219

Duroos of Sheikh Abdullah Al-Jalali

دروس للشيخ عبد الله الجلالي

Genres

العبودية الخالصة لله ﷿
الشرط الثالث: (يعبدونني)، والعبودية لله معناها الخضوع التام لله ﷾، ومعناها الإعراض عن غير الله ﷿ والإقبال عليه ﷾ وحده، ومعناها الإعراض عن أي شرع وأي نظام يتنافى مع شرع الله، والإقبال على شرع الله ﷿ وحده وتحكيمه في كل صغيرة وكبيرة من أمور الناس، هي العبودية التي عبر عنها ربعي بن عامر ﵁ حينما أرسل إلى بلاد الفرس فقال له رستم: ما جاء بكم أيها العرب؟ فقال له: (إن الله ﷿ قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ﷿ وحده).
إذًا العبودية شرط من شروط التمكين، ولكن هذه العبودية إما أن تكون لله ﷿ وإما أن تكون لغير الله، فتكون لله ﷾ إذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة، وإذا أعرض عن عبوديته لله ﷿ فلا بد من أن يكون عبدًا لشيء آخر.
فإما أن يكون عبدًا للشيطان يتبعه ويتبع خطواته، وقد حذره الله ﷿ حيث قال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس:٦٠ - ٦١].
أو يكون عبدًا للدرهم والدينار، ومعنى كونه عبدًا للدرهم والدينار أن يقدم جمع المال على حب الله ﷿ والدار الآخرة، فيكسب المال من الحلال والحرام، يشترى ضميره ودينه بثمن بخس، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [آل عمران:٧٧] إذا عرضت عليه زينة الحياة الدنيا وسعادة الحياة الآخرة اختار زينة الحياة الدنيا على سعادة الحياة الآخرة، إذا عرضت عليه الرشوة، وإذا عرض عليه المنصب تجده عبدًا لهذا الأمر وينسى عبوديته لله ﷿، وقد يكون عبدًا للمركز والوظيفة، وقد يكون عبدًا للهوى، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية:٢٣]، وقد يكون عبدًا لغير ذلك، لكنه يتحرر من كل هذه العبوديات حينما يتعلق بالعبودية لله ﷿، وبمقدار ما يتجرد من عبودية الله يسقط في عبودية البشر، وبمقدار ما يتعلق بعبوديته لله ﷿ يبتعد عن عبودية البشر أيًا كان هذا البشر، هذه العبودية التي تزيد الإنسان شرفًا وعزة وكرامة يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه فيقول عن العبودية لله: ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا إذًا هذه العبودية يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه بأنها علو، وبأنها مكانة عالية، حتى يقول: لقد كدت أن أطأ الثريا بأقدامي حينما أكون عبدًا لك يا رب، وحينما أدخل في نبوة وبعثة محمد ﷺ فأكون من أمة الإجابة.
هذه العبودية قد يفقدها بعض الناس فيشعر بالذلة والمهانة، ويشعر بالضعف والهوان حتى يدخل في هذه العبودية، يروي لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الصالح الذي كان فاسقًا لا يعرف معنى العبودية من الحرية، ومكث على هذا مدة طويلة من الزمن، حتى هداه الله فعرف معنى العبودية، فيروي المؤرخون أن بشرًا المسمى بـ بشر الحافي كان شابًا فاسقًا طائشًا ذا فساد عريض في الأرض، وكان من أبناء الذين امتحنهم الله ﷿ بالمال الوفير والنسب العريق، فقضى مدة طويلة من شبابه في فسق ولهو، لم يترك جانبًا -كما يروي عن نفسه- من جوانب الفسق إلا وقد أخذ منه بنصيب، فأراد الله ﷿ له الهداية، فمر ذات ليلة بداره الرجل الصالح المشهور إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه، فتمزق قلب هذا الرجل الصالح حينما رأى الرقص والغناء واللهو والموسيقى وكئوس الخمور تدار في بيت بشر، فوقف عند الباب وطرقه، ففتحت له إحدى الراقصات القينات فقال: بالله أخبريني هذا بيت من؟ قالت: هذا بيت بشر.
قال: أخبريني بالله أحر هو أم عبد؟ قالت: هو حر.
قال: قولي له إن كان حرًا فليفعل ما يشاء.
ثم انصرف، فانتبه بشر فسأل المرأة: من عند الباب؟ قالت: رجل.
وذكرت صفته، قال: ماذا قال؟ قالت: سألني حر أنت أم عبد؟ فقال: ماذا قلت له؟ فقالت: قلت له: أنك حر.
قال: وماذا قال؟ قالت: قال: إن كان حرًا فليفعل ما يشاء.
وانصرف، فمشى حافيًا لأول مرة وهو من أبناء الأشراف، ولحق بـ إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما، فقال: قف يا رجل.
ماذا تقول؟! قال: يا بشر! سألت: أحر أنت أم عبد؟ فأخبروني أنك حر، فإن كنت -يا بشر - حرًا فافعل ما تشاء.
قال: يا رجل! ويحك ماذا تقول -بدأ الرجل ينتبه ويعرف معنى الحرية والعبودية-؟ قال: لم أزد على ذلك أبدًا، قال: ويحك ماذا تقول؟ قال: يا بشر! إن كنت حرًا فافعل ما تشاء، وإن كنت عبدًا فهذه ليست صفة العبيد.
قال: والله إني لعبد، والله إني لعبد، والله إني لعبد.
ويضرب برجله الأرض، ويعود بشر ليكسر زجاجات الخمر، ويخرج الراقصات والغانيات، ويعاهد الله ﷿ على التوبة وتحقيق معنى العبودية، ليصبح في يوم من الأيام مضرب المثل في الورع والزهد والتقوى، حتى إن ذكر بشر الحافي تغلب بعد ذلك على ذكر إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما أجمعين، هذه هي العبودية والرق لله ﷿، وتلك الحرية التي ينادى بها اليوم هي التفلت من القيود التي وضعها الله ﷿ لهؤلاء البشر حتى يكونوا عبادًا لله ﷾.
فالعبودية هي التي تكسب الإنسان شرفًا، وتزيده الدرجات العلى في الدنيا والآخرة، ورفض الشهوات والإقبال على الله ﷿، وعدم الميل إلى زينة الحياة الدنيا ميلًا يضيع على الإنسان سعادة الحياة الآخرة الخالدة.

8 / 5