لم يكن يقدر أني سألقاه قائمة باسمة حين أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلا في وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح حتى أخذه شيء من الذعر، فتراجع خطوات ثم قال في صوت أبيض جعل يأخذ صوته الطبيعي قليلا قليلا: ماذا! ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين متى أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثه وما كان ينبغي لي أن أنام قبل أن ينام سيدي، فما يدريني لعله يحتاج إلى شيء، قال وقد عاد إلى ثباته وهدوء نفسه واسترد صوته شيئا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة: ما رأيت قبلك خادما مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة مقدمه إلى آخر الليل، لقد كنت أحسبك نائمة كما تعودت أرى من سبقك في خدمتي، وكنت أقدر أني سأجد في إيقاظك بعض الجهد؛ فلست أدري ما بال نوم الخدم يثقل حتى كأنهم أموات، قلت: قد أرحت سيدي من هذا الجهد، وانتظرت مقدمه كما تعودت منذ اصطنعت خدمة المترفين الذين لا يحبون إنفاق الليل في دورهم، فليأمر سيدي بما يريد، قال وهو يضحك ضحكا سمجا وقد مد إلي يدا وددت لو استطعت قطعها، ولكني تراجعت حتى لا تبلغني: فإن سيدك يأمرك أن تتبعيه.
ثم انحدر إلى غرفته ومضيت في أثره. •••
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب مقدمك وأنتظر نداءك؛ وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك، وأسمع صوتك، وأستجيب لدعائك، ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عاما!
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، آمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع!
إن صوتك إذن لأشبه الأشياء بأن يكون صوتا لروح من هذه الأرواح ليذكرني روح هذه الأخت التي شهدت مصرعها معي في تلك الليلة المهيبة الرهيبة، وفي ذلك الفضاء العريض الذي لم يكن من سبيل إلى أن يسمع الصوت فيه مهما يرتفع، ولا أن يجيب المغيث فيه لمن استغاث.
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ادن مني إن كان من أخلاقك الدنو، وأنس إلي إن كان من خصالك الأنس إلى الناس، واسمع مني وتحدث إلي، وهلم نذكر تلك المأساة التي شهدناها معا، وعجزنا عن أن ندفعها أو نصرف شرها عن تلك النفس الزكية التي أزهقت، وعن هذا الدم البريء الذي سفك.
فلم نزد حينئذ على أن بعثنا صيحات ترددت في ذلك الفضاء العريض لكنها لم تبلغ أذنا ولم تصل إلى قلب، وإنما صعدت إلى السماء على حين هوى ذلك الجسم الجميل الممزق في تلك الحفرة التي أعدت له إعدادا، ثم هيل التراب وسويت الأرض، وأنت تدعو ولا من يستجيب، وأنا أستغيث ولا من يغيث، وامرأة متقدمة في السن قد انتحت ناحية وجلست تذرف دموعها في صمت عميق، ورجل متقدم في السن قد قام غير بعيد يسوي الأرض، ويصب عليها الماء، ويردها كما كانت، ثم ينتحي قليلا ويزيل عن جسمه وثيابه آثار الدم والتراب، ثم يرتفع صوته آمرا أن هلم فقد آن لنا أن نرتحل.
منذ ذلك الوقت تم العهد بينك وبيني أيها الطائر العزيز على أن نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل حتى نثأر لهذه الفتاة التي غودرت في هذا الفضاء، ثم نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل بعد أن نظفر بالثأر، ليكون في ذكرنا إياها وفاء لهذه النفس التي أزهقت، ولهذا الدم الذي سفك، ورضا عن الانتقام وقد ألم بالآثم المجرم ورد الأمر إلى نصابه، وأراح هذه النفس التي ما زالت تطلب الري حتى تظفر بالثأر من الذين اعتدوا عليها.
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! إنا لنلتقي كلما انتصف الليل منذ أعوام وأعوام فندير بيننا هذا الحديث، أفتدعني أقص أطرافا منه على الناس لعلهم أن يجدوا فيه عظة تعصم النفوس الزكية من أن تزهق، والدماء البريئة من أن تراق؟!
الفصل الثاني
Page inconnue