قالت أمنا: إذا كان الغد فسنرتحل عن المدينة المشئومة!
لقد هممت حين سمعت هذه الجملة أن أنكر، وأن أمتنع، وأن أناقش وأجادل، ولكن أمنا قالت هذه الجملة بصوت حزين بعيد محطم، فلم أستطع أن أقول شيئا ولا أن أظهر شيئا إلا الطاعة والإذعان.
وذكرت ما ألم بها من البؤس طول حياتها مع ذلك الزوج الماجن الفاجر، ذكرت ما حرق فؤادها من الغيرة، وما آذى نفسها من الذل، وما روع قلبها من الخوف.
ثم ذكرت ذلك الخطب الذي ألم بها فهدها هدا حين جاءها النبأ بأن زوجها قد صرع، وبأنه قد صرع فيما لا يشرف به صريع.
ثم ذكرت هذه الآلام التي لا حد لها، والتي غمرتها كما يغمر الماء الغريق، حين أنكرتها الأسرة إنكارا، وحين أخرجتها من القرية، ثم نفتها مع ابنتيها من الأرض.
ذكرت هذا فلم أستطع أن أنكر ولا أن أجادل، ولم أزد على أن أظهرت الطاعة والإذعان، والله يعلم أي ليلة قضيت ساهرة حائرة ثائرة، لا أطمئن إلى شيء ولا أسكن إلى رأي، حتى إذا كان الصباح نهضت أمنا فأمرت أن نستعد للرحيل، قلت: أفلا نؤذن سادتنا بهذا الرحيل؟ قالت في صوت هادئ حزين: إن كان يؤذيك فراقهم فأقيمي فسنرحل نحن، قلت باكية: إن فراقهم ليؤذيني لكني لن أستطيع أن أقيم، وإنما هبطت معكما هذه الأرض، وقد كنت أحب أن أرى خديجة قبل الرحيل.
قالت: فإنك إن رأيتها لم تعودي إلينا، أليس أبوها مأمور المركز؟ أفئن تعلقت بك وكرهت فراقك يخل بينك وبين الرحيل؟ قلت: إذن فلنرحل.
وما هي إلا ساعات حتى كانت أقدامنا قد تجاوزت بنا المدينة، وانتقلت بنا من قرية إلى قرية نحو الغرب، حتى إذا بلغ منا الإعياء أقمنا حيث كنا نستريح وننتظر الصباح.
الفصل الرابع
وينتهي إلي صوتك أيها الطائر العزيز، وأنا أسبح في نوم غير عميق، وأرى من الأحلام صورا قريبة مألوفة تمثل لي خديجة وهي تلعب وتدعوني إلى أن أشاركها في اللعب، وتمثل لي سيدة البيت وهي تأمر وتنهى، وتصعد وتهبط، وتذهب في تدبير بيتها وتجيء، وتمثل المأمور وقد أقبل مع الظهر فاضطرب لمقدمه البيت، ثم عاد إلى هدوء يوشك أن يكون السكون، ثم فرغ أهل البيت كلهم لهذا الرجل يعنون به ويتوفرون على خدمته، كأنهم لم يخلقوا إلا له، ولم يوقفوا إلا عليه.
Page inconnue