اهداء
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
اهداء
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
دعاء الكروان
دعاء الكروان
تأليف
طه حسين
اهداء
إلى صديقي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
سيدي الأستاذ
أنت أقمت للكروان ديوانا فخما في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشا متواضعا في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة. تحية خالصة من صديق مخلص.
طه حسين
مقدمة
أتيح لهذه القصة أن تبلغ من نفس شاعرنا العظيم خليل مطران موضع الرضا، فأهدى إلي هذه القصيدة الرائعة، فضلا منه أتقبله فخورا شكورا، وأكره أن أؤثر به نفسي من دون الذين يحبون الشعر الرفيع، بل أكره أن يحملني التواضع الكاذب على إخفاء هذه المكرمة التي إن صورت شيئا فإنما تصور نفسا كريمة وقلبا عطوفا:
دعاء هذا الكروان الذي
خلدته في مسمع الدهر
له صدى في القلب والفكر من
أشهى متاع القلب والفكر
لكنه مشج بترجيعه
لما جرى في ذلك القفر
إذ تسكن البيداء وهنا فما
ينبض إلا مهج السفر
والليل في التيه السحيق المدى
يطبق جفنيه على وزر
والطائر المرتاع في جوه
ينذر بالمأساة في ذعر
يرن إرنان سهام رمت
حيث رمت بالشعل الحمر
أسال أدمعي خطب مطلولة
مقتولة في زهرة العمر
جنى عليها واهم أنه
يثأر للعرض وللطهر
وخامرتني حسرة خامرت
شهود ذاك المصرع النكر
أليس للأرواح في بثها
أواصر من حيث لا تدري
جوهرها فرد وإحساسها
مشترك في النفع والضر
حادثة في ريف مصر جرت
ومثلها في الريف كم يجري
قصت علينا قصصا شائقا
في كلم أنقى من القطر
مسرودة سردا على صفوه
أفعل في النفس من الخمر
يا لغة العرب التي كاشفت
طه بما صانت من السر
من أي روض يجتنى مثل ما
جناه من أزهارك النضر
من أي بحر والمنى دره
يصاد ما صاد من الدر
من أي تبر في غوالي الحلى
يصاغ ما صاغ من التبر
آيات طه نزلت بالهدى
فيم استعارت فتنة السحر
أحدث ما جاءت به طرفة
بديعة في أدب العصر
جلت خيال الشعر في صورة
أغارت الشعر من النثر
الفصل الأول
لم يكن يقدر أني سألقاه قائمة باسمة حين أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلا في وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح حتى أخذه شيء من الذعر، فتراجع خطوات ثم قال في صوت أبيض جعل يأخذ صوته الطبيعي قليلا قليلا: ماذا! ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين متى أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثه وما كان ينبغي لي أن أنام قبل أن ينام سيدي، فما يدريني لعله يحتاج إلى شيء، قال وقد عاد إلى ثباته وهدوء نفسه واسترد صوته شيئا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة: ما رأيت قبلك خادما مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة مقدمه إلى آخر الليل، لقد كنت أحسبك نائمة كما تعودت أرى من سبقك في خدمتي، وكنت أقدر أني سأجد في إيقاظك بعض الجهد؛ فلست أدري ما بال نوم الخدم يثقل حتى كأنهم أموات، قلت: قد أرحت سيدي من هذا الجهد، وانتظرت مقدمه كما تعودت منذ اصطنعت خدمة المترفين الذين لا يحبون إنفاق الليل في دورهم، فليأمر سيدي بما يريد، قال وهو يضحك ضحكا سمجا وقد مد إلي يدا وددت لو استطعت قطعها، ولكني تراجعت حتى لا تبلغني: فإن سيدك يأمرك أن تتبعيه.
ثم انحدر إلى غرفته ومضيت في أثره. •••
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب مقدمك وأنتظر نداءك؛ وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك، وأسمع صوتك، وأستجيب لدعائك، ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عاما!
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، آمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع!
إن صوتك إذن لأشبه الأشياء بأن يكون صوتا لروح من هذه الأرواح ليذكرني روح هذه الأخت التي شهدت مصرعها معي في تلك الليلة المهيبة الرهيبة، وفي ذلك الفضاء العريض الذي لم يكن من سبيل إلى أن يسمع الصوت فيه مهما يرتفع، ولا أن يجيب المغيث فيه لمن استغاث.
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ادن مني إن كان من أخلاقك الدنو، وأنس إلي إن كان من خصالك الأنس إلى الناس، واسمع مني وتحدث إلي، وهلم نذكر تلك المأساة التي شهدناها معا، وعجزنا عن أن ندفعها أو نصرف شرها عن تلك النفس الزكية التي أزهقت، وعن هذا الدم البريء الذي سفك.
فلم نزد حينئذ على أن بعثنا صيحات ترددت في ذلك الفضاء العريض لكنها لم تبلغ أذنا ولم تصل إلى قلب، وإنما صعدت إلى السماء على حين هوى ذلك الجسم الجميل الممزق في تلك الحفرة التي أعدت له إعدادا، ثم هيل التراب وسويت الأرض، وأنت تدعو ولا من يستجيب، وأنا أستغيث ولا من يغيث، وامرأة متقدمة في السن قد انتحت ناحية وجلست تذرف دموعها في صمت عميق، ورجل متقدم في السن قد قام غير بعيد يسوي الأرض، ويصب عليها الماء، ويردها كما كانت، ثم ينتحي قليلا ويزيل عن جسمه وثيابه آثار الدم والتراب، ثم يرتفع صوته آمرا أن هلم فقد آن لنا أن نرتحل.
منذ ذلك الوقت تم العهد بينك وبيني أيها الطائر العزيز على أن نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل حتى نثأر لهذه الفتاة التي غودرت في هذا الفضاء، ثم نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل بعد أن نظفر بالثأر، ليكون في ذكرنا إياها وفاء لهذه النفس التي أزهقت، ولهذا الدم الذي سفك، ورضا عن الانتقام وقد ألم بالآثم المجرم ورد الأمر إلى نصابه، وأراح هذه النفس التي ما زالت تطلب الري حتى تظفر بالثأر من الذين اعتدوا عليها.
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! إنا لنلتقي كلما انتصف الليل منذ أعوام وأعوام فندير بيننا هذا الحديث، أفتدعني أقص أطرافا منه على الناس لعلهم أن يجدوا فيه عظة تعصم النفوس الزكية من أن تزهق، والدماء البريئة من أن تراق؟!
الفصل الثاني
لقد بعد صوت الكروان قليلا قليلا حتى انقطع ولم يبلغني منه شيء، وعاد الليل إلى سكونه الهادئ الثقيل، واطمأن من حولي كل شيء، فما أسمع إلا هذه الدقات المنتظمة تصدر عن الساعة غير بعيد، وهذه الدقات المضطربة المختلفة تصدر عن هذا القلب الحزين ... وأنا آخذ نفسي بالهدوء لألائم بينها وبين ما حولها فلا أوفق لبعض ذلك إلا في مشقة وعناء، وأنا أنظر إلى هذه الأشياء حولي في الغرفة فأرى ثراء ويسرا، وأرى ترفا وكلفا بالجمال والفن، وأنا أمد عيني إلى المرآة أمامي وأثبتها في أديمها الصافي الصقيل حينا فتعود إلي بصورة إلا تكن رائعة بارعة، فإنها لا تخلو من رواء ونضرة وحسن تنسيق، وما لي أسأل عن صورة هذه المرآة الجامدة الهامدة التي لا تحس شيئا ولا تشعر بشيء ولا تعرب عن شيء، وإني لأرى صورتي مرات ومرات في غير مرآة من هذه المرايا الحساسة الشاعرة البليغة التي تحسن الإفصاح عما في النفوس، وهي العيون!
لقد رأيت صورتي اليوم في غير عين من هذه العيون التي كانت ترمقني مسرعة، ثم تعود إلي مرة أخرى فتثبت في وجهي لا تكاد تنصرف عنه، وكنت كلما رأيت صورتي في هذه العيون يحيط بها الإعجاب والرغبة والشهوات الآثمة لا أنكر ما أرى، ولا أكره ما أجد من الشعور، ولا أرد نفسي عن هذا الغرور الذي يثيره في المرأة إعجاب الناس بها وتهالكهم عليها.
ثم أنا أنهض من مجلسي، وأمشي في غرفتي لحظة غير قصيرة، أذهب فيها وأجيء، وأقف عند ما يملأ هذه الغرفة من أدوات الترف والنعمة، فأطيل النظر إليه لا معجبة ولا مكبرة له، وإنما أسأل نفسي: أأنا صاحبة هذا كله؟ أأنا المالكة لهذا كله؟ أأنا صاحبة هذه الصورة التي تردها إلي المرآة، والتي كانت ترمقها العيون معجبة حين كنت أتناول الشاي في بعض مشاربه عصر اليوم؟!
ثم أنا أفكر غير طويل فإذا أنا أستطيع، وقد تقدم الليل حتى كاد يبلغ ثلثيه، أن أمد يدي إلى زر كهربائي قريب، فلا أكاد أمسه حتى يطرق الباب، ولا أكاد أرفع صوتي بالإذن حتى تدخل علي خادم وضيئة، حسنة الشكل، جميلة الزي، ساهرة مهما يتقدم الليل لأني ما زلت ساهرة، ولأنها لا تستطيع أن تأوي إلى مضجعها حتى آذن لها بالنوم.
ثم أنا أمضي إلى هذه النافذة، فلا أكاد أفتحها حتى تمتلئ نفسي روعة وجلالا لهذه الأشجار النائمة، وهذه الأزهار المتأرجة، وهذه الأطيار التي تحلم في ثنايا الغصون، وكل هذا لي ملك خالص لا يشاركني فيه أحد، ولا يزاحمني عليه أحد، أستطيع أن أعبث به إن شئت، ومتى شئت، وكيف شئت، لا يسألني أحد عما أفعل!
فإذا اجتمعت في نفسي صور هذا النعيم كله أحسست راحة وأمنا وثقة، ثم لا ألبث أن أحس شيئا من الكبرياء الغريبة؛ لأني لا ألبث أن أرى صورتي منذ أكثر من عشرين عاما حين كنت صبية بائسة يائسة، قد شوه البؤس واليأس شكلها وألقيا على وجهها غشاء كئيبا من الدمامة والقبح، لا ألبث أن أجد هذا الحزن اللاذع العميق حين أذكر هذه المأساة التي كنت أتحدث بها منذ حين إلى هذا الطائر العزيز، والتي كان يتحدث بها منذ حين إلي هذا الطائر العزيز.
إن في أحداث الحياة وخطوبها لعظات وعبرا! إني لأتحدث الآن إلى نفسي حديثا ما كان يمكن ولا ينتظر أن تتحدث به إلى نفسها تلك الفتاة التي كان الناس يسمونها آمنة، والتي تسمى الآن سعاد لأنه اسم جميل يلائم المألوف من حسن الاختيار والتظرف في الأسماء.
لقد كانت آمنة تلك فتاة بدوية، انحدرت بها وبأختها امرأة من أهل البادية، أو من أهل هذا الريف المصري الذي يشبه البادية؛ لأنه منبث في أطراف الأرض الخصبة مما يلي الصحراء الغربية، أو مما يلي هذه الهضبات التي يسميها أهل مصر الوسطى بالجبل الغربي.
كانت زهرة أم آمنة وأختها هنادي امرأة بدوية ريفية، تقيم في قرية من هذه القرى المعلقة بهذه الهضاب، والتي لا يستقر أهلها فيها إلا ريثما يزيلهم عنها فوج من أفواج الأعراب الذين يقبلون من الصحراء ليتعلموا الاستقرار في الأرض، والحياة في أطراف الريف، ثم يدفعهم فوج آخر فإذا هم يمضون أمامهم مضيا بطيئا، ينتقلون في أناة ومهل من مكان إلى مكان، وهم يتقدمون نحو الأرض المتحضرة دائما حتى يبلغوا حدود البادية أو حدود هذا الريف المتبدي، وإذا هم على شاطئ القناة التي يسمونها البحر، ويزعمون أن يوسف هو الذي احتفرها في الزمن القديم، فإذا أتيح لهم أن يعبروا البحر، فقليل منهم يحتفظ ببداوته، وأكثرهم يفنى في طبقات الزراع ويضيع في عداد الفلاحين.
كانت زهرة أم هاتين الفتاتين تعيش مع زوجها الأعرابي وابنتيها في قرية من هذه القرى، قد اتخذت اسمها في أكبر الظن من بطن من بطون الأعراب أو قبيلة من قبائلهم؛ فقد كانت تسمى «بني وركان» وكان أهل القرية ومن حولها يميلون الألف قليلا ويذهبون بها نحو الياء، فما أسرع ما أصبح سبة وعارا يعاب به أهل القرية، وكيف لا وقد أصبح اسمها «بين الوركين» وما أسرع ما أصبح أهل القرية يستحيون من اسم قريتهم ويكرهون الانتساب إليها، ولا سيما حين كانت تدفعهم حاجة البيع والشراء إلى أن يهبطوا المدن، فقد كان اسم قريتهم لا يذكر إلا أضحك الناس وأجرى على ألسنتهم مزاحا كثيرا ثقيلا، محفظا لنفس البدوي الذي لم يتعود دعابة القرويين وأهل الحضر.
كانت زهرة تعيش مع زوجها وابنتيها عيشة متواضعة هادئة، فيها رخاء معتدل، وفيها عزة بهذه الأسرة الضخمة ذات العدد الكثير التي كانت أمنا تنتسب إليها، ولكن أبانا لم يكن صاحب حشمة ووقار وسيرة حسنة، إنما كان زير نساء يحب الدعابة والمجون، ولا يتحرج مما يتحرج منه الرجل المستقيم، وكانت له في القرية وفي القرى المجاورة خطوب كانت تخيف منه وتخيف عليه.
وكانت أمنا أشقى الناس بهذه الخطوب، تتأذى بها في ذات نفسها - فكم حرقتها الغيرة حين كان زوجها يغيب عنها اليوم الكامل أو الليلة الكاملة - وتشفق منها على زوجها هذا الماجن؛ فقد كانت تحبه على مجونه وفجوره، وكانت تعلم أنه يهيئ لنفسه عداوات خطرة في كل مكان بإلحاحه في المجون والفجور، وتخاف منها على حياة ابنتيها ومستقبلهما وآمالهما في العيش الهنيء.
وإنها لفي ما هي فيه من غيرة وإشفاق وفزع ذات ليلة، إذ جاءها النبأ بأن زوجها قد صرع، ثم يستبين الأمر قليلا قليلا، فإذا الرجل قد ذهب ضحية لشهوة من شهواته الآثمة، فليس له ثأر يطالب به، وليس من سبيل إلى استعداء السلطان على قاتليه، وإنما هو العار كل العار قد ألم بهذه المرأة البائسة وابنتيها التعيستين، وإذا الأسرة كلها تضيق بهؤلاء النساء، تكره مكانهن منها، وتنفيهن عن الأرض، وتزودهن بقليل من المال وكثير من الرحمة، وتكرههن على عبور البحر والاندفاع في أرض الريف يلتمسن حياتهن فيها يائسات شقيات، ليس لهن سند يعتمدن عليه، ولا ركن يأوين إليه؛ وإنما هي امرأة وحيدة لها حظ من جمال يطمع فيها الناس ويغري بها أصحاب المجون، وصبيتان بائستان لا تكادان تحسنان شيئا.
والخطوب تنتقل بهن من قرية إلى قرية، ومن ضيعة إلى ضيعة، يلقين بعض اللين هنا، ويلقين بعض الشدة هناك، ولا تستقر بهن الأرض في أي حال، حتى ينتهين إلى هذه المدينة الواسعة ذات الأطراف البعيدة والسكان الكثيرين، والتي تشقها الطريق الحديدية نصفين، ويمضي فيها هذا الشيء المروع المخيف الغريب الذي يبعث في الجو شررا ونارا، وصوتا ضخما، وصفيرا عاليا نحيفا، والذي يسمونه القطار، الذي يركبه الناس يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينا، وبالحمير حينا آخر، وبالأقدام في أكثر الأحيان.
هنالك في طرف من أطراف هذه المدينة، استقرت هذه المرأة مع الصبيتين، لجأت إلى شيخ البلدة أو إلى شيخ العزبة فآواها يوما، ثم ابتغى لها ولابنتيها حجرة ضيقة حقيرة قذرة قد أقيمت من الطين، فأسكنها فيها على أن تدفع أجرها عشرة قروش كلما بدا الهلال، ثم قال لها شيخ العزبة: ما أكثر العمل هنا! فالتمسي حياتك وحياة ابنتيك في بيوت هؤلاء المترفين الذين لا يعملون في الزرع والحرث، وإنما يعملون في خدمة الحكومة، منهم من يخدم في معامل السكر، ومنهم من يخدم في المركز، ومنهم من يخدم في المحكمة الأهلية أو الشرعية، ومنهم مهندس الري، ومنهم مهندس الطرق، ثم عند هؤلاء التجار الذين لا يتاجرون فيما تخرج الأرض من الحب، فهؤلاء فلاحون أو كالفلاحين، وإنما يتاجرون في هذه الأمتعة والعروض التي لا تأتي من الريف ولا تصنع في المدينة، وإنما تأتي من مصر، هناك حيث الناس لا ينطقون كما ننطق ولا يعيشون كما نعيش.
عند هؤلاء التجار الذين يبيعون الأقمشة والأحذية والأثاث، يجلبونها من مصر ويبيعونها في المدينة وفي القرى، ويربحون منها الأموال الضخمة، ويعيشون في بيوتهم عيشة السادة والأمراء، لا يأكلون على الأرض وإنما يأكلون على الموائد، لا يأكلون الذرة، وإنما يأكلون خبز الحنطة، لا يأكلون في أطباق النحاس، وإنما يأكلون في أطباق من الخزف، لا يسمحون لنسائهم أن يخرجن متبذلات، وإنما يخرجن ملففات في هذه الثياب يتخذنها من الحرير، وعلى وجوههن هذه البراقع الصفاق، وعلى أنوفهن هذه القصبات من الذهب الخالص أو من الفضة المذهبة.
عند هؤلاء الموظفين، وعند هؤلاء التجار تشتد الحاجة إلى الخدم، والحياة في بيوتهم لينة ناعمة؛ فالتمسي لنفسك ولابنتيك بعض العمل في بعض هذه البيوت.
قال ذلك شيخ العزبة، ثم سمى لها أشخاصا ووصف لها بيوتا ووعدها بالمعونة، وانقضت أيام قليلة ولكنها ثقيلة، كانت أمنا تدور فيها بنفسها وبنا على البيوت تعرض نفسها وتعرضنا للخدمة، كما تعرض الإماء على السادة.
ولكن هذه الأيام لم تتصل، وما أسرع ما استقرت كل واحدة منا في بيت تعمل فيه بالنهار، وتنام فيه الليل، ونلتقي آخر الأسبوع، فنقضي ليلة سعيدة رضية في حجرتنا تلك القذرة الحقيرة، قد حملت كل منا ما أتيح لها حمله من الطعام، فنجتمع إلى طعامنا، ونتحدث عن أهلنا وقريتنا، ثم عن سادتنا وسيداتنا، حتى إذا تقدم الليل أغرقنا في نوم هادئ لذيذ، فإذا كان الصباح تفرقنا إلى حيث نعمل في بيوت التجار والموظفين.
الفصل الثالث
وكنت أحسن الثلاث حظا وأيمنهن طالعا، فقد قدر لي أن أخدم في بيت مأمور المركز، وكانت خدمتي غريبة أول الأمر ثقيلة على نفسي، ولكني لم ألبث أن أحببتها ووجدت فيها لذة ومتاعا، كلفت أن أصحب صبية من بنات المأمور كانت تقاربني في السن، ولعلها كانت أكبر مني قليلا.
كنت أرافقها في اللعب على ألا ألعب معها، وأرافقها إلى الكتاب على ألا أتعلم معها، وأرافقها حين يأتي المعلم ليلقي عليها الدرس قبل الغروب على ألا أتلقى الدرس معها.
كنت لها خادما، ألحظها من بعيد، وأجيبها إلى ما تريد، ولا أشاركها في شيء مما تعمل. ولكن «خديجة» كانت حلوة النفس، رضية الخلق، مشرقة الوجه دائما، مبتسمة الثغر دائما، وديعة النفس، رقيقة الحاشية؛ فلم يطل ما كان بينها وبيني من البعد، وإنما أشركتني في لعبها، واختصتني بأحاديثها وآثرتني بأسرارها، ولم تبخل علي حتى ببعض ما كانت تمنحها أمها من الحلوى، أو من النقد لتشتري به الحلوى.
وما هي إلا أن تزول بيننا الكلفة ونصبح رفيقتين صديقتين، وسيدة البيت تنكر ذلك أول الأمر، ولكنها تذعن له بعد حين؛ وإذا أنا أختلف مع الصبية إلى الكتاب فأتعلم كما تتعلم، وأتلقى مع الصبية درس المعلم فأستفيد كما تستفيد، وإذا ثياب الصبية تخلع علي فيقرب ما بينها وبيني من اختلاف الزي، وأختلس نظرات إليها، ثم أختلس نظرات إلى المرآة، فلا أكاد أحس بينها وبيني فرقا ولا اختلافا، لولا أنها كانت تتكلم لغة حلوة عذبة رقيقة هي لغة مصر، وكنت أتكلم لغة فجة خشنة غليظة هي لغة أهل الريف من «بني وركان»، وكنت أقلد في نفسي لغة خديجة فأحسنها وأجيدها، ولكني حاولت غير مرة أن أجهر بهذا التقليد فردعت عن ذلك ردعا عنيفا، ثم حاولت غير مرة أن أجهر بهذا التقليد حين كنت ألقى أمي وأختي فكانتا تضحكان مني ضحكا يخزيني ويردني إلى لغة الريف.
وأنفقت مع خديجة عاما وعاما لم ألق فيهما بأسا ولم أشك فيهما عناء، وإنما عرفت فيهما الترف والنعيم، وتعلمت فيهما غير قليل مما يعرفه الأغنياء، وبعد فيهما الأمد بعدا شديدا بيني وبين أمي التي كانت تعمل في بيت موظف من موظفي الدائرة السنية، معتدل الحال متوسط العيش، ولكنه أميل إلى حياة الريف، وأحرص على تقاليد الفلاحين، وبعد فيهما الأمد بيني وبين أختي التي كانت تعمل في بيت مهندس الري، ذلك الشاب الرشيق الأنيق ذو الوجه الوسيم، ذلك الشاب الذي كان يعيش وحيدا في دار واسعة، تحيط بها حديقة جميلة نضرة، ولا يعيش معه فيها إلا خادم ريفي، يحرس الدار ويعنى بالحديقة، وإلا أختي تنظف الدار وتعنى بمتاع الشاب، وكان الطعام يأتيه غزيرا موفورا من مطعم المدينة، فيصيب منه القليل، ويترك أكثره لخادميه.
وكنت أرى أختي تشب مسرعة، ويستدير جسمها استدارة حسنة، وتظهر عليها آثار النعمة وآيات من جمال، ولكنها ظلت كما أقبلت من ريفها المتبدي، ريفية بدوية، لا تقرأ ولا تكتب كما كنت أقرأ وأكتب، ولا تحسن من أمور الترف شيئا كما كنت أحسن منها أشياء.
وفي ذات يوم التقينا آخر النهار في حجرتنا تلك الحقيرة القذرة، وكنت قد أخذت أكره هذا اللقاء، وأضيق بهذه الحجرة، وأود لو أعفيت من هذا الاختلاف إليها كل أسبوع، ولو استطعت أن ألقى أمي وأختي من حين إلى حين حيث كانتا تعملان، ولكن أمنا كانت صارمة حازمة ملحة في الصرامة والحزم، لا تغير من عادتها شيئا، فكنا نلتقي آخر الأسبوع دائما، وكانتا تضحكان وتنعمان بهذا اللقاء، وكنت أتكلف معهما الضحك وأتكلف معهما النعيم.
فلما كان ذلك اليوم والتقينا مع المساء، لم أر بشرا ولا ابتساما، ولم أر بهجة ولا اغتباطا، وإنما أحسست صمتا عميقا مريبا، ورأيت وجهين كئيبين مظلمين، وخيل إلي أني أرى دموعا تضطرب في عيني أمنا ولا تستطيع أن تنحدر، وهممت أن أسأل عما أرى، فأعرضت أختي عني إعراضا، وأشارت إلي أمي أن لا تسألي.
وقضينا وقتا طويلا ثقيلا في هذا الهم الممض الذي لم أكن أفهمه ولا أتبين له مصدرا.
ثم انقطع هذا الصمت فجأة بجملة واحدة لم أسمع بعدها شيئا، ولم أصنع بعدها شيئا حتى كان الصباح، صدرت هذه الجملة عن أمنا فوقعت في قلبي موقع الصاعقة، ولقيتها أختي بوجوم غريب، رفعت عينيها إلى السماء، ثم مضت فيما كانت فيه من صمت وحزن وإعراض.
قالت أمنا: إذا كان الغد فسنرتحل عن المدينة المشئومة!
لقد هممت حين سمعت هذه الجملة أن أنكر، وأن أمتنع، وأن أناقش وأجادل، ولكن أمنا قالت هذه الجملة بصوت حزين بعيد محطم، فلم أستطع أن أقول شيئا ولا أن أظهر شيئا إلا الطاعة والإذعان.
وذكرت ما ألم بها من البؤس طول حياتها مع ذلك الزوج الماجن الفاجر، ذكرت ما حرق فؤادها من الغيرة، وما آذى نفسها من الذل، وما روع قلبها من الخوف.
ثم ذكرت ذلك الخطب الذي ألم بها فهدها هدا حين جاءها النبأ بأن زوجها قد صرع، وبأنه قد صرع فيما لا يشرف به صريع.
ثم ذكرت هذه الآلام التي لا حد لها، والتي غمرتها كما يغمر الماء الغريق، حين أنكرتها الأسرة إنكارا، وحين أخرجتها من القرية، ثم نفتها مع ابنتيها من الأرض.
ذكرت هذا فلم أستطع أن أنكر ولا أن أجادل، ولم أزد على أن أظهرت الطاعة والإذعان، والله يعلم أي ليلة قضيت ساهرة حائرة ثائرة، لا أطمئن إلى شيء ولا أسكن إلى رأي، حتى إذا كان الصباح نهضت أمنا فأمرت أن نستعد للرحيل، قلت: أفلا نؤذن سادتنا بهذا الرحيل؟ قالت في صوت هادئ حزين: إن كان يؤذيك فراقهم فأقيمي فسنرحل نحن، قلت باكية: إن فراقهم ليؤذيني لكني لن أستطيع أن أقيم، وإنما هبطت معكما هذه الأرض، وقد كنت أحب أن أرى خديجة قبل الرحيل.
قالت: فإنك إن رأيتها لم تعودي إلينا، أليس أبوها مأمور المركز؟ أفئن تعلقت بك وكرهت فراقك يخل بينك وبين الرحيل؟ قلت: إذن فلنرحل.
وما هي إلا ساعات حتى كانت أقدامنا قد تجاوزت بنا المدينة، وانتقلت بنا من قرية إلى قرية نحو الغرب، حتى إذا بلغ منا الإعياء أقمنا حيث كنا نستريح وننتظر الصباح.
الفصل الرابع
وينتهي إلي صوتك أيها الطائر العزيز، وأنا أسبح في نوم غير عميق، وأرى من الأحلام صورا قريبة مألوفة تمثل لي خديجة وهي تلعب وتدعوني إلى أن أشاركها في اللعب، وتمثل لي سيدة البيت وهي تأمر وتنهى، وتصعد وتهبط، وتذهب في تدبير بيتها وتجيء، وتمثل المأمور وقد أقبل مع الظهر فاضطرب لمقدمه البيت، ثم عاد إلى هدوء يوشك أن يكون السكون، ثم فرغ أهل البيت كلهم لهذا الرجل يعنون به ويتوفرون على خدمته، كأنهم لم يخلقوا إلا له، ولم يوقفوا إلا عليه.
وتمثل لي أمورا كثيرا مما كنت أراه في ذلك العهد السعيد القريب، ولكن صوت الطائر العزيز يبلغني فيخرجني من هذا النوم الحلو إلى يقظة مؤلمة لا أكاد أشعر بها حتى أحس غلظ المضجع وخشونة الفراش، وأين يقع هذا الوطاء الخشن من الصوف قد بسط على الأرض الغليظة بسطا، من ذلك الفراش الوثير الموطأ الذي كان يلقى لي غير بعيد من سرير خديجة في تلك الغرفة الجميلة المترفة من بيت المأمور!
لم أكد أحس بخشونة هذا الوطاء، وغلظ هذه الأرض، حتى ذكرت أننا ننام عند مضيفنا العمدة على سطح من سطوح الدار، لا يسترنا سقف وإنما تظللنا السماء، وتكاد تغمرنا ظلمة الليل لولا هذا الشعاع الرقيق الذي كان يترقرق فيها من ضوء القمر، وقد تقدم به الشهر غير قليل.
نعم! وذكرت كيف انتهينا إلى هذه القرية مجهودات مكدودات آخر النهار، نجلس إلى شجرات من التوت ساعة وبعض ساعة نستريح، لا تكاد واحدة منا تتحدث إلى صاحبتيها بشيء، حتى إذا طال علينا الصمت، وشقت علينا الراحة، وثقل علينا التفكير، قالت أمنا: ما أظن أننا نستطيع أن ننفق الليل جالسات إلى هذا الشجر، وما أرى أننا نستطيع أن نجد من يؤوينا أو يضيفنا في هذه القرية التي لا نعرف من أهلها أحدا ولا يعرفنا من أهلها أحد إلا العمدة، فيجب أن يكون بيته مفتوحا لكل غريب طارق بليل أو نهار، ثم نهضت متثاقلة ونهضنا معها، ومضت متباطئة ومضينا معها، حتى انتهت إلى دار العمدة، لم تسأل عنها ولم تستدل عليها، وإنما مضت إليها كأنما كانت تعرفها من قبل، هنالك رأينا جماعة من الناس قد جلسوا أمام الدار على مصطبة عظيمة، وتوسطهم رجل شيخ لا تكاد العين تقع عليه حتى تثق النفس بأنه عمدة القرية، فلما بلغنا مجلس القوم ولحظتنا أبصارهم، تقدمت أمنا إلى الشيخ الوقور وقالت في صوت هادئ متزن: غريبات قد طرقن القرية في هذه الساعة المتأخرة من النهار فآونا يا عمدة حتى يسفر الصبح. قال الرجل: على الرحب والسعة، ثم دعا فأقبل إليه غلام من داخل الدار، قال: خذ هؤلاء النسوة إلى دار الضيافة ومر بإكرام مثواهن.
ومضى الغلام ونحن نتبعه حتى انتهى بنا إلى دار الضيافة، فإذا بناء متواضع قد انبسط أمامه فناء عظيم، فأدخلنا إلى بعض حجراته وقيل لنا أقمن هنا حتى يأتيكن الطعام.
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى اتصلنا بمن في الدار من أضياف وخدم، قد اختلط بعضهن ببعض فكأنهن جميعا أصحاب البيت، ثم اتصلت الأحاديث واختلطنا بمن وجدنا، فأمسينا وكأننا منهن.
وكان العشاء الغليظ، وكان السمر المضطرب المختلط، ثم كان التفرق إلى المضاجع، فمنا من آثر الهواء الطلق فاتخذ مضجعه على سطح الدار أو في فنائها، ومنا من أشفق من ذلك فأوى إلى الغرفات والحجرات.
وقد رغبت «هنادي» في السطح وشاركتها في هذه الرغبة ومضينا معا ننتظر النوم، وكنت أحدث نفسي بأن هذه الخلوة إلى أختي قد تكشف لي عن بعض ما يخفى علي من أمر.
ولكني لم أكد أجلس إليها أحاول أن أصل الحديث بينها وبيني حتى لقيتني بذلك الإعراض المثلوج الذي لقيتني به أمس، ثم أشاحت بوجهها ومضت في صمتها، وأقمت أنا إلى جانبها حائرة لا أدري كيف أقول.
ثم استلقيت وأرسلت نفسي في فضاء هذا الليل العريض تلتمس ما يلهيها عن هذه الهموم الغامضة المستغلقة التي لم أكن أعرف منها إلا ثقلها، ولكن هذه النفس لم تكد تمضي في ظلمة الليل حتى أدركها موج من هذا النوم اليسير فأخذت تسبح فيه، ولبثت كذلك حتى أخرجها منه هذا الطائر العزيز.
ذكرت هذا كله حين استيقظت، ومرت بي خواطره مسرعة في حين كنت أحاول أن أتبين أين أنا وكيف انتهيت إلى حيث أنا، وفي حين كنت أفتح عيني وأديرهما من حولي كأنما أريد أن أستكمل شخصي حين أتبين حقيقة المكان الذي أنا فيه، وفي حين كنت أمد ذراعي عن يمين وشمال، وأمد ساقي كأنما أريد أن أستمد لجسمي ما أفقده هذا النوم اليسير من نشاط، وكأنما كنت أمحو عنه ما تركت فيه هذه الأرض الغليظة من ألم.
ثم أستكمل شعوري وأجد نفسي كما كنت قبل أن يغمرني النوم، وأحس كأن شخصا قائما غير بعيد مني، فأتبين هذا الشخص فإذا هي أختي قائمة جامدة لا تكاد تأتي حركة، ولا تكاد تحس شيئا، وكأنها لا تكاد تفكر في شيء.
إنما هو شخص مائل ذاهل قد قام في شيء من الجمود المؤلم، ورفع رأسه إلى السماء كأنه كان ينتظر منها شيئا، وكأنما أبطأ عليه ما كان ينتظر منها فجمد في مكانه لا يستطيع منه انتقالا.
وأنت أيها الطائر العزيز تلقي في الليل العريض المظلم نداءك البعيد العذب، فيصل إلى نفسي فيحييها، ويوقظ فيها الذكرى ويبعث فيها الأمل ويشيع النشاط، وأختي ماثلة ذاهلة كأن صوتك لا يبلغها ولا ينتهي إليها، ومع ذلك فما عهدتها صماء، ولا عهدتها تحسن الحزن أو تجيد الاكتئاب، إنما أعرفها فرحة مرحة، تحب الضحك ولا تحتاج إلى أن تدفع إليه، وإنما تحتاج إلى أن تدفع عنه، أين هي؟ ما بالها جامدة هامدة لا تسمع ولا تحس؟ لعلها قد أرسلت نفسها كما أرسلت نفسي تسبح في هذا الليل العريض فأبعدت نفسها في المسعى وتركت جسمها ماثلا بلا روح.
نهضت من مكاني في هدوء، وسعيت إليها في أناة، حتى إذا بلغتها مسست كتفها مسا رفيقا، فإذا رعشة عنيفة تجري مسرعة في جسمها كأنها رعشة الكهرباء، وإذا هي تجفل كالخائفة، ثم تأمن وتسكن حين تسمع صوتي وأنا أقول لها: لا تراعي، فأنا أختك آمنة، ما وقوفك الآن على هذا النحو ماثلة ذاهبة النفس، كأنك الصنم؟ ماذا تنتظرين من الليل؟ وماذا تبتغين من السماء؟ قالت وقد هوت إلى الأرض كأنها البناء المتهدم وصوتها مضطرب ممزق، يتمزق له قلبي كلما ذكرته: لا أنتظر شيئا ولا أبتغي شيئا ...
ثم عادت الرعشة السريعة فهزت جسمها هزا، ثم انهمرت دموعها انهمارا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطرابا عنيفا، وتسفح دمعا غزيرا، وترسل أنفاسا عنيفة متقطعة، وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إلي وأقبلها، وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب، وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر، وأوت إلى ذراعي كأنها الطفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها، وما أرى إلا أنها أحست هذه العذوبة! فقد ثابت إليها نفسها وراجعها رشدها، ولبثت حيث كانت حتى بعد أن سكنت دموعها، كأنما أعجبها مكانها مني، وكأنما وجدت شيئا طالما كانت تتوق إليه فلا تجده ولا تظفر به، ثم سمعتها تقول بصوت خافت بعيد: لقد كنت أحب أن أكون بهذا المكان من أمي لا منك أنت أيتها الأخت الصغيرة؛ فإنك لم تخلقي لتدللي أختك وتمنحيها مثل هذا العطف والحنان.
يا لك من ليل مظلم عريض تضطرب فيه هذه الأضواء الضئيلة البعيدة التي تفنى، ويبسط عليه هذا السكون المخيف ظلالا لا حد لها، ثم يندفع فيه من حين إلى حين صوت هذا الطائر العزيز كأنه سهم مضيء ينطلق في بحر من الظلمات!
كل شيء هادئ مطمئن من حولنا حتى نفس هذه الفتاة التي كانت ثائرة منذ لحظة فقد اطمأنت وسكنت، وانتهت إلى حال تشبه النوم، وإني لآخذ نفسي بالهدوء وأكرهها على الاطمئنان، وألزم جسمي السكون في هذا الوضع الذي هو عليه ليبقى هذا الرأس البائس المحزون مستريحا إلى هذه الكتف الصغيرة الحنون.
ولكن الفتاة ترفع رأسها وتستوي جالسة، ثم تبسط ذارعها فتطوق بها عنقي ثم تضمني إليها، ثم تقبلني، ثم تقول: إياك أن تفعلي ما فعلت أو تخدعي كما خدعت أو تدفعي إلى مثل ما دفعت إليه، إنك إن تفعلي تري نفسك في مثل ما تريني فيه الآن من الجزع والهلع، ومن اليأس حتى من رحمة الله، ومن القنوط حتى من روح الله الذي لا يقنط منه إلا الكافرون.
قلت: وماذا فعلت إذن؟ وما هذا الشر الذي دفعت إليه؟ وما هذا اليأس الذي تغرقين فيه؟ وما هذا الهم الثقيل الذي صب علينا صبا ولم نكن ننتظره ولا نتوقع له مقدما؟ قالت وهي تقبلني: لست أدري أأحدثك بذلك أم أكتمك إياه؛ إني لأعتدي على سنك إن تحدثت إليك: وإني لأعرضك لمثل ما أنا فيه إن كتمتك الحديث.
قلت: فإن صمتك لن يغني الآن شيئا؛ فقد عرفت أن هما ثقيلا ألم بنا، وأن حزنا ممضا يمزق قلبك وقلب أمنا، وأن يأسا مهلكا قد استأثر بنفسك استئثارا، وما أنا بمقلعة عن السؤال والبحث والتفكير حتى أعلم علم هذا كله، وإني لحمقاء إن قبلت أن أنزع من ذلك العيش الناعم السعيد الذي كنت أستمتع به دون أن أعلم لماذا أنزع منه نزعا، فحدثيني حديثك، فمن يدري لعل فيه لي عظة ولك عزاء.
الفصل الخامس
وارتفع الضحى من الغد فإذا ضوءه المتدفق يغمر فتاتين معتنقتين قد أغرقتا في نوم عميق، لا يوقظهما منه حر الشمس المحرقة، ولا مس الأرض الغليظة، ولا اضطراب الدواجن من حولهما وهن يزدحمن على ما ينثر لهن من حب، ويختصمن فيما يصب لهن في الصحاف من ماء، ويخفقن بأجنحتهن في الهواء مقبلات مدبرات، واقعات طائرات، ينادين ويتناجين ويتناغين، قد ملأهن إشراق الصبح مرحا، فملأن الجو حياة ونشاطا وحبا.
وكأن هذا كله كان يدعوني دعاء ملحا من أعماق النوم الذي كنت مغرقة فيه، ويدنيني قليلا قليلا من اليقظة، وإذا أنا أتلقى الحياة دون أن أتمثل الحياة، وأستقبل النشاط دون أن أشعر بالنشاط؛ ثم أحس كأن شيئا خفيفا رشيقا قد مس كتفي مسا يسيرا، فأنتبه، ولا أكاد أفتح عيني وآتي بعض الحركة حتى أرى حمامة مذعورة قد ارتفعت غير مسرفة في الارتفاع، ولم تكد تطير حتى وقعت في رشاقة وظرف غير بعيد، فأستوي جالسة وألقي نظرة إلى أختي وقد ثاب إلي حديثنا كله مرة واحدة فملأ قلبي إشفاقا وحبا وحزنا، وتقع عيني عليها وقد استراح جسمها المتعب، واستقر قلبها المضطرب، وهدأت نفسها الثائرة، وزالت الراحة عن وجهها ذلك الغشاء المظلم الكئيب، فبدت نضرته حلوة مشرقة شائقة، كأنها نضرة الزهر وقد تفتح لضوء الصبح وقطر الندى، وإذا في هذا الوجه الهادئ النضر جمال للعين، وفتنة للعقل، ومتعة للقلب، وإذا أنا أنظر إليه فلا أكاد أحول عيني عنه، مستريحة معجبة مكبرة، ولكني أسمع من ورائي صوتا خافتا يملؤه الحنان والحزن ويقول كأنه يتحدث إلي: انظري ... انظري ... وأطيلي النظر! ألست ترينها حسناء رائعة الحسن؟
فألتفت وإذا أمنا جالسة تنظر إلى الوجه الذي أنظر إليه، وما أشك في أن نفسها كانت تستعرض خواطر كالتي تختلف على نفسي، وفي أن قلبها كان يتأثر بعواطف كتلك التي كانت تملأ قلبي، فأسألها: ما جلوسك هنا في هذه الشمس المحرقة؟ فتجيب: لقد كنت أملأ عيني بمنظركما الجميل ... ثم تنهض مولية في شيء من الإسراع وهي تغالب شجى يريد أن ينفجر، وتحرص هي على أن يظل دفينا.
وأقيم أنا في مكاني ذاهلة أو كالذاهلة، أنظر إلى أختي التي لم تستيقظ بعد، وإلى أمي التي تسرع مولية تريد أن تهبط أسفل الدار، وأفكر في هذه الفتاة اليائسة وفي هذه المرأة البائسة، وأسأل نفسي : أيهما أحق بالعطف وأجدر بالرثاء؟ وأسأل نفسي: أيهما أحق مني بالمعونة والنصر وبالتعزية والتسلية؟ فكلتاهما في حاجة إلى العون، وكلتاهما في حاجة إلى العزاء ...
هذه الفتاة البريئة لم تعرف بؤس النفس قبل الآن، وهي تستقبل الشقاء الآن مظلما قاتما ثقيلا ملحا، لم تدعه ولم تسع إليه، وإنما أكرهت عليه إكراها وأغريت به إغراء، ثم دفعت إليه دفعا، وهي الآن غريق مشرفة على الموت، تريد أن تقاوم وتجاهد الموج ما وسعها الجهاد، لا تجد ما تعتمد عليه أو تتعلق به.
وإنها لفي ذلك إذ ساق القدر إليها من أختها الصغيرة ثمامة تستطيع أن تستمسك بها وتستبقي فضلا من أمل، وحظا من رجاء.
وهذه المرأة التي لم تبلغ الشيخوخة بعد ولكنها قد فرضت على نفسها حياة الشيوخ: حرمان متصل، وانصراف عن كل ما في الحياة من لذة، وإعراض عن كل ما في الحياة من متاع، واكتفاء بما يقيم الأود ولا يدني من الموت، ونظر متصل إلى هذا الماضي القريب الذي يملؤه الحزن ويفعمه الأسى، وتضطرم فيه هذه النيران التي تحرق قلب المرأة حين تحب، فلا يسعفها الحب، ولا تلقى ممن تحب إلا خيانة وخداعا وغدرا.
وإنها لفي ذلك محزونة لأمسها، يائسة من غدها، معرضة عن يومها، وإذا الحياة تتكشف لها عن خطب جديد ثقيل، ليس أقل نكرا ولا أهون أمرا من تلك الخطوب التي بلتها في حياتها الماضية، فهي تنظر وراءها فلا ترى إلا ظلمة، وتنظر أمامها فلا ترى إلا ظلمة، وتنظر عن يمين وشمال فلا تجد عونا ولا نصيرا.
لقد أنكرتها الأسرة وجفاها الأهل ونفتها القرية، وأصبحت وحيدة تعول ابنتين بائستين، وإذا هي تنكب في إحداهما لأمر لا تعلمه وقضاء لم تكن تنتظره، كلتاهما بائسة، وكلتاهما شقية، وكلتاهما خليقة أن تجد من الأخرى ما تحتاج إليه في هذا كله، ولكن هذه النكبة الملمة، والكارثة الملحة قد باعدت بينهما، فالأم محنقة على ابنتها، والفتاة نافرة من أمها، لا يتصل بينهما حديث ولا تثبت عين إحداهما في عين الأخرى، إنما تتفاهمان بالإشارة أو الجمجمة، فإذا التقت أعينهما فما أسرع الإطراق إلى رأسيهما! ثم ما أسرع ما تدعو حاجة مرتجلة منتحلة إحداهما إلى أن تولي مدبرة لتنأى عن صاحبتها فلا يكون بينهما نظر ولا حديث.
هل أستطيع أن أرد ما بينهما إلى طبيعة الصلة بين الأم البائسة والابنة المحزونة؟ بل هل أستطيع أن أعيد الأمر بيننا إلى شيء مما كان عليه قبل هذه الكارثة من هذه المودة السهلة التي لا تكلف فيها ولا تصنع ولا رياء؟ بل هل أستطيع قبل كل شيء أن أعلم أين نحن وإلى أين نمضي، وماذا تريد بنا أمنا هذه التي تأمر وتنهى في لهجة حازمة صارمة وإيجاز مقتصد لا يقبل حوارا ولا جدالا؟ ذلك أجدر أن أفكر فيه، وأحرى أن أسعى إليه، فلأتبعن أمي إذن ولأتلطفن لها، ولأسألنها في أناة ومودة ورفق حتى أعلم علمها، ثم أنظر بعد ذلك فيما آتي، أو فيما يمكن أن نأتي من الأمر.
كل هذه المعاني تضطرب في نفسي، وعيني لا تكاد تفارق هذا الوجه الهادئ الذي يدل هدوءه على أن أختي ما زالت في تلك الأعماق البعيدة التي كنت فيها منذ حين، لم يبلغها ضوء الشمس وحرها، ولم يؤذها مس الأرض وغلظها، ولم يصل إليها اضطراب الدواجن وما تملأ به الجو من نشاط ومرح وصياح.
فأنهض متثاقلة مترفقة حتى أهبط فناء الدار ألتمس أمنا، وما كان أيسر الوصول إليها! فقد اعتزلت غير بعيد من السلم وجلست منحنية تعبث في الأرض بأصابعها عبثا يدل على شيء من الذهول، كأنما كانت تناجي هما ثقيلا أو تتبع خاطرا بعيدا؛ حتى إذا بلغتها مسست رأسها بيدي وسألتها مداعبة: ما هذه اللعبة التي تلعبين؟ وهلا دعوتني لأكون شريكتك في اللعب؟! فإن مثل هذه اللعبة لا تستقيم إذا انفردت بها لاعبة واحدة ...
قالت وقد رفعت إلي رأسا حزينا: أترينني ألعب يا ابنتي؟ قلت: فما عسى أن تفعلي بهذا التراب الذي تذهب فيه أصابعك وتجيء؟
ثم أنهضتها فلم تمتنع علي، ومضيت بها إلى ناحية من الفناء لا يكثر فيها اضطراب الأضياف، ونظرت إليها فإذا هي تنقاد إلي مستسلمة، وإذا حزنها العميق وحنانها القوي قد فاضا على وجهها الشاحب فألقيا عليه مثل وداعة الأطفال.
هنالك أحسست من نفسي قوة، وشعرت كأني أنا الأم «زهرة» وكأنها هي الفتاة «آمنة»، فاتخذت صوتها ولهجتها وألقيت عليها في غير تكلف هذه الأسئلة: ماذا تريدين؟ وماذا تصنعين؟ وأين تذهبين بنا؟
قالت وقد انحدرت دموعها: لا أصنع شيئا، ولا أدري أين أذهب بكما، وإنما أريد أن أنأى بكما عن هذه المدينة الموبوءة، قلت: ولكن إلى أين؟ قالت: سنرى، قلت: ومتى نرى؟ قالت: لا أدري، قلت: فقد ينبغي أن تدري؛ فما يحسن بثلاث من النساء أن يهمن في الريف على وجوههن، تلفظهن قرية وتتلقاهن قرية أخرى، يؤويهن هذا العمدة وقد يردهن ذاك، قالت: فبماذا تشيرين؟ قلت: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين تلك الدور التي كنا نحيا فيها حياة أمن وهدوء ...
وهنا أخذتها رعدة قوية وقالت في غضب وحدة: أي أمن وأي هدوء! إنك إذن لم تعلمي، قلت: بل علمت، قالت: وقد اجترأت البائسة على أن تلقي إليك هذا الحديث! ألم يكفها ما اقترفت من الإثم، وما انغمست فيه من الدنس حتى أرادت أن تكوني لها شريكة! قلت في رفق: دعيها وما هي فيه الآن وعودي بنا إلى ما كنا فيه: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين ما كنا نستعين به على الحياة من عمل، فإني أرى أن نلتمس العمل في قرية من هذه القرى عند غني من هؤلاء الأغنياء، قالت: لقد فكرت في هذا، ولكني أرى أن ليس إليه من سبيل! فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش ولا أن تأمن، ولا أن تستقيم أمورها إذا لم يحمها أب أو أخ أو زوج، قلت: فليس لنا أب ولا أخ ولا زوج! قالت: بل لنا من يحمينا، وقريتنا التي نفينا عنها أحق بنا ونحن أجدر أن نعود إليها، ولئن بلغناها ليعلمن الذين جفونا ونفونا أن من العار أن تنفي الأسر نساءها وكرائمها! فالمرأة عورة يجب أن تستر ، وحرمة يجب أن ترعى، وعرض يجب أن يصان.
قلت: فأنت تريدين إذن أن تعودي إلى تلك الحياة البائسة التعسة التي كنت تحيينها بين قوم لا ينظرون إليك إلا شزرا، ولا يعطفون عليك إلا كرها، ولا يتحدثون عنك إلا في سخرية، ورحمة شر من السخرية؟! قالت: نعم! فكل هذا أهون مما لقينا، وكل هذا أهون مما يمكن أن نلقى إن مضينا في هذه الحياة الهائمة التي لم نخلق لها ولم تخلق لنا، ولقد انقطعت تلك الأسباب التي كانت تدعو إلى جفاء الأسرة وإعراض ذوي القربى وسخر الأعداء ورثاء الأصدقاء، لقد انقطعت تلك الأسباب وبعد بها العهد، ولئن بلغنا قريتنا ليذكرن الناس بعض أمرنا حينا من الدهر، ثم لا يلبثون أن ينسوه وأن ينسونا، ولا نلبث نحن أن ننغمس في حياتنا الأولى ونعيش بين أهلنا بائسات، ولكن آمنات ...
قلت: وتريدين أن نبلغ هذه القرية ساعيات على أقدامنا، نتنقل من ريف إلى ريف، ونستضيف هذا يوما وذاك ليلة، وقد أعجلتنا بالرحيل عن كل أمرنا، فتركنا متاعنا وما اجتمع لنا عند من كنا نعمل عندهم! قالت: سترين، فلن ينالكما جهد، ولن يمس حياءكما أذى، سنقيم هنا حتى يأتي من يحملنا إلى قريتنا ويبلغنا مأمننا بين الأهل والأصدقاء.
قلت: وكيف يستقيم لنا هذا؟ قالت: علمت منذ أصبحت أن اليوم في القرية سوق يجتمع فيه الناس من أطراف الريف، فلأسعين بين الناس والبائعات، فلن أعدم بينهم رجلا أو امرأة من أهل قريتنا أو من أهل قرية مجاورة، فلأحملنه رسالة إلى أهلنا، ولن يتم الأسبوع حتى يكون أخي هنا قد أقبل يحملنا إلى حيث ينبغي أن نعيش.
وهممت أن أمضي معها في الحديث، ولكن حركة عنيفة قطعت علينا ما كنا فيه، فهؤلاء نسوة قد أقبلن يحملن الجفان والأسفاط ويدعون إلى الطعام.
ويسمع الأضياف دعاءهن، ويرى الأضياف مقدمهن فيستجبن للدعاء ويسرعن إلى الطعام، ولا بد من أن نستجيب كما استجبن، ومن أن نسرع كما أسرعن، لا بد من أن أصعد فأنبه أختي هذه التي لا تريد أن تفيق من نومها الطويل بعد أن كانت لا تريد أن تخرج من أرقها الطويل.
فأصعد، ولكني لا أكاد أبلغ آخر السلم حتى أراها قائمة ساهمة حيث رأيتها من الليل حين أيقظني طائري العزيز.
الفصل السادس
وأقبل من في الدار من النساء ومن انضم إليهن من نساء القرية البائسات على الطعام مسرعات يتزاحمن بالمناكب، ويتدافعن بالأيدي، ويتزاجرن باللفظ واللحظ، ويرتفع في أثناء ذلك منهن دعاء لصاحب الدار أن يوثق الله حزامه، ويعلي مقامه، ويصرف عنه الداء، وينصره على الأعداء.
ونحن نسعى وجلات خجلات، يدفعنا الجوع والأدب، ويمسكنا الحياء والاحتشام، حتى إذا استدرات الجماعة حول الجفان قل الكلام، وقرت الأجسام، واضطربت الأيدي وعملت الأفواه.
وأنا أرى هذا كله فيؤذيني منظره ويقع من نفسي موقعا أليما، ما أبعد ما بين هذه الأيدي الغليظة الخشنة قد تقلص جلدها وتقبض، وهي تغوص بما فيها من الخبز غوصا في القصاع فتصيب منها ما تستطيع، وما بين تلك الأيدي الرقيقة الناعمة المترفة التي لم تكن تمتد إلى الأطباق إلا هينة، والتي لم تكن تمس ما في الأطباق إلا بهذه الأدوات التي يعرفها أهل المدن خاصة بل يعرفها المترفون من أهل المدن خاصة!
ما أبعد ما بين هذه الأفواه الفاغرة التي يلقى فيها الطعام إلقاء على عجل فلا يكاد يستقر فيها حتى تزدرده الحلوق! وكأن الطبيعة لم تودع هذه الأفواه حسا تجد به لذة ما تأكل وما تشرب، وإنما اتخذتها طريقا إلى الحلوق ثم إلى الأجواف، وما بين تلك الأفواه الصغيرة الضعيفة التي لم تكن تفتح إلا بمقدار، والتي لا تلتهم ولا تلتقم ولا تنتهي بما فيها إلى حلوق تزدرد، وإنما تطيل المضغ وتستمتع بما يمسها من الألوان، ثم تنتهي به على مهل إلى حلوق تسيغه في أناة ورفق، كأنما الأكل فن من الفنون لا بد فيه من الروية واصطناع المهل والأناة!
ما أبعد ما بين هذه الجماعة التي حشرنا فيها حشرا في فناء هذه الدار، وما بين تلك الأسرة التي كنت أعمل عندها وأجد في خدمتها حين تجلس إلى المائدة لذة ومتاعا يعدلان بل يربيان على ما كنت أجد من اللذة والمتاع حين أجلس إلى طعامي مع رفاقي من الخدم بعد أن يتفرق سادتنا عن مائدتهم!
أين أجد القدرة على أن أدفع يدي مع هذه الأيادي وأحرك فمي مع هذه الأفواه! إنما أنا جالسة بين هؤلاء النساء أنظر إليهن ضيقة بهن، وأتلهى عن الجوع بهذا الخبز الرقيق المستدير الواسع أحطمه بين يدي وأصيب منه قليلا بين حين وحين، وأمنا تصيب من الطعام في قصد واعتدال، قد حال الحزن والحياء بينها وبين إرضاء حاجتها إلى الغذاء، وأختي واجمة ساهمة كأنها في أرض غير هذه الأرض، وفي حياة غير هذه الحياة.
ثم تفرغ الجفان ويتفرق النساء جماعات، ونهم نحن أن ننتحي ناحية، ولكننا لا نكاد نبلغ من ذلك ما نريد حتى يدركنا نسوة ثلاث يجلسن حيث نجلس ويأبين إلا أن يأخذن معنا في الحديث، تقول إحداهن وكانت امرأة تختصم على وجهها أواخر الشباب وأوائل الشيخوخة، ويحتفظ صوتها كما تحتفظ حركاتها بنشاط فيه عذوبه مغرية وميل إلى الفكاهة ظاهر: ما رأيت كاليوم نسوة يستغنين بالأعين والآذان عن الأيدي والأفواه وعن الألسنة والحلوق والأجواف.
ها أنتن أولاء بيننا منذ أمس، وما سمعنا لكن صوتا ولا عرفنا من أمركن شيئا، وها أنتن أولاء تستدرن معنا حول الطعام فلا تكدن تمددن إليه يدا ولا تكدن تصبن منه حظا، كأنما يغذيكن النظر إلى الطاعمات وهن يلتقمن ويلتهمن ويزدردن، وكأنما يرضي حاجتكن إلى الحديث الاستماع للمتحدثات! ثم أرسلت ضحكة سمعها من غير شك أبعد من في الدار مكانا، وسمعها من غير شك من كان خارج الدار، وانتشر معها في الجو استخفاف واستهتار ودعابة ودعاء إلى المجون، حتى إذا فرغت من ضحكتها وجرت الهواء إلى جوفها جرا هو أشبه بالشهيق المثير قالت: أهذا شأنكن بالقياس إلى كل ما تحتاج إليه النساء من لذة وراحة ورضا؟ إنكن إذن لبائسات.
قالت هذا ثم التفتت إلى أمنا فألقت عليها نظرة قوية تريد أن تثيرها إلى الحديث وتكرهها على الجواب، ولكن أمنا لم تنطق بحرف ولم تعرف كيف تلقى هذا السيل المنهمر من اللفظ، وإنما انعقد لسانها انعقادا، وظهر على وجهها اضطراب شديد، ولم تثبت عيناها لعيني هذه المرأة الجريئة اللعوب فغضتهما، وأطرقت برأسها إلى الأرض كأنها الطفل الصغير يلح عليه الكبار في السؤال عن بعض أمره فيمنعه الحياء من أن يجيب.
هنالك التفتت هذه المرأة إلي وقالت: هذه أمك صامتة لا تقول، وهذه أختك واجمة لا أمل في أن تفهم ولا في أن تجيب، فتكلمي أنت فإني أرى في عينيك جرأة وعلى وجهك شيئا يشبه القحة، وما أظن أن في عينيك ملحا ...! قولي من أنتن ومن أين تقبلن؟ وما خطبكن؟ وما إعراضكن عن الطعام؟ وما إيثاركن للصمت؟ قلت ولم أستطع أن أدفع الضحك عن نفسي أمام هذا الهجوم المفاجئ الغريب، وأمام إغراق هاتين المرأتين الأخريين في الضحك، وإغراق أمنا في الصمت، وإغراق أختي في الوجوم: وأنت من تكونين ومن أين تقبلين؟ وما أنت وسؤالك إيانا وإلحاحك علينا؟
قالت مسرعة تتحدث إلى صاحبتيها: ألم أقل لكما إنها «قارحة» ليس في عينيها ملح، وإنها هي التي ستستمع لي وترد علي! ثم التفتت إلي وقالت: تحقيق ... أتسمعين؟ تحقيق ... أنا مكلفة أن أخضعك له، ستعرفين من أنا، وستعلمين أني تعودت التحقيق مع النساء ومع الرجال أحيانا والإلحاح في السؤال على أولئك وهؤلاء ... ثم أرسلت ضحكتها ورجعت شهيقها، وسألتني ملحة: من نكون ومن أين نقبل؟!
وما زالت هذه المرأة تداعبنا وتلاعبنا عنيفة حينا ولينة حينا آخر، جادة حينا وهازلة في أكثر الأحيان، وصاحبتاها تعينانها على بعض ما تريد من ذلك، حتى أنسنا إليهن وتحدثنا معهن شطرا من الضحى، وعرفت من أمرهن ما رغبني في ألا تنقطع الصلة بيني وبينهن ما أقمنا في هذه الدار، وكن جميعا من أهل المدينة التي أقبلنا منها، قد بلغن هذه القرية معا قبل أن نبلغها نحن بساعات، أقبلن راكبات وأقبلنا نحن سعيا على أقدامنا، فأما هذه المحققة التي كانت تسأل وتلح في السؤال، وتمازح وتغلو في المزاح، فكانت امرأة عظيمة الخطر، عرفت من أمرها فيما بعد ما كنت أجهل، وتبينت أن اسمها كان شائعا ذائعا على جميع الألسنة وفي جميع الأنحاء لا في المدينة وحدها بل في كثير مما يحيط بها من القرى والعزب والضياع.
كان اسمها «زنوبة» وكان تاريخها حافلا بالخطوب والأحداث، كان شبابها مغامرة كله وفتنة لنفسها ولكثير من الناس، كانت تجيد الرقص وتفتن به شباب المدينة، وتفتن هؤلاء الشباب الذين كانوا يفدون على المدينة في فصل الشتاء ليشتغلوا في معمل السكر، وكانت تفيد من فصل الشتاء لهوا كثيرا ومالا كثيرا وصوتا بعيدا، حتى إذا تولى عنها الشباب شيئا وأخذت تدنو من الكهولة قليلا قليلا آثرت ظاهرا من القصد، وتكلفت شيئا من الاعتدال، وأسدلت على مجونها ودعابتها ستارا رقيقا تستطيع بعض الأبصار أن تنفذ إلى ما وراءه فتدل أصحابها على ما يبتغون.
ثم اتصلت بالشرطة ورؤسائها في المدينة، وكانت وسيلتها إلى هذا الاتصال معرفتها للشبان، ومخالطتها للرجال، وانسلالها إلى بعض الدور واستماعها لكثير مما يلقى من الحديث، وعلمها بكثير مما يقع من الحوادث ويلم من الخطوب، فكانت عينا من عيون الشرطة تنفذ إلى كثير جدا مما لا تنفذ إليه عيون الرجال، وكانت تفيد من ذلك مالا، وتكسب من ذلك هيبة، فكان الناس يخافونها، ويتلطفون لها، وكانت الشرطة تستعين بها استعانة خاصة خصبة حين يصرع صريع بالليل، ويبحث المأمور وأعوانه عن القاتل فلا يظفرون به، هنالك كانت تنقل إليهم ما تسمع من الأحاديث في بعض أندية الشباب وفي داخل كثير من البيوت، وحين يعتدي اللصوص على دار من الدور ثم تعمى آثارهم وأخبارهم على الشرطة، وكانت أنفع ما تكون للشرطة وأقدر ما تكون على إعانتها حين يهاجم الطاعون أو الكوليرا أو أي وباء من هذه الأوبئة أهل المدينة وما حولها من القرى، وحين تريد الحكومة أن تستكشف المرضى وتعزلهم في تلك الخيام التي كان يكرهها الناس أشد الكره ويفرون منها أكثر مما يفرون من الموت.
هنالك كنت ترى «زنوبة» حركة متصلة كأنها النحلة، لا تستقر ولا تهدأ ولا تعرف السكون والاطمئنان، هي في كل شارع وفي كل حارة وفي كل زقاق وفي كل بيت، ونقالة الصحة من ورائها تجوب الشوارع والأزقة والحارات وتختطف المرضى من بيوتهم اختطافا، وفي تلك الأوقات كان الناس يبغضون زنوبة أشد البغض، ولكنهم كانوا يضطرون إلى لقائها واحتمالها، يبسمون لها ويلعنون الوباء لأنه لم يمسسها ولم يحملها على هذه النقالة ولم يضطرها إلى هذه الخيم التي تضطر إليها الناس.
وقد جمعت زنوبة من كل هذه الحرف مقدارا لا بأس به من المال، فلما تقدمت بها السن بعض الشيء أخذت تستثمر ما جمعت وتنميه، وقد سلكت إلى ذلك طريقين: فهي من ناحية مرابية، تقرض الجنية بثلاثة أمثاله منجمة على العام، وتشتري من الأسواق في المدينة والقرى ما تستطيع شراءه من الحب رخيصا ثم تبيعه بين الفقراء والبائسين، تشتط عليهم في الربح لأنها تصبر عليهم في اقتضاء الثمن، وقد زهد الشباب فيها وقل نشاطها إلى اللهو الجريء، فبحثت ثم بحثت ثم اختارت لنفسها رجلا من الخفراء غريبا عن المدينة وفد إليها منذ حين، قوي البنية طويلا ضخما، مخيف الصوت، ولكنه على ذلك ضعيف النفس، سيئ الخلق، مدخول الضمير، فاتخذته زنوبة لنفسها زوجا أو خليلا، وعاشت معه عيشة يقرها القانون وتنكرها الأخلاق والدين، ويمقتها أهل المدينة أشد المقت، وهي حين رأيتها لأول مرة كانت قادمة على القرية التي كنا فيها لتشتري ما تستطيع شراءه من القمح والذرة والفول، ثم لتعود به إلى حيث تمتص به أموال الفقراء والمعدمين.
ولم تكن «خضرة» أقل خطرا من زنوبة ولا أهون شأنا، وإنما كانت مثلها معروفة بعيدة الصيت، يتحدث الناس بها وبأبنائها حين تخرج من المدينة وحين تعود إليها، ويشقى بها الرجال والنساء جميعا، ويسعد بها الرجال والنساء جميعا أيضا.
كانت دلالة، تفد إلى العاصمة من حين إلى حين، فتجلب منها مقدارا غير قليل من هذه العروض الخفية اليسيرة الرخيصة التي هي مع ذلك فتنة للنساء وشقاء ومتعة للرجال، لم يكن في المدينة بيت مترف إلا وبابه مفتوح لخضرة تدخله جهرا وتدخله سرا أيضا، ونفس سيدة البيت مفتوحة لخضرة أيضا تتلقى أحاديثها وتسمع أنباءها، وقد تفضي إليها بالأحاديث، وقد تحملها الرسائل والأنباء، وكان نشاط خضرة يشتد ويعظم إذا كان الشتاء وجرت في النيل بواخر كوك مصعدة وهابطة؛ فقد كانت خضرة تذهب إلى القاهرة وتعود ومعها ما تشتري من البضائع والعروض، تصطنع هذه البواخر لأن أجور النقل فيها كانت يسيرة للدرجة الثالثة، ولأنها كانت تستطيع أن تستصحب فيها من الحقائب والمتاع ما لم تكن تستطيع أن تستصحبه في القطار.
كانت إذا عادت إلى المدينة تسامع بها الناس، وانتظر النساء مقدمها عليهن وزيارتها لهن، وكانت أسعد السيدات هذه التي تظفر بزيارتها الأولى، تسبق إلى خير ما عندها من ضروب الأقمشة على اختلافها، ومن صنوف الأعطار، ومن هذه الأدوات اليسيرة الهينة التي يحتاج إليها النساء ويتنافسن فيها، ومن أنواع الخرز بنوع خاص، ومن هذه الحلقات الزجاجية المختلفة التي يتخذها النساء حليا لأذرعهن يعالجن لبسها علاجا شديدا دقيقا خطرا وقلما يفرغن من هذا العلاج دون أن تكون إحداهن قد أحدثت في يدها أو في ذراعها جرحا بليغا، وكان الأسبوع الأول لعودة خضرة من القاهرة عيدا متصلا في البيوت للنساء والأطفال جميعا، أولئك يسعدن بما تعرض عليهن من عروض الزينة والمتاع، وهؤلاء يسعدون بما تجلب لهم من الحلوى وجوز الهند، ولا سيما هذه الحلوى التي كانت تجلبها خضرة من القاهرة والتي لم يكن من الممكن ولا من اليسير أن تصنع في المدينة؛ فقد كانت رقيقة لينة لا تشقى بمضغها الأضراس، وتجد فيها الأفواه والحلوق لذة لا مشقة فيها ولا عناء كهذه اللذة التي تجدها فيما يصنع في المدينة من الحلوى السمسمية أو الحمصية الغليظة اليابسة التي يتعاون على إذابتها الريق والأضراس واللسان فلا تبلغ منها ذلك إلا بمشقة وجهد.
وكانت خضرة تحمل إلى الفتيات النواهد فتنة لا تشبهها فتنة بهذه المناديل الملونة التي كانت تجلبها لهن والتي كن يفتنن في إدارتها حول رءوسهن وفي اتخاذها سجوفا فتانة خلابة لشعورهن الثقال، ولا تذكر هذه الضفائر أو هذه الخيوط التي تنظم فيها قطع دقيقة رقيقة ضيقة من المعدن والتي توصل بالضفائر، وبضفائر الفتيات النواهد خاصة، فيكون لها على ظهورهن منظر حسن، ويكون لها رنين حلو إذا مشين أو أتين بعض الحركات، وكان الرجال يحتملون عودة خضرة من القاهرة باسمين بل مغتبطين أول الأمر، يجدون في ذلك رضا بريئا وتلهية نقية للنساء والفتيات، فإذا مرت أيام وكثر تردد خضرة على البيوت واشتد طمع النساء فيما تعرض عليهن من المتاع، وظهرت رغبة النساء ملحة على وجوههن وفي حديثهن وفي تنكرهن للرجال حين يظهرون تمنعا أو إباء، ضاقوا بخضرة أشد الضيق، وودوا لو تذهب مرة إلى القاهرة فلا تعود.
وكانت خضرة إذا فرغت من إرضاء نساء المدينة على اختلافهن في الطبقة والثراء، تنقلب بما يبقى لها من سقط المتاع بين ما يحيط بالمدينة من قرى الريف، وهي في ذلك اليوم الذي لقيتها فيه كانت تزور القرية ومعها حقيبتان أو ثلاث فيها من هذه الدوائر الزجاجية ومن الخرز والمناديل الملونة ما لم تقبله المدينة وما تتلقاه القرى بلهفة شديدة، وما لعله يورق ليل كثير من الريفيات ويملأ أحلام كثير من عذارى الفلاحين.
ومن الخطأ أن يظن أن «نفيسة» كانت أقل شهرة من صاحبتيها أو أيسر منهن شأنا عند أهل المدينة وعند أهل الريف، كانت متقدمة في السن قد بعد عهدها بالشباب، وتركت الشيخوخة في وجهها وصوتها وجسمها كله آثارا قبيحة منفرة للنفوس، ولكنها على ذلك كانت دخيلة في كل بيت، صديقة لكل امرأة، كانت عرافة تقص ما كان، وتصف ما هو كائن، وتنبئ بما سيكون، وكانت لها صلة قوية بالجن والشياطين، تسعى بالرسائل بينهم وبين النساء وتستخدمهم في كثير مما يشغل حياة المرأة الجاهلة الساذجة التي لا تزال تؤمن بأن سلطان الجن على الناس لا حد له، هذه ضيقة بزوجها لأنه يخونها أو يؤثر عليها ضرتها فهي تستعين بنفيسة لتسلط عليه عفريتا من الجن يصده عن خليلته أو عن زوجته، وهذه تحس من زوجها نشوزا أو إعراضا، فهي تستعين بنفيسة لتتخذ لها من الطلسمات ما يعطف عليها زوجها ويجعله قعيدة دارها. ولم تكن نفيسة أقل تأثيرا في نفوس الرجال والشبان منها في نفوس النساء والفتيات؛ فقد كانت تحسن استشارة الودع وسؤاله عن الغيب، وقد كانت تحسن استعطاف النساء إذا نفرن أو أعرضن، وقد كانت تحسن تسخير الجن في قضاء ما يلتوي من الحاجات، وكانت نفيسة مشغولة دائما، لا تكاد تستريح من السعي بالرسائل والحاجات بين رجال المدينة ونسائها وبينهم جميعا وبين الجن والشياطين، ولكن شهرتها بذلك قد جاوزت المدينة ووصلت إلى القرى وتسامع بها أهل الريف فأخذوا يسعون إليها، ثم أخذت هي تسعى إليهم وتنتقل بينهم بسحرها وطلسماتها وودعها، وهي حين رأيتها كانت تزور القرية لتحمل إلى أهلها بعض ما يحتاجون إليه من أنباء الغيب.
ولم يكد يتصل الحديث بيننا وبين هؤلاء النسوة حتى كانت نفيسة أسرعهن إلى نفوسنا، وأحرصهن على أن تمتلكنا وتصل بيننا وبين أصدقائها من الجن والعفاريت، لم تجد في ذلك مشقة ولم تتكلف له جهدا، فهذه الفتاة الذاهلة التي لا تكاد ترى ولا تسمع ولا تفهم ولا تجيب خليقة أن تلفت العجوز الساحرة إلى نفسها، وقد فعلت ... فما أكثر ما تلح هذه العجوز في السؤال لتعرف ما بهذه الفتاة! والفتاة لا تجيب، وأمنا أشد منها حرصا على الصمت وإغراقا فيه، والسؤال يتجه إلي دونهما، فأضطر إلى أن أزعم أن بأختي علة قد أعيت الطبيب، وداء لا نعرفه ولا نجد له دواء، وما أيسر ما تفض السرة وينثر منها الودع على الأرض! ثم ما أسرع ما تعمل فيه يد نفيسة جمعا وتفريقا، وضما ونثرا، تلائم بينه وتخالف، وتتخذ منه أشكالا تقرأ فيها من أنباء الماضي والحاضر والمستقبل أعجب العجب.
إني لأراها الآن وقد مضت أعوام طوال منذ ذلك اليوم وهي تنظر في الودع وتطيل النظر، ثم تظهر على وجهها هذه الآيات التي تدل على أنها تحاول أن تفهم شيئا فلا تستطيع، وإني لأسمع صوتها المحطم الذي كان هامسا دائما مهما يرتفع، وإني لأحفظ جملها منذ ذلك اليوم ما نسيتها ولن أنساها، وكيف أنساها وقد صدقها الزمان؟ نظرت إلى ودعها، ثم أطالت النظر فيه، ثم رفعت عينها إلى أختي فأطالت النظر في وجهها، ثم عادت إلى الودع فأثبتت عينها فيه، ثم رفعت رأسها وهي تقول للفتاة: إن أمرك يا ابنتي لعجيب، إني أراك بين اثنين: أحدهما يحبك وسيؤذيك، والآخر آذاك وسيحبك، وإني لأحاول أن أفهم فلا أستطيع، والرأي لك يا ابنتي أن تستشيري سادتنا من الجن أو سادتنا من الأولياء ... وما أرى أن هذا عليك عسير؛ ففي هذه القرية القريبة منا والتي تستطيعين أن تبلغيها في ساعة وبعض ساعة ما تحبين: فيها مقام سيدنا فلان، وإنه ليأتي بالأعاجيب، وفيها دار فلانة وإن قرينها من الجن ليحدث بالأعاجيب أيضا، ولم تكد نفيسة تنطق بالجملة الأولى من حديثها حتى وثبت أمنا كأنما دفعت إلى الوثوب دفعا آليا، وانطلقت مسرعة فلم نرها إلا بعد وقت طويل.
الفصل السابع
ها أنت ذا أيها الطائر العزيز تنشر في الجو المظلم الساكن نداءك السريع البعيد كأنه استغاثة المستغيث ... ما خطبك؟ وما أنباؤك؟ وما الذي يغريك بي ويسلطك علي؟! لا أكاد أمضي في النوم حتى تسرع إلي فتوقظني، كأنما أخذت على نفسك أو أخذ غيرك عليك عهدا ألا تخلي بيني وبين النوم، وكأنما كلفت نفسك أو كلفك غيرك أن توقظني إذا تقدم الليل لتظهر لي من الأمر على ما كان خليقا أن يفوتني إن استسلمت للذة الأحلام ...! ابعث نداءك سريعا بعيدا أو لا تبعثه فقد أيقظتني، وما أرى أني سأعود إلى النوم دون أن أشهد شيئا كالذي شهدته أمس حين كانت أختي ماثلة ذاهلة كأنما تنتظر أخبار السماء، إني لأشعر بأني سأراها ماثلة ذاهلة حيث رأيتها أمس، وإني لأتهيأ للنهوض إليها، ولكن نداءك لا ينقطع، إن لك لشأنا ...!
ماذا! إن جو الليل المظلم الساكن المهيب ليس خالصا لك هذه الليلة كما تعود أن يخلص من قبل، ماذا أيقظ الطير؟ فإني لأسمع خفق أجنحتها، وأحس كأنها منتشرة قد خرجت من أوكارها حائرة مضطربة في هذا الجو المخيف، ماذا أيقظ الكلاب؟ إني لأسمع نباحها قويا متصلا بعيدا فيه إلحاح وترجيع كأنها تدعو من لا يسمعها.
ماذا أيقظ الناس؟ إني لأحس حركة خارج الدار، وإني لأسمعهم يتداعون ويتنادون، وإني لأشعر كأنهم يسرعون إلى غاية لا أعرفها.
ماذا أيقظ من في الدار؟ إن الحركة من حولي لتكثر وتختلط وتشتد، وإني لأشعر بالفزع قد انتشر في الجو كما ينتشر الدخان الكثيف.
وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز ما زال متصلا سريعا بعيدا، كأنك لم توكل بإيقاظي وحدي، وإنما وكلت بإيقاظ الناس جميعا والأحياء جميعا، انظر! إن كل شيء قد استيقظ من حولك، ولكن نداءك ما زال متصلا سريعا بعيدا، أتريد أن تتحدث إلى النجوم؟ ولكني أنهض لكل ما أحس حولي من حركة وضجيج وعجيج واضطراب، فأسأل أختي هذه الماثلة الذاهلة: ماذا حدث؟ ولكنها لا تجيب كأنها لم تسمع شيئا، فيأخذني حنق وغيظ، وأهزها هزا عنيفا وأنا أصيح بها: ماذا! ألا تسمعين؟ ألا ترين؟ هنالك تتنبه وتجيبني في شيء من الوجل: ماذا تريدين؟ فأتركها مستيئسة منها وأهبط فناء الدار حيث اجتمع النساء يتساءلن ويتجاوبن، ويشتد بينهن لغط مختلط لا يكاد ينقضي.
هناك أجد أمنا بين هؤلاء النساء، شاهدة كالغائبة، ومستيقظة كالنائمة، تسمع ولا تقول، فإذا سألتها عما حدث أجابتني في صوت هادئ حزين: زعموا أن رجلا قد قتل قريبا من القرية يقال له عبد الجليل، وقد جاء الصريخ إلى العمدة فأيقظ رجاله وهو يستحثهم لالتماس القاتل.
وقضينا بقية الليل ساهرات نتسمع ما يصل إلينا من الأخبار التي إن ابتدأت فلا نهاية لها، وهي أخبار القتل في المدن والقرى وفي الحقول وعلى الطريق العامة، وقد زعم من حدثنا من أهل الدار أن مقتل هذا الرجل الذي صرع الليلة قد كان أمرا محتوما.
لقد كان هذا الرجل شيخ الخفراء في القرية، وكان قويا شديد البأس عظيم السطوة، وقد حمى القرية من اللصوص والمعتدين، وكانت له في القوم آثار لم تنس، فهم يطلبونه بها، وقد اضطربت القرية منذ ليال لأن هذه الرجل أقبل وقد انقضى من الليل أكثره على بيت من البيوت، فجعل يطرق بابه طرقا عنيفا، ويدعو صاحبه بصوت كأنه الرعد أن أفق أيها المجنون فإن اللصوص قد اقتحموا عليك الدار، فذعر أهل البيت لهذا الطرق وهذا النداء، وأسرع الرجل إلى الباب، فما راعه إلا شيخ الخفراء يبرق ويرعد ويلح في النذير، ثم دخل الدار وطاف بحجراتها وغرفاتها يلتمس اللصوص ولكنه لم يجد أحدا، وقد استيقظ الناس واجتمعوا حوله وحول صاحب الدار، وهو يقسم ويغلظ في القسم لقد رأى اللصوص يقتحمون الدار اقتحاما.
منذ تلك الليلة تحدث أهل القرية بأن شيخ الخفراء قد تعرض للموت، وأنه إنما روع أهل تلك الدار ليلجأ إليهم ويأمن عندهم من طالبيه، ومنذ تلك الليلة استيقن أهل القرية أن قوما قد نذروا دم شيخ الخفراء، وليسوا بمقلعين عنه حتى يقتلوه، وها هم أولاء قد وفوا بالنذر وقتلوا عبد الجليل، وها هو ذا العمدة يفرق رجاله في كل صوب، يأمرهم باقتحام هذه الدار، وبالبحث عن فلان والقبض على فلان والتوثق من فلان، وهذه القرية هائجة مائجة تسأل وتبحث، وتستقصي وترتاع.
وهذه جثة عبد الجليل طريحة غير بعيد من الجسر، قد فارقتها الحياة بعد احتضار طويل ثقيل، وقد قام عندها الرجال يحفظونها في مكانها حتى تأتي الشرطة من المدينة، وحتى يأتي المحققون، وقد أقبلوا جميعا بعد أن ارتفع الضحى، فأقاموا حول الجثة حينا يسألون ويشرح الطبيب، ثم أقبلوا نحو القرية ونساء الدار مشرفات ينظرن إليهم، وهم يسعون إلى بيت العمدة ليشربوا القهوة، ويمضوا في التحقيق، ويصيبوا شيئا من الطعام.
وأنا مشرفة أنظر مع الناظرات، ولكن ماذا؟ إني لأتراجع مسرعة وقد اضطرب قلبي اضطرابا لا يكاد يستقر معه في صدري، وقد تكلفت جهدا عنيفا لأحبس صيحة كادت تنبعث من فمي، وهذه أمي تجرني إليها لا تقول شيئا ولكنها تهبط معي فناء الدار، ثم تهدئني بعض الشيء، ثم تقول لي كالهامسة: إياك أن تظهري أو أن تدعي هذا المكان فإنه والله إن رآك لم ينصرف حتى يستصحبك. ذلك أني كنت قد رأيت المأمور.
لماذا أكذب نفسي ! لقد هممت غير مرة أن أسعى إليه وأن أسأله عن خديجة، وأن ألح عليه في أن يستصحبني ليردني إلى تلك الحياة الناعمة وليحميني من هذا الظلام الذي كنت أدفع إليه على غير إرادة ولا رأي.
نعم! لقد هممت بهذا كله، ولقد كدت أفعل، ولكني رأيت أمي وما كانت تستصحب من بؤس قديم، ورأيت أختي وما كانت تستقبل من بؤس حديث، فآثرت شقاء هاتين الشقيتين على ما كنت أحب لنفسي من الخير، وبقيت معهما أنتظر ما تضمر لهما الأيام.
الفصل الثامن
آمنة ... آمنة ... أقبلي، هذا صوت أمنا ينتهي إلي، وقد انتحيت ناحية مع زنوبة وخضرة على السطح، نتحدث ألوانا من الحديث، وأختي جالسة غير بعيد قد شغلت عنا بما يملأ نفسها من هم وحزن، فإذا سمعت الصوت أسرعت إلى أمي في الناحية الأخرى من سطح الدار، فإذا هي قائمة قد ظهر عليها النشاط وانجلت عن وجهها سحابة الحزن التي كانت تغشيه، وهي تبتسم وتشير بيديها وتقول لي: انظري انظري! هذه والله إبل «بني وركان»، فأنظر فأرى أعرابيا كأنه الشيطان وقد أناخ قريبا من الدار جملين عظيمين وأخذ يحط عن أحدهما بعض الأثقال، أمي مستبشرة متهللة تشير وتلح في الإشارة وتقول: ألم تعرفي خالك ناصرا؟ ألم تعرفي هذين الجملين؟ عرفت خالي، فما أكثر ما كنت ألقاه أيام الطفولة والصبا، وما أكثر ما كنت أخافه حين ألقاه، وأكره منه هذا العنف الذي يبتدر كل من اتصل به، وهذه اللهجة القاسية التي يمتاز بها حديثه، وهذا الصوت القاطع الذي يلقي إليك الكلمات في حزم وعزم وشدة لا تقبل مراجعة ولا تسمح بجدال!
نعم عرفت خالي ناصرا، وذكرت أني كثيرا ما كنت أتقيه إذا لقيته، ولا أستجيب لدعائه إذا دعاني إلا كارهة، ولا أطمئن إلى ما كان يظهر لي من مودة وعطف وحنان، ولا أقبل إلا راغمة ما كان يقدم لي أحيانا من البلح والعجوة، يريد أن يتملقني ويترضاني.
نعم! عرفت خالي ناصرا، وذكرت أني كنت سيئة الظن به، شديدة النفور منه، وأني كنت ألوم نفسي أحيانا على سوء ظني وشدة نفوري، حتى إذا صرع أبونا ورأيت كيف استقبل أمي بأنباء هذا المصرع وكيف قسا عليها وعلينا، ولم يفكر في أنها أيم وفي أننا يتيمتان، وإنما فكر في الأسرة وحديث الناس عنها، وما يجر عليها هذا الخطب من عار ...
ثم لم تكد تمضي أيام حتى أقبل ذات صباح، مظلم الوجه قاسي اللحظ جافي اللفظ، فأقنع أمنا بوجوب الرحيل، وأنبأها بأنه سيعد لهذا الرحيل عدته وسيصحبنا حتى يعبر بنا البحر ويبلغنا مأمنا في قرية من قرى الريف.
ثم جاء هذا اليوم الذي أخرجنا فيه من دارنا، وأبعدنا فيه عن قريتنا ونفانا فيه من أرضنا، وصحبنا إلى قرية من هذه القرى المنتشرة وراء البحر ثم أسلمنا إلى القضاء، وانصرف عنا راجعا إلى حيث ينعم مع الأسرة بالدعة والخفض وبالأمن والهدوء.
منذ ذلك اليوم لم أشك في أن رأيي فيه لم يكن خاطئا، وأن حكمي عليه لم يكن قاسيا، وأن نفوري منه لم يكن إلا صورة صادقة لما ينبغي لهذا الرجل الغليظ في قلب فتاة ضعيفة بريئة وادعة، لم تجن على أحد شرا، ولا تفهم أن يجني عليها أحد شرا، وكانت أمي وأختي تتبعانه ببصرهما محزونتين لفراقه أشد الحزن، وكأنه كان يمثل في نفسيهما صورة الوطن الذي نفينا عنه. أما أنا فكنت أنظر نحو الغرب الذي كان يوجه بصره شطره، ولكني لم أكن أراه لأني لم أكن أحفل به.
إنما كنت أحاول أن تنفذ عيني من هذه المسافة البعيدة والأمد المنفسح إلى هذه القرية المطمئنة التي أخرجت منها إخراجا، لعلي أرى دارنا، ولعلي أرى هذا الفناء المنبسط أمامها، والذي كنت ألعب فيه مع أترابي من الغلمان والصبيان، ولكني لم أكن أرى القرية ولم أكن أرى الدار، وإنما كنت أرى هذه الهضاب المرتفعة في السماء بعض الشيء، وأقدر أن قريتنا تقوم هناك على هضبة من هذه الهضاب، وكنت أرى هذا الخط من الماء يحول بيننا وبين هذا السهل الجميل الذي ينبسط من دون هذه الهضاب، والذي كنت لا أمضي فيه قليلا حين نفينا من قريتنا إلا أحسست كأني أترك فيه قطعا من نفسي أنثرها في أرضه الخضراء نثرا.
نعم! عرفت خالي ناصرا وهو قائم بإزاء جمليه بعد أن وضع أثقاله كأنه الشيطان، وما تصورته قط إلا شيطانا، ومنذ هذه اللحظة التي رأيته فيها يضع أثقاله وسمعته فيها يسأل عن صاحب الدار، لم أزدد إلا يقينا بأنه شيطان. سأل خالنا عن صاحب الدار، وكان رجال العمدة قد دخلوا عليه فأنبئوه بأن رجلا أعرابيا عليه مظاهر القوة والبأس والوقار والثراء، قد أقبل يسأل عنه، فخف العمدة لاستقبال ضيفه، وما زلت أراه يستقبل الأعرابي باسما وادعا، والأعرابي يحييه في غلظة وجفوة، ثم يقول له متعاليا: إن النبي قبل الهدية يا عمدة، يقول ذلك ويشير إلى أثقاله التي حطها عن جمليه إشارة المكبر لها الدال بها، والعمدة يدعو بعض رجاله ويشير إليهم أن احملوا هذه الأثقال وأريحوا هذين الجملين، ثم يدعو ضيفه الأعرابي، رفيقا به شاكرا له، إلى الراحة والدخول معه إلى الدار.
وقد اطمأنت الدار بالأعرابي، ولقي من كرم مضيفه وبشاشته ما أرضاه، فلما مضت ساعة أو ساعات والناس مجتمعون حول عمدتهم يخوضون فيما تعودوا أن يخوضوا فيه من الحديث، قال فجأة: إن لنا عندك ودائع يا عمدة، فاردد علينا ودائعنا! فالله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، قال العمدة: ودائعك محفوظة لك، مردودة عليك يا شيخ العرب، فما ذاك؟ قال الأعرابي: امرأة أقبلت منذ أيام ومعها فتاتان، سألتك الضيافة فآويتها وآويت ابنتيها وأحسنت لقاءهن وأكرمت مثواهن، ونحن أعرف الناس بحق الكرام. قال العمدة: وما أنت وهذه المرأة وابنتاها؟ قال الأعرابي: هي أختي. قال العمدة: فقد نزلن على الرحب والسعة، وما فعلت إلا ما كان يجب علي، وما نفع هذه الدور إذا لم تفتح لإيواء الغرباء! ولكن ودائعك يا شيخ العرب لن ترد عليك حتى تقيم بيننا حينا فتسمع منا ونسمع منك؛ فإن حديث الأعراب يلذنا ويرضينا، وقد بعد عهدنا به منذ رحل عنا سعيد وأصحابه، وكانوا قد خيموا في ظاهر القرية أشهرا، ثم ارتحلوا لا عن قلى ولكن عن رغبة في الرحيل. واتصل الحديث بين العمدة وأصحابه وبين هذا الأعرابي حتى انقضت ساعات السمر.
الفصل التاسع
أما أنا فلم أطعم النوم في هذا الليل الطويل الثقيل؛ لأن أختي لم تطعم فيه النوم، ولم يحتج طائري العزيز إلى أن يوقظني بندائه السريع البعيد، ولم أسمع منه هذا النداء كأنه عرف أني ساهرة مؤرقة فلم يحتج إلى تنبيهي، فانطلق في الجو الفسيح ينبه غيري من الذين لم تؤرقهم الهموم والأحزان.
عدت إلى أختي كئيبة ضيقة الصدر متكلفة مع ذلك أن أخفي ما أجد من الكآبة وضيق الصدر، فأنبأتها بمقدم خالنا وبأننا مرتحلات في أكبر الظن إذا أسفر الصبح، وجعلت أزين لها الرحيل وركوب الإبل واجتياز القرى والنظر إلى هذه الحقول المنبثة بيننا وبين البحر، والنظر إلى هذا الخط من الماء الذي يفصل بيننا وبين بلادنا في الغرب، ننظر إليه مقبلات عليه بعد أن نظرنا إليه مدبرات عنه، ثم نعبر هذا البحر ونمشي على هذا السهل الجميل النضر الذي تلتقي فيه أرض الصحراء المجدبة وأرض الريف المخصبة؛ ثم نصعد تصعيدا هينا كأنما نرقى في الدرج إلى هذه الهضبة الجميلة التي تقوم من ورائها قريتنا وادعة هادئة كأنها تحتمي بها من كل طارق يأتيها من الشرق. أنا أزين لها هذا كله بلساني، وأتكلف لها مظهر المرتاحة له المغتبطة به المقبلة عليه في سرور ولذة وشوق، والله يعلم إن كنت لمحزونة أشد الحزن مبتئسة أشد الابتئاس، تنازعني نفسي إلى ما وراءنا نحو الشرق من هذه المدينة الكبيرة التي ترامت أطرافها، وامتدت على ضفة النيل هادئة وادعة ناعمة بما فيها من حضارة وترف وثراء، والله يعلم أني لم أكن مقبلة على هذا الغرب الذي سأدفع إليه إذا أسفر الصبح إلا برغمي وعلى أشد الكره مني، ما كنت أحفل بالحقول المنبثة، ولا أجد شوقا إلى هذا الخط من الماء، ولا أجد كلفا بهذا السهل الجميل النضر، ولا أجد رغبة في التصعيد الهين إلى هذه الهضبة المهيبة، ولا أجد حنينا إلى هذه القرية الوادعة التي درجت فيها. إن هناك لحقولا أخرى منبثة نحو الشرق تنحدر إلى المدينة في دعة وفتور وتكسر جميل، وإن هناك لخطا عريضا من الماء أشد روعة وجمالا وإثارة للسحر في القلوب من هذا الخط الضئيل النحيل يسمونه بحرا وما هو بالبحر، وإنما هي قناة لا يصح أن تذكر مع النيل، وإن هناك لدورا شاهقة واسعة مترفة تحيط بها الحدائق البديعة، وتلذ الإقامة فيها والحياة بين غرفاتها وحجراتها واللهو بين ما يحيط بها من الأشجار والأزهار، وإن هناك لفتاة جميلة وسيمة رقيقة هي التي أحن إلى لقائها وأتحرق على تجديد العهد بها. وماذا أصنع في تلك القرية، وأي حياة تهيأ لي فيها! كلها شظف وخشونة، وكلها جهل وغفلة، وكلها رجوع إلى ذلك الطور الأبله الذي جعلت أخرج منه قليلا قليلا حتى امتزت من أمي وأختي أشعر بأني أحسن منهما فهما للحياة، وأصدق منهما حكما على الأشياء، وأشد منهما صبرا على الخطوب، وأمهر منهما في التخلص من الشدائد والكارثات. ألست أدنى منهما إلى الطفولة، وأجدر منهما أن أكون غرة غافلة؟ ومع ذلك فإني أنظر إليهما كما تنظر الأم إلى صبيتين ضعيفتين تحتاجان إلى الحماية والحب وإلى العطف والعون!
كذلك كنت متناقضة أشد التناقض، مختلفة أشد الاختلاف، أزين لأختي ما أبغضه أشد البغض، وأمني نفسي بما ليس إليه من سبيل، وكثيرا ما خطر لي خاطر فلم أقف عنده لأنه كان يظهر لي سخيفا مستحيلا؛ كثيرا ما خطر لي أن أتغفل من حولي إذا تقدم الليل، وأن أنسل من الدار وأن أهيم على وجهي نحو الشرق منسابة بين المزارع والحقول والقرى كما تنساب الحية الدقيقة، حتى أبلغ المدينة مع الصبح أو مع الضحى، وإذا أنا حيث أحب أن أكون.
لم أقف عند هذا الخاطر الذي كان يمر بنفسي من حين إلى حين مرا سريعا فينفذ منها كما ينفذ السهم من الهدف؛ لأن الاستجابة له لم تكن ميسورة، وكيف الانسلال من الدار والأحراس عليها قيام! وكيف الانسياب في الريف؟! وماذا تصنع فتاة وحيدة في ضوء النهار فضلا عن ظلمة الليل! وكيف لي بترك هاتين البائستين تحملان وحدهما ثقل الأحداث والخطوب؟
أقيمي، أقيمي يا آمنة! وانسي نفسك ولذتك وراحتك، وانظري إلى هذه الفتاة الجالسة أمامك، إن ذهولها ليمزق القلب، وإن شحوب وجهها ليذيب النفس، وإن هذه الدموع التي أخذت تنحدر من عينيها في سكون وصمت لخليقة أن تصرفك عن كل تفكير إلا فيها، وعن كل عناية إلا بها، ألحي ألحي يا آمنة في تزيين الرحيل، وفي التحدث عما سنجد في القرية من أمن، وبما سنستقبل فيها من هدوء واستمتاع بالحياة الراضية، لا نخدم أحدا وقد يخدمنا الناس.
ولكن أختي لا تسمع لي أو هي تسمع ولا تفهم عني، هي مثلي لا تحب الرحيل ولا تحن إلى الغرب، وإنما تحن إلى هذا الشرق الذي تركت قلبها فيه: هنالك في ذلك البيت الجميل الذي تحيط به هذه الحديقة الواسعة ويقوم عليه ذلك العامل من أهل الريف، ويعيش فيه ذلك الشاب المترف الذي يسمونه الباشمهندس.
في هذا البيت تركت أختي قلبها، وهي من أجل ذلك ذاهلة ذهولا متصلا، وهي من أجل ذلك عاجزة عن أن تسمع لنا أو تفهم عنا أو ترد علينا جواب ما نلقي عليها من سؤال، كنت أحسبها محزونة لما تورطت فيه من خطيئة، وما أشك في أنها أحست هذا الحزن، وما أشك في أن الندم قد عذبها تعذيبا، لكني بعد أن أنفقت معها ليلة كاملة وتبينت من أمرها ما تبينت استقبلت الصبح ونفسي تذوب أسى وحسرة على هذه الفتاة التي تنظر وراءها فترى حبا مضيعا، وتنظر أمامها فترى خوفا مروعا، وتود لو استطاعت أن تعود أدراجها إلى حيث الحب وما يمكن أن يستتبع من نعيم أو بؤس، ومن سعادة أو شقاء، ولكنها تدفع إلى أمام، تدفع إلى حيث الخوف والروع، وإلى حيث اليأس والقنوط، تدفع فتندفع، لا تستطيع أن تقاوم ولا أن تظهر شيئا ينم عن مقاومة أو ممانعة، يا لها من قوة هائلة تسيطر على النفوس فتمحو حظها من الشخصية والإرادة محوا، هذه القوة التي يسمونها الحياء ورعاية العرف وما له من حرمات!
أنا أكذب على أختي فأزين لها ما أكره، وهي لا تكذب على أحد ولا تحفل بما تسمع ولا تكذب على نفسها، وإنما أسلمت نفسها للقضاء واستيقنت أن خير ما في حياتها قد انقضى منذ أمرت أمنا بترك المدينة، فلم نخالف من أمرها وإنما استجبنا طائعتين، ولكن مم كانت تخاف؟ وما هذا الروع الذي كانت آياته تبدو على وجهها بين حين وحين، والذي كان يبعث في جسمها من وقت إلى وقت رعدة قوية توشك أن تدفعها إلى الوثوب؟ إن في هذا الغرب الذي ندفع إليه خمودا وخمولا ويأسا وقنوطا، وكل هذا يسوء، وكل هذا يملأ القلب حزنا وأسى! ولكنه لا يروع، ولا يبعث في النفوس هذا الجزع، ولا يثير في الأجسام هذه الرعدة العنيفة المخيفة. كلا! لم تكن مخطئة ولا غالية حين كان الروع يملأ نفسها، فقد كانت تعلم ما لا أعلم، وكانت تقدر ما لا أقدر، وكانت تمر أمامها صور حزينة شاحبة، ممتقعة مذعورة باعثة للذعر، صور فتيات ثلاث لم أسمع بهن قبل هذه الليلة، ولكنهن كن حديث المدينة منذ عام وبعض عام، خرجن من المدينة كما خرجنا نحن، أو أخرجن منها كما أخرجنا نحن، ثم لم يعدن إليها ولم تعد إليها أسرهن، وإنما عادت إليها أحاديثهن، كلها خوف وروع، وكلها يأس وقنوط، وكلها جزع وفزع، وكلها يلونها الدم وقد يساقط منها قطرات.
ما أنت وهذه الخواطر الدامية أيتها الفتاة التعسة؟! إنما ترحلين بين أمك وأختك وخالك إلى قريتك التي ولدت فيها لتعيشي بين قوم أحبوك وأحببتهم، وما زالوا يحبونك ولقد كنت تحبينهم منذ حين، أتذكرين! لقد كنت أكثرنا حديثا عنهم وحنينا إليهم في المدينة كلما التقينا، ما بالك تخافين منهم وتشفقين من لقائهم وإنك لواجدة عندهم من الحماية والأمن ما لا سبيل إليه في حياة الغربة والعمل في هذه البيوت التي لا يعطفها علينا حب ولا ود؟! ولكنها لا تسمع لي أو لا تفهم عني ، وإنما هي مشغولة بما تركت من حب وبما تستقبل من روع، تمر أمامها صور ذلك الشاب الجميل المترف الذي أحبته، وتمر أمامها صور هؤلاء الفتيات خائفة مخيفة مروعة مثيرة للروع، أما هذه التي تسمى أمينة فقد احتز رأسها احتزازا، وأما هذه التي تسمى مارتا فقد شق صدرها شقا، وأما هذه التي تسمى ملزمة فقد يقال إنها دفنت حية ولقيت حتفها مختنقة في التراب. ما الذي ينتظرني من ألوان الموت هذه؟! وأنا أرد عنها هذه الخواطر جاهدة، أتلطف حينا حتى أقبلها وأداعبها، ثم أشتد في التلطف بها حتى أستعطفها بما أسفح من دموع، ثم أعنف وأغلو في العنف وأنذرها بأني سأقص خوفها كله على أمنا وخالنا، وسأستوثق لها منهما أو سأمتنع عليهما فلا أتبعهما ولا أدعها تتبعهما، وسأستجير لنفسي ولها منهما بهذا الرجل الكريم الذي نحن ضيف عنده، ولكنها إذا سمعت مني ذلك ثابت إلى نفسها وردتني إلى الأناة والمهل، وأظهرت التجلد والصبر، وتكلفت ثقة لا تلبث أن تضطرب واطمئنانا لا يلبث أن يزول.
يا لك من ليل طويل بغيض، لم نعرف فيه راحة ولا أمنا ولا هدوءا، وإنما كنا فيه نهب الندم المضني على ما فات، والخوف المهلك مما هو آت، والضيق الشديد بما نحن فيه، والليل يطول ويطول، كأنه يحمل أثقالا لا قبل له بها ولا قدرة له على المسير معها، فهو يزحف زحفا بطيئا أشد البطء، والهم يغشي نفوسنا تغشية، وهذه الخواطر المنكرة تدور في رءوسنا دورانا متصلا يكاد يفنيها، ولكن ما هذا الصوت الذي يشق هذا السكون الذي نحن فيه شقا ويردنا إلى أنفسنا فزعتين جزعتين كأنه أخرجنا من نوم عميق؟ إنه صياح الديك يودع الليل ويؤذن بمقدم الصبح، بماذا تصيح أيها الديك؟ وبماذا تريد أن تنبئنا أو تتنبأ لنا؟ قالت أختي: أتذكرين صاحبة الودع؟ إنها رأتني بين رجلين أحدهما آذاني وسيحبني والآخر أحبني وسيؤذيني، ألم تفهمي عنها شيئا؟ قلت: وماذا تريدين أن أفهم عن هذه العجوز الحمقاء ومن هذا السخف الذي تردده في كل مكان وتقدمه إلى الناس جميعا؟ كل رجل عندها بين امرأتين أو بين نساء، وكل امرأة عندها بين رجلين أو بين رجال. قالت أختي: فإني أرى هذين الرجلين رأي العين وأعرفهما كما أعرفك، وسترينهما وستعرفينهما، وستبغضين أحدهما أشد البغض وستحبين الآخر حبا كثيرا!
وهذا الهواء يضطرب ويضطرب معه صوت المؤذن يدعو إلى الصلاة، والناس يستيقظون ويخرجون من منازلهم أفرادا بين ذاهب إلى المسجد وذاهب إلى الحقل، ونحن نستقبل هذا الصبح الشاحب بنفوس شاحبة وقلوب واجفة ووجوه حائلة، لو استطعنا لأحجمناه، ولكننا ندعى إلى الإقدام ولا نستطيع امتناعا على هذا الدعاء.
هذان الجملان قد هيئا للرحيل، وهذا خالنا قد قام عندهما كأنه الشيطان، وهذه أمنا تدعونا إلى الخروج في رفق، وها نحن أولاء نودع من عرفنا من أهل الدار، ثم تمضي ساعة وساعة وإذا ضوء الضحى يغمرنا في هذا السهل الريفي الجميل الذي تمتد فيه عن يمين وشمال هذه الحقول النضرة ترتاح إليها النفوس والأبصار، ولكن هناك نفوسا لا ترتاح وإنما هي مضطربة دائما، وأبصارا لا تستقر وإنما هي زائغة دائما ... إلى أين يمضي بنا هذان الجملان؟!
الفصل العاشر
إنما يمضيان بنا إلى حيث الأمن والدعة، وإلى حيث العز والمنعة، وإلى حيث نقضي حياتنا كما تعود أمثالنا من فتيات القرية أن يقضين حياتهن هادئات ناعمات، حتى إذا تقدمت بهن السن وأدركتهن ميعة الشباب ونضرته سعى إليهن الأزواج من شباب القرية أو من شباب القرى المجاورة، فأصبحت كل واحدة منهن سيدة في البيت أو سيدة في الخيام، واستقبلت حياة الجد والعمل والكد، وفيها الأبناء والبنات وما يستتبعون من بهجة وقرة عين، ومن شقاء وحزن وأمل وإشفاق، انظري يا ابنتي الكبيرة إلى كل هذا النور الذي يصبه الضحى علينا صبا والذي يغمرنا، والذي نمضي فيه كأنما نخوض لجة البحر. انظري إلى هذا النور الذي يغمرنا ويغمر السهل من حولنا؛ وانظري إلى هذه الحقول تنبسط عن يمين وشمال لا تكاد تنتهي؛ وانظري إلى هؤلاء الرجال والنساء وإلى هؤلاء الفتيان والفتيات وقد ملأهم النشاط، وبعث فيهم الجد حياة لا حد لها، فهم يذهبون ويجيئون وهم يعملون لا يعرفون كلالا ولا سأما، وأصواتهم ترتفع لا بالشكوى ولا بالأنين وإنما ترتفع بهذا الغناء الساذج الحلو الذي يبعث في هذا الجو نغمات ساذجة حلوة، والذي يصور الأمل في غير إسراف، والرضا في غير استكانة، والاطمئنان في غير حزن، وحب العمل على كل حال، والثقة بالله على كل حال أيضا.
انظري يا ابنتي واسمعي، ثم سلي نفسك: أتجدين فيما ترين أو فيما تسمعين ما يثير خوفا أو يبعث روعا أو يدفع إلى يأس؟ كل شيء آمن وكل شيء يدعو إلى الأمن، كل شيء هادئ وكل شيء يدعو إلى الهدوء، إن ظلمة الليل لمنكرة وإنها لتحب الخوف وتثيره، وإنها لتبعث الأشباح من مكامنها، وإنها لتغري القلق بالنفوس وتسلط الهم على القلوب ... لقد كنت يا ابنتي تثيرين في نفسي مثل ما كان يثور في نفسك من الخوف حين كنت تتحدثين إلي وظلمة الليل تغمرنا من كل مكان، فأما الآن وقد انجلت هذه الظلمة وأصبحت لا أمد عيني إلا رأيت، ولا أمد أذني إلا سمعت، فإني لأضحك منك ومن تلك الهواجس التي كانت تروعك، ومن تلك الأشباح الحمراء التي كانت تتراءى لك وتمثل أمامك، وإني لأضحك من نفسي ومن انقيادها لك بعض الشيء وتأثرها بك إلى حد ما، انظري واجتهدي في أن تستحضري الأشباح الحمراء، إنها لا تستطيع أن تظهر ولا تجرؤ على أن تتراءى فضلا عن أن تمثل أمامك أو أن تسايرك. إن الأشباح لا تحب النور ولا تستطيع أن تظهر في وضح النهار، إنما الأشباح والخوف والفزع واليأس بنات الليل، تطمئن إليه ويطمئن إليها، تستظل به ويبسط عليها ظله المظلم الساكن المخيف؛ فإذا ابتسم الصبح وأشرق الضحى واستيقظت الحياة ذابت كل هذه المروعات، وانجابت مع الظلام، فلم يبق لها أثر في نفس ولا سلطان على قلب. انظري إلى هذه الضحى المشرق، وأفيضي بعض إشراقه على نفسك، انظري إلى هذه الحياة التي يملؤها النشاط فأفيضي منها على قلبك، ألست تحسين الحاجة إلى أن ترفعي صوتك بالغناء، كما يتغنى هؤلاء الشباب عن يمين وشمال؟! ثم انظري إلى أمنا وخالنا، إن جملهما ليسعى بهما مرحا شديد النشاط، وإنهما ليتحدثان في هدوء وأمن واستبشار وشيء من الحنان كأنما يذكران أيام صباهما وشبابهما، وكأنما يودان لو رجعت بهما الأيام إلى مثل هذه السن التي نحن فيها. أترين عليهما مظهرا من مظاهر الريبة أو آية من آيات المكر، أو دليلا من دلائل الكيد؟ كلا، إنهما ليمتزجان بما حولهما فإذا هما حياة وأمن وأمل، فلنكن مثلهما حياة وأمنا وأملا.
ويسلك حديثي هذا سبيله إلى قلب أختي كما يسلك النور والحياة سبيلهما إلى نفسها، وإذا هي تطمئن بعض الشيء، لا تبسم للحياة ولكنها لا تسرف في العبوس، إنما هي كآبة ملحة تغشى نفسها ولكنها كآبة هادئة لا تثير روعا ولا جزعا ولا يأسا، والطريق تمضي بنا مستقيمة جميلة يحببها إلى النفوس هذا النور القوي الذي يزداد قوة وصراحة وإلحاحا كلما تقدم النهار، وهذه الحقول الخصبة يملؤها هذا النشاط الخصب وهذا الغناء الحلو يرتفع في الجو، ويمتزج بما يملؤه من الضياء والهواء، ونحن لا نجوز قرية إلا دفعنا إلى قرية أخرى، حتى إذا تقدم النهار وكدنا نبلغ العصر، وكنا قد انتهينا إلى بعض القرى، قال خالنا: لقد آن لنا أن نستريح ساعات، ولست أرى بأسا بأن نستأنف السفر إذا أقبل الليل، فقد أشرفنا على بلادنا وما أرى أن الليل سينتصف حتى نكون قد بلغنا البحر عند بني فلان فإذا أسفر الصبح عبرنا إلى أرضنا ولا يرتفع الضحى حتى نكون قد انتهينا إلى بني وركان.
ثم يعرج بنا على القرية وينيخ بنا عند دار العمدة وننزل من هذه الدار أحسن منزل، وإني لشديدة الرغبة في أن أنفق الليل حيث أنا، وإن أختي لتشاركني في هذه الرغبة، ولكن خالنا قد أزمع المسير مع الليل ولم تراجعه أمنا ولم تمتنع عليه، ولم يستطع مضيفنا أن يثنيه عما اعتزم؟
وبينما كنا نحن نأخذ حظنا من الراحة بعد أن أصبنا مما قدم إلينا من طعام كان خالنا قد خرج من القرية يريد فيما زعم أن يلم ببعض من كان يعرف في قرية مجاورة، فيغيب عنا ساعة وساعة وساعة، ويقبل الليل ويبسط ظلمته بسطا، ونكاد نستيئس من استئناف السفر ونكاد نطمئن إلى البقاء حتى يسفر الصبح.
ولكن هذا خالنا قد أقبل، وهذا صوته الغليظ القاطع يرتفع بالنداء إلى الرحيل، وها نحن أولاء نستجيب لندائه، وهؤلاء أهل الدار ينكرون عليه هذا السفر حين يقيم الناس وهذا الاضطراب حين يسكن الناس، ولكن خالنا إذا عزم أمضى. وما هي إلا ساعة أو نحو ساعة حتى كان الجملان قد دفعا بنا دفعا إلى الطريق العامة وقد أسدل الليل أستاره من حولنا إسدالا، وقد نامت الحياة وخلت الحقول وسكن كل شيء وانقطعت الأصوات، إلا هذه التي تأتينا من بعيد بين حين وحين فتنبهنا، فإذا هي أصوات الكلاب تنبح في القرى البعيدة، وإلا هذه الأصوات اليسيرة الخفيفة المختلفة المتصلة التي تحيط بنا وتمتزج بسكون الليل امتزاجا فتحدث شيئا من الموسيقى الرائعة المروعة معا، وهي أصوات الحشرات والضفادع المنبثة في الحقول وعلى شواطئ الأقنية.
وربما وصل إلينا من حين إلى حين صوت بعيد يأتينا من يمين أو من شمال فننكره ونرتاع له وهو نداء بعض الطير ولعله نداء البوم، وربما ارتفع صوت خالنا ببعض غناء البدو فرجع ترجيعا جميلا مخيفا معا، ولكنه لا يتصل إلا قليلا ثم ينقطع، ويمضي خالنا في حديثه مع أمنا، أو يغرق خالنا وتغرق أمنا في الصمت العميق، وأنا وأختي نسمع لهذا كله ونتحدث في شيء من الهمس الخائف الوجل كأنما نفر من شيء نخافه أو نقدم على شيء نخشاه، ومن يدري، لعلنا كنا ننتظر ظهور الأشباح الحمراء، ونشفق من أن تتراءى لنا وتمثل أمامنا وتكرهنا على أن نتحدث إليها أو نتحدث عنها؛ والجملان يسعيان بنا سعيا فيه إسراع ولكنه إسراع لا يكاد يحس، وكأنهما مثلنا يفران من بعض ما يكرهان فهما يجدان في السعي! وسكون الليل يثقل شيئا فشيئا، وظلمة الليل تزداد كثافة من حين إلى حين، ونفوسنا تريد أن تهيم في هذا السكون وتختلط بهذه الظلمة وتود لو احتواها النوم، ولكن أنى لها أن تهيم في سكون الليل وهي مضطربة، وأنى لها أن تختلط بظلمة الليل وفي جنباتها هذه الأنوار الضئيلة الشاحبة أنوار التفكير في غد والتذكر لأمس، والرؤية فيما نحن فيه؟! وأنى لها أن تنام وهذه بنات الليل قد أخذت تظهر شيئا فشيئا وتدنو منا قليلا قليلا، وتثير فينا هذا الإشفاق البغيض الذي لا يستطيع أن يكون أمنا ولا يبلغ أن يكون خوفا صريحا، وإنما هو قلق خفي ماكر يفسد من حوله كل شيء؟! ونحن نريد أن نقاوم بنات الليل هذه فنغمض أبصارنا حتى لا نراها ونسد آذاننا حتى لا نحس قربها منا! والجملان يسعيان في جد ونشاط لا يكاد يأخذ منهما الفتور، ثم يرتفع صوت خالنا غليظا مخيفا، كله شر وكله نكر وكله نذير: هنا يجب أن ننزل، وما هي إلا أن يناخ الجملان ولم تستطع واحدة منا أن تقول حرفا أو أن تنطق بكلمة أو أن تفكر في شيء، وإنما هو ذهول غريب كثيف قد أطبق علينا وملأ نفوسنا كما أطبقت علينا وملأت نفوسنا ظلمة الليل. وهذا خالنا قائم كالشيطان، وهو يأمرنا في غلظة وعنف أن ننزل فلن يمضي الجملان أمامها قيد أصبع.
وها نحن أولاء ننزل مضطربات، ونسعى متعثرات، وهذه أمنا تريد أن تسأل فيم إناخة الجملين، وفيم النزول في غير منزل، وها أنا هذه أريد أن أقول شيئا ولكني لا أكاد أدير لساني في فمي، ولا أكاد أستوعب ما كانت أمنا تقول؛ إنما هي صيحة منكرة مروعة تنبعث في الجو، وجسم ثقيل متهالك يسقط على الأرض، وإذا أختي قد صرعت، وإذا خالنا هو الذي صرعها لأنه أغمد خنجره في صدرها، ونحن عاكفتان على هذا الجسم الصريع يضطرب ويتخبط ويتفجر منه الدم في قوة كما يتفجر الماء من الينبوع، ونحن عاكفتان في ذهول وغفلة وبله، لم نفهم شيئا ولم نقدر شيئا ولم ننتظر شيئا، وإنما أخذنا على غرة أخذا واختطفت هنادي من بيننا اختطافا، وجسمها يضطرب ويتخبط ودمها ينفجر ولسانها يضطرب ببعض الحديث في فمها، ثم يهدأ الجسم المضطرب، ويسكن اللسان المتحرك، ويخف تفجر الدم، ويمتلئ الجو حولنا بهذا السكون الأليم سكون الموت، ونحن فيما نحن فيه من ذهول وغفلة وبله، وخالنا قائم أمامنا كالشيطان إلا أنه قد أخذه الذهول كما أخذنا ...
وهذا نداؤك أيها الطائر العزيز يبلغني من بعيد، وهذا صوتك يدنو إلي قليلا قليلا، وهذا غناؤك ينتشر في الجو كأنه النور المشرق قد أظهر لنا ما كان يغمرنا من الهول دون أن نراه، وها أنت ذا تبعث صيحاتك يتلو بعضها بعضا، كأنما هي سهام من نور قد تلاحقت مسرعة في هذه الظلمة فطردت عن نفسي ذهولها وجلت عنها غفلتها وأيقظتها من هذا البله، وجلت لها الجريمة منكرة بشعة، والمجرم آثما بغيضا، والضحية صريعة مضرجة بالدماء ...
إن صوتك لم يوقظني وحدي وإنما أيقظ أمنا فها هي هذه تفيق وها هي هذه تسأل أخاها: أوفعلتها يا ناصر؟! وها هي هذه تغرق في بكائها السخيف بكاء الأنثى المستسلمة التي لا تملك حولا ولا طولا إلا سفح الدموع. ويلك أيتها البائسة! إنك لتستطيعين أن تسفحي دموعك إلى آخر الدهر فلن تغسلي قطرة من هذا الدم الذكي، ويلك أيتها الأم الآثمة! إنك لن تستطيعي أن تردي نفسك إلى البراءة والأمن.
نعم! إن صوتك أيها الطائر العزيز قد أيقظني وأيقظ هذه الأم المجرمة التي سفكت دم ابنتها بيد أخيها، وأيقظ هذا المجرم فنبهه إلى أن جريمته يجب أن تخفى، وإلى أن آثار إثمه يجب أن تزول. ولكنه لم يوقظ هنادي وما كان ينبغي له أن يوقظها لأن صوتك مهما يقو ومهما يلح فلن يستطيع أن ينفذ من أستار الموت. إنك لترسل صيحاتك متصلة متلاحقة وإني لأنشط مثلك للصياح، وإن صوتينا ليملآن الفضاء العريض لا يصرفان هذا الرجل عما هو مقبل عليه من إخفاء هذا الجسم في هذه الحفرة التي لم يفارقنا آخر النهار إلا ليهيئها.
لقد تمت الجريمة وبلغ الكتاب أجله، واستنفدت هنادي حظها من الحياة، وماتت لأن شابا آثما أغواها ولأنها لم تحسن أن تدفع عن نفسها غوايته.
إن صوتك لينبعث في الفضاء مستغيثا وليس من يغيث، وإن صوتي لينبعث في الفضاء داعيا وليس من يجيب، وإن هذا الرجل المجرم ليفرغ من إخفاء جريمته ومحو آثارها ثم يلتفت إلى هذه المرأة وإلي ويقول في صوت متهدج فيه الرعب وفيه الخوف وفيه النذير: هلم فقد آن أن نرتحل، فإذا أبطأنا عليه ردد هذه الكلمات في صوت أشد ترويعا وأكثر امتلاء بالنذير، ثم يمثل أمامنا ويقول: تعلمان والله أن هنادي ذهبت مع من ذهب من أهل المدينة بهذا الوباء الذي ألم بها منذ أسابيع!
أما أنا فقد انقطع عني صوتك أيها الطائر العزيز قليلا قليلا، وانقطع عني صوت خالي، ثم انقطعت عني الأشياء كلها أو انسللت من الأشياء كلها، وإني لأراني أمرض في بيت خشن حقير.
الفصل الحادي عشر
متى بلغت هذا البيت؟ وكيف بلغته؟ وأي طريق سلكت إليه؟ وكم من يوم أو كم من أسبوع لبثت فيه؟ وكم من يوم أو من أسبوع احتملت أثقال هذا المرض الذي أخذت غمراته تنجلي عني لحظات في كل يوم ثم لا تلبث أن تتابع وتتراكم ويركب بعضها بعضا وتأخذني من كل وجه فأجهل نفسي وأجهل من حولي: كل شيء وكل إنسان، ولا أحس ولا أرى حين أغرق فيها وحين أخرج منها إلا هذه الصورة المنكرة البشعة التي لا أذكرها قط إلا جرت في جسمي رعدة عنيفة مؤلمة وأخذ نفسي اضطراب لا حد له؟
أسئلة ألقيتها على نفسي ألف مرة ومرة، وسألقيها على نفسي ألف مرة ومرة، فلم أظفر ولن أظفر لها بجواب، وإنما أذكر صوتك أيها الطائر العزيز وهو ينحف في أذني، ويفنى قليلا قليلا كأنه صوت المودع يبلغ المسافر والقطار يبعد به عنه شيئا فشيئا، إنما أذكر ذلك الصوت البشع المجرم صوت خالنا الآثم وهو يتهدج ويبعد عني شيئا فشيئا في ثقل وبغض واشمئزاز.
إنما أرى قطعة من الليل تسعى إلي سعيا هادئا أول الأمر ولكنها تسرع شيئا فشيئا، وهذه الظلمات تتكاثف من حولي كأنها الأمواج العظام، وهذه الأصوات تنقطع وتبعد، وهأنا هذه يغمرني الموج وأدخل في الليل فلا أحس شيئا ولا أرى شيئا ولا أشعر بشيء، يا له من نوم عميق طويل! إن الأحلام قد ألحت عليه، فهي تروعني فيه ترويعا متصلا ليس إلى انقطاعه من سبيل.
أكنت نائمة؟ أكنت مستيقظة؟ أكنت مريضة؟ أكنت صحيحة؟ أكنت عاقلة؟ أكنت ذاهلة؟ لا أدري؛ إنما أعلم أني كنت شاعرة شعورا غامضا ولكنه قوي ملح كأني قد أقمت إلى ينبوع يتفجر أمامي من الأرض في مكان رحب، بعيد الآفاق لا يقوم فيه شيء، ولا تقع العين فيه إلا على هذا الينبوع وعلى ظل مقيم عنده لا يريم، وعلى ظلال أخرى تجيء كأنما أقبلت تزور هذا الظل، فهي تلم به حينا وكأنما تناجيه وكأنه يسمع منها وكأنه يرد عليها، وكأني أسمع نجوى هذه الظلال ولكني لا أحقق ما أسمع، وكأني أفهم نجوى هذه الظلال ولكني لا أتبين ما أفهم ... وأنا جامدة هامدة لا أحس ولا أرى إلا هذا الينبوع الذي يتفجر في غير انقطاع، وهذا الظل الذي لا يتحول عنه، وهذه الظلال التي تغشاه بين حين وحين. يا له من ينبوع كريه أود لو أحول عيني عنه، ولكن حمرته تجتذب عيني إليه اجتذابا! إنه لينبوع غزير، ولكنه لا يتفجر منه الماء، وإنما تتفجر منه الدماء، يا له من ظل حزين كئيب شاحب مسرف في الشحوب أحاول أن أغمض عيني وأن أغلق نفسي فلا أحس له محضرا، ولكن شحوبه يستهوي نفسي ولكن حزنه يمزق قلبي، ولكن انحناءه على هذا الينبوع يملؤني لوعة وروعة وابتئاسا! يا لها من ظلال تذهب وتجيء هادئة لا تكاد تشعر ولكن في حركاتها ما يملأ النفس جزعا وهلعا! ما لي لا أثبت عيني في هذا الظل المقيم، وما لي لا أثبت عيني في هذه الظلال المضطربة التي تذهب وتجيء؟ أنائمة أنا أم مستيقظة؟ أعاقلة أنا أم ذاهلة؟ ألست أتبين في هذا الظل المقيم ملامح أختي، فما لها إذن لا تكلمني ...؟ وما لها إذن لا تدعوني ...؟ وما لها إذن لا تناجيني؟ لقد عرفتها محبة لي، واثقة بي، مطمئنة إلي، فما لها لا تظهر لي شيئا من هذا الحب، ولا تبدي لي شيئا من هذه الثقة، ولا تبين لي عن شيء من هذا الاطمئنان؟ إنما هي مكبة على هذا الينبوع تنظر فيه كما تنظر الفتاة الجميلة في المرآة، عم تبحث في هذا الينبوع؟ أتراها تلتمس صورتها في هذا الدم المتدفق؟ وما لها لا تكلمني، أليست تراني؟ ما لها لا تجيبني، أليست تسمعني؟ ما لها لا ترق لي ولا تعطف علي؟ أليست تسمع هذا النداء الذي ينبعث من فمي باسمها في صيحات قوية عنيفة متلاحقة؟! إني لأسمع هذه الصيحات ولكني لا أرى من أختي أنها تسمعها، وكأن هذه الصيحات تخيفها وتزعجها! فهذا ظلها يستخفي وتستخفي معه الظلال الأخرى، ويستخفي معها الينبوع الأحمر، وهؤلاء أشخاص آخرون يسرعون إلي ويدنون مني ويستجيبون لي، فلا أكاد أنظر إليهم حتى أتبينهم، ثم أخافهم، ثم أبغضهم، ثم أتقي محضرهم بالصمت والهدوء ... إنهم أهل الدار قد سمعوا صياحي فأقبلوا يرفقون بي ويسألونني عما أجد.
إنهم أهل الدار، وما أشد بغضي لأهل الدار، إني لأرى بينهم أمي وإني لأكره أن أرى أمي، كلا! لأكف عن هذا الصياح لعل أهل الدار أن ينصرفوا عني فيجنبوني محضرهم الكريه؛ إني لآخذ نفسي بالصمت، وأكره نفسي على الهدوء، وما هي إلا لحظات صامتة هادئة حتى يسدل ستار ويرفع ستار، وهذا الينبوع الأحمر يتفجر من الأرض قويا غزيرا، وهذا ظل أختي ماكثا لا يريم، وهذه الظلال تذهب من حوله وتجيء، إن لي بهذه الظلال لعهدا، لقد رأيتها ولقد سمعت عنها حديثا، لقد حدثتني عنها أختي في تلك الليلة التي قضيناها مروعتين حين أقبل خالنا يدعونا إلى سفره الآثم.
نعم إن لي بهذه الظلال الحمراء ظلال مارتا وأمينة وملزمة تلك التي كانت تتراءى لنا فتملأ قلب أختي فرقا وهلعا وروعا ... إن لي بهذه الظلال لعهدا، وإني لأعرفها، وإني لأفهم الآن إلحاحها بالزيارة على هذا الظل المقيم، لقد أقبلت تحييه وتواسيه وتبثه ما وجدت من ألم وحزن، وتسمع منه ما وجد من شقاء وبؤس. إن نجوى الظلال لغريبة ... ليتني استطعت أن أفهمها، ليتني استطعت أن أستحيل ظلا فأفهم حديث الظلال! ما بال أختي لا تناجيني، أتراها لا تحس محضري، أم تراها لا تعرف كيف تتحدث إلي أو تفهم عني؟ أتتغير لغة الناس إذا ماتوا؟! لقد حدثونا أن للموتى حديثا يلقونه إلى الأحياء فيفهمه عنهم الأحياء ...
إني لأعرف هذه الظلال، لقد كنت في ضلال إذن حين كنت أزعم لأختي في بعض الطريق أن الأشباح بنات الليل، وأنها تكره ضوء النهار ولا تستطيع أن تظهر فيه؛ والظلال ملحة في المثول أمامي لا يصرفها عني مطلع النهار ولا يصرفها عني مقدم الليل، إن الظلال إذن لا تهاب نورا ولا تألف ظلمة، ولعلها لا تعرف نورا ولا ظلمة وإنما نحن يغشينا ضوء النهار فلا نرى الظلال التي تحيط بنا وتضطرب من حولنا وترى كل ما نأتي وتسمع كل ما نقول، ولعلها ترثي لنا، ولعلها تسخر منا، ولعلها لا تفهم عنا شيئا كما أننا لا نفهم عنها شيئا، يا للهول إن تدفق الينبوع ليشتد، وإن الدم لينتشر من حوله انتشارا، وإن الحمرة لتصبغ كل شيء من حولي، وإن هذه الظلال لتدنو مني كأنها قد عرفتني وكأنها تريد أن تقبلني! يا للهول، إن الروع ليملأ قلبي، وإن الصياح ليتفجر من فمي فيملأ الجو من حولي كما ينفجر الدم من الينبوع فيصبغ الأرض بحمرته، وإن أهل الدار ليقبلون علي، منهم الجزع، ومنهم المطمئن، وهم يرفقون بي ويعطفون علي ...!
وهذه أمي، يا للهول! ما أسمج هذا الوجه وما أقبح هذه الصورة وما أشد بغضي لهذا المحضر! إنها لتدنو مني وإن الدم ليجمد في عروقي لمقدمها، إنها لتضع على رأسي خرقة مبللة وإني لأجد لبرد الماء شيئا من الراحة، ولكن لينصرف عني هذا الوجه فإني أكره أن أراه، لترد عني هذه المرأة فإني لأخشى أن تقتلني ... وكيف أخلص منها وكيف آمن محضرها إلا إذا آويت إلى الصمت ولجأت إلى الهدوء؟ إنه لعذاب أليم هذه الحياة بين الينبوع الأحمر والظلال المطيفة به إن آثرت الهدوء، وبين أهل الدار وهذه المرأة البغيضة إن آثرت الصياح، أليس لي سبيل إلى الراحة من هذا العناء؟ ما أكثر ما طلبت وألححت في طلبها، وما أكثر ما فرت مني وامتنعت علي، وما أكثر ما خيل إلي أني أجري في إثر شيء أتمناه أشد التمني وأحرص عليه أعظم الحرص وأجد في طلبه كل الجد، حتى إذا بلغته أو كدت أبلغه كانت منه وثبة فإذا المسافة بيني وبينه واسعة وإذا الأمد بينه وبيني بعيد، وإذا أنا معذبة أشد العذاب بالاضطراب الملح المضني بين وجوه أهل الدار التي أكرهها، وهذه الظلال التي يؤذيني منظرها ويثير في نفسي ألما لا آخر له ...
ولكنني أستقبل النهار ذات يوم هادئة النفس مستريحة الجسم، قد ألح الضعف علي فما أكاد أتحرك، على أني أجد في هذا الضعف نفسه دعة وأمنا فأستعذبه وأستلذه وأستسلم له استسلاما، وأجد في نفسي دهشا لذيذا حلوا لأني أفتقد شيئا كنت أخاف أن أجده، أفتقده افتقاد السعيد بالنجاة من شر يخشاه، فقد يخيل إلي أن قد بعد العهد بيني وبين الظلال والينبوع ووجوه أهل الدار، وأني قد قضيت وقتا غير قصير لم أر حمرة الينبوع، ولم أشهد اضطراب الظلال، ولم يرتفع صوتي بالصياح ولم يسرع إلي أهل الدار، ثم لا أكاد أتمثل هذا كله حتى أجتهد ما استطعت في أن أذود هذه الخواطر عن نفسي مخافة أن يطول تفكيري فيها فيكون ذلك استحضارا لما أتمثله من الهول، ودعاء لما أجد من السعادة في الإفلات منه، ورفعا للستار عن الينبوع الذي منه يتفجر الدم والذي تطيف به الظلال. فأنا أذود هذه الخواطر عن نفسي، وأستسلم لهذا الضعف الذي أجده، وأود لو بقيت كما أنا هامدة خامدة لا أقدر على شيء حتى على التفكير، ولكن هذه هي أمي تدنو مني وعلى وجهها الكئيب شيء من آيات الرضا، وهي تقول لي في هذا الصوت الذي يخيل إلي أني لم أسمعه منذ زمن بعيد: لقد نمت الليلة كلها يا آمنة، فأنت بارئة، وما أرى إلا أنك ستسرعين نحو الشفاء. ليتها لم تقبل علي، وليتها لم تدن مني، وليتها لم تتحدث إلي! فقد اقشعر لقربها بدني كله، واضطربت نفسي كلها، وأخذت غشاوة غريبة تلقى على عيني، وأخذت الأشياء تضطرب من حولي اضطرابا، وآذاني هذا كله أشد الإيذاء حتى كدت أصيح لولا أني حبست صيحتي في حلقي ولكن لم أستطع أن أمسك يدي وأن أمنعهما عن أن ترتفعا إلى عيني لتردا عنهما منظر هذه الأشياء الراقصة، وظنت الأم البائسة أني أتقيها فولت باكية، ووجدت في انصرافها عني سرورا وراحة ورضا.
ولا بد مما ليس منه بد، فلم يكن سبيل إلى أن تمتنع أمي عن عيادتي والعناية بي، ولم يكن سبيل إلى أن أرفض لقاءها وأخلص من محضرها، ولم يكن بد من أن تنظر إلي وأنظر إليها ومن أن تتحدث إلي وأسمع منها وأرد عليها رجع الحديث؛ ولم يكن ذلك دون أن يثير في نفسي من الموجدة والغيظ ما كان يردني أحيانا إلى بعض ما كنت فيه؛ ولم يكن ذلك دون أن يثير في نفس هذه المرأة البائسة آلاما وشقاء إلى شقاء فترسل عبراتها حينا وتنهداتها حينا آخر، وربما أثار في نفسها غضبا تجتهد في حبسه أن ينفجر. وأنا أدنو إلى البرء وأستزيد من القوة وأسترد النشاط قليلا قليلا، وآتي بعض الحركات اليسيرة فأجلس وقد كنت لا أستطيع الانتقال، ثم تثوب الحياة إلي في قوة كأنما كان بينها وبيني سد، فلما أزيل أخذت تغمرني من كل وجه، وإذا أنا أنهض وأسعى، وإذا أنا أسترد حظا من القوة غير قليل وأجد رغبة في كل شيء إلا في الحديث. وأمي تدور حولي وتتلطف لي وتغلو في العناية بي، وتود لو تجد إلى نفسي سبيلا، وتنفق جهودا مثيرة للرثاء تريد بها أن تصل أسباب الحديث بينها وبيني، ولكنها لا تصل مما تريد إلى شيء، وقد ألقي بين نفسها ونفسي سور صفيق فهما لا تلتقيان. ومع ذلك فإن خاطرا من الخواطر كان يتردد في نفسي ترددا لا يكاد ينقطع، وكنت أدافعه دفاعا متصلا؛ لأني كنت أجد في اضطراب نفسي به ألما فيه الخوف والرعب وفيه البغض والحقد، فقد كنت أسأل نفسي وأريد أن أسأل أمي أو أن أسأل بعض من حولي عن خالنا ذلك الشيطان الآثم المريد: أين هو وأين استقرت به الدار؟ فما أذكر أن صورته البغيضة تمثلت لي فيما كان يتمثل لي من الصور أثناء العلة، وما أذكر أني سمعت له ذكرا أو عرفت من أمره خبرا منذ أخذ البرء يسعي إلي ويدب في أعضائي، وما أذكر أن أحدا من أهل الدار قد أشار إليه أو ألم بالحديث عنه منذ أخذت أخالط أهل الدار وأشترك معهم في بعض شئون الحياة، وكنت مع ذلك أريد أن أعرف من أمره بعض الشيء، أو أكره أن أعرف من أمره بعض الشيء، أحي هو أم ميت؟ أأفلت بجريمته أم أخذه السلطان؟ أمقيم هو في القرية أم ذهب في الأرض يلتمس مأمنه بعد الإثم وراء هضبة من هذه الهضاب؟
ما أكثر ما ترددت في نفسي هذه الأسئلة وما أكثر ما جاش بها صدري وما أكثر ما هم لساني أن ينطق بها، ولكني كنت أحبسها في ضميري حبسا خوفا منها وبغضا لهذا الرجل الأثيم، على أني لم أستطع ذات صباح أن أملك من أمري ما تعودت أن أملكه فسألت أمي وقد خلوت إليها، سألتها وأنا أكاد ألوي وجهي عنها: أين هو؟ وما أسرع ما فهمت عني، وما أسرع ما أجابتني وهي تشير إلي بالصمت: لقد ذهب إلى الواحات فيمن ذهب. قالت ذلك وانهمرت دموعها غزيرة سخينة، ولكن بكاءها لم يدع بكائي، وحزنها لم يثر حزني فقد كان بين نفسها وبيني سور صفيق. لقد ذهب إلى الواحات فيمن ذهب ... فلم يأخذه السلطان إذن ولم يهرب ملتمسا مأمنه وراء هضبة من هذه الهضاب، وإنما ذهب إلى الواحات فيمن ذهب من أهل القرية ومن أهل القرى المجاورة يحملون إلى أهلها ثمرات الريف ويحملون إلى أهل الريف ثمرات الواحات. لقد ذهب إلى الواحات فيمن ذهب وكانت نفسه هادئة وكان ضميره مطمئنا، وكان قد نسي إثمه نسيانا، وكان قد انجلى عنه هذا الذهول الذي غشيه بعد أن سوى الأرض على ضحيته.
ولم تتمثل له هذه الصور المروعة التي تتمثل لي، ولم تنهكه هذه الحمى التي أنهكتني، وإنما ذهب إلى الواحات فيمن ذهب يبيع ويشتري، ويتحدث مع رفاقه إذا لهوا، كأنه لم يأت شيئا ولم يقترف إثما ولم يسفك دم ابنة أخته بيده ...
ذهب إلى الواحات فيمن ذهب، وسيعود من الواحات فيمن يعود، يحمل وجهه البغيض ونفسه المجرمة وضميره الآثم، ويحمل مع هذا كله تجارة قد ترتضيه وقد ترتضي أهل هذه الدار، وسيلقونه مغتبطين بلقائه وسيلقاهم سعيدا بالعودة إليهم لا يحس ألما ولا ندما، وسيرتفع صياح الفرح لمقدمه في هذه الدار، وسيرتفع صياح الفرح في القرية كلها لمقدم العائدين معه من أهل القرية، وسيقضي الناس هنا أياما كلها أعياد يملؤها السرور والحبور. أما أنت أيتها الأخت التعسة البائسة فلن يذكرك في هذه الدار أحد إلا هذه المرأة التي لا تستطيع أن تذكرك إلا سرا بينها وبين نفسها، وإلا هذه الفتاة التي لا تكاد تفكر فيك حتى يتراءى لها الينبوع الأحمر والظلال المطيفة به في ذلك الفضاء العريض فتشفق من الجنون ...!
ذهب إلى الواحات فيمن ذهب وسيعود من الواحات فيمن يعود ... حرام علي أن أراه، وحرام علي أن أشهد ما سيثير مقدمه من الفرح والابتهاج، إني لعاجزة عن لقائه، وإني لخليقة إن لقيته أن أفضح من أمره ومن أمرنا ما يريد أن يكون سرا. أليست هنادي قد ذهبت مع من ذهب من أهل المدينة بذلك الوباء؟!
وأشرقت الشمس ذات يوم على أهل الدار وارتفع الضحى، وافتقد أهل الدار آمنة فلم يجدوها، ولو أنهم افتقدوها في القرية كلها لما وجدوها فقد كانت آمنة في بعض الطريق قد عبرت البحر مصوبة نحو الشرق ...
الفصل الثاني عشر
وإني لأراها في طريقها نحو الشرق فيمتلئ قلبي رحمة لها وإعجابا بها وخوفا عليها. وأي قلب لا يرحم فتاة غرة لم تكد تتجاوز سن الصبا وقد قذفت بها الأحداث في لجة الحياة الممتلئة بالخطوب والأهوال، وهي وحيدة ليس لها عون، قد صفرت يدها من كل شيء، وفرغ قلبها إلا من هذا الحزن اللاذع الذي يفعمه إفعاما، وعجزت نفسها حتى عن الأمل، فهي قد فرت من بيت أسرتها فرارا، لا تريد شيئا إلا أن تخلص من هذه البيئة التي لم تكن تستطيع فيها مقاما، وتفلت من هذا الشيطان المريد الذي كانت توشك أن تلقاه إن أقامت أياما.
وأي قلب لا يعجب بهذه الفتاة الغرة التي لم تكد تتجاوز الصبا، والتي فرت من أهلها فهي تسعى لا تلوي على شيء، نحيلة هزيلة بائسة كئيبة لا تدري أين ينتهي بها المسير، ولا تعرف كيف يتاح لها القوت، بل لا تفكر في شيء من هذا، وإنما تمضي أمامها مسرعة في المضي يدفعها عزم لا يعرف الكلال، وبغض للشر لا هوادة فيه، وثقة بالعدل لا حد لها.
وأي قلب لا يخاف على فتاة غرة لم تتجاوز الصبا تسعى وحدها في الطريق العامة إلى غير غاية، وقد صحبها الفقر والحاجة والضعف وحداثة السن وشيء من جمال يغري بها كل غوي، ويطمع فيها كل مفسد، وما أكثر الغواة والمفسدين في هذه الطريق العامة التي تستقيم وتلتوي بين قرى الريف!
لك الله أيتها الفتاة الناشئة! إلى أين تذهبين؟ ألم تفكري في هذه الكوارث والخطوب التي تضمرها الحياة للضعفاء والبائسين، وللضعيفات والبائسات خاصة، وتتكشف عنها شيئا فشيئا فإذا هي مصدر خصب للشر والضر، وينبوع غزير للسيئات والآثام؟ ألم تفكري في هذه الأقاصيص التي كان يمتلئ بها صباك والتي كانت تسلي نهارك وتروع ليلك، والتي كانت تمتلئ بأحاديث الأغوال وقد تفرقوا على الطريق يعترضون المار حين يمر بهم وقد انقطعت به السبيل فإذا هم يضمرون له الهول كل الهول، ويسرون له البغض كل البغض، وإذا هم لا يكادون يتنسمون ريحه وقد أقبل من بعيد حتى يتحلب ريقهم قرما إلى لحمه وعظمه، وحتى تضطرم في أجوافهم غلة لا يرويها إلا دمه، وهو يبلغهم خائفا وجلا قد ملأ الجزع قلبه وفرق الهلع نفسه، فإن كان قد حفظ الوصية ووعى النصيحة واستعد للقاء الغول ابتدره بالسلام فقلم أظفاره واضطره إلى السلم والموادعة، وإن لم يكن قد حفظ ولا وعى ولا هيأ نفسه للقاء الخطوب مر بالغول فالتقمه التقاما والتهمه التهاما، وقطع الوسائل بينه وبين من ترك وراءه ومن كان يمضي للقائهم أمامه ...؟
ماذا أعددت يا آمنة لهؤلاء الأغوال فإنهم منبثون في الطريق؟ ليسوا سبعة كما كانت تتحدث إليك القصص ولكنهم سبعون، بل أكثر من سبعين، بل مائة، بل مئات قد انتثروا في الطريق، منهم من جلس ينتظر الفريسة، ومنهم من مضى يبتغيها، منهم من برز ضاحيا ومنهم من استخفى في الحقول واختبأ في المزارع، منهم من يظهر مظهر الغول كريها مخيفا لا يكاد تبلغه العين حتى يمتلئ القلب منه فرقا وحتى تندفع الغريزة إلى اتقائه ومحاولة اجتنابه والخلاص منه، ومنهم من يظهر مظهر الوديع أو الشاب الرفيق تبلغه العين فيطمئن إليه القلب، وتأنس إليه النفس بعد وحشتها، ثم لا يجد منه اللاجئ إليه إلا غدرا ولا يظفر عنده الواثق به إلا بالشر والنكر والبوار. منهم من اتخذ زي الرجل، ومنهم من اتخذ زي المرأة، وكلهم غول قد هيأته الأحداث لأمثالك من الفتيات الضعيفات البائسات اللاتي نبذتهن الأسرة أو اجتثتهن الخطوب من أصولهن فهن مشردات يستقبلن الحياة جاهلات بها غافلات عنها، والحياة تلعب بهن، تقذفهن من مكان إلى مكان، وتنقلهن من شر إلى شر، حتى ينتهي بهن القضاء إلى الغول الظاهر أو إلى الغول المتنكر، فإذا هن فريسة لهذا أو لذاك، يلقين العار والخزي، ويلقين البؤس والضيم، ويلقين المرض والشقاء، ويلقين الألم دائما، وقد يلقين الموت أحيانا ...؟!
لم تفكر آمنة في شيء من هذا حين انطلقت مع الصباح من بيت أسرتها كما ينطلق السهم، ومضت أمامها مندفعة لا تحس جهدا ولا مشقة، بل لا تحس حركة ولا نشاطا، بل لا تشعر بأنها تمضي كما يمضي السهم لأنها لم تكن تفكر إلا في سجن قد أفلتت منه وهي تريد أن تبعد عنه، وفي حرية قد دفعت إليها وهي تريد أن تنغمس فيها انغماسا.
فهي تمضي وتمضي لا تقف ولا تلتفت عن يمين ولا شمال ولا تلتفت إلى وراء، كأنها بطل من أبطال هذه القصص التي تتحدث بها الجدات والأمهات، قد مضى لغايته ووعى نصيحة الناصح، فهو لا يلتفت مخافة أن يدركه البوار إن حول وجهه عن طريقه المستقيمة أمامه، والفتاة تسعى مسرعة تستقبل بوجهها المشرق الكئيب وجسمها الضئيل النشيط ضوء الشمس ونسيم الصبح واستيقاظ الحياة والأحياء، وما تزال كذلك حتى يغمرها الضحى وحتى تغمرها الحياة التي تشطت من حولها، وإنما هي مضطرة بحكم الغريزة وبحكم هذا الإعياء الذي أخذ يدرك جسمها الضعيف شيئا فشيئا إلى أن تمضي مبطئة وتسعى هونا، ولا يكاد ينتصف النهار حتى تبلغ البحر وحتى تعبره، ولا يكاد يتقدم النهار نحو العصر حتى تكون قد بلغت مأمنها وأفلتت من طلب الطالبين وانتهت إلى قرية من القرى فمالت إليها تريد أن تبلغ عند أهلها حظا من راحة وشيئا من طعام وأن تنفق عندهم الليل.
نعم إني لأراني في هذه الطريق وحيدة شريدة لا أملك إلا نفسي الضعيفة البائسة، وإلا جسمي النحيل الضئيل، وإلا ثيابا بالية أو كالبالية، وأنا مع ذلك لا أحفل بما تركت ولا بمن تركت، ولا أسأل عما أنا مقدمة عليه من الأمر، ولا عمن أنا مقبلة عليهم من الناس، إنما هو الهيام في الأرض والسكر بهذا الشراب الخطر الذي نسميه حب الحرية والذي يكلفنا أحيانا من أمرنا شططا. أكنت خائفة ...؟ أكنت آمنة ...؟ لا أدري! وإنما كنت أشعر بالأمرين جميعا يتعاقبان على قلبي كما يتعاقب الليل والنهار على الأرض وما عليها.
كنت أطمئن إلى أني لن أرى أمي ولن أسمع صوتها، ولن أرى أهل الدار وأشاركهم في شيء، ولن ألقى ذلك الرجل المجرم ذا النفس الفاجرة والقلب الغليظ، ولن أخضع لغلظته ولن أحتمل تقربه إلي وترضيه لي، فيمتلئ قلبي أمنا وهدوءا وتبسم لي الحياة عن أجمل الصور وأحفلها بالأماني والآمال، وأجد في ذلك قوة وشجاعة وصبرا، فأمضي لا يدركني الإعياء ولا ينالني الكلال. ثم كنت أذكر أختي ولا سيما بعد أن عبرت البحر وأخذت الطريق تختلط علي، وأخذت أحاول أن أتعرف أين انحرف بنا خالنا المجرم عن الجادة إلى ذلك الفضاء العريض الذي اقترف إثمه فيه.
كنت أذكر أختي فما أكاد أثير ذكرها حتى يثور ظلها أمامي، وإذا أنا أراها ماثلة ذاهلة كما تعودت أن أراها منذ تركنا المدينة، وإذا أنا أهم أن أسعى إليها وأن أمسها بيدي وأن آخذ معها في الحديث، وإذا أنا أتنبه للخطب وأتبين الحقيقة الواقعة، وإذا ينابيع الحزن تنفجر في قلبي وإذا الحزن يجري مع دمي، وإذا جسمي كله نار مضطرمة ولوعة محرقة، وإذا دموعي تنهمر على خدي، وإذا أنا مضطرة إلى أن أنتبذ ناحية من الطريق لأبكي على مهل على غير مرأى من الناس.
ثم أنهض مستأنفة للسعي، وإذا أختي تسايرني، وإذا الظلال التي كنت أراها أثناء العلة تطيف بها وتطيف بي، وإذا ظلال أخرى تملأ الفضاء من حولي لا أدري أنجمت من الأرض أم هبطت من السماء، ولكني أراها تكثر وتختلط وأسمعها من حولي تصخب وتلغط حتى أخاف على نفسي الجنون.
أنا على ذلك كله ماضية تتقاذفني القرى وتتدافعني الضياع، أستضيف هؤلاء حينا وأسأل هؤلاء حينا آخر، أعمل في الحقول مرة وأعمل في البيوت مرة أخرى، وهذان اللونان من الشعور يختلفان على قلبي ويتعاقبان على نفسي لا يمهلانني في اليقظة ولا يعفيانني في النوم، أنا مضطربة دائما بين أهلي الذين فررت منهم فرارا، وبين أختي وصاحباتها اللاتي يستجبن لي كلما ذكرتهن كأنما يسمعن دعاء فيسرعن إلى الداعي. وأنا ماضية أمامي أتقدم نحو الشرق من يوم إلى يوم، ولي من غير شك غاية أعرفها وأسعى إليها، ولكني لا أكاد أتمثلها ولا أستحضرها، وإنما أنا أطلبها غير شاعرة بها كأنما تدفعني إليها الغريزة دفعا.
أنا ماضية نحو الشرق، لا أنحرف عن غايتي إلى يمين أو إلى شمال إلا لأقضي ليلة في هذه القرية أو لأستريح ساعات أو لأستريح يوما في هذه القرية أو تلك، ولكني على جناح سفر دائما، متجهة نحو الشرق دائما، ممعنة في الشعور بالأمن كلما ازددت من الغاية دنوا ومن المدينة قربا، فالمدينة إذن هي غايتي من كل هذا السعي، فيها ألتمس الأمن، وبين أهلها ألتمس الحياة الوادعة! وبيت المأمور هو غايتي من المدينة، إليه ألجأ وإلى من فيه أفزع وبمن فيه أستعين، في ظله أريد أن أعيش، وعند أهله أريد أن أودع قلبي، وعند خديجة من أهله خاصة أريد أن ألتمس الراحة لهذه النفس المعذبة، والشفاء لهذا القلب المريض، لن آمن حتى أبلغ هذه الدار، ولن أبل من علتي حتى أرى هذه الوجوه وأسمع هذه الأصوات، وأستأنف حياتي مع الخدم والسادة كعهدها منذ أشهر قبل أن تأمرنا أمنا بذلك الرحيل المشئوم. إذا بلغت هذه الدار فستقصر يد خالي دون أن تبلغني، وإذا اطمأن بي المقام في هذه الدار فلن يجد الروع إلى نفسي سبيلا. ولكن ما خطب أهل الدار وما خطبي إن سألوني أين كنت؟ كيف أجيبهم؟ ... وبم أجيبهم؟ أأقص عليهم حديثي كله أم أطويه عنهم طيا؟ بل ما خطب أهل الدار وما خطبي إن رأوني فأنكروني ثم أبوا أن يفتحوا لي بابهم وأن يلقوني بما أحب أن يلقوني به من الرضا والعطف والابتسام؟ ما خطب خديجة وما خطبي إن رأتني فأعرضت عني لأنها وجدت من فتيات الريف أو من فتيات المدينة من يقوم منها مقامي ويلهيها كما كنت ألهيها، ويشاركها في الجد واللعب كما كنت أشاركها في الجد واللعب؟ أين أذهب إذا نبت بي هذه الدار، وإلى من ألجأ وعلى من أعول إذا تنكر لي أهل هذه الدار؟
الفصل الثالث عشر
كلا! بل هذه الدار كما عرفتها رشيقة أنيقة، مغرية مطمعة، لا ترد طارقا ولا تصد راغبا، ولا تتجهم لزائر ولا تنبو بضيف، وإني لأراها من بعيد فأسرع إليها الخطوة كأنما أدفع إليها دفعا أو كأنما تدعوني ملحة فأستجيب للدعاء، وإني لأرى دخانا يصدر عنها وينشر في الجو فلا أتمثل النار التي يصدر عنها في المطبخ وإنما أتمثل الطباخ ومن حوله من الخدم يذهبون ويجيئون وأسمع ما يقولون، وكأني أشاركهم فيما يأتون من حركة، وأجاذبهم ما يلفظون به من حديث، وإني لأدنو من الدار فأرى نافذة مفتوحة فلا أتمثل غرفة خديجة وما فيها من أداة وأثاث، وإنما أتمثل خديجة نفسها قد جلست إلى بعض ما كانت تلعب به، أو عكفت على درس تستظهره أو كتاب تنظر فيه، وكأني أشاركها في اللعب أو أشاركها في الاستظهار أو أسمع بعض ما تقرأ. وإني لأدنو من الدار فأتمثل حياة الدار كلها كأنها قد غمرتني وكأني قد رجعت إلى مثل ما كنت منذ أشهر جزءا من هذا الكل، وشعاعا منتشرا مستفيضا في هذه الحياة التي تملأ الدار حركة ونشاطا واضطرابا.
وهأنذا أبلغ باب الحديقة فلا أتردد في ولوجه، وأمضي أمامي مصممة كأنما أعود إلى الدار بعد ليلة من تلك الليالي التي كنت أقضيها مع أمي وأختي في ذلك المنزل الحقير، وإني لأمضي كما تعودت مسرعة لا ألوي على شيء، وإني لأصعد في السلم لا ألتفت إلى يمين ولا إلى شمال، وإني لأبلغ غرفة خديجة فأدخلها وأصادف سيدتي وصديقتي عاكفة على كتاب تنظر فيه، ولكنا كنا نلتقي على الضحك والعبث فمالنا الآن لا نضحك ولا نعبث ...؟! أما هي فواجمة ذاهلة قد أخذت على غرة، وأما أنا فمغرقة في البكاء.
ثم هي تسألني: أين كنت ...؟ ومن أين أقبلت ...؟ وماذا صنعت في هذا الوقت الطويل ...؟ وأنا لا أجيب. وأنى لي أن أجيب بغير هذه الدموع التي تنهمر، وهذه الزفرات التي تنفجر، وهذا الشهيق الذي يتردد في حلقي متصلا بعضه ببعض يزداد شدة وعنفا حتى يكاد ينتهي بي إلى أزمة من هذه الأزمات التي تفسد أعصاب النساء حين يلح عليهن البكاء ...!
وسيدتي وصديقتي قد أقبلت علي فتتلطف لي وترفق بي وتهون علي بعض ما أجد، وإن كانت لا تعرف شيئا مما أجد، ثم يسمع الشهيق وإذا سيدة البيت قد أقبلت، وإذا هي ليست أقل دهشا ولا وجوما من ابنتها، ولكنها تصرف الفتاة عني صرفا شفقة عليها من هذا المشهد الذي قد يؤذي نفسها الشابة الناشئة، ثم تدعوني إلى أن أتبعها، ثم تهدئ روعى وتتلطف لي في الحديث وتسألني عن أمري فلا أجيبها بشيء، أو لا أكاد أجيبها بشيء، إنما هي جمل متقطعة غارقة في الدموع فيها ذكر للرحيل على غير موعد، وفيها ذكر للقرية ورؤية أهلنا فيها، وفيها ذكر لمصاب عظيم قد ألم بنا هنا لم نكن ننتظره ولا نقدره ففقدنا أختي، وفيها ضيق بحياة القرية في ذلك الحزن المتصل، وحنين إلى السادة الذين لم ألق في خدمتهم إلا خيرا وبرا، ثم فيها ذكر العودة المنفردة في الطريق الطويلة الملتوية المخوفة، ثم انهمار للدموع وانكباب على سيدتي أقبل يديها وقدميها كأني أشفق أن تردني ردا أو تدفعني عن الدار دفعا؛ ولكنها حدبة علي، رفيقة بي، تقيمني وتنهضني وتأمرني أن أذهب إلى حيث أصلح من أمري وأستأنف عملي في الدار، كأني لم أفارقها أشهرا، وكأني لم أفارقها فجأة في غير استئذان، وكأني لم أزد على أن غبت يوما أو أياما ثم عدت إلى مثل ما كنت فيه ...! وأنا أذهب إلى حجرتي فأراها كما تركتها لم يشغلها أحد، ولم تسكنها خادم بعدي، ثيابي فيها كما تركتها وأدواتي فيها كما غادرتها لم ينقل شيء منها ولم يحول عن مكانه، ثم ما هي إلا أن ألقى الخدم ويلقوني بشيء من الدهش والوجوم، وآخذ في بعض الحديث، ثم أنظر فإذا كل شيء قد استقر وإذا أنا واحدة في الدار من أهل الدار كأن لم يكن بيني وبين الدار فراق.
ثم أعلم ما أعلم من حزن خديجة علي ووجدها بي، وإبائها على أهلها أن يتخذوا لها خادما غيري ونزول أهلها عند ما كانت تريد.
ثم أستأنف الحياة مع السادة والخدم كما كنت أحياها من قبل، ومع ذلك فما أكثر ما لقيت من الخطوب، وما أشد ما احتملت من الآلام، وما أطول ما أنفقت بعيدة عن الدار من الشهور! وكيف لا تطول هذه الأشهر القصار وقد كان فيها من الأحداث ما كان، وقد لقيت فيها من الشر كل ما لقيت، وقد واجهت فيها الموت، وقد عانيت فيها المرض، وقد تعرضت فيها للجنون أو لمثل الجنون، وقد تعرضت فيها لكل ما تعرضت له من ألوان الفتنة والمحنة والخوف ...؟
إن أهل الدار لا يعلمون من هذا كله شيئا وهم من أجل ذلك لا يكادون يشعرون بأني فارقتهم أو غبت عنهم، ولكن أنا أعلم من هذا كله ما أعلم، وأنا من أجل هذا أشعر بأني قد فارقتهم وقتا طويلا، أو أطول مما يظنون وأطول مما أظن، وأطول مما يحسب الناس. إنهم قد نسوا رحلتي ونسوا عودتي وانصرفوا إلى أمرهم لا يفكرون في ولا يسألون عني، ولكني أنا لم أنس من هذا شيئا. بل أنا أشعر شعورا غريبا، أشعر أني قد أخذت من أهل الدار فتاة فدفنتها هناك في قرية بعيدة من قرى الريف تظلها هضبة من هذه الهضاب التي تلي الصحراء، ثم رددت عليهم فتاة أخرى لا يعرفونها ولا يعلمون من أمرها شيئا، أخذت منهم آمنة الضاحكة في أكثر الوقت، الباسمة دائما؛ أخذت منهم آمنة الغرة الساذجة التي تؤثر اللعب أو تكاد تؤثره على كل شيء، والتي لا ترى في الحياة إلا لعبا، والتي تخدم وكأنها تلعب، وتدرس كأنها تلعب، وتتعلم من الخدمة والدرس ما تتعلم وكأنها تلعب، لا تعرف الهم ولا تتمثله، ولا تعرف أن للحياة أثقالا وتكاليف وإنما تؤمن بأن الحياة ابتسام للنهار إذا أشرق، وابتسام لليل إذا أظلم، وابتسام لما يملأ النهار من نشاط، وابتسام لما يملأ الليل من أحلام؛ أخذت منهم آمنة التي كانت تنشأ وتنمو كما تنشأ هذه الشجيرات في الحديقة وتنمو، فيها نضرة ولين، وفيها بهجة وجمال.
أخذت منهم آمنة هذه ففرقت نفسها تفريقا، في الطريق حين كنت ذاهبة إلى الغرب، تركت بعضها في بيت العمدة الذي ضيفنا، حين سمعت لحديث أختي وحين سمعت لحديث أولئك النساء، وتركت بعضها لهذه الأشباح الحمراء التي كانت تتراءى لنا حين كنا نتحدث على سطح الدار أو حين كان يمضي بنا الجملان في الطريق الصامتة وقد تقدم الليل وثقل، ثم تركت أكثرها في ذلك الفضاء العريض فسال مع الدم الذي سال، ودفن مع الجثة التي دفنت وسوي عليه معها التراب ثم صب عليه معها الماء، ثم تركت سائرها نهبا لتلك العلة التي ذهبت بما بقي من نفسي، وإن أبقت على بقية ضئيلة من جسمي أخذت الحياة تعود إليها بعد البرء قليلا قليلا. أخذت منهم آمنة هذه وفرقتها على هذا النحو بين المدينة والقرية ثم رددت عليهم آمنة أخرى قد تشبه تلك في بعض ملامح الوجه، وقد تشبهها فيما بقي من اعتدال القامة، وقد تشبهها في طبيعة الصوت وبعض الحركات، ولكنها تخالفها بعد ذلك في كل شيء.
رددت عليهم آمنة الحزينة دائما، الواجمة في أكثر الوقت حتى كأنها بلهاء غافلة، رددت عليهم آمنة التي رأت الشر بشعا والإثم عريان والجرم منكرا، فملأت نفسها من هذا كله وإذا هي سيئة الظن بكل إنسان، وإذا هي شديدة الإشفاق من كل شيء ومن كل إنسان، وإذا هي عابسة للنهار إذا أشرق عابسة لليل إذا أظلم، وقد اتخذت لنفسها من ظلمة الليل الحالكة ثوبا كثيفا ضافيا فأسبغته عليها إسباغا وحالت به بينها وبين كل نور وأمل وابتهاج وابتسام.
نعم، رددت عليهم آمنة هذه التي لا تمسك الدموع إلا ريثما ترسلها، ولا تبسط الوجه إلا ريثما تقبضه، ولا تقبل على شيء إلا ريثما تنصرف عنه، ولا ترى في اللعب إلا ثقلا، ولا ترى في الخدمة والدرس إلا عناء وجهدا. ويح أهل الدار! أيقبلون مني هذه الفتاة التي رددتها عليهم ويتسلون عن تلك الفتاة التي أخذتها منهم؟ ويحي أنا من أهل الدار إن لم يعرفوني ولم يألفوني كما عرفوا تلك الفتاة وألفوها! ولكنهم قوم كرام لا يضيقون بي ولا ينفرون مني ولا يلقونني إلا بالعناية والرعاية والعطف، أولم أتحدث إليهم بذلك المصاب العظيم الذي قد ألم بنا فملأ قلوبنا حزنا وبؤسا؟ وإذن فهم يعزونني ويأسون جراح قلبي، وهم لا ينظرون إلي كما ينظرون إلى خادم يجب أن يعمل أو إلى رفيقة يجب أن تعين فتاتهم على ما في الحياة من جد ولعب، وإنما ينظرون إلى فتاة بائسة قد آوت إليهم فهم يؤوونها مكرمين لها مشفقين عليها، يؤثرونها بالرحمة والراحة والهدوء.
وخديجة ... ويح خديجة! ما كنت أحسب أن فتاة نشأت في مثل ما نشأت فيه من نعيم، ودرجت على مثل ما درجت عليه من ترف وتعودت ألا تعيش إلا فرحة ومرحة، ما كنت أحسب أن هذه الفتاة تعرف كيف تصل إلى أعماق هذا القلب الحزين، وكيف تبلغ بغريزتها ما لم يكن بد من التجربة الطويلة العسيرة لبلوغه بالعقل والإرادة، إنها لتفهمني في غير سؤال، إنها لترحمني في غير تكلف، إنها لترثي لي في غير كبرياء، إنها لتنصرف بي عما ألفت من فرح ومرح ومن دعابة ولعب، إنها لتتحدث إلي حديث الفتاة العاقلة الرشيدة، إنها تشغلني عن همي بما تقص علي من أمرها أثناء غيبتي وبما تقرأ علي مما قرأت أثناء هذه الغيبة وبما تقرئني مما لم أشاركها في قراءته، إنها لتفتح لي أبوابا ما كانت لتخطر لي على بال، إنها لتنبئني بنبأ عجيب لم أفهمه إلا بعد مشقة وجهد وتكرار! تنبئني بأنها قد أخذت تتعلم لغة أخرى تسميها الفرنسية فلا أفهم منها شيئا، لغة أخرى! وكيف يكون ذلك؟ إني أعرف أن هناك لغة الريف التي كنت أتحدثها، ولغة القاهرة التي تتحدثها خديجة، ولغة ثالثة نقرؤها في الكتب فلا نعجز عن فهمها وإن وجدنا فيه بعض العسر، فكيف توجد لغة أخرى، وما عسى أن تكون، وكيف يتعلمها الناس؟ إنها تظهر لي كتبا ما كنت أقدر أن أراها، وإني لأنظر هذه الكتب فلا أفهم منها إلا بعض الصور، وإني لأحاول النظر في الحروف فلا أعرف لها أولا ولا آخرا، ولا أعرف لها رأسا ولا ذيلا، وإنها لتضحك في رفق وإنها لتحس شيئا من الكبرياء لأنها تعلم ما لا أعلم، وإنها لتحاول القراءة في هذه الكتب فتبلغ من ذلك ما لا أبلغ، وإنها لتترجم بعض ما تقرأ فأفهم عنها ما تقول بالعربية وأدهش وينتهي بي الدهش إلى أقصاه ...
وهذا أستاذها السوري قد أقبل وإنها لتلقاه فيتحدث إليها وترد عليه بهذا الذي لا أفهمه فأزداد بها وبه إعجابا وفتنة، وهذه خديجة تكبر في نفسها وتكبر في نفسي وتقوم مني مقام المعلم، وإذا هي تقرؤني هذه الحروف التي لم أكن أقرؤها، وتعلمني هذه اللغة التي لم أكن أعلمها، وإذا أنا تلميذة لها في الصباح وتلميذة معها في المساء، وإذا المعلم بارع وإذا التلميذة على حظ من ذكاء، وإذا أنا أجد في هذه الحياة الجديدة وفيما نقرأ معا وما نتعلم معا عزاء أي عزاء، ونسيانا أي نسيان؟ وإذا الأستار تلقى شيئا فشيئا بيني وبين هذا الماضي البشع القريب، وإذا كل شيء في هذا الماضي ينمحي قليلا قليلا إلا شخصين اثنين لا ينمحيان ولا يتضاءلان، وإنما يرتسمان في نفسي ارتساما قويا ويتمثلان أمامي تمثلا متصلا ملحا، وهما شخص أختي صريعا يتفجر من صدرها الدم في الفضاء العريض، ويغمغم فمها بكلمات لا أفهمها، وشخص ذلك المهندس الشاب الذي أغواها ودفعها دفعا إلى ذلك الفضاء العريض الذي صرعت فيه.
الفصل الرابع عشر
نعم! ذلك المهندس الشاب الذي أغواها ودفعها دفعا إلى ذلك الفضاء العريض الذي صرعت فيه. لقد منحها الحياة، ولقد قضى عليها بالموت. وهل ذاقت البائسة من لذة الحياة ونعيمها إلا هذه الثمرات الحلوة المرة التي جنتها في هذه الدار القائمة من دارنا غير بعيد؟! إلى هذه الدار دفعت حين هبطت من أقصى الريف، فأخذت تعرف الحضارة وتألفها وتبلو من طيباتها ما رقق لها العيش وقد كان غليظا، وحبب إليها الدهر وقد كان بغيضا.
فيها عرفت الترف واطمأنت إلى النعيم! ولم تكد تنشأ وتنمو حتى مد لها الحب ذراعين فيهما النعيم والبؤس، وفيهما الرحمة والعذاب، فأسرعت إلى ما كان يتراءى لها من ذلك جاهلة له، مفتونة به، متهالكة عليه، ثم انصرفت كارهة عما بلت، وما أدري ماذا كان يحزنها ويمزق فؤادها تمزيقا حين كانت تقص علي أنباءها وتحدثني بأحاديثها! أهو الندم على ما قدمت من ذنب واقترفت من خطيئة، أم هو الأسف على ما فارقت من لذة وحرمت من نعيم؟ وما أدري ما الذي كان يملأ قلبها فرقا ورعبا حين كانت تتراءى لها تلك الأشباح الحمراء! أهو الموت الذي كانت ترى نذيره منكرا بشعا ومسمعه صارخا ملحا، أم هو اليأس الذي كان يقطع الأسباب بينها وبين هذا المهندس الشاب، ويلقي بينها وبين الحب ولذاته وآلامه حوائل وموانع لا سبيل إلى أن تجتاز؟
نعم! هذا المهندس الشاب! لقد ارتسم شخصه في نفسي ارتساما قويا ملحا ليس إلى محوه من سبيل. ولقد كنت أرى أختي فإذا هو ملازم لها كأنه الظل، بل كأنه ظل من هذه الظلال الحمراء التي كانت تلازمها حين كنت أراها أثناء العلة وحين كانت تعرض لي في الطريق! بل لقد تفرقت عن أختي كل هذه الظلال وانمحت انمحاء، ولم يبق معها إلا هذا الظل الذي لا أكاد أراه حتى تضطرب نفسي اضطرابا عنيفا، وحتى يثور في قلبي شعور قوي مختلط غريب شديد التعقيد، شعور فيه الخوف والرغبة، وفيه البغض، وشيء يشبه الحب، أو حب الاستطلاع على أقل تقدير ...
من هذا الشاب؟ أو من عسى أن يكون؟ وكيف يمكن أن يكون؟ أي شيء فيه أغوى هذه الفتاة البائسة ودفعها إلى ما دفعت إليه؟ ما عسى أن يكون حظي منه إن لقيته، وأن يكون حظه مني إن لقيني؟ أوأحبه أم أبغضه؟ أيحبني أم يبغضني؟ ما هذه الغواية التي أفسدت على أختي أمرها وأفسدت علينا جميعا أمرنا، وقضت على أختي بالموت ونغصت علينا جميعا لذة الحياة؟
خواطر كانت تملأ قلبي إذا أصبحت، وكانت تملؤه إذا أمسيت، وكانت تلح عليه بين ذلك فلا ترد عنه إلا في شيء من الجهد والعنف حين تلح علي خديجة في الحديث أو في القراءة أو في مشاركتها فيما كانت تحرص على أن أشاركها فيه من الدرس والاستظهار.
خواطر كانت تملأ قلبي في اليقظة، وكانت تملؤه في النوم، وكانت تصرفه عن كل شيء إلا عن هذه الفتاة التي سفك دمها في ذلك الفضاء العريض، فذاقت الموت وذهبت نفسها إلى السماء وهوى جسمها إلى الأرض وهيل عليه التراب؛ وإلا هذا الفتى الذي مازال يغدو ويروح فرحا مرحا، مغتبطا مستبشرا، تبسم له الحياة ويبسم هو للحياة.
ليتني أدري أيذكر ضحيته تلك أم قد نسيها. وليتني أدري أيذكرها إن ذكرها في شيء من الرفق بها والعطف عليها والحنين إليها، أم يذكرها إن ذكرها في إعراض الزاهد وانصراف المزدري! وأين تكون هذه الفتاة من نفسه، وما أكثر الفتيات في نفسه! لقد كان بالقياس إليها كل شيء، ولم تكن هي بالقياس إليه شيئا، لم تعرف غيره وعرف هو غيرها كثيرات، لم تذق لذة الحياة إلا بين ذراعيه، وما أكثر المواطن التي ذاق هو فيها لذات الحياة! وما أكثر ما ذاق من ألوان اللذات وما بلا من صنوف النعيم! وليتني أعرف كيف يلقى ذكرها إن ذكرت له، أيبسم لصورتها أم يلقاها بالعبوس! بل ليتني أعرف كيف يلقى النبأ البشع المروع إن ألقي إليه، أيحزنه أن يعلم أنها ذاقت الموت وأنها ذاقته لأنه هو قد دفعها إليه، أم يقع هذا النبأ من نفسه موقعا يسيرا فلا يثير في قلبه حزنا ولا أسفا ولا يسلط على نفسه لوعة ولا ندما؟!
وكذلك امتلأت نفسي بهذا المهندس الشاب، حتى لقد كنت ألتمس الفرار منه فلا أظفر به إلا في جهد أي جهد وعناء أي عناء، وحتى لقد أنكرت نفسي وأنكرت من كان حولي من الناس والأشياء، وأنكرني من كان حولي حين طال عليهم ما كنت مغرقة فيه من الوجوم والذهول، إلا خديجة فإنها لم تنكرني ولم أنكرها، وإنما مضت فيما كانت رفيقة بي عطوفا علي، تعزيني وتسليني وتفتن في ذلك ما وسعها الافتنان. وأنا أعرف لها هذا فأحمده وأقدره وأرد عليها بعض ما كانت تسدي إلي من جميل، فأنصرف إليها حين ألقاها عن هذه الخواطر، ويفرغ قلبي لما أسمع من حديثها ولما أشاركها فيه من درس، ولكن لا ألبث أن أعود إلى ما كنت فيه من وجوم وذهول، وتحس هي مني ذلك فتنصرف عني بعض الشيء وتتركني لما أنا فيه، كأنها تقدر أني أجد في هذا الوجوم والذهول لذة وراحة واطمئنانا.
وما تزال هذه الخواطر تلح علي وتستأثر بي حتى تستحيل إلى شيء من الرغبة القوية الملحة في أن ألقى هذا الشاب فأسمع منه وأتحدث إليه، وأنا أتلمس أخباره وأتتبع أسراره وأتلقط ما يلقى عنه من حديث، ولم تكن داره بعيدة من دارنا، وكأن الظروف قد ائتمرت بي فهيأت لي أن أرى ذهابه ومجيئه من نافذتي حين يغدو من داره أو يروح إليها، من هذه النافذة التي طالما كنت أبادل أختي منها الإشارة وأسارقها منها بعض الحديث، من هذه النافذة التي لم أذكرها ولم أدن منها حين عدت إلى الدار، وإنما مكثت أياما وأسابيع أجهلها جهلا وأهملها إهمالا، ثم خطرت لي فجأة، وفرض علي مكانها فرضا، فإذا أنا أدنو منها وجلة وأفتحها جزعة محزونة، أريد أن أقف إليها لأتمثل فيها صورة «هنادي» ذاهبة جائية، متغنية بما كانت تتغنى به من أغاني الريف ثم أغاني المدينة. وإني لآخذ موقفي من النافذة في الأيام الأولى فلا أرى شيئا ولا أسمع شيئا، وإنما هو قلب ينفطر، ودموع تنهمر، وصورة لأختي لا تأتي من الدار ولا تعبر إلى ما بيني وبينها من طريق، وإنما تأتي شاحبة حزينة من قلبي هذا الآسف الحزين. وأنا مع ذلك أطيل الوقوف إلى النافذة وأكرره، وأدنو منها كلما أتيح لي الدنو في النهار حينا وفي الليل أحيانا. آلفها وتألفني، حتى أصبح وقوفي منها وجلوسي إليها عادة طبيعية من عاداتي كلما دخلت الحجرة وأغلقت بابها من دوني. والأيام تمضي وتتبعها الليالي، وإذا أنا أقف إلى النافذة وأجلس إليها فلا تنهمر الدموع، ولا تتمثل لي صورة أختي شاحبة كئيبة، وإنما أنا أرى أمامي وأنظر، فإذا صورة أختي كما كنت أعرفها تذهب وتجيء، صوت أختي ينتشر في الفضاء فيملؤه فرحا ومرحا وبهجة وسرورا، متغنية بهذه الأغنية التي طالما كانت ترددها بصوتها الرخيم الممتلئ العذب فيحملها الهواء إلى النفوس كأنها قطرات الندى:
آه يانا يانا من غرامه يانا
وإن كنت أحبه ما علي ملامه
وما كنت أفهم من هذه الأغنية إلا ما يفهمه الناس جميعا، إن كان الناس يفهمون منها شيئا؛ فهي شائعة ذائعة في المدينة وفيما حولها من القرى، تسمعها في كل عرس وتسمعها من كل امرأة ومن كل فتاة، بل من كل صبية تحاول الغناء أو تقصد إليه. أما الآن فمالي أتمثل أختي كئيبة حزينة يائسة، كأنها ظل شاحب ليس له ثبات ولا استقرار، وإنما هو هائم مضطرب يصدر عنه صوت ضئيل نحيل كأنه الصدى، وهو ينتشر في الجو انتشارا يملأ القلوب لوعة وأسى، وهو يحمل هذه الأغنية كأنها شرر النار لا تمس قلبا إلا أحرقته إحراقا، ولا تبلغ نفسا إلا فرقتها تفريقا؟! مالي أسمع هذه الأغنية فأفهم منها ما لم أكن أفهم، وأعلم منها ما لم أكن أعلم، وأحس منها ما لم أكن أحس، وأستكشف فيها من المعاني والمرامي والأغراض ما لم يكن يخطر لي من قبل على بال؟
إن هذه الآهة التي يرسلها الصدى النحيف ممتدة ضئيلة لا تكاد تثبت ولا تكاد تنتهي، لتثير في نفسي عواطف لم أكن أعرفها ولم يكن لي بها عهد. وإن هذا النداء ليصور لنفسي الأنين كما يصور لنفسي الاستغاثة، وكما يصور لنفسي اليأس من البر حين يتكرر. وإن هذا الاعتذار ليصور لنفسي الهيام في غير احتفال بالعاقبة، ولا ندم على ما كان، ولا تقدير لما هو كائن، وإنه ليصور لنفسي جرم هذا الخال الأثيم الذي سمع الأغنية ألف مرة ومرة فلم يعقلها ولم يفهمها، ولم يبرئ هذه المحبة الهائمة من اللوم، ولم يعفها من الإثم، ولم يصرف عنها العقاب؛ لأنه جامد القلب جافي الطبع، خشن النفس غليظ المزاج، لم يذق لذة الحب ولا ألمه، ولم يعلم أن من الحب ما يكون فوق اللوم، وما يكون فوق الإثم، وما يكون فوق العقاب.
نعم! وإني لأسمع هذا الصوت الضئيل النحيل ينشر هذا الغناء اليائس الحزين، فأتصور هذا المهندس الشاب قد برع جماله حتى أصبح فتنة لا تتقى وسحرا لا يقاوم، وقد رق حديثه حتى أصبح شركا يصيد القلوب وحبالة تختلس النفوس، وقد لطفت حركاته حتى لم يبق للامتناع عليها سبيل. وإني لأنظر فإذا هذه الأغنية تثير أمامي صورا ثلاثا: صورة هذا الفتى الجميل الرائع يغري بالإثم ويدفع إليه، وصورة هذا الشيطان الآثم المريد يأخذ بالإثم ويعاقب عليه، وصورة هذه الفتاة البائسة اليائسة يتنازعها الإغراء المضني والعقاب المفني. ثم أنظر إلى هذه الصور فأسأل نفسي أين أنا منها؟
أما خالي فإني أبغضه بغضا لا حد له، ولو ظفرت به لمزقته تمزيقا، وأما أختي فإني أرثي لها رثاء لا حد له، ولو استطعت لرددت إليها الحياة، وأما هذا المهندس الشاب فما أدري أين يكون مكاني منه! أهو مكان المبغضة العدو أم هو مكان المحبة الهائمة؟! إنه النار المضطرمة، وإني الفراشة التي تهفو إليها وتكلف بها، ولكن عن علم بأنها محرقة مهلكة ... لأعلمن من علم هذا المهندس الشاب أكثر مما علمت، وليكونن لي منه مكان لم أقدره. لأطفئن هذه النار أو لأحترقن بلهبها المضطرم!
ومنذ ذلك الوقت أخذت أستيقن بأن حياتي موصولة بحياة هذا الشاب، وبأن مقامي في بيت المأمور موقوت، وبأن انتقالي منه إلى بيت هذا الشاب محتوم إن لم يتم اليوم فسيتم غدا.
الفصل الخامس عشر
ولزمت النافذة أرقب منها الدار أثناء النهار وأوائل الليل، كأنما وكلت بحراستها أو تتبع ما يجري فيها. وما هي إلا أن أعرف مواعيد غدو الفتى ورواحه، وخروجه من داره للسمر إذا أقبل الليل، ورجوعه للنوم إذا انقضى من الليل أكثر من ثلثيه، وإذا أنا قائمة إلى النافذة في هذه المواعيد أراه حين يخرج، وأراه حين يدخل، ولا تطمئن نفسي لأمر من الأمور أو عمل من الأعمال إلا إذا رأيته غاديا ورائحا بعد الظهر، فإن حيل بيني وبين ذلك لطارئ من قبله أو من قبلي فهي الحياة المضطربة، والنفس المفرقة، والفكر المشرد، والقلب الذي لا يهدأ ولا يستقر.
ثم يشتد الأمر بي وتلح الرغبة في هذه المراقبة علي، وإذا أنا أتلمس الأيام التي لا يخرج فيها من داره مع الصبح فأبقى فيها أمام النافذة أترقب ما أرجح أنه لن يكون، ولكنني أترقبه على كل حال لأني لا أريد أن يفوتني مخرجه من الدار، كأنما اتصلت به حياتي اتصالا، ومدت الأسباب المتينة بين هذه الدار وبين قلبي ونفسي وعيني، فهي لا تبرح خاطري مهما تكن الظروف، وهي تجذبني إلى النافذة جذبا، وأنا أحس مع ذلك أن هذا ليس إلا أول الشر، وأن يوما قريبا أو بعيدا سيأتي من غير شك لا تجذبني الدار فيه إلى النافذة لأراها ولأرى هذا الشاب خارجا منها أو عائدا إليها، بل تجذبني الدار إلى نفسها لألج بابها وأعرف أصحابها، وأتحدث إلى من فيها، ولو أني أرسلت نفسي على سجيتها وخليت بينها وبين ما كانت تريد لما تأخر مقدم هذا اليوم، ولكني دافعت نفسي عن هذه الدار دفاعا شديدا، وجادلت نفسي في الاتصال بها جدالا طويلا، وظفرت من هذا الجدال وذلك الدفاع بتأخير اليوم المحتوم أسابيع بل أشهرا لست أدري أكانت طوالا أم قصارا، ولكني أعلم أن احتمالها كان ثقيلا، وأني كنت لا أستقبل النهار حتى أستيقن أن الهزيمة ستتم فيه، ولا أستقبل الليل حتى أثق بأنه لن يتقدم حتى يكون التسليم والإذعان، وأمضي مع ذلك في جهاد نفسي ومدافعتها، حتى إذا استقر كل شيء وغلقت الأبواب، وانقطعت سبيلي إلى الدار، اضطررت إلى أن آوي إلى مضجعي، وسجلت لنفسي يوما من أيام النصر وأمدا من آماد الفوز، وأجلت الهزيمة والتسليم إلى غد.
وإني لأرى نفسي ذات يوم وقد تقدم النهار حتى كاد ينقضي وأخذت طلائع الليل الشاحبة تغزو الأرض، وإني لأراني خارجة كالمنسلة من دار المأمور، ساعية كالهاربة التي تحرص على الاستخفاء، أدور حول الدار مجاورة أسوار الحديقة حتى لأكاد أمسحها مسحا، ثم منعطفة بعد قليل، ثم منطلقة كالسهم حتى أقطع ما بين الدارين من طريق. وألج حديقة المهندس، ثم أسعى هادئة مضطربة معا نحو البستاني كأنما أريد أن أسأله عن شيء، حتى إذا بلغته لم أستطع أن أقول له شيئا، وإنما وقفت أمامه ذاهلة غافلة بلهاء يملكني الخوف ويغمرني الحياء، أريد أن أمضي أمامي حتى أدخل الدار وأبلغ غرفة «هنادي» فأقضي فيها لحظة أو لحظات، ولكني لا أستطيع أن أتقدم، والبستاني يسألني من أنا، ومن أين أقبلت، وماذا أريد؟ فإذا ألح علي في السؤال وأحسست أن صمتي يطول وأن الرجل سينتهي إلى الضيق بي وبما أعرض عليه من غفلة وبله وذهول، وليت مدبرة، وانصرفت نافرة لا ألوي على شيء، كأنني أخشى أن يتبعني تابع أو يتعقبني متعقب، وما أزال أشتد في العدو حتى أبلغ دارنا فأنسل إليها لم يشعر بخروجي منها ولا بعودتي إليها أحد، ثم أمضي متجاهلة متغافلة حتى أبلغ غرفتي وآخذ موقفي من النافذة وقد سجلت على نفسي بعض الهزيمة وإن لم أنته بها إلى الغاية.
على أني ألفت الطريق بين هاتين الدارين، وألفت البستاني والاختلاف إليه، والأخذ معه في أطراف من الحديث، وتبادل الإشارات معه من النافذة ومسارقته بعض الكلام.
ثم لم تتصل الأيام بيني وبين هذا البستاني حتى كان الظاهر من أمر هذا المهندس الشاب عندي واضحا معروفا، أعرف من عاداته وأطواره ومن ذهابه وإيابه ومن جده وهزله ما يمكن لمثلي أن يعرفه حين يتصل بخدمه والمقربين إليه.
على أن المعرفة لم تقتصر على البستاني وإنما تجاوزته إلى الخادم؛ فقد كان هذا المهندس لا يستطيع أن يكتفي ببستانيه، وإنما هو في حاجة إلى خادم تصلح من أمره وتشرف له على نظام الدار، وقد علمت أن أختي لم تكد تفارقه حتى تعجل البحث عمن يخلفها، واهتدى بعد قليل من الوقت إلى هذه الفتاة الجميلة الوادعة ذات الوجه المشرق والجسم البض والعقل الضيق القصير. اهتدى إلى «سكينة» هذه التي أقامت عنده خليفة لأختي، والتي كنت أتحدث إليها فلا أرى عندها غناء، ولا أجد في الاستماع إلى أحاديثها لذة، ولا أجد نشاطا إلى أن أشاركها فيما تخوض فيه من لغو، ولكني مع ذلك حريصة كل الحرص على أن تشتد الصلة بيني وبينها وتزول الكلفة، ولم يكن في هذا مشقة ولا عسر، فما أسرع ما اتصل الحديث، وما أسرع ما انتهينا به إلى الدخائل والأسرار! وما أسرع ما أحسست في نفسي عداوة آثمة تشتد كل يوم وتنمو حتى تملأ قلبي وتملك علي كل أمري وتكاد تخرجني عن طوري وتدفعني إلى ما لا خير فيه. فقد فهمت - وليتني لم أفهم - أن سكينة لم تخلف هنادي على الإصلاح من أمر الدار والقيام بما تحتاج إليه من خدمة فحسب، وإنما خلفتها على قلب هذا الشاب إن كان لهذا الشاب قلب، بل خلفتها على هواه ومجونه وعلى إثمه وغوايته، وما أكثر ما لهذا الشاب من الهوى والمجون، ومن الإثم والغواية! إنما هو صائد يحتبل الفتيات احتبالا ويختلبهن اختلابا، يصرفهن عن الجادة وينحرف بهن عن القصد، حتى إذا بلغ منهن ما يزهده فيهن خلى بينهن وبين ما ينتظرهن من الموت أو من حياة هي شر من الموت.
وإذن فقد خان هنادي ولم يحفظ لها عهدا ولم يستبق لها مودة، ولم يكد يفارقها حتى انصرف عنها وزهد فيها، والتمس لذته وهواه حيث استطاع، لم يحفل بما قدم من سوء، ولم يحفل بما قدمت إليه من تضحية، ولم ينظر إلى هذا كله إلا على أنه لعب ينفق فيه الوقت ويستعان به على احتمال الحياة وتسلى به الغربة في مدن الأقاليم.
هو خائن إذن، وهو يضيف إثم الخيانة إلى إثم الغواية، وهو خليق أن يلقى جزاء هذين الإثمين كأشنع ما يكون الجزاء، وهو لاق حظه من هذا الجزاء في يوم من الأيام، ولاقيه من يد آمنة هذه التي شهدت الموت مرتين: شهدته حين عدي على أختها من يد ذلك الخال الأثيم في ذلك الفضاء العريض، وشهدته حين عدي على ذكرى أختها من يد هذا المهندس الشاب الغاوي وفي هذه الدار الصغيرة الأنيقة التي يقوم عليها البستاني وتضطرب فيها سكينة كما كانت تضطرب فيها هنادي.
أغيرة هذه التي تضطرم في قلبي اضطراما وتحبب إلي التفكير في الموت وكيف يساق إلى الناس ، وتحبب إلي التفكير في الخناجر التي تمزق الصدور وفي السم الذي يمزق الأحشاء؟ أغيرة هذه التي يغلي لها الدم في عروقي ويصعد لها اللهب في وجهي وتقدح لها عيناي بشيء كأنه الشرر، يحمل أهل الدار على أن ينكروا منظري وعلى أن يتساءلوا ما خطبي وإلى أي حال سينتهي بي ما أنا فيه من الذهول؟!
أغيرة هذه التي زادت الحزن عن نفسي وأقامت مكانه غضبا ثائرا متصلا لا يهدأ ولا ينقضي؟ ولمن أغار أو على من أغار؟ أغائرة أنا لهذه الأخت البائسة التي ذاقت الموت في سبيل هذا الفتى دون أن يكون لتضحيتها أهلا؟ أغائرة أنا لهذه الرغبة التي كانت تملأ نفسي وتملك قلبي وتدفعني دفعا إلى أن أعرف من أمر هذا الشاب ما كنت أجهل، والتي لم تكد تبلغ غايتها حتى انتهت إلى يأس مهلك لا مخرج منه ولا آخر له؟ أغائرة أنا لهذا التفكير الطويل فيمن لم يكن أهلا لتفكير؟ لمن هذه الغيرة وعلى من هذه الغيرة، أو إلام تريد أن تنتهي بي هذه الغيرة؟
لا أدري! ولكني أعلم أنها قد جعلت مقامي في دار المأمور عسيرا وعشرتي لخديجة شاقة! فقد توحشت أو كدت أتوحش، وأصبحت نافرة من كل شيء حتى من خديجة التي لم أكن أظن أني سأعرض عنها يوم من الأيام، وقد أخذت أحس أن مقامي قد أخذ يثقل، وأن عشرتي قد أخذت تشق على من حولي، وأن خديجة قد أخذت تجزيني جفاء بجفاء وإعراضا بإعراض.
لك لله يا آمنة! إلام تدفعك هذه النفس المضطربة التي لا تهدأ، وهذه العواطف الثائرة التي لا تستقر، وهذا القلب الهائم الذي لا يعرف ما يريد؟!
الفصل السادس عشر
وأصبحت ذات يوم فإذا شيء غريب يضطرب في جو الدار أحسه ولا أتبينه، وأشعر به ولا أحققه، ألمحه في وجه المأمور وفي وجه ربة البيت حين ينظران إلى خديجة ثم يسترقان نظرات فيها أمل مبتهج وحزن مكتئب، وحين يخلوان للحديث بعد الغداء أو بعد العشاء فتطول بينهما الخلوة أكثر مما تعودت أن تطول. وألمحه في هذا الابتسام الذي يهديه المأمور سخيا كريما إلى أهل الدار جميعا، متحدثا إلى من لم يكن يتحدث إليه، ومتلطفا لمن لم يكن يحفل بوجوده، وفي نظرات طويلة يلقيها علي أنا حين يلقاني، وفيما تظهر ربة البيت من تبسط مع الخدم وعطف عليهم والميل إلى أن تأخذ معهم بأطراف الحديث.
ألمحه في هذا كله، ولكني أجد فيه غموضا يثير ميلي إلى الاستطلاع، ويكاد يسليني بعض الشيء عن المهندس الشاب، وعما يقع في داره من خيانة وإثم، وعما يثير في نفسي من غضب وغيرة، وأهم أن أسأل خديجة عن هذا الذي ألمحه ولا أستبينه، ولكني أجدها غافلة لا تلمح شيئا ولا تحس شيئا فأعرض عما هممت به وأكتفي بالملاحظة والانتظار، على أن الانتظار لم يطل، فما تنقضي أيام قليلة حتى تظهر حركة في دار المهندس الشاب تستتبع حركة في دارنا، ثم تتلاحق الحوادث مسرعة، وإذا هي تملكني وتغمرني وتستأثر بي وتنسيني كل شيء وتذكرني بكل شيء في وقت واحد، وتخرجني من هذا السكون اليائس الذي لزمته إلى نشاط يائس دفعت إليه دفعا.
هذا بيت المهندس الشاب قد ظهرت فيه الحركة وكثر فيه الاضطراب فأثاثه ينقل من مكان إلى مكان ويناله الإصلاح والتنظيف والترتيب، ويؤتى إليه بأثاث لم يكن فيه، بعضه مشترى تظهر عليه الجدة، وبعضه مستعار يظهر عليه القدم، كأنما تتهيأ الدار لاستقبال بعض الزائرين، فهي تعد لهم ما يحتاجون إليه من الغرفات والحجرات ومن الأدوات والأثاث.
والبستاني مسرف في الحركة مندفع في النشاط، أراه هنا وأراه هناك، وقد استعان باثنين أو ثلاثة من شباب المدينة يعملون معه في النقل والتنظيف والترتيب، وسكينة تعمل معهم لا راضية ولا ساخطة، لا مبتهجة ولا مبتسمة، وإنما هي تذهب وتجيء كأنها أداة لا تعرف الرضا ولا السخط، ولا تحس الحزن أو الفرح.
وهذه الحركة المتصلة في بيت المهندس قد أثارت حركة فاترة متقطعة في بيتنا! فهذا سرير ينقل، وهذه وسائد تعار، وهذه آنية تجمع ثم تحمل، وهذه ربة البيت تكلفني راضية باسمة أن أذهب إلى بيت المهندس فأعين الخدم على بعض ما يعملون، وأن أشرف على التنظيم والترتيب، وأن أعنى بأن تهيأ الدار لاستقبال الزائرين تهيئة حسنة لا عيب فيها ولا نقص، ثم هذه ربة البيت تستعد في بيتها لتهيئة الطعام الذي سينقل إلى بيت المهندس إذا كان الغد، ولإعداد الوليمة التي ستقام في دارها إذا كان اليوم الذي يليه.
وما أكاد أذهب إلى بيت المهندس وآخذ مع الخدم في العمل والحديث حتى أعلم - وليتني لم أعلم - وأفهم - وليتني لم أفهم - أن أسرة المهندس مقبلة من القاهرة إذا كان الغد لتقيم مع ابنها أياما أو أسابيع، وأن هذه الزيارة ليست كغيرها من الزيارات، وإنما هي زيارة تتم لأمر يراد، فستخطب بنت المأمور للمهندس الشاب، وستشهد المدينة أفراحا لم تشهدها منذ عهد بعيد، وسيسمع أهل المدينة من ألوان الغناء ما لم يتعودوا أن يسمعوا من قبل؛ فلن يقرأ عليهم المولد هذا المغني المشهور الذي يقيم في عاصمة الإقليم، والذي يتعصب له أهل العاصمة وما حولها من القرى وما يجاورها من المدن، ولن يقرأ لهم المولد هذا المغني الآخر الذي يقيم في أقصى الإقليم نحو الشمال والذي ينافس صاحبه أشد المنافسة ويتعصب له نصف الإقليم أو ما يقرب من نصفه، ولن يقرأ لهم المولد الشيخ مدكور هذا الذي يقيم في المدينة نفسها ويحبه أهل الريف، ولكن شهرته لا تتجاوز المدينة إلا قليلا، لن يقرأ لهم المولد واحد من هؤلاء المغنيين، ولكنهم سيسمعون لمغن يأتي من القاهرة، قد يكون عبد الحي، وقد يكون الشيخ يوسف، وقد يكون غيرهما من كبار المغنيين، وستأتي العوالم من القاهرة، وستأتي مغنية مشهورة تطرب السيدات، وستقام الزينة وتولم الولائم على أحسن طراز وأجمل شكل، وسيأتي المنظمون لذلك والمشرفون عليه من القاهرة لا من المدينة ولا من عاصمة الإقليم، وكان الخدم يفيضون في ذلك، ويجرون في تفصيله مع هذا الخيال الريفي الساذج الذي يحسب أنه يمضي أمامه إلى أبعد أمد على حين لا يزال في مكانه لم يتجاوزه أو لم يكن يتجاوزه إلا قليلا.
كانوا يفيضون في الحديث عن المغني والمغنية، وفي الحديث عن الطهاة الذين سيهيئون الطعام، وعن الفراشين الذين سينظمون الوليمة ويطوفون على الناس بالأطباق والأقداح، وعن الموسيقى التي ستأتي من القاهرة فتقضي في المدينة يومين أو أياما تطرب الناس في الصباح وتطرب الناس في المساء، وعن المدعوين الذين سيشهدون الحفل والذين يدعون إليه من قريب ومن بعيد، وفيهم البشاوات والبكاوات، وفيهم العلماء من شيوخ الأزهر.
كانوا يفيضون في هذا كله، ويجدون في الإفاضة فيه لذة يتعجلون بها الحوادث ويستبقون بها إلى ما ينتظرون من فرح وغبطة وابتهاج. وكنت أنا أسمع لأحاديثهم فأفهمها، وأعي أقلها وأهمل أكثرها، وأفكر فيما لم يكن بد من أن أفكر فيه، وهو أن هذا المهندس الشاب قد أغوى أختي ثم دفعها إلى الموت، ثم أخذ يخونها وينتهك ما كان يجب لها عنده من حرمة، ثم هو الآن ينظم الخيانة تنظيما، ويريد أن يأتيها ويقدم عليها ويمضي فيها جهرة باسم الدين والعرف والقانون.
نعم! ولن تكون سكينة هذه الغافلة البلهاء التي لا أعرفها ولا تعرفني إلا منذ حين، لن تكون خليفة هنادي على بيت هذا الفتى وقلبه ومجونه وإثمه، ولكن التي تخلف هنادي على هذا كله ستكون خديجة! خديجة أحب الناس إلي وآثرهم عندي وأحسنهم مكانا من قلبي، خديجة التي أجد عندها - وعندها وحدها - العزاء عما لقيت من شر وما احتملت من نكر وما ألم بي من مكروه، خديجة التي أستعين بها على احتمال هذا الخطب الذي أصابني في أختي وفي أهلي، هذه هي التي ستراد على أن تأخذ من قلب المهندس الشاب، ومن بيته، ومن حياته كلها مكانا ما ينبغي لفتاة أن تأخذه بعد أن سبقت إليه هنادي وأدت ثمنه بذلك الدم الزكي الذي أريق في ذلك الفضاء العريض!
ولم أكن أسأل نفسي كيف يكون موقع هذا النبأ من نفس خديجة حين يلقى إليها: أتنكره وتضيق به، أم تحبه وتبتهج له؟ ولم أكن أسأل نفسي كيف تجد خديجة موقفي منها حين أحاول أن أصد عنها حب هذا الرجل الآثم وأن أردها عنه، وأن أبذل في ذلك من القوة والجهد ومن الحيلة والذكاء ما أملك وما لا أملك؟
لم أكن أسأل نفسي عن شيء من هذا، ولكني كنت ثائرة أشد الثورة وأعنفها، مؤمنة أشد الإيمان وأقواه بأن هذا الأمر لن يكون، مصممة أشد التصميم على ألا يكون مهما تتهيأ له الظروف ومهما تتظاهر عليه القوى.
ثم لم أكن أسأل نفسي عن كل هذه الخواطر التي كانت تجيش في صدري وتبعث في هذه الثورة وهذا الإيمان وهذا التصميم. أكانت خواطر صادقة أم كانت كاذبة؟ أكنت وفية لأختي بالعهد مشفقة على حقها أن يضيع، حريصة على أن أحتفظ لها بهذا العاشق الخائن رغم أنفه، مقاومة في سبيل ذلك قوة الفطرة وقوانين الحياة، أم كنت أتخذ هذه الخواطر حجة وعلة أخفي بها على نفسي ما لا أحب أن تظهر عليه، وأستر بها دون قلبي ما لا أجد الشجاعة على أن أواجهه به في صراحة وجلاء؟
لم أكن أسأل نفسي عن شيء من هذا، بل لم أكن أسأل نفسي عن شيء ما، وإنما كنت أفني قوتي وجهدي وتفكيري في أن أحول بين خديجة وبين هذا التدبير الذي يدبر وهذا الكيد الذي يراد، وكثيرا ما كان يخطر لي أني أحمي خديجة من شر عظيم، وأحول بينها وبين خطر منكر، وأقوم دونها أن يفترسها السبع أو يغتالها الذئب، وأضن بها على أن تبتذل لهذا المجرم الآثم الذي لا يعرف حقا ولا يرعى حرمة ولا يرجو وقارا لخلق ولا دين، وكثيرا ما كنت أقدر أن قيامي دون خديجة وحمايتها من هذا الخطر الذي يوشك أن يلم بها فرض يأخذني به الوفاء لما بيننا من مودة، والرعاية لما لها عندي من جميل، وكثيرا ما كان هذا كله يجتمع ويأتلف بعضه إلى بعض ويتمثل أمام نفسي مجتمعا مؤتلفا قد اتخذ من الوفاء والنصح والإخلاص زينة خلابة، فإذا هو أمامي مرآة نقية صافية، أنظر فيها فترد إلي صورة نفس كريمة عظيمة قد ارتفعت عن كل نقيصة، وأصبحت مثالا للبطولة والشهامة والتضحية في سبيل الأخت التي اغتالها الخطر، والصديق التي يوشك الخطر أن يغتالها.
ولو أني حولت وجهي عن هذه المرآة بعض الشيء في ذلك الوقت، ولو أني نظرت في نفسي ولم أنظر أمامها ولا من حولها، ولو أني تعمقت قلبي وتبينت قرارة ضميري، لرأيت شرا يا له من شر، ولشهدت هولا يا له من هول، ولعرفت أني لم أكن أفي لأختي ولا لصديقي، وإنما كنت أؤثر نفسي بما أراه خيرا وشرا، وأقف هذه النار المضطرمة المتأججة على نفسي وأحميها من أن يحترق بها غيري!
نعم! ولكني لم أكن أنظر في نفسي ولا أحاول النظر فيها، وإنما كنت مدفوعة إلى إفساد هذا الأمر الذي يدبر، ومنع الأسباب أن توصل بين خديجة وبين هذا المهندس الشاب الذي كان لأختي منذ حين، والذي يجب أن يكون لي بعد حين، كأنما ورثته عنها بعد الموت!
والغريب أن هذه الخواطر المضطربة كلها لم تفسد من أمري شيئا، ولم تغير من شكلي ولا من نظام حياتي الذي ألفه أهل الدار قليلا ولا كثيرا، إنما كنت أصبح وأمسي، وأذهب وأجيء، وأعمل وأكسل، وأنشط وأفتر، كما رآني أهل الدار من قبل، بل خيرا مما تعودوا أن يروني في الأيام الأخيرة، فقد ذهب عني الذهول، وفارقني الوجوم، واستقرت عيناي وهدأتا واستقامتا، فليستا تضطربان ولا تقدحان الشرر أو ما يشبه الشرر، ولا تنظران هذه النظرات التي كانت تخيف مني وتثير في النفوس من حولي شكا وريبا وإشفاقا، عدت إلى هدوء غير مألوف، وانطلق لساني بالحديث، بل تردد الابتسام على شفتي، وأخذ الإشراق يترقرق في وجهي من حين إلى حين، حتى لم يشك أحد في أن هذا الفرح الطارئ قد شفاني مما كنت أجد، ورد إلي ما كان قد فارقني من اعتدال المزاج.
ثم نصبح وإذا الزائرون قد أقبلوا، وإذا النشاط المبتسم السعيد يملأ الدار جميعا، وإذا أنا أشارك من حولي في مظاهر ما يجدون من فرح وبهجة، وأنفرد وحدي بلوعة لا تنقضي وحزن لا تخمد ناره.
يا لقوة النساء! لقد آمنت منذ ذلك الوقت بأنها لا حد لها. يا لمكر النساء! لقد أمنت منذ ذلك الوقت بأنه لا آخر له ولا قرار، يا لقدرة النساء على الكيد وبراعتهن في التلوين ونهوضهن بأثقل الأعباء وثباتهن لأفدح الخطوب!
لقد أكبرت نفسي، بل أكبرت المرأة في نفسي حين رأيتني أضطرب في هذا التمثيل وكأني أضطرب في الحياة الواقعة لا يأخذني أحد ولا آخذ نفسي بتصنع أو تكلف أو محاولة، وإنما أنا أكذب وأنافق وأصطنع الرياء وأخفي ما أخفي وأظهر ما أظهر في سهولة ويسر، كما أتنفس وكما أفتح عيني وأغمضها، وكما آتي ما تدفعني الغريزة إلى أن آتي به من الحركات! ومع ذلك فبعض ما عرض لي من الخطب، وبعض ما ألم بي من الهم كان خليقا أن يحول بيني وبين الحياة فضلا عن الحياة الهادئة المطمئنة، فضلا عن هذه الحياة المضاعفة التي يملؤها الكذب ويجري فيها من الرياء كما يجري الماء في الغصن الرطب.
الفصل السابع عشر
وانتهى النبأ إلى خديجة، كما تنتهي هذه الأنباء إلى الفتيات من بنات الطبقات الوسطى، ظاهرا خفيا، وواضحا غامضا، يلقى إليها ويستر عنها، تنبأ به وترد عنه، فتبتهج له نفسها وتستحي مع ذلك من أن تتحدث فيه، ويمتلئ له قلبها غبطة وسرورا، ويفرض عليها الأدب مع ذلك أن تتكلف الكآبة والحزن كلما ذكر لها، وأن تعرض بوجهها إعراضا كلما هم أحد أن يشير إليه من قريب أو بعيد، وأن تفر منه فرارا إذا كان الحديث فيه إليها صريحا جليا، على أن صديقتي وإن تكلفت من ذلك ما يتكلفه أمثالها مع من كان حولها من أهل الدار، قد آثرتني بما كانت تؤثرني به في كل شيء من هذه الصراحة الساذجة الحلوة! فلم تخف علي ما كان يملأ قلبها من فرح وغبطة، وما كان يغشى نفسها من قلق وإشفاق، وما أكثر ما تحدثت إلي وما أكثر ما تحدثت إليها في أمر الخطبة والزواج، وفيما يحيط بالخطبة والزواج من هذه الأمور التي لا تحصى ولا تستقصى! وما أكثر ما تحدثنا عن خطيبها المهندس وعما نعرف وما لا نعرف من صفاته وأخلاقه وأسرته وثروته! وما أكثر ما أغرقنا في الأمل ومضينا مع الخيال! وما أكثر ما فصلنا الأمور تفصيلا، وأطلنا الوقوف عند الدقائق والصغائر من الأمر، فتحدثنا عن الثياب التي ستشترى، وعن الحلي وعن الأثاث، وأقمنا القصور وأتقنا إقامتها إتقانا!
وأنا في هذا كله أجاري صديقتي مجاراة يسيرة لا أتكلف فيها ولا أحاول، حتى لم تشك لحظة في أني أشاركها في أمر الخطبة والزواج كما كنت أشاركها قديما في أمر اللعب، وكما كنت أشاركها إلى أمس في الدرس والقراءة والاستظهار، بل نحن نتحدث فيما سيكون غدا أو بعد غد حين يتم هذا الأمر، وحين تستقر خديجة في دارها وتصبح ربة بيت، ونتحدث في الدرس الذي لا بد من أن نمضي فيه، وفي القراءة التي لا نستطيع أن ننصرف عنها؛ ونرتب أمرنا على أني سأنتقل مع خديجة إلى حيث تكون، وسأشاركها في حياتها مهما تكن الظروف، وما الذي يمنع من ذلك وما دخلت هذه الدار إلا لها، وما عملت في هذه الدار إلا معها، وما استطاعت في يوم من الأيام أن تقبل شركة أو ترضى من أهلها أن يكلفوني بما لا يتصل بها من الأمر، كنت لها طفلة وكنت لها فتاة، ويجب أن أكون لها حين تصبح زوجا وربة بيت.
نعم! ما أكثر ما تحدثنا في هذا كله وأنفقنا فيه الساعات أثناء النهار حين كان من حولنا يضطربون فيما يضطرب فيه أهل الدار حين تتهيأ لإقامة الأفراح، وأنفقنا فيه الساعات أثناء الليل حين كان كل شيء من حولنا يسكن هذا السكون العميق الذي تمتاز به ليالي الريف! ولكن نفسي في هذه الساعات كلها لم تكن هادئة ولا مطمئنة، وإنما كانت ثائرة جامحة، وكنت كثيرا ما أكف عن الحديث لأفكر في هذا الشخص الغريب الذي يحتوي نفسين متناقضتين أشد التناقض: نفسا تبتهج وأخرى تبتئس، نفسا تعد وأخرى توعد، نفسا تمضي في الحديث بما يسر ويضر وأخرى تمضي في تدبير ما يحزن وينفع.
وتنقضي الأيام الأولى، ويكون اللقاء ويكون التزاور، ويكون الامتحان لخديجة بالنظر والحديث، ويدنو كل شيء من غايته، ويستحيل الجو إلى الوضوح والجلاء، وتنفس أهل الدارين في جو كله سرور وغبطة وأمل ورجاء في غد.
ويدنو أهل الدارين من هذا اليوم الذي تتكشف الأمور فيه عن نفسها، وتصبح الخطبة فيه أمرا واقعا يعرفه كل الناس، وأنا مؤثرة للصمت آخذة فيما يأخذ فيه أهل الدارين من ألوان النشاط، ولكني أجدني في ساعة من ساعات النهار وقد آذنت الشمس أن تنحدر إلى مغربها، وانتشر في الجو هذا الحزن الضئيل اليسير الذي ينتشر فيه مع الأصيل فيهدئ من نشاط النفوس، ويخفف من وجيب القلوب، ويلقي على الآمال المشرقة بعض الشحوب، ويجري في الأصوات الفرحة نغمة لا تخلو من كآبة، أجدني في ساعة من هذه الساعات مقبلة على ربة البيت، حتى إذا بلغت غرفتها دخلت لا أستأذن، ثم أغلقت الباب من دوني لا أستأذن، ثم وقفت واجمة بين يدي سيدتي لا أقول شيئا، وإنما تنحدر الدموع الغزيرة على خدي، وسيدتي تنظر إلي في غير إنكار وفي غير لوم، كأنها فهمت عني ما أردت أن أقول، وكأنها قد استجابت لدعائي، فهي ترفق بي وتؤكد لي أني لن أفارق خديجة ولن يحول بيني وبينها حائل، وأني سأنتقل معها حين تنتقل، وسأسافر معها حين تسافر، وسأقيم معها حين تقيم، وأني أحسن حظا منها هي! فهي مضطرة إلى أن تفارق ابنتها، أما أنا فلن أفارق سيدتي وصديقي ...
وأنا أسمع هذا الحديث وأفهمه، ولكنه لا يبلغ مني ولا يؤثر في نفسي، فما لهذا الحديث أقبلت، وما حاجتي إلى أن أسمعه من ربة البيت وقد سمعته ألف مرة ومرة من خديجة! ومتى استطاعت ربة البيت أن تفرق بيني وبين ابنتها في جد أو لعب! كلا! لم أقبل لأسمع هذا الحديث، بل لم أقبل لأسمع شيئا، وإنما أقبلت لأقول شيئا، وقد قلته في صوت هادئ تبله هذه الدموع المنحدرة المنهمرة، وكنت أقدر أنه سيقع من هذه المرأة موقع الصاعقة، وأني قد دخلت هذه الغرفة في هدوء ولن أخرج منها إلا في عنف واضطراب، ولكني قد أتممت ما أردت أن أقول، وانتظرت ثم نظرت، فلم أسمع ولم أر على هذه المرأة اضطرابا ولا دهشا ولا شيئا يشبه الاضطراب والدهش، ثم هممت أن أنصرف خجلة مستخذية، ولكنها وقفتني بالإشارة وتركتني لحظة لا تقول لي شيئا ولا تلقي إلي لحظا، ثم قالت في صوت عادي متزن: وهل أنبأت خديجة من هذا بشيء؟
قلت وقد أغرقت في البكاء: كلا يا سيدتي! وما ينبغي لنفس خديجة الطاهرة البريئة أن يلقى إليها حديث هذا الإثم. ولولا أني أؤثر خديجة وأؤثر الأسرة كلها لما أنبأتك بشيء، ولما أفضيت إليك بسر هذه الأسرة البائسة التي تعيش في بؤسها المظلم في أقصى الريف.
قالت وقد نهضت إلي متثاقلة: لا بأس عليك! فلن يذاع سر أسرتك، ثم ضمتني إليها وقبلتني وهي تقول: لقد أنقذت ابنتي من شر عظيم.
الفصل الثامن عشر
قلت: نعم يا سيدتي، قد أنقذت خديجة من شر عظيم، ولكنك ترين معي أن لا مقام لي في هذه الدار منذ الآن! فكل شيء يأمرني بالتحول عنها. قالت وقد أحسست في صوتها أنها مشغولة البال منصرفة النفس عما يمكن أن أبسط لها من حديث: وما ذاك؟ قلت مقتصدة متعجلة مضمرة أني إنما أتحدث لأعتذر عما سآتي من الأمر: لم أتعود يا سيدتي أن أخفي على خديجة شيئا أو أكتم من دونها سرا، وما ينبغي بل ما أستطيع أن أبقى معها مستأثرة بعلم ما أعلم، طاوية عنها مسعاي عندك، وستعلم خديجة من غير شك أن هذا الأمر الذي بدئ فيه قد أهمل وعدل عنه، وسيكون له في نفسها أثر حاد، ما أشك في ذلك، ولست آمن نفسي حين أحاول ما يجب علي من تسليتها وتعزيتها أن أبوح لها ببعض الحديث، والخير كل الخير في أن أتعجل الرحيل، وما دام الله قد قضى علي الشقاء فلا بد من الإذعان لما قضى الله، قالت: وأين تريدين أن تذهبي؟ قلت : لا أدري! وإنما يجب أن أذهب أولا، فأما إلى أين فشيء سأتبينه بعد ذلك ...!
ولم يرتفع ضحى الغد حتى كنت بعيدة عن دار المأمور قريبة منها مع ذلك، ألحظ من كثب ما يكون بين هاتين الأسرتين اللتين لم تتصل بينهما الأسباب إلا لتنقطع، ولم تنشأ بينهما المودة إلا لتستحيل إلى عداء أو شيء يشبه العداء، ولم أجد في ذلك مشقة ولم أتكلف فيه عناء، وإنما تحولت من دار إلى دار، وقضيت يوما أو بعض يوم عند هذه المرأة التي تحدثت عنها في أول القصة، عند زنوبة تلك التي عرفتها في بيت العمدة وقصصت من حديثها ما قصصت.
أقبلت عليها نحو الظهر، فألفيتها قائمة تكيل بعض ما تكيل من الحب، وأمامها نسوة يشترين منها: هذه تشتري القمح، وهذه تشتري الذرة، وهذه تشتري الفول، هذه تشتري نقدا، وهذه تشتري نسيئة، وزنوبة تحتكم في هذه وتلك صائحة مسرفة في الحركة، لا يستقر لسانها في فمها، ولا يستقر وجهها أو لا يستقر ما يختلف عليه من الصور والأشكال، فهي عابسة حينا، وباسمة حينا، وهي تفعل بعينيها وشفتيها وحاجبيها الأفاعيل، وتدل بها على ما قد يعجز الكلام عن أن يدل عليه، وهي تسب هذه جادة وتسب هذه مازحة، وهي تلمح حينا وتصرح حينا آخر، وهي تمضي في ذلك والنسوة يسمعن لها راضيات عنها معجبات بها، مشاركات لها في بعض ما تقول وفي بعض ما تأتي من الحركات، وأفراد من شباب المدينة قد اجتمعوا غير بعيد ينظرون ويسمعون، ثم يتبادلون بينهم أحاديث فيها الدعابة والرضا، وفيها اللذة والإعجاب.
فلما رأتني زنوبة لم تنكرني، ولكنها لم تغل في الترحيب بي، وإنما نظرت إلي من الرأس إلى القدم، ثم قالت في صوتها النحيف: ها أنت ذي تقبلين! لقد بعد العهد بك منذ التقينا في بيت العمدة، ولكني كنت أنتظرك، وما شككت في أنك ستأتين إلى هذا البيت وستقومين مني هذا المقام. قلت: فهل أنبأك الودع بهذا؟ قالت: وما يدريك! لعل الودع قد أنبأني من أمرك بما تعلمين وبما لا تعلمين، اصعدي إلى هذه الغرفة من فوقنا فتخففي من حقيبتك واستريحي، فسأفرغ لك بعد حين، ولا تتعجلي الطعام إن كنت جائعة فإن وقت الغداء لم يحن بعد، وإن كنت أقدر من أمرك أنك لا تحفلين بالوقت فيما يتصل بالطعام، فما أرى إلا أنك تأكلين في كل وقت، هذا شأنكن أيتها الفتيات تشغلن ببطونكن أكثر مما تشغلن بأي شيء آخر. ومن يدري! لعلكن تشغلن ...
فقطعت عليها حديثها بالانصراف عنها والتصعيد في السلم إلى الغرفة التي دلتني عليها، ولكنها تبعتني مع ذلك بالسخرية والدعابة، وأخذت تقول: اهربي، اهربي، وجدي في الهرب، إن أذنيك النقيتين البريئتين لا تستطيعان أن تسمعا لما ألقي من حديث، إنك تخافين من احمرار الوجه واضطرابه، لن تخدعيني وإن استطعت أن تخدعي غيري؛ فإنك لتحبين هذا الحديث وتخوضين فيه وفي شر منه مع أترابك من الفتيات، ولكنكن تتصنعن الحشمة وتتكلفن الحياء. على أنها لم تمض في هذا اللغو إذ لم تأنس استماعي لها وانصرافي إليها فمضت فيما كانت فيه من بيع وكيل ومن دعابة بالوجه واللسان.
وفرغت لي بعد ساعة، فأقبلت علي هادئة باسمة، تسألني عن أمي وأختي وأجيبها عن أسئلتها بما أريد، فتصدق ما تصدق وتكذب ما تكذب ثم قالت: وأنت الآن تريدين العمل، فأين تحبين أن تعملي؟ وكيف تريدين أن تعيشي؟ إن لك من جسمك الجميل، ووجهك هذا الوضيء، ومنظرك هذا الذي يسحر الشبان ويخلب عقول الرجال، ما يكفل لك حياة فيها ثروة وغنى، وفيها نعيم وترف، وفيها لذة ومتاع، وفيها تسلط وسيطرة واستخفاف وعبث بعقول الشباب والشيب. قلت مغضبة: دعيني من هذا الحديث، ولست أريد منك شيئا، وما أقبلت أستعينك على شيء، وإنما ألممت بك محيية لك قبل أن أترك هذه المدينة فإني عنها مرتحلة، قالت وقد أدارت عينيها وأسبغت على وجهها شكلا مضحكا تملؤه السخرية ويشيع فيه التكذيب والاستهزاء، وأرسلت من فمها شهيقا منكرا أتبعته بشخير منكر ما أشك في أن الشباب المجتمعين غير بعيد قد سمعوه فتضاحكوا له، وانتهى إلينا ضحكهم حيث كنا ، فزادها مرحا ونشاطا، وملأني خزيا واستحياء، قالت: لا تراعي لا تراعي، فلن أعرضك للبيع كما كنت أعرض هذه الحبوب آنفا، ولن أكرهك على ما لا تحبين، ولكني أعرض عليك ما عندي، فأنت تكرهين هذه البضاعة أو تظهرين كرهها الآن! فعندي غير هذه البضاعة، ولكن ثقي يا ابنتي أنك راجعة إلي فطالبة مني ما ترفضين الآن، لست الأولى ولن تكوني الأخيرة ... تريدين عملا كله جد كهذا الذي كنت فيه عند المأمور، فلم تركت بيت المأمور؟ ولكن هذا من أسرارك، وإن لم يكن للفتيات أمثالك على أمهاتهن من أمثالي سر؛ فقد أحب أن أعلم من أمرك جليه وخفيه لأوصي بك عن علم، أخرجت سارقة؟ أم خرجت لسوء العشرة؟ أم خرجت للكذب؟ أم خرجت لكثرة الصياح؟ أأغضبت سيدك؟ أم أغضبت سيدتك؟ أم أغضبت بنت المأمور؟ أم أغضبتهم جميعا؟ وكيف خرجت من هذا البيت في هذا الوقت؟ وهل تعلمين أن في المدينة مأمورين أو بيتين كبيت المأمور؟ وأنت تخرجين في الوقت الذي يستعد فيه البيت للأفراح والليالي الملاح، وتنزلين عما كان يحق لك أن تطمعي فيه من العطايا والهبات! فليس من شك في أنهم كانوا سيمنحونك كسوة فاخرة، وليس من شك في أن كثيرا من النقد كان سيقع إليك من هذا ومن ذاك ومن هذه ومن تلك، فكيف تركت هذا كله؟ أتركته راضية؟ ولماذا؟ أم أكرهت على تركه؟ ولماذا؟ تكلمي! إني لا أحب الغموض، ولا أطمئن إلى الأسرار، ولا خير في التمنع والإباء والكتمان، فما تخفينه اليوم سأظهر عليه غدا، وسأظهر عليه قبل أن تغيب الشمس، ولست بزنوبة إن أخفيت علي أسرار فتاة مثلك لم تبلغ العشرين، وأنا أعلم من أمر هذه المدينة وأسرار أهلها وأخبار الأسر التي تقيم فيها أو تفد عليها أو ترحل عنها ما أعلم. تحدثي! كيف خرجت من بيت المأمور أو كيف أخرجت منه؟
وأمام هذا السيل المنهمر من الحديث، وأمام هذه الأسئلة الملحة، وهذا الحرص الشنيع على الاستطلاع واستكشاف الأسرار، لم يسعني إلا أن أنهض وأعمد إلى حقيبتي فأحملها وأمضي نحو السلم، ولكني لم أكد أبلغه حتى رددت عنه ردا، وحتى كانت حقيبتي قد خطفت مني خطفا، وحتى كانت زنوبة قد أحاطتني بذراعيها المنكرتين، وأخذت تلح علي بالضم والتقبيل تهدئني وتترضاني، وأنا لذلك كارهة أشد الكره، وعلى ذلك ساخطة أشد السخط، ولو استجبت لنفسي لصحت مستنجدة طالبة الغوث؛ فقد أخذت أمقت نفسي وألومها، وألعن هذه اللحظة التي خطر لي فيها أن آوي إلى دار هذه المرأة ريثما أهيئ أمري بعض الشيء وأدبر لي عملا أمضي فيه.
ولكن زنوبة ملحة علي بالرفق والملاطفة، وقد خفت صوتها وعذب حديثها، وأخذت تتحدث إلي بأمور ليس بينها وبين ما كنا فيه صلة، كأنها أعرضت عن كل ما من شأنه أن يسوءني أو يروعني أو يقلقني عن هذه الدار التي اقتنعت زنوبة بأن لا بد من أن يطول فيها مقامي أياما أو أسابيع.
ثم أنظر فإذا نحن قطعنا وقتا غير قليل في حديث هادئ فيه الجد وفيه الهزل، وإذا أنا آنس إلى هذه المرأة وأطمئن إلى ما أحس من عطفها، وأنظر فإذا حياتنا قد مضت في هذه الساعات يسيرة قد زال منها التكلف، وإذا نحن قد تغدينا معا، وإذا كل واحدة منا قد أخذت تتحدث إلى صاحبتها في شيء من السذاجة والثقة غريب، وإذا نحن نستحضر آلامنا وأحزاننا، وإذا كل واحدة منا تستكشف في صاحبتها من وراء هذه الصورة الظاهرة التي يعرفها الناس صورة أخرى خفية من صور البؤس وتمثالا مستترا من تماثيل الشقاء، وإذا كل واحدة منا ترثي لصاحبتها أو تتخذ الرثاء مظهرا من مظاهر الرثاء لنفسها، وإذا نحن نشترك في البكاء ونتعاون عليه كما كنا نشترك منذ حين في الضحك ونستبق إليه، ولم يكد ينصرم النهار ويقبل الليل حتى كانت الألفة بيننا قد انتهت بنا إلى هذا الطور الذي يطمئن فيه الإنسان إلى الإنسان وإن احتفظ بشيء من الاحتياط ... فلم أظهر زنوبة على سري، ولكني أنبأتها بأن أختي قد قضت في الغرب، وزعمت لها أني إنما خرجت من بيت المأمور في إثر مغاضبة كانت بيني وبين الخدم، ثم لم أظفر بما كنت أراني أهلا له من الإنصاف، وقد سمعت مني ما أقول وهي إلى التكذيب أقرب منها إلى التصديق، ولكنها تجنبت الجدال والإلحاح فيه، وأظهرت الرثاء لي والعطف علي، ووعدتني بأنها ستجد لي عملا شريفا مريحا إذا كان الغد، وألحت علي في أن أقضي الليل معها وقد فعلت، وقد أنفقنا جزءا غير قليل من الليل في مثل ما أنفقنا فيه النهار، فلما أصبحنا غابت عني ساعة أو نحو ساعة، ثم عادت إلي متهللة مشرقة الوجه وهي تقول: لقد وجدت عملا ما أشك في أنه سيرضيك، ستعملين حيث كانت تعمل أمك قبل أن ترحلن عن المدينة في بيت فلان، أتذكرين اسمه؟ أتعرفينه؟ إنه رجل من أصحاب الثراء واليسر، وقد لا تجدين في داره مثل ما كنت تجدين في دار المأمور من الترف، ولكنك ستجدين عنده سعة ويسرا، ودماثة في الخلق، وتبسطا في المعاملة؛ فزوجه كريمة النفس، وبناته صالحات لم يفسدهن الذهاب إلى المدارس ولا استقبال المعلمين. فهذا الرجل أمير يضن ببناته على هذا الفساد، ويرسل أبناءه كلهم إلى القاهرة ليتعلموا فيها وليصيروا فيما بعد موظفين كبارا كالمأمور والقاضي والمهندس، وإذا أقبل الصيف وعاد هؤلاء الشبان من القاهرة امتلأ البيت فرحا ومرحا، وأصبحت أيام الأسرة كلها أعيادا، وازداد حظ الخدم من الرغد والسعة ولين العيش. وأنا كثيرة الاختلاف إلى هذا البيت منذ استقرت هذه الأسرة فيه منذ أعوام وأعوام، وقد ربيت أبناءها وبناتها، وقد تبنيت منهم واحدا بعينه هو الآن شاب نجيب سيكون بعد قليل موظفا كبيرا، وهو يعرف لي هذا الحق ويحبني ويكرمني ويؤثرني بالخير والمعروف، قلت: وكيف تبنيته؟
قالت وهي تضحك: أتجهلين هذه العادة؟ لقد أخذته حين كان وليدا فأدخلته من بين ثوبي وبيني، أدخلته من جيبي وأخرجته من تحت ذيلي، فأصبحت كأني والدته، وأصبح لي عليه حق الأمهات وله علي حق الأبناء. ستعملين في هذا البيت وسترضين، وسأراك كل يوم إذا أصبحت وسأراك إذا أمسيت؛ فليس بين هذا البيت وبيننا إلا خطوات، وأنا أعمل فيه ساعات من نهار. وقد تحدثت عنك إلى ربة البيت فعرفتك وعرفت أمك وأختك وقبلتك راضية مسرورة، فهلم بنا فقد تركتها على أن أعود بك إليها بعد لحظات، ولست أخفي عليك أنها كرهت بعض الشيء استخدامك بعد أن خرجت من بيت المأمور لما بين الأسرتين من مودة، ولكنها لم تطب نفسا عن تركك عرضة لما يتعرض له الفتيات من الشر بعد أن عرفت أمك وحمدت عشرتها، فهلم بنا فقد تتاح لنا أوقات طوال يكثر فيها بيننا الحديث.
ونهضت معها وليس في نفسي ريب في أنها قد نصحت لي وأخلصت في النصح والود، وفي نفسي بعض الأمل في أنها ستعينني يوما ما على تحقيق ما أريد.
الفصل التاسع عشر
وأقبلت معها على بيت من بيوت الريف هذه التي يظهر فيها الثراء؛ ويحس أهلها سعة العيش، ولكنهم على ذلك لا يأخذون من ترف الحضارة إلا بأيسره وأهونه، محتفظين بما ألفوا من هذه الحياة الريفية التي لا دقة فيها ولا رقة ولا افتنان في إرضاء الذوق، والتي تكره النظام وتنفر منه، وترى في الترتيب والتنسيق تكلفا وجهدا لا خير فيهما ولا حاجة إليهما، بيت من هذه البيوت التي لا يكاد يدخلها داخل حتى يحس أن أهلها ميسورون ولكنهم فلاحون كما يقال؛ فالمتاع كثير ولكنه مهمل مضطرب لم ينظم ولم ينسق ولم يهيأ، وإنما حمل إلى الدار ثم استقر فيها كما استطاع أن يستقر.
والفرق فيها ملغى أو كالملغى بين حجرات الاستقبال للسيدات وحجرات الاستقبال للسادة، بل بين حجرات الاستقبال وحجرات الطعام، إنما يستقبل أهل الدار حيث توجد المقاعد والكراسي، ويأكل أهل الدار حيث يتفق لهم أن يأكلوا، إلا أن يطرقهم طارق أو يلم بهم ضيف فيكون الطعام حيث يكون الاستقبال، ثم يكون نوم الطارق أو الضيف حيث يكون الطعام والاستقبال أيضا.
في البيت مقاعد وكراسي، ولكن أهل الدار يؤثرون الجلوس على هذه الحصر والأبسطة قد ألقيت على الأرض إلقاء. فإذا طرق الطارق أو أقبل الضيف عرفت الكراسي والمقاعد أن لها في البيت منفعة وعملا.
والفرق ملغى أو كالملغى بين من في الدار من الناس وما في الدار من الحيوان على اختلافه، فالدجاج مطلق يمضي حيث يشاء ويستقر هنا ثم يستقر هناك حاملا معه أقذاره وآثاره، ولا يحمى منه إلا حجرة أو حجرتان، ولا تحميان إلا في مشقة وتكلف للجهد. وقد لا يكره أهل الدار إذا اشتد القيظ أن ينفقوا مساءهم تحت السماء قريبا من البقرة أو الجاموسة أو ما إليهما، يطلبون النسيم حيث يجدونه، لا يتكلفون في ذلك ولا يتصنعون، ولا يجدون في مخالطة الحيوان حرجا ولا أذى. هي الحياة السهلة اليسيرة الغنية همت أن تتحضر وأن تترف، فأخذت من الحضارة والترف بحظ، ثم لم تستطع أن تتقدم فاكتفت بما أخذت، ووقفت عند حد من الحدود لا تعدوه.
ولم أكد ألقى ربة البيت ومن حولها بناتها وخادماتها يعملن وتعمل معهن، يتحدثن وتشاركهن في الحديث، حتى أحسست أني سأجد في هذه الدار راحة وتعبا، وسألقى فيها نعيما وبؤسا. وقد صدق حسي، فنعمت في هذه الدار وشقيت: نعمت بهذه السذاجة التي ردتني إلى شيء يشبه حياتي في أقصى الريف، وخلطتني بأهل الدار كأني واحدة منهم، وألغت ما بين السادة والخدم من الفروق أو كادت تلغيه، ولكن أي حياة يموت فيها العقل أو يأخذه شيء كالموت! لم آسف على ما فقدت من الترف، ولعلي لم آسف على ما فقدت من صحبة خديجة؛ فقد استيأست من صحبتها واتخذتها - سواء أردت أم لم أرد - لنفسي خصما، حاربتها وإن زعمت أني كنت أدافع عنها، وظلمتها وإن زعمت أني أنقذتها، وانتصرت عليها وإن زعمت أني لم آسف لما فاتني من صحبتها فلم يكن من ذلك بد! ولكن أي أسف وأي حزن وأي لوعة وحسرة، وأي ندم يذيب القلب ويملأ النفس كآبة ويأسا هذا الذي كنت أجده إذا أصبحت وأمسيت وقضيت الليل والنهار بين عمل باليد أو حديث مع أهل الدار لا متاع فيه للعقل ولا لذة فيه للقلب!
أين القراءة مع خديجة، وأين القراءة منفردة؟ أين هذه الكتب العربية وهذه الكتب الفرنسية التي كنت أنفق معها أكثر النهار وشطرا من الليل قارئة أو متحدثة عما قرأت أو متمنية لاستئناف القراءة؟ لقد تركت هذا كله في بيت المأمور، وأقبلت إلى بيت لا يقرأ من أهله أحد، إلا رب البيت؛ فإنه يقرأ إذا أصبح، ويقرأ إذا أمسى، وأنا أسمعه في الصباح والمساء، وأكاد أحفظ عنه ما يقرأ. وما يعنيني مما يقرأ! إنما هي أوراده وأدعيته، ودلائل الخيرات. وأين أنا من هذا، وأين هذا مني؟!
ولقد خرجت من بيت المأمور لم استصحب كتابا، وما كان لي أن أستصحب كتابا، وإنما كانت كلها كتب لخديجة. ولقد سألت نفسي ألف مرة ومرة: أين يمكن أن أظفر بهذا الكتاب؟ فليس في هذه المدينة من مدن الريف كتب تباع إلا هذه التي يعرضها الطوافون في أيام السوق أو في يوم الخميس من كل أسبوع، يعرضونها في السوق ويمرون بها على الدور، وليس لي فيها أرب ولا منفعة، إنما هي قصص لا تعجبني ولا تروقني وسحر لا أحسنه، وصلوات دينية لا أعرف منها قليلا ولا كثيرا.
أين هذه الكتب المترفة ذات الطبع الجميل والجلد الأنيق، هذه التي تأتي من القاهرة والتي كنت أجد اللذة والمتاع حين آخذها في يدي أو حين أنظر إليها؟ أحيل بيني وبينها آخر الدهر؟ أقضي علي أن أرد كما كنت فلاحة من بنات الريف تنفق نهارها في هذا العمل الآلي الذي لا يكاد يفرق بينها وبين ما يحيط بها من النبات والحيوان؟ كلا ...!
هؤلاء فتيان الأسرة قد أقبلوا من القاهرة، وقد رأيتهم يفرغون حقائبهم، فما أكثر ما رأيتهم يستخرجون منها من الكتب ذات الأحجام المختلفة المتباينة، منها الضخم ومنها النحيف، منها متقن الطبع ومنها ما أهمل طبعه إهمالا، منها ما جلد في عناية وما ترك على حاله التي خرج بها من المطبعة! ولكن أين مني هذه الكتب؟ وكيف السبيل إلى النظر فيها؟ بل كيف السبيل إلى الوصول إليها؟ هنا حدثتني نفسي بما لم تحدثني به قط، فأنكرت حديثها بعض الشيء، ولكني لم ألبث أن عرفته وقبلته واطمأننت إليه ثم صممت عليه تصميما، وأي بأس في أن أختلس الكتاب اختلاسا فأنظر فيه وقتا طويلا أو قصيرا، ثم أرده إلى مكانه لم يمسسه بأس ولم يصبه مكروه؟ أسرقة هذه؟ أإثم هذا الذي أنا مقدمة عليه، إن وجدت إلى الإقدام عليه سبيلا؟ والله يشهد ما سرقت ولا فكرت في السرقة، وما اختلست ولا فكرت في الاختلاس إلا هذه المرة، والله يشهد ما لمت نفسي على ذلك ولا أشفقت عليها من تورط في الإثم أو تعرض للعقاب، وإنما قضيت أسابيع غريبة فيها مهارة لم أكن أعرف لنفسي منها حظا، وفيها خوف وإشفاق، وفيها بين ذلك لذات لن أنساها، فكم خدعت أهل الدار، وكم تغفلتهم، وكم اختلست الكتاب من هذه الكتب فأخفيته بيني وبين ثوبي، ثم انحزت به إلى حيث اتخذت لنفسي مأمنا لا أخشى أن يعثر علي فيه، ثم أخذت أقلب صفحاته وألقي عليه نظرات طوالا أو قصارا تغريني به أو تصرفني عنه، وأنا أجد لهذه المخادعة ولهذا الخوف ولهذه القراءة لذة غيرت حياتي تغييرا وكادت تصرفني عن هذه الخواطر التي كانت تصاحب نفسي وتملأ قلبي وترسم أمام عيني بيت المأمور وبيت المهندس، صورة خديجة وصورة هذا الشاب.
نعم! كادت هذه الحياة الجديدة تصرفني عن هذا كله، لولا حديث سمعته وأنا أطوف بألوان الطعام وأقداح الماء على سادتي في ليلة من الليالي: سمعت حديثا عن المأمور اضطربت له نفسي اضطرابا، ولولا أني أنفقت جهدا عنيفا لظهر هذا الاضطراب ولسقط من يدي ما كنت أحمله من آنية؛ فقد نقل المأمور من المدينة إلى مدينة أخرى في أقصى الأرض مما يلي البحر، وكان هو الذي طلب هذا النقل وسعى فيه وتوسل إليه بفلان وفلان، والناس يهمسون بأنه إنما فعل ذلك ليفر بابنته من جوار المهندس الذي كان قد خطبها ثم قطعت الخطبة، والناس يختلفون، فمنهم من يرى أن المهندس هو الذي قطع الخطبة لأشياء بدت له، ومنهم من يزعم أن المأمور هو الذي رفض الخطبة لما تبين من سوء سيرة هذا الشاب.
سمعت هذا واضطربت له، وكظمت عواطفي وأكرهت نفسي على التزام الأمن والهدوء ما اضطررت إلى الخدمة، فلما أتيحت لي العزلة أرسلت نفسي على سجيتها فقضيت ليلة ساهرة حائرة مفكرة محزونة. ولكن الصباح لم يسفر حتى أسفر معه للنفس أمل لا يخلو من حزن ولكنه أمل على كل حال، من أجله أفسدت الأمر على خديجة، ومن أجله خرجت من بيت المأمور، ومن أجله نفيت نفسي في هذه الدار، فقد خلا الجو لي في المدينة، وأصبح من الممكن أن تتصل الأسباب بيني وبين هذا المهندس الشاب، وأصبح من الممكن بل أصبح مما لا بد منه أن يكون الصراع بينه وبيني، فليعلمن بعد وقت قصير أو طويل أذهب دم هنادي هدرا أم لا يزال على هذه الأرض من هو قادر على أن يظفر له بالثأر ويشفي نفسه بالانتقام؟
الفصل العشرون
وقضيت بعد ذلك أسابيع حائرة أشد الحيرة، مرتبكة أعظم الارتباك، تضطرب الخواطر في نفسي وتختلف وتزدحم دون أن أقدر على تنظيمها أو أجد لي منفذا منها إلى هذا الخاطر الذي كنت أطلبه وألح في طلبه وأريد أن أطمئن إليه. فلم يكن بد من أن أتصل بخدمة هذا المهندس الشاب، ولم تكن السبيل إلى ذلك ميسرة؛ فأنا عاملة في هذه الدار لا أجد من أهلها ما يزعجني عنها أو ما يضطرني إلى فراقها، وسكينة عاملة عند المهندس، لا تجد منه ما يؤذيها، ولا يجد منها ما يصرفه عنها أو يزهده فيها.
وكنت أجهد نفسي أثناء هذه الأسابيع إجهادا شديدا متصلا ألتمس مخرجا لي من هذه الدار ومخرجا لسكينة من تلك، وأريد مع ذلك أن أجتنب الشر والإساءة ما وجدت إلى اجتنابهما سبيلا، وكثيرا ما سمعت سادتي يتحدثون أثناء الغداء أو أثناء العشاء عن مبادلة يسعى فيها أكبر أبناء الدار وكان موظفا في إقليم بعيد، وكان يريد ويريد أهله أن ينتقل إلى المدينة التي نحن فيها ليعيش بين أهله مسرورا موفورا، فكان يسعى في أن يبادل موظفا في المدينة ليأخذ كل منهما مكان صاحبه، وكان التراضي قد تم بينهما بعد أخذ ورد وبعد سعي وإلحاح، وكان السعي متصلا في أن ترضى الحكومة عن هذه المبادلة، وكان الأمل يدنو حينا من هذه الأسرة ويبعد حينا آخر، وكان رب البيت وربته يحرصان على تحقيق هذا الأمل أشد الحرص، ويكثران الحديث فيه، وكانا يتصوران ابنهما وقد عاد إليهما بعد طول الغربة في أقصى الصعيد، وكانا يهيئان له في أحاديثهما غرفته وينظمان فيها الأثاث ويذكران ما يجب أن يشتري من المتاع، ويتحدثان بما سيتغير من نظام الدار إذا أقبل هذا الشاب الذي تعلم في المدارس وتعود حياة الترف والنعيم، والذي يتكلم الفرنسية ويتأنق في اللباس، ولا يأكل كما يأكل أهل الدار جالسا على الأرض إلى هذه المائدة المنخفضة، عليها هذه الصينية النحاسية البيضاء في الأيام العادية، وعليها تلك الصينية الصفراء التي لم تكن توضع حتى يسرع إليها الصبيان والشبان يتكلفون قراءة ما كان عليها من بعض النقوش قبل أن يرص الخبز عليها رصا فيخفي هذه النقوش إخفاء.
نعم! ولم يكن يأكل بيديه كما يأكل أهل الدار، وإنما كان يصطنع هذه الأدوات التي يصطنعها المترفون. وكان سيد البيت وسيدته يتحدثان بذلك منكرين له بأطراف ألسنتهما معجبين به أشد الإعجاب في قلوبهما، وكان الشبان من أبنائهما يسمعون أحاديثهما هذه ويعرفون سخطهما الظاهر وإعجابهما الخفي، فيبسمون صامتين ما أقام أبوهم، فإذا انصرف لشأنه امتلأت أفواههم بالضحك وانطلقت ألسنتهم بالدعابة، وأمهم تسمع لهم وتنظر إليهم، منكرة عليهم بطرف اللسان معجبة بهم في أعماق القلب، وكنت أنا أسمع الأحاديث كلها فألهو بها وأطيل التفكير فيها، فهل من سبيل إلى أن تتم بين سكينة وبيني مبادلة كهذه التي يراد أن تتم بين ابن هذه الدار المنفي في أقصى الصعيد وهذا الموظف القبطي المنفي في أدنى الأرض؟!
ولكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه المبادلة؟ بل كيف السبيل إلى عرضها على سكينة أو التحدث إليها فيها؟ بل كيف السبيل إلى تعليل هذه المبادلة لسكينة؟ وما الذي يزعجها عن منزلها هذا الذي تطمئن إليه وتسود فيه لا تكاد تذعن لأحد ولا تلقى من أحد ما يلقاه الخدم من السادة؟ ما الذي يزعجها عن هذا المنزل ويحملها على أن تنتقل منه إلى هذه الدار التي لا حظ لها من ترف والتي ليس فيها هذا المهندس الشاب؟ وهب سكينة حنت واطمأنت إلى مثل هذا العرض السخيف، فكيف يكون تعليل ذلك لسيدها؟ وكيف يكون تعليل ذلك لسيدتي؟ كلا! هذه أحلام ليس إليها من سبيل، ومهما أجتهد ومهما أحاول فإن الشر لا ينال إلا بالشر، والإثم لا يدرك إلا بالإثم، ولن أبلغ هذه الغاية التي أسمو إليها حتى أقتحم في سبيلها غمرات وأقترف في سبيلها آثاما.
لا بد إذن من بعض الشر، ولا بد من أن أمكر حتى أقصى عن هذه الدار، ومن أن أكيد حتى تقصى سكينة عن بيت المهندس الشاب، وما أسهل المكر حين تتهيأ له النفس! وما أيسر الكيد حين يطمئن إليه الضمير! ومتى عجزت المرأة عن أن تبلغ من المكر والكيد ما تريد؟! لن أجد في تحقيق ما أريد جهدا ولا مشقة إذا رضيت نفسي ما لا بد من أن ترضاه من الشر، واستباحت ما لم تكن تستبيحه من الإساءة والإيذاء.
فأما سكينة فأمرها ميسور. وإنما هي زيارة للبستاني وإغراء له ببعض المال، واتفاق معه على أن يفسد الأمر على هذه الفتاة ما وسعه ذلك، حتى إذا انتهى منه إلى ما أحب وأخرجت سكينة من الدار؛ سعى إلى زنوبة من قبل سيده يلتمس خادما، ويومئذ ...
وأما مخرجي أنا من هذه الدار التي أعمل فيها فليس أيسر منه ولا أهون. لقد دخلت الدار ولم تكن في حاجة إلي، وإنما قبلني أهلها رفقا وعطفا علي وإحسانا إلي ورعاية لعهد أمي، فأنا عندهم ضيف، أستطيع أن أرحل متى شئت، وأستطيع أن أقيم ما أحببت، على أن ظروف الحياة لم تضطرني إلى أن أتكلف الاستئذان في الرحيل والتماس العلل والمعاذير، وإنما قضت بأن أخرج من هذه الدار إخراجا وأنبذ منها نبذا، وإني لأذكر قصة ذلك الآن فأبسم لها ابتساما ملؤه الحنان والحب، وكثيرا ما ذكرت هذه القصة قبل اليوم فامتلأ قلبي حبا لهؤلاء الناس وحنانا إلى هذه السذاجة التي كانوا يعيشون فيها والتي كانت تصور لهم أمورهم كلها في صورة الجد الذي لا يشبهه جد، والتي لا يتحدث بها الناس في هذه الأيام إلا ضحكوا منها ساخرين إن كانوا قساة القلوب، وابتسموا لها عاطفين إن كانوا يقدرون الذكرى ويحبون الحياة التي لا تكلف فيها ولا رياء ...!
كان شباب الدار يعكفون أكثر النهار على كتبهم هذه التي أقبلوا بها من القاهرة، يقرءون فيها قراءة متصلة لا يكاد يصرفهم عنها شيء، وكثيرا ما كانوا يدعون إلى طعامهم فيبطئون، وكثيرا ما كان إبطاؤهم يغيظ أباهم ويملؤه بهم إعجابا ولهم حبا. وكان أهل الدار جميعا - وربها أولهم - مقتنعين أشد الاقتناع بأن هؤلاء الشباب إنما كانوا يعكفون على هذه الكتب حبا للعلم وإيثارا للدرس وجدا في التحصيل، وكانوا يتحدثون فيما بينهم بنشاط هؤلاء الشباب الذين لا يكفيهم العمل طول العام الدراسي في القاهرة، ولكنهم يعملون أثناء الراحة ويحرمون أنفسهم لذة الرياضة والاستمتاع بشيء من النعيم، وإنما هي الكتب إذا أصبحوا، وهي الكتب إذا أمسوا، وهي الكتب إذا آن أن يقيلوا بعد الغداء، ما أشد فتنة العلم لهؤلاء الطلاب الأذكياء الذين يحبونه أشد الحب ويأخذون منه بأعظم الحظ، ويريدون أن ينبغوا فيه وأن يظفروا بالشهادات في غير إبطاء، وأن يكونوا موظفين بعد ذلك يتقاضون المرتبات في آخر الشهر ويؤدونها كلها أو بعضها إلى أهلهم!
وكان أهل الدار يجدون في هذه الأحاديث لذة، ويطلقون خيالهم فيها إطلاقا، وكانت سيدة الدار تتمثل هذا كله وتتوسل في تحقيقه وتعجيله إلى الله بهذا الدعاء الساذج اليسير الذي تجري به ألسنة أمثالها من أهل المدن والقرى، وتكثر في الوعد بالنذور المختلفة لهذا الشيخ وذلك الولي.
وكان رب الدار لا يكف عن التحدث بنشاط أبنائه وعكوفهم على الكتب أكثر النهار وشطرا من الليل، حتى لقد كان يغيظ أصحابه ويملأ قلوبهم حسدا، ثم يتحدث بذلك إلى زوجه فيملأ قلبها خوفا من الحسد والحاسدين، وكان هذا الرجل الطيب الكريم يجد لذة في أن يختلس الوقت من حين إلى حين وينتهز الفرصة التي يغيب فيها أبناؤه عن هذه الغرفة التي رصت فيها الكتب رصا فينسل إلى الغرفة انسلالا كأنه اللص، ويقف أمام هذه المائدة أو هذه الموائد التي نظمت عليها الكتب تنظيما، ويلقي على هذه الأسفار نظرات ملؤها الإكبار والإجلال، وقد يمد يده في تحفظ واحتياط إلى هذه الكتب فيمسها مسا ويمسحها مسحا يسيرا، كأنه يتبرك بها ويلتمس عندها ما يلتمسه عند الأولياء والقديسين إذا لقيهم أحياء أو زار قبورهم أمواتا.
وقد يدفعه حب هذه الكتب وكلفه بها وحاجته الشديدة إلى الاستطلاع إلى شيء من الجراءة، فيأخذ كتابا منها وينظر فيه ليحفظ عنوانه وليتحدث به إلى أصحابه إن خرج إليهم، أو ليقرأ فيه سطرا أو أسطرا يفهمها أو لا يفهمها، وهو يؤثر فيما بينه وبين نفسه ألا يفهمها، فذلك أدنى إلى الإعجاب وأشد إمعانا فيما ينبغي للعلم من الغرابة والارتفاع عن عقول العامة والجهلاء، وهو أدنى إلى ما ينبغي من الإعجاب بهؤلاء الشبان الناشئين الذين يعرفون ويفهمون ويسيغون ما لا يعرف آباؤهم ولا يفهمون ولا يسيغون. وكثيرا ما كان يظهر هذا الرجل ميلا فيه كثير من الحياء والتردد إلى أن يحدثه أبناؤه ببعض ما يقرءون ويعطوه شيئا من هذه الكنوز التي يملئون بها قلوبهم وعقولهم إذا أصبحوا وإذا أمسوا، ولكنه كان شقيا دائما لا يكاد يلمح لأبنائه ببعض ذلك حتى يجد منهم نفورا وازورارا، فيضطر إلى الصمت والرضا بما هو فيه من جهل وحرمان. وكثيرا ما كان يتحدث إلى زوجه ببخل العلماء وضنهم بالعلم وإيثارهم أنفسهم بلذاته وثمراته، يتحدث بذلك متألما محزونا أو ثائرا مغضبا، فتعزيه زوجه وتهدئه وتزعم له صادقة أو متكلفة أن العلماء إنما يبخلون بالعلم على غير أهله إكراما للعلم وإشفاقا على الجهلاء من أن يشق عليهم ما يسمعون، فيقبل منها أو يجادلها فيه.
وكذلك كان هؤلاء الشبان وكتبهم بمكان الإعجاب والتقديس من هذه الأسرة الساذجة، ولكن الدار اضطربت ذات يوم أشد الاضطراب، وفسد فيها أو كاد يفسد كل شيء، وقضى أهلها يوما منغصا كله شر ويأس، وأمل خائب وظن كاذب، وكنت أنا مصدر هذا البلاء، فكفرت بخروجي من الدار عما جنيت من سيئة، وما كان أسعدني بهذا الخروج!
ولم أكن أقل من صاحب البيت كلفا بالانسلال إلى غرفة الكتب والنظر إليها والقراءة فيها، بل كنت كما قدمت أتجاوز حظ صاحب البيت من هذا كله فأختلس الكتب اختلاسا وأخفيها بيني وبين ثوبي، وأخلو إليها في حيث لا أرى ساعات تقصر أو تطول، ولكنها كانت تمتلئ دائما باللذة والمتاع، وكنت قد لاحظت كتابا دميم المنظر قبيح الشكل، رديء الطبع والورق، يعكف عليه هؤلاء الشبان عكوفا متصلا، يستبقون إليه استباقا ويتنافسون فيه تنافسا ويشتد اختصامهم فيه، ثم ينتهون إلى أن يتفقوا على أن يتداولوه فيما بينهم لكل واحد منهم وقت معلوم، فدفعت إلى أن أعرف هذا الكتاب وأتبين ما يخفيه شكله الدميم وطبعه الرديء وورقه الحقير وجلده المبتذل البالي، من هذا السحر الذي خلب هؤلاء الشباب ودفعهم دفعا إلى التهالك عليه والتنافس فيه. وكثيرا ما التمست هذا الكتاب فلم أجده قريب المنال بين هذه الكتب المرصوصة المعروضة، فتبينت أن هؤلاء الشبان لا يكادون يفرغون من النظر فيه حتى يخفوه إخفاء، فلم يزدني ذلك إلا كلفا به وتتبعا له وإلحاحا في البحث عنه، وأعلم ذات يوم أن هؤلاء الشبان مدعوون إلى الغداء، وأن الغرفة ستخلو لي ساعات من نهار، وأني سأستطيع أن أبحث عن هذا الكتاب، وقد أقسمت لأجدنه ولأنظرن فيه ولأقضين معه أطول ما أستطيع أن أقضي معه من الوقت.
وقد انصرف الشبان إلى وليمتهم، وتخففت من أثقال ما كان علي من عمل، فانسللت مسرعة رشيقة سريعة النشاط إلى الغرفة، ومضيت في البحث غير قليل، وإذا أنا أظفر بما كنت أبتغي، فياللبهجة وياللغبطة، وياللسعادة وياللرضا! هذا الكتاب بين يدي، دميم الصورة، قبيح الشكل، حقير الورق، رديء الطبع، ولكن اسمه «ألف ليلة وليلة». وأنا أقرأ فيه وأنا أمضي في القراءة، وأنا أنسى نفسي وأنسى مكاني، ولكن ماذا أسمع وماذا أرى؟ هذا باب الغرفة يفتح في غير احتياط، وهذا رب الدار يدخل! فقد كان مثلي ينتظر أن تخلو له الغرفة ليقف من هذه الكتب موقف الإكبار، ولينظر إليها نظرة التقديس، وليمد إليها يده ملاطفا ملاعبا، ثم ليقرأ من أسمائها وسطورها ما يبهر به أصحابه إذا خرج إليهم آخر النهار، ولكنه يراني أنظر في الكتاب، وفي كتاب لم يتعود أن يراه! فهو يسألني ماذا أصنع، وما أنا وهذه الكتب؟ وأحاول أنا أن أخفي الكتاب الذي كنت أنظر فيه، ولكنه قد أسرع فأخذه من يدي، ثم زجرني زجرا عنيفا وطردني من الغرفة طردا.
على أنه لم يطل المقام في هذه الغرفة وإنما خرج منها بعد قليل ثائرا ساخطا، وأقبل على زوجه وفي يده هذا الكتاب فألقاه في وجهها إلقاء، واندفع في غضب لا حد له وفي شتم لا ينتهي ساخطا على زوجه المسكينة وعلى أبنائه البائسين، صابا عليها نذرا متصلة بالكوارث والأحداث، معلنا إليها في غيظ عنيف مرة وفي حزن أليم مرة أخرى، خيبة أمله في هؤلاء الأبناء الذين كان يظنهم محبين للعلم مؤثرين له متهالكين عليه، فإذا هم أصحاب عبث ولهو ومجون، وإذا هم ينفقون وقتهم في قراءة هذا الهذيان. ومن يدري! لعلهم ينفقون وقتهم في هذا أثناء إقامتهم في القاهرة على حين يظن هو أنهم يجدون ويعملون ويحصلون العلم، وهو إذن إنما يجد ويكد وينفق حياته وماله ليمضي أبناؤه في هذا السخف وفي هذا اللهو الآثم القبيح، وهم لا يضيعون وقتهم وجهدهم وجد أبيهم وكده وماله وأمله فحسب، ولكنهم يخربون بيت أبيهم بأيديهم كأنهم يجهلون أن هذا الكتاب لم يدخل بيتا إلا خربه تخريبا.
ثم يعود الرجل إلى غرفة الكتب فيقلب كل ما فيها تقليبا، وما يزال يبحث حتى يظفر بأجزاء الكتاب كلها، ثم يعود بها منتصرا ساخطا معا، ثم يمزقها تمزيقا، ولا يطمئن حتى يشعل فيها النار! وقد نغص يوم الأسرة فلم يذق الرجل ولا أهل الدار فيه طعاما.
وعاد الفتيان آخر النهار، فلا تسل عما سمعوا ولا عما رأوا، ولا عن صمتهم حين صمتوا ولا عن قولهم حين قالوا. ولكن النتيجة الأولى والأخيرة فيما أظن لهذا كله هي أني طردت من الدار طردا، ورجعت إلى بيت زنوبة وإلى غرفتها، فقضيت فيها أسابيع أنتظر ما يجري به القضاء، وما تنتهي إليه حيلة البستاني الذي ضوعف له الأجر.
الفصل الحادي والعشرون
«ستعملين إذا كان الغد يا آمنة، وستعملين عملا يرضيك كما لم يرضك عمل من قبله قط، لا تذكري بيت المأمور، ولا تذكري بيت فلان هذا الذي دفعتك الحماقة فيه إلى هذا الذنب العظيم، ستعملين عملا مريحا فيه مال كثير، ونعيم كثير، ومتاع كثير، ستعملين ... ستعملين وستسعدين، ليتني كنت مكانك، ليت سني تعود إلى حيث أنت من العمر، ستعملين وستسعدين ...!»
قالت ذلك وهي مضطربة أشد الاضطراب، مبتهجة أشد الابتهاج، يدفعها الفرح والمرح إلى أن تأتي حركات مختلطة فيها الرقص والقفز، وفيها الجد والهزل، وفيها الدعابة التي ليس بعدها دعابة، والمجون الذي ليس بعده مجون، حركات على الوجه، وحركات باليدين، وحركات في الجسم كله مجتمعا وفي أعضائه متفرقة، حركات هي إلى الجنون والاختلاط أدنى منها إلى الفرح المعتدل الذي يصدر عن نفس مرحة وعقل متزن، ولم تكتف زنوبة باضطرابها هي، وإنما انقضت علي انقضاضا، فقبلتني وأنهضتني وراقصتني ودارت بي حول الغرفة دورانا متصلا سريعا حتى انتهت بي وبنفسها إلى السقوط، كل ذلك وهي مندفعة في حركاتها وأحاديثها، لا تمكنني من أن أقول كلمة أو أنطق بحرف أو آتي من الحركات غير ما تريد، قد استحالت إلى جنية وأصبحت الغرفة ميدانا لاضطرابها المختلط الذي لم يقف ولم يهدأ إلا حين أسقطها الدوار وأسقطني معها على الأرض وحين أفاقت منه بعد قليل ...
هنالك استطاعت أن تتكلم كلام العاقلة، واستطعت أن أسمع لها وأن أفهم عنها، فعلمت أن المهندس في حاجة إلى خادم، وأنه قد أرسل يتقدم إليها في أن تلتمس له هذه الخادم، وأنه يمنحها على ذلك أجرا يختلف باختلاف الخادم التي تقودها إليه مع الصباح إذا كان الغد، وهي مبتهجة لي وهي مبتهجة لنفسها؛ فما أكثر ما قدمت لهذا الشاب من خدم! وما أكثر ما تقاضت منه أجر ما قدمت! ولكنها لم تقدم إليه يوما من الأيام فتاة مثلي، لها مثل ما لي من جمال الوجه، واعتدال القد، ورجاحة العقل، ومهارة اليد، والعلم بحاجات الشبان المترفين، سيكون أجرها مضاعفا، أما أنا فسأسعد السعادة كلها في هذا البيت الأنيق الجميل، وفي خدمة هذا الشاب المترف الغني الوحيد. لن تأمرني سيدة الدار، ولن ينازعني خدم الدار. سأكون وحدي صاحبة السلطان المطلق على بيت هذا الشاب وعلى قلبه إن أحببت! فقلبه مباح لمن يحسن الوصول إليه والاستيلاء عليه.
قالت ذلك وأرسلت شهيقها المرتفع، وشخيرها المنكر، وضحكها العالي، ثم انقضت علي وضمتني إليها ضما عنيفا وهي تقول: «إني لأغبطك وأحسدك معا؛ أغبطك لأني أحبك، وأحسدك لأني أود لو أكون مكانك وأظفر بالسلطان على ما يحتوي هذا البيت من نعيم.»
وأنا أسمع منها وأبسم لها وأرفق بها، فلا أنبئها بأني قد دبرت لهذا اليوم تدبيرا، وأعددت له إعدادا، واشتريته بالمال، وانتظرت مقدمه واثقة بأنه سيقدم، مطمئنة إلى أنه سيحين، ولم أظهرها على هذا كله، وأمري كله في حاجة إلى الحزم وفي حاجة إلى المكر والكيد.
نعم! لم أنبئها من هذا كله بشيء، ولم أنبئها حين أصبحنا بأني لم أذق النوم لحظة في هذه الليلة الطويلة التي فرقت بين نفسين، وإنما قضيت الليل كله يقظة، أفكر في أمس البعيد وأفكر في اليوم، وأفكر في غد وفيما بعد غد، على حين كانت تحلم بما باعت وما ستبيع من حب، وبما أخذت وما ستأخذ من أجر، وبما ذاقت وما بقي لها أن تذوق من لهو، وعلى حين كانت أحلامها هذه المختلفة تدعو جسمها أن يأتي حركات مختلفة تلائمها، وتدعو لسانها إلى أن ينطق بجمل متقطعة مختلفة توافقها، وكنت أرى ذلك منها وأسمعه، فأرثي لها وأرثي لنفسي أيضا: أرثي لها في حياتها هذه الصغيرة الحقيرة التي خلت من كل حس دقيق، أو شعور عنيف ، أو تفكير عميق، وأرثي لنفسي من حياتي هذه المضطربة التي يملؤها الحس والشعور والتفكير، وتفعمها الأحداث والخطوب.
نعم! قضيت الليل كله مؤرقة، وليس من شك في أنه كان طويلا، وليس من شك في أنه كان ثقيلا لو فرغت له، ولكني شغلت عن الليل ببنات الليل، شغلت عن طول الليل وثقله بصورتك أيتها الأخت العزيزة البائسة هذه التي لم تكد تحس أني خلوت إلى نفسي حتى تراءت لي، ثم دنت إلي ثم استقرت مني غير بعيد، ثم أخذت تتحدث إلى نفسي حديثا أعقله ولا أسمعه، وأجد له في قلبي وقعا لاذعا حلوا معا، صورتك هذه التي رأيتها كما كنت أراها حين ذهبنا إلى الغرب، وكما كنت أراها في بيت العمدة قائمة تحت السماء ذاهلة لا تحس شيئا ولا تلتفت إلى شيء، وكما كنت أراها حين كنت أنبهك إلى نفسك وإلى مكاني منك، وحين كنت أتحدث إليك وأستمع لك، وحين كنت أواسيك وأعزيك وأجتهد في أن أفيض عليك السكينة وأشيع في قلبك الأمن والهدوء.
ها أنت ذي تسعين إلي وتجلسين إلى جانبي، وهذا رأسك قد مال حتى استقر على كتفي، وهذي يدي تلاطف خدك وتبللها دموعك المنهمرة الصامتة، وها أنا ذي أخلي بينك وبين البكاء حينا وأمضي معك فيه، ثم أثوب إلى الهدوء وأردك إليه، وهذه يدي تلاطف شعرك الغزير ملاطفة متصلة حتى يملكك الأمن ويوشك النوم أن يضم عليك ذراعيه، ولكنك تنهضين وتذهبين، ثم تعودين لي بعد قليل واجمة ثم مروعة، وأنا أستقبلك رفيقة بك مهدئة لك. وهذه الأشباح الحمراء تتراءى لنا كما كانت تتراءى لنا في بيت العمدة قبل أن نأخذ في هذا السفر الأثيم، ولكنك لا تكادين ترين هذه الأشباح الحمراء حتى تهيمي وتنهضي إليها، وتستحيلي إلى شبح أحمر بين هذه الأشباح الحمراء! وها أنتن أولاء تطفن بي وتضطربن من حولي وتستبقن إلى أذني تردن أن تلقين فيها ألوان الحديث. وها أنا ذي مروعة مفجعة، أرى الجنون وأشفق منه وأهم أن أصيح، وأذكر مكاني في دارنا تلك في أقصى الريف نحو الغرب أثناء العلة. وها أنا ذي أرى الينبوع الكريه يتفجر منه ذلك الدم الغزير. وها أنا ذي أنهض خائفة مولهة، أريد أن أفر من هذه الغرفة، ولكن إلى أين؟!
نعم! إلى أين والليل ساكن جاثم؟ وأين تستطيع فتاة مثلي أن تذهب والليل ساكن جاثم؟ لأوقظن هذه المرأة التي تختلف عليها الأحلام وتنعم بلذة النوم في ناحية من نواحي هذه الغرفة، لأوقظنها ولأقضين معها بقية الليل في الحديث ... ولكني لا أكاد أسعى إليها حتى تأخذني الأشباح من كل مكان، وحتى تسعى إلي أختي وعلى وجهها ابتسامة شاحبة حزينة مستعطفة، وهي تلقي في نفسي هذه الكلمات التي تقع منها مواقع السهام المحرقة: لا توقظيها إنها تخيفنا، وإن أيقظتها تطردنا، ماذا تخافين منا؟ لقد طالما ألفتنا وألفناك، أفنسيتنا إلى هذا الحد؟! كلا! كلا! لم أنسكن ولن أنساكن، ولن أذودكن عن نفسي، ولن أوقظ هذه المرأة التي تخيفكن. أقمن معي، أطفن بي، تحدثن إلي، فمن يدري! لعلي أن أكون في يوم من الأيام واحدة منكن، لعلي أن أكتسي هذا الرداء الأحمر القاني الذي تكتسينه والذي يدعوني إليكن ويخيفني منكن ...!
وهذا صوتك أيها الطائر العزيز يحمله إلي الهواء من بعيد فيبلغني نحيلا ضئيلا، ولكنه على ذلك يشيع في سكون الليل كما يشيع الضوء في الجو ...
وهذا صوتك أيها الطائر العزيز يدنو مني شيئا فشيئا فيملؤني أمنا ودعة وهدوءا وحزنا معا. إنه يردني إلى اليقظة الخالصة التي تشعر بنفسها وتفكر في نفسها وتذكر ما مضى على علم به وتقدير له، وتستقبل ما سيأتي في روية وبصيرة واستعداد للاحتمال ...
نعم! إن صوتك ليملأ أذني، وإنه ليملأ قلبي، وإنه ليغمر نفسي، وإني أفهم عنه ما يريد، وإني لأذكر أختي ومصرعها، وإني لأعرف من دفعها إلى الموت، كما أعرف من أذاقها الموت، وإني لأعلم حق العلم أني ساعية إذا كان الغد إلى بيت هذا المهندس فمقيمة فيه حيث كانت أختي، فناهضة بما كانت تنهض به أختي من العمل، فمنتهية بعد إلى شيء آخر غير الذي انتهت إليه أختي في ذلك الفضاء العريض ...
لقد سمعت منك أيها الطائر العزيز، وفهمت عنك، وهذا عقلي يثوب إلي، وهذه قوتي ترد علي، وها أنا ذي أنتظر الصبح لأسعى إلى هذا المهندس وإن قلبي لمظلم أشد الإظلام، وإن وجهي لمبتسم أجمل الابتسام.
الفصل الثاني والعشرون
وأقبل سيدي الجديد علي مبتسما راضيا يحدق النظر في وجهي تحديقا طويلا، ثم يفصل النظر إلى جسمي كله تفصيلا، كأنه يمتحن متاعا يريد أن يشتريه، ولو قد استطاع لنهض إلي فاختبرني اختبارا وتعرفني باللمس، ولكنه كان فيما يظهر قد احتفظ لنفسه ببقية من حياء، فاكتفى بهذه النظرات المتصلة الطوال التي تجرد المرأة من ثيابها تجريدا، والتي كنت ألقاها مضطربة لها أشد الاضطراب ثائرة لها أشد الثورة.
ولكني كنت أتمالك ما وسعني الجهد وضبط النفس، حتى لا يرى علي اضطرابا ولا ثورة ولا شيئا ينكره، وهو يسألني عن اسمي، وعن أهلي، وعن أمري كله، فألفق له من ذلك ما ألفق، وأزين له من ذلك ما أزين، وهو يسمع مني مصدقا لي أو غير حافل بما يسمع، إنما يريد أن يعرف صوتي ووقع حديثي، ثم هو يأمرني أن أقبل وأن أدبر، وأن أدنو وأن أبعد، وأن أنحرف إلى يمين وأن أنحرف إلى شمال، وأنا أستجيب لكل ما يدعوني إليه، وقد هدأ اضطرابي وسكنت نفسي، وعاودني صوابي، وأنا أتحدث إلى نفسي بأن هذا الفتى يعرف حقا كيف يكون شراء الرقيق ...!
ثم يقبل آخر الليل ولم يكن يقدر أني سألقاه قائمة باسمة. أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلا في وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح، حتى أخذه شيء من الذعر، فتراجع خطوات ثم قال في صوت أبيض جعل يأخذ لونه الطبيعي قليلا قليلا: ماذا؟ ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين أين أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثيه، وما كان ينبغي لي أن أنام قبل أن ينام سيدي، فما يدريني! لعله يحتاج إلى شيء.
قال وقد عاد إليه ثباته وهدوء نفسه، واسترد صوته شيئا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة: ما رأيت قبلك خادما مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة لمقدمه إلى آخر الليل، لقد كنت أحسبك نائمة كما تعودت أن أرى من سبقك في خدمتي، وكنت أقدر أني سأجد في إيقاظك بعض الجهد، فلست أدري ما بال نوم الخدم يثقل حتى كأنهم أموات! قلت: فقد أرحت سيدي من هذا الجهد، وانتظرت مقدمه كما تعودت منذ اصطنعت خدمة المترفين الذين لا يحبون إنفاق الليل في دورهم؛ فليأمر سيدي بما يريد. قال وهو يضحك ضحكا سمجا وقد مد إلي يدا وودت لو استطعت قطعها، ولكن تراجعت حتى لا تبلغني: فإن سيدك يأمرك أن تتبعيه. ثم انحدر إلى غرفته ومضيت في أثره ...
وصدق المسكين أني كنت أنتظره، ولو قد نفذ إلى قلبي واستمع إلى أحاديث نفسي لعرف أني لم أكن أرقة في انتظاره، وإنما كنت أسامر أشباحا حمراء لو رآها لملئ قلبه رعبا ولولى منها فرارا، ولكن لم ير إلا إياي، ولم يفكر إلا في، وماله وللأشباح الحمراء!
الفصل الثالث والعشرون
وعدت إلى غرفتي بعد ساعة، راضية عن نفسي كل الرضا، مطمئنة إلى قوتي كل الاطمئنان، فقد بلوت الخصم ولقيت العدو في ميدانه الذي اختاره هو، وكانت بيني وبينه مقدمات النضال، فلم أضعف له، ولم أشفق منه، وإنما ثبت له ثباتا، ثم انصرفت عنه وقد علقته بين السخط والرضا، ووقفته بين اليأس والأمل. لم أجد في شيء من هذا كبير مشقة، ولم أحتمل في شيء من هذا عظيم عناء، وإنما هو الابتسام المطمع المغري، والاحتشام الذي يفل العزم ويثبط الهمم، ويبسط سلطان الحياء على النفس فإذا هي ترتد بعد امتدادها، وعلى الوجه فإذا هو يظلم بعد إشراقه.
وقد كنت أقدر أن المعركة الأولى ستكون عنيفة يملؤها الهول، ويحدق بها الخطر، وتنتهي إلى الفصل فيما يكون بيني وبين هذا الشاب فإما ضعف واستئثار، وإما قوة وانتصار، يتبعها الطرد العنيف من هذه الدار، ولكني ملكت أمري وملك هو من أمر نفسه ما جعل المعركة الأولى مقدمة لا خاتمة، وما أجل الفصل في هذه الخصومة إلى أجل ظنه قريبا ورأيته بعيدا، وقد انصرفت عنه بعد أن أعنته على بعض أمره وهيأت له ما يحتاج إليه، وتركته كاسف البال يظهر الرضا والابتهاج، وهو يقول: لا بأس! إنك في حاجة إلى التربية والتمرين.
ولم أكد أثوب إلى غرفتي وأغلق بابها من دوني إغلاقا محكما حتى تراءت لي أختي وهذه الظلال التي ترافقها، كأنما كن ينتظرنني ليعلمن علمي وليسمعن نبأ ما أبليت مع الخصم من بلاء، ولقد هممت أن أتحدث إليهن، وأقص عليهن ما سمعت وما رأيت، وما عملت وما أبيت، ولكن ماذا؟ إنهن ينظرن إلي نظرا قصيرا، ثم يلمع في وجوههن الشاحبة ابتسامة الرضا، ثم يستخفين استخفاء كأنما ابتلعهن الظلام ابتلاعا، وكنت أظن أني سأنتظر معهن مطلع الفجر، سامرة كما كنت أسمر منذ حين قبل أن يرقى إلي سيدي كأنه اللص، ولكني ألتمسهن من حولي فلا أرى لهن محضرا ولا مظهرا، وألتمسهن في نفسي فلا أظفر منهن بشيء. لقد غبن عن عيني وغبن عن نفسي، وكأنهن أمرن الذكرى أن تتبعهن وتمضي إلى حيث مضين، فأنا أريد أن أذكر فلا أستطيع، وأريد أن أفكر فلا أجد سبيلا إلى التفكير، وأنا آوي إلى مضجعي وقد كنت أزمعت ألا آوي إليه، ولكن للقوة البدنية حدا، ولكن للتعب سلطانا هو باسطه، وغاية هو بالغها، ولقد قضيت ليلة لم أذق فيها النوم، وهذه الليلة الثانية قد انقضى أكثرها، وكادت توالي نجمها تتغور، فلا بد إذن من بعض الراحة سواء أرضيت أم كرهت ...
ومن أجل هذا فارقتني أيتها الأخت العزيزة، وفارقتني معك هذه الظلال الحمراء. إنكن لرفيقات بي شفيقات علي، وما يمنعكن من ذلك وأنا عندما تردن، لم أهن ولم أضعف، ولم أنهزم لهذا العدو الماكر القوي! ليت شعري! أكنتن ترفقن بي، وتشفقن علي، وتنصرفن عني وتخلين بيني وبين النوم، لو أني خالفت عن أمركن واستجبت أو أظهرت الاستجابة لذلك الدعاء البغيض الذي كان يرسله إلي سيدي بالعين واليد واللسان؟!
الفصل الرابع والعشرون
على أن الأمر بين سيدي وبيني لم يلبث أن تعسر بعد يسر، وتعقد بعد سهولة، واشتد بعد لين، فلكل شيء أجل، وللصبر أمد ينتهي إليه، وللمطاولة غاية تقف عندها، والمياسرة خير إلا أن تستحيل إلى ضعف وإذعان، وما ينبغي لسيدي أن يظهر مظهر الضعيف المذعن لخادم مثلي ليس لها حول ولا طول، وهي لا تأوي إلى ركن شديد، ولا تعتز بقوة تحميها من بأسه وتعصمها من سلطانه، وإنما هي كلمة منه تبقيها في داره عزيزة مكرمة أو تخرجها من هذه الدار ذليلة مشردة، وقد علق سيدي هذه الكلمة في طرف لسانه أياما وأياما، يهم بأن يرسلها حتى إذا بلغت شفتيه وكادت تتجاوزهما إلى الهواء الذي يحملها إلي ردت إلى مكانها واستقرت في موضعها من طرف اللسان استقرارا وأطبقت شفتاه من دونها إطباقا.
ومدت لي أسباب البقاء في هذه الدار يوما أو بعض يوم ريثما يخرج سيدي لبعض شأنه، ثم يعود فيدعوني إلى ما كان يدعوني إليه في هذا الإلحاح المتصل، المضحك المحزن، الذي يفسد على الرجل أمره ويظهره قويا كأنه الليث وضعيفا كأنه الفأر، عزيزا كأنه السيد وذليلا كأنه العبد، ويطلق لسانه بما شاء له الهذيان من هذه الكلمات الجوفاء التي يملؤها الاستعطاف حين تكون نذيرا ووعيدا، ويملؤها المكر والكيد حين تكون استعطافا واسترضاء، وتصور دائما نقيض معانيها الظاهرة، وتعبر دائما عما لم يرد صاحبها إليه، ويملأ نظراته بهذا الشرر المحرق حينا، ثم بهذا الانكسار الذليل حينا آخر، ويجعله يدور حول غايته التي يشتهيها وأمنيته التي يبتغيها، كما يدور العابد حول الصنم وكما يدور اللص حول البيت يبتغي ثغرة ينسل منها إليه!
نعم! كذلك كنت ألقى سيدي مع الصبح باسمة مشرقة الوجه، أحمل إليه قدح الشاي وبعض الفاكهة قبل أن يثب من سريره، وقد كان سيدي يحيا حياة الإنجليز، فلا أكاد أدخل عليه حتى ترتفع إلي عيناه وقد ملأتهما عواطف شديدة الاختلاف، ومعان عظيمة التناقض، فيها الحب وفيها البغض، فيها الأمل وفيها اليأس، فيها الوعيد وفيها الخوف، فيها الشهوة وفيها الزهد، فيها القرب وفيها البعد. وأنا أرى هذا وأحسه وأفهمه، ولكن؛ يا لقوة النساء! إني لأقبل عليه بالشاي والفاكهة والتحية كأني لا أرى شيئا، ولا أحس شيئا، ولا أفهم شيئا، ثم أنصرف عنه وفي نفسي ما فيها من الرضا، وفي قلبي ما فيه من الإشفاق؛ فقد كنت راضية عن نفسي وساخطة عليها، وقد كنت شامتة في سيدي ومشفقة عليه، وقد كنت أرضى لنفسي ما أنا فيه من الإطماع والامتناع، ومن القرب والبعد؛ لأعذب هذا الشاب الذي قتل أختي. وكنت أنكر على نفسي هذا كله، وأراه لعبا بالنار، وتكلفا للشر، وإمعانا في الإثم، وقد كنت أرى أني قد خلقت لنفسي جوا من الرذيلة أعيش فيه إذا أصبحت، وأعيش فيه إذا أمسيت، وأتنفس هواءه المنكر، وأبعث فيه سما زعافا. فما هذا الكيد الذي أكيده؟ وما هذا المكر الذي أمكره؟ وما هذا التفكير الآثم الذي أملأ به رأسي وقلبي؟! أصبح فأفكر في هذا الشاب لأغويه وأضنيه وأنغص عليه يومه، وأمسي فأفكر في هذا الشاب لأدنيه وأقصيه وأؤرق عليه ليله؛ وأنا فيما بين ذلك لا أنفك أفكر فيه، عاطفة مرة، وصادقة مرة أخرى، لينة حينا وقاسية حينا آخر.
هذا كثير! وأكثر منه أن تفرغ له فتاة كانت تستطيع أن تفرغ لما هو أطهر منه وأنقى، وأكثر من هذا وذاك أن يستسلم هذا الشاب لما يغمره من ضعف، ويتورط فيما يبث حوله من شباك، ويتعلق بفتاة مهما تكن فهي ليست شيئا، والفتيات غيرها كثير يستطيع أن يلتمسهن متى شاء وكيف شاء، وأي شيء أيسر من أن يرسل بستانيه إلى زنوبة أو إلى امرأة أخرى من أشباه زنوبة، فلا ينقضي اليوم حتى تكون عنده فتاة أو فتيات يختار من بينهن من يشاء! فما أكثر هؤلاء الفتيات اللاتي يلتمسن العمل في المدينة قد نشأن فيها أو انحدرن إليها من الريف كما انحدرت أنا منذ أعوام؛ ولكن نفس الإنسان ضعيفة حقا، وقوية حقا، لقد أقبلت علي نفس سيدي كما أقبلت على غيري تلتمس عندي الحب ولذاته وآثامه، فلما وجدت مني امتناعا عليه وصدودا عنه ونفورا ملحا منه، أعرضت عن الحب ولذاته وآثامه، أو أرجأت الحب ولذاته وآثامه وتعلقت بي أنا، تريد أن تقهرني وتغلبني على أمري وتنتصر علي، وتظفر مني بما تريد.
فسيدي لا يطلب عندي الآن حبا ولا لذة ولا إثما، وإنما يطلب إلي خضوعا وإذعانا واستسلاما. هو يريد أن ينتصر لا أن ينعم، ومن يدري! لعله إنما يؤجل إقصائي عن داره حتى يتم له النصر، ويتحقق له الفوز، فيخرجني ذليلة صاغرة قد آمنت له وأذعنت لسلطانه! ويكفي أن يخطر لي هذا الخاطر وإذا أنا مثله متعلقة بالعناد، ملحة في الخصام، قد نسيت الانتقام أو كدت أنساه، وأعرضت عن أختي وظلالها الحمراء أو كدت أعرض عنهن، ولم أتمثل إلا عدوا يريد أن يقهرني، ولا بد من أن أقهره، وسيدا يريد أن يبسط سلطانه علي، ولا بد أن أبسط سلطاني عليه.
وكذلك اتصلت حياتي في هذه الدار هادئة في ظاهر الأمر مضطربة أشد الاضطراب وأعظمه نكرا في حقيقة الأمر. ألقى سيدي باسمة ويلقاني باسما، ثم لا يتصل اللقاء بيننا حتى يستحيل الابتسام إلى عبوس، والرضا إلى سخط، وإذا هو يدعو فآبى، ويلح في الدعاء فألح في الإباء، ويغري فأرتفع عن الإغراء، وينذر فأستخف بالنذير، ويستعطف فأقسو على الاستعطاف.
ثم - ياللهول! - ماذا أرى؟ وماذا أسمع؟ وماذا أجد؟ هذا سيدي ماثلا بين يدي يتلطف ويترقق ثم يستعطف ويستجدي، ثم هذا هو جاثيا بين يدي كأنه يتقدم إلي بالصلاة، ثم هذا هو باكيا في صمت، ثم هذا هو مجهشا بالبكاء، وها أنا ذي أكاد أضعف ويكاد يأخذني الإشفاق لولا أن أجمع قوتي كلها ونفسي كلها وأدعو إلي أختي وظلالها الحمراء ألتمس منهن العون، وأستمدهن قوة إلى قوة.
وأمضي بعد ذلك فيما كنت فيه من إباء، ثم ينتهي الأمر بيننا إلى شيء يشبه الموادعة، وإذا أنا قد أخلصت له ولنفسي، وإذا هو قد أخلص لي ولنفسه، وإذا نحن نتحدث في هدوء وأمن واستقرار. فأما هو فقد استيقن اليأس وعجز عن احتماله، وأما أنا فأهون عليه الأمر مخلصة صادقة وأزين له الانصراف عني إلى من أحب وما أحب من الخليلات والخدم واللذات، وإذا نحن نتفق على أن نفترق، وإذا هو ينصرف عني على ألا يراني في الدار إذا عاد إليها، وأنا أقبل ذلك راضية عنه سعيدة به؛ فقد سئمت هذه الحرب وضعفت عن هذه الخصومة، وكرهت هذه الحياة التي تملؤها المطاولة والمحاولة، وتثقلها المهاجمة والمقاومة، وقنعت من الغنيمة بالإياب أو بشيء خير من الإياب، فسأخرج من الدار ظافرة بعض الشيء، أليس قد عجز هذا الشاب الجميل الوسيم المترف الغني القوي أن يبلغ مني ما بلغ من أمثالي؟ أولست أخرج من هذه الدار وقد جرعته مرارة الهزيمة وعلمته أن من فتيات الريف الساذجات الغافلات من يستطعن الثبات لأمثاله والامتناع على أصحاب الذكاء والجمال والترف والجاه والثراء؟! ولقد انصرف عني هادئا وقد أظهر الرضا، وفرغت لأمري أتهيأ للرحيل مزمعة ألا أرى زنوبة ولا ألقاها هذه المرة ولا أقيم في المدينة ولا أعود إلى أقصى الريف، وإنما آخذ قطارا من هذه القطارات التي تمضي إلى الشمال نحو القاهرة، أو إلى الجنوب نحو عاصمة الإقليم، فأرض الله واسعة ورزق الله ميسر لمن ابتغاه، وها أنا ذي قد حزمت أمري وجمعت متاعي الخفيف وصممت أن أخرج، ولكن البستاني موكل بالدار يمنعني أن أخرج منها ويحول بيني وبين الباب، وينبئني بأن سيده ألقى إليه أثناء انصرافه أمرا حازما صارما أن يحول بيني وبين الطريق، وأن يتكلف ما يستطيع وما لا يستطيع ليمسكني في الدار حتى يعود. وإذا فلم يكن جادا حين اتفق معي على أن نفترق، وإذا فلم يكن هادئا حين أظهر الهدوء ولا راضيا حين تكلف الرضا، وإنما كان ماكرا مخادعا. ومن يدري! لعله كان صادق العزم خالص الرأي، فلما انصرف عني تمثل الهزيمة وتمثل آثارها وأعقابها فأبت عليه نفسه أن يرسل هذه الفتاة ولما يخضعها لما أراد.
وقد استيأست أو كدت أستيئس من ذلك الخاطر الذي كان يعينني أول الأمر على المقاومة أو يغريني بها أو يدفعني إلى الإغراء والإطماع ثم إلى الإباء والامتناع! فقد كنت أعتقد أن لهذا الشاب في أربا. إنه يشتهيني كما اشتهى غيري من الفتيات، وإن امتناعي عليه قد زاده حرصا علي وتعلقا بي، ولست أكذب نفسي فكثيرا ما سألتها: أتري شهوته قد استحالت إلى حب؟ أما الآن فأنا مستيقنة أنه لا يحبني، بل لم يحبني قط، وأنه لا يشتهيني، ولعله يزدريني، وإنما يريد أن يقهر في عدوا متمردا وخصما عنيدا؛ فلألقين البأس بالبأس، ولألقين العناد بالعناد.
وما كان أيسر الهرب لو أني رغبت في الهرب أو فكرت فيه، لكني كنت أريد أن أترك الدار جهرة لا سرا، وعلى علم منه لا على جهل. ومن يدري! لعلي لم أكن أحب أن أترك الدار، وإن كان هذا الخاطر لم يعرض لي ظاهرا جليا، وهو يعود مع المساء، وما أكثر ما يعود الآن مع المساء؛ وينفق ليله كله في الدار لا يسمر ولا يلقى أصحابه. ومن يدري! بم كان أصحابه يعللون انقطاعه عن السمر وإيثاره للعزلة، ولكنه يعود اليوم إلى الدار هادئا ظاهر الرضا، ويلقاني كما انصرف عني مبتسما في كآبة، وهو يسألني: أما تزالين هنا وقد فارقتك على ألا ألقاك إذا عدت؟! - أجل! فارقتني على ألا تلقاني، ولكنك أمرت خادمك ألا يخلي بيني وبين الطريق. - ومن زعم لك هذا؟ لقد كذبك الخادم، وما أرى إلا أنه حريص على بقائك، كاره لفراقك؛ ومن يدري! لعلك أنت لا تكرهين البقاء معه والاتصال به فهو الذي سماك لي، وهو الذي أنبأني بمكانك، وهو الذي جاء بك إلى هذه الدار، إني إذن لأحمق؛ لقد خدعني هذا البستاني، ولقد اتخذ داري مسرحا للهوه وهواه، فأنت إذن لا تعرضين عني ولا تمتنعين علي إيثارا للشرف واستبقاء للعفاف، فقد ذهب الشرف منذ زمن بعيد، وضاع العفاف منذ أقبلت أو قبل أن تقبلي على هذه الدار. وفي سبيل من ذهب الشرف؟ وفي سبيل من ضاع العفاف؟ في سبيل هذا البستاني الذي تهوينه، وما أشك في أنه يهواك.
وكان هادئا مطمئنا حين بدأ هذا الحديث، حتى لم أكن أشك أنه كان عابثا متكلفا يلتمس الوسيلة إلى استئناف ما بيننا من الخصام، ولكنه لم يكد يمضي في حديثه حتى أخذ هدوؤه يفارقه شيئا فشيئا، ولم يكد ينتهي إلى غايته حتى كان غضبا كله، وشرا مستطيرا يتمثل إنسانا يتكلم ويتحرك، ذاهبا جائيا متهيئا للبطش لا يكاد يمتنع عنه إلا في جهد شديد.
على أني لقيت عنفه هذا وسخطه كما تعودت أن ألقى كل ما قدم إلي من ألوان العنف واللين، ومن ضروب السخط والرضا، ثابتة مطمئنة، وقلت له في هدوء: لا بأس عليك! خل بيني وبين الطريق، ثم تبين بعد ذلك أتجمعني بالبستاني جامعة، أو تصلني به صلة. فلئن خليت بيني وبين الطريق لآخذن أول قطار، ولولا أن أشق على مولاي وأكلفه ما لا يتكلف السادة للخدم لعرضت عليه أن يضعني في القطار وأن يرسلني إلى أي مدينة شاء، فإني لا أبتغي إلا أن أعيش في حيث آمن على شرفي هذا الذي لم يذهب، وعلى عفافي هذا الذي لم يضع، وإن ظن سيدي بي الظنون.
قال في غيظ يشبه الرضا وفي سخرية تشبه الجد: ما تزالين تذكرين السادة والخدم! فقد علمت منذ حين أن ليس بيننا سيادة ولا خدمة، وإنما بيننا ما هو شر من ذلك وأبعد أثرا.
قلت: وما ذاك؟ قال: هو هذا ... ثم اندفع إلي هاجما كأنه الليث يريد أن يزدرد فريسته ازدرادا، ولكن المرأة لا تغلب إلا إذا أحبت، ولا تقهر إلا إذا أرادت، ولا تذعن إلا إذا رغبت في الإذعان. ومن أجل ذلك ارتد عني كما هجم علي؛ واستؤنف الخصام بيننا كما كان من قبل عنيفا لينا، وملتويا مستقيما، وفيه ما فيه من هذه الألوان التي تفسد حياة العاشقين وتزينها في وقت واحد.
وتتصل الحياة على هذا النحو، لا أجد لنفسي منها مخرجا ولا يجد لنفسه منها مخرجا، وإنما دفع كل منا إلى صاحبه دفعا، ورد كل واحد منا إلى صاحبه ردا، لا يستطيع أن يخرجني من داره، ولو قد أراد ذلك لكرهت أن أخرج من هذه الدار، ولا أستطيع أن أفارقه جهرة ولا خفية، ولو قد فعلت لطلبني حيث أكون من الأرض. فليس عندي شك الآن في أن سيدي لا يشتهيني ولا يبتغي أن يظهر علي وينتصر على خصم عنيد، وإنما هو الحب، هو الحب الذي يطمع في كل شيء ويرضى بأقل شيء، بل يرضى بلا شيء، بل هو سعيد كل السعادة ما وثق بأن بيتا واحدا يحويه مع من يحب ويهوى. هو الحب ما في ذلك من شك، لكن الشك المؤلم المضني إنما يتصل بهذا القلب الذي يضطرب بين جنبي أنا، فما خطبه؟ أمبغض هو كما كان مبغضا من قبل؟ أراغب هو في الانتقام كما كان راغبا من قبل؟ أحافظ هو لعهد هذه الأخت التي صرعت في ذلك الفضاء العريض، ولعهد الأشباح الحمراء التي تقيم معها على هذا الينبوع الأحمر، والتي قد طال مقامها معها حول هذا الينبوع، وانقطعت زيارتها لهذه الدار فلم تلم بها منذ حين؟
نعم! الشك في هذا القلب الذي يضطرب بين جنبي بعد أن استيقن أن هذا الشاب يحبني ولا يستطيع عني سلوا. ما خطب هذا القلب؟ أمحب هو أم غير مكترث؟ فإن تكن الأولى ففيم المقاومة، وفيم العذاب، وفيم تعذيب الحبيب؟ وإن تكن الثانية ففيم البقاء في هذه الدار، وفيم الصبر على هذه الحياة التي لا تطاق؟
كلا! كلا! فكري يا آمنة، ماذا أقول؟ فكري يا سعاد ... فقد محي اسم آمنة منذ دخلت هذه الدار.
فكري يا سعاد. فقد آن لك أن تفكري، واعزمي أمرك فقد آن لك أن تعزميه، أقيمي كما تقيم العاشقة أو ارتحلي كما ترتحل القالية، فأما هذه الحياة المعلقة فليس لأحد فيها خير وليس لأحد فيها غناء، ولم يبق لك إلى احتمالها سبيل!
الفصل الخامس والعشرون
وقد فكرت سعاد، وما كانت في حاجة إلى التفكير، وقد امتلأ قلبها وعقلها بهذه الحياة التي تحياها امتلاء، وامتزجا بها امتزاجا، حتى أصبحت جزءا منهما أو أصبحا جزأين منها، وحتى أصبح من أعسر الأشياء وأشقها أن تفكر الفتاة في هذه الحياة تفكيرا هادئا مجردا لا يتأثر بهذه العواطف العنيفة الحادة التي تتصور مرة كأنها النفور الذي لا نفور بعده، وتتصور مرة أخرى كأنها الإقبال الذي لا إقبال بعده، وهي في الحالين شيء واحد تختلف عليه الصور والأشكال دون أن يتغير جوهره الذي هو الحب.
نعم! لقد أصبحت سعاد عاجزة كل العجز عن أن تخلو إلى نفسها ساعة من نهار أو ساعة من ليل، بل أصبحت عاجزة كل العجز عن أن تخلو إلى نفسها في يقظة أو نوم، إنما هي مستصحبة هذا الشاب إن حضر، ومستصحبة هذا الشاب إن غاب، لا تهم بالخلوة إلى ضميرها حتى تجد صورته ماثلة فيه، ولا تمد عينها إلا رأت شخصه، ولا تمد أذنها إلا سمعت صوته، قد أخذ الحياة عليها من جميع أقطارها، وقد ذاد عنها كل شيء وكل إنسان، وذاد عنها حتى أختها تلك العزيزة وأشباحها تلك الحمراء، وانتهى الأمر بها كما انتهى الأمر بالشاب نفسه إلى علة تشبه الجنون. لقد صرفت إليه عن كل شيء، وصرف إليها عن كل شيء.
ولم يبق بين هذين الخصمين العنيدين صراع أو تفكير في الصراع، وإنما هو الإذعان الذي لا ثورة بعده والاستسلام الذي لا رجوع فيه.
ولكن الكبرياء ما زالت مسيطرة على سعاد، تصارع الحب فيها فتصرعه، وتغالب العشق فيها فتغلبه، وما أكثر ما اندفعت الفتاة إلى الاستسلام! حتى إذا كادت تنتهي منه إلى غايته، وحتى إذا بلغت حافة الهوة وكادت تتردى فيها تمثلت لها الكبرياء قوية عنيفة، ونصبت أمام عينيها مرآة تنظر فيها فترى صورة آمنة الأبية العزيزة، وترى صورة سعاد الضعيفة المتهالكة، فترتد وراءها خطوة أو خطوات، وتؤجل الإذعان والإلقاء باليد إلى أجل يقصر أو يطول!
وقد تغيرت سيرة سيدي أيضا؛ فهو محب يلقى من الحب عناء وبلاء، ويجد من آلامه مثل ما أجد، ولكن كبرياءه قد ردت إليه هو أيضا فأصبح يتمنى في غير إلحاح، ويأمل في غير إلحاف، كأنما أحس في حبه شيئا من حياء فآثر القصد والاعتدال، وكأنما أحس الإخفاق المتصل فآثر الحرمان في شيء من العزة على ذلك الإلحاح الذي لم يكن يعقبه إلا هزيمة وخذلان.
ولكنه يقبل علي ذات مساء وعلى وجهه ابتسامة فيها شيء من الرضا، وفيها كثير من الحزن، وفيها شك يتردد بين الرضا والحزن. يقبل علي ذات مساء لا ثائرا ولا مستسلما، ويقول لي في صوت لا حدة فيه: لقد آن لك أن تستريحي، وآن لي أن أستريح! فأنظر إليه نظرة التي لم تفهم عنه والتي تعودت أن تسمع كثيرا فتفهم أو لا تفهم دون أن تحفل بما يستقر في نفسها أو يعزب عنها مما تسمع، ولكنه يعيد علي حديثه فأسأله عما يريد، فيقول: سنفترق لأني نقلت إلى القاهرة.
وتقع من نفسي هذه الجملة موقع الصاعقة، وإذا أنا ذاهلة لا أجيب ولا أتكلف حتى إخفاء الذهول، وإذا أنا أجد شيئا من الدوار يكاد يبلغ بي الإغماء لولا أن أتمالك، وإذا الدموع تنهمر في صمت متصل، وإذا الفتى يدنو مني فلا أرتد عنه، وإذا هو يضع يديه على كتفي فلا أمتنع عليه، وإنما أنا مغرقة في الصمت ودموعي ماضية في الانهمار، والفتى قائم بمكانه مني في هدوء لم أعهده، ينظر إلي صامتا دهشا، ثم ينأى عني قليلا وهو يقول في صوت شاحب: ماذا أرى! إنك لتكرهين فراقي حقا!
ثم يعود إلى صمته، وأمضي أنا في صمتي، وتمضي دموعي في الانهمار، وما أدري أطال بيننا هذا الموقف أم قصر، ولكني أسمعه يدعوني في صوت قد فارقه شحوبه وعاد ممتلئا مشرقا كما عرفته، وأرفع رأسي وأحاول النظر إليه من وراء هذه الدموع المنسكبة فأرى وجها مشرقا أشد الإشراق قد استقرت فيه أمارات الحزم والهدوء، وإذا هو يقول لي: أما والأمر بيننا على ما أرى فلن نفترق، ستصحبينني إلى القاهرة، ولن ينالك مني إلا ما تحبين، هلم فامضي في شئونك كما تعودت أن تفعلي، هيئي من أمرك وأمري للسفر، فلن نقيم هنا إلا أياما.
ثم ينصرف عني كما أقبل علي هادئا رزين الخطى، وقد أنكرت من نفسي كل شيء، وأهم أن ألوم نفسي على هذا الضعف الذي لم أستطع إخفاءه، ولكني لا أجد من نفسي قوة على اللوم، وإذا أنا راضية عن هذه الحال الجديدة رضا عميقا قد مازج نفسي واختلط بدمي، ولكنه في الوقت نفسه رضا حزين ليس فيه ابتهاج ظاهر، وإنما هي حياة الخادم التي اطمأنت إلى ما يلم بها من الأحداث، ومضت في حياتها لا تنكر شيئا ولا تعرف شيئا، وإنما هي مستسلمة تذهب وتجيء، وتأتي من الأمر ما تأتي، وتدع من الأمر ما تدع؛ لأنها لا تستطيع أن تفعل غير هذا ولا تريد أن تفعل غير هذا، ولأنها تجد في هذا أقصى ما كانت تنتظر من السعادة.
والغريب أنه هو أيضا قد جعل ينظر إلي منذ ذلك الوقت نظرات برئت من الطمع والأمل، وقنعت مني بما يقنع به السيد النقي من الخادم النقية، فلا إثم بيننا ولا تلميح إلى الإثم ولا خوف من التورط فيه، وإنما هي حياة نقية بريئة قد استؤنفت بيننا كأننا لم نلتق قبل ذلك الوقت، وكأن أحدنا لم يعرف صاحبه قبل تلك الساعة التي أنبأني فيها أنه قد آن لكلينا أن يستريح لأنه نقل إلى القاهرة.
وإني لأدعو أختي حين أخلو إلى نفسي في النهار وحين أخلو إلى نفسي في الليل فلا تستجيب لي صورتها التي كنت أعرفها في المدينة باسمة مشرقة، ولا تستجيب لي صورتها التي عرفتها في بيت العمدة واجمة هائمة، ولا تستجيب لي صورتها التي كنت أراها مطرقة إلى ينبوعها الأحمر، تطيف بها ظلالها الحمراء.
لا تستجيب لي صورة من هذه الصور، وإنما هي ذكرى غامضة حزينة تلذع القلب أحيانا فتندفع لها بعض الزفرات وقد تنهمر لها بعض العبرات، ثم لا تلبث أن تنجاب كما ينجاب السحاب الرقيق، وإذا أنا أعود إلى حياتي المضيئة الهادئة، الحزينة في غير تكلف لحزن أو سرور.
وأنتقل مع سيدي إلى القاهرة وأقيم معه في دار أبويه موكلة بخدمته لا أكلف شيئا غيرها من أعمال الدار، ولا أجد من أبويه إلا برا وعطفا، وإلا رفقا وحنانا. فأما هو فقد جعل ينظر إلي كلما تقدمت الأيام كما ينظر إلى الصديق لا كما ينظر إلى الخادم، قد اصطفاني لنفسه، واختصني بوده، وجعل يشركني في كثير من أمره.
يالله! إني لأحس شبها بين هذه الحياة التي أحياها مع هذا الشاب في دار أبويه الفخمة بالقاهرة وبين تلك الحياة التي كنت أحياها مع خديجة في بيت أبويها بمدينة من مدن الأقاليم، لقد عاد الأمر بيني وبين هذا الشاب إلى مثل ما كان بيني وبين خديجة من النقاء والطهر، ألم أخلق إلا لأحيا حياة الأصدقاء!
ولكنها صداقة غريبة هذه التي تقوى وتنمو بين هذا الشاب المترف الغني، وهذه الخادم البائسة التي طالما طمعت فيها نفسه الطامحة، وأغرته بها عواطفه الجامحة، والتي طالما اتخذها غرضا لأهوائه الآثمة، وابتغى عندها من اللهو والمجون ما يبتغيه أمثاله من الشباب المترفين عند أمثالها من البائسات الغافلات، فلما لم يظفر منها بشيء حاصرها كما تحاصر القلعة، وحاربها كما يحارب العدو، فلم يستطع أن يقهرها، ولم تستطع أن تقهره، وأقاما معا في شيء من الموادعة لا يستطيع عنها سلوا، ولا تستطيع عنه انصرافا، لا يشير إليها من آماله ومطامعه بقليل أو كثير، ولا تلقاه هي من مقاومتها وامتناعها بقليل أو كثير لأنها لم تعد في حاجة إلى المقاومة أو الامتناع.
أأكذب نفسي أم أصدقها؟ أأصارحها بالحق أم أموه عليها الأمر؟ لقد رضيت حياتنا الجديدة واطمأن إليها قلبي كل الاطمئنان، واغتبطت بها نفسي أشد الاغتباط، وارتاح إليها ضميري هذا المتعب المعذب الذي كان في حاجة إلى أن يرتاح، ولكن أظل قلبي مطمئنا ونفسي مغتبطة وضميري مرتاحا بعد أن مضت علينا الأسابيع والشهور في مدينة القاهرة قريبين بعيدين مؤتلفين مختلفين؟ ألم أشعر شعورا غامضا بأن هذه الهدنة قد طالت وبأن هذه الموادعة قد اتصلت أكثر مما ينبغي أن تتصل؟ ألم أجد في أعماق ضميري شوقا إلى تلك الحرب وجنوحا إلى ذلك الخصام؟ ألم أحس في دخيلة نفسي أن حياء هذا الشاب قد يكون لونا من الصد، وأن احتشامه قد يكون فنا من الإعراض؟ بلى! وجدت هذا كله وأنكرته من نفسي أشد الإنكار ولمتها فيه أعنف اللوم، وما أشك في أنه وجد من نفسه مثل ما كنت أجد، ولام نفسه في مثل ما كنت ألوم نفسي فيه.
وقد زاد هذا الحمل ثقلا على نفسه وعلى نفسي أنه سار منذ انتقل إلى القاهرة سيرته تلك التي ألفها في الأيام الأخيرة من حياته في الأقاليم.
فكان يغدو إلى عمله مصبحا ويروح إلى دار أبويه حين يتقدم النهار فلا يكاد يخرج منها إلا إذا كان الغد، ومع ذلك فأمثاله من الشباب لا يلمون بدورهم إلا ليخرجوا منها، إنما دورهم فنادق يطعمون فيها ويأوون إليها آخر الليل، وفي القاهرة مما يفتن الشباب ويغريهم شيء كثير طالما سمعت أحاديثه قبل أن أبلغ القاهرة وبعد أن أقمت فيها، فما بال هذا الشاب لا تبلغه فتنة ولا يناله إغراء؟ لقد رضي أبواه أول الأمر عن هذه الحياة المستقيمة كل الرضا، وابتهجا بمحضر ابنهما كل الابتهاج، ولكنهما وجدا آخر الأمر أن الفتى قد أسرف على نفسه في لزوم الدار والعكوف على القراءة والانقطاع عن الأندية وما يكون فيها من لقاء الأصدقاء والتعرف إلى الناس، وكثيرا ما رغبته أمه في الخروج فلم يستجب لهذا الترغيب، وكثيرا ما أغراه أبوه بملاعب التمثيل ومجالس الموسيقى وزيارة هذا البيت أو ذاك من بيوت الأصدقاء فلم يستمع لهذا الإغراء، إنما هو الغدو على العمل والرواح إلى الدار، والأوقات ينفقها مع أبويه، ثم الانحياز إلى غرفته والانقطاع إلى كتبه يعكف عليها حتى يتقدم الليل.
وكان في أثناء ذلك ربما دعاني إلى غرفته وأخذ يتحدث إلي ويسمع مني، وكانت المدينة وشئون أهلها موضوع حديثنا في كثير من الأحيان، كما كانت القاهرة وشئونها موضوع حديثنا أحيانا أخرى.
كان يتحدث أو يسمع جالسا إلى مكتبه، وكنت أتحدث أو أسمع واقفة غير بعيدة من مكتبه، وما أكثر ما دعاني إلى الجلوس وما أشد ما كنت أتمنى الجلوس! ولكني كنت أعتذر باسمة؛ فما ينبغي لمثلي أن تجلس إلى مثله وإنما حسب مثلي من مثله الوقوف بين يديه والتحدث إليه والاستماع له، وهذا كثير.
ألم تكن غريبة هذه الصداقة بيني وبين هذا الشاب على ما كان بيننا من الائتلاف والاختلاف؟ أكانت صداقة خالصة أم كان وراءها أكثر من الود الذي يكون بين الأصدقاء؟! أما أنا فقد كنت أجد وراء هذه الصداقة حبا ثائرا أكتمه على ما كان يكلفني كتمانه من الجهد ويحملني من المشقة والعناء، وأما هو فقد كتم أمره أسابيع وشهورا حتى خدعني أو كاد يخدعني عن نفسه، ولكنه ألقى النقاب ذات مساء فغير من أمرنا كل شيء، ألقاه في غير جهد وفي غير تكلف، لم يضطرب له صوته، ولم يظهر على وجهه أثر العواطف المضطربة أو القلب الذي تضطرم فيه نار الحب، إنما تحدث إلي في هذا الأمر كما كان يتحدث إلي في أمر المدينة وفي أمر القاهرة بصوت لا ارتفاع فيه ولا انخفاض ولا اعوجاج فيه ولا التواء!
قال: ألا ترين أن الأمر بيننا قد آن له أن ينتهي إلى غايته ويبلغ مداه؟ قلت: وما ذاك؟ قال: هذا الحب الذي اختصمنا فيه وقتا طويلا وسكتنا عنه وقتا طويلا، ولكنه لم يسكت عنا، فما أظنه قد أمهلك يوما كما أنه لم يمهلني ساعة، أما ينبغي أن تنتهي هذه الحياة الغامضة إلى ما يجب لها من الصراحة والوضوح؟ وقد سمعت منه ولكني لم أرد عليه جوابا.
فلما طال عليه صمتي استأنف حديثه في صوت لا يزال سواء، فقال: إنك تفهمين عني اليوم ما أريد، كما فهمت عني من قبل ما كنت أريد. قلت مبتسمة: بل إني لم أفهم عنك شيئا. قال ضاحكا: بل تفهمين أني كنت أريدك على الإثم، وإني الآن إنما أريدك على الزواج.
واحتجت إلى أن أعتمد على كرسي كان مني غير بعيد، فإن فكرة الزواج لم تخطر لي قط، وما كان ينبغي أن تخطر لي؛ فقد أقدمت على كثير من خطير الأمر وتصورت في نفسي كثيرا من جليل العمل، ولكني احتفظت دائما بعقلي ولم يخرجني الحب كما لم يخرجني البغض، ولم يخرجني الأمل كما لم يخرجني اليأس عن طوري في لحظة من اللحظات؛ لذلك أجبته صادقة بأن هذا أمر لا ينبغي العبث فيه.
قال لي وهو يضحك: فإنك تظنين أني أعبث، وتقدرين ما بينك وبيني من الفرق الاجتماعي، متى تزوج السيد الغني المترف من خادمه الشقية الفقيرة البائسة! أليس هذا هو ما تقدرين؟ فأريحي نفسك إذن من كل هذه الخواطر؛ فقد رأيت منذ موقفنا ذاك في المدينة أني لست سيدا كغيري من السادة، وقد رأيت أنا منذ عرفتك أنك لست خادما كغيرك من الخدم، لقد دهشت حين رأيتك تنتظرينني إلى آخر الليل على غير ما تعودت من الفتيات اللاتي سبقنك إلى خدمتي، ولكني لم أكن أقدر أنك ستثيرين في نفسي ألوانا أخرى من الدهش.
ثم أطرق صامتا فأطال الإطراق والصمت، ولبثت ماثلة ذاهلة لا أقول شيئا، وأكاد لا أعي شيئا، ولكنه رفع رأسه، وقال في صوت هادئ حزين: أتقبلين؟ قلت في صوت ليس أقل من صوته هدوءا ولا حزنا: فإن سيدي يعلم أن ليس إلى هذا من سبيل. قال: تفكرين في أبوي! فإني قد فكرت فيهما قبلك وقد حزمت أمري، وما أشك في أنهما لن يمتنعا علي، ولو قد فعلا لعرفت كيف أمتنع عليهما، ولكنهما لن يفعلا، فهل تقبلين؟ قلت: ليس إلى ذلك من سبيل. قال: فمن حقي عليك أن أفهم هذا الامتناع، إنك لتعلمين أن فراقا بيننا مستحيل، وإني لأعلم كما تعلمين أن ليس لقلبينا رضا إلا في الزواج. قلت: فقد قضي على قلبينا ألا يرضيا. قال: ومن ذا الذي قضى عليهما هذا العذاب المتصل؟ وهممت أن أجيب ولكن صوتي يحتبس، ودمعي ينطلق، وإني لأراني أهم بالانصراف، وإني لأراه قد نهض من مجلسه متثاقلا وسعى إلي متباطئا حتى ردني في هدوء ودعة، ثم عاد إلى مجلسه وقال: أترين إلي كيف أملك نفسي! ألا تفكرين في تلك الثورة الجامحة التي شقيت بها وقتا طويلا ؟
أنبئيني من ذا الذي قضى علينا هذا العذاب المقيم؟ قلت: أنت الذي قضى علينا هذا العذاب المقيم، وأنا التي قضت علينا هذا العذاب المقيم، كلانا قضى على صاحبه ما نحن فيه من شر ونكر، وكلانا أتاح لصاحبه ما نحن فيه من هذه الموادعة الهادئة التي لا ينبغي أن نطمع في خير منها، فليس في الحياة خير منها بالقياس إليك ولا بالقياس إلي. قال: فإن حديثك لم يزدد إلا غموضا. قلت: فخير لنا أن نقبله على ما فيه من غموض. قال، وقد ظهر أنه يبذل جهدا ليحتفظ بهدوئه: فإني أقسم لك أني لم أعد أستطيع صبرا على هذه الحياة. قلت: وأنا أيضا لا أستطيع صبرا على هذه الحياة، ولكن ما الذي نستطيع أن نفعل وقد سبق القضاء بما لم نحب. قال: أي قضاء؟ ألم يأن لك أن تفصحي، ألم يأن لي أن أفهم، ألم يأن لهذه الظلمة أن تنجاب؟ قلت: أحريص أنت على ذلك؟ إني لأخشى إن انجابت عنا هذه الظلمة وغمرنا الضوء أن يكره كل واحد منا النظر في وجه صاحبه. قال، وقد غلبه العنف، فارتفع صوته قليلا واضطربت يده اضطرابا خفيفا: بل أنا أريد أن أفهم مهما تكن العاقبة. قلت: فأذن لي بالجلوس، ولم أنتظر إذنه، وإنما جلست على هذا الكرسي الذي كنت أعتمد عليه، وألقيت عليه قصتي في صوت هادئ مطرد لا يبله الدمع ولا يظهر فيه الحزن، ولا ينم عن قليل أو كثير من الاضطراب، إنما ألقيت عليه قصتي كأني أتحدث عن شخص غريب إلى شخص غريب.
وما أدري أطال الوقت الذي ألقيت فيه قصتي أم قصر، ولكني أعلم أني سمعتني أقول: أفهمت الآن؟ أترى إلى هذا الضوء الذي يغمرنا؟ أتستطيع أن تنظر إلي؟! وقد انتظرت جوابه لحظة غير قصيرة، ولكني سمعته كأنما كان يتحدث إلي من مكان بعيد جدا، سمعته يقول: نعم! أستطيع أن أنظر إليك، ولن أستطيع أن أنظر إلا إليك، وأنت أتطيقين أن تنظري إلي؟ أما زلت تضمرين الانتقام؟ ولم أجب إلا بما تجيب به المرأة المغلوبة التي انكسرت نفسها وذاب قلبها، فهو يسيل من عينيها دموعا، ثم أسمعه بعد وقت لا أدري أكان طويلا أم قصيرا يقول لي: لقد كان من الممكن أن نفترق قبل أن يغمرنا هذا الضوء؛ فأما الآن فقد أصبح افتراقنا شيئا لا سبيل إليه، أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شرا من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه. إن العبء لأثقل من أن تحمليه وحدك، وإن العبء لأثقل من أن أحمله وحدي، فلنحتمل شقاءنا معا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ثم انقطع الحديث بيننا فلم يقل شيئا ولم أقل شيئا، وأطبق على الغرفة صمت هائل رهيب! غرقنا فيه يقظين كما يغرق النائم في نوم بريء من الأحلام.
ولكن صوتك أيها الطائر العزيز يبلغني فينتزعني انتزاعا من هذا الصمت العميق، فأثب وجلة مذعورة، ويثب هو وجلا مذعورا، ثم لا نلبث أن يثوب إلينا الأمن ويرد إلينا الهدوء، فأما أنا فتنحدر على خدي دمعتان حارتان. وأما هو فيقول وقد اعتمد بيديه على المائدة، دعاء الكروان! أترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع حين صرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض؟!
القاهرة، سبتمبر 1934
Page inconnue