معنى قوله تعالى: (عاملة ناصبة)
هذه الوجوه الخاشعة: ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:٣] أي: أنها تكلفت الكثير من العمل والمشاق يومئذ، أي: في يوم القيامة، وأصبحت ناصبة، أي: متعبة، فهذه الوجوه -نعوذ بالله منها- ليست في نعيم، بل في تعب وشقاء، ويجرى عليها العذاب بأنواعه.
وكل هذه الصفات تعريضًا بشقائهم، وتذكيرًا لهم بأنهم تركوا الخشوع لله تعالى والعمل بأمره في الدنيا، فجازاهم الله بالنصب والتعب يوم القيامة، وبخشوع المذلة وبالإرهاق.
ويقول بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن هذه الآية: ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:٣] تنطبق في الدنيا على طائفتين: الأولى: على أهل الكفر والعناد، ونجد دليلًا على ذلك في أثر أورده ابن المنذر رحمه الله تعالى: [أن عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه مرَّ بديرٍ للنصارى وإذا فيه راهب، فنودي هذا الراهب وخرج على عمر، فلما رآه عمر ﵁ وجد عليه آثار الخشوع والتعبد، وما فيه من النصب والتعب في اجتهاده في عبادته التي هو عليها، فلما رآه عمر بكى، قالوا لـ عمر: إنه نصراني، قال: إنني أعلم أنه نصراني وإنما بكيت رحمة به؛ إذ أنه يشقي نفسه في الدنيا، وفي الآخرة مصيره إلى النار لا يستفيد شيئًا من هذا التعب] وأصبحت نظرته نظرة رحمة، وهنا أنبه على أدب لطيف نبه عليه الإمام ابن القيم ﵀ في مدارج السالكين وهو: يجب أن تكون نظرتنا إلى أهل المعاصي نظرة إشفاق وعطف ورحمة.
ويقول ابن القيم: لو كانوا يعرفون الله حق المعرفة ما عصوه، وما تجرءوا عليه بالعصيان، وليس هذا مما ينافي قضية الولاء والبراء، ولا ينافي أنهم يُبغضون في الله، لكن مع ذلك ينظر إليهم نظرة شفقة ورحمة؛ حتى يحسن أسلوب الإنسان في عرضه ونصحه وتوجيهه، وفي بيان الحق لهم.
وهذا المنهج نأخذه مما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
إذًا: فقوله: ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ [الغاشية:٣] تنطبق على طائفتين: الطائفة الأولى: أهل الأديان الباطلة والملل الفاسدة.
الطائفة الثانية: وتنطبق على المبتدعة؛ لعدم تأسيهم بالنبي ﷺ.
من الناس من يكون مبتدعًا في دينه، ترى عنده كثرة التأله، والذكر، والركوع، والسجود، ولكنك لا تراه متأسيًا بمحمدٍ ﷺ.
كم نرى من الصوفية من الأذكار العظيمة، وكثرة الصلاة والصيام والمواصلة فيه، ومع ذلك لا يستفيدون؛ لأن من شرط العمل: أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، وأن يكون متأسيًا فيه بمحمدٍ ﷺ، وهذا هو الواجب علينا؛ فنحرص أشد الحرص على هذين الأصلين العظيمين: الإخلاص والمتابعة.
2 / 6