فتساءل صلاح الدين كامل برجاء: ألا يمكن أن تمر الجلسة بسلام؟!
فأشار الضاوي إلى المقاعد الخالية، وهتف بصوت متهدج: مؤامرة دنيئة!
فرمقه زيادة عبيد بهدوء ساخر، وقال ببروده المعتاد: أنت مخطئ، لم نعمل على منع أحد من الموظفين من الحضور، وما جئنا إلا لظننا بأنهم موجودون في الحفل؛ حتى نحافظ أمامهم على كرامتنا كموظفين كبار!
ثم بهدوء مركز كالسم: وإلا ما كان هناك باعث واحد يدعونا إلى المجيء!
امتقع لون الضاوي وتحركت شفتاه حركة عصبية كحركة ذيل البرص المقطوع، وركز في خصمه عينيه، وعشرات الاحتمالات الجنونية تتلاطم في رأسه، لكنه كظم الطوفان في اللحظة المناسبة، وقال بحقد وتحد: أنا غير نادم على أنني عاملت كل شخص بما يستحقه!
فتساءل زيادة بسخرية: ماذا جنيت من حياتك؟! الدرجة ها أنت تتركها في مكانها، الدرجة التي نبذت كل شيء في سبيلها، وعقابك الحقيقي أنك ستجد أن الحياة قد نبذتك أيضا.
وعاد صلاح الدين كامل يقول برجاء: سيسمعنا الخدم!
فوقف الضاوي وهو يقول دون مبالاة: لا يهمني، المراقب العام لا يهمني بتاتا، كذلك الخدم، كل شيء يبدو حقيرا لا يستحق الأسف! .. السلام عليكم.
ومضى دون أن يصافح أحدا. وما لبث أن سافر إلى المنصورة ليمضي أياما عند كبرى بناته .. قضى أسبوعا في صحة أقرب إلى الاعتلال، ولكنه رجع إلى الحدائق على حال لا بأس بها. وخيل إليه أنه نسي حفل التكريم وآلام الهزيمة ولكن الحزن لم يفارقه، ولا الخوف من المستقبل، من الملل والفراغ. وكان أعجب ما وقع له أنه اكتشف عند صلاة الصبح أنه لم يكن يفقه معنى للفاتحة. حقا لم ينقطع يوما عن الصلاة، ولكنه كان يؤديها كما يحلق ذقنه، وكما يعقد رباط رقبته بفكر مشغول بأمر أو بآخر، بمذكرة يعدها، ببند من التعاليم المالية، بمعركة يتوثب لها، بأي شيء إلا الصلاة.
ولأول مرة وجد نفسه أمام هذه العبارة «باسم الله» بلا شاغل يشغل قلبه عنها، فاكتشفها لأول مرة في حياته. وشعر بدوار وغرابة، وتساءل كيف مر ذلك العمر الطويل؟! ومن شدة انفعاله غادر مسكنه إلى الطريق، وسار فيه إلى الداخل لا إلى الشارع العمومي كما ألف أن يفعل كل يوم في عشرات الأعوام الماضية. لم يتفق له أن يسير في هذا الاتجاه أبدا منذ زمن بعيد جدا، وبخاصة فيما وراء المنعطف، ولا كان ثمة ما يدعوه إلى ذلك، فظل يحتفظ له بصورته القديمة إذ كان طريقا مقفرا تحدق به الحقول من الجانبين. باسم الله، بها تبدأ كل سورة، والحق يجب أن يبدأ بها كل شيء، ولعل هذا هو المراد حقا. وكلما أوغل في الطريق بدت له كائنات جديدة لم تكن لتخطر له على بال. امتدت على الجانبين الفيلات بحدائق مخضرة منسقة، وتراءت وراءها الحقول. وقامت على الطوارين الأشجار بجمالها الرزين، كأنها في صمتها تتناجى بلغة تنتظر من يكشف عن سرها كما كشف هو عن سر آخر. وبدا الطريق ممتدا إلى غير نهاية، فعجب غاية العجب، وتساءل متي خلق هذا العمران كله؟! وخيل إليه أنه سيخجل كثيرا عند البوح بكشفه لأحد من الناس. ولكن أي أحد من الناس يعرفه ليبوح له بكشفه؟ إن العمران لم يدخل بعد قلبه؛ قلبه المقفر من كل شيء. «وعقابك الحقيقي أنك ستجد أن الحياة قد نبذتك أيضا»، كما وجدها يوم الأربعاء أول أيام المعاش، ماذا جنى من حياته الماضية؟ ماذا جنى غير الفراغ والدوار؟ قدمت من الجهد فوق ما يطيق البشر، ولكنه جهد مضى باسم الطموح الجنوني، باسم الجشع، باسم الأنانية، باسم الكراهية، باسم الحقد، باسم العراك، ولا عمل واحد باسم الله. وتأوه في موقف اختاره تحت ظل شجرة غير مبال بأنظار المارة. ترى هل فات الأوان وضاعت الفرصة؟ وامتد بصره مع الطريق، فتراءت أشجاره المتباعدة كأنها سياج شبه متصل من الخضرة اليانعة، تتخللها رءوس المصابيح الكهربائية البيضاء. كل هذا العمران والجمال قائم في الطريق الذي يعيش فيه من قديم، وهو لا يدري به! ماذا يعرف من هذه الدنيا العجيبة؟! وماذا يفعل ماضيه المثقل؟ وتنهد في حزن كأنه بنيان يتقوض. ورجع إلى مسكنه وهو يلهث من الانفعال فوجد امرأته جالسة تتشمس فجلس إلى جانبها، وهو يقول: لم أكن أتصور أن شارعنا على هذا القدر من الجمال!
Page inconnue