ها أنت ذا أيها الطائر العزيز تنشر في الجو المظلم الساكن نداءك السريع البعيد كأنه استغاثة المستغيث ... ما خطبك؟ وما أنباؤك؟ وما الذي يغريك بي ويسلطك علي؟! لا أكاد أمضي في النوم حتى تسرع إلي فتوقظني، كأنما أخذت على نفسك أو أخذ غيرك عليك عهدا ألا تخلي بيني وبين النوم، وكأنما كلفت نفسك أو كلفك غيرك أن توقظني إذا تقدم الليل لتظهر لي من الأمر على ما كان خليقا أن يفوتني إن استسلمت للذة الأحلام ...! ابعث نداءك سريعا بعيدا أو لا تبعثه فقد أيقظتني، وما أرى أني سأعود إلى النوم دون أن أشهد شيئا كالذي شهدته أمس حين كانت أختي ماثلة ذاهلة كأنما تنتظر أخبار السماء، إني لأشعر بأني سأراها ماثلة ذاهلة حيث رأيتها أمس، وإني لأتهيأ للنهوض إليها، ولكن نداءك لا ينقطع، إن لك لشأنا ...!
ماذا! إن جو الليل المظلم الساكن المهيب ليس خالصا لك هذه الليلة كما تعود أن يخلص من قبل، ماذا أيقظ الطير؟ فإني لأسمع خفق أجنحتها، وأحس كأنها منتشرة قد خرجت من أوكارها حائرة مضطربة في هذا الجو المخيف، ماذا أيقظ الكلاب؟ إني لأسمع نباحها قويا متصلا بعيدا فيه إلحاح وترجيع كأنها تدعو من لا يسمعها.
ماذا أيقظ الناس؟ إني لأحس حركة خارج الدار، وإني لأسمعهم يتداعون ويتنادون، وإني لأشعر كأنهم يسرعون إلى غاية لا أعرفها.
ماذا أيقظ من في الدار؟ إن الحركة من حولي لتكثر وتختلط وتشتد، وإني لأشعر بالفزع قد انتشر في الجو كما ينتشر الدخان الكثيف.
وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز ما زال متصلا سريعا بعيدا، كأنك لم توكل بإيقاظي وحدي، وإنما وكلت بإيقاظ الناس جميعا والأحياء جميعا، انظر! إن كل شيء قد استيقظ من حولك، ولكن نداءك ما زال متصلا سريعا بعيدا، أتريد أن تتحدث إلى النجوم؟ ولكني أنهض لكل ما أحس حولي من حركة وضجيج وعجيج واضطراب، فأسأل أختي هذه الماثلة الذاهلة: ماذا حدث؟ ولكنها لا تجيب كأنها لم تسمع شيئا، فيأخذني حنق وغيظ، وأهزها هزا عنيفا وأنا أصيح بها: ماذا! ألا تسمعين؟ ألا ترين؟ هنالك تتنبه وتجيبني في شيء من الوجل: ماذا تريدين؟ فأتركها مستيئسة منها وأهبط فناء الدار حيث اجتمع النساء يتساءلن ويتجاوبن، ويشتد بينهن لغط مختلط لا يكاد ينقضي.
هناك أجد أمنا بين هؤلاء النساء، شاهدة كالغائبة، ومستيقظة كالنائمة، تسمع ولا تقول، فإذا سألتها عما حدث أجابتني في صوت هادئ حزين: زعموا أن رجلا قد قتل قريبا من القرية يقال له عبد الجليل، وقد جاء الصريخ إلى العمدة فأيقظ رجاله وهو يستحثهم لالتماس القاتل.
وقضينا بقية الليل ساهرات نتسمع ما يصل إلينا من الأخبار التي إن ابتدأت فلا نهاية لها، وهي أخبار القتل في المدن والقرى وفي الحقول وعلى الطريق العامة، وقد زعم من حدثنا من أهل الدار أن مقتل هذا الرجل الذي صرع الليلة قد كان أمرا محتوما.
لقد كان هذا الرجل شيخ الخفراء في القرية، وكان قويا شديد البأس عظيم السطوة، وقد حمى القرية من اللصوص والمعتدين، وكانت له في القوم آثار لم تنس، فهم يطلبونه بها، وقد اضطربت القرية منذ ليال لأن هذه الرجل أقبل وقد انقضى من الليل أكثره على بيت من البيوت، فجعل يطرق بابه طرقا عنيفا، ويدعو صاحبه بصوت كأنه الرعد أن أفق أيها المجنون فإن اللصوص قد اقتحموا عليك الدار، فذعر أهل البيت لهذا الطرق وهذا النداء، وأسرع الرجل إلى الباب، فما راعه إلا شيخ الخفراء يبرق ويرعد ويلح في النذير، ثم دخل الدار وطاف بحجراتها وغرفاتها يلتمس اللصوص ولكنه لم يجد أحدا، وقد استيقظ الناس واجتمعوا حوله وحول صاحب الدار، وهو يقسم ويغلظ في القسم لقد رأى اللصوص يقتحمون الدار اقتحاما.
منذ تلك الليلة تحدث أهل القرية بأن شيخ الخفراء قد تعرض للموت، وأنه إنما روع أهل تلك الدار ليلجأ إليهم ويأمن عندهم من طالبيه، ومنذ تلك الليلة استيقن أهل القرية أن قوما قد نذروا دم شيخ الخفراء، وليسوا بمقلعين عنه حتى يقتلوه، وها هم أولاء قد وفوا بالنذر وقتلوا عبد الجليل، وها هو ذا العمدة يفرق رجاله في كل صوب، يأمرهم باقتحام هذه الدار، وبالبحث عن فلان والقبض على فلان والتوثق من فلان، وهذه القرية هائجة مائجة تسأل وتبحث، وتستقصي وترتاع.
وهذه جثة عبد الجليل طريحة غير بعيد من الجسر، قد فارقتها الحياة بعد احتضار طويل ثقيل، وقد قام عندها الرجال يحفظونها في مكانها حتى تأتي الشرطة من المدينة، وحتى يأتي المحققون، وقد أقبلوا جميعا بعد أن ارتفع الضحى، فأقاموا حول الجثة حينا يسألون ويشرح الطبيب، ثم أقبلوا نحو القرية ونساء الدار مشرفات ينظرن إليهم، وهم يسعون إلى بيت العمدة ليشربوا القهوة، ويمضوا في التحقيق، ويصيبوا شيئا من الطعام.
Page inconnue