La Prière du paon

Taha Hussein d. 1392 AH
48

La Prière du paon

دعاء الكروان

Genres

وقد فكرت سعاد، وما كانت في حاجة إلى التفكير، وقد امتلأ قلبها وعقلها بهذه الحياة التي تحياها امتلاء، وامتزجا بها امتزاجا، حتى أصبحت جزءا منهما أو أصبحا جزأين منها، وحتى أصبح من أعسر الأشياء وأشقها أن تفكر الفتاة في هذه الحياة تفكيرا هادئا مجردا لا يتأثر بهذه العواطف العنيفة الحادة التي تتصور مرة كأنها النفور الذي لا نفور بعده، وتتصور مرة أخرى كأنها الإقبال الذي لا إقبال بعده، وهي في الحالين شيء واحد تختلف عليه الصور والأشكال دون أن يتغير جوهره الذي هو الحب.

نعم! لقد أصبحت سعاد عاجزة كل العجز عن أن تخلو إلى نفسها ساعة من نهار أو ساعة من ليل، بل أصبحت عاجزة كل العجز عن أن تخلو إلى نفسها في يقظة أو نوم، إنما هي مستصحبة هذا الشاب إن حضر، ومستصحبة هذا الشاب إن غاب، لا تهم بالخلوة إلى ضميرها حتى تجد صورته ماثلة فيه، ولا تمد عينها إلا رأت شخصه، ولا تمد أذنها إلا سمعت صوته، قد أخذ الحياة عليها من جميع أقطارها، وقد ذاد عنها كل شيء وكل إنسان، وذاد عنها حتى أختها تلك العزيزة وأشباحها تلك الحمراء، وانتهى الأمر بها كما انتهى الأمر بالشاب نفسه إلى علة تشبه الجنون. لقد صرفت إليه عن كل شيء، وصرف إليها عن كل شيء.

ولم يبق بين هذين الخصمين العنيدين صراع أو تفكير في الصراع، وإنما هو الإذعان الذي لا ثورة بعده والاستسلام الذي لا رجوع فيه.

ولكن الكبرياء ما زالت مسيطرة على سعاد، تصارع الحب فيها فتصرعه، وتغالب العشق فيها فتغلبه، وما أكثر ما اندفعت الفتاة إلى الاستسلام! حتى إذا كادت تنتهي منه إلى غايته، وحتى إذا بلغت حافة الهوة وكادت تتردى فيها تمثلت لها الكبرياء قوية عنيفة، ونصبت أمام عينيها مرآة تنظر فيها فترى صورة آمنة الأبية العزيزة، وترى صورة سعاد الضعيفة المتهالكة، فترتد وراءها خطوة أو خطوات، وتؤجل الإذعان والإلقاء باليد إلى أجل يقصر أو يطول!

وقد تغيرت سيرة سيدي أيضا؛ فهو محب يلقى من الحب عناء وبلاء، ويجد من آلامه مثل ما أجد، ولكن كبرياءه قد ردت إليه هو أيضا فأصبح يتمنى في غير إلحاح، ويأمل في غير إلحاف، كأنما أحس في حبه شيئا من حياء فآثر القصد والاعتدال، وكأنما أحس الإخفاق المتصل فآثر الحرمان في شيء من العزة على ذلك الإلحاح الذي لم يكن يعقبه إلا هزيمة وخذلان.

ولكنه يقبل علي ذات مساء وعلى وجهه ابتسامة فيها شيء من الرضا، وفيها كثير من الحزن، وفيها شك يتردد بين الرضا والحزن. يقبل علي ذات مساء لا ثائرا ولا مستسلما، ويقول لي في صوت لا حدة فيه: لقد آن لك أن تستريحي، وآن لي أن أستريح! فأنظر إليه نظرة التي لم تفهم عنه والتي تعودت أن تسمع كثيرا فتفهم أو لا تفهم دون أن تحفل بما يستقر في نفسها أو يعزب عنها مما تسمع، ولكنه يعيد علي حديثه فأسأله عما يريد، فيقول: سنفترق لأني نقلت إلى القاهرة.

وتقع من نفسي هذه الجملة موقع الصاعقة، وإذا أنا ذاهلة لا أجيب ولا أتكلف حتى إخفاء الذهول، وإذا أنا أجد شيئا من الدوار يكاد يبلغ بي الإغماء لولا أن أتمالك، وإذا الدموع تنهمر في صمت متصل، وإذا الفتى يدنو مني فلا أرتد عنه، وإذا هو يضع يديه على كتفي فلا أمتنع عليه، وإنما أنا مغرقة في الصمت ودموعي ماضية في الانهمار، والفتى قائم بمكانه مني في هدوء لم أعهده، ينظر إلي صامتا دهشا، ثم ينأى عني قليلا وهو يقول في صوت شاحب: ماذا أرى! إنك لتكرهين فراقي حقا!

ثم يعود إلى صمته، وأمضي أنا في صمتي، وتمضي دموعي في الانهمار، وما أدري أطال بيننا هذا الموقف أم قصر، ولكني أسمعه يدعوني في صوت قد فارقه شحوبه وعاد ممتلئا مشرقا كما عرفته، وأرفع رأسي وأحاول النظر إليه من وراء هذه الدموع المنسكبة فأرى وجها مشرقا أشد الإشراق قد استقرت فيه أمارات الحزم والهدوء، وإذا هو يقول لي: أما والأمر بيننا على ما أرى فلن نفترق، ستصحبينني إلى القاهرة، ولن ينالك مني إلا ما تحبين، هلم فامضي في شئونك كما تعودت أن تفعلي، هيئي من أمرك وأمري للسفر، فلن نقيم هنا إلا أياما.

ثم ينصرف عني كما أقبل علي هادئا رزين الخطى، وقد أنكرت من نفسي كل شيء، وأهم أن ألوم نفسي على هذا الضعف الذي لم أستطع إخفاءه، ولكني لا أجد من نفسي قوة على اللوم، وإذا أنا راضية عن هذه الحال الجديدة رضا عميقا قد مازج نفسي واختلط بدمي، ولكنه في الوقت نفسه رضا حزين ليس فيه ابتهاج ظاهر، وإنما هي حياة الخادم التي اطمأنت إلى ما يلم بها من الأحداث، ومضت في حياتها لا تنكر شيئا ولا تعرف شيئا، وإنما هي مستسلمة تذهب وتجيء، وتأتي من الأمر ما تأتي، وتدع من الأمر ما تدع؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل غير هذا ولا تريد أن تفعل غير هذا، ولأنها تجد في هذا أقصى ما كانت تنتظر من السعادة.

والغريب أنه هو أيضا قد جعل ينظر إلي منذ ذلك الوقت نظرات برئت من الطمع والأمل، وقنعت مني بما يقنع به السيد النقي من الخادم النقية، فلا إثم بيننا ولا تلميح إلى الإثم ولا خوف من التورط فيه، وإنما هي حياة نقية بريئة قد استؤنفت بيننا كأننا لم نلتق قبل ذلك الوقت، وكأن أحدنا لم يعرف صاحبه قبل تلك الساعة التي أنبأني فيها أنه قد آن لكلينا أن يستريح لأنه نقل إلى القاهرة.

Page inconnue