Les larmes du clown
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genres
ظللت لفترة طويلة بعد هذا الرحيل المفاجئ لا أملك الشجاعة لدخول حجرة مكتبه - أو صومعته كما كنا نطلق عليها - وظلت غرفة مكتبه مغلقة لفترة لا أتذكر مداها الآن، فلم أكن أستوعب أن أفتح الغرفة ولا أجده، وهو الذي كان يمكث بها بالساعات الطويلة، منعزلا عن كل شيء إلا كتبه وقلمه، كانت غرفة مكتبه هي المحراب الذي يفقد فيه الإحساس بالمكان والزمان محاطا بكتب المفكرين والشعراء والفلاسفة الذين عاش أفكارهم وفلسفاتهم مواقف وتجارب حياتية عاشها بكل كيانه، كابدها وعاناها.
عاش عبد الغفار مكاوي كاتبا وفنانا ومبدعا يلتمس الهدوء والسكينة، يعمل في صمت وبلا صخب ولا ضجيج إعلامي، عازفا عن الأضواء، زاهدا في شهرة أو تملق سلطة، كان يقول دائما: «إنني أومن بالعمل الصامت الصادق في الظل، وسواء جاء شيء من التقدير في حياتي أو بعد موتي أو لم يجئ على الإطلاق، فيكفي أنني تخليت وعكفت وأخلصت قدر طاقتي المحدودة.»
اضطررت في النهاية تحت إلحاح الأصدقاء أن أدخل المكتب لفحص الأوراق، والوقوف على ما كان يعكف عليه، فوجدت على المكتب آخر أوراق كان يكتبها، وهي عبارة عن مشاهد ولقطات متفرقة من فصول لمسرحية فرعونية، وبطبيعة الحال لم تكن مكتملة، ولكني عثرت على بعض القصص القصيرة ضمن أوراق مبعثرة في أدراج مختلفة من المكتب، بعضها مكتوب بخط يده، وبعضها الآخر منسوخ على الآلة الكاتبة. وهذه المجموعة القصصية هي التي بين أيديكم الآن، وقد حاولت بمساعدة بعض أصدقائه معرفة هل تم نشر هذه القصص القصيرة من قبل أم لا؟ وبعد بحث طويل تبين أنها لم تكن ضمن مجموعاته القصصية المنشورة (ابن السلطان - الست الطاهرة - الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت - أحزان عازف الكمان - يونس في بطن الحوت - بكائيات - النبع القديم - القبلة الأخيرة)، فذهب تفكيرنا أنه على الأرجح كان ينوي تجميعها ليعدها للنشر كمجموعة قصصية جديدة.
وجدت أيضا مجموعة أخرى من القصص القصيرة استبعدتها من هذه المجموعة التي بين أيديكم؛ لأننا مع البحث وبمساعدة صديق قديم له، تبين أنها نشرت في مجلات أدبية متفرقة في فترة الستينيات والسبعينيات، فآثرت أن أقدم فقط ما تبين أنه لم ينشر من قبل، وأتمنى أن يجد فيها القارئ شيئا ما أو مغزى ما يستحق عناء القراءة. لقد كان عبد الغفار مكاوي يردد دائما أن أمة «اقرأ» لا تقرأ؛ لذلك كان يقول: «لو عاشت لي قصة واحدة أو عمل واحد في ضمير قارئ واحد، فسأغمض عيني في النهاية وهي قريرة وسأقول لنفسي: لم يضع العمر هباء.»
كان عبد الغفار مكاوي يعرف تماما أن كل كائن حي فان، ولا بد أن تكون له نهاية، ولكنه عندما سئل عما هو الإنسان؟ أجاب: «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت بكل أشكاله، وهو الإنسان الذي يواجهه الموت بكل أشكاله المختلفة، وهو الإنسان الذي يؤكد مجد الحياة والعقل والحرية بما يبنيه من حضارة وما يبدعه من فن وأدب، وكأنه كائن يتحدى الموت دائما وكأنه يقول للوجود:
إذا كنت سأنتهي للعدم، ولكنني لست عدما، فسأترك ما يدل على وجودي.»
ولقد ترك عبد الغفار مكاوي ما يدل على وجوده، فغياب الجسد لا يعني الغياب المطلق؛ لأن له حضورا يخترق حواجز المكان والزمان.
الفرن
1
دفع الباب الكبير بيده المرتعشة المتثاقلة فلم ينفتح، وإنما خرج منه صوت مبهم كئيب يشبه عواء كلب مريض، وعاد فضغط عليه بكلتا يديه، ومرت كفه النحيلة الطويلة الأصابع، الباردة العروق تتحسس جداره الخشن، عن يمين وعن شمال، وتتلمسه كما تتلمس حائطا أثريا لا طاقة لها على دفعه، ثم ألقى بوجهه المهزول على الباب، وأخذ يديره على الملمس الخشن، يعلو ويهبط، وكأنه يترنح مع خواطره الدائرة في هذا الرأس المتعب، يعلو معها ويهبط، أو يتمثل صورة الثور العجوز الرابض في «دويرة» جاره الحاج عبد اللطيف حين يحك رأسه بالجدار، ويهرش لحمه بالحائط، ولكنه لم يطل لبثه هناك، بل استند بجسده كله على الباب، ودفعه بكتفيه، فأحدث عواءه المتقطع المتثائب، ثم تسلل منه كما يتسلل الطيف، صحا لتوه من مقبرة.
Page inconnue