ثم ضرب مكتبه بقبضته، وقال: لا حديث بعد اليوم عن الموت، يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة، وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة، ولن نكف عن البحث.
زينة
ازدحم مدخل العمارة رقم 115 بشارع رمسيس بالمنتظرين أمام أبواب المصاعد، وهو مدخل لا يخلو من ازدحام، كما يجدر بعمارة جميع شققها مؤجرة للشركات. وكان بين المنتظرين ثلاثة أشخاص جاءوا في وقت واحد على وجه التقريب، رجلان وفتاة، وكأكثر الحاضرين لم يكن يعرف أحدهم الآخر. وبطبيعة الحال لم ينتبه أحد إلى الرجلين، على حين تسللت نظرات الاهتمام إلى الفتاة لشبابها وجمالها وأناقتها. وبينا بدا أحد الرجلين كمن يناقش نفسه مناقشة حادة حتى جعل يقضم ظفره من حين لآخر، لاحت في عيني الآخر نظرة حالمة وحزينة، وعندما صادفت عيناه الفتاة دبت فيهما حياة متألقة كالزهرة.
قصد أول الثلاثة الشقة رقم 18 بالدور الثالث، فمضى إلى السكرتارية وحيا السكرتيرة اللطيفة هناك، وقال برقة ممزوجة بالثقة: محمد بدران.
ولم تكد الفتاة تغيب وراء باب المدير، حتى عادت وهي تقول: تفضل.
دخل محمد بدران حجرة المدير، فمد له هذا يده من وراء مكتبه وهو منهمك في مكالمة تليفونية، ثم أشار إليه بالجلوس، فغاص في مقعد جلدي كبير أمام المكتب. وبسرعة سحرية سرى في جلده وأعصابه الهواء المكيف فأنعشه وهدهده، وأخذ يجفف عرقه ويرطب لهيب الحر الذي عاناه في الطريق واختنق به في المصعد. وسرعان ما وعد نفسه بتركيب جهاز تكييف في حجرة مكتبه حالما تتحسن الأحوال عما قريب إن شاء الله، ولو يشاركه فيها الأبناء في بعض أوقات المذاكرة، بل ولا بأس من أن يتحول جزء منها إلى مكان لجلوس الزوجة في أشهر القيظ. وكالعادة انثالت على ذهنه أحلام الثراء بلا تحفظ، فأكملت ما ينقص حياته من الرفاهية. شقة جديدة في حي راق بعيدا عن روض الفرج طبعا، أثاث فاخر، مطبخ أمريكاني، بار أمريكاني أيضا، سخان، فريجيدير كبير، سيارة، شقة دائمة بالإسكندرية للتصييف في الصيف ولعطلات المواسم في بقية الفصول. ولسبب ما خطرت بباله الفتاة الجميلة التي رآها في مدخل العمارة أمام المصعد. ما أجمل أن «يملك» الإنسان صديقة مثلها! فائقة الجمال حقا، ولجمالها أثر بهيج مثير لأحلام الشباب في الحب والنشوة السامية. ترى أما زال يذكر عهد الشباب الأول بأحلامه ومثالياته؟! وإذا به يستيقظ على صوت المدير وهو يقول: كيف حالك يا أستاذ محمد؟
فخرج من أحلامه قائلا: بخير ما دمت بخير يا سعادة المدير.
وضحكا معا بلا مناسبة ظاهرة، وإن أحنقه صوته الجهوري ذو النبرة الشديدة والجلجلة، ثم رفع إليه عينيه، كأنما يقول «في خدمتك يا أفندم»، فقال المدير الذي اعتمد مكتبه بمرفقيه: كيف الأحوال؟ - ماشية! ليس في الرأس إلا مشروعات. - كل شيء بأوانه، أراهن على أنك ستحقق مشروعاتك، أنا خبير بالرجال.
فابتسم قائلا: لنا زميل لعلك تعرفه، كنا نعمل منذ ثلاثة أعوام في جريدة واحدة بثلاثين جنيها، هل تصدق أنه يعمل اليوم بثلاثمائة جنيه؟ - ستجيء فرصتك أيضا (ثم وهو يضحك) وأنا ماذا كنت منذ خمسة أعوام؟ - لكنك رجل أعمال!
وضحكا مرة أخرى. وإذا بوجه المدير يسترد هيئته الجادة ويقول داخلا في موضوعه: أنا ارتأيت طريقة ستوفر عليك تعبا كثيرا.
Page inconnue