يقول سبنسر: إن ملكية الأرض بادئ ذي بدء كانت عملا استبداديا، لا يخلو من السرقة والتزوير، فكان فيه اللص يتلو اللص. ويقدم مثلا على ذلك النورمانديين؛ فقد اغتصبوا الأرض اغتصابا من الدانماركيين والسكسون، كما اغتصبها السكسون من السلت، والسلت من أبناء بريطانيا العظمى الأصليين. فإذا أراد المجتمع اليوم أن يستولي على عمل ألفي سنة فقد أتى أمرا إدا، وارتكب من اللصوصية أعظم مما ارتكب أولئك. ثم إن دخول العقار في حوزة الأمة لا يأتي بالفائدة المطلوبة؛ لأن إدارة المجتمع لا تضاهي إدارة الفرد في تصريف الأمور وتسييرها سيرا موفقا.
وفي برنامج الاشتراكيين مادة أخرى لم يقف سبنسر فيها عند رأيه الأول: تلك حرية المرأة. فقد رأى بالاختبار أنه من الخطر إشراك المرأة في السياسة، وأبى عليها ما للرجال من الحقوق السياسية؛ لأنها لا تقوم بما يقومون به من الواجبات، ولا تساهم في الخدمة العسكرية كثيرا أو قليلا.
ولا بد هنا من القول: إن رجوع سبنسر عن رأيه الأول في هاتين المسألتين: ملكية الأمة للأرض وحرية المرأة، كان نتيجة العلم والاختبار، وإذا أخذنا على رجال السياسة تقلبهم في أقوالهم وأعمالهم فلا يسعنا الطعن في المفكرين أمثال سبنسر، عندما يعيدون النظر في آرائهم القديمة ويمحصونها على ضوء الحقيقة والواقع.
على أن هناك أمرا ثبت فيه منذ البداية ولم يحد عنه قيد شعرة، وهو اهتمامه بالطبقة العاملة؛ فقد دافع عنها دفاعا مستطيلا، وظل حتى النهاية يردد ويعدد ما يكتنف مستقبل الأكثرية من ظلام وشقاء، فالبطالة والازدحام في المساكن الضيقة المظلمة الفاسدة الهواء، والمهن المضنية، والشيخوخة المحزنة، والانقسام البليغ بين الطبقات، وتفاوت الأرباح الهائل، وحصة الأسد المعدة منها للمخدوم على حساب الخادم ... كل هذه الأدواء يشكو سبنسر ويتألم منها، إلا أنه لا يظنها غير قابلة للشفاء.
كان سبنسر من المتفائلين المؤمنين بالرقي، على شرط أن لا يبقى الإنسان مكتوف اليدين، بل يتدخل تدخلا فعليا في مقدرات نفسه، ولكنه لا يعتقد بدواء سحري يشفي من الأمراض كافة؛ فهو يبني فلسفته على ناموس النشوء والارتقاء، ويشبه جسم المجتمع بجسم الفرد؛ أي أنه قابل مثله للتأثر بعوامل خارجية كالتربة والمناخ، وداخلية كالمزاج والأهواء. وكما يبدأ نماء الجسم بالجرثومة يبدأ نماء المجتمع بالأسرة، ثم القبيلة، إلى أن تتألف الأمم والشعوب، فتنقسم حينئذ إلى فئتين أو جيلين أو مثالين: مثال ينتحل الجندية، ومثال ينتحل الصناعة.
والفرق بين المثالين أن المرء يفقد حريته في الأول على أن تكفل له حاجاته من مطعم ومسكن وكساء، بينما يظل في الثاني حرا يعتمد على نفسه في هذه الحاجات. على أن المثال الخالص عسكريا كان أو صناعيا غير موجود. ويمكن القول: إن دول أوروبا مزيج من الاثنين؛ فهي نصف عسكرية ونصف صناعية. ويرى سبنسر أن المثال العسكري غالب في ألمانيا، والصناعي في إنكلترا وأميركا، وفيهما دليل ناصع على ما يمكن للشعب أن يصل إليه من البسطة والغنى بدون الحرب.
ويقول سبنسر: من العجيب أن الطبقات العاملة تشعر بضرورة السلم وتكره الفكرة العسكرية، ومع ذلك نراها تحاول من حيث لا تدري تطبيق نظامها الاستبدادي على الصناعة، بإخضاع الفرد للدولة، فيصير الصناع جنودا يتحكم بهم النظار والمفتشون، بدلا من الضباط والقواد.
ويرد زعماء الاشتراكية على هذا بقولهم: إن الفرق عظيم بين الحالين؛ لأن النظار والمفتشين هم مندوبون خاضعون لرقابة الشعب، معرضون للانتقاد والعزل، فلا يمكن للعامل أن يكون مقيد الحرية كالجندي.
وعلى الجملة فالاشتراكية في نظر سبنسر رجوع إلى الوراء لا يتفق مع سير الحضارة.
أما عداؤه للنظام البرلماني فراجع إلى فكرته الأساسية التي تجعل من المجتمع جسما حيا، ينمو ويكبر حسب شرائع طبيعية لا قبل للإنسان أن يبدل فيها كما يشاء. والحياة الاجتماعية لا تنتظم اتباعا لخطة يرسمها العقل والمنطق، بل اتباعا للحاجات الماسة، ولن تجد مجتمعا راقيا قام طبقا لبرنامج أو خطة موضوعة من قبل بالمناقشة الرسمية، ففي أي حال كان لا سبيل للإنسان أن يغير الأشياء الطبيعية إلا بخضوعه للشرائع الطبيعية.
Page inconnue