Duroos of Sheikh Abdullah Al-Jalali
دروس للشيخ عبد الله الجلالي
Genres
الإيمان
الإيمان معناه: التصديق الجازم، التصديق بوجود الله ﷿ أولًا، فلا يصل إلى قلب أحد شك في وجود الله ﷿، وكيف يصل إلى قلب أحد من الناس الشك وهو الذي يرى آيات الله ﷿ في الآفاق وفي الأنفس؟! قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت:٥٣] هذه الآيات التي وضعها الله ﷿ في هذا الكون ينظر إليها الإنسان ليلًا ونهارًا، ينظر إليها في كل لحظة، يرفع بصره إلى السماء فيرى هذه الكواكب العظيمة وهي تجري إلى أجل مسمى، وينظر إلى الشمس والقمر وهما يجريان إلى أجل مسمى، ثم ينظر إلى الأرض فيرى قدرة الخالق ﷾، ثم ينظر إلى نفسه ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:٢١] فيخرج من ذلك بنتيجة وهي وجود الله ﷿ وقدرته ووحدانيته في هذا الكون؛ لأن هذه الوحدانية تبرز في قدرة الصانع ﷾ وفي انتظام هذا الكون الرتيب، قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء:٢٢] ولذلك فإن الإيمان فطرة، وكل ما في هذا الكون يحرس هذه الفطرة، والانحراف خروج عن الفطرة، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة:٢١٣] أي: ثم انحرفوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة:٢١٣] وهذه الفطرة هي صبغة الله ﷿ التي يقول عنها: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة:١٣٨] هذه الفطرة -فطرة الإيمان بوجود الخالق ﷾ وقدرته ووحدانيته- فطرة خلقت مع الإنسان، فقد قال الله ﷿: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف:١٧٢] بماذا؟! قال الله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف:١٧٢ - ١٧٣]، وفي معنى هذا الآية الكريمة يقول الرسول ﷺ: (إن الله ﷿ قد استخرج ذرية آدم من ظهره يوم خلقه كالذر، فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فأخذ ﷾ قبضة فقال: هذه إلى النار ولا أبالي.
وأخذ قبضة أخرى فقال: هذه إلى الجنة).
إذًا هي فطرة فطر عليها هذا الإنسان، ولكن هذه الفطرة -أي: فطرة الإيمان- تتعرض في كثير من الأحيان لأمور خارجية تؤثر فيها، ولعل من أبرز هذه الأمور الخارجية دعاة الضلال الذين نذروا أنفسهم لحرف أبناء الفطرة عن الفطرة، ولكن هذه الفطرة ما زالت موجودة، وأي فطرة يوجد فيها إنكار هذه الفطرة فإنما هو لأسباب ودوافع، فإذا كان فرعون يقول للملأ: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص:٣٨] ويقول لهم: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات:٢٤] ويخرج على هذه الفطرة فإن نواياه السيئة تنكشف في قول الله ﷿: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:١٤]، ويزيد هذا الانكشاف وضوحًا حينما أدركه الغرق فقال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس:٩٠] وعلى هذه تأكدنا من أن الفطرة ما زالت موجودة، وأن هدف فرعون إنما يريد من خلال ذلك أن يستعبد هذا العالم، وهكذا كل من يريد أن يستعبد هذا العالم لا بد أن يخرج على هذه الفطرة؛ لأن هذه الفطرة لا تمكن لطاغية من الطغاة أو لجبار من الجبارين أن يسود هذا العالم إلا بمقدار ما يحول بين هؤلاء الناس وهذه الفطرة، ولذلك تجد أن الشيوعية التي كادت أن تكتسح جزءًا كبيرًا من العالم مدة من الزمن كان هدفها الاستيلاء على العالم، واستعباد بني البشر، ولا يمكن لأمة أن تستعبد البشر إلا حينما تحول بينه وبين هذه الفطرة، حتى إذا يئسوا من هذا الهدف أظهرت الشيوعية إفلاسها.
فالمهم هو الشرط الأول، وهو الإيمان، وهذا الإيمان له مفهومان: المفهوم الأول: مجرد التصديق، وهذا لا يكفي لحياة الرجل المؤمن، فإن مجرد التصديق تعتريه كثير من الأحداث والأخطار التي تهزه هزًا، ولربما يتجرد هذا الإنسان من إيمانه بسبب هزة بسيطة أو هزة عنيفة، ولذلك الله تعالى ذكر من هذا الإيمان أنواعًا: فقال عن نوع منه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة:٨ - ٩].
وذكر نوعًا آخر من هذا الإيمان الصادق في بادئ الأمر، لكنه غير ثابت ولا مستقر؛ لأنه لم يصل إلى سويداء القلوب؛ ولأن الأحداث لم تفتنه بعد، ولأنه لم يصب بهزة من الهزات، ولكنه سرعان ما يصاب بهزة يتأثر بها هذا الإيمان؛ لأنه لم يكن عن تفكير وبحث وروية، وإنما كان عن تقليد أو إرث من الآباء والأجداد أو إرث من البيئة، ولذلك الله تعالى يقول عن هذا النوع من الإيمان: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت:١٠] هذا الإيمان الذي يريد صاحبه أن يأخذ ما سهل ولان ويترك ما شق وصعب، ففي أيام الرخاء يقول: إنه مؤمن.
لكن حينما تغرقه الشدائد ينهار كما ينهار بيت العنكبوت، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:٤١].
وهناك إيمان كالجبال، وهناك إيمان أقوى من الجبال لا يتزحزح عن موقعه ولا يتأثر بما يحيط به.
فالإيمان الحقيقي الصادق شرط للاستخلاف، لا نريد أن يكون كإيمان أبي العلاء المعري الذي يقول: (إن كان الحق معي فأنا أكسب الموقف، وإن كان الحق مع غيري فأنا لم أخسر شيئًا) ولكننا نريد إيمانًا كإيمان إبراهيم ﵊ الذي ألقي في النار فيقول له جبريل: ألك حاجة؟! فيقول في ساعة الصفر: (أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم)، كإيمان إبراهيم الذي يقول لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات:١٠٢] فيقول الابن الصالح المؤمن: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات:١٠٢ - ١٠٣] وانتهى الأمر وجاء الفرج من عند الله ﷿.
نريد إيمانًا كإيمان موسى ﵊ الذي يقول له بنو إسرائيل وقد استقبل البحر: يا موسى! العدو من ورائنا والبحر من أمامنا، أين المفر؟! فيقول بكل رباطة جأش: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:٦٢] هذا الإيمان الذي لا يرهبه تهديد طاغية ولا ظلم طاغوت، إيمان كإيمان السحرة الذين كانوا يقولون: ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ [الشعراء:٤٤] فإذا بهم يرون أن عزة فرعون لا تحميهم من عذاب الله ﷿، ويرون أن ما جاء به موسى ﵊ ليس سحرًا، ولكنها آية كبرى جاء بها من عند الله، وحينئذ يخرون لله ﷿ ساجدين، ولم يفعلوا من دينهم إلا سجدة واحدة، ثم يأتي دور تهديد الطغيان في الأرض الذي يشعر بالنشوة، فيقول لهؤلاء المؤمنين الذي رأوا الآيات بأمهات أعينهم: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه:٧١] فماذا قال السحرة؟ قالوا: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه:٧٢] فأنت لك الجسد لكنك لا تستطيع أن تصل إلى الروح! ويمكن أن تعذب في الحياة الدنيا لكنك لا تستطيع أن تعذب في الحياة الآخرة، قالوا: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه:٧٢] و(ما) هنا من ألفاظ العموم، أي: كل ما تريد أن تفعله افعله في هذه الأجسام.
﴿إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى﴾ [طه:٧٣ - ٧٥] هذا الكلام يقوله سحرة جاء بهم فرعون من أقصى المدائن، وجمعهم من شتى أقطار مصر من أجل أن يقفوا أمام آية من آيات الله، وكانوا يظنون في بادئ الأمر أن فرعون صادق، وأن موسى كاذب، لكنهم حينما رأوا الآيات بأمهات أعينهم قالوا: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه:٧٢] لكن هذا الإيمان أين يولد؟ وأين يوجد؟ في التفكير في عظمة الله ﷿، ولذلك تجد إبراهيم ﵊ الذي يستسلم للإلقاء في نار الدنيا هروبًا من نار الآخرة وهو على ثقة بأن الله ﷿ سوف يدافع عنه هو ذلك الذي يبحث عن الله، وما كان يشك في الله، وإنما كان يريد أن يعلم الناس من الذي يستحق أن يعبد، أهو الكوكب؟ لا يصلح الكوكب؛ لأنه لا يحب الآفلين، ولأن الكوكب أفل، أهو القمر؟ إن القمر لا يصلح.
أ
8 / 3