وجد اللواء صباحا في فراشه كالنائم، شأنه كل يوم، إلا أن الوقت تأخر به عن المألوف مما دفع بزوجته إلى تفقد حاله، لكنه لم يكن نائما، بل مخنوقا، وأثر الحبل محفور حول عنقه، وفي عينيه جحوظ فظيع، وحول الفم والأنف دم لزج. أما الحجرة فلم يختل بها نظام، ولا الفراش نفسه، ولم يسمع صوت في الليل ليوقظ النائمين في الطابق معه من أهله، وجملة القول أن الضابط وجد نفسه مرة أخرى أمام اللغز القاتل الذي سحقه منذ شهر في مسكن المدرس حسن وهبي، أمام المجهول بصمته وغموضه وغرابته وقسوته، وسخريته واستحالته. - هل وقعت سرقة؟ - كلا! - له أعداء؟ - كلا! - والخدم، أكانت علاقته بهم طيبة؟ - جدا. - أتشكون في أحد؟ - أبدا!
ومضى الضابط في الإجراءات بلا أمل، عاين السراي معاينة دقيقة، واستجوب الأهل والخدم. وكان يتوجس خيفة من مجهول، ويشعر بأن مؤامرة تدبر في الظلام للقضاء على ضحايا كثيرين، وعلى سمعته وكافة القيم في حياته، وشعر أيضا بأن ثمة لغز يوشك أن يخنقه بثقل غموضه، وأنه إذا مني بالفشل مرة أخرى؛ فلن يصلح للحياة ولن تصلح الحياة لأحد. ولخطورة شأن القتيل جاء نفر من كبار رجال المباحث؛ للإشراف على التحقيق بأنفسهم. وقال أحدهم باستغراب: توجد جريمة بلا شك، ولكن كأنها ترتكب بلا مجرم! - بل المجرم موجود، ولعله أقرب إلينا مما نتصور. - كيف ارتكب جريمته؟ - يطوق العنق بحبل دقيق، ثم يشد عليه حتى يزهق الروح، ولكن كيف يصل إلى مكان جريمته، وكيف يذهب دون أن يترك أثرا؟ - وما الباعث على القتل؟ - بواعث القتل متعددة تعدد البواعث على الحياة! - هل يمكن أن يقتل أحد بلا سبب؟ - إذا كان مجنونا فإنه يقتل بلا سبب، أو بلا سبب مما نقتنع به. - ما العلاقة بين المدرس واللواء؟ - كلاهما قابل للموت!
ونشر الخبر في الصفحات الأولى من الجرائد في عناوين مثيرة، فاهتز له الرأي العام، وبصفة خاصة أهل العباسية. وكان اللواء معروفا منذ عهد الانتخابات حيث رشح نفسه مرارا، فانتخب مرة عضوا بمجلس الشيوخ. وجند محسن جميع المخبرين للبحث والتحري، وأصدر إليهم تنبيهاته المشددة، وانكب على العمل برغبة محمومة في الظفر. وعاد إلى بيته آخر الليل خائر القوى والنفس. وصمم على كتم همومه عن زوجته التي بدأت في ذلك الوقت تعاني متاعب الحبل. وكان أخشى ما يخشاه أن ينقل من قسم الوايلي موصوما بالهزيمة؛ ليحل محله آخر كما كان يحل هو محل آخرين في الريف على عهد التوفيق والنصر. وعبثا حاول أن يسري عن نفسه بمطالعة الشعر؛ إذ ثبت ذهنه على الجريمة التي أمست رمزا على هزيمته.
من يكون هذا القاتل الرهيب؟ لا هو لص ولا هو منتقم ولا هو مجنون. المجنون قد يقتل ولكنه لا ينفذ جريمته بهذا الإعجاز الساحق. إنه يقف أمام لغز قوي قهار لا نجاة من عبثه، فكيف يتحمل مسئولية حماية الأرواح حياله؟!
ومل الناس - وبخاصة أهل العباسية - الخوض في الموضوع، وفتر اهتمامهم به، وهدأت النفوس بعض الشيء، واستحال جزع الضابط حزنا رزينا منطويا في أعماق النفس.
وإذا بالجريمة الثالثة تقع!
وجاء وقوعها بعد مصرع اللواء بأربعين يوما، وكان مسرحها بيتا متوسطا بين الجناين، وضحيتها شابة في الثلاثين، زوجة لمقاول صغير وأما لثلاثة أطفال. وكالعادة وجد كل شيء على مألوف حاله، عدا أثر الحبل الملتهب حول العنق والدم حول الفم والأنف وجحوظ العينين، ولا أثر بعد ذلك لشيء. وأدى محسن واجبه الروتيني بروح خامد يائس، وقد آمن بأن عذابه لن ينتهي أبدا، وبأنه نصب هدفا لقوة لا ترحم. وقالت أم القتيل وكانت تقيم معها: دخلت في الصباح لأتفقد حالها فوجدتها ...
وخنقتها العبرات، فسكتت حتى انحسرت عنها موجة البكاء، وقالت: كانت المسكينة مريضة بالتيفود منذ عشرة أعوام.
فهتف محسن داهشا: مريضة؟! - نعم، وكانت حالتها خطيرة، لكنها ... لكنها لم تمت بالتيفود! - ألم تشعري بحركة في الليل؟ - أبدا، كان الأطفال نائمين في هذه الحجرة، ونمت أنا على هذه الكنبة على مقربة من حجرتها لأسمعها إذا نادت، وكنت آخر من نام في البيت وأول من استيقظ، فدخلت الحجرة فوجدتها يا كبدي كما ترى!
وجاء الزوج عند الظهر عائدا من الإسكندرية على حال شديدة من الحزن. ومضى وقت قبل أن يجد نفسه في حال تسمح له بالإجابة على أسئلة الضابط. ولم يكن لديه قول يمكن أن يفيد التحقيق. كان بالإسكندرية لبعض الأعمال، أمضى نهار الأمس في القهوة التجارية مع أناس سماهم، وبات ليلته عند أحدهم بالقباري؛ حيث تلقى البرقية المشئومة. وصاح الرجل وهو يتأوه: يا حضرة الضابط، هذه حال لا تطاق، ليست الأولى، قتل المدرس واللواء قبل ذلك، أين البوليس؟ الناس لا يقتلون بلا قاتل، وكان عليكم أن تقبضوا عليه!
Page inconnue