Les larmes du clown
دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة
Genres
قلت: إلى الغد إذن.
ومدت رأسها الصغير فانحنيت وقبلتها على وجنتيها. - أوف فيدرزين! - أوف فيدرزين!
12 / 1957م
الأسد يموت
دفع العمال القفص الحديدي الكبير إلى السور المحيط بالحلبة، وتقدموا منه يعالجون الأقفال الضخمة واحدا بعد الآخر، فيدوي صوتها وهي تفتح كصليل أغلال تفك عن عبيد أو أسرى حرب، وحبس الناس أنفاسهم وهم يرون الحارس العجوز النحيل بشعره الأشيب وظهره المحني وبذلته الزرقاء اللامعة الأزرار، يتجه في خطوات مهيبة نحو القفص، وقبل أن يضع يده على الباب الكبير مد ذراعه اليمنى إلى أقصاها، بحركة يعرفها المتفرجون ويصفقون لها، ثم راح يدور حول نفسه في كل اتجاه ويلاحظ مغتبطا راضيا أن التصفيق يشتعل من الأكف المتحمسة مع كل لفتة من لفتاته، إنه يعلم بخبرته الطويلة أن التصفيق لا يدل دائما على الإعجاب، بقدر ما يعبر عن رغبة مخلصة في تشجيعه، أو في العطف عليه والرثاء له.
ومن كان أولى منه في تلك الليلة بالتشجيع أو بالرثاء؟ أليس العمدة نفسه حاضرا بين المتفرجين، ومع مشايخ البلد، ومأمور المركز، ورجال الحكومة ؟ وهل تتاح له مثل هذه الفرصة لإظهار فنه واستعراض براعته إلا مرة أو مرتين في العمر كله؟ دعا الله بالستر والأولياء الصالحين بالبركة وتقدم من القفص الكبير ففتحه بيده، بينما اليد الأخرى تمسك طرف عصاه الحديدية، ونزل الأسد العجوز من القفص بعد أن تثاءب وحك رأسه الأشقر بالقضبان وتأمل طويلا وجه الحارس، لم ينزل من القفص إلى الأرض قفزا كما اعتاد في شبابه، بل ترك نفسه يسقط عليها كمن هده التعب والإعياء، ويظهر أنه تردد طويلا وأخذ يقلب عينيه الواسعتين الجميلتين بين الأرض ووجه الحارس، فلما وجد أنه لا يسنده ولا يربت على رقبته أو كتفه، بل ينظر إليه نظرة استغاثة واستجداء، تحامل على نفسه وزحف إلى الأرض زحفا كالتمساح البطيء، مد رأسه أولا، ثم دفع مقدم جسمه بجهد كبير، وأخيرا ترك مؤخرته وساقيه الخلفيتين تلحقان بهما، وقع الأسد على الأرض ولم ينهض، قال الناس لأنفسهم لا بد أنها لعبة يقوم بها أو خدعة تمرن عليها، وازداد شكهم حين رأوا الحارس يتقدم منه وينحني على أذنه ويهمس. قال الحارس: أرجوك، شد حيلك معي. هز الأسد رأسه ونفض شعره الذهبي المهيب بقوة، ثم نظر لحظة إلى الحارس في صمت وأطرق برأسه وأغلق عينيه. مال الحارس على أذنه مرة أخرى، ولم ينس في أثناء ذلك أن يمد ذراعه إلى أقصاه في الهواء، ويتلقى عاصفة من التصفيق المنبعث عن خوف حقيقي على حياته، قال: في عرضك، قم واستر عرضي، الليلة غير كل ليلة.
لم يبد على الأسد أنه سمع كلامه أو فهمه، عاد يتطلع إلى وجهه في صمت، ثم يغمض عينيه أو يقلبهما بين وجوه الحاضرين أو يتثاءب أو يدفنهما بين مخلبيه الأماميين، ألح الحارس عليه في صوت باك وقال: وحياتك لا تكسفني، العمدة هنا الليلة، العمدة بنفسه ومعه الأعيان وحضرة المأمور، حركة واحدة من حركاتك المشهورة تخزي العين، قم الله يسترك واسمع الكلام.
بدا كأن الأسد يستجيب له، حرك ذيله عدة حركات، وفتح فمه الواسع وتأوه، ومد الحارس يده ليسنده من صدره ، ولا بد أنه بذل مجهودا كبيرا جعل الأسد يقف أخيرا على أطرافه الأمامية والخلفية، كما جعل الحاضرين يحيونه بالتصفيق والهتاف، استدار الحارس نحوهم، رفع قلنسوته الزرقاء بيد وأرسل إليهم قبلة باليد الأخرى، لكنه تمتم في سره: اللهم فوت الليلة على خير.
سار في نشاط ملحوظ إلى وسط الحلبة فدفع كرسيا عاليا ذات درجات نحو الأسد، وسحب كرباجه الطويل من حزامه ودوى به في الهواء قبل أن يهتف: يا بركة أم هاشم، تصفيق يا جماعة، يالله، وانتظر أن يتحرك الأسد ويقفز قفزته المشهورة فيكون في لحظة فوق المقعد الطويل، غير أن الأسد ظل جامدا في مكانه، يقلب فيه عينيه الحزينتين اللتين لمح الحارس فيهما برغبة في البكاء، رفع كرباجه في الهواء مرة أخرى فدوى الصوت في الحلبة، وعاد يهتف: توكل على الله، يا لله، ولكن الأسد ظل جامدا في مكانه، ولم يبق هناك شك في أنه يذرف الدموع، أراد الحارس أن يداري خجله بصنعة ماهرة، فصفق بيديه وقال وهو يلتفت للحاضرين: والآن ترون اللعبة العجيبة، اللعبة المشهورة، هيا يا رجال، هاتوا الطوق، هاتوا النار، ومد إليه عامل الطوق الحديدي من وراء القضبان، وفرقع بالكرباج في يديه لحظة فصفق المتفرجون وهم يشهقون، ثم أخرج علبة كبريت من جيبه وأشعل النار فيه، وتقدم من الأسد والطوق الملتهب في يده، غير أن الأسد رفع إليه رأسه وراح يتطلع في وجهه، وبدلا من أن يقفز قفزته المشهورة وينفذ من الطوق تهاوى على الأرض في هدوء، سكتت الموسيقى النحاسية التي مهدت للعبة الخطرة، وأخذ الناس ينظرون إلى بعضهم البعض وبدا كأن الموقف قد أفلت من يد الحارس فتقدم من الأسد في محاولة جديدة، راح يربت على شعر رأسه وكتفه ويلاطفه ويداعبه، بل لقد مال برأسه عليه وراح يلثم شعره، قال له الحارس: قم يا رجل، قم لأجل خاطري.
تأوه الأسد آهة مسموعة ودفن رأسه بين مخلبيه.
Page inconnue