66

Les larmes du clown

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Genres

ثم همسا وهو يدخل وجهه من النافذة: الأرانب تقفز عليه وحوله، وربك فتح عليه بالحلال والحرام، لا تخف عليه كما كنت تفعل دائما، هو الآن حوت يسبح في الممنوع.

لم يضحك محمود كما كان يتوقع، تذكر صورة ابن الذوات الجميل الذي كان يحبه ويؤثره على غيره من صبية الفصل على الرغم من شعوره بأنه ليس ابن باشوات مثله، وحدق في الطريق فوجد آخر المعزين يميلون إلى طريق جانبي ويختفون عن نظره، قال لنفسه وهو يلقي نظرة على سور المقبرة ويحيي زاهر على وعد باللقاء: هل يمكن أن أنساكم للمرة الثانية؟

11

بعد مسافة قصيرة ركن السيارة على اليسار تحت شحرة صفصاف تظل كوخا وزاوية صغيرة مفروشة بحصيرة نظيفة على حافة الترعة، كان قد حدد الطريق الضيق الذي انعطف منه آخر المعزين في الجنازة، فنزل من السيارة وهو يقول لزوجته: لن أغيب، سأقرأ الفاتحة وأرجع بسرعة، خمس دقائق فقط.

ومشى خطوات قليلة قبل أن يلمح المعزين المصطفين في صفين متقابلين لتقبل العزاء بعد إتمام الدفن، وتعمد أن يطرق برأسه وهو يشد ساقيه بأسرع ما يستطيع لكي لا يوقفه أحد، وحمد الله لأن أحدا لم يعرفه وإن كانت بعض الوجوه قد تطلعت إليه مستفسرة، وجرت نظراته على المدافن والأضرحة والأحواش التي لاحظ عليها آثار العناية والتنسيق وبدا بعضها فخما بصورة مبالغ فيها، لا بد أن هذا توسع حديث في المقبرة القديمة التي اكتظت بساكنيها. ولمح ثلاثة صبية عميان يهرعون بجلابيبهم البيضاء والعمائم الواسعة على رءوسهم وهم يندفعون ناحية اليسار حيث الضريح الضخم الذي انبعثت منه أصوات التلاوة والتكبير، وبدا أكثر من فقيه وتربي منهمكين في تسوية القبر المفتوح والقراءة على الميت، وقبل أن يتأكد من أنه أخطأ الطريق إلى مدفن العائلة طرق سمعه صوت ينادي اسمه وهو يضغط على اللقب العلمي الذي بدا غريبا مثله في هذا المكان، تلفت وراءه وهو يحس أن مشاعر الغضب والخجل التي لا بد أنها قد كست ملامح وجهه لم تفلح في إسكات الصوت اللحوح المندفع بغير مسوغ، ولم يترك له صاحب الصوت المقلق فرصة للتعرف بنفسه على الشخص الطويل النحيل الذي اقترب منه في حماس تسبقه يده الممدودة لمصافحته بقوة: دكتور، هل جئت تزور أحدا؟

توقف محمود حائرا أمام الجسد الطويل المندفع نحوه، وزادت من حيرته رهبة المكان وسحب الغبار والأصوات المرتلة ورنات البكاء الصامت المنفجر بين الحين والحين في شهقات متوالية، وقبل أن يجيب على الصوت والوجه الذي يطل عليه من أعلى أو يتعرف على صاحبه سمعه يقول: إنه والد زميلنا أستاذ العربي، رجل صالح ميسور، بنى هذا الضريح على مزاجه ولم يبخل عليه، الواحد منا يا دكتور يتمنى أن يعيش فيه طول العمر، أنا شخصيا أتعهد لأصحابه أن أتركه مباشرة بعد طلوع الروح، ويمكنهم بعد ذلك أن يرموني في مقابر الصدقة! سأل محمود وقد بدأ يتذكر الشبح الطويل الذي وقف معه في ضوء القمر وفوق أكوام الحجارة والزلط وشكائر الأسمنت وأسياخ الحديد خلف البيت العجوز. ولم يجد ما يقوله فاستطرد معلم المواد الاجتماعية بصوت أجبره المكان وتجهم وجه المؤرخ على الاحتشام: بيني وبينك يا أستاذنا، الحياة في أحواش الأغنياء ولا الموت في مقابرنا، هذه المقبرة الجديدة تثبت طبقية الموت.

تغاضى محمود عن النكتة الفجة ثم قفز فوق جثتها وهو يسأل مستنكرا: هل قلت المقبرة الجديدة؟

قال المعلم وهو يشير بذراعيه إلى الأضرحة الفخمة والدروب النظيفة المرشوشة بالرمل وشجيرات النخيل المتناثرة وأصص الورد والريحان والصبار الموضوعة أمام الشواهد: بالطبع، هل تزور أحدا من الطبقة الجديدة؟

ازداد تجهم وجه محمود وجمجم بكلمات مبتورة وهو يصافح المعلم مستأذنا ومهرولا على الطريق الذي أتى منه، لم يعد لديه شك في أنه أخطأ الطريق وعليه أن يسرع قبل أن تهجم شمس الظهيرة، وسرت في أعضائه رجفة الخجل والضيق والاشمئزاز من ضياع الوقت والذاكرة والطريق فوجد نفسه في لحظات أمام السيارة القابعة في هدوء على الناحية الأخرى، وتوقف لحظة وهو يحس أن نظرات أنيسة تتابعه وجزم بأنها تبتسم الآن سخرية وشماتة، إنه لا يعرف أين تكون المقبرة القديمة التي يثوى فيها مدفن العائلة، إلى اليمين أم اليسار؟ وما العمل إذا فقد الطريق مرة أخرى وأخذ يتخبط بين الترب القديمة المتآكلة الجدران؟ وهل يجد في هذه الساعة التي تسبق صلاة الجمعة من يسأله عن مدفن عائلته والحارس - إن كان للمقبرة حارس - غائب عنها ولا يدري كيف يعثر عليه؟ تغير كل شيء يا محمود وبقى الثابت هو نسيانك وغربتك في مقابر التاريخ، لعنة الله على التخلف في الموت وفي الحياة! ألم يفكر أحد في وضع دليل للمقبرة يتسلمه الزائر قبل الدخول من بوابة «ساحة السلام» التي كان يحلو له أن يقضي فيها ساعات من إجازة نهاية الأسبوع أثناء دراسته؟ وكاد يضحك من عبطه فرفع يديه وضمهما أمام وجهه، وواجه سور المقبرة الجديدة وهو يقرأ الفاتحة على أرواح أمه وأبيه وإخوته وأخواته وأرواح المسلمين، ولم يدر لماذا خطر على باله بيت الشعر القديم قبل أن يعبر الشارع إلى حيث تقف سيارته:

فدعني فهذا كله قبر مالك.

Page inconnue