت على ظهور القارئ كشخصية محورية في النقد، وإذا كان - كما يقول بارت - ميلاد القارئ لا يتحقق إلا بموت المؤلف، والذي لم يعد هو مصدر المعنى، فإنه على استعداد لدفع مثل هذا الثمن، ثمن قتل المؤلف.
71
أخيرا، فإن إحدى النتائج الهامة التي يمكن استخلاصها من موقف بارت، خاصة في أعماله المتأخرة، بخصوص النص ودور المؤلف والقارئ، أنه في الوقت الذي كانت ترى فيه البنيوية التقليدية أن الحقيقة قائمة وراء نص ما أو داخله، فإن بنيوية بارت المتأخرة، إذا جاز وصفها بالبنيوية، تبرز أهمية التفاعل بين القارئ والنص في إنتاج الدلالة العامة لأي نص؛ وهكذا أصبحت القراءة إنجازا مبدعا لا يقل أهمية عن عملية الكتابة ذاتها. (1-8) موت المؤلف وجماليات التلقي
كان لأطروحة بارت تأثير كبير على الجماليات بوجه عام وعلى حركة النقد الأدبي على وجه التحديد، خاصة فيما أصبح معروفا الآن بجماليات التلقي. ولعل أهم النتائج التي ترتبت على إعلان بارت موت المؤلف تمثلت في تحرير الفكر النقدي من سلطة الذات ومرجعيتها، وجعل العمل الفني هو المرجعية الوحيدة للناقد، هو المتحدث الأول والأخير.
من بين النتائج العديدة التي نتجت عن إعلان بارت موت المؤلف، والتي كان لها تأثير كبير على نظرية التلقي في نهايات القرن العشرين: (1)
لم يعد العمل الفني موضعا لتسجيل الحدث أو مجالا للتعبير أو انعكاسا وجدانيا. لقد أصبح التعبير الجمالي حالة من حالات التمثيل الخالص للمتلقي. وهنا يمكن القول إن نظرية المحاكاة الكلاسيكية قد ذهبت بلا رجعة؛ إذ لم يعد الفن مرآة تعكس ما هو موجود في الحياة سلفا، كما لم يعد الفن انعكاسا لحياة الفنان وتجاربه. لقد غدا العمل الفني متحررا من كل مرجعية سوى مرجعية ذاته. يموت المؤلف ويتحول التاريخ والموروث إلى نصوص متداخلة، ويتم الاحتفال بمولد القارئ. (2)
تحرر العمل الفني من سيطرة التفسير الأحادي الذي كان مسيطرا على الاتجاهات النقدية الكلاسيكية؛ فالعمل الفني ليس إطارا أو شكلا يملؤه الفنان بمعنى ثابت وسرمدي، بل بنية دلالية افتراضية، محققة من طرف المتلقين المتعاقبين عليه. لقد صار العمل الفني ميدانا للعلامات التي تتفجر إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى المعاني اللانهائية التي تتحرك منتشرة فوق العمل مخترقة كل الحواجز؛ وهذا ما كان يعنيه بارت بالانتشار
Dissemination . (3)
ليس المعنى هو ذلك المعنى الجاهز المختبئ داخل العمل الفني، بل هو ذلك الذي ينشأ نتيجة للتفاعل بين العمل والمتلقي ؛ أي بوصفه عملا يمكن ممارسته واكتشافه من جديد، وليس موضوعا يمكن تحديده والتقيد به. وبناء على ذلك، فإن قراءة العمل الفني لا تمثل إعادة وتكرارا للقراءات السابقة، بل هي تحتضنها وتتجاوزها إلى قراءة إبداعية مغايرة وبديلة. (4)
لا تعيش الأعمال الفنية منعزلة عن بعضها البعض، بل لها عالمها الافتراضي الذي تتقاطع بداخله وتتداخل في علاقات منتجة. إن عالم الفن هو عالم التكرار والاختلاف، وميدان للعود الأبدي، عودة المختلف. فالحبكات التي يتحرك فيها الفن هي في النهاية محدودة، وكذا موضوعاته، لكن حركة التقاطعات التي تحدث بين الأعمال الفنية هي التي تنتج أعمالا لا نهائية. (5)
لقد تم استثمار النتائج السابقة في صياغة نظرية أكثر تطورا على يد أمبرطو إيكو في نظريته عن العلامات وتطبيقاته على فني الأدب والتصوير، ومن بعده مدرسة كونستانس
Konstanz
على يد رائديها هانز روبير ياوس
H. Robert Jauss (1921-1997م)، وفولفجانج إيزر
W. Izer (1926-2007م)، اللذين قاما بالتقريب بين الفينومينولوجيا، وخاصة فينومينولوجيا رومان إنجاردن
R. Ingarden (1893-1970م)، ونظرية القراءة، ليكون نتاج ذلك ما أطلقوا عليه جماليات التلقي. وقد فتحت جماليات التلقي أفقا جديدة في الممارسة الفنية النقدية، بحيث حاولت أن تتخفف من مركزية النص وسلطته التي رسخها بارت، ومن بعده التفكيكيون، لتؤكد على أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص في إطار علاقة تفاعلية. (1-9) موت المؤلف ... هل ثمة ضرورة؟!
تعرضت أفكار بارت لانتقادات عديدة؛ فالبعض رأى
72
أنها استبدلت سلطة النص بسلطة المؤلف، استبدال مركز بمركز آخر. وقد دفعه هذا الاحتفاء إلى نوع من التقديس الميتافيزيقي للنص «ليس وراء النص فاعل أو مسند إليه (كاتب) وليس أمام النص مفعول به (قارئ)؛ لا فاعل ولا مفعول به، النص يجعل المواقع النحوية غير ذات صلاحية ...»
73
والبعض الآخر رأى أن إعلان بارت به نوع من الافتعال غير المبرر، وأنه لا يمكن بحال تجاوز المؤلف، كما لا يمكن إلغاء السياق الثقافي والاجتماعي الذي يدور النص في فلكه. كما أن بارت في تحليلاته اللغوية كانت تسيطر عليه، في بعض الأحيان، نزعة صوفية واضحة تجاه النص، جعلت الكثير من تلك التحليلات يبدو غير مفهوم، ومواقفه تبدو متناقضة في الكثير من الأحيان.
74
وعلى الرغم من أن تحليلات بارت بالفعل كان لها الأثر الأهم في أن تخطو الجماليات خطوات متقدمة في نهايات القرن العشرين، خاصة في مجال النقد الأدبي، إلا أن إعلان بارت موت المؤلف لم يكن مقنعا بالدرجة الكافية، وأسقط النقد الأدبي فيما أطلق عليه بارت حتمية الشكل، والذي ترتب عليه الاهتمام المفرط بالعلامات والدوال المستخدمة، وما تبع ذلك من الإغراق في التجريد، وافتقاد الشاعرية في التحليل، وصعوبة اللغة المستخدمة. إن من مقتضيات تمام العملية الإبداعية أن تكون هناك صلة نفسية ومعرفية بين أطرافها: المؤلف، النص، القارئ وذلك يتيح «حرية للقارئ في إعادة بناء النص، وإذا انتفت المسافة النفسية افتقد القارئ القدرة على ممارسة خبرة الإبداع في تذوق العمل الفني، وأضحى العمل الفني نوعا من التغييب للقارئ، بينما تتيح المسافة النفسية أن يكون حضور القارئ مساويا لحضور المؤلف لكي يدير حوارا معه.»
75
فكيف يحدث ذلك إذا افترضنا موت أحد أطراف عملية الإبداع وهو المؤلف.
لقد ألغى إعلان بارت تأثير الذات الإنسانية الفاعلة، والتي هي حصيلة التفاعل العام والشامل مع الوجود، وبذلك أصبح المنظور البنيوي للوجود لا علاقة له بكينونة الإنسان التاريخية والاجتماعية، بل بالعلاقات اللغوية الشكلية التي تعتمد المنهج الجمالي المجرد للأشياء التي تتشكل دلالاتها ذاتيا دون فعل الإنسان.
76
ورغم أن السيميوطيقا قد اعتمدت بصورة كبيرة على الإجراءات التي قدمها بارت إلا أن السيميوطيقيون قد أدخلوا تعديلات جوهرية على رؤية بارت تسمح بتجاوز مقولته عن موت المؤلف، وكذا مقولته عن لذة النص.
فالعمل الفني، كما يذهب إلى ذلك موكارفسكي، لا يمكن مساواته بأي شكل من الأشكال بالحالة النفسية لمنشئه، ولا حتى للظروف الاجتماعية التي ظهر فيها. العمل الفني مستقل عن ذلك بالفعل. غير أن الشيء الذي يمثل العمل الفني في عالم الواقع يظل قائما، وهو متاح لكل فرد كي يدركه بدون قيد أو شرط. فلا بد أن تحيل العلامة إلى شيء ما. الفن علامة مستقلة خاصيتها الأساسية قدرتها على أن تستخدم وسيطا بين أعضاء نفس الجماعة. وبالرغم من أن بعض العلامات لا تحيل إلى شيء معين إلا أنها يمكن قراءتها من خلال السياق الكلي الذي ظهرت فيه؛ أي الظواهر الإنسانية من فلسفة وسياسة ودين واقتصاد. وهذا هو السبب الذي يجعل الفن أكثر قدرة على تمييز عصر بعينه وتمثيله دون غيره من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وهذا يفسر أيضا السبب وراء اختلاط الفن طوال تاريخه بتاريخ الثقافة، والعكس صحيح أيضا؛ فقد ذهب التاريخ العام إلى استعارة تقسيم تاريخ الفن في تحديد الحقب الزمنية. وبالإضافة إلى ذلك يذهب موكارفسكي إلى رفض النظريات الجمالية المبنية على الفرضية التي تقول إن غاية الفن هي اللذة. فالعمل الفني قد يولد لذة ما تكتسب موضوعية نسبية باعتبارها «دلالة إضافية» كامنة في العمل الفني، ولكن يكون من الخطأ إذا ما تم استخلاص نتيجة من ذلك مفادها أن هذه اللذة تكون جزءا لازما وضروريا من عملية إدراك العمل الفني. فالفن ينزع في بعض مراحل تطوره إلى إثارة اللذة، غير أن هناك مراحل أخرى لا تكترث باللذة كلية، بل تنحو إلى محوها وإثارة مشاعر مضادة لها.
77
وبعيدا عن السيميوطيقا نجد بيير بورديو
(1930-2002م) يتخذ موقفا ناقدا من هذا الاتجاه، وهو بصدد تحليله لحقل الإنتاج الفني؛ فقد توصل بورديو في كتابه قوانين الفن إلى صيغة معتدلة لا تنجرف وراء التحليلات النفسية والاجتماعية، وفي الوقت ذاته ترفض القراءات الداخلية للأعمال الفنية التي تتجاوز الظروف التاريخية التي أنتجتها. فالعمل الفني ليس مجرد تعبير عن عبقرية الفنان، ولا هو مجرد انعكاس للظروف الاجتماعية والنفسية له، بل يتم إنتاجه من خلال الطابع الثقافي، الذي يعكس الأصل الاجتماعي والمسار الشخصي للفنان، وهو حقل - فضاء منظم من الاحتمالات - يحوي شتى المذاهب والأساليب المتنافسة كما تتحدد الاحتمالات ذاتها من قبل التطور التاريخي لذلك الحقل، فلا يوجد كاتب (أو فنان) يبتكر ببساطة أسلوبا فنيا من عدم، بل هو يتخذ موقفه بناء على ما هو سائد من أنماط فنية وأساليب متبعة، فإما أن يختار تكرار ما هو موجود، أو أخذ نوع فني قائم ودفعه إلى أقصاه. لذا فإن كل تصريح فني يحمل بداخله موقفا ما من الأعمال القائمة والمواقف الماثلة في الحقل الفني، وتنوع المواقف التي يستطيع أي فنان أن يتخذها في ضوء التاريخ السابق للحقل. وفي رأي بورديو، أن حقل الإنتاج الفني هو عالم من الثورة الدائمة والتمرد على الأساليب القائمة، وأن تفسير هذه الثورة يحتاج إلى فهم الحقل الثقافي بكافة مكوناته، خاصة أن هناك محددات تمارس تأثيرها على العمل الفني وعلى طرق استقباله لا دخل للفنان بها، ومنها الظروف الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية.
78
من ناحية أخرى، ومن داخل البنيوية ذاتها نجد لوسيان جولدمان، رغم تأثره بأفكار بارت، كان مدركا لخطورة الموقف الذي يقودهم إليه عزل المؤلف والسياق عن البنية اللغوية المكتفية بذاتها. وقد دعا جولدمان إلى ربط البنية النصية الداخلية بحركة التاريخ الاجتماعي والسياق الثقافي، ودمج بين أقانيم النص الثلاثة؛ الشكل والبنية والسياق، ورأى أن رؤية العالم تشكل مع البنية ذات الدلالة وحدة متكاملة، وذلك يفترض الانتقال من رؤية سكونية يفرضها ثبات البنى اللغوية إلى رؤية دينامية شاملة ومتماسكة حتى نستطيع الإحاطة بالنص من جميع زواياه.
79
إن عزل الخطاب الأدبي عن السياق التاريخي والثقافي للنصوص أدى إلى قصور في النقد البنيوي، ولذلك نظر ميشال فوكو إلى الخطاب الأدبي بوصفه نشاطا إنسانيا إبداعيا مركزيا، ولا يراه نصا عاما يزخر بالدلالات بمعزل عن السياق التاريخي الذي يقتضي تغيرا في الخطاب.
80
ومن منطلق مشابه يشير روبرت هولاب في كتابه نظرية التلقي، إلى أن كلا من المعنى والبناء ينتجان من تفاعل القارئ مع النص، الذي يقارب العمل الفني بتوقعات دلالية مستمدة من المعارف التراكمية المشتركة والسياقات الثقافية والاجتماعية المتداخلة، أو ما يسمى «أفق التوقعات»، هذا الأفق بمثابة القواسم الدلالية المشتركة بين المؤلف والقارئ، وهو الذي يحكم حركة المتناصات «إن التناص كالمؤلف تماما لا يكتسب وجوده إلا مع وعي المتلقي به، لنتصور مثلا ما يحدث على مستوى الأفق الاستبدالي داخل النص من مفردات وصور ليست موجودة داخله، ولكنها بدائل كان من الممكن للمؤلف أن يستخدمها وهي في غيابها حاضرة في تحديدها للوحدات التي استخدمت بالفعل في السياق، وإذا لم يكن القارئ معدا واعيا بهذه البدائل على مستوى الاستبدال فلن يكون للنص داخل العمل قيمة ومعنى.»
81
وقد اقترح البعض القيام بعملية إزاحة مؤقتة لسلطان المؤلف عن النص، ثم نعيده ضيفا عليه «إن مفهوم الموت لا يعني الإزالة والإفناء، ولكنه يعني ارتحال القراءة موضوعيا من حال الاستقبال إلى التذوق، ثم إلى التفاعل وإنتاج النص، وهذا يتحقق موضوعيا بغياب المؤلف، فإذا ما تم إنتاج النص بواسطة القارئ فإنه من الممكن حينئذ أن يعود المؤلف إلى النص ضيفا عليه.»
82
وهذا المعنى نجده عند بارت في أعماله المتأخرة، يقول في مقالة له بعنوان من الأثر إلى النص: «لا يعني هذا أن المؤلف لا يمكن أن يعاود الظهور مجددا في النص، في نصه، لكنه لو عاد سيكون في صورة مدعو.»
83
أخيرا، إن منح القارئ هذه الأهمية لم يكن يتطلب بالضرورة «تهميش المؤلف» واعتباره «آلة ناسخة للكلمات»؛ فموت المؤلف هو في الأصل تهميش للإنسان، لوجوده وفاعليته. النص أنتج في غير زمان ومكان ومؤلف. تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي «فعندما يتم عزل النسق يتم عزل التاريخ أيضا، فتغدو الأبنية كلية لا زمنية، أو هي أجزاء اعتباطية من عملية تغيير غير تاريخية ومتحولة أبدا.»
84 (2) ميشال فوكو: من تحليل فضاءات السلطة إلى تفكيكها
من أشهر فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين، فيلسوف وعالم اجتماع ومؤرخ، بدأ من البنيوية واستطاع أن يتجاوزها في مؤلفاته المتأخرة مقتربا من الإطار النظري لما بعد الحداثة.
85
اشتهر فوكو بدراسته المتعمقة لمفهوم السلطة، وهو مفهوم رئيس في الفكر الفلسفي ما بعد الحداثة. وقد قدم فوكو طرحا مختلفا لهذا المفهوم يختلف عن كافة الأطروحات التي قدمت من قبل، رغم تأثره الواضح بتحليل نيتشه لهذا المفهوم في سياق تحليله لإرادة القوة.
يعارض فوكو بداية، في نظريته في السلطة، التصور الماركسي الكلاسيكي ونظريات الحق الطبيعي. لا وجود لذات أو لفاعل يملك السلطة، مثلما لا وجود لجهاز (الدولة) ينفرد لوحده باستعمال السلطة. يقترح فوكو نموذجا استراتيجيا للسلطة، فلا ينبغي النظر إلى السلطة كملكية قارة ومستقرة في يد ذات فردية أو جماعية، وإنما يجب التفكير في السلطة كإنتاج لاستراتيجيات الصراع بين القوى. يتحدث نيتشه عن تعدد علاقات القوى وكثرتها، بحيث لا تنبع من ذات واحدة ممتلكة للقوة. فالسلطة هي علاقات قوى بحيث إنها تشكل نظاما وتسلسلا، أو انقطاعا وانفصالا. إنها منبثة في كل العلاقات الاجتماعية والرمزية المتصادمة. لا تفرض السلطة من فوق، بل تأتي من تحت، لا تنجلي في العلاقات الثنائية بين الحاكمين والمحكومين بل بالأحرى في علاقات القوة المجسدة في آليات الإنتاج داخل الأسرة، والمجموعات الصغيرة، وداخل المؤسسات، وتسري في الجسد الاجتماعي بأسره: «إن القوة تأتي من تحت، ومن ثم لا ثنائية ولا تعارض بين السائدين والمسودين في جذور علاقات القوة، ولا ثنائية تنطلق من القمة إلى القاعدة.» فالسلطة هي دوما شكل خاص ومؤقت لصراع ما يفتأ يتكرر، والصراع المتكرر بكيفية دائمة لا يسمح باستقرار السلطة؛ فهناك حرب لا هوادة فيها، دائمة ومستمرة من أجل السلطة، وامتلاكها رهين بالشروط المتغيرة، والاستراتيجيات المتقلبة، السلطة علاقة، والعلاقة تتغير باستمرار، لا يمكن الحديث عن مركز السلطة أو سلطة المركز، فهي منبثة ومنتشرة في كل مكان، وفي داخل الجسم الاجتماعي برمته. وبهذا المعنى فالسلطة غير منضبطة لحدود «السياسي»، إنها تتجاوز تخومه.
ما تفتأ الحداثة تولد أشكالا جديدة للسلطة تختلف عن إطار التصور الماركسي للدولة. فالدولة لا تحتكر السلطة كما هو شائع وكما تقترح النظريات الكلاسيكية للسلطة «توجد علاقات قوة بين كل نقطة في الجسم الاجتماعي: بين الرجل والمرأة بين أفراد الأسرة (...) بين كل من يعرف وكل من لا يعرف.»
إن السلطة هي نتاج لصراع لا يتوقف ولا ينتهي، كما أنها متحركة وليست مستقرة؛ إذ الصراع مستمر ودائم من أجل السلطة وبواسطتها. وامتلاك السلطة تتحكم فيه شروط كثيرة متغيرة، واستراتيجيات متقلبة. لهذا فهي تتحدد كعلاقات متغيرة بين قوى.
إن السلطة بهذا المعنى لا تنضبط بما هو سياسي، بل تتجاوز باستمرار مجال السياسي وتخومه. وهذا يعني أن السلطة غير قابلة للاختزال إلى الدولة - كما ترى الماركسية - لأن الدولة ليست وحدها التي تحتكر السلطة؛ لأن هذه الأخيرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا مركز لها، كما أنها متشظية ومبعثرة في كل أنحاء الجسد الاجتماعي. فهي توجد على صعيد الفرد الواحد، والمعرفة، والخطاب، والسلوك، كما توجد على صعيد الأسرة والمدرسة والمستشفى والقيم ... إلخ.
إن هذا الطابع الميكروفيزيائي للسلطة يثبت تهافت التصورات السياسية التي تختزلها في أجهزة الدولة؛ إذ السلطة شبكة
Un raiseau
لا مركز لها، ولا تتجسد في أي جهاز محدد حتى ولو كان ذلك الجهاز هو الدولة نفسها.
لا يعني هذا الكلام أن فوكو يقلل من شأن سلطة الدولة، وإنما يسعى أن يبين الطابع المنتشر للسلطة غير القابل للاختزال. وما ذلك إلا لأن الدولة لا يمكن أن تستنفد كل أشكال علاقات السلطة. ومن جهة أخرى فالدولة لا تستطيع القيام بوظائفها اعتمادا على ذاتها وقدراتها الخاصة؛ إذ هي في حاجة لخدمات الأسرة، والمدرسة، والشارع، والصورة، والمعلومة، والمعرفة، والرمز، ومختلف أشكال الإنتاج التقني والفني.
إن تركيز النظرية الماركسية للسلطة على الدولة عاجز عن تفسير ميكروفيزياء السلطة
Micro-physique du pouvoir ، فلا يمكن تناول هذا المفهوم المجهري للسلطة من منظور جهاز مركزي مجسد في الدولة، يبحث فوكو أيضا عن تشكل وإعادة إنتاج بنيات معقدة للسلطة بالاعتماد على النموذج الاستراتيجي الذي بمقتضاه تفهم العلاقات الاجتماعية للسلطة ضمن سيرورة يتم من خلالها توليد بؤر للسلطة في كل مكان، مثل شبكة في نظام لا مركز له، فالسلطة لا مركز لها، ولا تتجسد في جهاز سياسي، وبالتحديد في جهاز الدولة؛ فهي منتشرة في كل الجسم الاجتماعي، وغير ثابتة ولا مستقرة، وتتحول من مكان لآخر: «لا أزعم أن الدولة لا أهمية لها، ما أريد قوله، هو أن علاقات القوة، وبالتالي التحليل الذي ينبغي أن تخضع له، يتجاوز بالضرورة حدود الدولة. وذلك بمعنيين؛ أولا وقبل كل شيء لأن الدولة، وبالنظر إلى حضور كل أجهزتها، بعيدة كل البعد عن أن تكون قادرة على ملء مجمل علاقات السلطة؛ ثانيا لأن الدولة لا يمكن أن تؤدي وظيفتها سوى بالاعتماد على غيرها؛ أي على علاقات القوة الموجودة. إن الدولة هي بنية فوقية تدخل في علاقة مع كل سلاسل شبكات القوة التي تسكن الجسم، والجنسية والأسرة والمعرفة والتقنية وهلم جرا يعارض فوكو التصورات الاختزالية، والاستاتيكية للسلطة.»
86
إن مفهوم فوكو للسلطة يتجاوز المجال السياسي كما يتجاوز المجال الأيديولوجي؛ إذ هي ليست جهازا بل علاقة، وهي غير مستقرة ومتمركزة في مكان محدد، بل توجد مبعثرة في كل أنحاء الجسد الاجتماعي، إنها توجد في كل الأمكنة وخصوصا في تلك التي لا يعتقد أنها من الممكن أن توجد بها. إنها كما يقول فوكو «توجد في كل مكان ولا مكان بعينه»، لا مركز لها ولا أطراف لها، تحكم سيطرتها على كل شيء، وهي سيرورة بدون ذات، وليست مفعولا لذات فردية أو جماعية أو تاريخية أو رمزية، بل هي مفعول لنسيج من العلاقات والمؤسسات، مثل الأسرة والسجن والعيادة والمدرسة والحزب والمذهب ... إلخ.
في كتابه تاريخ الجنسانية
The History of sexuality
يذكر فوكو أن النموذج القانوني للقوة نلاحظه في صورة الأمير الذي يحدد الحقوق، والأب الذي يمنع أفراد العائلة، والمراقب الذي يلزم بالصمت ... في جميع هذه الحالات تتخفى القوة بصيغ قانونية، وفي جميع هذه الحالات يكون المطلوب هو الطاعة. فالفرد الذي يواجه القوة/القانون، هو الذات المطيعة. بكلمة أخرى، هناك قوة شرعية في جانب، وإنسان مطيع خاضع في جانب آخر. هذه القوة المطابقة للقانون هي قوة كبح أو قوة قمعية. إنها قوة سلبية مانعة، القوة التي تقول لا، فليس غريبا أن يكون رمزها السيف أو النسر أو الأسد.
كان ذلك في الماضي، في القرن الثاني عشر وعبر القرون التالية، غير أنه في القرن السابع عشر، وما تلاه، ظهر نوع جديد من القوة مضاد للنوع القديم الذي ارتبط بمفهوم سيادة الملك. هذا النوع الجديد يسميه فوكو «قوة النظام» وهو في رأيه من أعظم إنجازات المجتمع البورجوازي. وهو غير مرتبط بصورة القانون، ونقول: لا يمثله قانون من القوانين. وهو بالإضافة إلى ما تقدم، لا يقدر نظام الكبح أو القمع أن يصفه. هذا النوع الجديد من القوة لا يثبته مفهوم الحق، بل مفهوم التكنيك، ولا يفهم بالإشارة إلى القانون، بل بواسطة التطبيع، ولا بالعقاب، بل بالمراقبة والضبط؛ أي بطرق ووسائل تتعدى الدول وأجهزتها. هذا النوع من القوة لا يملكه فرد أو مجموعة من الأفراد؛ أي أنه ليس له مركز أو محل معين، إنه علاقة قوة تمارس مع لغة الصدق وإنتاج الصدق. يقول فوكو: «يجب تحليل هذه باعتبارها قوة دائرة أو بالأحرى كشيء لا يقوم بوظيفة إلا بصورة مسلسلة، فلا يمكن موضعتها هنا أو هناك، أو في يد إنسان، أو اعتبارها بضاعة، أو جزءا من ثروة. هذه القوة تستخدم أو تمارس عبر تنظيم يشابه الشبكة. والأفراد لا يدورون بين خيوطها فقط، إنهم دائما بوضع فيه يخضعون لهذ القوة ويمارسونها. وهذه القوة لا تفهم بتصور قانوني كعلاقة بين حاكم سيد ورعاياه، ولا بفكرة التضاد بين الدولة والمجتمع.»
باختصار نقول: إن فوكو قد استبدل المفهوم القانوني للقوة بما يسميه علاقة القوة الموجودة في كل ناحية من نواحي المجتمع؛ لأنها تنطلق من كل ناحية من نواحيه، كأنما شبكتها والمجتمع على هوية واحدة. وشبكة القوة هذه في المجتمع الحديث تقوم بالتطويع؛ أي بإخضاع الأفراد وصياغتهم وفقا للمعارف الجديدة؛ ففي كتابه النظام والعقاب: ولادة السجن، الذي هو أول كتاب يشرح فيه نظريته في القوة، يقول فوكو: «إن علوم الجريمة والطب والنفس والتربية والاجتماع ... وغيرها من العلوم الإنسانية، تنتج آليات وفنونا للمراقبة والفحص والتصنيف وصياغة الأفراد وتطويعهم وتطبيعهم وفقا لأنظمتها المعرفية.»
87
وبناء على ذلك يفترض فوكو أنه لا توجد معرفة لا تفترض وجود قوة وراءها، وليست هي مؤلفة لقوة في الوقت ذاته. والخلاصة أن فوكو يكشف القناع عن أن المجتمع المدني عبارة عن ذوات خاضعة لعلاقات القوة/المعرفة المتعددة المراكز في طول المجتمع وعرضه. •••
من ضمن القضايا التي اهتم بها ميشيل فوكو، وهي غير منفصلة عن تحليله لمفهوم السلطة، قضية العلاقة بين الصورة واللغة أو ما هو مرئي وما هو منطوق، وقد خصص فوكو كتابه الكلمات والأشياء لمناقشة تلك القضية، وقد ناقش الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بتوسع تلك الإشكالية في كتابه «المعرفة والسلطة» 1987م، والذي خصصه عن فوكو، وبحيث يمكن القول إن «التيمة الرئيسة لهذا الكتاب، هي التفرقة بين نظام المرئيات ونظام العبارات، وهي نفس تيمة كتاب «الكلمات والأشياء» لفوكو.»
88
وقد كان منطلق فوكو في هذا النقاش إبستمولوجيا؛ أي أنه كانت تشغله مسألة التعارض والاختلاف بين نمطي المعرفة، اللغوية والمرئية، وعلاقة ذلك بالوعي.
ينطلق فوكو في فهمه للعلاقة بين اللغة والصورة، من أن لكل منهما عالمه المستقل والمتمايز عن الآخر، وأنه ليس ثمة أولوية لأحدهما على الآخر «إن ما بين الكلام والرؤية، أو ما يرى وما يعبر عنه، ثمة انفصال، فما يرى لا يجد موقعه إطلاقا فيما يقال، والعكس بالعكس.» وثمة سبب مزدوج يمنع وجود اتصال بينهما: «للعبارة موضوعها الملازم الخاص بها، وهي لا تعدو قضية تحيل إلى ظرف ما أو موضوع بعينه، مثلما يقضي بذلك المنطق، لكن المرئي ليس معنى أبكم صامتا، أو مدلولا بالقوة يخرج إلى الفعل متجسدا في اللغة.»
89
ولعل فوكو بهذا الطرح يعبر عن رفضه لأطروحة بارت التي يقول فيها «إن العالم أبكم، وهو في حاجة إلى اللغة حتى ينطق»؛ فهو ينفي إمكانية أن تحل اللغة محل الأشياء، كما أن الصورة لا يمكن أن تحل محل اللغة، وفي السياق ذاته يقول بودريار: «لا أعتقد في وجود علاقة من أي نوع بين الصورة والنص، بين الكتابة وما هو بصري ... فالصورة والنص سجلان متفردان، ينبغي المحافظة على تفردهما.»
90
على أن هذا الاستقلال لا ينفي وجود علاقة بينهما، لكنها ليست علاقة تواؤم وتصالح، كما أنها ليست علاقة خصام وتشاكل، إنها علاقة صراع وعراك، صراع يتم داخل عملية التفكير ذاتها بين المشهد واللغة.
يربط فوكو بين إشكالية النص والصورة وإشكالية المعرفة عموما؛ إذ المعرفة يتجاذبها طرفان: الرؤية واللغة؛ وعملية التفكير في النهاية هي محصلة علاقة المشهد باللغة ... الصور بالكلام «يتشكل التفكير من الرؤية والكلام، غير أنه يتم بينهما، في الفراغ الذي يفصل الرؤية عن الكلام. إن التفكير يعني خلق الاشتباك في كل حين، إنه دوما تراشق بالسهام، تسليط بريق الرؤية على الكلمات، والإصغاء إلى همس الأشياء المرئية ... التفكير هو جعل الرؤية تبلغ حدها الخاص بها، وجعل الكلام يبلغ حده الخاص به. فيصيران معا الحد المشترك الذي يوصل الرؤية بالكلام والكلام بالرؤية؛ وذلك بالفصل بينهما.»
91
عملية التفكير إذا تتم من خلال التوتر الذي ينشأ نتيجة تصارع اللغة والصورة، تتم داخله، في الفجوة التي تفصل الكلام عن الرؤية.
لا يمكن اختزال عملية التفكير في ملكة واحدة، ليس التفكير فطريا ولا مكتسبا. ليس عملا تمارسه ملكة ما من الملكات، وليس بالمقابل اكتسابا يتلقاه المرء نتيجة احتكاكه بالعالم الخارجي. وهنا يعود فوكو إلى أنتونين أرتو
A. Artaud «فتجاه الفطري والمكتسب، وفي مقابلهما، يقول أرتو بالمتأصل
congénital ، تأصل التفكير كتفكير، تفكير يأتي من خارج أبعد من أي عالم خارجي، وأقرب بالتالي من أي عالم داخلي.»
92
ووفقا لفوكو فإن العالم يتكون من مساحات بعضها فوق بعض، وأنظمة عبارات أو أبنية، إلا أن هذه الأبنية يخترقها في الوسط شرخ يفصل بين اللغة من جهة، والصورة من جهة أخرى، يفصل بين العبارات والمرئيات في كل بناء من الأبنية؛ أي بين شكلي المعرفة اللذين لا سبيل إلى تقليصهما أو رد أحدهما إلى الآخر، ألا وهما الرؤية واللغة ... «نحن إذا مأخوذون في حركة مزدوجة، نتجه نزولا من بناء إلى آخر، ومن شريحة إلى أخرى، نعبر المساحات واللوحات والمنحنيات، نقتفي أثر الشرخ. بغية بلوغ داخل العالم، أو كما قال ملفيل: نبحث عن غرفة في الوسط والرهبة تتملكنا من ألا نعثر فيها على أحد.»
93
وفي هذا الاتجاه كان فوكو يؤكد أن المشادة أو العراك، يتطلبان مسافة عبرها يتبادل الخصمان «التهديد فيما بينهما والوعيد»، ويقتضيان أن مكان عراكهما «لا يمكن الوقوف عليه» أو إثبات وجوده في محل، مما يشهد على أن المتعاركين لا ينتميان لذات الفضاء الواحد، ولا يرتبطان بنفس الشكل «من الواجب التسليم بوجود عراك وصراع حقيقيين، أو على الأصح هجومات متبادلة وتراشق بوابل من السهام، وحملات للتقويض والهدم، وطعن بالرماح. علينا أن نقر بوجود معركة حامية الوطيس بين النص والصورة، سقوط الصور وسط الكلمات، بريق كلامي يجوب الصور، شقوق خطاب تتخلل شكل الأشياء، والعكس.»
94
إن الصورة والكلام ينطويان على شرط ومشروط، الضوء والرؤية، اللغة والعبارات، لكن الشرط لا يحتوي المشروط، بل يعرضه في فضاء تناثر وتفريق، ويعرض نفسه هو، كشكل خارجي «فبين المرئي وشروطه تنسل العبارات كما تنسل في لوحة ماجريت «هذا ليس غليونا». وبين العبارة وشرطها تنساب الرؤى، كما هو الأمر لدى «روسيل» الذي لا يكشف عن الكلمات دون أن يظهر الأشياء ... إن العبارات والرؤى تتصارع في عراك متبادلتين القسر والإكراه أو تستوليان على بعضهما البعض، مكونتين بذلك، في كل مرة، «الحقيقة».» من هنا قول فوكو «الكلام والرؤية ... رغم أنهما لا يتعلقان بذات الشيء، ورغم أننا نتكلم لا عما نراه، أو نرى ما لا نتكلم عنه؛ لكنهما معا، يكونان البناء المعرفي، ويتغيران، في الوقت ذاته، من بناء إلى آخر، وإن كان تغيرا لا تحكمه ذات القواعد.»
95
يقول دولوز عن كتاب الكلمات والأشياء لفوكو: «ما دمنا لبثنا عند حدود الكلمات والأشياء، فإننا سنتوهم أننا نتكلم عما نراه، ونرى ما نتكلم عنه، وأن الأمرين مرتبطان، ويعني هذا أننا نظل عند المستوى الاختباري ولا نتجاوزه بعد. لكننا بمجرد ما نتغلغل في الكلمات والأشياء، نكتشف العبارات والرؤى، فيرتفع الكلام والرؤية إلى مستوى أعلى قبلي، حتى إن كلا منهما يبلغ حده الخاص به والذي يفصله عن الآخر، مرئي لا سبيل إليه إلا بالرؤية، ومعبر لا سبيل إليه إلا بالكلام. ومع هذا، فإن الحد الخاص الذي يفصل كلاهما، يعد في الوقت ذاته الحد المشترك الذي يجمعهما والذي يتخذ وجهين غير متماثلين؛ كلام أعمى ورؤية صماء. وفوكو في هذا - وفقا لدولوز - قريب من السينما المعاصرة.»
96
إن العلاقة بين الرؤية واللغة أو التمايز بينهما يستدعي الحديث، وفقا لفوكو، عن الفينومينولوجيا، ذلك أن الفينومينولوجيا قدمت إسهامات عديدة حول هذه الإشكالية. اقترحت الفينومينولوجيا فكرة القصدية كمحاولة لتجاوز كل نزعة سيكولوجية وكل نزعة طبيعية، لكنها تظل، وفقا لقراءة دولوز لفوكو، حبيسة نزعتين: سيكولوجية، وطبيعية، إلى حد أن ميرلوبونتي قد صرح أن الفينومينولوجيا لم تعد تكاد تتميز عن «المذهب». فهي تؤسس من جديد نزعة سيكولوجية أساسها تركيبات الشعور والوعي، وفي الوقت ذاته، تؤسس لنزعة طبيعية أساسها «التجربة العيانية»
expérience sauvage
والإدراك المباشر للشيء من حيث هو ذاته حاضر أمام الوعي دون وساطة. هذه الازدواجية لم تستطع فكرة «القصدية»
Intention
تجاوزها؛ لأنها هي الأخرى لم تميز بين نمطي الوجود: اللغة والرؤية «ليس ثمة شيء قبل المعرفة، ولا وراءها. بل المعرفة مزدوجة ازدواجا يتعذر تقليصه أو اختزاله، إنها كلام أو رؤية، لغة ورؤية، وذلك هو السبب الذي من أجله ليس ثمة قصدية.»
97
ويرى فوكو أن الفينومينولوجيا، رغبة منها في إقصاء النزعتين السيكولوجية والطبيعية اللتين كانتا ما تزالان تثقلان كاهلها، تجاوزت بنفسها القصدية كعلاقة للشعور بموضوعه «أي الموجود»، مع هيدجر وميرلوبونتي، نحو الوجود ... انثناء الوجود
Le pli de l’être ، من القصدية إلى الانثناء، ما دام الوجود هو أساسا انثناء للوجود بالموجود. وما يريد أن يخلص إليه فوكو في هذا الصدد، وفقا لقراءة جيل دولوز، هو أن فكرة القصدية لا تصلح أن تكون أساسا لعلاقة الذات بالموضوع، وذلك في رأيه يعود إلى: (1)
أن الموضوع لا يتكون من طبقة واحدة وإنما من طبقات عديدة، وهو ما يطلق عليه «انثناء الوجود والموجود»؛ فهناك طيات عديدة للشيء الواحد، وهذه الطيات لا تكون حاضرة أمام الوعي مباشرة،
98
لذا فإن القصدية تقف أمامها عاجزة، وهذا، وفقا لدولوز، ما تنبه إليه هيدجر وميرلوبونتي «يعود الفضل إلى ميرلوبونتي، ومن قبله هيدجر، في أنه أوضح كيف يكشف الوجود عن نفسه كانثناء، وهذا هو موضوع المرئي واللامرئي.» (2)
أن اللغة تقف حائلا أمام قصدية الوعي لموضوعه؛ فميدان اللغة غير ميدان الرؤية، والمثال الذي يشير إليه فوكو في هذا السياق، هي لوحة ماجريت سابقة الذكر «هذا ليس غليونا»، فما يقصده الوعي في اللوحة هو الغليون، أو رسم الغليون، لكن تأتي العبارة «هذا ليس غليونا» لتقف حائلا أمام قصدية الوعي «كما لو كانت القصدية تدحض نفسها وتنهار.» (3)
إذا كانت المعرفة تتكون من شكلين أو نمطين: الرؤية واللغة، فإن كل شكل يفرض أدواته المستقلة والمميزة لنمط المعرفة الذي يقدمه، لكن القصدية لا تفرق بين هذين النمطين وتتعامل معهما كما لو كانا موضوعا واحدا «لا وجود مثلا لموضوع هل الحمق يتجه إليه وعي ما ويقصده. بل الحمق ينظر إليه بكيفيات مختلفة ومتباينة، ويعبر عنه بأساليب مختلفة كذلك، وفقا لعتبات كل عصر، فنحن لا نرى نفس الحمقى ولا نعبر عن نفس الأعراض.»
يبدو هذا النقد غريبا، خاصة عندما يكون مصدره فوكو، ذلك أن المنهج الفينومينولوجي، وإن لم يسع للتمييز الحاسم بين اللغة والصورة، لم يكن أبدا منهجا في الوصف أو الملاحظة التجريبية فقط، فإذا كان وصف ما هو معطى إحدى ثوابت المنهج الفينومينولوجي، فإن هذا الوصف ما هو إلا مرحلة من مراحل عدة؛ «فقد اتسع المنهج ليستوعب التفسير الذي يتجاوز ما هو معطى بشكل مباشر في الخبرة. والتفسير هنا هو كشف لمعاني طبقات مستورة من الظواهر.»
99
وبالتالي لا يمكن النظر إلى المنهج الفينومينولوجي على أنه صالح للتطبيق فقط على الموضوعات الحاضرة أمام الوعي بصورة تجريبية مباشرة، وكما لاحظ شبيجلبرج،
100
فليست كل معاني الخبرة والسلوك الإنساني سهلة المنال؛ فهناك حالات من الغموض متأصلة في قلب الظواهر نفسها، وليست على السطح، ولا يمكن الاقتراب منها عن طريق الوصف المباشر، من قبيل: مشكلات الوجود الإنساني وموقف الإنسان داخل عالم ملغز.
إن شرط المرئي هو الضوء
lumière
وشرط النص هو اللغة، لكن الشرط لا يحوي المشروط بل يعرضه في فضاء تناثر وتفريق، ويعرض نفسه هو، كشكل خارجي. لكن ثمة تداخل بين المجالين. تقتحم العبارات المرئي، ويقتحم المرئي العبارات، مثال الأولى لوحة «ماجريت» هذا ليس غليونا، والثاني كتابات ريمون روسيل. فبين ما يرى وما يعبر عنه، علينا أن نتصور جميع الصلات والمظاهر التالية: تغاير الشكلين، اختلاف طبيعتهما، عدم تطابقهما، تبادل التأثير، العراك والاشتباك، الأولية المحددة التي يمارسها أحدهما على الآخر.
101
من بين الأمثلة التي اعتمد عليها فوكو في هذا النقاش، لوحة رينيه ماجريت «هذا ليس غليونا»
Ceci n’est pas une pipe (1929م)،
102
وهي اللوحة التي كانت موضع تحليل من ميشال فوكو وكتب عنها مقالته «خيانة الصورة»
trahison de l’image ، ودارت بينه وبين ماجريت نقاشات عديدة حولها.
كل من يلقي ببصره على لوحة ماجريت، سيفاجأ، لا محالة، بغرابة هذه اللوحة التي تتقيد إلى أقصى حد بقواعد التمثيل مع أن كل ما فيها «يقول» بعكس «ما تصوره». يتعلق الأمر بهذه اللوحة التي تجسد في فضائها لوحة أخرى وقد رسم داخل إطارها غليون، وتحت هذا الغليون المجسد في اللوحة المرسومة، كتب بحروف بارزة: «هذا ليس غليونا»
ceci n’est pas une pipe . وفوق اللوحة المرسومة والمحمولة بمسند، يظهر غليون آخر كبير معلقا في الفضاء لا يخالف الموضوع المرسوم سوى في لونه المائل إلى السواد.
ما يرمي إليه ماجريت هنا في هذه اللوحة هو إزالة كل علاقة تمثيلية بين «المكتوب» و«المرئي»، فكأن للأول نظاما آخر لا يتقاطع مع نظام الثاني رغم أن الفضاء الذي يسبح فيه هذان الطرفان (أعني العبارة المكتوبة والغليون المرسوم) هو فضاء التمثيل الكلاسيكي لأن لا شيء فيه يخالف الفضاء المعتاد.
بالفعل إن ماجريت يتعمد بث التباين بين «الكلمات» و«الأشياء» ويواصل إبراز هذا التباين بأشكال مختلفة. فما من مرة قام فيها برسم شيء يحوي بداخله كلمات أو جملا إلا وتعمد التركيز على الاختلاف الذي ينخر «المكتوب» و«المرئي». لكنه بدل أن يقف عند هذا الحد فهو يمضي إلى حيث يكون بالمستطاع الوقوف على «تباين التباينات»
ècart des ècarts
حاذفا - مثلما يفعل بورجيس - القاعدة التي تستطيع توحيدهما في هوية مشتركة، وكأن ما يهمه بالدرجة الأولى ليس هو أن يتعرف المشاهد في موضوعاته المرسومة على نماذج أصلية، بل هو أن يطلق العنان لبناء صور تشبه دوما الموضوعات الواقعية لكنها لا ترتبط بها بأي رباط ماهوي.
لا داعي إذا لأن نبحث للغليون المرسوم في إطار اللوحة عما يطابقه في الواقع؛ فهو ليس إلا رسما، ولا داعي لأن نبحث للغليون المعلق في الفضاء عن موضوع ينطبق عليه، فهو ليس إلا «تشابها ضبابيا»
une similitude nuageuse
كما يقول فوكو، مثلما أنه لا داعي للبحث للعبارة «هذا ليس غليونا» عن موضوع تحيل عليه؛ فهي ليست إلا عبارة مكتوبة لا تشبه سوى نفسها ولا تمثل سوى ذاتها. أجل، إن كل هاته الموضوعات لا تعدو أن تكون سوى سيمولاكرات. ولهذا يصر فوكو في تعليقه على اللوحة نفسها بأن «التشابهات» عند ماجريت «لا تثبت ولا تمثل لأي شيء خارجها».
103
ما يحدث هو أن المشاهد للوحة ماجريت «هذا ليس غليونا»، دون أن يقرأ التنويه الذي يخترق اللوحة من أن الذي تشاهده ليس غليونا، يتبادر لذهنه على الفور أن ما يشاهده هو صورة لشيء مألوف ومتعارف عليه ب «الغليون»، لكن ما إن يقرأ تنويه ماجريت حتى تبدأ قناعاته القبلية في الاهتزاز، ليسأل نفسه إذا لم يكن هذا الذي أراه غليونا فأي شيء يكون؟ وما يلبث أن يحاول جاهدا التدقيق في اللوحة من جديد حتى يكتشف سبب هذا التنويه، أي محاولة للبحث عن الاختلافات التي قد تكون موجودة في الرسم بين الغليون «الذي هو ليس غليونا» والشيء المتعارف عليه في الحياة بأنه غليون، والتي دفعت الرسام لأن يضع تنويهه، لكن هذا التدقيق لن يسفر إلا عن خيبة أمل؛ إذ إن ما يشاهده في اللوحة هو غليون بالفعل. لكن المفارقة هي أن المشاهد لن يترك اللوحة وهو مقتنع أتم الاقتناع بصدق ويقين ما رأته عيناه، سوف يتركها وهو ما يزال في حالة من الالتباس، باحثا عن سر هذه العبارة التي تخترق اللوحة؟ وعما إذا كان ما رأته عيناه هو الحقيقي أم أن العبارة لها مبررها وبالتالي تكتسب مصداقية أكبر من الصورة المجسدة؟ وإذا ما سألنا المشاهد بعد ذلك عن موضوع اللوحة هل هو الغليون ؟ لن نجد إجابة واثقة، وإنما سيأتي الرد بربما ... ربما تكون غليونا، وربما لا.
أيهما يمتلك الأولوية، الصورة أم الكلمة؟ اللغة أم المرئي؟ بالتأكيد هذا هو التساؤل الذي كان يقصده ماجريت من لوحته؛ إذ لم يهدف ماجريت تقديم نوع من الخدعة البصرية المتعارف عليه في بعض التصاوير والتي فحواها «أن هذا الذي تشاهده يحتوي على شكل آخر إذا غيرت الوضع الذي تنظر من خلاله للوحة»، كما لم يقصد إثارة نوع من الالتباس والحيرة لدى المشاهد، إنما هو فقط أراد أن يطرح التساؤل السابق لكن بالرسم، يعضد هذا الرأي أن ماجريت لم يجعل من عبارته تعليقا أو اسما للوحته، كما هو الحال في لوحات أخرى، بل جعل العبارة حاضرة في فعل التلقي ذاته، في قلب الصورة ذاتها، بحيث يصعب تجاهلها، والاكتفاء بفعل المشاهدة.
ماجريت: هذا ليس غليونا.
ثمة مغزى آخر للوحة ماجريت؛ إذ يمكن النظر إليها على أنها تحمل رسالة مفادها «هذا ليس غليونا، إنه رسم.» فالغليون المرسوم، ليس غليونا بالفعل؛ إن هو إلا صورة غليون. مجرد رسم للغليون. وتلك هي الخيانة؛ لأننا لن نقدر في النهاية أن نمد أيدينا ونحشو الغليون تبغا، وندخنه، أو أن نقضم التفاحة (في لوحة هذه ليست تفاحة)! وهذا المعنى، الذي أراد ماجريت أن يقدمه يتقاطع مع العديد من أعماله الأخرى التي حاول أن يناهض من خلالها فكرة التمثيل في الفن، كما عرضنا لذلك في الفصل الثالث.
والواقع أن موضوع «خيانة الصورة» هذا كان محورا لأعمال ماجريت قاطبة. فهو كرسام كانت تشغله إشكالية العلاقة بين الصورة والكلمة. اللغة تختزل العالم والأشياء، في مجرد كلمات، وما تلبث هذه الكلمات بمرور الوقت أن تشكل حجابا كثيفا يقف حائلا بيننا وبين جوهر الأشياء؛ لذا كانت دعوة ماجريت لأن ننظر إلى عمق الأشياء لا إلى ظاهرها؛ لأن اسم الشيء لا يعني الشيء نفسه. فكلمة «وردة»، لا تحمل لون الوردة ولا رائحتها ولا جمالها، هي كلمة أطلقت من قديم على هذا الكائن البديع، وورثنا نحن الكلمة كدال على مدلول هو الوردة، لكن الدلالة والجمال والشكل والعطر لا تكون إلا في الوردة ذاتها. فاللغة، أية لغة، عاجزة بامتياز عن كشف هوية الشيء. والأسماء اعتباطية لا معنى لها؛ لذا سنجده في لوحة أخرى يرسم مجموعة من الأشياء: حذاء، بيضة، شمعة، قبعة، مطرقة، كوب؛ ثم يكتب جوار كل شيء اسما مخالفا لاسمه المتعارف عليه: الحذاء = قمر، البيضة = شجرة، الشمعة = سقف، القبعة السوداء = ثلج، المطرقة = صحراء، الكوب = رعد، فأي كلمة تصلح للإشارة إلى الأشياء، فقط إذا نظرنا إلى اللغة على أنها نسق تداولي، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الهيمنة للكلمة واللغة تظهر بقوة عندما يحدث احتكاك وتماس بين كلا النظامين. فحضور الكلمة داخل النص يحدث نوعا من التوتر، ويتلاشى تماما إذا كنا نجهل اللغة التي كتبت بها الكلمات.
ماجريت: عناق.
تذهب سوزي جابليك في دراستها عن ماجريت أنه هناك صلة جديرة بالملاحظة بين كتابات فتجنيشتين ولوحات ماجريت. كلاهما سعى لإظهار الطبيعة «النسبية» لاستخدامنا للكلمات؛ إذ ليس ثمة علاقة منطقية بين ما يكونه الشيء والاسم الذي اكتسبه. الاسم لا يمثل ما يكونه الشيء، بانعتاقها عن نعوتها المألوفة، تعود إلى جذورها، إلى حالتها الأصلية، قبل تدوينها في تصنيفات اللغة المتنوعة. واللغة أيضا تصبح منفصلة عن حقيقتها التقليدية.
104
لقد أعلن ماجريت ارتيابه بالصورة والكلمة ... المرئي والمسموع - المقروء، وأظهر هذا عبر استقصاءاته ... فلون جسد امرأة أو تفاح يمكن أن يستبدل بلون آخر مغاير للمألوف. الكلمة التي تشير إلى شيء مألوف يمكن أن تأخذ معنى مختلفا، كذلك بالإمكان استبدال شيء بكلمة. القابلية للتبادل وإحلال شيء محل آخر يحطمان صحة ومعقولية الإشارات المؤسسة في كلا الطرفين.
من جهة أخرى، فماجريت يظل رساما في المقام الأول، وليس فيلسوفا، واستبصاراته الحدسية عن اللغة والكلمات كانت دائما موجهة نحو تحديد الوظيفة التي كان ينشدها للوحاته. بمعنى آخر الصور أساسا هي التي كانت محور اهتمامه، وحين فعل ذلك، لم يكن مطلعا بعد على بحوث اللغويين المعاصرين. لقد كان دافع ماجريت في الرسم ذا طبيعة ثنائية ... ثنائية يمكن إدراكها في تخيلاته، التي هي سمعية وبصرية. صورة العالم، التي تركب نفسها مرة بعد أخرى في الذهن، تنشأ في موازاة هذين العنصرين. إن التحام السمعي والبصري يفضي إلى الصورة. فالتعبير السمعي «يتضمن أكثر مما هو منقول، عن طريق «الكلمات» و«اللغة». إنه يتصل بالموسيقى والكلمات معا، وهذا بالفعل أساس ما هو سمعي ... وفقا لما يذكره اللغويون. السمعي-البصري لا يشمل العبارات التي تظهر فيها الكلمات فحسب، لكن أيضا تلك التي لا تكون فيها الكلمات مرئية.»
لقد رأى ماجريت أشكالا لكنه في الوقت نفسه سمع الكلمات التي عن طريقها تحيا كأشياء في عقول البشر. شيئا فشيئا تصبح الكلمات أكثر وضوحا، في الوقت الذي يعزلها وعيه، كفنان، عن الأشياء، إن مشكلته كانت تكمن في التعارض بين عنصرين، عادة ما يصطدم بهما كل فنان: الأشياء والكلمات. هذا لا يعني أنه لم يكن ثمة تفاعل بين وعيه بالكلمات، ووعيه بالأشياء المرئية. فقط هو أراد أن يعبر عن أزمته، من خلال الخطوط والألوان ... وأيضا الكلمات.
ماجريت: الاستنساخ المستحيل.
أخيرا، لم يكن ماجريت فقط هو من حاول، عبر لوحاته، إثارة التساؤل حول علاقة الصورة بالكلمة؛ فالواقع أن الأهمية التي احتلتها الصورة في القرن العشرين، قد دفعت العديد من الفنانين إلى إعادة التأمل في طبيعة هذه العلاقة، وفي كتابه «دراسة الأيقونة: الصورة - النص - الأيديولوجيا» (1987م) يذهب ميتشل
W. J. Mitchell
إلى أنه من السمات البارزة في القرن العشرين هو التحول إلى ثقافة الصورة، ويرجع ذلك نتيجة مقاربة جديدة للغة. فلم يعد المبدعون والمنظرون يحللونها كمجرد تراكيب، بل تنبهوا إلى الخطاب الذي يخترق كافة وسائطها المرئية والمنطوقة-المكتوبة. وبالتالي يصعب الفصل بين تلك الوسائط كما كان معتادا، لوجود علاقة حوارية بين المرئي والمنطوق-المكتوب، تجلت بانتشار ظاهرة الكاتب- المصور. والتنقل بين اللغة المرئية والمنطوقة-المكتوبة لا يأتي اعتباطا، بل يستخدم الكاتب- المصور اللغة المرئية لتقويض أنساق اللغة المنطوقة-المكتوبة، كما يلجأ للغة المنطوقة- المكتوبة لفضح زيف الصورة.
105
فالتنقل بين الوسائط المتنوعة للغة يولد آليات جديدة لمقاومة كافة الأنساق السلطوية المتغلغلة في ثنايا المجتمع والأفراد. (3) جيل دولوز: من النسق إلى الجذمور
ثمة أوصاف عديدة قدمت لفلسفة دولوز؛
106
فهي تسمى ب «فلسفة الكثرة»، و«فلسفة الحدث»، و«الترنسندنتالية التجريبية»، و«فلسفة المحايثة»، ويطلق على نسقه «نسق المتعدد»، أما هو فيوصف ب «فيلسوف الاختلاف» و«مبدع المفاهيم»
107
إلخ. وربما تعود هذه الأوصاف إلى صعوبة تصنيف فلسفته داخل إطار واحد؛ فهو صاحب «فلسفة مفتوحة» تستوعب العديد من التفسيرات والرؤى. يقول ريمون بيلور: «إن أعمال دولوز على اتصال مباشر بالكل ... الفكر والفن والعلم والجسد والأحياء ...»
108
هذا بالإضافة إلى الحقول المعرفية العديدة التي ساهم فيها دولوز من خلال إنتاجه الفكري (الفلسفة، السياسة، علم النفس، اللغة، الفنون بكل أشكالها ...) كل هذا يجعل من الصعب تصنيف فلسفته، أو حتى تحديد اتجاه واحد لأعماله. يصف آلان بادو دولوز في الفصل الذي يحمل عنوان «أي دولوز؟»
Quel Deleuze?
قائلا: «لم يكن دولوز بنيويا ولا ظاهراتيا ولا هيدجريا ولا تحليليا، لقد كان قطبا بمفرده.»
109
من هذا المنطلق يرفض دولوز تصنيف فلسفته ضمن تيار محدد أو مدرسة بعينها «لا يمكننا الانتماء إلى مدرسة.»
110
وهو مثله مثل فوكو ودريدا يرفض أن يحسب على تيار ما بعد الحداثة؛ إذ يؤكد هو وجاتاري «على كونهم غير مرتبطين بهذه الحركة ويأخذون عليها كونها غير محددة ومتشائمة، ولكنهم في الوقت ذاته يتعاطفون مع مقاومتها لما يسميانه الخطاب المهيمن.»
111
وفي نفس السياق يرفض بادو
112
التفسير ما بعد البنيوي لفلسفة دولوز، ويعتبره حداثيا قحا، سيطرت على فلسفته فكرة «الكل» أو «الواحد» مثلما هو الحال مع سبينوزا وليبنتس وهيجل وغيرهم من فلاسفة الحداثة. وعلى النقيض من ذلك يذهب الناقد الماركسي تيري إيجلتون إلى أن دولوز هو المفجر الرئيس لتيار ما بعد الحداثة في الفلسفة، ويرى أن نزعة ما بعد الحداثة «لا نجدها في أي مكان أشد عنفا مما هي عليه في كتاب دولوز وجاتاري ضد أوديب.»
113
وهو نفس ما ذهب إليه إيهاب حسن
114
في كتاباته المتعددة عن ما بعد الحداثة، وينضم إلى هذا الرأي أيضا فيلب مانج الذي يعتبر كتاب دولوز «ألف ربوة» عبارة عن كتاب في «المنهج الجديد لما بعد الحداثة».
115
تميز أسلوب دولوز في الكتابة بالصعوبة والتعقيد؛ بحيث يصعب على قارئ أي من أعماله إيجاد رابط متصل، أو موضوع ثابت، أو مفاهيم محددة، فنصوصه لا تتقدم في اتجاه معين، بل تذهب في جميع الاتجاهات، وفي داخل النص تتولد المفاهيم في إيقاع متواتر سريع، وما إن يشعر القارئ بأنه كاد أن يدرك دلالة المفهوم حتى يجد هذا المفهوم قد تفرع وتشعب إلى مفاهيم صغرى متنوعة. وكما تقول باربرا كينيدي في كتابها «دولوز والسينما»: «إن دولوز شخصية متعددة الألوان والإيقاعات والتنويعات، فتقدم نصوصه بلاتوهات ولوحات واسعة التنوع، تقدم نفسها كأحداث وخطوط وأرض للمفاهيم وملاحظات وإيقاعات وتشكلات، إنها أشبه بالمسرح أو المصنع.»
116
وتستطرد قائلة: «إن أفكاره تتداخل وتتفاعل، فتنفصل وتتشتت وتتهشم وتتضاعف وكثيرا ما تتصادم بعنف لدرجة أننا نعجز عن بلوغ صيغة محددة للعمل الواحد.»
117
هذه الصعوبة التي تحدثنا عنها كينيدي، والتي يجمع عليها كل من كتب عن دولوز، نابعة من فهم دولوز الخاص لأسلوب وطريقة الكتابة الفلسفية.
إن الأسلوب المتعارف عليه في الكتابة الفلسفية هو الذي يبدأ، في الغالب، بتحديد المشكلة موضوع البحث، ثم التعامل معها بالمنهج أو الأسلوب الذي يتبعه كل فيلسوف، وصولا إلى التصور الذي هو بمثابة النتيجة. هذه الطريقة في الكتابة يطلق عليها دولوز «الطريقة الشجرية» نسبة إلى الشجرة المكونة من جذر وساق وفروع وأوراق وثمار. فالمشكلة تقابل الجذر في الشجرة، ويقابل الفرض الساق، والفروع والأوراق هي الفرض، وقد تشعب عبر التحليل إلى قضاياه المكونة له، وتكون الثمار هي المقابل للنتائج التي يستخلصها الفيلسوف في النهاية. هذه هي الطريقة المستقرة في الكتابة الفلسفية عبر تاريخ الفلسفة. وعوضا هذا الأسلوب في الكتابة يدعو دولوز لما أطلق عليه الكتابة الجذمورية
rédaction rhizomatique ، فما المقصود بالجذمور؟ وماذا تعني الكتابة الجذمورية؟
يقول دولوز: «إن أول شكل للكتاب هو الكتاب-الجذر؛ فقد كانت الشجرة هي صورة العالم، أو بالأحرى كان الجذر هو الصورة الشجرية للعالم، وقد تجلت هذه الأخيرة كأفضل ما يكون في الكتاب الكلاسيكي.»
118
إن ثنائية الجذر-الشجرة تبدأ بالمقدمات وتنتهي بالنتائج ، وهو أسلوب نمطي في الكتابة يلغي التعددية والاختلاف ويروم الوحدة والهوية ... أسلوب لا يرى في العالم إلا السكون والثبات. لا يرى الأشياء في حركتها وصيرورتها، ولذا فإنه يحتفظ دائما بالمنطق الثنائي في الكتابة والرؤية، إنه «فكر لم يفهم التعدد قط.»
119
بل يناقض الطبيعة والعالم؛ «لقد هيمنت الشجرة على الواقع الغربي، وعلى كل الفكر الغربي من علم النبات إلى البيولوجيا وعلم التشريح، وأيضا الإبستمولوجيا والثيولوجيا والأنطولوجيا والفلسفة برمتها.»
120
وبديلا لهذا لا بد أن تأتي الكتابة متسقة مع الطبيعة التي يحكمها مبدأ الصيرورة. فالطبيعة لا تعمل وفق المنطق الثنائي، إنما الفكر فقط هو الذي يحاول أن يخلع على الأشياء صفتي الثبات والاستقرار، وهذا غير حقيقي؛ «فالجذور تدور حول نفسها وتتفرع بكثرة، جانبيا ودائريا.»
121 •••
الجذمور أو الجذمار
Rhizom
نبات ينمو على السطح دون جذور في الأرض، ينمو أفقيا بعكس الشجرة التي تنمو رأسيا. •••
على الرغم من أن «الجذمور» اسم يستخدم في عالم النبات ليصف نوعا معينا من النباتات التي تنمو على السطح دون عمق لها داخل التربة، إلا أن دولوز استخدمه في كتابه «ألف ربوة» ليصف به أسلوبا في الكتابة استخدمه في معظم مؤلفاته، وارتبط بعد ذلك بمفاهيم أخرى عديدة طرحها دولوز عبر مؤلفاته التالية ... مفاهيم كالتعددية والترحال والصيرورة والسيمولاكرا ... فكلها في النهاية مفاهيم تشترك في نفس الصفات على نحو ما سنرى.
إن الجذمور ينمو على السطح بشكل أفقي في مقابل الشجرة التي تنمو بشكل رأسي. الجذمور يخلو من العمق وينتشر على السطح ويرفض الماورائيات. إنه أشبه بالشبكة؛ لذا يطلق عليه دولوز «شبكة الجذمور»
rhizome network
122
لا يمكن تحديد بداية أو نهاية للشبكة، فكل حلقة مرتبطة بأخرى؛ لذا فأي بداية هي بداية من المنتصف ... من الوسط؛ «إن أية نقطة من نقط الجذمور، بإمكانها أن ترتبط بباقي النقاط، ويتعين عليها القيام بذلك.»
123
والنقطة هنا في مقابل الخط. النقطة جذمورية، والخط شجري، النقطة منفصلة غير متصلة، في حين يكون الخط متصلا. لكن هذا الانقطاع الذي يميز الجذمور لا يعني القطيعة، إنما يعني أن الفكر في أساسه، وكذا الواقع أيضا، لا يسير وفق بناء خطي نسقي، أو بنية واحدة متسقة. إنما يسير وفق منطق التعدديات والتكاثر والتضاعف، هناك خطوط للإفلات والهروب دائما داخل الجذمور «فخط الهروب يشكل جزءا لا يتجزأ من الجذمور.»
124
لذا فالتفكير الجذموري لا يعرف الثبات والاستقرار، يعرف فقط الصيرورة والارتحال وخطوط الهروب والإفلات.
125
الجذمور هو صورة العالم الذي لا يحكمه قانون، ولا تسيطر عليه فكرة كلية شمولية واحدة، عالم متعدد اللغات واللهجات «ليست هناك لغة موجودة في ذاتها، ولا لغة كونية، بل تنافس اللهجات
dialectes ... اللهجات المحلية
patois
والعامية
argots
واللغات الخاصة.»
126
فاللغة واقعة متناظرة بالأساس، ولا يحكمها بناء محدد. السلطة فقط تحاول الحفاظ على شكل لغوي ثابت في الكتابة، والحديث، وحتى في الإنصات؛ والمشكلة هي الخضوع والاستسلام لهذا الشكل الثابت «لم تصنع اللغة من أجل الاعتقاد فيها وإنما من أجل الخضوع لها. حينما تفسر المعلمة عملية معينة للأطفال أو حينما تعلمهم التركيب، فإنها لا تعطيهم في الحقيقة معلومات، وإنما تمرر لهم تعليمات وتبلغهم أوامر وتنتج لهم تلفظات «وجيهة» وأفكارا «صحيحة» مطابقة بالضرورة للدلالات السائدة.»
127
سيحتل مفهوم «الجذمور» مكانة هامة في كتابات دولوز ربما بدرجة تفوق أي مفهوم آخر؛ إذ هو ليس فقط مصطلحا يكرس لمبدأ التعددية والاختلاف، بل سيمثل أسلوبا أو طريقة في التفكير والكتابة، بل والوجود في العالم أيضا «يتعلق الأمر بتطورات لا متوازية بين أشياء لا متجانسة، تطورات لا تعمل عبر التشكل وإنما تقفز من خط إلى آخر.»
128
وليست الشجرة ولا الجذمور استعارة، إنهما صورتان للفكر، الشجرة بها كل خصائص الاستقرار والثبات: إنها تتوفر على نقطة أصل، أو بذرة أو مركز، إنها بنية ونسق من النقاط والمواضع التي تعمل على حصر كل الممكنات في خانة واحدة. إنها تملك مستقبلا وماضيا، جذورا وقمة، تاريخا بأكمله يحكمه التطور والنمو في اتجاه واحد والعقل الإنساني مليء بالعديد من الأشجار: شجرة الحياة، شجرة المعرفة، شجرة السلطة، شجرة التاريخ. والسلطة نفسها شجرية، لها مركز ونواة، ودوائر تدور حولها، «إنها محور الدوران المنظم للأشياء والذي يكون على شكل دائرة.»
129
لذا فهي تسعى ، ما أمكنها، لأن تحافظ على استقرار هذا الوضع وهذه الطريقة في الحياة والتفكير، من هنا يعلن دولوز «لقد سئمنا من الأشجار، وعلينا ألا نثق فيها ولا في الجذور والجذيرات؛ لأننا عانينا كثيرا. ومعلوم أن كل الثقافة الحديثة تتأسس انطلاقا منها، بدءا بالبيولوجيا وانتهاء باللغويات.»
130 •••
إن الجذمور أو العشب الذي ينمو بين الأشجار وحولها هو القادر على «أن يهز دعائم الشجرة الحديثة للعلم الغربي.»
131
إنه نموذج متعدد المراكز والنقاط، خطوط الالتقاء فيه هي نفسها خطوط الهروب والإفلات. لذا فإن الجذمور يكون دائما بين الأشياء، وينمو من خلالها «تتطور الأشجار وفق التشكل الوراثي المسبق أو وفق التنظيمات البنيوية المتجددة. وليس هذا حال العشب أو الجذمور، إنه ينمو بين أواسط الأشياء الأخرى.»
132
إنه يملأ الفراغات والفجوات بين الأشياء. وليس المهم هنا تحديد نقاط بداية أو نهاية؛ إذ إن المهم دائما هو «الوسط»، فنحن دائما وسط طريق ما أو وسط شيء ما، نعيش دائما بين الماضي والحاضر، الحاضر والمستقبل. لا توجد بداية محددة نبدأ منها لأن كل بداية تسبقها بدايات، كما لا وجود لنهاية خالصة؛ فكل نهاية هي بداية جديدة لشيء ما «هذا ما يجعل من الممكن دائما أن يقال لمؤلف ما إن عمله الأول كان جامعا وشاملا منذ البداية، أو إنه لا يتوقف، بالعكس، عن التجدد والتحول.»
133
يرتبط مفهوم «الجذمور» عند دولوز بمفاهيم أخرى عديدة كالصيرورة والارتحال، التوطين وإعادة التوطين. كما يرتبط أيضا بمشروعه الفلسفي الذي يطلق عليه «قلب الأفلاطونية»، ونقده «للتحليل النفسي». كما أنه حاضر باستمرار في رؤيته للفن والاستطيقا. وربما ستتضح هذه المفاهيم وعلاقاتها المتشابكة عندما نتقدم خطوات أخرى في التحليل. غير أن هذا المفهوم أيضا يرتبط بالأسلوب الذي اتبعه دولوز في كتاباته؛ فما إن نبدأ بالقراءة في عمل من أعماله حتى نشعر بالتشتت والارتباك، والانتقال السريع من فكرة لأخرى، ومن مفهوم إلى آخر.
لا تعمل الكتابة الدولوزية وفق النموذج الخطي المتسلسل المتعارف عليه، إنما وفق نموذج الشبكة متعددة المراكز. الكتاب كصورة جذمورية، ضد الصورة الشجرية في الكتابة. ممارسة الكتابة كتعددية وصيرورة بدلا من ممارستها كبنية مغلقة. كتابة ليست رصدا، ولا تتبعا، ولا انعكاسا وتأملا، كتابة تحتفي بالانبثاق والاقتباس والخيانة. يقول دولوز عن تجربة الكتابة المشتركة مع فليكس جاتاري «لقد سرقت فليكس وأرجو أن يكون قد قام إزائي بالشيء ذاته.»
134
فالكتابة دائما تتم «مع» و«بين» «إننا نكتب دائما مع أحد ما لا نسميه حتى عندما نعتقد أنه لا يشاركنا شخص آخر في الكتابة.»
135
الكتابة عند دولوز هي آلة منتجة للمعنى ... آلة حرب موجهة ضد كل أشكال السلطة، لكنها آلة غير نسقية «إنها عبارة عن حلقات مفتوحة.»
136
منفتحة على الخارج، تحيل إليه، ويحيل إليها «إن الكتاب لا يوجد إلا في الخارج وبواسطته.»
137
وهو يرتبط بتركيبات وخطوط أخرى عديدة «فالكتاب ليس صورة للعالم كما ترسخ في الاعتقاد. إنه يشكل جذمورا مع العالم، بحيث يوجد تطور لا متواز بينهما؛ فالكتاب يضمن ترحال العالم، لكن هذا الأخير يعيد توطين الكتاب الذي يرحل بدوره وبذاته داخل العالم.»
138
إن العالم ليست له صورة ثابتة تحاول أن تحاكيها الكتابة؛ لذا فالمطلوب هو رسم خارطة للعالم عبر الكتابة، لا محاولة نسخه ومحاكاته.
ولعل كتاب دولوز وجاتاري «ألف ربوة»
Mille Plateaux
يعد نموذجا تطبيقيا لأسلوب الكتابة الذي يحدثنا عنها دولوز. ولعل عنوان الكتاب في حد ذاته يبدو موحيا؛ فمفردة ربوة استعارها دولوز وجاتاري من جريجوري باتيزون
Gregory Bateson
والتي استخدمها في كتابه «نحو إيكولوجيا الروح»
Vers une écologie de l’esprit
وكان يعني بها «منطقة زاخرة بالطاقة ومتوهجة، تتفادى كل توجه نحو نقطة مرتفعة أو نحو نهاية خارجية.»
139
إن الربوة توجد دوما في الوسط، فلا بداية لها ولا نهاية. وكلمة «ألف» تفيد التعددية، إنها «ألف ربوة وربوة»، كل ربوة منفصلة عن الأخرى، لكن هناك خطوط وإشارات ضوئية ... نقاط للتلاقي، هي نفسها خطوط للهروب، إن الربوة ليست استعارة؛ فالأمر يتعلق بمناطق تغير متواصل أو بما يشبه الأبراج التي يراقب كل منها أو يستطلع منطقة ما، وتتبادل الإشارات.
140
هذا من حيث عنوان المؤلف، أما الكتاب نفسه فلم يأت على شكل فصول مسلسلة؛ «فالكتاب المكون من فصول، يتوفر على نقاط ذروته ونهايته ، فما الذي يحدث بالمقابل، بالنسبة لكتاب مؤلف من ربوات تتواصل فيما بينها عبر شقوق مجهرية.»
141
لذا فليس للكتاب بنية أو موضوع محدد، إنه مليء بالفجوات، وخطوط الهروب «لقد قسمناه إلى ربوات وأعطيناه شكلا دائريا.» ومن هذا المنطلق فإن من الممكن قراءة كل ربوة بصورة منفصلة، وهذا هو التنويه الذي افتتح به دولوز كتابه «لا يتألف الكتاب من فصول إنما ربوات، وسنحاول فيما بعد توضيح لماذا استخدمنا هذه الطريقة، ولماذا أعطينا كل ربوة تاريخا محددا.»
142
وإلى حد ما يمكن قراءة كل ربوة من هذه الربوات على حدة، وبشكل مستقل، باستثناء الخاتمة التي ينبغي قراءتها في النهاية.
143
لقد أراد دولوز من كتابه هذا ممارسة «الكتابة الجذمورية» وهي كتابة تقطع الصلة بالخطاب الفلسفي التقليدي، كتابة تقف ضد فكرة التاريخ المتواتر «فكل ربوة تمثل لحظة زمنية غير مرتبطة بالتي تسبقها أو تلحقها»، لكنها في الوقت نفسه تهدف إلى خلق همزات وصل بين حقول معرفية منعزلة عن بعضها. •••
هكذا تصور دولوز أسلوب الكتابة ووظيفتها، وهو أسلوب طبقه دولوز في معظم مؤلفاته؛ لذا فإن قراءة هذه المؤلفات أشبه «بالمغامرة»، ولا بد أن نمتلك استراتيجيات للقراءة ونحن نتعامل معها؛ ولهذا السبب أيضا لا تعد قراءة دولوز «بالمهمة السهلة»،
144
إنها «أعمق دراما» بحسب توصيف جيمسون،
145
بل إن البعض يجعل من هذه الصعوبة سببا لعدم انتشار فلسفته بالقدر الكافي مقارنة بباقي أقرانه ما بعد البنيويين.
146
لكن على أي حال تعددت المداخل لقراءة فلسفة دولوز: فميشال هارد
M. Hardt
147
يقرؤها في سياق الانقلاب ما بعد البنيوي على الفلسفة الهيجلية؛ وهو ينظر إلى فلسفة دولوز بوصفها جمعا أو توفيقا بين أنطولوجيا برجسون وأخلاق نيتشه وتعبيرية سبينوزا، وهو يرى أن فلسفة دولوز إجمالية الطابع، وأنه لم يغير من آرائه واتجاهاته منذ أول أعماله حتى آخرها. أما آلان بادو صديق دولوز فيرى - خلافا لكل التأويلات التي تذهب إلى اعتبار فلسفة دولوز فلسفة للتعدد والرغبة - أن حقيقة فلسفته تكمن في كونها تتحرك نحو هدف واحد يطلق عليه «بزوغ الواحد»
survenance de l’un ، وهو ما أطلق عليه دولوز نفسه «الواحد -الكل»
l’un-tout ، ويحصر بادو هذا «الواحد-الكل» عند دولوز، في الوجود والمعنى؛ «فالمسألة الأساس في فلسفة دولوز لا تتمثل بالتأكيد في تحرير المتعدد بل في إخضاع الفكر في مفهوم متعدد للواحد.»
148
ويؤكد بادو أن فلسفة دولوز في مجملها تدور حول محور واحد هو «ميتافيزيقا الواحد»
métaphysique de l’une (الوجود بوصفه الحدث الوحيد الذي تتم فيه كل الأحداث). في نفس السياق أيضا يرى تايلور هامير
Taylor Hammer
أن المشروع الفلسفي لدولوز هو استمرار للمشروع الأنطولوجي لهيدجر رغم اختلاف النسق الاصطلاحي لكل منهما، وهو يستند إلى بعض مقولات دولوز التي وردت في كتابيه «الاختلاف والتكرار» و«منطق المعنى» مثل «أن الفلسفة تلتحم/تتوحد بالأنطولوجيا» و«من بارميندس
إلى هيدجر
Heidegger
هو صوت واحد يتردد ... محيط واحد لكل القطرات ... نداء واحد للوجود.»
149
لكن على النقيض من ذلك يرى رونالد بوج
R. Bogue
150
أن المشروع الفلسفي لدولوز قائم على إحلال حرف العطف (et)
محل الرابطة (est) ؛ أي التعددية محل الهوية، ويرى أن فلسفة دولوز تعطي الأولوية للحدث المفرد على الوجود بمعناه العام، وبالتالي فالأنطولوجيا كخطاب ميتافيزيقي مجرد ليست مطروحة في فلسفة دولوز، كما أن دولوز لم يدع أن الوجود سابق على المعرفة كما ذهب إلى ذلك ميرلوبونتي وهيدجر؛ ففلسفته في الأساس تقف أمام كل «الماقبليات» و«الماورائيات».
إلى نفس هذا الرأي أيضا ينضم فيلب مانج في كتابه «نسق المتعدد»، فهو يقرأ دولوز من خلال مفهوم «التعددية» وهو سيتتبع هذا المفهوم في كتابات دولوز بدءا من «الاختلاف والتكرار» وحتى كتابيه عن «السينما». ففكرة الاختلاف هي السلاح الذي يشهره دولوز في وجه كل الفلسفات الشمولية التي لا مكان فيها إلا لمنطق الهوية والوحدة. إن دولوز - حسب توصيف مانج - فيلسوف «لا يعتمد على مبادئ، ولا يتحرك انطلاقا من نقطة مركزية يحدد منها وجهته. وهو أيضا لا يسعى إلى إيجاد رابط يصل الأشياء بعضها ببعض. إنما هو يزيد من تأزم اختلافها.»
151
على أي حال يقرأ مانج دولوز بوصفه فيلسوفا ما بعد حداثي يؤسس لقانون الحدث بمعناه الفلسفي في مواجهة المبادئ الفلسفية الكلاسيكية المؤسسة على ميتافيزيقا الحقيقة والتمثيل. أما كلير كوليبروك
Claire Colebrook
152
فتقدم مقاربتها لفلسفة دولوز من خلال مجموعة من المفاهيم - وهي الطريقة الأجدى في رأيي. فلما كانت الفلسفة عند دولوز - على نحو ما سنرى - آلة منتجة للمفاهيم، ولما كان دولوز قد مارس ما ارتآه وظيفة الفلسفة - وهي إنتاج المفاهيم، فإن المدخل المناسب لفهم فلسفته هي المفاهيم التي طرحها ونادى بها، مع محاولة الكشف عن العلاقات بينها. من هنا تحدد كلير مجموعة من المفاهيم التي ترى أنها تشكل منظومة حاضرة وبقوة في كل مؤلفات دولوز، ومن هذه المفاهيم «الصيرورة، واللاأقلمة ، التجريبية المتعالية، الرغبة، السيمولاكرا، الآلة، الإدراك الحسي، الزمن ... إلخ.» وهناك أيضا قراءات أخرى عديدة لفلسفة دولوز؛ فجيمس بروسو يقرؤها بوصفها «قلبا للأفلاطونية»،
153
وآدم كوبير بوصفها «فلسفة للجسد»،
154
وجون راجمان بوصفها «فلسفة حياة» ...
155
إلخ. •••
لم يكن دولوز من الفلاسفة الذين نادوا ب «موت الفلسفة» أو نهايتها، أو حتى من الذين فقدوا الثقة في أهميتها وجدواها استنادا للتقدم الذي حدث في الحقول المعرفية الأخرى وتخلف الفلسفة عن الركب، يقول دولوز في «ما الفلسفة»: «لم يكن لدينا على أي حال، مشكلة تتعلق بموت الميتافيزيقا أو بتجاوز الفلسفة؛ فتلك الأفكار هراءات لا جدوى منها. هل نستمر الآن في الحديث عن إفلاس المذاهب والأنساق، بينما كل ما حدث أن مفهوم النسق هو الذي تغير.»
156
كانت ثقة دولوز في الفلسفة مستمدة من تصوره لوظيفتها أو ماهيتها التي لا يلحق بها التقادم. «الفلسفة آلة منتجة للمفاهيم» و«الفيلسوف صديق المفهوم»، هذا هو التحديد الدولوزي لماهية الفلسفة. والواقع أن قيمة هذا التحديد في حد ذاته، بصرف النظر عن مضمونه، تكمن في أنه جاء في الوقت الذي بات ينظر فيه إلى الفلسفة على أنها «ميدان من البحث غير مرغوب فيه» أو الدعوة إلى «تحلل الفلسفة وتماهيها مع بعض الحقول المعرفية الأخرى». أصبحت الفلسفة الآن تبحث عن مأوى بعد أن كانت هي المأوى للعديد من المعارف، والواقع أن الأمر لا يستدعي الحسرة والألم بقدر ما يتطلب إعادة التساؤل عن ماهية الفلسفة، وعن دورها ووظيفتها التي تضطلع بها في الوقت الراهن. ولئن كان تاريخ الفلسفة يحفل بالعديد من الفلاسفة الذين كانوا دائمي التساؤل عن ماهيتها؛ فإن هذا يعني أنه سؤال أزمة، كما أنه سؤال متجدد، تختلف محاولات الإجابة عليه وفقا لمقتضيات كل عصر وظروفه.
ليس الفيلسوف - وفقا لدولوز - ذلك الشيخ الحكيم القادم من اليونان الذي يعبر عن أفكاره بالرموز والصور الشعرية والأشكال الخيالية، والذي يدعي امتلاك الحقيقة والاتحاد بالمطلق، بل الفيلسوف هو ذلك العاشق المحب للحكمة والمفهوم، وبمعنى أدق هو صديق الحكمة، والراغب فيها. وهذه الصداقة لا تخلو من أنداد ومنافسين ، وقد عبر أفلاطون من قبل عن هذا المعنى عندما قال: «إذا كان كل مواطن يطمح إلى شيء ما، فإنه يواجه بالضرورة منافسين ... فقد يطمح النجار إلى الخشب، لكنه يصطدم بحارس الغابة والحطاب وصانع الخشب الذين يقول كل واحد منهم: أنا ... أنا صديق الخشب.» وكذلك الحال أيضا مع الفيلسوف؛ إذ سنلتقي بالكثير من المدعين الذين يقول كل منهم «إن الفيلسوف الحقيقي هو أنا ... أنا صديق الحكمة.» وهكذا كان الحال مع أفلاطون عندما قام بالتمييز بين الفيلسوف وأدعياء الحكمة، وأرسطو عندما فرق بين الخطاب الفلسفي وأنواع الخطابات الأخرى. وقد ظلت الفلسفة طوال تاريخها تصطدم بالعديد من الأدعياء والمنافسين، لكن الخطر الآن أشد وأكثر قوة؛ لأن المنافسة قديما كانت محصورة بين شخص الفيلسوف ومن يدعي التفلسف، أما الآن فالفلسفة ذاتها هي التي تدخل المنافسة أمام ميادين وحقول معرفية أخرى تريد أن تحل محلها، أو تقوم بوظيفتها. ولم يكن هذا ليحدث إلا لأن الفلسفة أهملت باضطراد ميولها نحو إبداع المفاهيم، كيما تحصر نفسها داخل الكليات «ليس المؤلم هو هذا الاغتصاب الوقح، وإنما هو أولا وقبل كل شيء، التصور الفلسفي الذي يجعل مثل هذا الاغتصاب ممكنا.» فالفلسفة عبر نزوعها المثالي والماورائي هي التي جعلت الفرصة سانحة أمام العديد من الميادين الأخرى كيما يقوموا بالسطو على دورها «لقد التقت الفلسفة منذ عهد ليس ببعيد بمنافسين جدد كثيرين كعلم الاجتماع واللغويات والتحليل النفسي، وقد بلغ العار مداه أخيرا حينما استحوذت المعلوماتية والتسويق التجاري وفن التصميم والدعاية، وكل المعارف الخاصة بالتواصل، على لفظة المفهوم ذاتها وقالت: هذه من مهمتنا، نحن الخلاقين، نحن منتجو المفاهيم، نحن وحدنا أصدقاء المفهوم، نجعله داخل حاسوباتنا.» لقد تحول المفهوم الآن إلى سلعة تباع وتشترى وأصبح أداة في يد الإعلام وشركات الدعاية والإعلان «أصبحت الصورة الوهمية هي المفهوم الحقيقي، وأصبح المقدم، العارض للمنتج، سلعة كانت أو لوحة فنية، هو الفيلسوف مبتكر المفاهيم أو الفنان.» لكن هذه المنافسة وهؤلاء الأنداد الجدد، لا يضيرون الفلسفة «بقدر ما يجعلها تشعر بحيوية لأداء مهمتها الحقيقية، وهي خلق المفاهيم .»
عندما أعاد دولوز طرح سؤال «ما الفلسفة؟» في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته - والذي صدر في نهايات القرن العشرين - لم يكن يبغي وضع إجابة تقريرية له (الفلسفة هي كذا وكذا ...) بل كان يسعى بالأحرى إلى تحديد الميدان الخاص بالفلسفة وتمييزه عن باقي الميادين الأخرى. وهذا ما يحقق للفلسفة تفردها وتميزها، ويجعل منها ولها كيانا مستقلا ووظيفة متجددة دوما. وعلى الرغم من أن السؤال عن «ماهية الفلسفة» يصلح دائما كمدخل أو مقدمة لفلسفة أي فيلسوف، كيما يحدد من خلال الإجابة عليه رؤيته للعالم، ومن ثم منهجه واتجاهه؛ إلا أن الأمر يبدو خلاف ذلك. إذ يبدو السؤال هنا وكأنه تتويج لحياة الفيلسوف، إنه أشبه بالمراجعة المدروسة للفكر؛ فالفلسفة التي تسأل سواها، تعيد النظر في مجمل ما تراكم لديها من أجوبة، لتطرح من خلالها سؤال نفسها عينه. إنه أشبه بسؤال رجل على مشارف الموت عن «ماهية الحياة»، إنه سؤال أزمة لا سؤال معرفة. هناك لحظة لا بد أن يتساءل الفيلسوف فيها عن «ما هي الفلسفة؟» أو كما يقول دولوز «كنا شديدي الرغبة - نحن الفلاسفة - في إنتاج ما يعود إلى الفلسفة، دون أن نتساءل: ماذا كان عليه ذلك الشيء الذي قمت به طيلة حياتي؟»
157
وغالبا ما تأتي هذه اللحظة في المرحلة المتأخرة من العمر «لحظة أن تتجمع وتأتلف كأجزاء الآلة فيما بينها كيما يتم إرسال خط في المستقبل يخترق كل العصور ...»
158
إنها اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، لحظة التحرر من كل القيود، ومن كل الاندفاعات النظرية والعملية، ومن كل الحسابات والاعتبارات الانتمائية ... إنها الساعة التي تقول فيها «هذا هو بالضبط ما كان يشغلني، لكني لست أدري إن أحسنت التعبير عنه، أو إن كنت مقتنعا بما يكفي.»
159
يبدأ دولوز تحديده لماهية الفلسفة باستبعاد التعريفات السائدة والمستقرة التي قدمت لها. أشهر هذه التعريفات أن الفلسفة مرادفة للتأمل النظري أو التفكير المجرد، يرفض دولوز أن تكون الفلسفة في تميزها واختلافها عن العلوم والمعارف الأخرى مجرد تأمل
contemplation ؛ لأن التأمل ليس خاصية تميز الفيلسوف بل يشاركه فيها رجل العلم والسياسي والفنان وحتى رجال الدين، بالإضافة إلى أن تجربة التأمل هي تجربة ميتافيزيقية تبعدنا عن الواقع وتجعلنا نهتم بالكليات، ولا تمكننا من إنتاج أشياء جديدة، وإنما تسقطنا في وهم الانتصارات اللازمانية على الفلاسفة والحكم على جهودهم بطريقة اختزالية متسرعة وباطلة تأثرا بالرغبة في الهيمنة والتميز. كما يرفض دولوز أن تكون الفلسفة مجرد تفكير أو انعكاس الفكر على ذاته
réflexion
لأنه بهذه الطريقة سنثير الغبار ونشكو من عدم الرؤية، وتضيع أقوالنا ولا تصل إلى مسامع مخاطبينا وراء الجلبة التي نحدثها بأنفسنا. ولأن الإنسان ليس دائما وأبدا في حاجة إلى تعلم الفلسفة من أجل القيام بالتفكير في أشياء تخص عالم الحياة الذي يعيشه، كما أن العلوم والفنون المختلفة ليست في حاجة للفلسفة من أجل التفكير في قضاياهم المتعددة، بالإضافة إلى أن التفكير ليس بحد مميز للفلسفة، بل هو نشاط عام يشترك فيه الجميع، يقول دولوز: «نحن نعتقد أننا نمنح الفلسفة قدرا كبيرا حينما نجعل منها فنا للتفكير، لكننا في الواقع نجردها من كل شيء، فالرياضيون لم ينتظروا أبدا مجيء الفلاسفة لكي يفكروا في الرياضيات، كما لم ينتظر الفنانون مجيء الفلاسفة للنظر في الرسم والموسيقى.»
160
أما الرأي الثالث الذي يقول بأن الفلسفة تعني «التواصل»، وهو رأي هابرماس الذي ذهب إلى أن وظيفة الفلسفة هي صياغة الحقيقة التي تحظى بالإجماع
consensus
عبر التواصل
communication
بمعناه العام، سواء بين الأفراد والجماعات أو بين المذاهب والتيارات، أو حتى بين المراحل التاريخية المتعاقبة. يرفض دولوز رأي هابرماس - المعاصر له، ويبرر ذلك بأن الذي يحرك الجمهور ويؤثر في الحشود ويصنع الرأي العام ليس العقل والمفهوم، بل الأهواء والعواطف والمصلحة؛ ولذلك ينفي أن تكون الفلسفة وليدة النقاش بين الناس عبر الموائد المستديرة في الساحات العامة؛ لأن الفلسفة لها مائدتها المستديرة التي تخصها. ذلك بالإضافة إلى أن النقاش العام هو معركة بين الآراء والظنون كثيرا ما ينتهي إلى التنازع والصراع، ويحركه مبدأ إرادة القوة، وهو نقاش عقيم لا يبدع سوى آراء وليس أفكارا. أما الحوار العقلاني على المائدة الفلسفية فهو حوار جاد ميدانه اللغة العقلانية، ومقصده هو المفاهيم والمعاني.
إن المشكلة الأساس في التعريفات السابقة هي أنها كانت وما زالت مسكونة بهوس تشكيل الكليات
universaux
داخل مجمل الميادين، وهذا مرجعه حلم قديم ورغبة في سيطرة الفلسفة على المجالات المعرفية الأخرى. والمثال الأبرز هنا فكرة «الروح المطلق» التي نادى بها هيجل وجعل منها مبدأ كونيا مفسرا لكل شيء ... الفن والدين والتاريخ، والنتيجة ... الإغراق في العموميات ونفي التعدديات؛ لذا يقول دولوز: «المبدأ الأول للفلسفة هو كون الكليات لا تفسر أي شيء، بل ينبغي أن تكون هي موضع تفسير.»
161
والخلاصة كما يقول دولوز: «ليست الفلسفة تأملا ولا تفكيرا ولا تواصلا حتى وإن كان لها أن تعتقد تارة أنها هذا وتارة أنها ذاك.»
162
لا تتحدد قيمة الفلسفة - بحسب دولوز - وفقا لما تنتجه من مناهج أو مذاهب؛ فليس المنهج سوى أداة نسقية للتعامل مع الظواهر ... أداة لاختزالها وإدراجها في وحدة زائفة. كما أن المدارس والمذاهب الفكرية لم يعد لها وجود؛ لأن الوقائع الآن لم تعد تحتمل في تفسيرها أية أفكار كلية شمولية. يحدد دولوز مهمة الفلسفة في كونها إبداع وابتكار للمفاهيم، تلك هي الروح الأصلية للفلسفة منذ الإغريق وحتى الآن «كلما تم إبداع المفاهيم في مكان وزمان ما، فإن العملية المؤدية إليه ستسمى دائما فلسفة، أو لن تتميز عنها نهائيا حتى وإن أطلق عليها اسم آخر.»
163
إن الفلاسفة العظام الذين يحتلون مكانة رئيسية في تاريخ الفلسفة هم مبتكرو المفاهيم أو مجددوها، وكما يقول نيتشه: «لا ينبغي أن يكتفي الفلاسفة بقبول المفاهيم التي تمنح لهم مقتصرين على صقلها وإعادة بريقها، وإنما عليهم الشروع بصنعها وإبداعها وطرحها وإقناع الناس باللجوء إليها.» لا بد أن يكون للفيلسوف إذا إسهامه في مجال إبداع المفاهيم، وإلا فإنه يتخلى بذلك عن المهمة الأسمى للفلسفة؛ «لا تكون المفاهيم في انتظارنا وهي جاهزة كما لو كانت أجساما سماوية. ليست هناك سماء للمفاهيم، بل ينبغي ابتكارها وصنعها، أو بالأحرى إبداعها، ولن تكون أي شيء إن كانت لا تحمل توقع مبدعيها.»
164
إن المفاهيم بحسب دولوز تكون محايثة بنفس القدر الذي تكون فيه متعالية، إنها تكثيف للحدث «فأن نفكر معناه أن نجرب.»
165
لكن التجربة هنا لا تشير إلى المعنى الفيزيقي الحسي، إنما تعني أن الفكر مهما بلغت درجة تجرده يرتبط بمسطح محايثة ما، بأرض أو بإقليم معين؛ لذا فلا بد أن نتساءل عند تعاملنا مع أي مفهوم عن مسطح المحايثة الذي يشغله، وغالبا ما يكون هذا المسطح مرتبطا بمشكلة أو معضلة واقعية تواجه الفيلسوف «وإذا لم نجد المعضلة المصاحبة للمفهوم فإن كل شيء يبقى تجريديا.» لقد أبدع أفلاطون مفهوم المثال - رغم تعاليه - فوق مسطح من المحايثة مرتبط بالوسط الإغريقي الذي كان يعيش فيه. وهو وسط كانت تحتل فيه فكرة التنافس - التي هي إحدى تجليات الدولة الديمقراطية التي أسسها الإغريق - مكانة رئيسة. وما كان يشغل أفلاطون - رغم عدم قبوله للصفة الديمقراطية للدولة - أثناء طرحه لهذا المفهوم تمييز المتنافسين والاختيار بينهم، المتنافس الجيد من الرديء ... الحقيقي من المزيف؛ إذ إن المناخ الديمقراطي الإغريقي كان قد رسخ قيمة التنافس بين الأفراد لشغل وظائف الدولة،
166
وهو ما افتقده النظام الإمبراطوري الذي كان سائدا في الشرق، والذي كان يقوم فيه الإمبراطور باختيار شاغلي المناصب فيه بنفسه. هذا بالإضافة إلى أن التنافس قد بلغ مداه بين السوفسطائيين والفلاسفة والفنانين (ويمكن قياس ذلك على ظواهر أخرى عديدة كان التنافس فيها قويا)، وكل منهم يدعي أنه راع للحكمة. كان هدف أفلاطون وضع معيار يمكن من خلاله الانتقاء بين المدعين واختيار الحقيقي من المزيف، ولهذا الهدف أبدع مفهوم المثال.
وعلى الرغم من أن لكل مفهوم مكانه وزمانه الخاصين، إلا أن المفهوم كالعمل الفني يظل خارج سياق الزمن، لا تسري عليه قوانينه «وبذلك تتوفر للمفاهيم طريقتها في عدم التعرض للفناء رغم كونها مؤرخة وموقعة ومسماة.» وكل مفهوم له سياقه الزماني والجغرافي الذي أنتج فيه، لكن يظل هذا السياق بمنأى عن المفهوم في ذاته، ينفلت المفهوم باستمرار خارج هذا السياق ليدخل في تشكيلات جديدة وتنسيقات وسياقات مختلفة ... في زمان وجغرافيا جديدين.
تتمثل تلك الجغرافيا فيما أطلق عليه دولوز مسطح المحايثة
plan d’immanence ، ويمكن توضيح ما يقصده دولوز، من هذا المفهوم، بمثال أشار إليه، هو نفسه، باقتضاب حينما قال: «إن المسطح يشبه الصحراء التي تؤمها المفاهيم دون أن تتقاسمها.»
167
ولنتخيل إذا صحراء شاسعة مترامية الأطراف تسكنها مجموعة من القبائل المتفرقة، كل منها يشغل منطقة محددة منفصلة عن الأخرى ... وتتناثر هذه القبائل بطريقة عشوائية، وربما فوضوية أيضا؛ حيث تغير مواقعها باستمرار من خلال نقاط الفراغ المتوفرة على السطح. وكل قبيلة من هذه القبائل لها امتدادها الزماني الجغرافي، لكن هذا الامتداد لا يجعلها تركن وتستقر في موضعها، فهي دائمة التنقل والترحال والبحث عن الجديد ... البحث عن المأوى والطعام والشراب، وهي مطالب متجددة لا يسكتها الإشباع. هذه القبائل تختلف من حيث الكم والمساحة التي تقتطعها لنفسها، لكنها تشترك جميعا في حركتها المستمرة وصيرورتها وارتحالها المتواصل، كما أنها متصلة ببعضها من خلال علاقات النسب التي تربط بين أعضائها. الصحراء هنا هي مسطح المحايثة أو الانبثاق أو المثول وكلها معان واحدة، والمفاهيم هي القبائل التي تشغلها، وسيد كل قبيلة هو الفيلسوف الرحالة مبتكر المفاهيم، الذي يقودها ويبحث لها عن أماكن جديدة تعمرها باستمرار. الصحراء رمز المطلق أو السديم
Chaos «فالمسطح هو المطلق اللامحدود الذي لا شكل له ولا مساحة ولا حجم.» القبائل متغيرة أما الصحراء فثابتة «إن المفاهيم أشبه بالموجات المتعددة التي تعلو وتهبط، ولكن مسطح المحايثة هو الموجة الوحيدة التي تلفها وتنشرها.»
168
القبائل أحداث أما الصحراء فهي أفق الأحداث، السماء المرصعة بالنجوم. القبائل متعددة أما الصحراء فواحدة ذات ديمومة «إن المفاهيم تتراص وتشغل المسطح وتملؤه قطعة قطعة، بينما المسطح هو الوسط الذي لا ينقسم؛ إذ تتوزع المفاهيم دون أن تلغي وحدته واستمراريته.» وإذا كانت القبائل هي التي تتكفل بإعمار الصحراء، فإن هذه الأخيرة هي التي تؤمن التواصل بين القبائل «إن المسطح هو الذي يؤمن اتصال المفاهيم، بواسطة ترابطات تتزايد على الدوام، والمفاهيم هي التي تؤمن إعمار المسطح وفق مساحة تتجدد وتتغير باستمرار.»
169
المفاهيم كلها تتناثر على مسطح محايثة واحد، غير أن هناك مسطحات محايثة جزئية؛ فكل مذهب وكل فلسفة لها مسطحها الخاص، كما أن لكل فيلسوف مسطحه، الذي من الممكن أن يعاد إحياؤه من جديد. والفلسفة والعلم والفن، لكل منها مسطحه الخاص الذي لا يمكن أن يتماهى مع نظيره.
إن كل مفهوم يتضمن مسطح محايثة خاص به يتكشف من خلال البحث عن المعضلة التي تكمن وراءه، وكما يقول دولوز فإن «الأفكار ليست نتاج الخبرة؛ فهي تظهر كإشكاليات، وتتكشف كموضوعات ذات صورة معضلة.»
170
تلك هي أهمية الأسئلة في الفلسفة. وما يدعوه دولوز - متابعا في ذلك هيدجر - بفن ابتكار السؤال، هو محاولة الكشف عن المعضلات التي تحرك تاريخ الفلسفة والتي تكمن وراء البناء المفاهيمي الخاص بها. وعلى سبيل المثال عندما طرح باسكال سؤاله: هل الله موجود أم لا؟ لم يكن يقصد سؤالا مباشرا يحتاج إلى إجابة تقريرية بنعم أو لا، كما لم يكن إقراره في النهاية مجرد رهان كما يظن البعض. فلو كانت المسألة بهذه السطحية، لما كان لسؤال بسكال الأهمية التي اكتسبها في تاريخ الفلسفة، كان سؤال بسكال ينطوي على إشكالية أهم من سؤاله الظاهر وهي: ما هو أفضل طور من أطوار الوجود؟ هل هو لشخص يعتقد بوجود الله أم بشخص لا يعتقد؟ وهكذا فإن سؤال بسكال الظاهر لا يتعلق بوجود الله أو عدم وجوده، وإنما يتعلق بحال كل من يعتقد أو لا يعتقد بوجود الله.
وليست المفاهيم سكونية الطابع، يبدعها الفيلسوف ثم تفقد بريقها مع مرور الوقت، وإنما يدخل كل مفهوم منذ إبداعه في عمليات عدة يكتسب في كل منها معاني متجددة، بحيث يظهر في كل مرة بصورة مختلفة عن سابقتها «نفكر بأن نجد خارج المفهوم «أ» محمولا «ب» يكون غريبا عن هذا المفهوم، لكننا نظن أن من واجبنا إلحاقه به؛ فكل مفهوم هو في علاقة مع شيء آخر خارجا عنه.»
171
فالمفاهيم تتطور مع التطور الزماني والمكاني، بحيث تدخل في علاقات جديدة مع مفاهيم أخرى، أنتجت في أزمنة مغايرة، كما تنتقل من مكان لآخر أو من سطح إلى آخر مغاير لتحمل بدلالات جديدة في كل مرة، وكذا الحال أيضا في انتقال المفهوم من مجال معرفي إلى آخر. ويتطلب هذا - وفقا لدولوز - أن يكون للمفهوم شخصية مفهومية تساهم في تحديده. وهنا يمكن أن نقول إن الفلسفة كالرواية، فإذا كانت الرواية تتحرك من خلال شخصياتها، فإن للفلسفة أيضا شخصياتها التي تتحرك من خلالها ... زرادشت نيتشه، وأبله ديكارت، سقراط أفلاطون. وهناك شخصيات مفهومية عديدة لا تكتسب اسم علم، لكنها حاضرة عند كل فيلسوف، وينبغي على القارئ تكوينها وإعادة بنائها، موناد ليبنتس، وتعبيرية سبينوزا، قصدية هوسرل، ونقد كانط، والروح الكلي لهيجل ... إلخ. وليست الشخصية المفهومية ممثلة للفيلسوف، بل العكس هو الصحيح؛ فالفيلسوف مجرد وسيط لظهور المفهوم وانبثاقه ... الفيلسوف هو الذي يجسد الشخصية المفهومية «إنه الاسم المستعار لهذه الشخصيات المفهومية»، وقدر الفيلسوف هو أن يصير إحدى هذه الشخصيات، بحيث تغدو مختلفة عما كانت عليه تاريخيا، وميثولوجيا، أو كما هي شائعة (سقراط أفلاطون، ديونيزيوس نيتشه أبله ديكارت ... إلخ). فليس ديونيزيوس نيتشه هو عينه ديونيزيوس الأساطير، كما أن سقراط الحاضر بقوة في النص الأفلاطوني ليس هو سقراط التاريخ. يصير نيتشه ديونيزيوس، كما يغدو ديونيزيوس الفيلسوف ... ويصير أفلاطون سقراط، في الوقت الذي يجعل من سقراط فيلسوفا. إنها لعبة تبادل الأمكنة والأدوار. صيرورة لا متناهية بين جميع الأطراف.
لا قيمة للفلسفة إذا لو تخلت عن دورها - إبداع المفاهيم، مثلما لا توجد قيمة لفلسفة لم تبدع في مجال المفهوم «هناك كتب عديدة لا يمكننا أن نقول عنها إنها خاطئة؛ إذ لا يعني ذلك شيئا، والأصح أن نقول عنها إنها عديمة القيمة والنفع، ذلك لأنها لم تبدع مفهوما، ولا تحمل إلينا صورة عن الفكر، ولا تولد شخصية تستحق العناء.»
172
سيصبح تاريخ الفلسفة إذا، وفقا لدولوز، هو تاريخ المفهوم وتحولاته ... رحلته في الزمان والمكان ... تجاوباته وتداخلاته مع المفاهيم الأخرى. فالفلسفة تعمل من خلال المفاهيم، ولو حذفنا من تاريخها مفاهيم كالجوهر والمثال والعقل والعلة والمعلول والذات والموضوع والآخر والحرية ... إلخ، فلن يتبقى منه شيء. كما أن التغيرات التي طرأت على المذاهب والأنساق هي في الأساس تغيرات لحقت بالمفاهيم الأساسية في كل مذهب ونسق. وكل فلسفة مرهون بقاؤها ببقاء مفاهيمها «إن سقوط المذاهب والأيديولوجيات، لا يعني سوى أن مفاهيم معينة عاشت، وكان لها أن تموت في النهاية.»
إن نهاية أو استمرار أي فلسفة في الواقع يتوقف على قوة مفاهيمها وقابليتها للتجدد والإضافة، هكذا عاشت الأفلاطونية من خلال مفاهيمها، وخاصة مفهوم المثال «كان أفلاطون ينادي بضرورة تأمل المثل، لكن كان عليه أولا أن يبدع مفهوم المثال.» وقد ظل مفهوم المثال الأفلاطوني حاضرا بقوة في تاريخ الفلسفة، متخذا أشكالا وصورا عديدة، وسيظل حاضرا ما بقيت الفلسفة، وهذا دليل قوته وقابليته للتطور. ونفس الأمر يقال أيضا على مفاهيم ديكارت وكانط، وإذا كان بعضنا - يقول دولوز - لا يزال ديكارتيا أو كانطيا اليوم، فذلك لأنه يحق لنا أن نتصور أن مفاهيمهم يمكن تفعيلها داخل مشكلاتنا.
يبدو دولوز في تحديده لماهية الفلسفة، كونها منتجة للمفاهيم، مبتعدا إلى حد كبير عن فلسفة برجسون؛ فقد عرفت الفلسفة البرجسونية على أنها «تخط لما كدسه الغرب من مفاهيم فلسفية وعلمية لمحاولة التواصل «مباشرا» و«مطلقا» مع الأشياء. أو هي محاولة لإعادة التواصل المعرفي، علما وفلسفة، خارج شبكة المفاهيم وعلى أرضية مخالفة تماما لأرضية المعرفة الموضوعية.» وهكذا فإن برجسون يدعو صراحة إلى التخلي عن القطيعة التي أحدثتها فلسفات المفاهيم ما بين الذات والموضوع «فعندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين المفهوم والحياة، فإنه ينبغي أن نلاحظ أن المفهوم ليس أصليا بل هو لاحق وتابع. فالمفهوم أداة، وهو أداة استعملتها الحياة وتستعملها لأغراض محددة في علاقتها بالمحيط؛ فهو وسيط أو توسط
mediation
بين العضوية والحياة. فذلك هو الوضع الإبستمولوجي للمفهوم.»
173
والواقع أن دعوة برجسون إلى تجاوز ما يسميه بهيمنة المفاهيم من أجل وعي العالم بشكل كامل غير مقسم إلى أجزاء، لا يمكن النظر إليها إلا كونها محاولة لإضفاء نوع من الضباب الجدالي على الوضع الفلسفي؛ بمعنى أنها ليست أكثر من وسيلة جدلية اصطنعها برجسون؛ ذلك أن برجسون، وفقا لدولوز، كان فيلسوفا مبدعا في مجال المفاهيم.
والواقع أن التحديد الدولوزي لماهية الفلسفة يتوافق مع نقده السابق للتحليل النفسي ودعوته لتحرير وإنتاج الرغبة؛ إذ الفلسفة مع دولوز ستتحول من «كونها مجرد تأمل وانعكاس للوقائع، إلى عملية إنتاج متواصل.»
174
تماما كعملية إنتاج الرغبة التي دعا إليها دولوز، وهي نفس رؤيته لعملية الإنتاج الفني كما سنرى. ويمكن القول إن مسألة «إنتاج الجديد» كانت مسيطرة على فلسفة دولوز بأكملها، بحيث جعلها دولوز هدفا لكل نشاط إنساني «نحن لا تنقصنا الحقيقة أو المعرفة. ينقصنا الإبداع والتجريب، فنحن نفتقد مقاومة الزمن الحاضر. فيستدعي خلق المفاهيم في حد ذاته شكلا مستقبليا، أرضا وناسا جددا لم يوجدوا بعد، وعند هذه النقطة يحدث التقارب بين الفن والفلسفة.»
175
وإذا كان دولوز قد جعل من عملية إنتاج المفاهيم هدفا للفلسفة، فإن لوك فيري
Luc Ferry
يذهب إلى التأكيد على ما هو مخالف لذلك في مقالته التي تحمل عنوان «الفترات الثلاث للفلسفة المعاصرة»؛ حيث يقول: «... النشاط الفلسفي ليس له اليوم كما البارحة أية صلة بذلك الادعاء بإبداع المفاهيم التي يتحدث عنها دولوز في كتابه الأخير، وكأن العلوم تتقلص إلى مجرد تقنيات خالصة وظيفية، ولا تخلق هي الأخرى مفاهيم تعد أهم بكثير مما حققته الفلسفة.»
176
وهو ما يعني - وفقا لفيري - أن تحديد دولوز السابق لماهية الفلسفة، ليس جامعا مانعا؛ فالعديد من المجالات المعرفية الأخرى تشارك الفلسفة «إنتاج المفاهيم» بل ربما تفوقها من حيث الدقة والأهمية. غير أنه إذا كان فيري محقا في قوله: «إن إنتاج المفاهيم ليس حكرا على الفلسفة.» فإن هذا ذاته ما ذهب إليه دولوز؛ إذ هو لم ينف على المجالات المعرفية الأخرى كونها تشارك الفلسفة مثل هذه الوظيفة، مع الفارق أن المفهوم هو غاية التفكير الفلسفي، في حين أنه يكون في المجالات المعرفية الأخرى بمثابة أداة وظيفية مرتبطة بالتقنية «لقد أصبح معروفا الآن في مجال الفيزياء مثلا أن المفاهيم كثيرا ما تتحول في بعض الفروع التطبيقية إلى جملة من المعادلات الحسابية الدقيقة القابلة للاستثمار في المجالات التقنية، ومن ثم فإن إبداع المفاهيم في علم مثل الفيزياء لا يشكل في واقع الأمر سوى بداية نظرية أولى من أجل تحويلها إلى معادلات وصيغ حسابية أو إلى قوانين، سواء كانت بسيطة أو معقدة، لتنتهي إلى الارتباط بمجال التطبيق التقني في أغلب الحالات، بينما يظل المفهوم في الفلسفة هو العمود الفقري في كل بناء تنظيري، وغياب المفهوم يؤدي إلى نسف البناء من أساسه.»
177
وهذا هو الفارق الذي يقيمه دولوز بين العلم والفلسفة والفن؛ إذ العلم يعمل من خلال الوظيفة، بمعنى أن كل دواله وظيفية «يبدأ العلم من المفهوم ليصل إلى تركيب جديد مغاير أكثر دقة»، في حين تعمل الفلسفة من خلال المفاهيم «فهي تبدأ من المفهوم لتصل إليه»، أما الفن فيعمل من خلال المؤثرات الحسية والوجدانية.
والخلاصة أن انفراد الفلسفة بإبداع المفاهيم يضمن لها وظيفة دون أن يمنحها أي تفوق أو امتياز عن سائر الحقول المعرفية الأخرى، ما دامت هناك طرق أخرى عديدة للتفكير والإبداع، لا تضطر إلى المرور عبر المفاهيم كما هو الحال في النشاط العلمي والفني. (4) جان بودريار: من المحاكاة إلى الواقع الفائق (4-1) مقدمة
جان بودريار
Jean Baudrillard (1929-2007م) منظر ثقافي وفيلسوف فرنسي، ومحلل سياسي، وعالم اجتماع، ومصور فوتوغرافي. تصنف أعمال بودريار بشكل أساس ضمن مدرسة ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. أهم أعماله نظام الأشياء
The System of Objects (1986م)، مجتمع الاستهلاك: الأساطير والبنى
The Consumer Society: Myths and Structures (1970م)،
a Critique of the
(1973م)، مرآة الإنتاج
The Mirror of Production (1973م).
اهتم بودريار اهتماما خاصا بالصورة وقدرتها على تشكيل الوعي في المجتمع المعاصر. ونجد في تحليله للصورة بعض المفاهيم الماركسية وتأثرا بالمفكر الفرنسي جي ديبور، واهتم اهتماما خاصا بوسائل الإعلام، وكتاباته حافلة بالعديد من التطبيقات والأمثلة من ميادين مختلفة.
قدم جان بودريار نظرية من أشهر النظريات التي قدمت في الربع الأخير من القرن العشرين، وقد اشتهرت باسم «نظرية الواقع الفائق»
La théorie de l’hyper-réalité
وأثارت جدلا واسعا ما زال يتردد صداه حتى الآن. سنعرض في الصفحات التالية بالتفصيل لتلك النظرية، لكن يلزمنا بداية أن نؤصل لها فلسفيا؛ إذ إنها على علاقة وثيقة بمبحثي الوجود والمعرفة:
من المؤكد أن إشكالية الوجود كمبحث رئيس من مباحث الفلسفة كانت موضوعا للبحث المستفيض طوال تاريخ الفكر الفلسفي. وقد دارت معظم تحليلات الفلاسفة حول طبيعة الوجود ومصدره وطبيعة مكونات العالم الذي نحياه وطرق التعامل معه. وربما بات الحديث عن هذا المبحث غير مغر لدى البعض الآن على اعتبار أن الفلاسفة قد أفاضوا في مناقشته وتحليله من زواياه المختلفة. غير أن من المؤكد أيضا أن طبيعة الموضوعات التي تدرسها الفلسفة تتغير بتغير المكان والزمان، ولربما كانت الفلسفة دوما بغير موضوع محدد؛ فالفلسفة في النهاية مجرد أداة للتعامل مع الموضوعات عبر منظومة اصطلاحية ومفاهيمية محددة. وإذا كان هذا هو حال الفلسفة فإن طبيعة العالم التي من حولنا قد تغيرت نتيجة دخول متغيرات عديدة أثرت في طرق تعاملنا وتواصلنا مع العالم ومع الآخرين. أهم تلك المتغيرات دخول وسيط الصورة في تعاملنا مع الأشياء من حولنا؛ فقد حلت الصورة محل اللغة، حتى ليقال إن الصورة بألف كلمة. لقد أنشأت الصورة في البداية عالما موازيا لعالم الواقع، ما لبث هذا العالم أن تضخم حتى احتوى العالم الواقعي بأكمله، لدرجة أصبح معها هذا الأخير جزءا ضئيلا من الأول. وهو ما يعني في النهاية أن ثمة تغيرا أنطولوجيا طرأ على طبيعة العالم من حولنا، ما يستوجب معه جهدا نظريا موازيا للكشف عنه وتحليله.
إذا كان المستوى السابق يتعلق بالتأثير الذي ألحقته الصورة على الطبيعة الأنطولوجية للعالم؛ فإن هناك مستوى آخر للصورة ذا طبيعة إبستمولوجية يتعلق بمشكلة التمثيل. ويشير التمثيل من الناحية الإبستمولوجية إلى الصور الذهنية والإدراكات التي يكونها الإنسان عن العالم الخارجي والتي تغدو بعد ذلك أشبه بالموجهات التي توجه طريقة تفكيره وتحكم استجاباته في العالم. فإذا وضعنا في الاعتبار أن الصورة أصبحت تحتل مكانة كبيرة في المشهد الثقافي الراهن بوصفها أداة التواصل الرئيسة بيننا وبين مكونات العالم من حولنا، وبيننا أيضا وبين الآخرين، فإن النتيجة المترتبة على ذلك أن ما يكتسبه الإنسان من خلال وسيط الصورة يتحكم في رؤيته للعالم من حوله، وينعكس على طبيعة سلوكه ووجوده في العالم، ومن هنا يتشكل العالم الخارجي ويتخذ صورته في العقل الإنساني عبر ذلك الوسيط ... وسيط الصورة. وبصيغة أخرى، إذا كان الإنسان في النهاية محصلة تمثلاته عن العالم، وإذا كانت تلك التمثيلات في معظمها تتم الآن عبر وسائل الإعلام، أي من خلال توسط الشاشة، وعبر تقنيات صناعة الخبر، فإن النتيجة هي أن جل تمثلات الإنسان عن الواقع وبالتالي استجاباته في العالم، هي في حقيقة الأمر تجليات لعالم الصورة.
ثمة فرضية، سنسعى لإثباتها، مفادها أن الصورة بطبيعتها غير محايدة أو غير بريئة؛ فالصورة لا تنقل الحدث كما هو؛ لأن الصورة إذا كانت تقوم بوظيفتها عبر تقنية آلية محددة، فإن هذه التقنية لا تعمل بمفردها، بل توجد ذات عارفة تقف وراءها، ذات محملة بنسق معرفي وأيديولوجي يحكم رؤيتها للعالم ويتدخل بالتالي في فعل التقاط الصورة للحدث. إذا أضفنا إلى هذا، التطور التكنولوجي الهائل الذي نشهده الآن في تقنيات صناعة الصورة، مع ضعف الأدوات التحليلية المقاومة للخطاب البصري، فإن النتيجة المترتبة على ذلك حالة عالية جدا من الاستلاب للوعي الإنساني داخل عالم من الصور المحمل بالأيديولوجيات المختلفة.
كان بودريار امتدادا لقائمة طويلة من مفكرين قدموا إسهامات كبيرة في تحليل الدور الذي باتت تلعبه الصورة في الحياة المعاصرة، مثل فالتر بنيامين
Walter Benjamin
178
ورولان بارت
Roland Barthes
179
وجي ديبور
Guy Debord
180
وبيير بوردو
181
وجيل دولوز
Gilles Deleuze
182
وريجيس دوبري
Regis Debray
183
وماريو بارجاس يوسا
Jorge Mario Pedro Vargas Llosa .
184
لكن تحليل عالم الصور لم يكن بالنسبة لبودريار لحظة من لحظات مشروعه الفكري، وإنما كان محور هذا المشروع، بحيث دارت كل أعماله تقريبا حول تفكيك بنية هذا العالم وتطور علاقته بعالم الواقع وصولا إلى اللحظة التي اختفى فيها العالم الواقعي، كما يزعم، وحل محله عالم الصور. (4-2) فرضية بودريار
يقوم مفهوم الواقع الفائق عند بودريار على ركيزتين أساستين؛ الأولى: غياب مفهوم الحقيقة بصورة كلية. والثانية: عدم إمكانية مقاومة الزائف أو دحضه وهزيمته، وبمعنى آخر ضعف قدرة الإنسان وطاقته على النقد والتمييز بين الحقيقي والمزيف. ومن الممكن اعتبار الفرضية الثانية بمثابة نتيجة للفرضية الأولى؛ فقد أدى غياب مفهوم الحقيقية وسيادة الزائف إلى صعوبة، أو بالأحرى استحالة، التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. وقد سعى بودريار في كتاباته المختلفة إلى إثبات هاتين الفرضيتين عبر العديد من الأمثلة والنماذج التطبيقية. غير أن الإطار النظري الذي استند إليه كان يعتمد على تفعيل بعض المفاهيم والمقولات الفلسفية وخاصة لدى نيتشه وأفلاطون. (4-3) الأثر النيتشوي
نقطة البداية في تحليل بودريار هي تحديد نيتشه للمراحل التي مر بها مفهوم الحقيقة في علاقته بالعالم، عالم الحقيقة أو العالم الحقيقي. كان نيتشه ذا بصيرة نافذة في تتبعه لمفهوم الحقيقة، رغم أن الصورة لم تكن بعد قد احتلت تلك المكانة التي أصبحت تحتلها الآن، لكنه أدرك ببصيرته تلك أن العالم الحقيقي قد ذهب بلا رجعة. في نص هام بعنوان «كيف غدا العالم الحقيقي مجرد وهم»
185
من كتابه أفول الأصنام
Götzen-Dämmerung (1889م)، يحدثنا نيتشه عن وهم أطلق عليه وهم العالم الحقيقي. هذا الوهم من اختراع الفلاسفة ولا وجود له في واقع الأمر. وقد تصور الفلاسفة أنهم عبر مناهجهم ومذاهبهم المختلفة، يمكنهم اقتناص هذا العالم وتملكه، في حين أنهم كانوا يجرون وراء السراب، وهو ما اكتشفوه بأنفسهم، لكن عبر تاريخ طويل من الأفكار.
ومسار تطور فكرة العالم الحقيقي عبر المراحل الست التي حددها نيتشه في هذا النص يشير إلى أن الفلاسفة أدركوا في نهاية الأمر أن ما كانوا يسعون وراءه كان مجرد وهم. لكن هذا الإدراك قد استغرق تاريخا طويلا: فقد بدأت فكرة وجود عالم حقيقي مفارق للعالم الواقعي مع أفلاطون، الذي جعل معرفة هذا العالم الحقيقي قاصرة على الفيلسوف فقط. ثم جاءت المسيحية لتشيد عالما أخرويا، يوعد به الإنسان الفاضل، أو المذنب الذي يتوب، لكن هذا العالم غير موجود على هذه الأرض. أما كانط فقد ميز بين عالم الأشياء وعالم الأشياء في ذاتها، وجعل الثاني بمثابة الموجه الأخلاقي للأول، وهو عالم مفارق أيضا أو متعال. وفي المرحلة الرابعة أصبح العالم الحقيقي فكرة لا يمكن إثباتها أو بلوغها، وبالتالي لا يمكن أن تمارس أي دور داخل العالم الواقعي، وهذا ما أشارت إليه الاتجاهات الوضعية والتجريبية في القرن الثامن عشر. وفي المرحلة الخامسة، أصبح العالم الحقيقي فكرة لا فائدة منها، وأصبحت زائدة عن الحاجة، بل ينبغي أيضا التخلص منها. وهذا ما دعت إليه الفلسفات المادية التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر. أما المرحلة الأخيرة فيرى نيتشه أن فلسفته، التي تبلورت في كتابه هكذا تحدث زرادشت
Sprach Zarathustra ، هي التي تمثلها. فوفقا لنيتشه لا يوجد سوى هذا العالم الذي نعيش فيه فقط، وهو عالم يخلو من مفهوم الحقيقة. الحقيقة وجهات نظر، وبالتالي فهي متغيرة ونسبية. يقول نيتشه عن فلسفته: «لقد نفينا العالم الحقيقي: فأي عالم بقي؟ ربما يكون العالم الظاهر؟ لكن لا! ففي الوقت الذي أبطلنا فيه العالم الحقيقي أبطلنا أيضا العالم الظاهر ذاته!»
186
يريد نيتشه هنا أن يخرج من منطق الثنائيات المتضادة؛ لأن التمسك بنقيض الفكرة يعني وجود الفكرة، التمسك بالعالم الظاهري في مقابل العالم الحقيقي، يعني ضمنا مشروعية هذا الأخير، وهو ما ترفضه فلسفة نيتشه.
وقد استثمر بودريار نقد نيتشه لمفهوم الحقيقة وقام بتطويره وربطه بالدور الذي باتت تمارسه الصورة في الواقع المعاصر. فالحقيقة كلمة أصبحت تنتمي للماضي، ولا يمكن لأحد ادعاء امتلاكها. لكن السبب في ذلك، وفقا لبودريار، يعود إلى التطور التكنولوجي الهائل الذي شكل حاجزا كبيرا أمام معرفة الواقع وحقائقه. فالتكنولوجيا المعاصرة غيرت طبيعة العالم ومن ثم فرضت من جديد التساؤل عنه «إننا أمام تحولات هائلة وجوهرية تمس تعريف العالم ذاته، فالافتراضي هو الآن بصدد فرض سيطرته الشاملة على جميع الوظائف التي تعودنا على اعتبارها وظائف طبيعية.»
187
وفي موضع آخر يقول: «لقد أدت نشأة وسائل الإعلام الجماهيرية، ولا سيما الإلكترونية منها، إلى تحولات عميقة في طبيعة حياتنا. إن الصورة بمعناها الراهن لا تعرض لنا العالم أو تعكسه أو تمثله بل أصبحت بصورة متزايدة تحدد وتعيد تعريف ماهية العالم الذي نعيش فيه.»
188
إن الصورة أعادت تشكيل العالم وصياغته، وبالتالي لم يعد العالم يعاش بذات الطريقة التي كان يعاش بها فيما قبل القرن العشرين. فالصورة لا تعترف بحدود المكان والزمان، إنها تعمل خارج نطاق الجغرافيا والحدود المكانية المتعارف عليها، كما تعمل الصورة من خلال أرشيفها على استعادة الماضي متى شاء الإنسان ذلك. •••
لم يحدث هذا التغيير في طبيعة العالم نتيجة دخول متغير الصورة بطريقة مفاجئة، بل حدث تدريجيا وعبر مرحلتين رئيستين؛ المرحلة الأولى هي التي كانت تعبر فيها الصورة عن موضوع واحد؛ أي كانت هناك علاقة هوية بين الصورة والخبر، بين ما تجسده الصورة وبين الواقع الفعلي. كانت الصورة مرتبطة بسياق ما (تاريخي، اجتماعي، سياسي) وكانت غالبا ما تظل مرتبطة بهذا السياق، بحيث إن إمكانية استخدامها في سياقات أخرى مغايرة تصبح شبه منعدمة. أما المرحلة الثانية فقد شهدت تطورات تقنية متقدمة في صناعة الصورة، وخاصة في فترة الثلث الأخير من القرن العشرين. ولأن تحليل بودريار ينصب في المقام الأول على الصورة المنتمية لهذه الفترة؛ فإننا سنحاول أن نحدد بعض خصائص الصورة في هذه المرحلة: (1)
أنها صورة متشظية؛ فهي لا ترتبط بواقعة أو حدث محدد؛ أي أنها تمتلك قدرة ذاتية على الفعل دون الارتباط بموضوع أو سياق معين. وعليه فإن الصورة أصبحت متعددة المعاني، فمعناها لا يمكن أن يكون ثابتا أو قابلا للتفسير من خلال الرجوع لتركيبها الداخلي، ولكن فقط يمكن تفسيرها في سياق مجموعة صور أخرى لها ارتباطات علائقية بها؛ أي أن معناها كما يقول إيكو
Eco
سيكون حقلا من الاحتمالات
Field of Possibilities . (2)
تحولت الصورة من كونها محاولة لمحاكاة واقع، إلى نموذج يحاول الواقع محاكاته. فقد أصبح الواقع صورة شاحبة من الصورة. الصورة هي الأساس وليس الواقع. الصورة هي المعيار الذي يقاس بواسطته صدق الواقع أو كذبه. أصبحت الصورة تسبق الواقع وتمهد له، تظهر الصورة أولا ثم تحدث المحاكاة لها في الواقع. فالعلاقة التقليدية بين الخيال والواقع باتت اليوم مهددة بالتدمير، بحيث أصبحنا لا نعرف ما الواقع وما الخيال في عالم الصور المحاكية والمحاكاة الزائفة. وكما يقول ديبور: «في المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها برمتها على أنها تراكم كثيف من الاستعراضات، وكل ما كان يعاش على نحو مباشر يتباعد متحولا إلى تمثيل
Representation ».
189
ويقدم لنا بودريار مثالا يوضح هذا المعنى عندما يتناول بالتحليل تعبيرا أمريكيا شهيرا يستخدم في الإعلانات وهو «ما تراه هو ما ستحصل عليه»
What You See Is What you Get ؛ فهذا التعبير يستخدم لإقناع المستهلك أنه سوف يحصل على السلعة بالشكل الذي تعرض عليه في الصورة.
190
ومعنى هذا أن الصورة أصبحت هي معيار الواقع ومحك الحكم عليه؛ فأنت تطلب سلعة بناء على صورتها، ويتم إرضاؤك إذا كانت السلعة متفقة مع صورتها؛ وتشعر أنك خدعت إذا لم تتفق السلعة مع الصورة. في نفس السياق أيضا يرى فوكو أن الصور الفوتوغرافية تستخدم في إنتاج ما يمكن أن نطلق عليه الأجساد الطيعة
Docile Bodies
أو الأجساد المرنة في الدولة الحديثة. إنهم المواطنون الذين يشاركون في الأيديولوجيا الخاصة بالمجتمع من خلال التعاون والرغبة في التوافق والانصياع، ويحدث هذا في مجموعة كبيرة من صور الميديا التي تقدم صورا خاصة بنا حول المظهر، والجسد السليم، والوضع الجسدي الملائم. ولأننا باعتبارنا مشاهدين لهذه الصور لا نفكر غالبا في الطرائق التي تنشط من خلالها هذه الصور كنصوص أيديولوجية، فإن هذه الصور تكون لها قوة مميزة تؤثر في صورة الذات الخاصة بنا، وهذا يعني أن معايير الجمال والحس الجمالي، الذي تعرضه هذه الصور، التي ترسخ الملامح البيضاء والنحافة كنمط جسدي مرغوب، يمكنها - أي هذه المعايير - أن تمثل جانبا مهما في النظرة المعيارية التي ينظر من خلالها المشاهدون بعمق إلى أنفسهم.
191 (3)
فقدت الصورة ما بعد الحداثية المعنى عندما «اختطفتها» الطبقة الرأسمالية عابرة القوميات، لاستخدامها كدال عن المكانة، وعندما ظهرت على السلع الاستهلاكية كالملابس والأحذية والحقائب لتشير إلى شركة أو بيت أزياء راق دونما معنى تقريبا. ويمكن ملاحظة ذلك في «الصور الغريبة التي تستخدمها بيوت الأزياء العالمية الراقية على منتجاتها.»
192
كما يمكن ملاحظة ذلك أيضا، في المنتجات الاستهلاكية الأخرى (كعبوات المياه الغازية) التي أصبح منتجوها يستعينون بصور نجوم الفن والرياضة للدعاية لها، ويقبل المستهلك على شراء المنتج، لا لجودته، إنما لما تمتلكه صورة النجم من قدرة على الجذب تدفع إلى فعل الشراء ذاته. (4-4) الأثر الأفلاطوني
شاع استخدام مصطلح سيمولاكرا
Simulacra
في مؤلفات جان بودريار واتخذه عنوانا لمؤلفين له.
193
والسيمولاكرا هي المكون الرئيس للعالم الفائق وفقا لبودريار. ويعود استخدام المصطلح إلى أفلاطون، وتحديدا في رؤيته التراتبية للوجود. لذا فإن أي محاولة لفهم وجهة نظر بودريار حول الواقع الفائق ومكوناته، لا بد أن تعود إلى أفلاطون وتحديده للسيمولاكرا:
تقوم أنطولوجيا أفلاطون على تراتبية واضحة، تشبه إلى حد كبير الطبقية التي كانت سائدة في المجتمع اليوناني إبان حياته، ويبدو أن أفلاطون كانت لديه رغبة في ترسيخ تلك الطبقية فجاءت رؤيته الانطولوجية، وربما الإبستمولوجية أيضا، لتحقيق هذا الهدف. فإذا بدأنا بالتمييز الأفلاطوني بين الجوهر والمظهر، والمفهوم عن المدرك، والفكرة عن الصورة، والأصل عن النسخة، والنموذج عن الشبيه؛ فإننا نلحظ بداية أن هذه الثنائيات غير متكافئة؛ حيث إنها تتردد بين نوعين من الصور. فالنسخ موجودات ثانوية
Les créatures secondaire ، إنها متظاهرات ذات أساس راسخ، تعتمد في ذلك على التشابه؛ أما السيمولاكر فهو أشبه بمتظاهرات زائفة
Les semblants Faux
مؤسسة على اللاتشابه. وبهذا المعنى نجد أفلاطون يقسم العلاقة بين النماذج-الصور إلى قسمين: فهناك من ناحية العلاقة بين النسخ والأيقونات
Copies - Icônes ، وهناك من ناحية أخرى العلاقة بين السيمولاكرا والاستيهامات
Simulacra - fantasmes .
غير أن مفهوم النموذج عند أفلاطون، لا يتدخل هنا كي يقابل عالم النسخ ويتعارض معه. إنه يتدخل كي ينتقي النسخ الجيدة التي تشبه الأصل في صميمه وباطنه؛ أي الأيقونات
Icônes ، ويستبعد النسخ الرديئة؛ أي السيمولاكرات
Simulacres «إن التمييز القائم بين «النموذج» و«نسخته» يخفي تمييزا آخر. التمييز بين صورتين؛ حيث النسخ «الأيقونات» لا تمثل إلا الصورة الأولى. أما الصورة الأخرى فهي «الشبيه» أو السيمولاكر. الفرق بين الأيقونة والسيمولاكر، أن الأولى نسخة تتمتع بالتشابه؛ أما الثاني فبلا تشابه. الأيقونة تقوم على الشبه والوحدة مع النموذج، أما السيمولاكر فيقوم على الاختلاف وينطوي على اللاتشابه. الأيقونة تكرر النموذج والسيمولاكر يخونه.»
194
سينتج عن هذا التحديد أن المقابلة الأساسية عند أفلاطون ليست بين النموذج والنسخة؛ وإنما ستصبح محصورة في عالم النسخ ذاته. ولا يتدخل النموذج إلا كمعيار للتمييز بين النسخ والمفاضلة بينها، وانتقاء الأفضل واستبعاد غيره «يتعلق الأمر بضمان انتصار النسخ على السيمولاكرات، وقمع هاته الأخيرة وضبطها وطمسها وتركها تحت القيود، والحيلولة بينها وبين أن تطفو على السطح لتفرض نفسها في كل الأنحاء.»
195
إن الدافع المحرك لنظرية المثل عند أفلاطون هو رغبته في الاختيار والانتقاء. ولن يتسنى له ذلك ما لم يميز ويفرق أولا بين الحقيقة والمظهر، بين المعقول والمحسوس، بين المثال والصورة، بين الأصل والنسخة، بين النموذج والشبح. والواقع أن المشروع الأفلاطوني لا يظهر على نحو صحيح وحقيقي إلا إذا أرجعناه إلى منهج التقسيم. ولعل تشبيه الخط الذي أورده أفلاطون في الكتاب السادس من الجمهورية لتوضيح درجات المعرفة أو مراحلها، أن يكون من أبرز الأمثلة على منهج التقسيم «... فلنتصور الآن خطا مقسما إلى قسمين غير متساويين يمثلان المجال المنظور والمجال المعقول. ولنقسم كل قسم بدوره بنفس النسبة، لكي ترمز إلى الدرجة النسبية في الوضوح أو الغموض. وهكذا يكون لديك في العالم المنظور قسم أول، يعبر عن الصورة: وأعني بالصورة الظلال أولا، ثم الأشباح المنطبعة في المياه وعلى أوجه الأجسام المعتمة المصقولة اللامعة ... أما النصف الآخر من القسم الأول، فهو يشمل الأشياء الواقعية التي كان القسم الأول يمثل صورها؛ أي الكائنات الحية المحيطة بنا، وكل ما صنعته يد الطبيعة والإنسان. كذلك ينقسم العالم المعقول قسمين؛ في الأول منهما يستخدم الذهن الأشياء الفعلية التي كانت في القسم السابق أصولا، على أنها صور، فيضطر الذهن إلى المضي في بحثه بادئا بمسلمات، وصاعدا في الطريق لا يصعد به إلى مبدأ أول، وإنما يهبط به إلى نتيجة. وفي الجزء الثاني يمضي الذهن في الاتجاه العكسي، من المسلمات إلى المبدأ المطلق، دون أن يستعين بالصور كما فعل من قبل، وإنما يمضي في بحثه مستخدما المثل وحدها .» هناك عند أفلاطون إذا نوعان من الصور المنعكسة. فهناك أولا «الأشياء الواقعية» (التي تحتل الجزء الثاني من القسم الأول) وهي عبارة عن صور أو نسخ من المثل. ونظرا إلى أن هذه الأخيرة هي الموجودات الحقيقية، فإن صورها من الأشياء الواقعية ليست سوى موجودات من الدرجة الثانية؛ لأن وجود هذه الصورة قائم على أساس «المشاركة» في المثل والمشابهة لها، فهي إذا «تدعي» الوجود. ولكن لما كان التشابه بينها وبين المثل تشابها داخليا وروحيا (فمثلا لا يكون الفعل الواقعي العادل عادلا، بل ولا يسمى كذلك، إلا إذا تأسس على ماهية العدالة)، فإن مثل هذا التشابه يدعم ويضمن ما في وجودها من الدعوى، ويجعل منها بالتالي دعاوى حقة وصورا صادقة. وأما النوع الثاني من الصور المنعكسة فهي «الأشباح وكل التمثيلات الأخرى المشابهة لها» (التي تحتل الجزء الأول من القسم الأول)، وهي عبارة عن صور للأشياء الواقعية التي هي بدورها صور للمثل؛ أي أنها نسخ من نسخ أخرى أو للمحاكاة محاكاة
Mimesis Mimeseos ،
196
ولذا فهي تبعد عن الوجود الحق درجتين، مما يجعلها موجودات من الدرجة الثالثة، أدنى درجات الوجود، وإن كان الأهم من هذا أنها تفتقر إلى ذلك التشابه الداخلي بينها وبين المثل الذي يوجد بين أصولها من الأشياء الواقعية وتلك المثل، مما يجعل دعاويها في الوجود باطلة، ويجعلها هي نفسها صورا زائفة.
197
هكذا جعل أفلاطون الصور موضوعات أقرب إلى الظن منها إلى اليقين، موضوعات للشك والارتياب، مجموعة من الظلال والأشباح المنطبعة على المياه وعلى أوجه الأجسام المصقولة اللامعة كالمرايا وغيرها؛ ومن ثم فإنها تتعلق أكثر بمنطقة الالتباس والفقدان لليقين والزيف والخداع والكذب وكل ما هو غير حقيقي أو الوهمي.
مع أفلاطون إذا تم اتخاذ موقف حاسم في تاريخ الميتافيزيقا يخضع بمقتضاه الاختلاف لهيمنة الذاتي والشبيه، ويطرح الاختلاف من حيث إنه لا يمكن أن يكون موضع تفكير، فيلقى به والسيمولاكرا في هوة سحيقة. لذا فنحن نعجز، من هذا المنطلق، عن تحديد إيجابي للسيمولاكر، فهو أشبه بالنبت الشيطاني الذي ينتشر في كل مكان. «لقد عودتنا العقيدة المسيحية ، لما عرفته من تأثير الآباء الأفلاطوني النزعة، على صورة بدون شبيه؛ الإنسان صورة لله وشبيهه. لكن الخطيئة أفقدتنا الشبه وأبقت على الصورة ... هذا هو السيمولاكر بالضبط، إنه صورة شيطانية فقدت التشابه الذي يضمها إلى الشبيه، أو بالأحرى فإنها، على عكس الأيقونة، طردت التشابه، وأبقت على الاختلاف.»
198
فالفكرة السائدة في الأديان الثلاثة الكبرى هي «أن الله قد خلق الإنسان على صورته؛ أي شبيها له (الصورة الصادقة)، ولكن الإنسان لما عصى أمر ربه وأكل من شجرة المعرفة، سقط وهبط من الجنة، ففقد بذلك الشبه مع الله، وأصبح سيمولاكر (صورة زائفة) مغتربا على وجه الأرض.»
199
إن السيمولاكر ينطوي على ميل نحو اللاتحديد وخرق المعقول، وعلى سعي إلى أن يصبح آخر. إنه يكون دوما أكثر أو أقل ولا يكون قط مساويا. وإذا أظهر نوعا من الشبه فإن هذا من قبيل الوهم وليس من قبيل التشابه الفعلي.
إن هذا التحديد الأفلاطوني للسيمولاكرا المستند على التراتبية الأنطولوجية، هو ما سيوظفه بودريار في تحليله للدور الذي باتت تمارسه الصورة في ثقافة العولمة وما بعد الحداثة. (4-5) السيمولاكرا: موت الواقع وبزوغ المزيف
إن لفظ
simulation
الذي يوظفه جان بودريار ويقابله في اللغة العربية لفظ الاصطناع أو التصنع أو التمويه أو الإيهام أو التصاور؛
200
مفهوم أساسي في فكر بودريار، ومدخل مهم لفك ألغاز أطروحته حول موت الواقع. وقد استعار بودريار في مؤلفه المصطنع والاصطناع
Simulacres et simulation (1981م) حكاية لجورجي بورخيس
Jorge Luis Borges (1899-1986م) وهي خرائط الإمبراطورية، معتبرا إياها «أفضل محاكاة ساخرة للتصنع». ومضمون هذه الحكاية أن أحد الأباطرة أمر بأن ترسم خريطة مفصلة لإمبراطوريته «تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة»
201
فكانت النتيجة أن جاءت الخريطة، بقدر مساحة الإمبراطورية تماما؛ حيث أصبحت الخريطة هي الأرض وحلت محلها، فأصبحت النسخة الشبيهة هي الأصل، ذلك أن «السيمولاكر لا يخفي الحقيقي أبدا، بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي، إن السيمولاكر هو الحقيقي.»
202
لقد انمحى الاختلاف الكامن بين الأرض والخريطة، بين الأصل والنسخة، بين الأيقونة والسيمولاكر، بل أكثر من هذا صارت الخريطة تسبق الأرض بعدما كانت الأرض هي التي تسبق الخريطة وترممها وتولدها، ومع أفول الإمبراطورية «الأرض» بدأت «خريطتها» تتفتت شيئا فشيئا، كما بدأت بعض الثغور التي ما زال بالإمكان تحديد مواقعها في قلب الصحاري تتفتت هي أيضا، لقد حذت الخريطة حذو الأرض كما لو كان الأمر أشبه بلحم فاسد محكوم عليه بالتحلل والعودة إلى مادته الأصلية. ويرى بودريار أن المجتمعات ما بعد الحداثية أو ما بعد الصناعية نموذج حي لهذه الحكاية، إن لم نقل إنها وصلت إلى عكسها ونهايتها. لقد انهارت الخريطة حسب بودريار كتجريد وكمضاعف وكبديل وكمرآة للأرض بحيث إنها لم تعد تصنعا أو محاكاة لأرض أو لكائن مرجعي أو لمادة معينة «لقد تحولت إلى استراتيجية للتوليد بواسطة نماذج لواقع بلا أصل وبلا هوية.»
203
لقد غدت واقعا فائقا أو واقعية مفرطة.
موت الواقع إذا عند بودريار، في أحد معانيه، ربما يكون موتا لتصور معين عنه، موتا للتصور العقلاني الموضوعي الحديث، وهذا ما يستدعي إعادة النظر في تصوراتنا وأفكارنا ومقولاتنا التي كنا نظن أن الواقع يعمل بها ويحتكم إليها. لقد تمزقت الخريطة وبدأت تتحلل حسب بورجيس، والسبب في ذلك لا يعود إلى الخريطة بل إلى الواقع (الأرض)، بمعنى أن تحلل وأفول الواقع لا يتحمل فيه التصور العقلاني الحديث مسئوليته المباشرة. وإنما السبب يعود إلى «الواقع» الذي استحال إلى واقع فائق ... واقع مصطنع أو مزيف.
لكي يوضح بودريار ما يعنيه بمفهوم الاصطناع
Simulation
يضعه في مقابلة مع بعض المفاهيم الأخرى، منها على سبيل المثال مفهوم الإخفاء
Dissimulation ؛ فالإخفاء يعني «التظاهر بعدم امتلاك ما نملك»، فنحن لا نخفي شيئا ليس بحوزتنا؛ لأنه لا يمكن إخفاء اللاشيء أو العدم، كما أنه ليس بمقدورنا حجبه طالما أنه غير موجود. ومرجعية الإخفاء هي الحضور؛ لأن موضوعاته حاضرة وموجودة وطبيعية، وبالتالي فمكانة الغياب في استراتيجية الإخفاء ثانوية؛ لأنها تكون فقط مجرد نتيجة وتجل. أما الاصطناع فهو «التظاهر بامتلاك ما لا نملك»؛ أي أن الاصطناع يعمل دوما على ما لا نملك، ويدعي باستمرار امتلاكه، وبالتالي فإن المرجعية الأساسية للاصطناع هي الغياب؛ لأن موضوعاته مختلقة وليست طبيعية، أشياء وعناصر غير واقعية وغير حقيقية يتم إنتاجها كوقائع طبيعية وحقائق ثابتة. ومكانة الغياب في الاصطناع أساسية؛ لأن الغياب يدخل في بنية الاصطناع وتكوينه. لكن مع ذلك فالاصطناع، حسب بودريار، ليس بهذه البساطة والوضوح؛ لأنه أكثر تعقيدا وتركيبا وتضليلا؛ ذلك «لأن الاصطناع غير التظاهر»، فالتظاهر بالشيء لا يعني اصطناعه، فمن يتظاهر بالمرض يمكنه ببساطة أن يستلقي على سريره ليوهم الآخرين بأنه مريض، أما من يصطنع المرض فإنه يعمل على أن يعين في حاله بعض الأعراض. لهذا فلا التظاهر ولا الإخفاء يعبران عن حقيقة الاصطناع ؛ لأن الاختلافات التي يطرحها التظاهر أو الإخفاء مقنعة؛ أي أن كليهما مجرد قناع يتظاهر بشيء ما أو يخفيه، علاوة على أنهما لا يخلخلان، بأي صورة من الصور، توازن الواقع، فهذا الأخير بهما أو بدونهما يبقى ثابتا ومتوازنا؛ لأنهما (أي التظاهر والإخفاء) لا يغيران من طبيعة الواقع أو الحدث. في حين أن الاصطناع يشوه الواقع ويمزق مبادئه، إنه ليس استراتيجية سطحية ثانوية وإنما موجه بالضرورة ضد مبادئ الواقع ومقولاته.
204
الاصطناع إذا يزلزل الواقع ويفقده ثنائياته وأقطابه، بالإضافة إلى أنه يزيل أي إمكانية للتمييز بين الحقيقة والزيف والصدق والكذب، الخير والشر، بين الواقع والخيال، وبالتالي يشكك في الاختلافات التي تميز كل قطب من هذه الأقطاب عن نظيراتها، إلى درجة أن المقارنة بين هذه الثنائيات أصبحت بلا قيمة، ذلك أن الاصطناع باعتباره موجها بالضرورة ضد مبادئ الواقع، يسعى إلى إقامة إبستمولوجية فوضوية أساسها التمويه والتضليل واللاتدقيق واللاضبط وانعدام الشفافية والوضوح. فلم تعد هناك مثلا أية إمكانية للتمييز بين الواقعي والخيالي، بين الحقيقي والزائف؛ لأننا أصبحنا بفعل الاصطناع نحيا خارج أسوار هذه الثنائيات، بحيث لم يعد ثمة خيالي مستقل عن الواقع، ولا زيف منفصل عن الحقيقة، فقد اختلطت الأوراق والعناصر والأشياء بصورة يستحيل معها التمييز. من ناحية أخرى نجد عند بودريار رفضا لثنائية الوهم والحقيقة «إن استحالة تقديم الوهم للناس تتساوى مع استحالة اكتشاف مستوى مطلق للحقيقة. فالوهم لم يعد ممكنا؛ لأن الحقيقة لم تعد ممكنة.»
205
ويضرب جان بودريار مثالا يوضح به المعنى السابق، فيقول: «لنفترض أنك ذهبت وقمت بتنظيم عملية سطو وهمية بعد أن تأكدت من أن أسلحتك لا تعمل وأنها مزيفة، ثم احتجزت رهينة متواطئة معك في العملية، ثم طلبت فدية وحرصت أن تثير أكبر قدر من الضجيج حول الحدث، ونال الحدث اهتماما إعلاميا كبيرا. لكن الأمور قد ازدادت تعقيدا (رجل شرطة يطلق النار على المكان، أحد العملاء يصاب بالإغماء وعلى وشك فقد حياته نتيجة أزمة قلبية ... إلخ.) في النهاية ستستلم الفدية لكنها ستكون زائفة، وسيتم القبض عليك، فما الاتهام الذي من الممكن أن يوجه إليك؟ لا يوجد ما ينص في القانون على عقوبة لمدعي الجريمة، تماما كما هو الحال مع مدعي الفضيلة. هذه هي الجريمة الرئيسة للمحاكاة، إنها تلغي الفوارق بين الحقيقة والادعاء، بين الواقع والوهم، وهي جريمة لا تستطيع كل السلطات أن تقاومها.» إن دلالة المثال السابق تتركز في حقيقة تلاشي المسافة بين الزائف والحقيقي؛ ومن ثم استحالة امتلاك القدرة على التمييز بينهما.
206
والواقع أننا في هذا السياق نستطيع أن نلمس تشابها بين وجهة نظر بودريار للعالم ووجهة نظر دريدا
J. Derrida (1930-2004م)، فدريدا كذلك يقر بالطابع المتردد واللايقيني للعالم، فالعالم «مكون من نصوص دائرية مختلطة يستحيل الوصول فيها إلى يقين ثابت أو نص نهائي.»
207
وهو ما عبرت عنه جوليا كريستيفا
Julia Kristeva (1941-...م) بمصطلح التناص
Intertextualite .
لقد ذهب بودريار إلى أن مفاهيم كالواقع والخيال والحقيقة والزيف ... وسائر المفاهيم الأخرى، كان لها معنى واضح إبان مرحلة الحداثة. غير أن معاني تلك المفاهيم قد حدث لها نوع من الانهيار في مرحلة العولمة، بحيث لم نعد نعرف بدقة ما الواقعي وما الخيالي، ما الحقيقي وما الزائف. واصطناع الواقع يشبه اصطناع المرض؛ لذا يتساءل بودريار: «وبما أن المصطنع يخلق أعراضا «حقيقية» فهل هو مريض أم لا؟» ويجيب بقوله: «لا نستطيع أن نتعامل معه موضوعيا لا بوصفه مريضا أو سليما، فهنا يتوقف الطب وعلم النفس أمام حقيقة مرض صارت غير معروفة.»
208
الأمر ذاته بالنسبة لاصطناع الواقع؛ فالواقع الزائف ينفلت من أي إمكانية للتعامل معه موضوعيا كواقع أو كخيال، كحقيقة أو كزيف ... إلخ. فكما أن الطب يفقد معناه، إذا ما أمكن تصنع أعراض المرض؛ لأن مهمته معالجة الأمراض الحقيقية من خلال أسبابها الموضوعية؛ فإن الواقع ينطبق عليه الشيء ذاته. فالواقع بعدما أصبح مصطنعا ومزيفا أصبح عصيا على الفهم ما دمنا لا نستطيع تمييز مظاهره الحقيقية عن المصطنعة، وكل هذا لأن استراتيجية التصنع تعمل على «جعل الواقع والوهم شيئا واحدا.» تلك هي «الجريمة الكاملة».
209
كما يطلق عليها بودريار، جريمة قتل الواقع وإبادة الوهم. وهي الجريمة الأكثر خطورة ما دامت تلغي الاختلاف الذي هو بمثابة حجر الزاوية الذي يبنى عليه القانون «لأن التصنع استراتيجية تتعالى على التناقضات والاختلافات والتمييزات العقلية التي تؤسس للاجتماعي والسلطة.»
210
الاصطناع يلغي الاختلاف والتمايز ويرسخ النمطية والتشابه والتكرار. وكل هذه الفاعليات تشكل تهديدا «عقليا» لنا، «لقد تم في كل مكان تذويب المسافات والاختلافات بين الأجناس والأقطاب المتفارقة، وبين القاعة والمشهد، والواقع وضعفه، والذات والموضوع، وهو ما أدى إلى خلط جذري في المصطلحات وإلى اصطدام هائل بين الأقطاب جعل من المستحيل الاستمرار في لعبة إقامة التمييزات والحدود وإصدار الأحكام، سواء في الفن أو الأخلاق أو السياسة.»
211
إن التصنع كاستراتيجية للتضليل تجعل إمكانية التمييز في الفن مثلا بين الجميل والقبيح والجيد والرديء أمرا مستعصيا، وفي هذا الصدد يقدم بودريار في مؤلفه مؤامرة الفن
The Conspiracy of Art
تشخيصا لحالة الفن في اللحظة الراهنة. فالاصطناع جعل من الفن المعاصر آلة «لتحويل الابتذال والسطحية والتفاهة إلى استراتيجية بقاء.»
212
ويؤكد بودريار أنه فيما وراء كل الاختلافات الفنية المعاصرة توجد لعبة تضليلية واحدة تتمثل في محاولة إقرار التفاهة والسطحية ثم تحويلها إلى قيمة أساسية واعتبارها متعة جمالية، يقول بودريار: «بطبيعة الحال تزعم هذه التفاهة السمو بذاتها بالانتقال إلى المستوى الثاني والساخر للفن، ومع ذلك، فهذه اللعبة لا تجدي شيئا، بل تتحول هي ذاتها إلى رداءة مضاعفة.»
213
لقد غدا التمييز الجمالي في الفن بين الجميل والقبيح، الجيد والرديء غير ممكن؛ لأن القيمة الجمالية الفنية ذاتها قد انهارت، اختلاط الجيد بالرديء عمل على تدمير المعايير الجمالية، ومن ثم الحس الجمالي لدى المتلقين. والفن المعاصر، وفقا لبودريار، قطع الصلة مع الاستطيقا لأنه لم يعد ينتج معاني جمالية، بل فقط جمالية مصطنعة تتحلل إلى تفاهة أساسها السطحية. ويتساءل بودريار: «ما الذي تم إخفاؤه في قلب هذا العالم الشفاف؟» ويجيب قائلا: «لقد تمكن الفن المعاصر من التحول إلى جهة الهامشي والرديء بأن شكل بديلا دراميا عن الواقع، وعمل على نقل بنية اللاواقع وضخها داخلها.»
214
لكن ما الذي يمكن أن يدل عليه الفن المعاصر إذا في عالم التصنع الفائق؟ إنها: السخرية، ولكن «السخرية هنا ليست استراتيجية هامشية، وإنما وليدة التواطؤ السري للفنان مع الجماهير المذهولة والمخدوعة في هذا الوضع الذي يوجد عليه الفن.»
215
ويرى بودريار أن طبيعة الفن قد تغيرت نتيجة دخول الشاشة كمتغير في المعادلة الفنية «إنه تحول من الساحة، ساحة العمل أو ساحة المسرح أو ساحة التمثيل أو حتى ساحة السياسة إلى ساحة الشاشة، ويمكن لنا أن نعمم هذه الظاهرة. لكن الشاشة لها بعد آخر إلى حد ما، إنها سطحية، تجعل الصور في تواصل فقط، وليس لها زمان أو مكان خاصان ... مثلما قيل عن لوحة الموناليزا في اليابان، يمكنك النظر إليها في خمس ثوان.»
216
والواقع أنه قد سبق لفالتر بنيامين الذهاب إلى شيء شبيه بذلك في مقالته: العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي. فقد أكد بنيامين أن العمل الفني لم تعد له تلك الأصالة التي كانت له في الماضي، وما هذا في رأيه إلا نتاج للتطور التقني في عملية استنساخ الصور، الأمر الذي أفضى في النهاية إلى ضياع ما أطلق عليه بنيامين «هالة الفن». ولا تشير هذه الهالة إلى مكون ما من مكونات العمل الفني، وإنما تشير إلى الجانب المرتبط بأصالة العمل الفني وأصالة الفنان الذي أنتجه. وتلك الهالة هي التي تخلع على العمل الفني الطابع الطقوسي، وتجعل المشاهد يقف مشدوها أمام أحد الأعمال الفنية العظيمة. لقد ضاعت هالة الفن وفقد الفن بريقه نتيجة عملية التداول اللانهائية للنسخ، ولم يعد يعني المشاهد كثيرا ما إذا كان يشاهد أصل العمل الفني أم صورته، ما دامت النسخة في النهاية هي صورة طبق الأصل. لقد خفضت النسخة من القيمة الفنية للأصل وأزالت هالته، رغم أنها في الوقت ذاته ربما تكون قد زادت من قيمته المادية.
217
ربما كانت أعمال الفنان الأمريكي إندي وارهول
Andy Warhol (1928-1987م) من الأمثلة الفنية البارزة التي يمكن التدليل بها على هذا التحول الذي طرأ على طبيعة الفن المعاصر. وقد كان وارهول أكثر الفنانين ذكرا في كتاب بودريار: مؤامرة الفن. اشتهر وارهول بشعاره «أريد أن أكون آلة»، وهو شعار معبر عن خواء الفنان والفن المعاصر على حد سواء. والمسألة هنا لا تتعلق بالاغتراب أو الشعور بالغربة، إنما يمكن تلخيصها في عبارة وارهول: «ما لا يمكنك التغلب عليه، فعليك بالانضمام إليه، ولو أنه استغرقك، فلا بد أن تكون انعكاسا له.»
218
ولم يدخر وارهول جهدا من أجل تنفيذ هذه المقولة (على سبيل المثال رأى وارهول أنه قد استغرق طوال عشرين عاما في تناول نوع واحد من الطعام على وجبة الغداء «وهو حساء كامبيل
Cambil »؛ لذا جاء أحد أعماله نسخا، عن طريق تقنية الشاشة الحريرية، لإحدى عبوات هذا الحساء). وقد رأى وارهول «أن الفن ليس للنخبة، بل لعامة الشعب الأمريكي.»
219
ولكن كيف يمكن للمرء أن يمثل «جماهير الشعب الأمريكي» خاصة وأن الذوق ليس بمقولة عامة أو سكونية؟ كانت إجابة وارهول متمثلة في أن الفن لا بد أن يعبر عن الأشياء التي تمثل قاسما مشتركا بين الجميع، ووجد وارهول في المنتجات الاستهلاكية (حساء كامبيل، الكوكاكولا، علب البريلو، صور مشاهير النجوم) غايته؛ لذا كانت موضوعا لأعماله منذ 1963م حتى وفاته، وقد لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا. يقول بودريار عن التيار الذي ينتمي إليه وارهول: «إن الفنان الذي يضع اسمه على قطعة جاهزة الصنع فيمنحها قيمة تجارية لا تقاس بمقدار كلفة الصنع، إنما يدين بالفاعلية السحرية لمجمل منطق الحقل الفني الذي يعترف به ويمنحه الشرعية، ولن يكون فعله هذا سوى إيماءة مجنونة أو غير ذات أهمية لو لم يساندها حشد من المحتفين والمؤمنين المستعدين لتقديمه كما لو كان عبقري المعنى والقيمة.»
220
إندي وارهول 1962م.
وواقع السياسة والأخلاق لا يختلف عن واقع الفن، ذلك أن السياسة مثلا لم تعد استراتيجية أيديولوجية بقدر كونها قد دخلت في مدار المصطنع. لقد انخرط الجميع في اللعبة، لعبة الإيهام، لدرجة أن التمايزات السياسية لم تعد واضحة، فلا مجال الآن للتمييز بين اليساري واليميني مثلا؛ لأن الحدود التي صنعتها الأيديولوجيا، أتلفتها وهدمتها استراتيجية التصنع والاصطناع. والأخلاق كذلك غدت اصطناعية. وعلى العموم فالاصطناع - كما يقول بودريار - جعلنا «لم نعد نتوفر على معيار أو مقياس أو إطار أو مرجع أنطولوجي أو قاعدة إبستمولوجية أو ضوابط أخلاقية نهائية أو يقينيات دينية، تصلح للتمييز بين الأشياء، ورسم الحدود، وتحديد المسارات، وتثبيت الأسماء، وضبط الآفاق، وطرد الأشباح، والأوهام والتناقضات.» ويضيف: «في العالم كانت لا تزال هناك موازنة بين الخير والشر، وفق علاقة جدلية قائمة تضمن على الرغم من تقلبات الظروف توتر العالم الأخلاقي وتوازنه - كما كانت المواجهة خلال الحرب الباردة بين القوتين العظميين تضمن توازن الرعب، فلا تفوق إحداهما الأخرى. ويختل هذا التوازن عند الشروع بتعميم كلي للخير (هيمنة الإيجابي على أي شكل من أشكال السلبية، استبعاد الموت وكل قوة محتملة العداء - انتصار قيم الخير دائما أبدا)، عندئذ يختل التوازن ويصبح كأن الشر قد استعاد استقلالية خفية، ناميا على نحو أسي، توسعي.»
221
إن النظام العالمي الجديد لا يترك مجالا للتمايزات، وكل ما يخرج عن النظام ينبغي مواجهته بالقوة. هذا ما أكد عليه بودريار في مؤلفه قوة الجحيم
(2002م) الذي كرسه تحديدا لموضوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
222
في هذا الكتاب ينتقد بودريار الإمبريالية الغربية التي تتحكم في طبيعة العالم من حولنا: «لا يتعلق الأمر بصراع الحضارات، بل بمواجهة أنثربولوجية بين ثقافة عالمية متماثلة وكل ما يحتفظ في أي مجال بشيء من التمايز يحول دون تذويبه في تلك الثقافة. ووفقا لتلك الثقافة العالمية تغدو كل الأشكال المختلفة للخصوصية بمثابة هرطقات تماما كما هو الحال في الأصولية الدينية ... إن رسالة الغرب تتمثل في إخضاع الثقافات المتعددة لقانون المعادلة القهري بكافة الوسائل الممكنة ... إن مثل هذا النظام يرى في كل شكل عصي عليه إرهابا مفترضا. هكذا حال أفغانستان؛ فالعالم الحر لا يتحمل بلدا يمنع الحريات الديمقراطية - الموسيقى والتلفاز ووجوه النساء. ولا يتحمل أن يقف بلد ما في مواجهته، مهما كانت خلفيته الدينية التي يستند إليها، فمن غير المسموح الاعتراض على الحداثة في نزعتها الكونية.»
223
لقد صار الحادي عشر من سبتمبر علامة ثقافية عالمية، وهو اليوم الذي أفاق فيه الناس على صورة طائرتين تخترقان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، واحدة تلو الأخرى. كانت الصورة وهي تبث تليفزيونيا تحمل كل مقومات الإخراج السينمائي، وتضاهي أدق فنيات السينما، حتى في الإثارة والتشويق. وبما أنها صورة غير عادية وغير تقليدية فقد توفر لها من وسائل الإشهار والتعميم ما جعلها صورة كونية يشترك كل البشر في تلقيها وتأويلها. لقد كانت صورة ناسخة لكل ما سواها من صور، وبلغت قوتها النسخية أن ألغت كل ما سبقها وصارت المصدر التأويلي لكل ما بعدها، وهي بهذا صورة تترجم كل عناصر الهيمنة الثقافية والبصرية؛ حيث يتقابل طرفان لم يكن من الممكن أن يتقابلا قبل ذلك التاريخ، وفي قلب نيويورك تحدث معركة عالمية بين قوتين إحداهما عظمى ويرمز لها البرجان الفارهان، والأخرى ناشئة لا تملك غير إرادة المواجهة.
وقد صارت المواجهة سافرة هناك، فكيما يتحقق إخراج صورة كونية للحدث أراد صانعوه أن يكون عالميا وخططوا لإخراجه وإنتاجه لكي يحققوا أعلى درجة من عالمية الصورة، وهو تخطيط ينافس في دقته أرقى أنواع الإخراج السينمائي في هوليوود. ومن المؤكد أن مفجري البرجين قد وضعوا في تصورهم ما يمكن أن تكون عليه صورة الحدث في التغطيات التليفزيونية. وفي المقابل فإن المستهدف الأمريكي قد سعى إلى توظيف تلك الصورة توظيفا يضمن له تحقيق أكبر قدر من التأثير عبر تلك الصورة، مما يعني أن الطرفين كانا يمارسان لعبة في الإخراج والمونتاج من أجل إنتاج تأثير خاص تحدثه صورة البرجين وهما ينفجران ثم ينهاران، ويكون ذلك فاتحة إخبارية عالمية وصورة كونية تلغي كل ما قبلها، وتعيد كتابة التاريخ من لحظتها وصاعدا؛ لكي تتغير اللغة ذاتها وتتبدل المصطلحات، وليست الأحداث فقط. فما حدث قد كتب لغة مختلفة وسجل مصطلحا ذا قيمة دلالية خاصة تعود إلى تلك الصورة وتحيل إليها؛ أي أن الصورة صارت هي المرجعية الدلالية للمصطلحات.
وأول هذه المصطلحات وأخطرها وأكثرها فاعلية ومركزية هو مصطلح الإرهاب. وكل بحث في معنى هذا المصطلح لن يكون دقيقا إذا اعتمد على دلالات ما قبل صورة الحادي عشر من سبتمبر؛ ذلك لأن الصورة قد نسخت ما قبلها وكتبت معنى خاصا يصدر عن تلك الصورة ويحيل إليها. ولم يبق على الإنسانية بعد ذلك إلا أن تسلم بهذا المعنى، بعد أن انهزمت كل مصطلحات الفكر الذي صار في تلك اللحظة تقليديا وغير عملي وغير مقبول.
في الواقع، كما يرى بودريار، كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغيرا عالميا كونيا يحدث للثقافة البشرية؛ حيث تتولى الصورة رسم المعاني وتغيير المصطلحات. بهذا المعنى نفهم لماذا دعا بودريار إلى التفكير في أحداث 11 سبتمبر فيما وراء الخير والشر؛ أي فيما وراء النزعة الأخلاقية الكلاسيكية؛ والنظر إليها من جهة النظام
le système
الذي أثرت عليه هذه الأحداث، بحيث خلخلت قطبية رمزية معينة.
ويعيد بودريار تلك الضربة الرمزية كما يسميها هو، إلى نفس المنظومة التي أنتجتها، وكأنه يريد أن يكرر قول هيجل بأنه من القضية يتولد نقيضها، يقول: «هم الذين نفذوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر لكننا نحن من أراده، وإذا لم نأخذ في الاعتبار هذه الحقيقة، فإن الحدث يفقد أبعاده الرمزية كلها، ويصبح مجرد حدث عادي يمكن اختزاله في مجرد عمل إرهابي، وينتهي الأمر عند هذا الحد. لكننا نعرف أن الأمور ليست بهذه البساطة. وأن ما حدث يتكئ على تواطؤ دفين يجد جذوره في أمكنة متنوعة. إنه صدى لفرض كل ما هو مطلق ولكل قوة نهائية، وإن مبنيي مركز التجارة العالمي كانا التجسيد لهذه القوة المطلقة.»
224
والانهيار الذي تعرض له المبنيان يفوق بأبعاده الرمزية ما تعرض له البنتاجون؛ لأنه، على حد تعبيره، هو صورة لانهيار نسق كامل .
يتكشف من ذلك التحليل إذا أن بودريار لا يحمل الطرف المعتدي كافة المسئولية الأخلاقية عن الحدث، بل هو يحمل بالمثل الطرف المعتدى عليه قدرا مشابها من المسئولية. فما حدث هو إحدى نتائج النظام الأحادي، وهو يقول في هذا الصدد: «عندما يأخذ نظام ما لنفسه كل الأوراق، فهو يدفع بالآخر إلى تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة متوحشة لا ريب؛ لأن طبيعة هذا التحدي هي نفسها متوحشة.»
225
إن المشهد الذي يحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تبلغ حد التداخل بين الشجب الأخلاقي والاتحاد المقدس ضد الإرهاب، وبين التهلل الاستثنائي لرؤية هذه القوة الفائقة العالمية وهي تدمر نفسها بنفسها وكأنها ترتكب انتحارا مشهودا، ذلك «أنها نظرا لقوتها التي لا تحتمل، أججت كل هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم. وهي التي أثارت هذه المخيلة الإرهابية التي تسكننا جميعا.»
226
ووفق هذه النظرة فإن الحدث يتعدى بكثير مجرد الحقد على قوة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن يؤجج تفاقم قوة القوة وتركزها الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها الخاص، فالغرب الذي يتصف، حسب بودريار، كما لو أنه في موقع (لله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحاريا ويعلن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجي مركز التجارة وكأنه تواطؤ غير متوقع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. ويعتقد بودريار أن النظام العالمي المهيمن يستلزم ضرورة وجود إرهاب كي يستمر في العمل والسيطرة؛ لأنه وبدون نقيضه سينهار هذا النظام، بل إن تواطؤا عميقا ينشأ بين الخصمين، وبالتالي يمكن التساؤل بهذا المعنى حول من يستخدم الآخر.
وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام؛ فالنظام العالمي، المتمثل في شبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لا بد أن يخلق لذاته عدوا محدد المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدد المعالم تم لصقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره؛ لأن الإرهاب تم توليده من داخل النظام ذاته، ولم يأت من خارجه «لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات أو الأديان، كما يتعدى بكثير محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام. صحيح أن هناك تقابلا بينهما، لكنه تقابل يكشف، عبر طيف أمريكا (التي ربما كانت مركز العولمة، لكنها بالتأكيد ليست بمفردها) وعبر طيف الإسلام (الذي لا يرادف أيضا الإرهاب)، أن العولمة تخوض صراعا مع ذاتها.»
227
ويستطرد بودريار قائلا: «الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام.»
228
من هنا، يمكن الحديث، وفقا لبودريار، عن حرب عالمية رابعة وليس ثالثة؛ ذلك أن محورها الرئيس هو العولمة.
229
فالحربان العالميتان الأوليان تعكسان الصورة الكلاسيكية للحرب. الأولى وضعت حدا لتفوق أوروبا وللعهد الاستعماري، والثانية حطمت النازية، والثالثة وقعت تحت ما يسمى بالحرب الباردة، وانتهت بالقضاء على الشيوعية. وكل حرب من هذه الحروب قادتنا إلى وضع عالمي جديد. أما الحرب الجديدة، فيعتقد جان بودريار أنها أصبحت شاملة بحيث لم يعد بإمكان أحد الفرار منها أو تجنبها. إنها في قلب هذا النظام العالمي الجديد. (4-6) الواقع الفائق
يعود مفهوم الواقع الفائق
hyper-reality
بجذوره إلى تاريخ قديم؛ حيث ساد الجدل حول مفهومي الواقع
Reality
والوهم
Illusion . لكن الاستعمال الحديث للمفهوم ارتبط بكتابات فالتر بنيامين الذي قام بدراسة الصورة ضمن سياق أعم من دراسته لما أطلق عليه صناعة الثقافة. ففي مقالته الشهيرة التي صدرت عام 1936م «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تكنولوجيا» يتأمل بنيامين - على حد تعبيره - «تقلص» و«ذبول» و«تدمير» ما يسميه ب «هالة الفن»
Glanz der Kunst
أو «الإحساس بخصوصية وتفرد العمل الفني.» مفترضا أن هذه الهالة لا يمكن فصلها إطلاقا عن كونها جزءا لا يتجزأ من نسيج التقاليد الفنية والحضارية، «فأي تمثال قديم لفينوس
Venus ، مثلا، يمثل بالنسبة للإغريق، الذين يرون فيه رمزا للجمال، سياقا تراثيا، يختلف عنه لدى رجال الدين في العصور الوسطى ممن كانوا ينظرون إليه باعتباره وثنا ينذر بالشؤم. إلا أن كلا الفريقين لم يكن ينكر ما له من تفرد أو «شذى».»
230
غير أن معنى العمل الفني راح يتغير في عصر إعادة الإنتاج الآلي الحديث، فتقنيات وآليات إعادة الإنتاج تعمل على فصل «المنتج المعاد إنتاجه» وانتزاعه من أبعاده التاريخية، ومن ثم يتهاوى هذا الشذى أو تلك «الهالة» ويتلاشى التفرد والخصوصية التي كانت للأعمال الفنية، وينتقل العمل الفني إلى فضاء مغاير أو واقع فائق. هذا بالإضافة إلى أن الظروف والأوضاع التي أصبح يتلقى فيها العمل الفني قد تغيرت «فالمعرض الفني وقاعة الموسيقى يفقدان صفتهما «المقدسة»؛ حيث يمكن إعادة إنتاج العمل الفني واختباره أو عيش تجربته في عدد كبير من الظروف أو الأوضاع.»
231
وعلى الرغم من الروح النقدية التي يتحدث بها بنيامين، إلا أنه قد رأى في ضياع «هالة» الفن إمكانية لتعزيز التفكير النقدي للجمهور حيال ما يعرض عليهم من أعمال فنية. فهالة الفن قديما كانت تشكل عائقا أمام التلقي الموضوعي للعمل الفني، كانت تخلق نوعا من القداسة للفن، يطلق عليه بنيامين الربقة اللاعقلانية «كلما انخفضت الأهمية الاجتماعية لأحد الأشكال الفنية، ازداد تمييز الجمهور للفارق بين النقد والمتعة.»
232
وقد اتخذ المفهوم موقعه الخاص في ثقافة ما بعد الحداثة ولدى بعض من مفكريها: في مقالته رحلات في الواقع الفائق
Travels in Hyperreality (1973م) أشار أمبرطو إيكو
U. Eco
إلى جنوح الناس نحو إعادة خلق الواقع بغية الحصول على أشياء أفضل أو أكثر إثارة أو أكثر رعبا أو جمالا أو جاذبية مما هي عليه في الواقع الفعلي. أما الناقد الاجتماعي دانيال بورستين
Daniel Burstein
فيرى أن الواقع المصطنع يوفر لنا إحساسا مزيفا بتجاوز الحياة واليومية المعيشة، ولكنه حذر من مخاطر استشراء مظاهر الواقع المصطنع على المجتمع.
233
وبالإضافة لذلك، نعثر عند رولان بارت على المعنى الذي وضع له بودريار بعد ذلك مصطلح الواقع الفائق؛ إذ يذهب بارت إلى أن ما يميز الصورة هو الكمال والصنعة المتقنة، ولذلك فهي تقدم واقعا كاملا مركزا ومتقنا، وتقدمه بشكل موضوعي ومحايد وأكثر واقعية من الواقع الحقيقي. وتعني الموضوعية والحياد عدم اعتماد الصورة على رموز وشفرات تحتاج إلى فك مثلما نجد في اللوحات الزيتية مثلا؛ مما يجعل قدرتها أكبر على الإيهام والتزييف.
234
على أن المفهوم مع بودريار، كما سبق وأشرنا، كان بمثابة مفهوم موجه لمشروعه الفكري. فالواقع الفائق هو النتاج أو المحصلة النهائية للصورة الزائفة أو السيمولاكرا.
كيف ومتى وصلت البشرية إلى مرحلة الواقع الفائق؟ ربما كان من الصعوبة بمكان في سياقنا هذا أن نتتبع المراحل التي مرت بها الصيغ التعبيرية وصولا إلى مرحلة الواقع الفائق. لكن بصفة عامة نستطيع أن نقول إن الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية قد مرت بعدة مراحل، أهمها مرحلة الشفاهية، ثم الكتابة، ثم الصورة. والواقع أنه إذا كانت مرحلة الكتابة قد خلقت تمييزا طبيعيا بين من يكتب ويقرأ، وبين من لا يقرأ ولا يكتب؛ فإن الصورة قد جاءت لتلغي هذا التمييز وتوسع من دوائر الاستقبال لتشمل بذلك كل البشر. فاستقبال الصورة لا يحتاج إلى الكلمات أصلا، كما لا يحتاج إلى خلفيات ثقافية عميقة، بالإضافة إلى أنها متاحة للجميع ولا تحتاج إلى طقوس خاصة للتعامل معها. ولهذه الأسباب مجتمعة كان للصورة تأثير طاغ في العصر الحديث. وقد كان لاكتشاف تقنيات صناعة الصورة في القرن العشرين وتغول وسائل الاتصال في الثقافة المعاصرة، أثر كبير في هذا الصدد. على كل الأحوال يحدد بودريار أربع مراحل للصورة في علاقتها بالعالم الواقعي (على غرار المراحل الست لمفهوم الحقيقة عند نيتشه). (4-7) المراحل الأربع للصورة «يبدو أنه أشبه بإعلان نيتشه موت الإله. لكن قتل الإله عند نيتشه كان قتلا رمزيا، وكان الهدف منه تغيير قدرنا ... لكن الجريمة الكاملة ليست قتل الإله، لكن قتل الواقع، وهي ليست واقعة رمزية بل إبادة.»
235
هكذا قال بودريار في مقالته المعنونة باغتيال الواقع المنشورة في كتابه الوهم الحيوي
The Vital Illusion (2000م) وهو يحدد المقصود بالإبادة بأنها تعني أن كل الأشياء (وكل الموجودات أيضا) تتجاوز غايتها، تتجاوز نهايتها؛ حيث لم يعد هناك واقع بعد الآن، وليس هناك أي سبب للوجود، لم تعد هناك حتمية. ولذلك يسميها بودريار الإبادة المطلقة
Extermination . وهي مطلقة لأنها تشير إلى أن آثار الواقع لم تعد موجودة، ولا يمكن الاستدلال عليها «لم تعد هناك جثة. إذا كان ثمة جثة من الأساس، وليس هناك أي مكان يمكن أن نجدها فيه. هذا لأن الواقع ليس ميتا وحسب مثل إله نيتشه. إنه اختفى ببساطة وبشكل محض. وفي عالمنا الواقعي، فإن سؤال الواقع المشار إليه عن الذات والموضوع لم يعد قابلا للطرح بعد الآن.»
236
قتل، إبادة، إبادة مطلقة، جثة، لم تعد هناك جثة، إنها إذا الجريمة الكاملة التي يزعم البعض استحالة حدوثها. لكن كيف بلغنا هذا الوضع التراجيدي؟ يحدد بودريار أربع مراحل
237
من مراحل تطور الصورة من العصر الحديث وحتى نهاية القرن العشرين: (1)
الصورة تجسيد أو محاكاة فعلية للموضوع الخارجي، وهي مرحلة هيمنة الأصل حيث تمثل الصورة واقعا محددا. وتقوم الصورة هنا بمهمة وظيفية تتمثل في نقل الحدث أو تمثيل لواقع ما أو حتى استكشافه.
238
وبالتالي كانت الصورة مرتبطة بحدث معين وواقعة محددة. وكانت قدرة الصورة على التزييف محدودة نظرا لتعذر ذلك تقنيا، وبالتالي كانت الصورة في تلك المرحلة تمتلك درجة عالية من المصداقية، وقد أطلق بودريار على تلك المرحلة النسق الرمزي للصورة
Symbolic Order of Image . وقد حدثتنا سوزان سونتاج
Susan Sontag (1933-2004م) في كتابها عن الفوتوغرافيا
On Photography
عن طبيعة الصورة الفوتوغرافية في مراحل اكتشافها الأولى قائلة: «إن الصور الفوتوغرافية كانت دليلا في ذاتها. فالشيء الذي نسمع عنه، ولكننا نشك فيه، يبدو يقينيا حينما تظهر لنا صورة فوتوغرافية له. كانت الكاميرا أيضا أداة تسجيل للجرائم. وبدءا من استخدام الشرطة الفرنسية لها في جرائم الكوميون القاتلة في يونيو 1871م، أصبحت الصور الفوتوغرافية أداة مهمة في يد الدولة الحديثة لمراقبة شعبها والسيطرة عليه ... ومهما كانت القيود ... فإن الصورة - أية صورة - تبدو في علاقة أشد براءة - وبالتالي أشد دقة - مع الواقع المرئي مقارنة ببقية الموضوعات المتسمة بالتقليد والمحاكاة.»
239 (2)
مرحلة التزوير أو تزييف الواقع: وهي المرحلة التي سادت خلال القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر. وقد كانت الصورة في هذه المرحلة تهدف إلى خلق نموذج مثالي للواقع أو الطبيعة عن طريق الإنتاج الصناعي الدقيق وهو الشيء الذي أدى إلى تصدع الفوارق والتمايزات بين الأصل ونسخته. يقول وليام إيفينز
William Ivins
عن تلك الفترة: «بدأ القرن التاسع عشر باعتقاد أن كل ما هو منطقي حقيقي، وانتهى بالاعتقاد بأن كل ما له صورة فوتوغرافية هو الحقيقة وحده.»
240
وقد بدأت فكرة التشويه أو التحريف في الظهور تدريجيا. وقد كان الفن مؤشرا جيدا لهذا التحول؛ فقد ظهرت المدرسة الباروكية في الفن بجنوحها نحو غرائبية الأشكال والاهتمام بالتفاصيل المنمقة. على أن استشراء عمليات النسخ لم تفض في النهاية إلى التشكيك في الأصل أو النموذج أو في علاقة الحقيقي بالمزيف. وقد أطلق بودريار على هذه المرحلة للصورة المزيفة النسق الأول
First Order Simulacrum . (3)
مرحلة الإنتاج الآلي المتسلسل: وهي المرحلة التي تمتد حتى النصف الأول من القرن العشرين. وقد كانت هذه المرحلة مواكبة لاكتشاف فن السينما، وتطور العديد من التقنيات المرتبطة بصناعة الصورة. وقد انتشرت في تلك المرحلة صناعة النسخ التي بدأت تهدد باحتلال مكانة الأصل، وهو ما استشرفه فالتر بنيامين في مقالته العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي. غير أن بودريار يرى أن مفهوم النسخ أو الاستنساخ لا يمكن حصره في إطار الأعمال الفنية فقط، بل تجاوز ذلك تدريجيا وأصبح مفهوما معتمدا في المجال الصناعي أيضا؛ فالسيارات والطائرات والملابس وحتى المباني، لا يمكن تمييزها عن نماذجها الأولية التي أخذت عنها؛ ولذا يصعب أيضا وسمها بالتزييف أو التزوير ... ويطلق بودريار على هذه المرحلة النسق الثاني للصورة المزيفة
Second Order Simulacrum . (4)
اختفاء المصدر وصناعة الصورة مع الخبر: تلك هي المرحلة الأخيرة التي يحددها بودريار؛ أي مرحلة النسق الثالث للصورة المزيفة
Third Order Simulacrum . وقد ظهرت تلك المرحلة مع ظهور ثقافة ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين. يقول ريجيس دوبري: «عبر الفوتوغرافيا والسينما والتلفاز والحاسوب، استطاعت آلات البصر في قرن ونصف من الزمن، وبانتقالها من الكيميائي إلى الرقمي، أن تحتوي الصورة القديمة التي يصنعها الإنسان بيديه. وقد نتجت عن ذلك شاعرية جديدة؛ أي إعادة تنظيم عام للفنون البصرية. وفي هذه الرحلة دخلنا في عصر الشاشة بوصفه تقنية وأخلاقية لا تشكل ذروة مجتمع الفرجة وإنما تعلن عن نهايته.»
241
وفي سياق مشابه يوضح المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي
Arnold Tynbee
في نص نشر له عام 1973م أن مسار الإنسانية قد جرى على مراحل ثلاث؛ أثناء المرحلة الأولى ، والتي تعود إلى ما قبل التاريخ، كانت الاتصالات بطيئة للغاية، ولكن تطورات المعرفة كانت تسير ببطء هي الأخرى، بحيث أن كل جديد كان أمامه ما يكفي من الوقت لينتشر عبر العالم قبل أن يطرأ جديد آخر. فكانت المجتمعات الإنسانية تمتلك درجة متقاربة من التطور - والكثير من الخصائص المشتركة. وأثناء الحقبة الثانية، كان تطور المعارف أسرع من انتشارها، بحيث أصبحت المجتمعات الإنسانية أكثر تمايزا واختلافا، وقد دامت هذه الفترة عدة آلاف من السنوات. ثم بدأت الحقبة الثالثة، والتي تقدمت أثناءها المعارف بصورة متسارعة، لدرجة تصبح معها المجتمعات الإنسانية أقل فأقل تمايزا. (4-8) النسق الثالث للصورة المزيفة
ذهب بودريار إلى أن هناك صورة جديدة فاتنة للثقافة المعاصرة في انتشار اليوم. فإذا كانت الحضارة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين قد أعلت من شأن المشهد والصورة، وجعلت منهما وسيطا هاما من وسائط المعرفة؛ فإن ما حدث الآن ونتيجة لهذه المكانة التي احتلتها الصورة، هو غياب الواقع وتواريه خلف عالم من الصور. انكمش الواقع وتضاءل حجمه حتى بات صورة شاحبة، وما لبثت هذه الصورة أن انمحت بالكامل حتى أصبحت غير ذات وجود، وفي المقابل زادت سطوة وهيمنة الصورة التي كان ينظر إليها على أنها محاكاة لعالم الواقع، فأصبحنا نعيش في عالم مليء بالصور غير ذات الأصل، صور معلقة في فضاء خاص بها، هذا الفضاء يتمدد باستمرار وتزداد رقعته، إلى أن أصبح يحتل نفس الفضاء الذي كان يحتله الواقع، نوع من الإزاحة والاحلال إن جاز التعبير. على أن الفرق بين الواقع الجديد والواقع القديم، ليس فرقا في النوع، إنما فرق في الدرجة. بمعنى أن الواقع الجديد يمتلك من عوامل الجذب والإبهار ما لم يكن يمتلكه الواقع القديم؛ لذا فهو لا يقدم نفسه كواقع بديل فقط، بل أشد واقعية من الواقع القديم نفسه. إنه واقع فائق يتجاوز القديم ويعلو عليه، بل وتصبح له مصداقية أكثر منه. •••
يصف بودريار الواقع الفائق بأنه «عالم الدوال المتحررة.»
242
وهو يعتمد إلى حد كبير في هذه النقطة على إعادة توظيف نظرية عالم اللغة الشهير فريناند دي سوسير
Ferdinand de Saussure (1857-1913م). يفرق دي سوسير في نظريته بين الدال والمدلول، فيشير الدال عنده إلى الشكل اللغوي للكلمة، أما المدلول فيشير إلى المحتوى الواقعي لها؛ أي ما تجسده في الواقع أو ما تثيره من معنى لدى المتلقي. وعند دي سوسير ثمة علاقة وثيقة بين الدال والمدلول، بحيث إذا حضر الدال حضر المدلول. وإذا طبقنا مفهومي الدال والمدلول على الصورة نستطيع القول إن الصورة بمكوناتها الشكلية تكافئ الدال، في حين أن المحتوى الموضوعي لها؛ أي الحدث أو الشيء الذي تجسده، هو بمثابة المدلول. ويرى بودريار أن الحياة الاجتماعية تحولت إلى صورة يقدمها الإعلام. والإعلام لا يقدم الواقع كما هو، ولا حتى صورة عنه، بل صورة عن صورة أخرى هي بدورها مولدة منه. ومعنى ذلك أن الدلالة التي يقدمها الإعلام، وبالتالي معنى الواقع، لا تعود مرجعيته إلى شيء آخر خارج ذاته. هذا بينما تفترض الدلالة (المعنى) وجود علاقة بين دال ومدلول، بين رمز وما يرمز إليه. وعندما يكتفي الرمز بذاته، ويكون هو مرجعية نفسه، يصبح ما يدل عليه هذا الرمز خارج نطاق الواقع الذي نعرفه، وبذلك يختفي الواقع، ويظهر الواقع الفائق. وقد استطاعت وسائل الإعلام في مرحلة العولمة أن تخلق قدرا كبيرا من الرموز المشبعة بالمعاني الذاتية المرجعية التي لا علاقة لها بأي مدلول واقعي. وبناء على ذلك يرى بودريار أن العالم أصبح مجرد صورة نقلا عن صورة نقلا عن صورة ... وأصبح العالم مجموعة من عمليات الاصطناع والصور بلا صلة أو علاقة مرجعية مع أصل محدد في الواقع. •••
إن غياب ثنائية الرمز-الواقع يعني غياب الصلة بين الرمز والواقع، وبالتالي لا علاقة بين الرمز والحقيقة. ومن هنا فإن المصطنع يقوم على تدمير هذه المسافة، ما يعني أن الدال أو الرمز غدا كلي القدرة، مستقلا بذاته، ومنكفئا عليها؛ ولهذا لا يخفي أي حقيقة، بل يقدم نفسه على أنه هو الحقيقة. وهذا المعنى يؤكد عليه بودريار أيضا في كتابه التبادل الرمزي والموت
L’Échange symbolique et la mort (1976م) عندما يستقي مثالا على فكرته من فن الرسم «إن نسخة اللوحة تحافظ على علاقة مرجعية مع الأصل، فنسخة اللوحة لا تستمد معناها إلا من اللوحة، بينما المصطنع لا يفعل غير اصطناع مصطنعات أخرى: هنا يختفي مفهوم الأصل برمته، ويختفي أيضا مفهوم الحدث والحقيقة، بحيث لا يبقى مجال لغير المصطنعات.»
243
في هذا الواقع الفائق إذا لم تعد العلامات تمارس دورها المعهود في تمثيل الأشياء أو الإشارة إلى نموذج خارجي، بل أصبحت لا تمثل شيئا سوى نفسها، ولا تحيل إلا إلى علامات أخرى «لقد أصبحت الصورة تسيطر بطريقة رمزية على العصر، ولم يعد من الممكن أن نتكلم عن الصورة والحقيقة، أو وسائل الإعلام والمجتمع، فكل من هذه الثنائيات قد غدا متشابكا بدرجة كبيرة، حتى إنه قد صار من الصعب وضع خط فاصل بينهما، وبدلا من أن تشير وسائل الإعلام إلى العالم الحقيقي، نجد أن أغلب ما تنتجه يشير إلى صور أخرى.»
244
أي أنها تخلت عن كونها تمثل موضوعا محددا، واقتصرت مهمتها على الإحالة إلى صور أخرى تصطف معا لتكون موضوعا مزيفا لا علاقة له بالواقع الخارجي «إن الصور الآن لم تعد تعبر عن موضوع ولا عن واقع شيء، وإنما عن الإنجاز التقني وحده تقريبا. إنه الوسيط التصويري الذي يتحرك ... الناس يعتقدون أنهم يصورون مشهدا، بينما ما هم في حقيقة الأمر إلا منفذون تقنيون لهذا التخيل الافتراضي اللانهائي للأداة. فالافتراضي هو الأداة التي لا تطلب سوى التشغيل، التي تقتضي التشغيل واستنفاد كل إمكانياتها.»
245
من ناحية أخرى، ثمة جانب تراجيدي يؤكد عليه بودريار في تحليله للإعلام المعاصر؛ إذ يوضح أنه وسيلة للانفصال لا للاتصال. يذهب الاعتقاد الشائع حول وسائل الإعلام إلى أنها وسائل اتصال ونقل للرسائل والمعلومات ووسيلة للشفافية، إلا أنها ليست كذلك. يفترض الاتصال وجود علاقة تبادلية بين مرسل ومستقبل، بحيث يتبادل الطرفان الإرسال والاستقبال كما في الحوار بين شخصين، لكن وسائل الإعلام مرسلة فقط دون أن تكون مستقبلة لرسائل مماثلة للتي ترسلها. فمع وسائل الإعلام الحديثة نشهد علاقة اتصال ذات طرف واحد واتجاه واحد. وليس مما يسمى باستجابة الجمهور مما يرقى إلى أن يكون طرفا ثانيا لوسائل الإعلام، وما يقال عن تغذية مرتجعة
feedback
تستقبلها وسائل الإعلام من الجمهور ليس إلا قياسا لتأثير الإعلام على شاكلة القياس السيكولوجي لردود الأفعال المسمى اختبار بافلوف.
246
لتوضيح ذلك يعود بودريار إلى نظرية الاتصال عند رومان ياكبسون
Roman Jackobson (1896-1982م) المكونة من ثلاثة عناصر:
يذهب بودريار إلى أن الرسالة تحررت من المرسل وأصبحت تمارس دورها كجزء من واقعها الفائق، أي أن الرسالة أصبحت ذاتية الفعل ومكتفية بذاتها، هي ذاتها الرسالة والمرسل في آن واحد. وقد يقوم المرسل إليه بإعادة توجيهها مرة أخرى، وفي كل مرة تحمل بمعان جديدة، ويعاد توظيفها بصورة دائرية لا تنتهي. ما تنتجه الرسالة في النهاية من معان وما تحمله من دلالات وما تثيره من ردود أفعال يدور كله في فلك الواقع الافتراضي «فما ينتجه الإعلام ليس إضفاء الطابع الاجتماعي، بل العكس تماما؛ أي الانفجار الاجتماعي في الجماهير. وليس هذا سوى توسع عياني كبير لانفجار المعنى على المستوى المجهري الصغير للدوال ... وما يعنيه هذا هو أن محتويات المعنى جميعا تغدو ممتصة في شكل الوسيط المسيطر الوحيد. فالوسيط وحده هو الذي يمكنه أن يصنع حدثا، مهما تكن المحتويات.»
247
ويرى بودريار أن محتويات الوسيط (كالتليفزيون مثلا) يتم تحييدها بحيث لا يمكن لأي رسالة حقيقية أن ترسل من خلاله؛ فهنالك، كما يقول بودريار «انفجار الوسيط ذاته في الواقعي، وانفجار الوسيط والواقعي في ضرب من السديم الواقعي المفرط، الذي لا يعود ممكنا فيه حتى أن نحدد تعريف الوسيط أو فعله المميز.»
248
بالإضافة لذلك ثمة تحول حدث في علاقات التبادل بين المرسل والمستقبل. فوسائل الاتصال تجاوزت وظيفتها إلى حد ما، كما عبر عن ذلك ماكلوهان
McLuhan . تجاوزت المحتوى والرسالة والذات المتصلة والجوهر الطبيعي لعملية الاتصال، وركزت فقط على الوسيلة «فالاستراتيجيات التي تتمركز حول الوسط وميديا الاتصال قد أصبحت أكثر جوهرية من الاستراتيجيات التي تتمركز حول المحتويات نفسها.»
249
يقصد بودريار بذلك أن طريقة توصيل المحتوى الإعلامي أصبحت أكثر أهمية من المحتوى نفسه.
ويرى بودريار أن المحتوى الإعلامي نفسه قد تضاعف وتكاثر بطريقة ذاتية الفعل، طريقة تشبه «لا أريد أن أقول السرطان، ولكنه شيء ما مشابه لذلك. هناك نوع من الاستقلال الذاتي الآن لأنظمة الصور وأنظمة الخطاب التي أصبح لها اليد العليا على المعنى.»
250
إن الحدث ما إن يتحول إلى مادة إعلامية يفقد واقعيته الخاصة ويتخذ مكانه في فضاء الواقع الفائق، ولن تستطيع أي قوى أن تعيده إلى مداره الأصلي مرة أخرى «كل واقع وفعل معاصرين، أيا ما كان كنههما تاريخيا أو سياسيا أو ثقافيا، تمنحهما صفاتهما الإعلامية الكامنة فيهما طاقة حركة تعمل على لفظهما من مداريهما الأساس وفضاء معنيهما الحقيقي، وتدفع بهما إلى فضاء شبيه يفقدان فيه كل معنى لهما بقدر ما يفقدان فيه كل قدرتهما على العودة إلى فضائهما الحقيقي.»
251
وفي بعض الحالات لا تكون الأحداث قد وقعت أصلا، إنها تكون حدثت على مستوى الشاشة فقط. هناك ما يمكن أن نطلق عليه أحداث شاشة، وليست أحداثا أصيلة يمكن الوثوق فيها. والواقع أنه من الصعوبة بمكان الحديث الآن عن مفاهيم كالأصالة والثقة في وقوع الأحداث. وهنا يمكن للمرء أن يتساءل إلى أجل غير مسمى عن درجة ومعدل الواقع الذي يتم عرضه، إنه يكون في غالب الأمر شيئا آخر غير الذي يحدث «وتدور الدوائر، ويمكنها أن تغذي نفسها من أي شيء، ويمكنها أن تلتهم أي شيء، وكما قال بنيامين عن أعمال الفن، إنك لا تستطيع أبدا أن تعود إلى المصدر، لا يمكنك أبدا أن تستجوب حدثا أو شخصية أو خطابا عن درجته في الواقع الأصلي. إن هذا هو ما أسميه الواقع الفائق. وجوهريا هذا هو المجال الذي لم نعد قادرين فيه على تحقق الواقع واللاواقع، أو ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. ويمكننا أن ندور في هذا المجال، والمجال الأكبر حيث لم يعد للأشياء مبدأ للواقع بعد الآن.»
252
هل تحولت ذوات البشر إلى صور؟ يجيب بودريار بالإيجاب. حقا، إن هذا لم يحدث على المستوى المادي أو التقني، لكن الإنسان، كمستمع ومشاهد لوسائل الإعلام، يغدو كما لو كان محطات للبث لكافة تلك الوسائل. حتى الحوارات التي تدور بين البشر هي في حقيقة الأمر حوارات تدور بين وسائل الإعلام المختلفة ... حوارات إعلامية معكوسة إن صح التعبير.
صورة توضح كيف يزيف الإعلام حقيقة الحدث.
لكن كيف يحدث هذا التأثير؟ كيف يعمل الإعلام على تشكيل النسق المعرفي والقيمي عند الإنسان؟
قبل أن يكون أحد معاني الكلمة الفرنسية
information
واشتقاقها من اللاتينية
informa
تعني الإعلام والإخبار كان معناها التشكيل أو منح الهيئة لشيء ما، ومن ذلك الفعل بالفرنسية
informer
الذي يعني «شكل وكيف». والواقع أن هذا الأصل اللغوي على علاقة ماهوية بطبيعة الإعلام المعاصر، الذي لا يعني بأي حال نقل الواقع أو الحدث كما هو، بل يعني تشكيل الحدث وإكسابه هيئة ما. ثمة مقولة إعلامية شهيرة مؤداها أنه إذا لم توجد كاميرا في موقع الحدث فإن الحدث لم يقع. وثمة قاعدة إعلامية أخرى تقول «ليس المهم أن تنقل الخبر، ولكن المهم كيف تنقل الخبر.» إن حاصل جمع هذه المقولة وتلك القاعدة يكشف لنا عن طبيعة الإعلام الأنطولوجية والإبستمولوجية؛ فالكاميرا تمنح الحدث صفة الوجود، وفي الوقت ذاته تعمل الكيفية التي يتم نقل الحدث من خلالها على تشكيل المنظور المعرفي للمشاهد الآن ومستقبلا.
والواقع أن شاشات التلفاز وأثير الإذاعات وكافة وسائل الإعلام والاتصال الأخرى تروج الرسائل والرموز وترسي مصفوفة جديدة من القيم أو تخلخل النسق القيمي السائد في مجتمع ما بطرق متنوعة تهدف إلى مخاطبة أكبر قاعدة ممكنة من الجماهير.
253
وبمرور الوقت يتبنى المشاهد أو المتلقي الرموز والرسائل والقيم الجديدة ويدرجها في جهازه القيمي-السلوكي، ويحدد من خلالها طريقة توجهه في العالم والحياة، بحيث تشكل مجموع هذه الرسائل والرموز والقيم طريقة المشاهد في علاقته مع نفسه والآخرين والعالم. فما يحدث إذا يتمثل في أن الإعلام يكيف الناس ويدفعها لتندرج في النماذج القيمية والسلوكية التي يخلقها ويطرحها للتداول. وعليه فإن ردود أفعال الفرد في الواقع لا تكون نابعة من داخله، ولا تكون نتيجة تفكير نقدي ودراسة تحليلية للمواقف، بل يتدخل فيها بصورة مباشرة المشاهد الإعلامية المتراكمة. فيغدو العالم في النهاية بكافة مفرداته تجليا لواقع فائق يتشكل من وسائل الإعلام والاتصال الحديثة.
إن الواقع الفائق، وفقا لبودريار، هو عالم لا معنى فيه لثنائية الصورة والواقع، عالم يعيش فيه الإنسان وفقا لشيفرات مشهدية اندرجت في بنيته الإدراكية. فالرمز هو الواقع، ما يعني أن الواقع الفائق امتص كل شيء وغدا مشبعا، والصورة أو المشهد المكتفي بذاته هو الذي يحدد بنية المجتمع، بإلغاء أي مسافة بين الدال والمدلول، إلغاء أي مرجعية، ومن هنا تقليص أي فاعلية نقدية، حتى فاعلية اكتشاف الأخبار المتناقضة داخل وسيلة الإعلام.
254
في دراسة حملت عنوان «الرؤية الإعلامية» نشرت في كتاب بؤس العالم
La Misère Du Monde (1993م) ينطلق باتريك شامباني
255
في رؤيته لوسائل الإعلام من منطلق مشابه لبودريار. فيذهب إلى أن كافة الأحداث والكوارث لا تتمتع بالقدرة نفسها على المرور عبر الإعلام ولا تسمح جميعا (وفي أحيان كثيرة لا يسمح لها بذلك) بتغطيتها بالدرجة نفسها. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تتعرض تلك الظواهر التي تجد سبيلها إلى التغطية إلى عدد من التشويهات والتزييفات ما إن تتعهد بها وسائل الإعلام؛ ذلك أن هذه الأخيرة لا تكتفي بتسجيلها، بل لا بد أن تمارس عليها عملا من البناء وإعادة التهيئة يعتمد في درجته ومداه على المصالح الخاصة بهذا القطاع من الأنشطة (قطاع الإعلام الذي تظل له مصالحه الخاصة واستراتيجياته التي يمليها عامل المنافسة التجارية بين مختلف قنواته من جهة، وانخراط هذه القناة أو تلك في هذه الأيديولوجية المهيمنة أو تلك من جهة أخرى. إن وسائل الإعلام تعالج على الفور، والحدث لا يزال بعد في مهده، لتقدم عنه تمثلا اجتماعيا يظل يفرض نفسه رغم التكذيبات اللاحقة التي يقدمها أحيانا سياق الحدث نفسه، نتائجه، أو النظرة الملقاة عليه بأناة؛ ذلك أن هذا التمثيل، مهما كان بعده عن الواقع، لا يقوم في الغالب إلا بتدعيم تأويلات جاهزة ومعدة سلفا وتقوية الأحكام المسبقة ومضاعفتها. وفي ظل هذا الوضع يتم التلاعب بكافة الأحداث: تحويل تظاهرة صغيرة إلى حدث كاسح، أو تهميش حدث جدير بالاعتبار واختزاله إلى حدث عديم القيمة وغير ذي بال .
في سياق مشابه يقدم لنا عالم الاجتماع والسياسة جاك إيلول
J. Elul (1912-1994م)
256
تحليلا نقديا للسياسة والرأي العام في عصر الإعلام، يتبين منه الدور الأيديولوجي الجديد لوسائل الإعلام. فإذا كان للرأي العام دور أساسي وكبير في تشكيل السياسات، فيجب علينا في البداية تحليل العناصر التي تشكله؛ أي الوقائع والمعلومات. يذهب إيلول إلى أن الوقائع المشكلة للرأي العام لا تتمتع بالحياد والنقاء المفترض فيها، فالوقائع لا تصبح وقائع إلا بعد عملية معالجة من قبل وسائل الإعلام، ولا يتقبل الرأي العام شيئا على أنه واقعة إلا إذا اتفقت مع ما يفهمه من الواقعة؛ أي مع ما لديه من نماذج
وأنماط جاهزة
Stereotypes
صنعها الإعلام نفسه. ومن هنا تكون الوقائع التي صنعها ونقلها الإعلام هي نفسها العناصر والخيوط المكونة لشبكة الأيديولوجيا. فالأيديولوجيا لا تزيف وقائع ومعلومات، بل تعمل على تشكيلهما منذ البداية.
يقارن إيلول بين الوقائع والمعلومات في المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث. فالرجل الذي ينقل إلى قبيلته أخبارا من القبائل الأخرى أو عن المناطق التي زارها، أو التجار الذين ينقلون لمجتمعهم أخبارا عن مجتمعات أخرى لا يؤثرون في فهم ورؤية مجتمعهم لنفسه؛ فهذه الأخبار مجرد شذرات منفصلة عنهم ولا تشكل جزءا من عالمهم الاجتماعي، ويظل الاحتكاك المباشر بالمجتمع هو الوسيلة الأساسية لمعرفته. أما في المجتمع الحديث ونتيجة لتقدم وسائل الإعلام فإن ما يتلقاه المرء من أخبار ومعلومات هو الذي يشكل رؤيته للعالم ولمجتمعه الذي يعيش فيه. وعلى الرغم من أن المرء يذهب ويجيء ويتحرك عبر العالم كله إلا أنه يخبره بطريقة غير مباشرة، فهو يعيش في عالم تمت إعادة ترجمته وتحريره، وبالتالي لم تعد لديه صلة مباشرة بالعالم الحقيقي؛ وحتى الوقائع والأحداث التي عاشها بنفسه وشاهدها تحدث أمام عينيه سوف يرى أنها تنقل إليه عن طريق وسائط إعلامية: الصحف، الإذاعة، التليفزيون، الإنترنت. وسوف يرى وصفا وتعليقا وتفسيرا وتحليلا لما عاشه بالفعل، وغالبا ما سيؤثر عليه الحدث الذي تم توصيله بهذه الطريقة أكثر من تأثره بخبرته الشخصية، فهذه الأخيرة لن تصمد أمام الصورة التي ينقلها الإعلام. وعلى عكس الاعتقاد الشائع يذهب إيلول إلى أن توافر المعلومات الصحيحة لا يؤدي بالضرورة إلى تشكيل واقعة سياسية وبالتالي إلى رأي عام، فهناك حالات كثيرة توافرت للناس فيها المعلومات الصحيحة والكافية لكنها لم تؤد إلى ظهور رأي عام. إن تشكيل الرأي العام مسألة دعاية (أو بروباجندا)؛ فيجب أن تحمل المعلومات بعناصر عاطفية وانفعالية ورمزية حتى يتشكل الرأي العام.
ليست الوقائع هي الأحداث الفعلية، بل ما تمت ترجمته إلى كلمات وصور. ويضرب إيلول مثلا على ذلك بغزو جيش لدولة أخرى؛ فرجل الشارع البسيط الذي رأى الحدث أمامه لم يشاهد إلا جيشا دخل مدينته، وهو لا يدرك أن ما رآه غزو أجنبي لبلاده إلا عن طريق الإعلام. فالرجل لم يشاهد واقعة بل حدثا، ولا يتحول هذا الحدث إلى واقعة حقيقية قائمة إلا عن طريق الإعلام. فالواقعة هي ما تمت معالجته لإضفاء طابع العمومية عليه كي يتمكن المرء من إدراكه مباشرة؛ لأن الإدراك يكون عن طريق العموميات والكليات لا الجزئيات كما تذهب نظرية الجشطالت في علم النفس؛ وهي أيضا ما تم نقله لأناس كثيرين عن طريق وسيلة اتصال جماهيرية. ومعنى هذا أن الواقعة هي ما أضفيت عليها تلوينا خاصا غير حاضر في أعين من شاهدوا الحدث، وهي ما ألحقت بها تحليلات وحملت بمعان ومشاعر حتى تكون مادة للجمهور؛ وإذا لم تترجم الأحداث المبعثرة والمشتتة بهذه الطرق والوسائل وأضفي عليها هذه الخصائص لن تصبح وقائع، ولن تكون عناصر لتشكيل وبناء رأي عام. إن استقبال المرء للوقائع وفهمها وتفسيرها يعتمد على ما لديه من أنماط جاهزة
Stereotypes
صنعها الإعلام، بحيث أنه لن يصدق الوقائع التي لا تتفق مع هذه الأنماط أو تعارضها، بل إن تلك الأحداث التي تتعارض مع أنماط فهمه واستقباله لن يكون لها تأثير يذكر عليه وسوف ينساها بسرعة.
في كتابه المتلاعبون بالعقول
Mind Managers
يرى هربرت شيللر
Herbert Schiller (1919-2000م) أن وسائل التضليل مرتبطة ارتباطا رئيسا بامتلاك رأس المال. فتتم السيطرة على أجهزة المعلومات وفق قاعدة بسيطة من قواعد السوق، فامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها، شأنه شأن الملكية الأخرى، متاح لمن يملكون رأس المال، والنتيجة الحتمية لذلك أن تصبح محطات الإذاعة وشبكات التليفزيون والصحف والمجلات وصناعة السينما ودور النشر مملوكة جميعها لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية، ويصبح الجهاز الإعلامي جاهزا للاضطلاع بدور فعال وحاسم في عملية التضليل. وتحت غطاء حماية الملكية الخاصة وحراسة رفاه الفرد وحقوقه يتم بناء مؤسسات كاملة للتضليل الإعلامي. ولكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر لا بد من إخفاء شواهد وجوده؛ أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية، أو بعبارة أخرى: إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا. ويبدو في الظاهر أن ثمة تنوعا كبيرا في البث الإعلامي مستمدا من العدد الكبير للصحف ومحطات الإذاعة والتليفزيون، ولكن النتيجة كما لو كان ثمة مصدر واحد؛ فالمادة الترفيهية والأخبار والمعلومات العامة والتوجهات والأفكار يجري انتقاؤها جميعا من الإطار المرجعي الإعلامي نفسه من جانب «حراس» للبوابة الإعلامية تحركهم دواع تجارية لا يمكن التخلي عنها، وقد يختلف الأسلوب والتعبير المجازي لكن الجوهر واحد؛ فقد تبين أن من بين الأساطير الشائعة عن التليفزيون الأمريكي أنه يعمل بوصفه ديمقراطية ثقافية تستجيب كلية لإرادة أغلبية المشاهدين فيما يتعلق باستمرار برامج معينة واختفاء أخرى، والأدق أن يقال أنه يمثل رغبة واتجاه المعلنين، وأن المصمم الحقيقي للبرامج هو صناع المواد الغذائية والأدوات المنزلية ومستحضرات التجميل والسيارات والأدوية. والواقع أن برامج كثيرة اختفت برغم شعبيتها والإقبال عليها، ولكنها لم تجذب اهتمام المعلنين. وهكذا يظل الجمهور في دوامة من الأحداث والتدفق والاستحواذ، ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، ويقدم إليه الوعي جاهزا، ولكنه وعي مبرمج ومعد مسبقا باتجاه واحد مرسوم بدقة. وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار، وتخالف المجموع العام، وتسعى لهدم النظام. وقد يضطرون (وهذا ما يحدث غالبا) إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم، ويتظاهرون بأنهم مثل كل الناس، ويقتلون بالتدريج ملكة التساؤل والنقد.
257
وبالعودة إلى بودريار سنجده ينظر إلى الإنسان المعاصر وكأنه سيزيف المحكوم عليه بالوقوع في دائرة التكرار اللانهائي عديم الجدوى. فكل ما يحيط به وسائط ووسائل تحيل إلى الواقع لا الواقع ذاته حتى أصبح «يعيش في نمط إحالي من الوجود
referential .» لم يعد أحد يعيش في الواقع الحقيقي بل في عالم يشير إلى الواقع الحقيقي فقط. «والحقيقة أن الإنسان المعاصر قد رضي بأن يستعيض بالنسخة عن الأصل وبما يحاكي الواقع عن الواقع الحقيقي.»
258
وإذا كان الحال كذلك، فما طبيعة العلاقات الإنسانية في ظل الواقع الفائق؟ ما طبيعة العلاقة التي تربط الأنا بالآخر؟ يتناول بودريار هذا الموضوع في أماكن متفرقة من أعماله، وهو يقوم بالتمييز بين الإنسان المرآة والإنسان الشاشة.
259
الإنسان المرآة هو الذي ينعكس في الآخر من خلال التفاعل والتواصل المتبادل، أما الإنسان الشاشة فهو العارض لموضات وتقاليع والكاشف في سلوكه عن ثقافة الاستهلاك، فهو شاشة عرض لهذه الثقافة. شهد القرن العشرون تحول الإنسان من كونه إنسان مرآة إلى إنسان شاشة. والفرق بينهما أن الإنسان قبل عصر الإعلام كان مرآة لأخيه الإنسان، وكي يكون الإنسان مرآة للآخر يجب أن يكون هذا الآخر حاضرا في مواجهة الأنا في علاقة تفاعل متبادل؛ حيث تنعكس أفعال الأنا على الآخر والعكس. أما مع الإنسان الشاشة فتغيب العلاقة التفاعلية المباشرة ويتحول الإنسان نفسه إلى النموذج الأساسي لعصر الإعلام وهو الشاشة؛ حيث يصبح عارضا لموضات أزياء ولأنماط من الحياة أعدها له المجتمع الاستهلاكي سلفا. وهنا تختفي العلاقة المرآوية الانعكاسية التي تتضمن التفاعل بين الأنا والآخر، ولا يبقى إلا ذلك الإنسان العارض والمؤدي لأدوار
role performer
محددة سلفا، لا القائم بممارسة
praxis
أو فعل
action ، يقول بودريار: «بطريقة أو بأخرى ليست هناك شاشات ومحطات فقط بالمعنى التقني، لكننا أنفسنا، مستمعي ومشاهدي التليفزيون، نصبح محطات لكل هذه الشبكة من الاتصالات. نحن أنفسنا شاشات. لم يعد المتحاورون كائنات بشرية، ويبدو أن هذا أمر مخز، لكنه كما اللعبة استقرت من شاشة لأخرى. إنه في الغالب حوارات بين المحطات أو الدوائر، أو بين وسائل الإعلام المختلفة. هو بطريقة ما حوار معكوس، وسيط مع نفسه، إنه هذا التناول المكثف، ذلك النوع من المرجعية الآلية للإعلام الذي يشملنا في شبكته. وفي الوقت الحاضر فإن الاختلاف بين الإنسان والآلة من الصعب جدا تحديده.»
260
أحد أعمال بودريار الفوتوغرافية التي تشير إلى التكرار المنتظم للشيء ذاته.
Jean Baudrillard La Bocca, 1998 .
كانت الثقافة الأمريكية بالنسبة لبودريار نموذجا مثاليا متحققا للواقع الفائق. ولهذا السبب خصص بودريار أحد مؤلفاته أمريكا
L’Amérique
لتتبع مظاهر هذا الواقع بغية تحليلها. يذهب بودريار إلى أن حقيقة الولايات المتحدة إنما تتشكل كشاشة عملاقة ... شاشات العرض في كل مكان، وأغلبها في المدينة، أفلام وسيناريوهات رائعة تصور المواقع بطريقة خاصة، خصوصا إذا كانت تمتلك القدرة على جذب السياح، ويتم «إلباسها» صورا خيالية مطلوبة «فالقلاع التاريخية التي تعود إلى العصر الوسيط تقدم إقامة نهاية أسبوع تامة (طعام، أزياء) لكن من دون حرارة الأصل طبعا.» والاشتراك الزائف في هذه العوالم المتعددة له آثار فعلية في الطرائق التي تنتظم بها هذه العوالم. وبحسب المروجين الأمريكيين، فقد بات ممكنا «أن تعيش العالم القديم في يوم واحد وبدون الاضطرار إلى الذهاب إلى هناك.» فالجغرافيا نفسها تحولت إلى مجموعة من الصور تشاهد على شاشات العرض. ونسخ هذه الصور الزائفة في حياتنا اليومية يجلب معا عوالم مختلفة في المكان والزمان. هذه العوالم يتم في الغالب محاكاتها على أرض الواقع بصورة مجزأة ومختزلة، بحيث يصبح الواقع ذاته حشدا من الصور المتراصة التي لا علاقة لها ببعضها. شيء شبيه بتقنية الكولاج
Collage
في فن التصوير المعاصر «تبدو المدينة الأمريكية كأنها خرجت للتو من الأفلام. ولكي تكتشف سرها، لا ينبغي أن تبدأ من المدينة وتتحرك قدما إلى الداخل نحو الشاشة، بل ينبغي أن تبدأ من الشاشة وتتحرك إلى الخارج صوب المدينة. ذلك هو المكان الذي لا تتخذ فيه السينما أي شكل استثنائي، بل تكتفي بأن تخلع على الشوارع والبلدة بأكملها جوا أسطوريا.»
261 (4-9) الواقع الفائق في المجال السياسي
كان المجال السياسي حاضرا بقوة في تحليلات بودريار من حرب الخليج الأولى إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وربما شهرة بودريار الكبرى قد جاءت في أوائل التسعينيات عندما نشر مقالاته عن حرب الخليج؛ فقد استرعت هذه المقالات انتباه العديد من المثقفين والمفكرين نظرا لغرابة الطرح الذي قدمه. وقد بدت أطروحة بودريار للوهلة الأولى سطحية؛ لذا لاقت استهجانا كبيرا من قبل البعض
262
الذين رأوا فيها تسفيها لحدث كان ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. فبعد حوالي ما يزيد عن عشر سنوات من العمل حول مفهوم المحاكاة والصور الزائفة، وبالتحديد في العام 1995م عنون بودريار أحد مؤلفاته ب «حرب الخليج: لم تقع».
263
نشر الكتاب في البداية بصورة مجزأة على شكل مقالات في جريدة ليبراسيون الفرنسية، إبان فترة حرب الخليج الأولى (حرب تحرير الكويت). وهو يتألف من ثلاث مقالات: «حرب الخليج لن تقع»، «حرب الخليج: هل هي واقعة حقا؟» و«حرب الخليج لم تقع». ويتلخص سجال بودريار، في جوهره، في أن منفذنا الوحيد إلى حقيقة الحرب هو الإعلام. والحرب، مثل أي شيء آخر، هي قطعة من الخطاب الإعلامي الذي يخلق لنا باستمرار عالما لا واقعيا. لذا فحملة حرب الخليج كلها لا تعدو كونها تطويرا للعبة من ألعاب الفيديو، فهي سيناريو فوق واقعي. وحتى الذين هم في السلطة من صناع القرار، كانوا يتابعون الحرب من على شاشة ال «سي. إن. إن». فالتغطية الإعلامية والصور التي تنقلها هي التي تصنع الحرب، بل إنها هي الحرب. ذلك أن الانطباعات التي تخلفها لا تؤثر على جماهير المشاهدين وحدهم، بل أيضا على مدبري الحرب.
لقد ذهب بودريار إلى أن الهدف من حرب الخليج لم يكن هدفا سياسيا كما كان الحال مع الحروب السابقة، بل كان هدفا استعراضيا في المقام الأول. تضخيم الحدث بصورة تتجاوز واقعيته حتى يحدث التأثير النفسي المطلوب، «لقد غدا الهدف مكانة الحرب ومستقبلها عوضا عن واقعيتها، إثبات وجودها المفرط وترسيخ هذا الوجود في العقول أكبر وقت ممكن، وفي الواقع فإن تلك المهمة قد افتقدت إلى الكثير من المصداقية.»
264
من هنا وفقا لبودريار يظل التساؤل قائما: هل كنا نشاهد الحرب كما هي فعلا على شاشات الأخبار؟ أم كان المشاهدون يشاهدون واقعا افتراضيا للحرب؟
صورة واحدة بمدلولات مختلفة ... يتوقف المعنى فقط على طريقة العرض.
ثمة أمثلة عديدة أخرى قدمها بودريار مشابهة في مضمونها للمثال السابق. غير أننا من الممكن أن نوظف مفهوم بودريار للواقع الفائق في تحليل بعض الظواهر داخل مجال السياسي: (1)
اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية منذ تولي جورج واشنطن رئاسة البلاد أن يتم تنصيب الرئيس الجديد بمراسم احتفالية، حافظت عليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1789م حتى الآن. وتصاحب هذه الاحتفالية مجموعة من الطقوس والبروتوكولات الغرض منها أن يتحول يوم التنصيب إلى يوم عظيم بالفعل في أذهان الشعب الأمريكي حتى لا ينساه التاريخ. والاختلاف الذي طرأ على هذه المراسم، منذ بدايتها حتى الآن، اختلاف يتعلق بمدى تطور الميديا فقط. وهنا يمكن أن نشير إلى ظاهرتين طاغيتين تكشفان عن طبيعة الحياة الأمريكية والمنطق الثقافي الذي يحكمها حاليا. هاتان الظاهرتان هما: طغيان قيم السوق، وطغيان الروح الاستعراضية، بالمعنى الذي يحدده بودريار. فعندما نتأمل المناظرات الانتخابية التي تجري على شاشات التلفاز ويتابعها الشعب الأمريكي والعالم كله تقريبا. أولا، يتبدى الاستعراض على النحو الآتي: يقف المرشحان وسط ديكور تليفزيوني دقيق التصميم، وظيفته الأساسية تحقيق الإبهار الذي يجعل الصورة مركزا يدور حوله كل شيء. ويرتدي أحد المرشحين ربطة عنق حمراء، أما الآخر فيرتدي ربطة زرقاء. ومن خلال متابعة المناظرة نكتشف أن كل مرشح يقوم بدور الممثل الذي يجتهد في توظيف طاقاته الأدائية وملكاته الشخصية حتى يجذب الانتباه. وكلا المرشحين يتصرفان بحسب سيناريو جاهز سلفا، أعده فريق من الباحثين والمفكرين والمخرجين البارعين. وعلى نحو ما يحدث في جوائز الأوسكار، سوف يئول كرسي البيت الأبيض في النهاية إلى أفضل ممثل وأفضل سيناريو وإخراج.
265 (2)
المثال الثاني هو ما يمكن أن نطلق عليه وهم الديمقراطية عبر عملية الاقتراع، وهو ما يمكن أن نصوغه في التساؤلات الآتية: هل الديمقراطية تتمثل فقط في عملية الاقتراع؟ هل تمثل عملية الاقتراع تجسيدا حقيقيا للديمقراطية؟ أم أن الناخب يجد نفسه في النهاية محصورا بين خيارات، في الغالب خيارين فقط، محدودة للغاية، وينبغي عليه أن يختار من بينها؟ ما يحدث في الحملات الانتخابية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، أن بعض الشركات الرأسمالية الكبرى تتبنى مرشحا ما، إما أن يكون من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي، وفقا لمصالح تلك الشركات مع السياسة الاقتصادية التي يتبناها أي من الحزبين. وتتسابق تلك الشركات في إنفاق المليارات من أجل توجيه الرأي العام لصالح المرشح الذي تتبناه. من هنا يجد الناخب نفسه، في حقيقة الأمر، مدفوعا للاختيار كرد فعل طبيعي للحملات الدعائية الهائلة التي تتبناها تلك الشركات، ولا يكون اختياره، في معظم الأحوال، نابعا عن قناعة حقيقية بالبرامج الانتخابية للمرشحين، الأمر الذي يشكك في الطبيعة الديمقراطية لعملية الانتخاب برمتها، فهي في النهاية لا تعدو كونها تجليا لواقع إعلامي دعائي غير متحقق. (3)
ربما كان التوظيف السياسي لفن السينما أحد أبرز الأمثلة التي تكشف لنا كيف يكون مفهوم الواقع الفائق فاعلا في السينما، وفاعلا أيضا في تشكيل وعي الجمهور وسلوكه في العالم. وقد كانت - ولا تزال - السينما هي الوسيلة الكبرى التي تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية في نشر المشروع الأمريكي حول العالم. إذ تمتلك الولايات المتحدة أكبر كيان سينمائي صناعي على مستوى العالم، هوليوود. فمن خلالها يتم تصدير كل القيم التي من المفترض أن يتلقاها المشاهد في الدول الأخرى على أنها قيم أمريكية أصيلة، مثل: الجسارة والبطولة والسيطرة على العالم والتفرد، وغيرها من القيم التي تكرس جلوس الأمريكي على قمة العالم. على أن السينما الأمريكية لا تكتفي بهذا الدور فقط، بل تقوم أيضا بإنتاج الصور النمطية عن الآخر وتصديرها للعالم بأسره (على سبيل المثال الصورة النمطية للعرب والمسلمين في السينما الأمريكية).
266
ويؤدي التنميط إلى خلق صورة زائفة عن أشخاص أو مجتمعات بعينها، وبمرور الوقت تترسخ تلك الصورة في المخيلة الجمعية، بل والأكثر من ذلك أنها تترسخ في ذهن الآخر الذي تنمطه، بحيث تغدو رؤيته لنفسه انعكاسا لتلك الصورة النمطية، التي يحاول طوال الوقت الخروج منها، حتى لو كان ذلك عبر تخليه عن ثوابته وهويته.
267 (4)
مع العاصفة الأخيرة لتسريبات «ويكيليكس»، وقع المشهد العالمي في قبضة الواقع الفائق للأزمنة المعاصرة؛ فقد كشفت وثائق الويكليكس عن عالم آخر غير العالم الذي نعيش فيه ونتعامل مع ظواهره بوصفها ظواهر حقيقية. وبالتالي لم يعد الواقع الذي نعيشه فعليا سوى مزيج من افتراضية الإنترنت (نموذجها تسريبات ويكيليكس) والواقع المادي الملموس في عوالم السياسة والاقتصاد والاستراتيجية والأمن والتسلح والدبلوماسية والقوانين، بل حتى الثقافة والأخلاق. صار الواقع مزيجا قويا وغير مسبوق تاريخيا، من افتراضية الكومبيوتر والشبكات الرقمية والفضاء الإلكتروني للإنترنت، وبين الحياة الملموسة المعيشة. إنه مشهد غير مألوف، يظهر منحى معاصر وما بعد حداثي بامتياز في المجتمعات المعاصرة، وذلك أشد الأمثلة قوة على مفهوم الواقع الفائق. الأرجح أن تظل هذه السابقة في الأذهان طويلا، وأن تنال تحليلات كثيرة ومتشعبة. لقد أضيف بعد آخر الى العيش، امتدت حدوده وصارت تصل إلى خارجه وتلامس مساحة غير مادية ولا ملموسة ولا تقاس بحواس البشر ولا بمدركاتهم المجردة. ثمة شيء آخر (هو الافتراضي) تداخل مع كل ما يحيط به كلمات، مثل: حياة، عيش، عالم، وجود، وواقع. وكذلك لم يبق الافتراضي حبيسا في فضاء الإنترنت والشبكات والأجهزة والشاشات؛ إذ تلاعبت حدوده طويلا مع الواقع الفعلي. لقد انتهت اللعبة. خرج الافتراضي نهائيا من ذلك الفضاء الذي يفكر به كثيرون وكأنه عالم منفصل تصنعه التقنية الرقمية. خرج الافتراضي نهائيا كي يتداخل وينحل ويذوب ويتماهى مع الواقع الفعلي، ما بدل هوية هذا الأخير أيضا. وصار هذا المزيج المتداخل والمتلابس، هو الواقع الفائق الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة حاضرا. (5)
إذا أخذنا الواقع المصري وتطوراته المتلاحقة منذ الخامس والعشرين من يناير نموذجا للدور الذي تلعبه الصورة في تطور الأحداث على أرض الواقع، لوجدنا أن الصورة كانت فاعلة بصورة رئيسة في تطور الأحداث، بل في وقوعها أيضا. فالثورة المصرية تستحق أن يطلق عليها وصف «الثورة البصرية» بامتياز، ليس فقط لكون أحداثها نقلت على الهواء مباشرة من ميدان التحرير، ومختلف ميادين مصر، ولكن لأن التحريض عليها جاء بصريا بالدرجة الأولى عبر آلاف الفيديوهات التي تم رفعها على المواقع الاجتماعية خلال الأعوام السابقة عليها. وتنوعت تلك الفيديوهات بين تعذيب الشرطة للمواطنين وبين فقرات وحلقات كاملة من برامج «التوك شو» التي حاولت مناقشة قضايا تزوير الانتخابات وغيرها. هي ببساطة ثورة إلكترونية، قامت في الواقع الفائق أولا فأسقطت رأس النظام بصورة افتراضية، ومن ثم تم الاتفاق على موعدها في 25 يناير 2011م بقلب ميدان التحرير ومختلف ميادين مصر لتسقطه واقعيا.
وفي حقيقة الأمر كانت الصورة حاضرة وفاعلة بقوة طوال الوقت في الأحداث السياسية الهامة داخل مصر بعد ثورة يناير. وقد كان التلفاز عبر برامجه المختلفة يقوم بدور اللاعب السياسي الأهم والمحرك الأكبر لمعظم الأحداث. وربما كانت أحداث الثلاثين من يونيو مثالا بارزا على الدور الذي مارسته الصورة في صنع الحدث: في يوم الثلاثين من يونيو كتبت مصر فصلا مثيرا في حوليات الواقع الفائق، وقدمت دليلا ناصعا على أن الصورة لم تعد تشكل الإدراك فحسب، وإنما صارت تصنع التاريخ أيضا. ما حدث في الثلاثين من يونيو والتداعيات التي ترتبت عليه قدم دليلا جديدا على قوة وسائل الإعلام وسطوتها؛ إذ حين خرجت الحشود في ذلك اليوم ملبية نداء حركة «تمرد» الذي اصطفت حوله المعارضة، وتولت تسويقه القنوات الفضائية طوال الأسابيع التي سبقت ذلك التاريخ، فإن الكاميرات تابعت الحشود وحرصت على تصوير مسيراتها، تحت الاستعانة بطائرات القوات المسلحة لالتقاط الصور من الجو. وتعددت الروايات التي قدرت أعداد الخارجين بنحو 14 مليونا مرة، و20 مليونا مرة ثانية. وبلغ الرقم مع البعض إلى أكثر من ثلاثين مليونا. وهذه التقديرات المستندة إلى كثافة الحشود سوغت لكثيرين أن يقولوا إن مصر كلها خرجت مطالبة برحيل الدكتور محمد مرسي. تحدثت بعض التقارير الصحفية عن أن ما شهدته مصر يومئذ كان الاحتجاجات الأكبر في تاريخ البشرية. وحين دخلت القوات المسلحة على الخط فإن البيان الذي أصدرته اتكأ على هذه الخلفية، وقال «إن شعب مصر نادى بصوته الجهوري وملايينه التي خرجت إلى الشوارع، وإن كل ما فعلته تلك القوات أنها لبت النداء؛ حيث ما كان للجيش أن يخذل الشعب.» وعندما تعالت بعض الأصوات في الداخل والخارج أن تدخل الجيش في إزاحة الرئيس المنتخب هو بمثابة انقلاب عسكري، كانت الحجة المضادة للرد على هذا التشكيك تتمثل في كم الحشود التي نزلت في ذلك اليوم، كم الحشود التي التقطتها الصور الثابتة والمتحركة. وإذا ما تأملنا في تداعيات هذا الواقع ونتائجه القريبة والبعيدة لأدركنا الدور الذي باتت تمارسه الصورة في الوقت الراهن. وقد استمر الدور الذي تمارسه الصورة حاضرا وفاعلا بصورة كبيرة داخل المشهد. ففي الخطاب الذي أطلق عليه إعلاميا «خطاب التفويض» وهو الذي طلب فيه وزير الدفاع المصري آنذاك من الشعب الاحتشاد في ميدان التحرير من أجل منحه تفويضا للقضاء على الإرهاب «المحتمل»، كان الهدف تصوير الحشود كيما يتم اتخاذ القرار، ومن ثم تبريره بعد ذلك (الصورة سبقت الحدث ومنحته المشروعية). وقد صرح وزير الدفاع آنذاك في أحد الحوارات التي أجريت معه أنه كان في غاية القلق من أن يكون الحشد المصور غير كاف لاتخاذ القرار. وقد تكرر ذلك الأمر في أحداث كثيرة لاحقة على نحو يمكن وصفه بأنه محاولة لاكتساب المشروعية من خلال الصورة. (4-10) الواقع الفائق ومجتمع الاستهلاك
كان موضوع الاستهلاك من الموضوعات التي لاقت اهتماما كبيرا لدى بودريار منذ مؤلفاته المبكرة. وقد خصص بودريار مؤلفه الأول نظام الأشياء
Le Système des objets (1968م) لمناقشته، ثم ظل حاضرا في مؤلفاته اللاحقة: مجتمع الاستهلاك
La Société de Consommation (1970م)، نحو نقد الاقتصاد السياسي للرمز
(1972م)، مرآة الإنتاج
Le Miroir de la Production (1973م)، التبادل الرمزي والموت
L’Échange symbolique et la mort (1976م)، في الإغواء
De la seduction (1979م)، وأخيرا في كتابه التبادل المستحيل
L’Échange impossible (1999م). على أن ما يهمنا في سياقنا هذا علاقة مفهوم الاستهلاك بمفهومي الصورة والواقع الفائق، وهو ما سينصب عليه تحليلنا.
يبدأ بودريار كتابه «نظام الأشياء»
268
بتقديم وصف لمنزل برجوازي نموذجي، بأثاثه، ولا سيما المرايا والخشب والإنارة، و... إلخ. ليصل في النهاية إلى أن المجتمع سيطرت عليه أسطورة الاستهلاك المفرط إلى حد اقتناء ما ليست هناك حاجة إليه. وفي القسم الثاني من الكتاب يحلل بودريار «النظام الاجتماعي-الأيديولوجي للاستهلاك وموضوعاته»، وهو يرى أن «مواضيع الاستهلاك صارت اليوم أكثر تعقيدا من سلوك الناس المتعلق بها.»
269
فقيمة الأشياء لم تعد تتوقف فقط على منفعتها، بل دخلت متغيرات أخرى إلى معادلة استهلاك الأشياء، وأصبحت هي المتحكم الفعلي في فعل الشراء؛ فالسيارة التي يرغب الجميع في اقتنائها هي السيارة الأفخم والأجمل والأقوى، ولم يعد الأمر متوقفا فقط على الوظيفة التقليدية للسيارة المتمثلة في كونها وسيلة انتقال «لقد تغيرت طبيعة الأشياء، بحيث صار اقتناؤها منزوعا من غائيته الأصلية ليدخل في مدار آخر مختلف، وقد انعكس ذلك على مضمون السلعة ذاتها وعلى سلوك المستهلك.»
270
لطالما استخدمت الصور للترويج للمنتجات الاستهلاكية بوصفها أداة جذب تنقل المنتج من مدار الواقع إلى مدار الإغواء. وقد أكد رولان بارت في سياق تحليله لنسق الأزياء على هذا المعنى «فكيما يتم تعطيل القدرة الحسابية للمشتري يجب أن يقام حجاب حول السلعة - حجاب من الصور. ويجب أن تخلق محاكاة زائفة للموضوع الحقيقي ، مستبدلة زمنا سريعا من الموضات المتغيرة بالزمن البطيء (الذي تستهلك فيه الملابس).»
271
إن فعل الشراء يرتبط ارتباطا شرطيا بصورة المنتج، وطريقة عرضه والطريقة التي تتم الدعاية له بها. فالصورة تختصر المسافة الوقتية بين فعلي الإنتاج والاستهلاك، وفي الغالب يتوقف نجاح فعل الشراء على قدرة الصورة وبراعتها في جذب المستهلك للمنتج. لقد أصبحت الصورة هي الوسيط بين السلعة والمستهلك، كما أصبحت القدرة على تقديم السلعة في صورة من بين مقومات الاقتصاد الاستهلاكي. فالسلعة القوية التي تنتجها شركة كبيرة هي القادرة على الإعلان عن نفسها، القادرة على أن تظهر في صورة.
ويحلل بودريار دور الصورة في مجتمع الاستهلاك بتناوله لفاترينة المحل. ففاترينة العرض تكشف عن وظيفة أكثر عمقا من مجرد كونها وسيلة لعرض السلع، فهي في ظاهرها تعبير عن الشفافية التي يدعيها المجتمع الرأسمالي عن نفسه، فما هو موجود معروض. لقد أصبح ظهور الشيء أمام المشاهد دليلا على وجوده، فأن ترى هو أن تؤمن
seeing is believing . هذا بالإضافة إلى أن الفاترينة تعبر عن وضع سوسيولوجي من نوع خاص؛ إذ تحتل مكانا وسطا، فلا هي في داخل المحل ولا هي خارجه، لا هي منتمية إلى المجال الخاص للمحل ولا إلى المجال العام للمحيط الخارجي، إنها ذلك الوسط الذي يلتقي فيه العام والخاص. ويعيد بودريار تفعيل مقولة ماكلوهان
MacLohan
الشهيرة من أن الوسيط أصبح هو الرسالة، فيذهب إلى أن الفاترينة ليست مجرد وسيط بين السلعة والمستهلك، بل هي بمثابة قطب مغناطيسي يعمل على تجميع الرغبات المتناثرة واستقطابها وصبها في منطق مجتمعه الاستهلاك، بالإضافة إلى أنها تخلق الرغبات منذ البداية حتى قبل أن تستقطبها.
272
وهذا ما دفع البعض كفريدرك جيمسون
F. Jamson
للحديث عما أطلق عليه «سحر المول»
Charm of Mall ، ويعرفه بأنه حالة الجذب - الشبيهة بالجذب الصوفي - التي تصيب الإنسان ما إن تطأ قدمه أرض المول أو المركز التجاري، فيتخلى عن ذاتيته الخاصة، ليصبح ذاتا موزعة على فاترينات العرض المحيطة به، ذاتا مستلبة ومستقطبة من قبل المنتجات المعروضة.
273
كما يحلل بودريار ما أطلق عليه ميتافيزيقا المظهر الخارجي للأزياء والموضة، على أساس أنه شكل من أشكال الإغواء المعتمدة على فن الإعلان، بما هو نموذج لحظي وعابر ليس له عمق، بل هو يعتمد في المقام الأول على تفوق الأشكال السطحية المهيمنة على كافة أشكال الدلالة، وبالتالي يصبح بمثابة «الشكل المعاصر الذي يمتص أو يستدمج بداخله كل أشكال التعبير». بمعنى أن اللافتة الإعلانية التي تتموضع في مرمى بصر المشتري، وإن كانت لا تمتلك صفة الفن الخالد، أو القابل للخلود، إلا أنها تحقق رسالتها الفنية كمعادل لليومي والهامشي والعرضي، كما يتبين حتى في الإعلانات التي تحمل مواد إلكترونية وتلفازية تومض باستمرار كدلالة على حدوث الحياة وراهنية اللحظة أو فوريتها.
274
ومن الطبيعي والحال هكذا أن تصبح الرغبة هي المتحكمة في فعل الشراء، رغبة الامتلاك والتميز التي تتجسد في فعل الشراء، وأن يتحول العقل إلى أداة للتبرير والتماس الحجج لتحقيق الرغبة، فيبدأ العقل في تقديم المسوغات التي تبرر فعل الشراء (وفي الغالب لا يكون المشتري في حاجة فعلية للمنتج)، ما يضفي على الرغبة سمتا عقلانيا بارزا، لكنه في الواقع غير حقيقي، فالرغبة هي الأساس في فعل الشراء لا العقل.
كان نقد بودريار وتحليله لمجتمع الاستهلاك في جانب كبير منه امتدادا وتوظيفا لبعض المفاهيم الماركسية. وقد كان مفهوم الفيتيشية (أو الصنمية) السلعية
Commodity Fetishism
من بين تلك المفاهيم التي استثمرها بودريار في تحليله. تتضح الطبيعة الصنمية للصورة لدى بودريار من تحليله للأصول الاشتقاقية لكلمة صنم
fetish ؛ فالأصل اللاتيني لها
facio
يعني شيئا مصنوعا أو مصطنعا
fabricated ، وتعني محاكاة ما هو طبيعي بما هو صناعي، كما تعني مشتقاتها في الإسبانية والبرتغالية التزيين والتجميل. وانتقل المصطلح إلى الدراسات الأنثربولوجية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستخدم لوصف عبادة القبائل البدائية للأصنام والأشياء التي يتخذونها كرموز لقوى الطبيعة، وأصبح المصطلح يعني في هذه الدراسات اتخاذ الفرع كبديل عن الأصل.
275
أما ماركس
Marx
فقد استخدم الفيتيشية السلعية في مؤلفه رأس المال
Capital
ليشير به إلى «الأشياء التي تمتلك حياة خاصة بها وتتحكم في حيوات صانعيها.»
276
بحيث تتحول بمرور الوقت إلى «أوثان» يعبدها الإنسان، ويغدو بمرور الوقت غير مدرك أنه هو الذي أنتجها. وبالتالي تكتسب السلعة قيمة أكبر من قيمة من قام بإنتاجها، إنها قيمة افتراضية غير واقعية، وبتعبير بودريار قيمة فائقة.
ويذهب بودريار إلى أن صنمية الصورة طغت على صنمية السلع، ذلك لأن الصور أصبحت هي وسيلتنا في معرفة السلع ذاتها «إذ لم يعد هناك اتصال مباشر بيننا وبين العالم أو بيننا وبين أنفسنا؛ وكون كل أنواع الاتصال تحدث عن طريق الصور يعني أن الوسيط طغى على أطراف الاتصال، وطغيان الوسيط أو الدال على المدلول هو الصنمية بعينها.»
277
وفي كتابه الإغواء
278
يناقش بودريار مجتمع الاستهلاك من خلال ثلاثة محددات رئيسة؛ أولا: ما أفرزه هذا الأخير من أنشطة استهلاكية متزايدة تسهم أيضا في زيادة أوقات الفراغ وفي التلاعب الأيديولوجي بوعي الناس عبر إغوائهم، وذلك على حساب تطوير العلاقات الاجتماعية. ثانيا: تكريس المجتمع الاستهلاكي للتمايزات الاجتماعية، بحيث يصبح نمط الاستهلاك أو أساليب الحياة المرتبطة به معيارا لتصنيف الناس. ثالثا: المتع الانفعالية الناجمة عن الاستهلاك.
ربما استطاع عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيير بورديو أن يؤكد على هذا المعنى في كتابه «الرمز والسلطة» من خلال ما أطلق عليه الرأسمال الرمزي
symbolic capital ، وربما يحتاج هذا إلى بعض التوضيح خاصة أنه على علاقة وثيقة بفكرة بودريار السابقة عن القوة المضاعفة. يفرق بورديو في تقسيمه للطبقات بين نوعين من الخصائص: فمن جهة هناك الخصائص المادية، وهي، ابتداء من الجسم، قابلة للإحصاء الكمي والحصر والقياس، شأن أي موضوع من موضوعات الطبيعة. ثم هناك من جهة أخرى، الخصائص الرمزية التي تنتج عن علاقتهم مع ذوات قادرة على إدراكهم وتقدير قيمتهم تتطلب هي كذلك أن ينظر إليها من خلال منطقها الخاص. ولتوضيح هذا الفرق بين مستويي التصنيف يستدعي بورديو نصا للمؤرخ الفرنسي جورج دوبي
Georges Duby (1919-1996م) يقول فيه: «أن تكون نبيلا معناه أن تفرط في الإنفاق، وأن تكون مرغما على التظاهر، وأن يكون محكوما عليك بالرفه والبذخ، بل إني أذهب إلى التأكيد بأن هذا الميل إلى البذخ احتد عند بداية القرن الثالث عشر، وجاء كرد على الارتقاء الاجتماعي للأثرياء الجدد. فالتميز عند الفلاحين كان يقتضي التفوق عليهم طبقيا، وذلك بالتظاهر بالتفوق عليهم في الكرم والسخاء. هذا ما يبرزه أدب العصر. فما الذي يميز الفارس الأصيل عن حديث العهد بالنعمة؟ ذلك أن الثاني بخيل، أما الأول فهو نبيل لأنه يصرف كل ما لديه حتى لو كان مثقلا بالديون.»
279
إذا ليس المعيار هنا وفقا لبورديو ما يملكه الفرد، بل ما ينفقه على مظهره، وهو يكتسب مكانته وحظوته في المجتمع بالقدر الذي يبدو عليه هذا المظهر.
وإذا عدنا إلى بودريار وإعادة توظيفه لمفهوم العلامة عند دي سوسير، لوجدنا أنه في كتابه «التبادل المستحيل»
280
يقدم تنويعا ماركسيا على هذا المفهوم، فيذهب إلى أن العلامة الاستهلاكية تحررت من مدلولها وتحولت إلى علامة دالة على المكانة الاجتماعية للفرد في المجتمع. من هنا فإن مفهوم الاستهلاك نفسه قد تغير من استهلاك المنتج المادي إلى استهلاك العلامة التي تشير إلى المنتج. وبمعنى آخر يرى بودريار أن المجتمع الاستهلاكي يهتم بالوظيفة التضمينية للأشياء أو السلع أكثر من وظائفها الدلالية المباشرة؛ فالمنتج الاستهلاكي (جهاز التبريد أو الهاتف النقال أو السيارة أو الساعة) يكتسب قيمته الآن من الشعار أو الرمز الذي يحمله، بصرف النظر عن جودته أو القيمة الحقيقية له. وامتلاك هذا الشعار أو الرمز أصبح هدفا في حد ذاته بالنسبة لمجتمع الاستهلاك؛ فهو دال على المكانة الاجتماعية والطبقية للمستهلك.
281
لقد كانت الرموز الدالة على الثروة، والمكانة، والشهرة والسلطة، وكذلك الطبقة، على الدوام، مهمة في المجتمع البرجوازي، إلا أنها لم تكن يوما باتساع وأهمية ما هي عليه اليوم. ومع توفر إمكانية إنتاج الصور كما السلع بحسب ما نريد تقريبا، غدا أكثر يسرا للتراكم الرأسمالي أن يتطور جزئيا، على الأقل، على قاعدة إنتاج الصور وتسويقها. وعليه فعالم الصور هذا يمكن تفسيره، جزئيا، باعتباره صراعا من طرف الجماعات المقهورة من كل نوع لتأسيس هويات خاصة بها، ثم الاندفاع الرأسمالي بعد ذلك للإفادة من ذلك عبر تسويقه تجاريا. كان المطلوب أن يكون الأمر كما لو أننا نعيش في عالم من الصور المبتكرة المتغيرة باستمرار. وكان طبيعيا أن يكون الوقع السيكولوجي لذلك طاغيا، وأن يوضع موضع التنفيذ في قوة مضاعفة. (4-11) رؤية بودريار بين النقد والعدمية
سبق لنا القول في بداية حديثنا عن بودريار أن فرضية بودريار تعتمد على تصورين رئيسين يتمثلان في ضياع مفهوم الحقيقة، وضعف قدرة الإنسان المعاصر على التحليل النقدي لما يعرض عليه. والواقع أن أطروحة بودريار، فضلا عن هذين التصورين، قد أثارت جدلا عنيفا على مستويات عدة؛ فالبعض قد رأى في أطروحته ترسيخا لعدمية الرؤية ما بعد الحداثية للواقع.
282
والبعض الآخر رآها خالية من العمق ومفتقدة للمنهج.
283
وفي المقابل لاقت أطروحته ترحيبا كبيرا في الأوساط الأمريكية.
284
فوصفها ريتشارد لأن «بأن تأثيرها كان طاغيا على العديد من الحقول المعرفية الأخرى.»
285
كما قال مورلي وروبنز في كتابهما المشترك فضاءات الهوية
Spaces of Identity (1995م): «إننا نأخذ كل ما قاله بودريار على محمل الجد، فقد ساعدنا كثيرا في فهم طبيعة مرحلة ما بعد الفوردية
post-Fordism .»
286
ورغم تعدد الآراء حول أطروحته، إلا أن بودريار، في واقع الأمر، كان يعرف حدود ما يقوم به؛ لذا لم يدع أبدا أنه يقدم عملا نقديا للحضارة الغربية. فهو، مثله في ذلك مثل معظم فلاسفة ما بعد الحداثة، يرى أن النقد شيء ينتمي إلى الماضي النخبوي؛ حيث كان المفكر ينظر إلى ذاته على أنها أكثر تميزا وقدرة على الفهم من الآخرين. إضافة إلى أن الواقع بتشابكاته وفوضاه يستعصي على أي رؤية نقدية تدعي امتلاكه، وقد قال بودريار في أحد الحوارات التي أجريت معه: «أن تكون جذريا في قلبك للأشياء معناه أن تضع النتيجة مكان السبب؛ أي أن تقلب الوضع الطبيعي للأشياء. أن تكون عدميا - شكيا معناه أن تبرز غياب السببية لصالح فوضى العلاقات والترابطات، وهذا هو تصوري للفكر الجذري الذي ليس بالعقلاني ولا بالنقدي: إنه فكر خلخلة النقد والامتلاء. هل أنا فعلا عدمي - شكي؟ أعتقد أن الأمر يتعلق برغبة وبحلم إلى حد ما ... باستراتيجية منظمة لقلب الأشياء وتمديد المتواليات إلى ما لا نهاية، إلى حين حصول الكارثة؛ على الأقل الافتراضية منها.»
287
إن تسليم بودريار بموت الواقع، وبالتالي الغياب الكامل للحقيقة، يحمل بداخله الفرق الرئيس بين مجتمع المشهد ومجتمع الواقع الفائق، «ما يميز المجتمع المشهدي عن فوق الواقع، برأي بودريار، هو أن الأول قد ينطوي في داخله على إمكان النظرة النقدية. ففي المجتمع المشهدي هناك وعي لوجوده، وبالتالي وجود مسافة بين هذا المجتمع والواقع. في حين أن ما يميز فوق-الواقع، وهو المخيف أيضا، استحالة النظرة النقدية، وبالتالي استحالة وجود مسافة بين المشاهد وما يشاهده.»
288
وقد كان بودريار مدركا جيدا لهذا الفرق؛ فهو قد قرأ أعمال جي ديبور النقدية، وأشهرها مجتمع الاستعراض، وقد أوضح ذلك الفرق بقوله: «إن آخر التحليلات وأكثرها راديكالية لهذه الإشكالية أنجزها جي ديبور
Guy Debord
و
Situationists
المدرسة الظرفية، بتصورهم عن «المشهد والاغتراب المشهدي». وبالنسبة لديبور فإنه لا تزال هناك فرصة للاغتراب، فرصة للذات في أن تستعيد استقلالها أو سموها. لكن الآن انتهى هذا النقد الراديكالي ولم يعد له مبرر للوجود.»
289
في الواقع يمكن النظر إلى أطروحة بودريار بوصفها صرخة مدوية في عالم تسيطر عليه المحاكاة غير ذات الأصل والصور الزائفة، لكنها صرخة لا نقدية إن صح التعبير؛ أي أنها تخلو من كل طابع نقدي، فبودريار لا يقدم أي وسيلة يمكن من خلالها التغلب على هذا العالم الزائف الذي يفترض وجوده، لا يوجد حل أو مهرب، وكل محاولة ستفضي إلى الفشل «لا شيء بمقدوره إصلاح هذه الوضعية ... وليس هناك خطأ أفدح من النظر إلى الواقع بوصفه واقعي
290
الفكر الجذري.» وكما يقول آلن هاو عن بودريار: «ما يقدمه بودريار بطرائق شتى هو أشبه ما يكون بحكاية هي هكذا؛ فليس ثمة إمكانية خفية، ولا ذات غير مغتربة بطبيعتها تقبع خلف المظاهر وتحاول أن تخرج إلى العلن. فالعالم ما بعد الحديث هو عالم «بلا عمق»، وذلك هو حال الأشياء لا أكثر ولا أقل. وهو يصف العالم دون أن يشير ما الذي يجعله كذلك، أو ما يفترض أن تكون عليه الذات من أجل مواجهة ذلك.»
291
والواقع أن بودريار نفسه لم يقدم نظريته بوصفها مناهضة للخطاب البصري المهيمن، كما أنه لم يدع كونه ناقدا ، بل هو يقول عن نفسه: «لا أعتبر نفسي فيلسوفا، كما أنني لا أقدم خطابا ناقدا.»
292
يدعي بودريار أننا لسنا في حاجة إلى فكر يقوض الواقع أو حتى ينقده، بل هو يرى أن مهمته تتعارض تماما مع هذا التوجه: «مهمتنا واضحة: لا بد أن نجعل هذا العالم أكثر لا عقلانية، بل أكثر غموضا.»
293
إننا لسنا في حاجة إلى تأسيس حلول جديدة لأزمة الواقع ومأزق المعنى؛ فالواقع قد انتهى بالفعل وتحلل ومارس على ذاته تدميرا استراتيجيا لا رجعة فيه، وأي محاولة لاستعادته مقضي عليها بالفشل. وتصبح مهمة الفكر فقط متمثلة في تتبع الكيفية التي من خلالها دخل الواقع مرحلة الانهيار والتحلل الذاتي، والكشف عن مسارات هذا التحلل وأشكال الانهيار. وربما كان السؤال الذي لم يتوقف عنده بودريار هنا، رغم محوريته، يتمثل في موقع تلك الذات التي من المفترض أن تقوم بعملية الكشف عن تحلل هذا الواقع، هل هي جزء من هذا التحلل أم لا بد أن تخلق لنفسها واقعا جديدا يعلو على الواقع الذي يصفه بودريار بأنه ذهب بلا رجعة؟ في أي فضاء توجد تلك الذات القادرة على الكشف والتحليل؟ لم تثر نصوص بودريار أي أسئلة من هذا القبيل، كما لا تقدم لنا تفسيرا لموقع الذات في تلك العملية، وإنما انخرطت في فضاء من العدمية والتسليم المطلق باللاجدوى. وإذا كان بودريار قد رأى أن مسار الإنسان في هذا العالم يماثل المسار العبثي لسيزيف، كما عبر عنه ألبير كامو
Albert Camus ، فإن هذا المسار في حقيقة الأمر هو ذاته الذي يحكم رؤية بودريار في تحليله للواقع.
إننا إذا قارنا بين تحليل بودريار لموقع الذات في عملية التواصل، وبين التحليل الذي قدمه فلاسفة النظرية النقدية، لأدركنا على الفور الفارق بين الرؤية الوصفية المحايدة التي تميز ثقافة ما بعد الحداثة ومفكريها، وبين الرؤية النقدية التي ما زالت تراهن على تماسك الذات الإنسانية وقدرتها على المقاومة. إن السبب الرئيس في غياب روح النقد عن تحليل بودريار للصورة هو سيطرة فكرة «موت الذات»، وهي الفكرة التي يعتبرها ما بعد الحداثيين تبصرا أساسيا، وهو في ذات الوقت ما انتقدته النظرية النقدية بقوة. فنقد مركزية الذات ينبغي ألا يفضي في النهاية إلى القول بموت الذات، وعدم قدرتها على تكوين المعنى، ووقوعها أثيرة للفصامات والأوهام النفسية. فعند بودريار تغدو الذات برمتها نتاجا لنظام من التدليل، وليست حاجاتها سوى نتاج للنظام ذاته الذي أنتجها. وهكذا لا يعود مهما مدى فقرك أو غناك؛ ففي النظام متسع لك ولحاجاتك. ولدى وسائل الإعلام مئونة لا تنفد من الصور «تلائم» أنماط المستهلكين جميعا. وعلى سبيل المثال يقدم بودريار في كتابه «أمريكا» وصفا باردا لرحلاته في الولايات المتحدة فيقول: «الصحراء التي تعبرها مثل منظر في فيلم من أفلام الويسترن، والمدينة شاشة من الدوال والصيغ ... تبدو المدينة الأمريكية كأنها خرجت للتو من الأفلام. ولكي تلتقط سرها، لا ينبغي أن تبدأ من المدينة وتتحرك قدما إلى الداخل نحو الشاشة، بل ينبغي أن تبدأ من الشاشة وتتحرك إلى الخارج صوب المدينة. ذلك هو المكان الذي لا تتخذ فيه السينما أي شكل استثنائي، بل تكتفي بأن تخلع على الشوارع والبلدة بأكملها جوا أسطوريا. ذلك هو المكان الذي تكون فيه خلابة آسرة. وهذا هو السبب في أن عبادة نجوم السينما ليست بالظاهرة الثانوية، بل الشكل الأرفع للسينما. وتجليها الأسطوري، آخر الأساطير العظيمة في الحداثة.»
294
إن هذا الوصف المحايد، الذي لا يخلو من نبرة إعجاب، هو مثال جيد على كيفية صياغة المشكلة، والتعبير عن المأزق دون أي محاولة لتقديم حلول من أي نوع.
ثمة مسألة أخرى لم تجد، على أهميتها، أي اهتمام يذكر لدى بودريار، بل ربما كانت نصوصه، في سياقات أخرى، تعارضها بصورة كبيرة، ويمكن صياغة هذه المسألة في السؤال الآتي: هل ثمة أيديولوجيا ما تتحكم في وسائل الإعلام، أم أن وسائل الإعلام أصبحت مكتفية بذاتها وتعمل بصورة مستقلة؟ في الواقع تنحو نصوص بودريار إلى الافتراض الثاني المتمثل في استقلال وسائل الإعلام وتشكيلها لفضائها الخاص (بمعنى أدق أصبحت ذاتية الفعل)، كما أن نصوصه الأخرى تفترض ما يفترضه معظم مفكري ما بعد الحداثة من موت للأيديولوجيا في ظل النظام العالمي الجديد.
295
ملحق ختامي
ترجمة لمقال إيهاب حسن: سؤال ما بعد الحداثة (1) سؤال ما بعد الحداثة
1
إنها مسألة متعددة الجوانب، ولعل هذه الأسئلة تلقي بعضا من الضوء عليها: هل ثمة ظاهرة جديدة في الثقافة المعاصرة عموما، وفي الأدب المعاصر بشكل خاص، تستدعي أن نطلق عليها اسما جديدا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يفيدنا هنا اسم مبدئي من قبيل «ما بعد الحداثة»
؟ وكيف يمكن لهذه الظاهرة، دعونا نتوافق على تسميتها الآن بما بعد الحداثة، أن تتواصل مع مفاهيم أخرى، مثل الحداثة أو الطليعة
avant-garde ؟ وهل ثمة إشكاليات نظرية وتاريخية تخفيها تلك الظاهرة؟
لقد جاءت معظم الاجتهادات التي سعت لتعريف ما بعد الحداثة مضطربة؛ وتبدو في أحسن الأحوال نوعا من التكرار الذي لا يفيد، فتخبرنا بما نحن متأكدون من معرفته بالفعل. إذا، ما الذي سنجنيه من هذا المسار الاستفهامي الذي بدأناه؟ إذا لم يكن ثمة ما نجنيه سوى إلقاء بعض الضوء على هذا الالتباس المعقد فربما يسهم ذلك في فهم بعض من جوانب اللحظة الثقافية التي نمر بها الآن.
دعونا نبدأ إذا. (1-1) تاريخ المصطلح
لست متأكدا أين ومتى كانت المرة الأولى التي تم فيها استحداث هذا المصطلح، خاصة إذا سلمنا أن المصطلحات تتوالد تاريخيا عن بعضها البعض. ولكن فيما يأتي محاولة لعرض جل ما نعرفه عنه:
استخدم فيديريكو دي أونيس
Federico De Onis
كلمة
postmodernismo
في كتابه مختارات من الشعر الإسباني والإسباني الأمريكي
Antologia de la poesia espanola e hispanoamericana (1882-1932م)، والذي نشر في مدريد عام 1934م، وأعاد دودلي فتس
Dudley Fitts
استخدامه من جديد 1942م في مختارات من شعر أمريكا اللاتينية المعاصر للعام
Anthology of Contemporary Latin-American Poetry of (1942م).
2
وقد أراد كلاهما الإشارة إلى رد فعل تجاه الحداثة كان كامنا داخلها، لكنه كان ثانويا أو محدود الأثر. كما ظهر المصطلح في موجز سمورفيل
Somervell
لكتاب أرنولد توينبي
A. Toynbee
دراسة التاريخ
A Study of History as early as D.C.
في العام 1947م. فقد اعتبر توينبي أن «ما بعد الحداثة» مصطلح يصف دورة تاريخية جديدة تمر بها الحضارة الغربية، بدأت حوالي العام 1875م، وأننا بدأنا بالكاد نستطلع ملامحها. وبعد ذلك بقليل، خلال الخمسينيات، يحدثنا تشارلز أولسون
Charles Olson
عن ما بعد الحداثة بوصفها ثقافة غدت طاغية أكثر منها تعريفا له ملامح محددة.
لكن المنظرون الأدبيون ليسوا مثل الأنبياء والشعراء في إحساسهم بوفرة الوقت.
3
ففي عامي 1959م و1960م، كتب إيرفينج هوي
Irving Howe
وهاري ليفين
Harry Levin
عن ما بعد الحداثة بوصفها نكوصا عن الحركة الحداثية العظيمة. وخلال عقد الستينيات تم استخدام المصطلح من قبل ليزلي فيدلر
Leslie Fiedler
ومن قبلي أنا، ومن قبل آخرين أيضا، باندفاع لا يتسم بالنضج، بل وكذلك بلمسة من التهور. فقد أرادت فيدلر من خلال البوب
الطعن في نخبوية التقاليد الحداثية العالية. وأردت أنا استكشاف الدافع وراء التفكك الذاتي
Self-unmaking
الذي هو جزء من تقاليد الصمت الأدبية.
4
فالبوب والصمت، أو الثقافة الجماهيرية والتفكيك، أو - كما سأقول لاحقا - المحايثة واللاتعين، قد تكون جميعها مظاهر لثقافة ما بعد الحداثة. ولكن يتوجب عليها انتظار القيام بتحليل متأن لكل هذا.
إنني أدرك أن تلك الملاحظات لا يمكن أن تعطي تاريخ هذا الموضوع حقه. لكنني آمل أن تكون قد قامت بمهمتها بغير تحريف أو تشويه. ثمة شيء واحد مؤكد بالنسبة لي: إن مسمى «ما بعد الحداثة» قد اكتسب الآن استخداما واسع النطاق، إن لم يكن استخداما مضطربا. فقد ارتبط بالفن والموسيقى والأدب والرقص والعمارة والتخطيط العمراني والاتجاهات الثقافية من كل نوع، بل إن أحد الأشخاص، ممن حضروا محاضرة لي في اليابان عن ما بعد الحداثة، استخدم المصطلح بصورة مبتكرة لوصف نوع جديد من السياسة. (1-2) الإشكاليات المفاهيمية لما بعد الحداثة
بالإضافة إلى ما سبق، أجد أنني لم أذكر سوى القليل عن معضلة الإشكاليات المفاهيمية التي تنبني عليها ظاهرة ما بعد الحداثة. ودعوني أحاول الآن تحديد تسع من تلك الإشكاليات، بادئا بأكثرها وضوحا ووصولا إلى أشدها عسرا وتعقيدا. (1)
ليست كلمة ما بعد الحداثة صعبة وغير مألوفة فحسب؛ بل هي تستحضر كذلك ما ترغب في تجاوزه أو قمعه؛ أي الحداثة نفسها. وهكذا يحوي المصطلح عدوه داخله، على عكس مصطلحات مثل الرومانسية
romanticism
والكلاسيكية
classicism
والباروك
baroque
والروكوكو
rococo . وعلاوة على ذلك، فإنه يوحي بالتواصل الزمني وفي نفس بالوقت بالتأخر والتدهور الذي لا يمكن أن يعترف به أي منتم لتيار ما بعد الحداثة . ولكن ما هو الاسم الذي يصلح لهذا العصر الغريب الذي نحياه؟ عصر الذرة أو الفضاء أو التليفزيون أو السيميائية أو التفكيكية؟ أم عصر اللاتعين، كما اقترحت (اللاتعين في مقابل المحايث)؟
5
أم هل يكون من الأفضل ألا نشغل أنفسنا بأمر تلك التسمية، وأن نتركها لمن سيأتون بعدنا؟ (2)
مثله مثل العديد من المصطلحات التصنيفية - من قبيل ما بعد البنيوية أو الكلاسيكية والرومانسية - فإن مصطلح ما بعد الحداثة يعاني بعضا من اللااستقرار الدلالي: بمعنى أن المفكرين لم يجمعوا على معناه. ومما يضاعف من صعوبة الأمر وجود عاملين؛ أنه مصطلح جديد نسبيا، لم يبلغ الرشد بعد، وصلته الدلالية الوثيقة بالعديد من المصطلحات الجديدة غير المستقرة أيضا. وهكذا يعني بعض النقاد بما بعد الحداثة ما يقصد به الآخرون النزعة الطليعية
avant-gardism ، بينما لا يزال البعض الآخر يسميها ببساطة بالحداثة. وهو الأمر الذي يستدعي نقاشا.
6 (3)
يرتبط بذلك صعوبة أخرى تتعلق بعدم الاستقرار التاريخي للعديد من المفاهيم الأدبية، وقابليتها المستمرة للتغيير. فمن هذا الذي يجرؤ، في عصرنا هذا الذي يستشري فيه سوء الفهم، على الزعم بأن كلا من كولريدج
Coleridge
وباتر
ولفجوي
Lovejoy
وأبرامز
Abrams
ووبيكهام
وبلوم
Bloom
فهموا الرومانسية بالطريقة نفسها؟ هناك بالفعل بعض الأدلة - في مقالاتي بشأن هذا الموضوع مثلا
7
على صعوبة الفصل بين ما بعد الحداثة والحداثة، بما يهدد إمكانية التمييز بينهما. ولكن ربما قد تفيد هذه الظاهرة، التي هي قريبة الشبه بظاهرة «الانزياح الأحمر»
red shift
8
كما أسماها هابل
Hubble
في علم الفلك، في يوم من الأيام لقياس السرعة التاريخية للمفاهيم الأدبية. (4)
ليس ثمة ستار حديدي أو سور كسور الصين يفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ فالتاريخ يتضمن طبقات متعددة من المعنى والتفاصيل، والثقافة تخترق الماضي والحاضر والمستقبل. إنني أشك في أننا جميعا نجمع بين شيء من الفيكتورية والحداثة وما بعد الحداثة في آن واحد. ويمكن بسهولة أن يكتب المؤلف الواحد عملا حداثيا وآخر ما بعد حداثي (التباين الواضح بين عملي جويس
Joyce
صورة الفنان في شبابه
ويقظة فينيجان
Finnegans Wake ). وبصورة أعم، وعلى مستوى أعلى من التجريد السردي، ربما تكون الحداثة نفسها، قادرة بالفعل على استيعاب الرومانسية، وأن ترتبط الرومانسية بالتنوير، وأن يرتبط التنوير بعصر النهضة، وهكذا حتى تكتمل الدائرة، وصولا إلى اليونان القديمة. (5)
هذا يعني أنه يتوجب علينا أن ننظر إلى أي مرحلة زمنية وفقا لآليتي التواصل والانقطاع؛ حيث إن كلا الآليتين يكمل كل منهما الأخرى. الرؤية الأبولونية، المجردة الشاملة، لا تدرك سوى التواصل التاريخي. والشعور الديونيسي، الحسي شبه المتبلد، لا يلمس سوى اللحظة المنفصلة.
9
وبالتالي تتطلب ما بعد الحداثة، من خلال الوجهين السابقين، النظر إليها دائما بطريقة مزدوجة. فلا بد أن نضع في اعتبارنا، إذا أردنا أن نفهم التاريخ، ونستوعب (ندرك، نفهم) التغيير، التشابه والاختلاف، الوحدة والتمزق، الخضوع والتمرد. (6)
ولكن «الفترة الزمنية» لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد فترة بإطلاق؛ بل هي بناء تزامني وتعاقبي في آن واحد. وما بعد الحداثة ليست استثناء، مثلها في ذلك مثل الكلاسيكية أو الرومانسية كما سبق القول؛ فهي تتطلب تعريفا زمنيا وتصنيفيا، تاريخيا ونظريا. وليس في وسعنا أن نزعم على نحو فعلي وجود تاريخ محدد لها، وبالتالي لن نتمكن من تحديد «تاريخ» لها على النحو الذي حددت به فيرجينيا وولف تاريخا للحداثة، عندما قالت: «في أو حوالي شهر ديسمبر 1910م.» وهكذا أيضا نكتشف باستمرار «أسلافا» عديدين لما بعد الحداثة لدى شتيرن ودوساد وبليك ولوتريمون ورامبو وجاري وتزارا وهوفمنشتال وجيرترود شتاين، وجويس في أعماله المتأخرة، وكذلك باوند في أعماله المتأخرة، ودوشامب، وأرتو، وروسي وباتاي وبورخ وكوينيو وكافكا. ما يعنيه هذا هو أننا قد صنعنا في أذهاننا أنموذجا لما بعد الحداثة، ورموزا خاصة معينة للثقافة والخيال، وانتقلنا بعدئذ من أجل «إعادة اكتشاف» صلات القربى بين مختلف المؤلفين ومختلف العهود، استنادا إلى ذلك الأنموذج. بمعنى آخر، لقد أعدنا اختراع أسلافنا، ولسوف نفعل ذلك دوما. ووفقا لذلك يمكن للكتاب الأقدم أن يكونوا ما بعد حداثيين: بيكيت وبورخيس ونابوكوف وجومبروفيتس؛ كما يمكن ألا يكون الكتاب الأحدث منهم كذلك: مثل ستيرون وأبدايك وجاردنر. (7)
كما رأينا، فإن أي تعريف لما بعد الحداثة يدعو إلى رؤية رباعية متكاملة الأطراف، تحوي التواصل والانقطاع، والتعاقب والتزامن. ولكن أي تعريف للمفهوم يتطلب أيضا رؤية ديالكتيكية؛ لأن الصفات التعريفية غالبا ما تكون متناقضة، وإهمال ذلك والانخراط في الواقعية التاريخية يفضي إلى الوقوع في الرؤية الأحادية. والصفات المحددة جدلية ومتعددة في آن واحد؛ فانتقاء سمة واحدة لتكون معيارا مطلقا لما بعد الحداثة يعني وضع بقية الكتاب الآخرين في غياهب الماضي؛ وبالتالي لا يمكننا ببساطة أن نركن، كما سبق لي أن فعلت في بعض الأحيان، إلى القول بأن ما بعد الحداثة تستعصي على التحديد أو أنها فوضوية أو تخلو من الإبداع؛ فمع أنها تتضمن في الواقع كل هذا، إلا أنها تحتوي أيضا على ما يستدعي البحث عن «حساسية وحدوية»
unitary sensibility (سونتاج)، وإلى «عبور الحدود وردم الهوة» (فيدلر)، وبلوغ محايثة الخطاب، كما اقترحت أنا، والغنوصية الجديدة وراهنية العقل.
10 (8)
يقودنا كل هذا إلى مشكلة تحديد الفترة نفسها، وهي أيضا مشكلة التاريخ الأدبي في حال التعامل معه كإدراك واع للتغيير. وفي الواقع، فإن مفهوم ما بعد الحداثة يفترض وجود نظرية جديدة أو تغيير ثقافي ما. فأية نظرية يا ترى تكون الفيكونية
Viconian ؟ الماركسية؟ الفرويدية؟ الدريدية؟ السيميائية؟ الكوهينية أم الانتقائية؟ هل توجب علينا بالتالي أن نترك ما بعد الحداثة - الآن على الأقل - دون تعريف أو مفهوم محددين، والاكتفاء بالتعامل معها الآن كنوع من «الاختلاف» الفني أو «الأثر» الثقافي؟
11 (9)
آخر تلك المعضلات، وربما أكثرها وضوحا، هي قابلية ما بعد الحداثة للتوسع غير المحدد: فهل ما بعد الحداثة مجرد نزعة أدبية، أم هي بالأحرى ظاهرة ثقافية، أو ربما لحظة تحول حقيقية في الإنسانية الغربية بكافة جوانبها؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف لتلك الجوانب المختلفة لهذه الظاهرة - النفسية والفلسفية والاقتصادية والسياسية - أن تلتقي وتتفرق؟ باختصار، هل يمكننا أن نفهم ما بعد الحداثة في الأدب من دون بعض محاولات إدراك ملامح المجتمع ما بعد الحديث، ما بعد الحديث كما تصوره توينبي؛ حيث يكون الاتجاه الأدبي الذي أناقشه هنا مجرد ضرب وحيد نخبوي منه؟
12
ولا شك أن هناك مشاكل مفاهيمية أخرى أجد نفسي مترددا تجاه تناولها (هناك في الوقت الحاضر جمع غفير من الأمور الاصطلاحية والمنهجية والأنطولوجية والإبستمولوجية، فمن يمكن أن يلوم أي شخص على هذا التردد؟) لكنني أعترف أن ذلك قصور واضح يجعلني أقرب إلى الهواة. (1-3) الاختلافات
يهدف الجدول التالي إلى تقديم بعض خصائص ما بعد الحداثة في مقابل الحداثة:
الحداثة
ما بعد الحداثة
الرومانسية/الرمزية
ما بعد الطبيعة/الدادئية
الشكل (متصل ومغلق)
اللاشكل (متقطع ومفتوح)
قصد
لعب
تخطيط
مصادفة
تراتبية
فوضى
قوة/لوغوس
ضعف/صمت
موضوع الفن/عمل منته
عملية/أداء/حدث
مسافة
مشاركة
إبداع/شمولية
هدم/تفكيك
تركيب
تفكك
حضور
غياب
تمركز
تشتت
نوع/حدود
نص/تداخل النصوص
نموذج معياري
سياق
ترتيب بواسطة روابط
ترتيب بدون روابط
استعارة
كناية
انتقاء
مزج
جذر/عمق
جذمور/سطح
تفسير/قراءة
ضد التفسير/قراءة محرفة
مدلول
دال
المقروء
المكتوب
السرد
ضد السرد
الآب الرب
الروح القدس
سمة
رغبة
تناسلي/ذكوري
متعدد الأشكال/مخنث
جنون العظمة
الفصام
الأصل/السبب
الاختلاف/الأثر
ميتافيزيقا
سخرية
حتمية
لا حتمية
محايثة
مفارقة
يعتمد الجدول السابق على أفكار مختلفة من حقول معرفية عديدة؛ البلاغة واللغويات ونظرية الأدب والفلسفة والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي والعلوم السياسية، وحتى اللاهوت؛ كما يعتمد على العديد من الكتاب : دي سوسير وياكوبسون وليفي شتراوس وروب جرييه ولاكان ودريدا وفوكو ودولوز وبارت وكريستيفا، فضلا عن أورباخ ودي مان وكيج وكابرو وبراون وشتاينر وبارت وبلوم وسونتاج وروزنبرج؛ وكتاب آخرين أنا واحد منهم. غير أن هذه القائمة خادعة؛ لأن تلك الاختلافات دائمة التبدل والإرجاء، بل إنها تتلاشى أحيانا؛ بالإضافة إلى أن المفاهيم في كلا العمودين ليست متناظرة؛ وهي مليئة بالتقابلات والاستثناءات العديدة. ومع هذا، يظهر النزوع نحو «اللاتحدد» في العمود الثاني، الذي يشير إلى ما بعد الحداثة، بصورة أكبر مما هو موجود في العمود الأيسر - غير أن هذا لا يضفي مزية معينة إلى العمود الثاني.
على كل، هناك خمسة افتراضات تشكل وسائل مساعدة قد تعيننا على فهم ثقافة ما بعد الحداثة. فهل يمكننا أن نتجاوز الآن الجدول السابق، إلى الحديث عن مفهوم ثقافي لما بعد الحداثة؟ لم يتبق لي كثير من المساحة هنا، وسأكتفي بعرض هذه الافتراضات، التي أجد في إيجازها حيلة للهروب من النقد: (1)
تعتمد ما بعد الحداثة على التحول الأنسني الصارخ الذي حدث على كوكب الأرض؛ حيث الإرهاب والاستبداد، الجزئيات والكليات، الفقر والسلطة، كل منها الآخر. قد تكون النهاية كارثية و/أو بداية حقيقية لهذا الكوكب؛ عهدا جديدا «للواحد والكثرة»، كما اعتاد أن يردد الفلاسفة السابقون على سقراط.
13 (2)
تستند ما بعد الحداثة على المد التكنولوجي للوعي، وهو شكل من أشكال غنوصية القرن العشرين،
14
يسهم فيه الكمبيوتر وجميع وسائل إعلامنا المختلفة (بما في ذلك الوسيط العجيب الذي نسميه تليفزيون). والنتيجة هي وجهة نظر مفارقة تنظر إلى الوعي كما لو كان مجرد معلومة، وتنظر إلى التاريخ كما لو كان مجرد حدث. (3)
تكشف ما بعد الحداثة، في ذات الوقت، عن نفسها في تشتت لغة الإنسان في كل مكان. «عودة» إلى لحظة الخلق الأصلية (الانفجار الكبير
Big Bang )، «نزوحا» إلى حافة الانحسار في الكون (النجوم الزائفة
quasars )، «داخل» الثقوب السوداء
black holes
في الفضاء أو اللاوعي (لاكان) - بديلا عن محايثة العقل والخطاب في المرحلة الحداثية. وربما يكون هذا هو الجانب الأكثر وضوحا من الغنوصية الجديدة. (4)
كما يمكن الحديث عن ما بعد الحداثة، بوصفها شكلا من أشكال التحول الأدبي، الذي يمكن تمييزه عن الأشكال التقليدية للتيارات الطليعية (التكعيبية والمستقبلية والدادائية والسريالية، وما إلى ذلك) فضلا عن الحداثة. ولأنها ليست منعزلة أو مفارقة مثل الأخيرة (أي الحداثة) ولا هي بوهيمية ومنقسمة مثل الأولى (التيارات الطليعية)، فإن ما بعد الحداثة تؤسس ذاتها في منطقة مختلفة تقع بين الفن والمجتمع. وهذا ما يقودني إلى النقطة النهائية. (5)
بوصفها ظاهرة فنية فلسفية إيروتيكية اجتماعية، تميل ما بعد الحداثة إلى القوالب أو الأشكال المنفتحة ... اللعوب ... الانتقائية ... المتقطعة ... غير المحددة، خطاب تشظ، وأيديولوجية تجزئة، وإرادة «اللافعل»، واحتجاج الصموتيين على كل هذا - ومع هذا فهي تضمر ما في كل هذا من أضداد وواقع متناقض. وكأن «في انتظار جودو» وجدت صدى، إن لم يكن إجابة، في «السوبرمان».
15
لا يسع المرء في النهاية إلا أن يتساءل : هل تصبح بعض التحولات المعرفية والاجتماعية - تلك التي تشمل الفنون والعلوم، والثقافة العليا والدنيا، والمبادئ الذكورية والأنثوية، والأجزاء والكليات - فاعلة بيننا على كافة المستويات؟ بوسعنا أن نخمن ونخمن: فلن تصبح تلك الكتابة غير المرئية، «حبر الزمن»، مقروءة إلا بوصفها تاريخا.
Page inconnue