124

دروس الدكتور عمر عبد الكافي

دروس الدكتور عمر عبد الكافي

Genres

الصدق ونتحدث الآن عن كيفية المحاولة لتحسين الخاتمة. أول عنصر من عناصر حسن الخاتمة: الصدق مع الله ﷿، وأول شيء في الصدق مع الله: صدق النية وتجريدها. أي: يجب أن أصدق النية أولًا في أي عمل أقدم عليه، فإن قلت: سأذهب لزيارة فلان لوجه الله، وربما أجد عنده فلانًا فهو دائمًا يزوره، وأنا لي مصلحة معينة عنده، فحينها لا يوجد صدق نية. قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:٧٧]. أي: ولا تنس نصيبك من الدنيا في زراعة الآخرة فيها، فالدنيا لا تنفصل عن الآخرة، وإنما هذا عند الغرب، أما عندنا فالدنيا مصنع ومزرعة، وفي الآخرة جني الثمرات، فلابد من صدق النية في العمل. أما مقولة: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا) فهي مقولة خائبة لم يقل بها أحد، وليست حديثًا عن النبي ﷺ، ولم تذكر حتى في (الموضوعات) لـ ابن الجوزي. وهذه المقولة تسبب هزة في اليقين، وتوحي لك كأنك تعيش أبدًا وأنت لن تعيش أبدًا، وبالتالي فهذه الحكمة باطلة من أولها، ولم يقل هذا رسول الله ولا أحد من الصالحين، وهذه انتشرت بين الناس كانتشار النار في الهشيم. إذًا: فصدق النية أمر هام، وقد تحدثنا عن الإمام مالك أنه جاءه أبو جعفر فقال له: يا إمام! وطئ لنا كتابًا -يعني: ذلل وسهل- وتجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، وغرائب ابن مسعود، وذلك أن عبد الله بن عباس كان يعتمد على التيسير، وابن عمر يعتمد على التشديد، وابن مسعود يأتي بالغرائب التي سمعها من النبي ﷺ ولم يسمعها أحد، فالناس يتعجبون منه ويقولون: من أين أتيت بهذا الكلام؟! وغرائبه مشهورة. فكتب كتابه الموطأ في الفقه، وهو أول كتاب، ويعتبر مرجعًا فقهيًا عظيمًا، وكان الإمام مالك إذا حدث يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: حديث كذا، في الفقه أو في الحديث، فيدخل ويغتسل ويتطيب ويسرح لحيته ويلبس ثوبًا أبيض، ويخرج على الناس قائلًا: نحن نحدث عن رسول الله، بلغني عن فلان، حدثني فلان عن فلان عن فلان عن صاحب هذا القبر الشريف، ويضع يده على قبر النبي ﷺ. فلما كتب الكتاب قال له أبو جعفر نطبع منه، أي: نعمل منه نسخًا ونوزع في الأمصار، فقال مالك: لا، لا أدري مدى صدقي فيه، أي: أريد صدق النية فقط، قيل: وكيف نعرف نيتك؟ قال: ضعوه على سقف الكعبة سنة، فإن وجدتموه كاملًا فهذا دليل على صدق نيتي، وإن محيت منه كلمة أو سطر أو حرف فصدقي فيه نظر، فجاءوا بعد سنة فوجدوه كاملًا كما هو، فقال: صدقت نيتي فيه يا أمير المؤمنين.

18 / 5