الملاح التائه
الإهداء
ميلاد شاعر
الوحي الخالد
النشيد
الملاح التائه
غرفة الشاعر
رجوع الهارب
مخدع مغنية
قبلة
أغنية ريفية
قيثارتي
أيتها الأشباح
قلبي
على الصخرة البيضاء
الأجنحة المحترقة
الله والشاعر
صخرة الملتقى
عاصفة في جمجمة
القطب
إلى سيد درويش
الأمسية الحزينة
الفن الجميل
الملك البطل
الشاطئ المهجور
عاشق الزهر
قبر شاعر
حافظ إبراهيم
شوقي
انتظار
إلى البحر
الطريد
عدلي يكن
في القرية
البحيرة
ليالي الملاح التائه
الإهداء
أغنية الجندول في كرنفال فينسيا
القمر العاشق
كأس الخيام
مصرع الربان
نشيد إفريقي
حلم ليلة
إلى راقصة
في الشتاء
هي
بحيرة كومو
أفراح الوادي
مهرجان الزفاف
أميرة الشرق
سيرانادا مصرية
الشواطئ المصرية
خيال
التمثال
دعابة
تاييس الجديدة
خمرة نهر الرين
شاعر مصر
موت الشاعر
الموسيقية العمياء
النهر الظامئ
مأساة رجل
صدى الوحي
العشاق الثلاثة
زهر وخمر
الإهداء
ليالي كليوبترا
ميلاد زهرة
حانة الشعراء
سارية الفجر
أغنية الحب
حديث قبلة
خمرة الشاعر
زهراتي
من قارة إلى قارة
راقصة الحانة
الشاعر
عاشقة
الكرمة الأولى
المدينة الباسلة
بعد مئة عام
حلم ليلة الهجرة
ليلة عيد الميلاد
عام جديد
سمر
الشوق العائد
إليها
سؤال وجواب
الشوق العائد
جزيرة العشاق
طاقة زهر
أحلام عاشقة
امرأة وشيطان
هي وهو
ثلج ونار
نار ونار
يوم الملتقى
الأيام
بين الحب والحرب
إلى الطبيعة المصرية
خمرة الآلهة
الغرام الذبيح
امرأة
نداء القلب
فاروس الثاني
هزيمة الشيطان
موكب الوداع
صاحب الأهرام
شرق وغرب
ألحان وأشعار في منزل ريتشارد فاجنر
فلسفة وخيال
على حاجز السفينة
اعتراف
البحر والقمر
تحت الشراع
لحن من فينا
أندلسية
الوردة الصفراء
راكبة الدراجة
إلى أبناء الشرق
يوم فلسطين
من الأعماق
على النيل
مصر
لقاء ودعاء
عودة المحارب
بطل الريف
إندونيسيا
في صفوف المجاهدين
شهيد ميسلون
سوريا وعيد الجلاء
في عالم الذكرى
الأمير المجاهد
مصرع سياسي
أرواح وأشباح
الإهداء
الشخصيات
الشاعر
في السماء
الحية الخالدة
المرأة والفن
الأصل والمثال
ثورة
انتقام
دنيا النساء
الكيد العظيم
شيطان الشاعر!
الفن الشهيد
جنون الحياة!
معرض الحياة!
فزع وعتاب
السحر الأسود
رقية!
عودة
ابن السماء
الفنان الأول
الفنان الأعمى
حنان
حواء
قلوب الشعراء
الطيف الآدمي
الرجل!
البعث الأول
أغنية الرياح الأربع
تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
باتوزيس يرثي أزمردا
الملاح التائه
الإهداء
ميلاد شاعر
الوحي الخالد
النشيد
الملاح التائه
غرفة الشاعر
رجوع الهارب
مخدع مغنية
قبلة
أغنية ريفية
قيثارتي
أيتها الأشباح
قلبي
على الصخرة البيضاء
الأجنحة المحترقة
الله والشاعر
صخرة الملتقى
عاصفة في جمجمة
القطب
إلى سيد درويش
الأمسية الحزينة
الفن الجميل
الملك البطل
الشاطئ المهجور
عاشق الزهر
قبر شاعر
حافظ إبراهيم
شوقي
انتظار
إلى البحر
الطريد
عدلي يكن
في القرية
البحيرة
ليالي الملاح التائه
الإهداء
أغنية الجندول في كرنفال فينسيا
القمر العاشق
كأس الخيام
مصرع الربان
نشيد إفريقي
حلم ليلة
إلى راقصة
في الشتاء
هي
بحيرة كومو
أفراح الوادي
مهرجان الزفاف
أميرة الشرق
سيرانادا مصرية
الشواطئ المصرية
خيال
التمثال
دعابة
تاييس الجديدة
خمرة نهر الرين
شاعر مصر
موت الشاعر
الموسيقية العمياء
النهر الظامئ
مأساة رجل
صدى الوحي
العشاق الثلاثة
زهر وخمر
الإهداء
ليالي كليوبترا
ميلاد زهرة
حانة الشعراء
سارية الفجر
أغنية الحب
حديث قبلة
خمرة الشاعر
زهراتي
من قارة إلى قارة
راقصة الحانة
الشاعر
عاشقة
الكرمة الأولى
المدينة الباسلة
بعد مئة عام
حلم ليلة الهجرة
ليلة عيد الميلاد
عام جديد
سمر
الشوق العائد
إليها
سؤال وجواب
الشوق العائد
جزيرة العشاق
طاقة زهر
أحلام عاشقة
امرأة وشيطان
هي وهو
ثلج ونار
نار ونار
يوم الملتقى
الأيام
بين الحب والحرب
إلى الطبيعة المصرية
خمرة الآلهة
الغرام الذبيح
امرأة
نداء القلب
فاروس الثاني
هزيمة الشيطان
موكب الوداع
صاحب الأهرام
شرق وغرب
ألحان وأشعار في منزل ريتشارد فاجنر
فلسفة وخيال
على حاجز السفينة
اعتراف
البحر والقمر
تحت الشراع
لحن من فينا
أندلسية
الوردة الصفراء
راكبة الدراجة
إلى أبناء الشرق
يوم فلسطين
من الأعماق
على النيل
مصر
لقاء ودعاء
عودة المحارب
بطل الريف
إندونيسيا
في صفوف المجاهدين
شهيد ميسلون
سوريا وعيد الجلاء
في عالم الذكرى
الأمير المجاهد
مصرع سياسي
أرواح وأشباح
الإهداء
الشخصيات
الشاعر
في السماء
الحية الخالدة
المرأة والفن
الأصل والمثال
ثورة
انتقام
دنيا النساء
الكيد العظيم
شيطان الشاعر!
الفن الشهيد
جنون الحياة!
معرض الحياة!
فزع وعتاب
السحر الأسود
رقية!
عودة
ابن السماء
الفنان الأول
الفنان الأعمى
حنان
حواء
قلوب الشعراء
الطيف الآدمي
الرجل!
البعث الأول
أغنية الرياح الأربع
تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
باتوزيس يرثي أزمردا
ديوان علي محمود طه
ديوان علي محمود طه
تأليف
علي محمود طه
الملاح التائه
1934
الإهداء
إلى أولئك الذين يستهويهم الحنين إلى المجهول.
إلى التائهين في بحر الحياة.
إلى رواد الشاطئ المجهول!
أهدي هذا الديوان.
علي محمود طه
ميلاد شاعر
هبط الأرض كالشعاع السني
بعصا ساحر وقلب نبي
لمحة من أشعة الروح، حلت
في تجاليد هيكل بشري
ألهمت أصغريه من عالم الحك
مة والنور كل معنى سري
وحبته البيان ريا من السح
ر به للعقول أعذب ري
حينما شارفت به أفق الأر
ض زها الكون بالوليد الصبي
وسبى الكائنات نور محيا
ضاحك البشر عن فؤاد رضي
صور الحسن حوم حول مهد
حف بالورد والعمار الزكي
وعلى ثغره يضيء ابتسام
رف نورا بأرجوان ندي
وعلى راحتيه ريحانة تند
ى، وقيثارة بلحن شجي
فحنت فوق مهده تتملى
فجر ميلاد ذلك العبقري
وتساءلن حيرة: ملك جا
ء إلينا في صورة الإنسي؟
من ترى ذلك الوليد الذي ه
ش له الكون من جماد وحي؟
من تراه؟ فرن صوت هتوف
من وراء الحياة شاجي الدوي!
إن ما تشهدون ميلاد شاعر •••
كان وجه الثرى كوجه الماء
رائق الحسن مستفيض الضياء
حين ولى الدجى وأقبل فجر
واضح النور مشرق اللألاء
بهج في السماء والأرض يهدي
من غريب الخيال والإيحاء
صفقت عنده الخمائل نشوى
وشدا الطير بين عود وناء
مظهر يبهر العيون، وسحر
هز قلب الطبيعة العذراء
وجلا من بدائع الفن روضا
نمقته أنامل الإغراء
ما الربيع الصناع أوفى بنانا
منه في دقة وحسن أداء
نسق الأرض زينة وجلاها
قسمات من وجهه الوضاء
ربوة عند جدول، عند روض
عند غيض، وصخرة عند ماء
فزها الفجر ما بدا، وتجلى
وازدهى بالوجود أي ازدهاء
قال: لم تبد لي الطبيعة يوما
حين أقبلت مثل هذا الرواء
لا، ولم يسر ملء عيني وأذني
مثل هذا السنا وهذا الغناء
أي بشرى لها تجملت الأر
ض وزافت في فاتنات المرائي؟
علها نبئت من الغيب أمرا
حملته لها نجوم المساء
قال: ماذا أرى؟ فردد صوت
كصدى الوحي في ضمير السماء
إن هذا يا فجر، ميلاد شاعر •••
كان فجر، وكان ثم صباح
فيه للحسن غدوة ورواح
بكرت للرياض فيه عذارى
تزدهيهن صبوة ومراح
حين لاحت لهن رن هتاف
وعلت بالدعاء منهن راح
قلن: ما أجمل الصباح فما ح
ل على الأرض مثل هذا صباح
فتعالوا بنا نغني ونلهو
فهنا اللهو والغناء يتاح
وهنا جدول على صفحتيه
يرقص الظل والسنا الوضاح
وعلى حافتيه قام يغني
نا من الطير هاتف صداح
وفراش له من الزهر ألوا
ن، ومن ريق الشعاع جناح
دف في نشوة يناديه نوا
ر وعطر من الثرى فواح
وهنا ربوة تلألأ فيها
خضرة العشب والندى اللماح
ونسيم كأنه النفس الحا
ئر تصغى لهمسه الأدواح
مثل هذا الصباح لم يلد الشر
ق ولم تنجب الشموس الوضاح
لكأنا بالكون أعلام ميلا
د وعرس قامت له الأفراح
أي حسن نرى؟ فردد صوت
شبه نجوى تسرها أرواح
إن هذا الصباح ميلاد شاعر •••
وتجلى المساء في ضوء بدر
وشفوف غر الغلائل حمر
وسماء تطفو وترسب فيها ال
سحب كالرغو فوق أمواج بحر
صور جمة المفاتن شتى
كرؤى الحلم أو سوانح فكر
لا ترى النفس أو تحس لديها
غير شجو يفيض من نبع سحر
أفق الأرض لم يزل في حواشي
ه صدى حائر بألحان طير
وبأحنائه يرف ذماء
من سنا الشمس، خافق لم يقر
وعلى شاطئ الغدير ورود
أغمضت عينها لمطلع فجر
وسرى الماء هادئا في حوا
فيه يغني ما بين شوك وصخر
وكأن النجوم تسبح فيه
قبلات هفت بحالم ثغر
وكأن الوجود بحر من النو
ر على أفقه الملائك تسري
هتفت نجمة: أرى الكون تبدو
في أساريره مخايل بشر
وأرى ذلك المساء يثير السح
ر والشجو ملء عيني وصدري
أترانا بليلة الوحي والتن
زيل؟ أم ليلة الهوى والشعر؟
ما لهذا المساء يشغفنا ح
با ويوري بنا الفتون ويغري
أي سر ترى؟ فرن هتاف
بنجي من الصدى مستسر
إن هذا المساء ميلاد شاعر •••
قمر مشرق يزيد جمالا
كلما جد في السماء انتقالا
وسكون يرقى الفضاء، جناحا
ه على الأرض يضفوان جلالا
هذه ليلة يشف بها الحس
ن ويهفو بها الضياء اختيالا
جوها عاطر النسيم، يثير ال
شجو والشعر، والهوى، والخيالا
وإذا النهر شاطئا ونميرا
يتبارى أشعة وظلالا
وسرى فيه زورق لحبيبي
ن، صغيرين، ينعمان وصالا
يبعثان الحنين في صدر ليل
ليس يدري الهموم والأوجالا
شهد الحب منذ كان روايا
ت على مسرح الحياة توالى
وجرت ملء مسمعيه أحادي
ث عفا ذكرها لديه ودالا
ذلك الباعث الأسى والمثير الن
ار في مهجة المحب اشتعالا
لم يجب قلبه لميلاد نجم
لا، ولم يبك للبدور زوالا
بيد أن القضاء أوحى إليه
ليذوق الآلام والآمالا
فأحس الفؤاد يخفق منه
ورأى النور جائلا حيث جالا
واستخفته من شفاه الحبي
بين شئون الهوى، فرق ومالا
وتجلت له الحياة، وما في
ها فراعته فتنة وجمالا
فجثا ضارعا: أرى الكون ربي
غير ما كان صورة ومثالا
لم يكن يعرف الصبابة قلبي
أو تعي الأذن للغرام مقالا
أتراها تغيرت هذه الأر
ض أم الكون في خيالي حالا
رب ماذا أرى؟ فرن هتاف
مستسر الصدى يجيب السؤالا
إن هذا يا ليل، ميلاد شاعر •••
وتجلى الصدى الحبيب الساحر
في محيط من الأشعة غامر
وسكون يبث في الكون روعا
وقفت عنده الليالي الدوائر
واستكان الوجود، والتفت الده
ر وأصغت إلى صداه المقادر
لم يبن صورة، ولكن رأته
بعيون الخيال منا البصائر
قال: يا شاعري الوليد سلاما
هزت الأرض، يوم جئت، البشائر
فإليك الحياة شتى المعاني
وإليك الوجود جم المظاهر
لا تقل: كم أخ لك اليوم في الأر
ض شقي الوجدان، أسوان حائر
إن تكن ساورته في الأرض آلا
م وحفت به الجدود العواثر
فلكي يستشف من خلل الغي
ب جمالا يذكي شباب الخواطر
ولكي ينهل السعادة من نب
ع شهي الورود، عذب المصادر
فلكم جاء بالخيال نبي
ولكم جن بالحقيقة شاعر
إنما يسعد الوجود وتشقو
ن، وإني لكم مثيب وشاكر
ولكم جنتي، اصطفيتكم اليو
م لتحيوا بها جميل المآثر
فانسقوها جداولا ورياضا
واجعلوها سرح النهى والنواظر
اجعلوا النهر كيف شئتم، ومدوا
شاطئيه بين المروج النواضر
ماؤه ذوب خمرة، وسنا شم
س وريا ورد، وألحان طائر
وضعوا هضبة تطل عليه
ذات صخر منور العشب عاطر
واغرسوا النخلة الجنية فوق النب
ع في الموقف البديع الساحر
واجعلوا جنتي قصيدة شاعر •••
ادخلوا الآن أيها المحسنونا
جنة كنتم بها توعدونا
اجعلوها من البدائع زونا
واملأوها من الجمال فنونا
املأوها فنا وليس فتونا
وانشروا الصفو فوقها والسكونا
غير لحن يرف فيها حنونا
تتغنى به الطيور وكونا
وسنا مشرق يضيء الدجونا
سرمدي الشعاع يمحو المنونا
رائق النور ليس يعشي العيونا
وتغنوا بها كما تشتهونا
وصفوها جداولا وعيونا
وورودا ندية وغصونا
لا تثيروا بها الهوى والمجونا
واحذروا أن تذكروا «المجنونا»
فلقد ثاب من هواه شجونا
وخلا مهجة وجف شؤونا
وهو في جنتيه أسعد شاعر •••
أيها الشاعر اعتمد قيثارك
واعزف الآن منشدا أشعارك
واجعل الحب والجمال شعارك
وادع ربا دعا الوجود وبارك
فزها وازدهى بميلاد شاعر
الوحي الخالد
لوجهك هذا الكون، يا حسن، كله
وجوه يفيض البشر من قسماتها
وتستعرض الدنيا غريب فنونها
وتعرب عن نجواك شتى لغاتها
ولولاك ما جاش الدجى بهمومها
ولا افتر ثغر الصبح عن بسماتها
ولا سعدت بالوهم في عالم المنى
ولا شقيت بالحب بين لداتها
ولا حبت الفنان آيات فنه
ولا رزق الإبداع من نفحاتها
بكرت إلى الروض النضير فزاحمت
إليك ورود الأرض نور نباتها
وألقت بأنداء الصباح شفاهها
على قدميك العذب من قبلاتها
تشهى خطى فيها الردى، وكأنها
تصيب حياة الخلد بعد مماتها
وملت إلى الأدواح فانطلقت بها
صوادح طار الصمت عن وكناتها
ومد شعاع الفجر ريق نوره
يحييك، يا ابن الفجر ، من شعفاتها
فوا أسفا يا حسن للحظة التي
تطيش لها الأحلام من وثباتها
ووا أسفا، يا حسن، للفرقة التي
يعز على الأوهام جمع شتاتها
وما هي إلا الصمت والبرد والدجى
ودنيا يشيع الموت في جنباتها
فضاء يروغ الريح في نشيجها
وتفرغ فيه البوم من صرخاتها
وتنتثر الأزهار من عذباتها
وتعرى الغصون النضر من ورقاتها
ويغشى السماء الجهم من كل ديمة
تخدد وجه الأرض من عبراتها
هنالك لا الوادي، ولا العالم الذي
عرفت، ولا الأيام في ضحكاتها
ولكن ردى النفس التي كنت حبها
ونافث هذا السحر في كلماتها
مضت غير شعر خلدت فيه وحيها
إليك، فخذ، يا حسن، وحي حياتها!
النشيد
عندما ظللني الوادي مساء
كان طيف في الدجى يجلس قربي
في يديه زهرة تقطر ماء
عرفت عيني بها أدمع قلبي!
قلت: من أنت؟ فلباني مجيبا
نحن، يا صاح غريبان هنا
قد نزلنا السهل والليل الرهيبا
حيث ترعاني وأرعاك أنا
قلت: يا طيف أثرت النفس شكا
كيف أقبلت؟ وقل لي من دعاكا؟
قال: أشفقت من الليل عليكا
فتتبعت إلى الوادي خطاكا
ودنا مني وغناني النشيدا
فعرفت اللحن والصوت الوديعا
هو حبي هام في الليل شريدا
مثلما همت لنلقاك جميعا
وتعانقنا وأجهشنا بكاء
وانطلقنا في حديث وشجون
ودنا الموعد فاهتجنا غناء
وتنظرناك والليل عيون
أقبل الليل فأقبل موهنا
والتمس مجلسنا تحت الظلال
وافني نصدح بألحان المنى
ونعب الكأس من خمر الخيال
أقبل الليلة وانظر واسمع
كل ما في الكون يشدو بمزارك
جئت بالأحلام والذكرى معي
وجلسنا في الدجى، رهن انتظارك
سترى، يا حسن، ما أعددته
لك من ذخر، وحسن، ومتاع
هو قلبي، في الهوى، ذوبته
لك في رفاف لحن وشعاع
وهو شعر صورت ألوانه
بهجة الفجر وأحزان الشفق
ونشيد مثلت ألحانه
همسات النجم في أذن الغسق
ذاك قلبي عاريا بين يديك
أخذته منك روعات الإله
فتأمله دما في راحتيك
وذماء منك يستوحي الحياة
باكي الأحلام، محزون المنى
ضاحك الآلام، بسام الجراح
لم يكن إلا تقيا مؤمنا
بالذي أغرى بحبيك الطماح
يتمنى فيك لو يفنى كما
يتفانى الغيم في البحر العباب
أو يلاشي فيك حيا مثلما
يتلاشى، في الضحى، لمح الشهاب
زهرة أطلعها فردوس حبك
استشفت فجرها من ناظريك
خفقت أوراقها في ظل قربك
وسرت أنفاسها من شفتيك
هي من حسنك تحيا وتمون
فاحمها، يا حسن، إعصار المنون
أولها الدفء من الصدر الحنون
أو فهبها النور من هذي العيون
دمعها الأنداء والعطر الشجا
وصدى أناتها همس النسيم
فاحبها منك الربيع المرتجى
تصدح الأيام باللحن الرخيم
الملاح التائه
أيها الملاح قم واطو الشراعا
لم نطوي لجة الليل سراعا
جدف الآن بنا في هينة
وجهة الشاطئ سيرا واتباعا
فغدا يا صاحبي تأخذنا
موجة الأيام قذفا واندفاعا
عبثا تقفوا خطى الماضي الذي
خلت أن البحر واراه ابتلاعا
لم يكن غير أويقات هوى
وقفت عن دورة الدهر انقطاعا
فتمهل، تسعد الروح بما
وهمت، أو تطرب النفس سماعا
ودع الليلة تمضي، إنها
لم تكن أول ما ولى وضاعا
سوف يبدو الفجر في آثارها
ثم يمضي، ودواليك تباعا
هذه الأرض انتشت مما بها
فغفت تحلم بالخلد خداعا
قد طواها الليل حتى أوشكت
من عميق الصمت فيه أن تراعا
إنه الصمت الذي في طيه
أسفر المجهول، والمستور ذاعا
سمعت فيه هتاف المنتهى
من وراء الغيب يقريها الوداعا
أيها الأحياء، غنوا واطربوا
وانهبوا من غفلات الدهر ساعا •••
آه، ما أروعها من ليلة
فاض في أرجائها السحر، وشاعا
نفخ الحب بها من روحه
ورمى عن سرها الخافي القناعا
وجلا من صور الحسن لنا
عبقريا لبق الفن صناعا
نفحات رقص البحر لها
وهفا النجم خفوقا والتماعا
وسرى من جانب الأرض صدى
حرك العشب حنانا واليراعا
بعث الأحلام من هجعتها
كسرايا الطير نفرن ارتياعا
قمن بالشاطئ من وادي الهوى
بنشيد الحب يهتفن ابتداعا •••
أيها الهاجر عز الملتقى
وأذبت القلب صدا وامتناعا
أدرك التائه في بحر الهوى
قبل أن يقتله الموج صراعا
وارع في الدنيا طريدا شاردا
عنه ضاقت رقعة الأرض اتساعا
ضل في الليل سراه، ومضى
لا يرى في أفق منه شعاعا
يجتوي اللافح من حرقته
وعذاب يشعل الروح التياعا
والأسى الخالد من ماض عفا
والهوى الثائر في قلب تداعى
فاجعل البحر أمانا حوله
واملأ السهل سلاما واليفاعا
وامسح الآن على آلامه
بيد الرفق التي تمحو الدماعا
وقد الفلك إلى بر الرضا
وانشر الحب على الفلك شراعا
غرفة الشاعر
أيها الشاعر الكئيب مضى اللي
ل وما زلت غارقا في شجونك
مسلما رأسك الحزين إلى الفك
ر، وللسهد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى
في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناضب به حر أنفا
سك يطغى على ضعيف أنينك •••
لست تصغي لقاصف الرعد في اللي
ل، ولا يزدهيك في الإبراق
قد تمشى خلال غرفتك الصم
ت ودب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشا
حب، يهفو عليك من إشفاق
وبقايا النيران، في الموقد الذا
بل، تبكي الحياة في الأرماق •••
أنت أذبلت بالأسى قلبك الغض
وحطمت من رقيق كيانك
آه يا شاعري، لقد نصل اللي
ل وما زلت سادرا في مكانك
ليس يحنو الدجى عليك ولا يأ
سى لتلك الدموع في أجفانك
ما وراء السهاد في ليلك الدا
جي، وهلا فرغت من أحزانك؟ •••
فقم الآن من مكانك واغنم
في الكرى غطة الخلي الطروب
والتمس في الفراش دفئا ينسي
ك نهار الأسى وليل الخطوب
لست تجزى من الحياة بما حم
لت فيها من الضنى والشحوب
إنها للمجون، والختل، والزي
ف، وليست للشاعر الموهوب!
رجوع الهارب
إذا تمرد المحبون على حكم الهوى، وضاق كيوبيد بصراخهم وبكائهم، فتح لهم باب ديره فخلصوا منه ناجين، وانطلقوا هاربين من أسره ينشدون السلو والنسيان في حياة أصبحت تنكرهم وكأنهم لم يتصلوا بها، وهاموا في عالم كأنما يجهلهم ويجهلونه، هنالك يرجع الهارب نادما مأخوذا بسحر تلك الأيام التي كانت تشرق عليه من خلال ديره القديم.
قربت للنور المشع عيوني
ورفعت للهب الأحم جبيني
ومشيت في الوادي يمزق صخره
قدمي، وتدمي الشائكات يميني
وعدوت نحو الماء وهو مقاربي
فنأى ورد إلى السراب ظنوني
وبدت لعيني في السماء غمامة
فوقفت، فارتدت هنالك دوني
وأصخت للنسمات وهي هوازج
فسمعت قصف العاصف المجنون •••
يا صبح: ما للشمس غير مضيئة
يا ليل: ما للنجم غير مبين؟
يا نار: ما للنار بين جوانحي
يا نور: أين النور ملء جفوني؟
ذهب النهار بحيرتي وكآبتي
وأتى المساء بأدمعي وشجوني
حتى الطبيعة أعرضت وتصاممت
وتنكرت للهارب المسكين!! •••
إن لم يكن لي من حنانك موئل
فلمن أبث ضراعتي وحنيني؟
آثرت لي عيش الأسير فلم أطق
صبرا وجن من الإسار جنوني
فأعدتني طلق الجناح وخلت بي
للنور جنة عاشق مفتون
وأشرت لي نحو السماء فلم أطر
ورددت عين الطائر المسجون
نسي السماء وبات يجهل عالما
ألقى الحجاب عليه أسر سنين
ولقد مضى عهد التنقل، وانتهى
زمني إليك بصبوتي وفتوني
لم ألق بعدك ما يشوق نواظري
عند الرياض، فليس ما يصبيني
فهتفت أستوحي قديم ملاحني
فتهدجت وتعثرت بأنيني
ونزلت أستذري الظلال فعفنني
حتى الغصون غدون غير غصون
فرجعت للوكر القديم وبي أسى
يطغى علي وذلة تعروني
لما رأته اغرورقت عيناي من
ألم، وضج القلب بعد سكون
ومضت بي الذكرى فرحت مكذبا
عيني، ومتهما لديه يقيني
وصحوت من خبل وبي مما أرى
إطراق مكتئب، وصمت حزين •••
فافتح لي الباب الذي أغلقته
دوني، وهات القيد غير ضنين
دعني أرو القلب من خمر الرضا
وأنم، على فجر الحنان، عيوني
وأعد إلى أسر الصبابة هاربا
قد آب من سفر الليالي الجون
عاف الحياة على نواك طليقة
وأتاك ينشدها بعين سجين!!
مخدع مغنية
شاع في جوه الخيال ورف ال
حسن والسحر والهوى والمراح
ونسيم معطر خفقت في
ه قلوب، ورفرفت أرواح
ومنى كلهن أجنحة تهفو
ودنيا بها يدف جناح
ومن الزهر حولها حلقات
طاب منها الشذا ورق النفاح
حملت كل باقة دمع مفتو
ن كما تحمل الندى الأدواح
وهي في ميعة الصبا يزدهيها
ضحك لا تمله ومزاح
وغناء كأن قمرية سك
رى بألحانها تشيع الراح
أخلصت ودها المرايا فراحت
تتملى فتشرق الأوضاح
كشفت عن جمالها كل خاف
وأباحت لهن ما لا يباح
معبد للجمال، والسحر، والفت
نة يغدي لقدسه ويراح
نام في بابه العزيز (كيوبي
د) ولكن في كفه المفتاح
إن ينم فالحياة شدو ولهو
أو ينبه فأدمع وجراح!! •••
دخلت بي إليه ذات مساء
حيث لا ضجة ولا أشباح
لم نكن قبل بالرفيقين، لكن
هي دنيا تتيح ما لا يتاح
وجلسنا يهفو السكون علينا
ويرينا وجوهنا المصباح
هتفت بي: تراك من أنت يا صا
ح؟ فقلت المعذب الملتاح
شاعر الحب والجمال؛ فقالت:
ما عليه إذا أحب جناح
واحتوى رأسي الحزين ذراعا
ها، ومرت على جبيني راح
ورأت صفرة الأسى في شفاه
أحرقتها الأنفاس والأقداح
فمضت في عتابها: كيف لم ند
ر بما برحت بك الأتراح؟
إن أسأنا إليك فاليوم يجزي
ك بما ذقته رضا وسماح
ولك الليلة التي جمعتنا
فاغتنمها حتى يلوح الصباح!! •••
قلت: حسبي من الربيع شذاه
ولعيني زهره اللماح
نحن طير الخيال، والحسن روض
كلنا فيه بلبل صداح
فنيت في هواه منا قلوب
وأصابت خلودها الأرواح!!
قبلة
قبلة من ثغرك البا
سم دنيا وحياة
تلتقي الروحان فيها
والمنى والصبوات
لغة وحدت الأل
سن فيها واللغات
نبعها القلب ومجرا
ها الشفاه النضرات •••
لغة قر شتيت ال
شمل فيها وتواءم
وبها الأعين في غي
ر حديث تتفاهم
من ترى علمها بال
أمس حواء وآدم؟
لم تزل جدتها وه
ي حديث يتقادم •••
قبلة من ثغرك البا
سم رفت شفتاه
من رحيق لم يحرم
ه على الناس الإله
كلما أترع منه ال
قلب ضجت رئتاه
مستزيدا وهو إن عل
به زاد صداه •••
قبلة من ثغرك البا
سم تمحو كل ما بي
وتواريني عن النا
س وعن دنيا العذاب
وتنسي القلب ما جر
ع من سم وصاب
قبلة تمزج أنفا
سك بالقلب المذاب •••
رب ليل مر أفني
ناه ضما وعناقا
وأدرنا من حديث ال
حب خمرا نتساقى
في طريق ضرب الزه
ر حواليه نطاقا
وتجلى البدر فيه،
وصفا الجو وراقا •••
ولزمنا الصمت إلا
نظرات تتكلم
وشفاها عن جراح ال
قلب راحت تتبسم
صحت بي رعبا وما را
عك قلب يتحطم
نبأتني النفس بالبي
ن غدا، والنفس تلهم •••
ثم كان الغد ما نب
ئت هجرا وفراقا
ونسينا قبلة لذ
ت على الأمس مذاقا
غير أنات صحا القل
ب عليها وأفاقا
فالتقينا وافترقنا،
وكأن لم نتلاقا!!
أغنية ريفية
إذا داعب الماء ظل الشجر
وغازلت السحب ضوء القمر
ورددت الطير أنفاسها
خوافق بين الندى والزهر
وناحت مطوقة بالهوى
تناجي الهديل وتشكو القدر
ومر على النهر ثغر النسيم
يقبل كل شراع عبر
وأطلعت الأرض من ليلها
مفاتن مختلفات الصور
هنالك صفصافة في الدجى
كأن الظلام بها ما شعر
أخذت مكاني في ظلها
شريد الفؤاد كئيب النظر
أمر بعيني خلال السماء
وأطرق مستغرقا في الفكر
أطالع وجهك تحت النخيل
وأسمع صوتك عند النهر
إلى أن يمل الدجى وحشتي
وتشكو الكآبة مني الضجر
وتعجب من حيرتي الكائنات
وتشفق مني نجوم السحر
فأمضي لأرجع مستشرفا
لقاءك في الموعد المنتظر!!
قيثارتي
بددت يا قيثارتي أنغامي
ونسيت لحن صبابتي وغرامي
مرت ليال كنت مؤنستي بها
وعزاء نفس جمة الآلام
تروين من طرب الصبا وحنينه
وتذهبين حواشي الأحلام
كالبلبل الشاكي رويت صبابتي
لحنا تمشى في دمي وعظامي
أنشودة الوادي ولحن شبابه
ذابت على صدر الغدير الطامي
شاق الطبيعة من قديم ملاحني
أصداؤك الحيرى على الآكام
وشجا البحيرة واستخف ضفافها
لحن كفائر موجها المترامي •••
يا ربة الألحان غني وابعثي
من كل ماض عاثر الأيام
هل من نشيدك ما يجدد لي الصبا
ويعيد لمحة ثغره البسام
ويصور الأحلام فتنة شاعر
توحي الخيال لريشة الرسام
وادي الهوى ولت بشاشة دهره
وخلت مغانيه من الآرام
طارت صوادحه وجف غديره
وذوى بشطيه النضير النامي
واعتاض من همس النسيم بعاصف
داو يشق جوانب الأظلام
وهو الصدى الحاكي لضائع صرختي
وصداك بين الغور والآكام
قد كن ألافي ونزهة خاطري
وسماء وحي الشعر والإلهام
ما لي بهن سكتن عن آلامي؟
أنسين عهد مودتي وذمامي؟ •••
يا ربة الألحان هل من رجعة
لقديم لحنك أو قديم هيامي؟
فاروي أغاني القدامى، وانفثي
في الليل من نفثات قلبي الدامي
عل الذي غنيت عرش جماله
وطفقت أرقب أفقه المتسامي
تشجيه ألحاني فيسعدني به
طيف يضن علي بالإلمام
ما لي أراك جمدت بين أناملي
وعصيت أناتي ودمعي الهامي
خرساء لا تتلو النشيد ولا تعي
سر الغناء ولا تعيد كلامي
يغري الكآبة بي ويكسف خاطري
أني أراك حبيسة الأنغام
أيتها الأشباح
لم أقبلت في الظلام إلي؟
ولماذا طرقت بابي ليلا؟
لات حين المزار أيتها الأشباح،
فامضي، فما عرفتك قبلا! •••
اتركيني في وحشتي، ودعيني
في مكاني بوحدتي مستقلا
لست من تقصدين في ذلك الوادي،
فعذرا إن لم أقل لك: أهلا! •••
لا تطيلي الوقوف تحت سياجي
لن تري فيه للثواء محلا
ضل مسراك في الظلام فعودي
واحذري فيه ثانيا أن يضلا! •••
ذاك مأواي في تخوم الفيافي
طلل واجم عليك أطلا
قد تخليت عن زماني فيه
وهو بي عن زمانه قد تخلى! •••
لن تري من خلاله غير خفاق
شعاع يكاد في الليل يبلى
وخيال مستغرق في ذهول
بات يرعى ذباله المضمحلا! •••
ابرحي بهوه الكئيب فما فيه
لعينيك بهجة تتجلى
قد نزلت العشي فيه على قفر
جفته الحياة ماء وظلا! •••
كان هذا المكان روضا نضيرا
جر فيه الربيع بالأمس ذيلا
كان فيه زهر، فعاد هشيما
كان فيه، طير ولكن تولى! •••
فاسلمي من شقائه ودعيه
وحده يصحب السكون المملا
واطرقي غير بابه، إن روحي
أحكمت دونه رتاجا وقفلا! •••
أوقوفا إلى الصباح ببابي؟!
شد ما جئته غباء وجهلا!
ابعدي من وراء نافذتي الآن
ورفقا إذا انثنيت ومهلا! •••
إن من تحتها هزارا صريعا
سامه البرد في العشية قتلا
وأزاهير حوله ذابلات
مزقتها الرياح في الليل شملا •••
كان لي في حياتها خير سلوى
فدعيني بموتها أتسلى
فهي بقيا صبابة ودموع
جثيا عندها شعاعا وطلا •••
إن عيني بها أحق من الموت
وقلبي بها من القبر أولى
جن قلبي فاستضحكته المنايا
حيث أبكتني الحقيقة عقلا •••
لا تطيلي الوقوف، أيتها الأشباح،
فامضي فما رأيتك قبلا
أولم تسمعي؟ جهلتك من أنت!
فعودي فما كذبتك قولا!!
قلبي
كالنجم في خفق وفي ومض
متفردا بعوالم السدم
حيران، يتع حيرة الأرض
ومصارع الأيام والأمم •••
مستوحشا في الأفق منفردا
وكأنه في سامر الشهب
هذا الزحام حياله احتشدا
هو عنه ناء جد مغترب •••
مترنحا كالعاشق الثمل
ريان من بهج ومن حزن
نشوان من ألم ومن أمل
مستهزئا بالكون والزمن •••
تلك السماء على جوانبه
بحر الحياة الفائر الزبد
كم راح يلتمس القرار به
هيمان بين شواطئ الأبد •••
تهفو على الأمواج صورته
وشعاعه اللماح في الغور
نفذت إلى الأعماق نظرته
فإذا الحياة جلية السر •••
ويمر بالأحداث مبتسما
كالشمس حين يلفها الغيم
زادته علما بالذي علما
دنيا تناهى عندها الوهم •••
بلغ الروائع من حقائقها
فإذا السعادة توأم الجهل
هتف المحدق في مشارقها
ذهب النهار فريسة الليل •••
يا قلب: مثل النجم في قلق
والناس حولك لا يحسونا
لولا اختلاف النور والغسق
مروا بأفقك لا يطلونا •••
فاصفح إذا غمطوك إدراكا
واذكر قصور الآدميينا
أتريدهم، يا قلب، أملاكا
كلا ... وما هم بالنبيينا •••
هم عالم في غيه يمضي
مستغرقا في الحمأة الدنيا
نزلوا قرارة هذه الأرض
وحللت أنت القمة العليا •••
عباد أوهام وما عبدوا
إلا حقير منى وغايات
ومناك ليس يحدها الأبد
دنيا وراء اللا نهايات •••
ولك الحياة دنى وأكوان
عزت معارجها على الراقي
تحيا بها وتبيد أزمان
وشبابها المتجدد الباقي •••
يا قلب: كم من رائع الحلك
ألقاك في بحر من الرعب
كم عذت منه بقبة الفلك
وصرخت وحدك فيه، يا قلبي! •••
ومضيت تضرب في غياهبه
وترد عنك المائج الصخبا
تترقب البرق المطيف به
وتسائل الأنواء والسحبا •••
وخفقت تحت دجاه من وجل
كالطير تحت الخنجر الصلت
وعرفت بين اليأس والأمل
صحو الحياة، وسكرة الموت •••
يا قلب: عندك أي أسرار
ما زلن في نشر وفي طي
يا ثورة مشبوبة النار
أقلقت جسم الكائن الحي •••
حملته العبء الذي فرقت
منه الجبال وأشفقت رهبا
وأثرت منه الروح فانطلقت
تحسو الحميم وتأكل اللهبا •••
وملأت سفر المجد من عجب
وخلقت أبطالا من العدم
وعلى حديثك في فم الحقب
سمة الخلود ونفحة القدم •••
كم من عجائب فيك للبشر
أخذتهم منها الفجاءات
متنبئا بالغيب والقدر
وعجيبة تلك النبوءات •••
وعجبت منك ومن إبائك في
أسر الجمال وربقة الحب
وتلفت المتكبر الصلف
عن ذلة المقهور في الحرب •••
يا حر، كيف قبلت شرعته
وقنعت منه بزاد مأسور
آثرت في الأغلال طلعته
وأبيت منه فكاك مهجور •••
فإذا جفاك الهاجر الناسي
وقسا عليك المشفق الحدب
فاضت بدمعك فورة الكاس
وهفت بكفك وهي تضطرب •••
وفزعت للأحلام والذكر
تبكي وتنشد رجعة الأمس
ووددت لو حكمت في القدر
لتعيد سيرتها من الرمس •••
ووهمت نارا ذات إيماض
فبسطت كفك نحوها فزعا
مرت بعينك لمحة الماضي
فوثبت تمسك بارقا لمعا •••
وصحوت من وهم ومن خبل
فإذا جراحك كلهن دم
لجت عليك مرارة الفشل
ومشى يحز وتينك الألم •••
والأرض ضاق فضاؤها الرحب
وخلت فلا أهل ولا سكن
حال الهوى وتفرق الصحب
وبقيت وحدك أنت والزمن! •••
وصرخت حين أجنك الليل
متمردا تجتاحك النار
وبدا صراعك أنت والعقل
ولأنتما بحر وإعصار •••
ما بين سلملكما وحربكما
كون يبين، ويختفي كون
وبنيتما الدنيا، وحسبكما
دنيا يقيم بناءها الفن
على الصخرة البيضاء
على الصخرة البيضاء ظللني الدجى
أسر إلى الوادي نجية شاعر
سمعت هدير البحر حولي فهاج بي
خوالج قلب مزبد اللج هادر
وقفت أشيع الفكر فيها، كأنما
إلى الشاطئ المجهول يسبح خاطري
وقد نشر الغرب الحزين ظلاله
على ثبج الأمواج، شعث الغدائر
ومن خلفها تبدو النخيل كأنها
خيالات جن أو ظلال مساحر
ألا ما لهذا البحر غضبان مثلما
تنفس فيه الريح عن صدر ثائر
لقد غمر الأكواخ فوق صخوره
ولج بها في موجه المتزائر
وأنحى على قطانها غير مشفق
بهم أو مجيل فيهم عين باصر
وما لي كأني أبصر الليل فوقه
يرف كطيف في السماوات حائر
ألا أين صيادوه فوق ضفافه
يهيمون في خلجانه والجزائر «وبحارة» الوادي تلفع بالدجى
وتنشد ألحان الربيع المباكر
لقد غرقوا في إثر أكواخهم، به
وما لمسوا من حكمه عفو قادر
وسجاهم باليم زاخر موجه
وأنزلهم منه فسيح المقابر •••
أصخ أيها الوادي أما منك صرخة
يدوي صداها في عميق السرائر؟!
أتعلم سر الليل؟ أم أنت جاهل؟
بلى إنه ، يا بحر، ليل المقادر!!
الأجنحة المحترقة
أدنا المزار وقرت العينان؟
وفرغتما من لهفة وحنان؟
وهززتما بالشوق كف مسلم
وهفت إلى تقبيله الشفتان؟
وحلا العناق على اللقاء، وأومأت
لكما الديار، فرفرف القلبان؟
وعلى الثغور الباسمات بشائر
وعلى الوجوه المشرقات أماني؟
وعلى سماء النيل من سمة الضحى
وضح، ومن ثغريكما وضحان؟
وعلى الضفاف الضاحكات مزاهر
وعلى السفين الراقصات أغاني؟
يوم تطلعت المنى لصباحه
وتحدثت عنه بكل لسان!
وسرى التخيل بالنفوس فهزها
مرح الطروب، وغبطة النشوان
والأفق مربد الأديم، وأنتما
فوق الرياح الهوج منطلقان
تتخايلان على السحاب برفرف
بلواء مصر مظلل مزدان
تتطلعان إلى السديم كأنما
تتخيران لها أعز مكان
وتحدثان النجم عن أوصافها
والنجم مأخوذ بما تصفان
علقتما بالناظرين خيالها
شوقا، وأجفان المنون رواني
هي خطرة، أو نظرة، ودرجتما
في جوف عاصفة من النيران
طاش الزمام فلا السحاب مقارب
لكما ولا الجبل الأشم مداني
وهوى الجناح فلا الرياح خوافق
فيه، ولا الأرواح طوع عنان
سدت طريقكما الحتوف وأنتما
تتحرقان هوى إلى الأوطان
ومشى الردى بكما وتحت جناحه
جسمان بل قلبان محترقان!! •••
يا ملهمي الشعر، هذا موقف
الشعر فيه فوق كل بيان
لوددت لو أني عرضت بناته
في المهرجان نواثر الريحان
وعقدت من شعري ومن ريحانها
إكليل غار أو نظيم جمان
أنا من يغني بالمصارع في العلا
ويشيد بالآلام والأحزان
ماذا وراء الدمع من أمنية
أو ما وراء النوح من نشدان؟
أصبحت ذا القلب الحديد، وإن أكن
في الناس ذاك الشاعر الإنساني
ووهبت قلبي للخطار، فللهوى
شطر، وللعلياء شطر ثاني
وعشقت موت الخالدين، وعفت من
عمري حقارة كل يوم فاني
لولا الضحايا الباذلون دماءهم
طوت الوجود غيابة النسيان
هذا الدم الغالي الذي أرخصتم
هو في بناء المجد أول باني
تبنون للوطن الحياة وهكذا
تبني الحياة مصارع الشجعان!
مثلتما في الموت وحدة أمة
ذاقت من التفريق كل هوان
مسح الهلال دم الصليب وضمدت
جرح الأهلة راحة الصلبان
إن كان في ساح الردى لكليكما
مثل، ففي ساح الفدا مثلان!
عذرا «فرنسا» إن جزعت فإنه
قدر ، وما لك بالقضاء يدان
هزتك بالروعات قبل مصابنا
أمم ملكن أعنة الطيران
واسيت مصر فما هوى نجم لها
إلا ومنك عليه صدر حاني
حيي سماء الفرقدين وقدسي
من تربك الغالي أعز مكان
فهنا دم روى ثراك، وها هنا
قلبان تحت الصخر يختلجان
يا أمة الشهداء أنت بثكلهم
أدرى، وبالأحزان والأشجان
الغار أحقر أن يكلل هامهم
ورءوسهم أغلى من التيجان
لغد صبرنا للزمان، وفي غد
نعفو ونغفر للزمان الجاني
ونمد للأيام كف مصافح
يجزي المسيء إليه بالإحسان
وندل فوق النيرات بموكب
فيه الحجى والبأس يلتقيان
ونهز أجنحة الحياة ونعتلي
بخفافهن مناكب العقبان
وننص راية مصر، أنى تشتهي
مصر، ويرضاه لها الهرمان
أقبل سلاح الجو، إن عيوننا
للقاك لم يغمض لها جفان
أقبل سلاح الجو، إن قلوبنا
كادت تطير إليك بالخفقان
رفرف على البلد الأمين وحيه
وانزل إلى الوادي، وطر بأمان
كن للسلام وقاءه، ولواءه
وشعاعه الهادي على الأزمان
وإذا دعتك الحادثات فلبها
بحمية المستقتل المتفاني •••
ليضن بالأعمار كل معاجز
وليخش حرب الدهر كل جبان
ليثر على القضبان كل معذب
وليحطم الأصفاد كل معاني
هذا الزمان الحر ما لشعوبه
صبر على الأصفاد والقضبان
لكم الغد المرجو فتيان الحمى
واليوم يومكم العظيم الشان
لا تثنينكم المنايا، إنها
سر البقاء وسنة العمران
كونوا من الفادين إن عز الفدا
كم في الفداء من الخلود معاني
ولئن حرمتم من متاع شبابكم
إن النعيم ينال بالحرمان
ليكن لكم في كل أفق طائر
ليكن لكم في كل أرض باني
وليستخف البحر من أسطولكم
علم كنجم المدلج الحيران
سيروا بهدي الأحمرين ومهدوا
بهما سبيل المجد والسلطان
لم تبصر الأمم الحياة على سنى
كالنار في شفق الدماء القاني!
الله والشاعر
سموت مستقبلا وجهك الكريم فقالت لي الطبيعة: سر في طريقك، ما أنبه شأنك! إنه رآك ...
لامرتين
لا تفزعي يا أرض: لا تفرقي
من شبح تحت الدجى عابر
ما هو إلا آدمي شقي
سموه بين الناس بالشاعر
حنانك الآن فلا تنكري
سبيله في ليلك العابس
ولا تضليه، ولا تنفري
من ذلك المستصرخ البائس
مدي لعينيه الرحاب الفساح
ورقرقي الأضواء في جفنه
وأمسكي، يا أرض، عصف الرياح
والراعد المنصب في أذنه
أتسمعين الآن في صوته
تهدج الأنات من قلبه؟
وتقرأين الآن في صمته
تمرد الروح على ربه؟
في وقفة الذاهل ألقى عصاه
مولي الجبهة شطر الفضاء
كأنما يرقى الدجى ناظراه
ليستشفا ما وراء السماء
يسقط ضوء البرق في لمحه
على جبين بارد شاحب
ويستثير البرد في لفحه
نارا تلظى من فم ناضب
أنت له، يا أرض، أم رءوم
فأشهدي الكون على شقوته
ورددي شكواه بين النجوم
فهو ابنك الإنسان في حيرته
ما هو إلا صوتك المرسل
وروحك المستعبد المرهق
قد آده الدهر بما يحمل
فجاء عن آلامه ينطق؟
طغى الأسى الداوي على صوته
يا للصدى من قلبه الناطق
مضى يبث الدهر في خفقه
شكاية الخلق إلى الخالق
لا تعدني يا رب في محنتي
ما أنا إلا آدمي شقي
طردتني بالأمس من جنتي
فاغفر لهذا الغاضب المحنق
حنانك اللهم، لا تغضب
أنت الجميل الصفح، جم الحنان
ما كنت في شكواي بالمذنب
ومنك، يا رب، أخذت الأمان
ما أنا بالزاري ولا الحاقد
لكنني الشاكي شقاء البشر
أفنيت عمري في الأسى الخالد
فجئت أستوحيك لطف القدر
تمردت روحي على هيكلي
وهيكل الجسم كما تعلم
ذاك الضعيف الرأي لم يفعل
إلا بما يوحي إليه الدم!
يعرق حد السيف من لحمه
ويحطم الصفوان بنيانه
وينخر الجرثوم في عظمه
ومنه ينمي القبر ديدانه!
ما هو إلا كومة من هباء
تمحقه اللمسة من غضبتك
فكيف يثني الروح عما تشاء؟
وكيف يقوى؟ وهي من قدرتك؟
روحك في روحي تبث الحياه
نزلت دنياي على فجرها
فإن جفاها ذات يوم سناه
لاذت بليل الموت في قبرها
ومثلما قدرت صورتها
فروحك الصوت وروحي الصدى
طبيعة في الخلق ركبتها
وما أرى لي في بناها يدا!
لكنما روحك من جوهر
صاف وروحي ما صفت جوهرا
أو لا؟ فما للخير لم يثمر
فيها؟ وما للشر قد أثمرا!!
تقول روحي: إنها ملهمه
فهي لما قدرته متبعه
مقودة ، في سيرها، مرغمه
وإن تراءت حرة طيعه
قيدتها بالجسم في عالم
تضج بالشهوة فيه الجسوم
كلاهما في حبه الآثم
لم يصح من سكراه وهو الملوم
تبدي به الأجسام سحر الحياه
في معرض يجلو غريب الفنون
نواعس الأجفان حو الشفاه
شديدة الإغراء شتى الفتون!
ولم أكن أول مغرى بما
أغرت به حواء أو آدما
إرث تمشى في دمي منهما
ميراثه ينتظم العالما
فأنت قدرت علي الشقاء
من حيث قدرت علي النعيم
وما أرى!! هل في غد لي ثواء
بالخلد؟ أم مثواي نار الجحيم؟
ما أثمت روحي ولا أجرمت
ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصر الروح بما ألهمت
أوحت إلى الجسم فما قصرا
كلاهما لم يعد تصويره
ما كان إلا مثلما كونا
كم حاولا بالأمس تغييره
فاستكبر الطبع، وما أذعنا
أمنذري أنت بيوم الحساب؟
ولائمي أنت على ما جرى؟
رحماك: ما يرضيك هذا العذاب
لطيع لم يعص ما قدرا!!
ما كنت إلا مثلما ركبت
غرائزي، ما شئت لا ما أشاء
فلتجزها اليوم بما قدمت
وإن تكن مما جنته براء!
وفيم تجزى، وهي لم تأثم؟
ألست أنت الصائغ الطابعا؟
ألم تسمها قبل بالميسم؟
ألم تصغ قالبها الرائعا؟؟
ألم تصغها عنصرا عنصرا؟
من أين؟ ما علمي، وأنت العليم!
جبلتها يوم جبلت الثرى
من عالم الذر ودنيا السديم
الخير والشر بها توأمان
والحب والشهوة في طبعها
حواء والشيطان لا يبرحان
يساقطان السحر في سمعها!
تشككت نفسي بما تنتهي
إليه دنياها وماذا يكون!
مضت فما آبت بما تشتهي
من حيرة الفكر وهجس الظنون!
رأت أسارى في قيود ثقال
بين يدي ذي مرة يبسمون
يسوقهم في فلوات الليال
في بطش جبارين لا يرحمون
إن ضج في الأغلال منهم طليح
أخرسه السوط الذي يرهف
وإن هوى للأرض منهم جريح
أنهضه في قيده يرسف!
يا ويحهم ما عرفوا موئلا
من قسوة الدهر وجور القضاء
يا أرض، ما كنت لنا منزلا
ما أنت إلا موبق الأبرياء!!
أفي سبيل العيش هذا الصراع؟
أم في سبيل الخلد والآخره؟
وهؤلاء البائسون الجياع
تطحنهم تلك الرحى الدائره؟؟
ما ذنب هذا العالم الثائر؟
إن حاول الإفلات من آسره؟
ما كان في ميلاده الغابر
أسعد حالا منه في حاضره!!
ما كان لو لم تنز آلامه
بالماجن الروح ولا الهائم
ولو جرت بالصفو أيامه
ما كان بالزاري ولا الناقم
رأى بعينيه المصير الرهيب
وكيف غال الناس من قبله
وكل يوم للمنايا عصيب
يسوقهم للموت من حوله!
فحقر الدنيا وأزرى بها
وقال: ما لي أنكر الواقعا؟
فلتسعد النفس بأنخابها
من قبل أن تلقى الغد الرائعا!
أيصبح الإنسان هذا الرميم؟
والجيفة الملقاة نهب التراب؟
أيستحيل الكون هذا الهشيم
والظلمة الجاثم فيها الخراب؟
لمن إذا تبدع تلك العقول؟
أفي الردى تدرك ما فاتها؟؟
أم في غد تثوي بتلك الطلول
ويسحق الدهر يواقيتها؟؟
وا أسفا للعالم البائد
ليس له مما يرى مهرب
على رنين المنجل الحاصد
مضى يغني، وهو لا يطرب!!
فدعه ينسى بعض ما حملا
من نكد الدنيا وضنك الحياة
وأوله العطف الذي أملا
فإنه أولى بعطف الإله!
ما هي إلا لحظات قصار
تمر مثل الومض في عينه
فإن مضى الليل وجاء النهار
عاوده الخالد من حزنه!
وما أتى الغي ليعصي الإله
يوما، ولا كان به مغرما
لكن لينسى شقوات الحياه
وسرها المستغلق المبهما!
يا للشقي القلب كم سامه
توهم النعمة ما لا يطيق
يريد أن يقنع أوهامه
بأنه ذاك الخلي الطليق
هأنذا أرفع آلامه
إلى سماء المنقذ الأعظم
أنا الذي ترسل أنغامه
قيثارة القلب، وناي الفم
من عبراتي صغت هذا المقال
ومن لهيب الروح هذا القلم
ملأت منه صفحات الليال
فضمنت كل معاني الألم
أنا الذي قدست أحزانه
الشاعر الباكي شقاء البشر
فجرت بالرحمة ألحانه
فاملأ بها، يا رب، قلب القدر!
ما الشاعر الفنان في كونه
إلا يد الرحمة من ربه
معزي العالم في حزنه
وحامل الآلام عن قلبه
عزاؤه شعر به أهزج
في نغم مستعذب ساحر
ما يحزن العالم أو يبهج
إلا على قيثارة الشاعر
يا رب، ما أشقيتني في الوجود
إلا بقلبي: ليته لم يكن
في المثل الأعلى وحب الخلود
حملته العبء الذي لم يهن
خلقته قلبا رقيق الشغاف
يهيم بالنور ويهوى الجمال
حلت له النجوى ولذ الطواف
بعالم الحسن ودنيا الخيال
بعثته طيرا خفوق الجناح
على جنان ذات ظل وماء
أطلقته فيها قبيل الصباح
وقلت: غن الأرض لحن السماء
فهام في آفاقها الواسعه
النور يهفو حوله والندى
مصفقا للضحوة الساطعة
ومنشدا ما شاء أن ينشدا
إن جاء صيف أو تجلى ربيع
حياه منه عبقري الغناء
وكم خريف في نشيد بديع
تظل ترويه ليالي الشتاء
قيثارة تصدر في فنها
عن عالم السحر ودنيا الخفاء
على الصدى الحائر من لحنها
يستيقظ الفجر ويغفو المساء
مشت على الأمواج أنغامها
والأرض قيد النشوة المسكره
كأنما ترقص أحلامها
في ليلة شرقية مقمره!
من قلبه أسلست أوتارها
فقلبه يخفق في كفه
يشدو فتملي النفس أسرارها
عليه، فهي اللحن من عزفه
ذات صباح طار لا يمهل
والأرض سكرى من عبير الزهور
على حصاها رنم الجدول
وفي روابيها تغني الطيور
ما كان يدري قبل أن ينظرا
ما خبأته النظرة العاجلة
ما أبدع الحلم الذي صورا
لو لم تشبه اليقظة القاتله!
مر بنهر دافق سلسبيل
تهفو القمارى حوله شاديه
في ضفتيه باسقات النخيل
ترعى الشياه تحتها ثاغيه
فهاجت النظرة مما رأى
في قلبه السحر وفي عينه
الكون يبدو وادعا هانئا
كأنه الفردوس في أمنه
فظل في التفكير مستغرقا
من فتنة الدنيا ومن سحرها
ما كان إلا ريثما حدقا
حتى جلت دنياه عن سرها
رأى بعينيه الذي لم يره
الذئب، والشاة، وحرب البقاء
ما عرف القتل ولا أبصره
ولا رأى من قبل لون الدماء!
ما هي إلا صرخات الفزع
وصيحة المقتول والقاتل
قد انقضى الأمر كأن لم يقع
وضاع صوت الحق في الباطل
وبعد ساعات يولي النهار
ويقبل الليل، وما يعلم!!
سيلبث السر وراء الستار
ويختفي الشلو ويمحى الدم!!
فروع الشاعر مما رآه
وهام في الأرض على وجهه
أين ترى، يا أرض، يلقي عصاه؟
وأي واد ضل في تيهه؟
حتى إذا شارف ظل الشجر
في روضة غناء ريا الأديم
قد ضحكت للنور فيها الزهر
وصفقت أوراقها للنسيم
اختار في الظل له مقعدا
في ربوة فاتنة ساحره
أذاب فيها الشفق العسجدا
وناسمتها النفحة العاطره
بينا يملي العين من سحرها
إذ أبصر الصل بها مطرقا
قد انتحى الأطيار في وكرها
فسامها من نابه موبقا
هل سمعت أذناك قصف الرعود
في صخب البحر وعصف الرياح؟
هل أبصرت عيناك ركض الجنود
في فزع الموت وهول الكفاح
إن كنت لم تبصر ولم تسمع
فقف إلى ميدانها الأعظم
ما بين ميلادك والمصرع
ما بين نابي ذلك الأرقم!!
جريمة الغدر وسفك الدم
جريمة لم يخل منها مكان
يا لجة كل إليها ظمي
قد جاز طوفانك شم القنان!
من علم الوحش الأذى والقتال؟
من بث فيه الشر أو ألهمه؟
من علم الثعبان هذا الختال؟
والحيوان الغدر من علمه؟
يا أرض، هذا الوحي من عالمك
الماء والطين به يشهدان
جنيت، يا أرض، على آدمك
إذ سمته بالأمس هجر الجنان!
يا ضلة الشاعر، أين النجاة
وأين، أين المنزل الآمن؟
أكل واد طرقته خطاه
طالعه منه الردى الكامن؟
حتى إذا ضاقت عليه السبل
وعز في الأرض عليه المقام
أوى إلى كهف بسفح الجبل
عساه يقضي ليله في سلام
ما كان إلا حلما كاذبا
أفاق منه مستطير الجنان
البحر يرغي تحته صاخبا
والشهب نار، والدياجي دخان
الأرض من أقطارها راجفة
كأنما طاف عليها المنون
تضج في أرجائها العاصفة
كأنما الناس بها يحشرون!
ثم استقر العالم الثائر
وأقبل النور وولى الظلام
وا عجبا مما يرى الشاعر
كأنما أمسى بوادي الحمام!
بدت له الأرض كقبر عفا
إلا بقايا رمة أو حجر
قد أصبح القاع بها صفصفا
فما عليها من حياة أثر
مررت بالبلدان مستعبرا
أبكي الحضارات وأرثي الفنون
أنقاضها تملأ وجه الثرى
وكن بالأمس مثار الفتون!
أتى على اليابس والأخضر
الموج، والنوء، سيل الحمم
يا رحمة الله اهبطي وانظري
ما حصد الموت ودك العدم!!
أيستحق الناس هذا العقاب؟
أم حانت الساعة من نقمتك؟
ما احتملوا، يا رب، هذا العذاب
إلا رجاء الغوث من رحمتك؟
أما ترى منفرجات الشفاه
عن آخر الصيحات من رعبها؟
ما زال فيها من معاني الحياة
إيماءة الشكوى إلى ربها!
وهذه الأعين نهب العفاء
في رقدة الموت كأن لم تنم
محدقات في نواحي السماء
تشهدها هذا الأسى والألم!
وهذه الأيدي تحوط الصدور
كأنها في موقف للصلاه
لم تنس في نزع الحياة الغرور
ضراعة ترسمها للإله!
ما عرفوا في صعقات الردى
إلاك من غوث ومن منجد
ولا سرى في الأرض منهم صدى
إلا ودوى باسمك الأمجد!
أعبرة تذكرها كل حين
للعالم الذاكر إما نسي؟
أم ضربات قاسيات تلين
بهن قلب الفظ والأشرس؟
أم موجة الطهر التي تغسل
مآثم الكون وتمحو أذاه
يا رب ضقنا بالذي نحمل
فحسبنا آلامنا في الحياه!!
ألم تطهر ذلك العالما
من كل عاص أو غوي جموح؟
ما غادر الموج به قائما
يوم اجتوى الأعلام طوفان نوح!
إذا فما للناس ضلوا الهدى؟
وأخطئوا اليوم سبيل الرشاد؟
لعل نوحا أخطأ المقصدا
فأغرق الخير ونجى الفساد!!
يا ليته لما دعا بابنه
وحالت الأمواج أن يسمعا
لج عليه القلب في حزنه
فلم ير الجودي لما دعا!!
يا أرض، ولى عهد نوح وزال
فمن لك اليوم بطوفانه؟
مسكينة تطوين بحر الليال
قد عزك المرسى بشطآنه!
إلام تطوين عباب السنين
شوقا إلى فردوسك الضائع؟
غررت، يا أرض بما تحلمين
فاستيقظي من حلمك الخادع!!
وابقي كما أنت على موجه
تمزق الأنواء منك الشراع
يقذفك التيار في لجه
عشواء لا يهديك فيه شعاع
سلي القداسات وأربابها
ضراعة تصغي إليها السماء
أو فاطرقي بالبث أبوابها
لعلها ترفع عنك الشقاء!
يا أيها الغادون والرائحون
في شعب الأرض وليل الهموم
تمسون أشتاتا كما تصبحون
والشمس حيرى فوقكم والنجوم!
مدوا لها الأيدي وولوا الجباه
وأرسلوها صيحة واحده
قولوا لها: يا من شهدت الحياه
من أين تلك النظرة الجامده؟
من أين تلك النظرة الهادئه؟
والقسمات المشرقات الجبين؟
هل أنت من آلامنا هازئه؟
أم أنت، يا أعين لا تبصرين؟!
أم هكذا أوحى إليك القضاء
فما عرفت الحزن والأدمعا ؟
يا أيها الناس اضرعوا للسماء
قد آن أن تصغي وأن تشفعا!
هاتوا الأزاهير وهاتوا الغصون
وكل ما يحلو وما يجمل
قد آن أن تفضوا بما تشعرون
فأشعلوا النار بها أشعلوا!!
أو فاملئوا من زهرها اليانع
مجامر النار وألقوا البخور
وصعدوا في ذلة الضارع
أنفاسكم نشوى بتلك العطور
أحبب بها من أنة عاطره
في مسمع الأفلاك إذ تصعد
أصداؤها الرفافة الحائره
في وجهها الآفاق لا توصد!!
يا أرض ناديت فلم تسمعي
أنكرت صوتي وهو من قلبك
لا تفرقي مني، ولا تفزعي
من شاعر شاك إلى ربك
أيتها المحزونة الباكيه
لا تيأسي من رحمة المنقذ
لعل من آلامك الطاغيه
إذا دعوت الله من منفذ!
فابتهلي لله، واستغفري
وكفري عنك بنار الألم
وقدمي التوبة، واستمطري
بين يديه عبرات الندم!!
صخرة الملتقى
صخرة لا تجل في الكائنات
غشيتها جلالة الآبدات
جاورتها الصحراء تستشرف اليم
وقر المحيط جنب الفلاة
أبديان قد أفاءا إليها
لم تجمعهما يد الحادثات
وجدا الملتقى عليها فقرا
بعد آباد فرقة وشتات
ليلة غورت بها الأنجم الزه
ر وأضفت سوادف الظلمات
لو تلفت في دجاها لراعت
ك خوالي الأبراج والهالات
وكأن الزمان خالجه الرو
ع ولج الوجود في الشبهات
وكأن الوجود لم يحو إلا
ذلك الصخر رائع الجنبات
عقدة الاتصال بين جلالي
ن أجدا به وثيق الصلات
برزخ تعبر الليالي عليه
بين عبرين من بلى وحياة
ركزتها الآباد بينهما رمزا
على صولة الدهور العواتي
فأقامت تسر للقفر واليم
أحاديث أعصر خاليات
واحتوت سر كائنين كأن لم
يبعثا سيرة مع الكائنات •••
كشفت لي الصحراء من دوها
الواسع ما لا تحده نظراتي
وبساطا من الرمال تراءى
ككتاب مموه الصفحات
هو مهد السحر الخفي ومثوى
ما تجن الصحراء من معجزات
رب ليل مكوكب خطرت في
ه الدراري وضيئة القسمات
ورمى البدر بالأشعة تبدو
فوق وجه الرمال منعكسات
وسرت نسمة من الليل حيرى
وغناء الصوادح الطائرات
فإذا الليل روعة وجلال
وإذا القفر غارق في سبات
غير ذاك الغريب في تيهه النا
ئي كئيب الفؤاد والنظرات
أرقته صبابة حملتها
نفسه من ربوعه النائيات
قد شجاه هوى اقتحام الصحارى
والصحارى مثارة الصبوات
رب ناء مدت إليه هواها
فهوى في شراكها القاتلات
يقطع الدو باردات الليالي
ويجوب الحزون ملتهبات
قتلته سمومها وبراه
ظمأ من عيونها المجدبات
حرمته الصحراء ظلا وريفا
في حواشي واحاتها النضرات
فسل القفر هل له فيه قبر
ضم من جسمه نحيل رفات؟
أترى غير أعظم نخرات
في ثنايا الرمال منتثرات؟ •••
صحراء الحياة كم همت فيها
شارد الفكر، تائه الخطوات
سرت فيها وحدي، وقد حطم المقدا
ر في جنح ليلها مشكاتي
ولكم أرمد الهجير جفوني
ورمتني الحرور باللفحات
لم أجد لي في واحة العيش ظلا
أو غديرا يبل حر لهاتي
أسفا للحياة أصلى لظاها
وأراها وريفة العذبات
بعدت عني الحقيقة فيها
وأضلت مسعاي للغايات
كلما هاجت الرياح صراخي
هدجت في هزيمها صرخاتي
غير ذاك الصخر العتيد الذي ض
ج عليه العباب من أناتي
ظللتني ذراه منفرد النفس
أبث المحيط حر شكاتي •••
أنا فوق المحيط كالطائر
التائه يعلو موائج اللجات
ناشرا فوق عرضه من جناحي
ظلال الهموم والحسرات
ممعنا في سمائه أتغنى
بنشيد الخلود في صدحاتي
للإله العظيم من لجه الساكن
أتلو الجميل من صلواتي
وأناجيه طائرا رف في الليل
يغني خمائل الجنات •••
صخرة الملتقى، أتيتك بعد الأي
ن أشكو من الحياة أذاتي
أنا ذاك الشادي الذي نسلت ري
ش جناحيه هبة العاصفات
أنا ذاك الشريد في صحراء العي
ش ضل السبيل في الفلوات
في ثراها الغبي وسدت أحلا
مي وماضي الهني من أوقاتي
أنا قيثارة جفتها الليالي
في زوايا النسيان والغفلات
وأرثت أوتارها فهي تبكي
من شجاها حبيسة النغمات
أنا طيف الماضي على صخرة الآبا
د، أستشرف الزمان الآتي
وورائي الصحراء، وادي المنايا
وأمامي المحيط لج الحياة
بين عبريهما ثوت غر أيا
مي وحال الوضيء من ليلاتي •••
لا أسميك صخرة الملتقى
لكن أسميك صخرة المأساة!!
عاصفة في جمجمة
ضجت الأنجم في آفاقها
ذات ليل تشتكي طول الأبد
فمضت تصرخ من أعماقها
أيهذا الليل نبه من رقد!
أطلق الجن يرفرف لائذا
بالربى يصرخ من خلف الرءوس
أيها الأحياء، ما الكون إذا
تنثر الشهب وتندك الشموس؟
أحياة سمتها صخر ونار
حفت الأشواك من يسلكه؟
تنقضي الآجال فيه والسفار
أبدي، ويح من تهلكه!
احملوا أمس إلى حفرته
وتخطوا هوة الوادي السحيق
واحفزوا النجم إلى ثورته
واحطموا أنوال ليل لا يفيق
أيقظوا في الليل ثارات الرعود
إنها ثارات جبار السماء
إن يشأ أرسلها فوق الوجود
فإذا الكون هشيم وهباء
لو تمشت بمناياها الرجوم
لاستحال الخلق والكون سدى
ورأيت الأرض حيرى والنجوم
تذرع الجو على غير هدى
أيها الأحياء، يا أسرى القضاء
كيف أمسيتم بدنيا الحدد؟
وعليكم في غيابات الشقاء
ضربت آفاقها بالسدد؟!
صرخة في الكون دوت! يا لها
خلعت أصداؤها قلب الزمن
قف منها الشوك وارتج لها
معبد الليل على شم القنن
صرخة منها السماوات انثنت
وقد استعصت على طارقها
صاح منها الوحش ذعرا والتفت
يسأل الوديان عن خالقها
وإذا الموتى يشقون الوهاد
كالضواري كلهم عاري البدن
رحمة الله!! أتى يوم المعاد
فنسوا من هوله حتى الكفن؟
أين منك الشمس، يا مشرقها
أتراها خلف أسوار الأبد
حجبتها فهي لن تطلقها
يوم لا يبقى على الأرض أحد!
هبت الجن تنادي بالثبور
في كهوف الأرض، يا أهل الكهوف
احشدوا الريح على ظهر الصخور
وابعثوها ذات نقس وزفيف
انزعوا الصخر من الطود المنيع
واجعلوه زادكم عند الكفاح
واصعقوا قنة واديه الرفيع
تتهدم تحت أقدام الرياح!
لا تصيخوا، دق ناقوس القضاء
فاحملوا أشلاء هذا العالم
احملوها، واعبروا جسر الفناء
واسبحوا فوق العماء الحالم
القطب
هو ليل من الغياهب ضافي
وأديم في لجة الثلج طافي
وبحار، إن ردتها، لم تجد غي
ر جليد من لجة وضفاف
وجبال من الثلوج تدجى
رائعات السفوح والأعراف
وصحارى لا ينتهي الركب فيها
عند صخر أو واحة مئناف
وطن الزمهرير والثلج، لا القي
ظ ولا كدرة الرمال السوافي
وهي مغدى السفين والدب، لا مغ
دى نياق الفلا، وذئب الفيافي
عالم كله سكون وصمت
مترامي الحدود والأطراف
لا ترى للنهار والليل في وادي
ه يوما من دورة واختلاف
أو تحس الأرواح قصف الرياح ال
هوج فيه، أو هدرة الرجاف
لا اصطفاق الغصون، لا هذر الطي
ر، ولا أنة النمير الصافي
عريت أرضه من العشب الأخضر
والدوح سابغ الألياف
قف بهذا الوادي الرهيب وحدق
فيه والليل مؤذن بانتصاف
وانظر الشمس في الغياهب صفرا
ء تهادى في رائع الأفواف
يغمر الكائنات منها شعاع
مرسل من غلالة الروع ضافي
يحسب الناظرون في الأفق منه
حمرة الورس أو مزيج السلاف
وهو غيب محبب دون مرآه
اقتحام الردى ورنق الذعاف!
حدثيني، يا شمس منتصف الليل،
فليس الحديث عنك بخاف!
أي أفق من عالم الأرض هذا
شاحب اللون، باهت الأكناف؟
فيه من صفرة الفناء، وفيه
من سواد النحوس لون الغداف؟
أهو القطب؟؟ فتنة الأبد الخالي
ومغدى الظنون والأرجاف؟!
أم هو العالم الذي جهلوه
وشأى أوجه على الكشاف؟
أي سر للجاذبية فيه
يأخذ الأرض نحوه بانحراف؟
أي نجم في أفقه رصدوه
لمسار حول الثرى ومطاف؟
لكأني به مغاور جن
مستسرى الأرواح والأطياف
لا يقيمون في ذراهن واللي
ل على الكون مطبق الأسداف
فإذا أقبل النهار تولوا
وتواروا خلال تلك الشعاف
وآراه مجن كل خفي
من تهاويل ساحر عراف
يستمد الأنباء منه ويدلي
بالأحاديث وهي جد زياف
وبها من خفاء مهبطه الخا
في خفي الأحبار والأوصاف
وهو الشاطئ الذي في حفافي
ه تقر الأنغام بعد طواف
كل لحن من الملاحن مهما
أبدعته أنامل العزاف
فإليه يصوب في سدف اللي
ل ويثوي صداه بين الحفاف
ليت شعري أيستحيل صدى في
لجه، أم يقر في الأصداف؟! •••
إن هذي، يا شمس، ألحان قلبي
مرسلات عن مدمعي الذراف
فاشهديها تقر في جوفه النائي،
فكم فيه من حطام أثافي •••
أيها القطب، حدث الكون هلا
تسعد الشعر ليلة باعتراف؟
طال بالشمس في دجاك اصفرار
لا الدجى حائل ولا الضوء صافي
لم تجز عن ثراك قيد ذراع
أو تنبه جفن الصباح الغافي
قيل: حاموا على ذراك، وألقوا
فوق واديك نظرة استشراف
وأراهم في زعمهم قد أسفوا
بك ، يا قطب، أيما إسفاف
تشهد الكائنات أنك أمسي
ت، وتمسي، سر الوجود الخافي
إلى سيد درويش
ذكرى مجدد الغناء المصري الحديث
طويت الحياة خفي السرى
كما تذهب النجمة التائهه
تطل على عالم ينظرون
فتطرفك النظرة الشائهه
وتلحظهم، من وراء الحياة
بنفس معذبة والهه
شقيت بهم، حيث ساد الغبي
وخصوه بالسمعة النابهه
لقد ضلت الأرض في ليلها
فحقت بها لعنة الآلهه!
الأمسية الحزينة
هنالك بين الأمواج الزرقاء يمتد برزخ من الرمال بين شاطئ البحر الأبيض وبحيرة المنزلة، حيث تشرف أكواخ (أشتوم الجميل) من بوغازها الصامت على آثار قلعة متهدمة جلسنا عليها أيام صبانا نمرح في أمسية هانئة بين رمل وصخور وأمواج.
زرنا هذه البقعة ذات مساء قريب في جو عاصف، فهاجت بنا ما هاجت من أحلام وآلام اطردت في سياق هذه القصيدة تحية الروح إلى أمسيتها المحزونة.
جددت ذاهب أحلامي وليلاتي
فهل لديك حديث عن صباباتي
يا كعبة لخيلاتي، وصومعة
رتلت في ظلها للحسن آياتي
للحب أول أشعار هتفت بها
وللجمال بها أولى رسالاتي
عليك وادي أحلامي وقفت أرى
طيف الحوادث تمضي بعد مأساة
آوي إلى جنبات الصخر منفردا
أبكي لأمسية مرت وليلات
قد غيرتنا الليالي بعدها سيرا
وخلفتنا العوادي بعض أشتات
تلفت القلب في ليلاء باردة
يبكي لياليك الغر المضيئات
وذكريات من الماضي يطالعها
بين الحقول وشطآن البحيرات •••
يا طول ما نغمت للصخر أناتي
وشد ما رجعت للموج آهاتي
يا قلب وادي الصبا حالت مسارحه
وأقفرت من صباياه الجميلات
فلا الجداول تحدوها مسلسلة
ولا الخمائل تهفو بالنضيرات
صوحن من مشرق الوادي لمغربه
فما بهن مطيف من خيالات
ما في حياتك من سلوى تلوذ بها
لكنه الحب ذاك القاهر العاتي
قد فاجأتك غواشيه التي سكنت
إن الليالي ملأى بالمفاجات •••
يا للبحيرة: من يرتاد شاطئها
ومن يسر إلى الوادي مناجاتي
ومن يعيد لنا أطياف ليلتها
وما غنمنا عليها من أويقات
وخلوة في حفافيها وقد عبثت
يد الصبا بحواشيها الموشاة
يضمنا باسق، في الشط، منفرد
ضم الشتيتين في علياء جنات
وللقلوب أحاديث يجاوبها
تناوح الطير في ظل الخميلات •••
يا ليلة قد ذهلنا عن كواكبها
في زورق بين ضفات ولجات
يسري بنا موهنا والريح تدفعه
كالنجم يسبح في علوي هالات
وفي الشواطئ للمجداف أغنية
يصبها الموج في سحري موجات
ما كان أهنأها دنيا، وأهنأنا
في ليلها الصحو، أو في فجرها الشاتي
مرت خيالات ماضيها، وما تركت
سوى وجوم لياليها الحزينات
ومن تلهف أحنائي وثارتها
يا للجوانح من وجدي وثاراتي
يا صرخة القلب، هل أسمعت منك صدى
من ذا يرد الصدى في جوف موماة؟
جوبي مفاوز أيامي فقد صفرت
من نبع ماء، ومن أظلال واحات
قضى، على ظمأ، قلبي بها وفمي
وضلت العين فيها إثر غاياتي
حتى العواصف صمت عن نداءاتي
فما ترد على الأيام صيحاتي •••
يا من قتلت شبابي في يفاعته
ورحت تسخر من دمعي وأناتي
حرمت أيامي الأولى مفارحها
فما نعمت بأوطاري ولذاتي
فدع فؤادي محزونا يرف على
ماضي ليالي، وانعم أنت بالآتي
دعني على صخرة الماضي لعل بها
من الصبابة والتحنان منجاتي!
الفن الجميل
ضارب في الخيال ملق عنانه
ملك الوحي قلبه ولسانه
مستفيض الجمال، أزهر كالور
د، إذا كلل الندى أفنانه
عاش بين الأنام نضو غرام
لم ينفض من الصبا طيلسانه
ملأ الكون من أياديه سحرا
وبنى ملكه وشد كيانه
وحباه الخلود في العالم الفاني
وأبقى على البلى سلطانه
هو فجر النبوغ يصدح فيه
كل من أطلق الهوى وجدانه
وسماء للشاعر الفذ منها
يستقي الشعر وحيه وبيانه
تجتلي ريشة المصور منه
كل عذراء لا ترد بنانه
وهو قيثارة الخلود عليها
يعزف الطير في الربى ألحانه
وأنا الشاعر الذي افتن بالحسن
وأذكت يد الحياة افتنانه
معهدي هذه المروج، وأستا
ذي ربيع الطبيعة الفينانه
وأزاهير حانيات على النه
ر يقبلن، في الضحى شطآنه
ناشرات وشي الربيع عليها
ساكبات، في لجه، ألوانه
يتسمعن للخرير المناجي
ويرتلن للربى تحنانه
معبد للطيور، راهبه الليل،
وناقوسه الصبا الرنانة
ومحاريب للعذارى إذا ما
سكب الغرب في الدجى أرجوانه
قام رب الفن الجميل عليها
مستحثا تحت الظلام قيانه
يتغنى لحن الخلود ويدعو
من وراء الغيب الرهيب زمانه
أيها الدهر: حسبك الله، ماذا
برجال الفنون هذى المهانه؟
هل تبينت في رفات أوالي
دفينا محا البلى عنوانه؟
قف على الفن بين شرق وغرب
وصف العالم المخلد شانه
عرش غرناطة، إله أثينا
تاج روما، سماء مجد الكنانه
يشرق السحر من تماثيل فيها
ومقاصير كالبروج المزانه
وتراءى العذراء تلهم رافائي
ل روح الخلود وحي الديانه
وابن حمديس في الملا، ولمر
تين يفيضان صبوة ومجانه
ناجيا الروض والبحيرة حتى
لمس الفن فيهما عنفوانه
إنما المجد، في الورى، لمغن
هز قلب الورى وقاد عنانه
ولمن ساس في الممالك عدلا
وارتضى الحق في العلا بنيانه
الملك البطل
نظمت على أثر وفاته فجأة في مدينة برن عاصمة سويسرا عام 1933، وقد كانت فجيعة العرب فيه أبعد أثرا من كل الفجائع التي توالت عليهم من أيام الحرب الكبرى الماضية.
وقد كان - رحمه الله - أول ملك عربي عمل جهده لاستقلال «العراق» بلاده المحبوبة، ومن أعظم الرجالات الذين كرسوا حياتهم لخدمة القضية العربية.
تألق كالبرقة الخاطفة
وجلجل كالرعدة القاصفه
مبين من الحق، في صوته
صدى البطش والرحمة الهاتفه
يخوض الغمار دما أو لظى
ويركب للمأرب العاصفه
يطير على صهوات السحاب
ويمشي على اللجة الراجفه
ويقتحم الموت في مأزق
ترى الأرض من هوله واجفه
تمزق في جانبيه الرياح
وتنفطر السحب الواكفه
وتشتجر الرجم الهاويات
وتعتنق الظلم الزاحفه
عشية لا القلب طوع النهى
ولا العقل تأسره العاطفه
ولكنها وثبات الجريء
على عثرات المنى الخائفه
شعوب تعالج أصفادها
وتأبى الحياة بها راسفه
صحت بعد إغفاءة الحالمين
على لجة الزمن الجارفه
وحسبك بالدهر من منذر
كرب يعاقب من خالفه
رأيت السفينة في بحره
تنازعها اللجج القاذفه
مددت يديك فأرسيتها
أمانا من الغمرة الحائفه
وخلفك من يعرب أمة
إلى النور فازعة شاعفه
نضت فيصلا من صقال السيوف
يقبل فيه الضحى شارفه
أعدت لها مجدها المجتبى
وبوأتها الذروة الشائفه
بناء من السؤدد اليعربي
دعمت بتالده طارفه
جلت فيه (بغداد) عهد الرشيد
وأحيت لياليها السالفه
وأرسلتها بعد نسيانها
حديث النباهة والعارفه
فوا أسفا، كيف روعتها
بفقدك في الليلة السادفه
صحت (برن) منك على نبأة
تسيل البروق بها راعفه
رمى الغرب بالشرق إيماضها
فرد الشموس به كاسفه
أناخ على سروات العراق
فقصف أفنانها الوارفه
طوى فجرها بسمات المنى
وأسكت أوتارها العازفه
ومصطبحين هوت كأسهم
حطاما على الشفة الراشفه
أفاقوا على حلم رائع
كأن بهم فزع الأزفه
يردون بالشك صوت اليقين
وتصدقه الأعين الذارفه
وإني لأسمع ما يسمعون!
صدى الويل في صخب العاصفه!
وكيف؟ وقد كنت نجم الرجاء
إذا قيل: ليس لها كاشفه
وما عرفوا عنك نقص التمام
وبيع الصحيحة بالزائفه
تحفك أبهة المالكين
ونفسك عن زهوها صادفه
سرت بالوداعة في بأسها
سرى النسم في الليلة الصائفه
وتحمل عنهم من العبء ما
تخر الجبال له خاسفه
تهزأ من صرعات الردى
وتمسي على أمرهم عاكفه
إلى أن طوتها وأودت بها
غوائل تطوي الدجى خاطفه
فراحت ترف على كفها
رفيف الندى في اليد القاطفه
وما هي إلا دموع الأسى
همت من جراحاتها النازفه
وما نسيت دجلة إنها
بشطيه حائمة طائفه
تباركهم من سماء الخلود
وتدعو لغازيهم هاتفه
الشاطئ المهجور
موجة السحر من خفي البحور
اغمري القلب بالخيال الغمير
أقبلي الآن من شواطئ أحلامي
وردي علي نفح العبير
واصخبي في شعاب قلبي وضجي
فوق آلامه الجسام وثوري
أيقظي فيه من فتون وسحر
ذكريات من الشباب الغرير
إنها ذكريات أمسية مر
ت وأيام غبطة وسرور
وبريء ابتسامة في فم الأيا
م كانت عزاء قلب كسير
قد طواها النسيان إلا شعاعا
غمر الروح في بقية نور
رمق ذاك من أشعة شمس
علقت في غروبها بالصخور
أخذ القلب لمحها من وراء ال
موج يجتاز لجة الديجور
فتبينت في الشواطئ حولي
أثرا من غرامنا المأثور
صخرة كانت الملاذ لقلبي
ن حبيبين في الشباب النضير
جمعتنا بها الحوادث في ظل
هوى طاهر، وعيش قرير
كم وقفنا العشي نرقب منها
مغرب الشمس وانبثاق البدور
وجلسنا في ظلها نتملى
صفحة الماء في الضحى والبكور
فإذا ما تهللت ليلة قمراء
هزت بنا خفي الشعور
وسرينا في ضوئها نتناجى
بهوى فاض عن حنايا الصدور
وانتحينا من جانب البحر مجرى
مطمئن الأمواه شاجي الخرير
نزلت فيه تستحم النجوم الزهر
في جلوة المساء المنير
راقصات به على هزج ال
موج عرايا مهدلات الشعور
وعلى صدره الخفوق طوينا ال
ليل في زورق رخي المسير
ورياح الخليج دافئة تثني
حواشي شراعه المنشور
خافقا فوقنا يدف شعاع ال
بدر في ظله دفيف الطيور
ومن الساحل الطروب أغان
أخذتنا بكل لحن مثير
رجعتها «بحارة» آذنتهم
ليلة المنتأى، وبعد العشير
وسكتنا فليس إلا عيون
أفصحت عن جوانح وثغور
تتلاقى على نوازع قلب
وصدى هاجس، وسر ضمير
وكأن الوجود بحر من النو
ر سبحنا في لجه المسجور
كل ما حولنا يشف عن الحب
ويفضي بسره المستور
وكأنا نطوف في ليل أحلام،
ونسري في عالم مسحور •••
يا صخور الوادي يضج عليها البح
ر في جهشة المحب الغيور
يا رمال الكثبان تنقش فيها الري
ح أسطورة الحياة الغرور
يا خفاف الأمواج، تحلم بالإينا
س من كوكب المساء الصغير
يا نسيم الشمال، يعبث بالرغ
و ويهفو على الرشاش النثير
أنت يا من شهدت فجر غرامي
ووعيت الغداة سر الدهور
أين أخفيت أمسياتي اللواتي
نزعتها مني يد المقدور؟
أمحاها الزمان؟ أم حجبتها
من عواديه ماحيات البدور؟
بدلتني الأقدار منها بليل
مدلهم الآفاق جهم الستور
غشي العين ظله، وتمشت
في دمي منه رعشة المقرور
لك يا شاهدات حبي أتيت الآن
أفضي حق الوداع الأخير
فانظري، ما ترين غير شقي
طاف يبكي بالشاطئ المهجور
راعه عاصف يرج السماوات
وموج يضج ملء البحور
فكأن الحياة في مسمعيه
ضجة الحشر أو هزيم السعير
وكأن الوجود في ناظريه
وهدة اليأس أو ظلام القبور
في هزيم الرياح، في قاصف الرع
د، يدوي للبارق المستطير
في الفيافي كآبة ووجوما
والمحيطات صاخبات الهدير
في الدياجي عوابسا، ونجوم ال
ليل بين الخفوق والتغوير
إنها الكائنات تبكي لمبكاه،
وتبدي ضراعة المستجير
وهي مأساة حبه صورتها
ريشة الليل مبدع التصوير
مثلتها لعينه الآن شطآ
ن وموج يئن تحت الصخور!
عاشق الزهر
يا ليت لي كالفراش أجنحة
أهفو بها في الفضاء هيمانا
أدف للنور في مشارقه
وأغتدي من سناه نشوانا
وأرشف القطر من بواكره
فلا أرود الضفاف ظمآنا
وألثم النور في سنابله
مصفقا للنسيم جذلانا
حتى إذا ما المساء ظللني
سريت بين الورود سهرانا
أشرب أنفاسها وقد خفقت
صدورها للربيع تحنانا
تحلم بالفجر فوق جنتها
يموج فيه الغمام ألوانا
وبالعصافير في ملاحنها
تهز قلب الصباح إرنانا
لو يعلم الزهر سر عاشقه
أفرد لي من هواه بستانا
فلا تراني العيون مقتحما
سياجه، أو تحس لي شانا
إذن لغردت في خمائله
وصغت فيه الحياة ألحانا
لكنه شاء خلق مبتدع
من فنه العبقري فنانا
أراده شاعرا فدلهه
وسامه جفوة وهجرانا •••
فليحمني الحسن زهر جنته
وليقصني العمر عنه حرمانا
ما كنت لولاه طائرا غردا
ولو جهلت الغناء ما كانا!
قبر شاعر
رفت عليه مورقات الغصون
وحفه العشب بنواره
ذلك قبر لم تشده المنون
بل شاده الشعر بآثاره
أقامه من لبنات الفنون
وزانه المجد بأحجاره
ألقى به الشاعر عبء الشجون
وأودع القلب بأسراره •••
وجاورته نخلة باسقة
تجثم في الوادي إلى جنبه
كأنها الثاكلة الوامقة
تقضي مدى العمر إلى قربه
تئن فيها النسمة الخافقة
كأنما تخفق عن قلبه
وترسل الأغنية الشائقة
قمرية ظلت على حبه •••
ويقبل الفجر الرقيق الإهاب
يحنو على القبر بأضوائه
كأنما ينشد تحت التراب
لؤلؤة تزري بلألائه
استل منها الموت ذاك الشهاب
غير شعاع، في الدجى تائه
يظل يهفو فوق تلك الشعاب
يطوف بالينبوع من مائه •••
ويذهب النور ويأتي الظلام
وتبزغ الأنجم في نسقه
حيرى تحوم الليل كالمستهام
أسهره الثائر من شوقه
تبحث عن نجم بتلك الرجام
هوت به الأقدار عن أفقه
أخ لها في الأرض ود المقام
وآثر الغرب في شرقه •••
ويطلق الطير نشيد الصباح
بنغمة تصدر عن حزنه
يمد فوق القبر منه الجناح
ويرسل المنقار في ركنه
أفضى إلى الراقد فيه وباح
بأنه الملهم من فنه
فمن قوافيه استمد النواح
ومن أغانيه صدى لحنه •••
وحين تمضي نسمات الخريف
وتملأ الأرض رياح الشتاء
ويقبل الليل الدجى المخيف
فلا ترى نجما ينير السماء
هناك لا غصن عليه وريف
يهفو، ولا طير يثير الغناء
يظلل الأرض الظلام الكثيف
كأنما تمسي بوادي الفناء •••
يا شاعرا ما جمعتني به
كواكب الليل وشمس النهار
لكنه الشرق وفي حبه
ينأى بنا الشوق وتدنو الديار
سكبت من شجوك في قلبه
ومن مآقيك الدموع الغزار
فود أن لو نمت في تربه
ليشفي النفس بهذا الجوار •••
صور لي القبر الذي تنزل
تخيل الشعر ووحي الشعور
فجئت للقبر بما يجمل
من صور الدنيا الفتون الغرور
قل لي بحق الموت ما يفعل
بالشاعر الموت وهذي القبور؟
وهل وراء الموت ما نجهل
من عالم الرجعى ويوم النشور؟ •••
قد راعني موتك، يا شاعري
في ميعة العمر وفجر الشباب
وهزني ما فاض من خاطر
كان ينابيع البيان العذاب
ونفثات القلم الساحر
في جوبك الأفق وطي السحاب
ووقفه بالكوكب الحائر
رأى بساط الريح يدنو فهاب •••
لكنه شعرك لما يزل
يردد الكون أناشيده
شعر كصوب الغيث أنى نزل
أرقص في الروض أماليده
وعلم الطير الهوى والغزل
فأسمع الزهر أغاريده
وغنت الريح به في الجبل
فحركت منه جلاميده •••
يا قبر لم تبصرك عيني ولا
رأتك إلا في ثنايا الخيال
ملأت بالروع فؤادا خلا
إلا من الحب ونور الجمال
أوحيت لي سر الردى فانجلى
عن عيني الشك وليل الضلال
غدا ستطوي القلب أيدي البلى
ويقنص النجم عقاب الليال •••
وهكذا تمضي ليالي الحياه
والقبر ما زال على حاله
دنيا من الوهم ودهر تراه
يغرر القلب بآماله
يسخر من مبتسمات الشفاه
وجامد الدمع وسياله
دهر على العالم دارت رحاه
فلم تدع رسما لأطلاله
حافظ إبراهيم
املئي الأرض من حداد وغيهب
مال نجم البيان عنك وغرب
وخبا من مصابح الفكر نور
كان أمضى من الشهاب وأثقب
وطوى الموت هالة كان ينمى
كل أفق إلى سناها وينسب
يا سماء الخيال ما كل يوم
من بني الشعر تظفرين بكوكب
ذهب الشاعر الذي ردد الش
رق صدى شعره الجميل المحبب
ومضى الناثر الذي صور النفس،
وجلى سر الضمير المحجب
الأديب العريق في لغة الضا
د، وقاموسها الصحيح المرتب
لم يكن شاعر القديم، ولا كا
ن لآداب عصره يتعصب
كان يعنى بكل فذ من القو
ل، ويزهى بكل حسن ويعجب
شاعر الحب والجمال، ورب ال
منطق الحق واليراع المؤدب
شعره من ينابع السحر ينسا
ب، وفي عالم الحقيقة ينصب
عاطفي القصيد، يعبث بالألبا
ب أسلوبه الرشيق ويلعب
وخيال يسمو إلى ما وراء الكو
ن من عالم اليقين ويذهب
ينفذ الفكر في مجاهل دنيا
ه فيبدو له الخفي المغيب
ومعان أرق من نسمة الفجر
ولفظ من سلسل الخمر أعذب
وبيان يسيل في كل نفس
فعله من غرائب السحر أغرب
وقواف كأنها نغمات
هاجها الشجو في يراع مثقب
وكأن الأوزان شتى مثان
ترقص النفس وفقهن فتطرب •••
بؤساء الحياة من لكم اليو
م على الحادثات، والعيش أخطب
ضاقت الأرض بالحنان، وفاضت
بالأذى أبحرا، تضج وتصخب
فابحثوا في شعابها عن مقيل
وانشدوا من منافذ النجم مهرب
قد فقدتم نصيركم وسلبتم
عضدا شذ أن يغال ويسلب
عقل الموت مقولا منه عضبا
وطوى مهجة وأطبق هيدب
وخلا اليوم من شجاكم فؤاد
ذاب من رحمة لكم وتصبب
وغفت أعين بكتكم بدمع
لم تدع منه ما يراق ويسكب
الرفيق الحاني على كل قلب
أنشب البؤس فيه نابا ومخلب
والخفيف الخطى إلى كل نفس
مال عنها نصيرها وتنكب
فاذكروه على الليالي إذا ما
زحم الدهر ركنكم وتألب •••
من لصرعى الهموم بعدك يا حا
فظ، من للحزين؟ من للمعذب؟
كنت برا بهم، وأحنى عليهم
من فؤاد الأب الشفيق، وأحدب
عجب صبرهم على خطبك الداوي
وصبر البأساء من ذاك أعجب!
قم وشاهد مآتم الشرق وانظر
كيف يبكى البيان فيك ويندب
قسما لو يرد «هيجو» إلى العي
ش لألقى لك الزمام وقرب
ومشى في يمينه غار «باري
س» إلى رأسك الكريم وعصب
وتمنى الذي كتبت عن البؤ
س ورد الأصيل دون المعرب! •••
فجعت نهضة البلاد ببان
شد من ركنها، وشاد، وطنب
وحباها من شعره وحجاه
ما أفاد الجهاد فخرا وأكسب
هز أشبالها الكماة وأحيا
أملا في صدورهم يتوثب
لو شهدتم غداة ثورتها الكبرى
لجاج النفوس وهي تلهب
لرأيتم في ثورة النفس منه
محنقا من قساور الغيل مغضب
لم يزل منه في المسامع صوت
تتوقى الظبى صداه وترهب
نافذ في الصميم من باطل القو
م كما ينفذ السنان المذرب •••
حافظ الود والذمام سلاما
لم يعد بعد من يود ويصحب
كنت نعم الصديق في كل آن
حين يرجى الصديق أو حين يطلب
لم تغيرك من زمانك دنيا
وحياة بأهلها تتقلب
خلق رضته على شرعة الصدق
وإن خانك الرجاء وكذب
وإياء حميته من صغار
وبريق من المواعد خلب
وفؤاد لغير عاطفة ال
وجدان لا يدني ولا يتقرب
وضمير لا يبلغ المال منه
وبلوغ النجوم من ذاك أقرب
ولسان حفظته من سؤال
لا يمين الكلام أو يتذبذب
يلفظ الروح صاديا وإذا لم
يصف للماء مورد ليس يشرب
صفحات نقية بمداد الح
ق في مجتلي العظائم تكتب •••
خانني فيك منطقي، وعصاني
قلم طالما أفاض وأسهب
آب بالشعر من مصابك يبكي
رزءه فيك والرجاء المخيب
أنت من أمة بهم بعث الله
هداه إلى الشعوب فثوب
لم يزل منكم على الأرض ظل
وشعاع هاد، وغيث مصوب
ويجوب الحياة في كل آن
هاتف منكم وطيف تأوب
حضر في القلوب أنتم وإن كن
تم، على ملتقى النواظر غيب
شوقي
هجر الأرض حين مل مقامه
وطوى العمر حيرة وسآمه
هيكل من حقيقة وخيال
ملك الحب والجمال زمامه
ألهم الشعر أصغريه فرفا
في فم الدهر كوثرا ومدامه
سلسبيل من حكمة وبيان
فجر الله منهما إلهامه
تأخذ القلب هزة من تساقي
ه وينسى بسحره آلامه
غمر الأرض رحمة وسلاما
وجلا الكون فتنة ووسامه
مالئا مسمع الوجود نشيدا
علم الطير لحنه وانسجامه
ما له والزمان مصغ إليه
رد أوتاره وحطم جامه؟
روع الطير يوم غاب عن الأي
ك وسالت جراحها الملتامه
ما الذي شاقه إلى عالم الرو
ح؟ أجل تلك روحه المستهامه!
راعها النور وهي في ظلمة الكو
ن فخفت إليه تطوي ظلامه
هي بنت السماء وهو من الأر
ض سليل نما التراب عظامه
فاهتفوا باسمه فما مات، لكن
آثر اليوم في السماء مقامه! •••
حدثتني الرياض عنه صباحا
ما لصداحها جفا أنغامه؟
وشكا لي النسيم أول يوم
لم يحمله للحبيب سلامه
وتسمعت للغدير ينادي
ما الذي عاق طيره وحيامه؟
أتراه ترشف الفجر نورا
أم شفي من ندى الصباح أوامه
ورأيت الجمال في شعب الوا
دي ينادي بطاحه وأكامه
صارخا يستجير شاعره الشا
دي، ويدعو لفنه رسامه
فتلفت باكيا وبعيني
شبح تخطر المنون أمامه
هتف القلب بالمنادين حولي:
لقي الصادح الطروب حمامه
فاذكروا شدوه بكل صباح
وارقبوا من خياله إلمامه
واملأوا الأرض والسماء هتافا
عله لم ير الصباح فنامه •••
لم يرعني من جانب النيل إلا
كرمة فوقها ترف غمامه
تحت ساجي ظلالها زهرة تب
كي، وفي فرعها تنوح حمامه
عرفتها عيني، وما أنكرتها
من ظلام ووحشة وجهامه
قلت: يا كرمة ابن هاني سلاما
ليس للمرء في الحياة سلامه
نحن لو تعلمين أشباح ليل
عابر ينسخ الضياء ظلامه
والذي تلمحين من لهب الشم
س غدا يطفئ الزمان ضرامه
والذي تبصرينه من نجوم
فلك يرصد القضاء نظامه
والمراد المدل بالورد زهوا
كالذي أذبل الردى أكمامه
عبثا ننشد الحياة خلودا
ونرجي الصبا، ونبغي دوامه
إنما الأرض قبرنا الواسع الرح
ب وفي جوفه تطيب الإقامه
أودع القلب فيه آلامه الكب
رى، وألقى ببابه أحلامه
نسي الناعمون فيه صباهم
وسلا المغرم المشوق غرامه
فامسحي الدمع وابسمي للمنايا
إن دنياك دمعة وابتسامه!! •••
أيها المسرح الحزين عزاء
قد فقدت الغداة أقوى دعامه
ذهب الشاعر الذي كنت تستو
حي وتستلهم الخلود كلامه
واهب الفن قلبه وقواه
والمصافية وده وهيامه
رب ليل بجانبيك شهدنا
قصة الدهر روعة وفخامه
أسفر الشعر عن روائعه فيها
وألقى عن الخفاء لثامه
فأعد عهده وأحي ليالي
ه وجدد، على المدى، أيامه
ولك اليوم همة في شباب
ملأوا العصر قوة وهمامه
نزلوا ساحه يشيدون للمج
د وشقوا إلى الحياة زحامه
فاذكروا نهضة البيان بأرض
أطلعت في سمائها أعلامه
إنها أمة تغار على الفن
وترعى عهوده وذمامه
لم تزل مصر كعبة الشعر في الشر
ق، وفي كفها لواء الزعامه
إن يوما يفوتها السبق فيه
لهو يوم المعاد يوم القيامه!!
انتظار
طال انتظارك في الظلام ولم تزل
عيناي ترقب كل طيف عابر
ويطير سمعي صوب كل مرنة
في الأفق تخفق عن جناحي طائر
وترف روحي فوق أنفاس الربا
فلعلها نفس الحبيب الزائر
ويخف قلبي إثر كل شعاعة
في الليل تومض عن شهاب غائر
فلعل من لمحات ثغرك بارق
ولعله وضح الجبين الناضر
ليل من الأوهام طال سهاده
بين الجوى المضني وهجس الخاطر •••
حتى إذا هتفت بمقدمك المنى
وأصخت أسترعي انتباهة حائر
وسرى النسيم من الخمائل والربى
نشوان يعبق من شذاك العاطر
وترنم الوادي بسلسل مائه
وتلت حمائمه نشيد الصافر
وأطلت الأزهار من ورقاتها
حيرى تعجب للربيع الباكر
وجرى شعاع البدر حولك راقصا
طربا على المرح النضير الزاهر
وتجلت الدنيا كأبهج ما رأت
عين وصورها خيال الشاعر
ومضت تكذبني الظنون فأنثني
متسمعا دقات قلبي الثائر
أقبلت بالبسمات تملأ خاطري
سحرا وأملأ من جمالك ناظري
وأظلنا الصمت الرهيب ونحن في
شك من الدنيا وحلم ساحر •••
حتى إذا حان الرحيل هتفت بي
فوقفت واستبقت خطاك نواظري
وصرخت بالليل المودع باكيا
ويداك تمسك بي وأنت مغادري
يا ليتنا لم نصح منك وليتها
ما أعجلتك رحى الزمان الدائر •••
ولقد أتت بعد الليالي وانقضت
وكأننا في الدهر لم نتزاور
بدلت من عطف لديك ورقة
بحنين مهجور وقسوة هاجر
وكأنني ما كنت إلفك في الصبا
يوما ولا كنت الحياة مشاطري
ونسيت أنت، وما نسيت، وإنني
لأعيش بالذكرى ... لعلك ذاكري!!
إلى البحر
قف من الليل مصغيا والعباب
وتأمل في المزبدات الغضاب
صاعدات تلوك في شدقها الصخر
وترمي به صدور الشعاب
هابطات تئن في قبضة الريح وتر
غي على الصخور الصلاب
ذلك البحر: هل تشاهد فيه
غير ليل من وحشة واكتئاب؟
ظلمات من فوقها ظلمات
تترامى بالمائج الصخاب
لا ترى تحتهن غير وجود
من عباب ، وعالم من ضباب •••
أيها البحر، كيف تنجو من اللي
ل؟ وأين المنجى بتلك الرحاب
هو بحر أطم لجا، وأطغى
منك موجا في جيئة وذهاب
أوما تبصر الكواكب غرقى
في دياجيه كاسفات خوابي؟
وترى الأرض في نواحيه حيرى
تسأل السحب عن وميض شهاب
ويك، يا بحر، ما أنينك في اللي
ل أنين المروع الهياب؟
امض حتى ترى المدائن غرقى
وترى الكون زخرة من عباب
امض عبر السماء، واطغ على الأف
لاك، واغمر في الجو مسرى العقاب
ذاك، أو يهتك الظلام دياجي
ه، وينضو ذاك السواد الكابي
وترى الشمس في مياهك تلقى
خالص التبر واللجين المذاب •••
أقبل الفجر في شفوف رقاق
يتهادى في منظر خلاب
حلل من وشائع النور زهر
يتماوجن في حواشي السحاب
وإذا الشاطئ الضحوك تغنى
حوله الطير بالأغاني العذاب
ونسيم الصباح يعبث بالغا
ب ويثني ذوائب الأعشاب
ومن الشمس جمرة، في ثنايا ال
موج، يذكو ضرامها غير خابي
ومن البحر جانب مطمئن
قزحي الأديم غض الإهاب
نزلت فيه تستحم عذارى ال
ضوء من كل بضة وكعاب
عاريات يسبحن في اليم لكن
لفها الرغو من رقيق الثياب
خفرات من الأشعة خود
نسقتها أنامل الأرباب
فإذا البحر يرقص الموج فيه
وإذا الطير صدح في الروابي
راقصات الأمواج: علمن قلبي
رقصات المغرد المطراب
وأفيضي عليه من سلسل الوح
ي نميرا كالجدول المنساب
واستثيري عواطفي ودعيني
أسمع البحر أغنيات الشباب •••
لي وراء الأمواج، يا بحر، قلب
نازح الدار ما له من مآب
نزعته مني الليالي فأمسى
وهو ملقى في وحشة واغتراب
ذكريات تدني القصي ولكن
أين مني منازل الأحباب
أنا وحدي، هيمان في لجك الطا
مي، غريق في حيرتي وارتيابي
أرمق الشاطئ البعيد بعين
عكفت في الدجى على التسكاب
فسواء، في مسمعي، من ذراه
صدحة الطير أو نعيق الغراب
وسواء، في العين، شارقة الفج
ر أو الليل أسود الجلباب
بيد أني أحس فيك شفاء
من سقامي، ورحمة من عذابي
أنت مهد الميلاد والموت يا بح
ر ومثوى الهموم والأوصاب
فأنا فيك أطرح الآن آلا
مي وعبء الحياة والأحقاب
الطريد
شقي أجنته الدياجي السوادف
سليب رقاد أرقته المخاوف
ترامى به ليل كأن سواده
به الأرض غرقى، والنجوم كواسف
إلى أين تمضي، أيها التائه الخطى،
يساريك برق أو يباريك عاصف؟
رأيتك في بحر الظلام كأنما
إلى الشاطئ المجهول يدعوك هاتف
تخوض الدجى سهمان والنجم حائر
يسائل: من ذاك الشقي المجازف؟!
طريدا يفر الوحش من وقع خطوه
ويعزب عنه الصل، والصل واجف
كأن إله الشر يقتحم الورى
أوان الردى في برده الرث زاحف
فوا عجبا!! لم تحمل الأرض مثله
ولا طاف منه بالدجنة طائف
يخاف الثرى مسراه وهو يخافه
وبينهما يسري الدجى وهو خائف
ترى أي سر في الظلام محجب؟
أليس له من نبأة القلب كاشف؟
أجبني طريد الأرض، إني يهزني
إليك هوى، من جانب الغيب، شاغف!
فردد ذاك الطيف صوتا محببا
إلي كلحن رددته المعازف
وقال: أجل إني الطريد وإنه
لسر تهز القلب منه الرواجف
أتسألك الأفلاك عني، أنا الذي
رمته الدياجي والرعود القواصف؟
أجل: إن ذاتي يا نجيي تنكرت
لعينك، لكن القلوب تعارف؟
وما أنا إلا من بني الأرض ناء بي
مقيم عذابي والشقاء المحالف
وما كان هذا النوء والموج والدجى
ليرهب نفسا حقرت ما تصادف
سواء لديها أشرق الفجر أم سجت
غياهب في سر الدجى تتكاثف
هي الأرض مهد الشر من قبل خلقنا
ومن قبل أن دبت عليها الزواحف
غذتها الضحايا بالجسوم فأخصبت
وأترعها سيل من الدم جارف
وهيهات تشفي غلة من دمائنا
ويا ليت ترويها الدموع الذوارف
ولي قصة يشجي القلوب حديثها
ويعجز عن تصويرها، اليوم، واصف
دعوت إلى حرية الرأي معشرا
ثقافتهم ضرب من العلم زائف
يرون بأن العيش لذات ماجن
وأن قصاراه حلى وزخارف
إذا لمحوا نور الحقيقة أغمضوا
وقالوا: ألا أين الضياء المشارف؟
عجبت لهذا العقل حرا فما له
من الوهم يمسي وهو في القيد راسف
هو الحق في الكوخ الحقير فحيه
وليس بما تزهى هناك المقاصف
هنا تصدق الإنسان عاطفة الهوى
إذا كذبت رب القصور العواطف
لقد سئمت نفسي الحياة وما أرى
بديلا عن الكأس التي أنا راشف
أيجحد في الشرق النبوغ ويزدرى
ويشقى بمصر النابهون الغطارف؟
يجوبون آفاق الحياة كأنهم
رواحل بيد شردتها العواصف
طرائد في صحراء، لا نبع واحة
يرق، ولا دان من الظل وارف
ألا إن لي قلبا طعينا تحوطه
عصائب تنزو من دمي ولفائف
أقلته أحنائي ذماء ولم أزل
به في غار الحادثات أجازف
كما رف نسر راشه السهم فارتقى
خفوق جناح وهو بالدم نازف
أتيت إلى هذا المكان تهزني
إليه عهود للشباب سوالف
أردد فيها للطفولة والصبا
أحاديث شتى كلهن طرائف
أودعها قبل الفراق وإنني
أفارقها والقلب لهفان كاسف
إلى حيث ينمو الرأي حرا تذيعه
من الحق فيها ألسن وصحائف
لعل بلادا ما علتني سماؤها
ولا نبهت فيها لذكري عوارف
أعيش بها حر العقيدة هاتفا
برأيي إما أسعدتني المواقف!
عدلي يكن
وقفة بالشواطئ المحزونة
يذكر النيل دمعه وشجونه
ود لو حولوا إلى السين مجرا
ه وبثوا على الطريق عيونه
ومشى بالشهيد للوطن الثا
كل بحرا من الدموع الهتونه
دنت الدار، يا سفينة، إلا
شاطئ حالت المنية دونه
فاهدئي في ضفاف مصر وقري
آن لليث أن يحل عرينه
قربي من أديمها هيكل الحق
تضم الصدر الذي تحملينه
لحظة يشتكي المتيم فيها
لوعة البين أو يبث حنينه
ولك الله، يا شواطئ، فيمن
كنت في كل موكب ترقبينه
ذهبت بسمة الثغور وحالت
لمحات الطوالع الميمونه
ما عرفت السفين من عهد «نافا
رين» غير المجللات الحزينه
خرجت منك، ليلة البحر، غرا
ء عليها من المنى ألف زينه
ثم آبت إليك منكوسة الصو
ر يئن الجريح فيها أنينه
فسلي البحر هل غدا لك أو را
ح بطيف من الفتوح المبينه
ما شهدت الأيام غير سواد
يشفق النجم أن يشق دجونه
كل يوم تستقبلين شهيدا
ذاق في وحشة الغريب منونه
أو طريدا وراء بحر تحامى
أن يرى مصر في الحديد سجينه
فاذكري الآن، يا شواطئ، عينا
شيعت بالبكاء كل سفينه
واحملي الوافد الكريم حنانا
والثمي ثغره، وحيي جبينه
وإذا ضقت بالأسى فاستمدي ال
نوح من كل قرية ومدينه
سائلي الريح أن تضج عويلا
وسلي البحر أن يجن جنونه
ذاك وادي البكا، وما بعجيب
أن يرى الناس في البكاء فنونه! •••
يا شهيد «الأحرار» لا كان يوم
كم تمنى في الغيب ألا يكونه
فزع النيل بالظنون إليه
فتحدى رجاءه وظنونه
كل جرح أسال رزؤك حتى
رسفت مصر في الجراح الثخينة
لو تلفت خلف نعشك يا «عد
لي» لراعتك أمة مسكينه
كنت أهلا لبرها وهواها
وهي كانت بمن تحب ضنينه!
كيف لا تستقل في حقك الدم
ع ولا ترخص الدموع الثمينه؟
ما بكاء على الذي اتخذ الأو
طان دنياه في الحياة ودينه؟
ما بكاء على الذي حبس القل
ب عليها، وجيبه، وسكونه؟
ما بكاء عليه لو كان يفدى
كنت يا مصر برة تفتدينه!! •••
يا رسول السلام في كل حين
فقدت مصر وحيه وأمينه
ذكر الناس فيك أيام «سعد»
فبكوا رحمة لما يذكرونه
وتناجوا بذكر «ثروت» حتى
رجعوا الأمس واستعادوا
عرضوا الذكريات فاهتجن فيهم
شئونه
دنت بالنبل والوداعة قلبا
كامن الحزن والهموم الدفينه
عقدت كفه بكفك عهدا
عجز البطش والأذى أن يلينه
وتعانقتما وما كنت إلا
يتمنى العدو ألا تصونه •••
عون سعد وإلفه وخدينه!
يا نصير الحقوق آثرت حقا
كل نفس بما قضاه رهينه
فنم الآن في ثرى مصر وانزل
منزل الحب والهدى والسكينه
لم يمت من حديثه يملأ الوا
دي ويطوي سهوله وحزونه
تأخذ الظالمين صيحته الكب
رى، وتستعذب السماء رنينه!
في القرية
غني بأودية الربيع وطوفي
وصفي الطبيعة يا فتاة الريف
ولى خريف العام بعد ربيعه
ولكم ربيع مر بعد خريف
يا أخت طالعة الشموس تطلعي
للورد بين مفتح وكفيف
والطير هدار، فأفق أكدر
يرمي الغمام به، وأفق يوفي
لهفان يرتاد الجداول باكيا
من كل طيف للربيع لطيف
أهدى الشتاء إليه من نغم الأسى
صخب الرياح وأنة الشادوف
هذا بعبرته يجود وهذه
ما بين نقس في الربى وزفيف •••
إني لأذكر حقلنا، ولياليا
أزهرن في ظل لديه وريف
ومراحنا بقرى الشمال، وكوخنا
تحت العرائش في ظلال اللوف
نلقي الخمائل بالخمائل حولنا
متعانقات سابغات الفوف
ذكرى الطفولة أنت وحدك للصبا
حلم يرفه عنه بالتشويف
يا رب رسم من ربوعك دارس
قصر الثواء به وطال وقوفي
إني طويت العيش بعدك ضاربا
في الأرض منفردا بغير أليف
صدف الفؤاد عن الشباب ولهوه
ومضى عن الأحباب غير صدوف
يا رب ليل دب في أحشائه
منا لفيف سار إثر لفيف
نقتاف آثار الطيور شواردا
بين النخيل على رمال السيف
شاد هنا وهناك رنة مزهر
النجم في خفق له ورفيف
والبدر نقبه الغمام كأنه
وجه تألق من وراء نصيف
والنهر سلسال الخرير كأنه
قيثارة سحرية التعزيف •••
قومي عذارى الريف والتمسي الربى
نضرا وغني بالغدير وطوفي
وتفيئي الدوح الظليل ومربأ
للفن تحت أزاهر وقطوف
غصن يطل الفجر من ورقاته
ويقبل الأنداء جد شغوف
أين الغدير عليه يخلع وشيه
صنع الأنامل رائع التفويف
يا حبذا هو من مراح للصبا
والكوخ من مشتى لنا ومصيف
صور نزلن على بنان مصور
صورن من نسق أغر شريف
أغرين بي حلم الطفولة والهوى
وأثرن بي ذكرى ليالي الريف
البحيرة
لألفونس لامارتين
ليت شعري أهكذا نحن نمضي
في عباب إلى شواطئ غمض
ونخوض الزمان في جنح ليل
أبدي، يضني النفوس وينضي
وضفاف الحياة ترمقها العي
ن فبعض يمر في إثر بعض
دون أن نملك الرجوع إلى ما
فات منها، ولا الرسو بأرض؟! •••
حدثي القلب، يا بحيرة، ما لي
لا أرى «أولفير» فوق ضفافك
أوشك العام أن يمر، وهذا
موعد للقاء في مصطافك
صخرة العهد! ويك هأنذا عد
ت، فماذا لديك عن أضيافك؟
عدت وحدي أرعى الضفاف بعين
سفكت دمعها الليالي السوافك •••
كنت بالأمس تهدرين كما أن
ت هدير يهز قلب السكون
وضفاف أمواجها يتداعي
ن على هذه الصخور الجون
والنسيم العليل يدفع وهنا
زبد الموج للربى والحزون
ملقيا رغوها على قدميها
لين المس مستحب الأنين •••
أترى تذكرين ليلة كنا
منك فوق الأمواج، بين الضفاف
وسرى زورق بنا يتهادى
تحت جنح الدجى وستر العفاف؟!
في سكون ، فليس نسمع فوق ال
موج إلا أغاني المجداف
تتلاقى على الربى والحوافي
بأناشيد موجك العزاف؟؟ •••
وعلى حين غرة رن صوت
لم يعود سماعه إنسي
هبط الشاطئ الطروب فما يس
مع فيه للهاتفات دوي
وإذا الليل ساهم سكن النو
ء إليه وأنصت اللجي
يتلقى عن نبأة الصوت نجوى
كلمات ألقى بهن نجي •••
يا زمانا يمر كالطير مهلا
طائر أنت؟ ويك، قف طيرانك!
أهناء الساعات تجري وتعدو
نا عطاشا، فقف بنا جريانك!
ويك دعنا نمرح بأجمل أيا
م ونلقى، من بعد خوف، أمانك
وإذا نحن لذة العيش ذقنا
ها ومرت بنا فدر دورانك! •••
بيد أن الشقاء قد غمر الأر
ض وفاض الوجود بالتاعسينا
كلهم ضارع إليك يرجي
ك فأسرع! أسرع! إلى الضارعينا
وافترس مشقيات أيامهم وامض
رحى تطحن الشقاء طحونا
رحمة، فاذكر النفوس الحزانى
وانس، يا دهر، أنفس الناعمينا! •••
عبثا أنشد البقاء لعهد
يفلت اليوم من يدي ويفر
وسويعات غبطة ما أراها
ووشيكا ما تنقضي وتمر
وأنادي يا ليلة الوصل قري
إن بعد السرى يطيب المقر
أسفا للصبا وغر ليال
ليس يبقي على صباهن فجر •••
فلنحب الغداة ولنحي حبا
ولنكن في الحياة بعضا لبعض
ولنسارع فنقتفي إثر ساعات
فقد تؤذن النوى بالتقضي
إننا في الحياة في عرض بحر
ليس نلقي المرساة فيه بأرض
ما به مرفأ يبين ولكن
نحن نمضي في لجه، وهو يمضي! •••
أكذا أنت، أيها الزمن الحاق
د، تغتال نشوة اللحظات؟
حيث يزجي لنا السعادة أموا
جا من الحب زاخر اللجات؟
أكذا أنت ذاهب بليالي ال
صفو عنا سريعة الخطوات؟
أكذا تنقضي ملاوة نعما
ها كما ينقضي شقاء الحياة؟ •••
كيف؟ حدث: أغالها منك صرف
في أبيد الزمان حيث طواها؟
ويك، قل لي، أليس نملك يوما
أن نراها؟ أما تبين خطاها؟
أتراها ولت جميعا، ولما
تبق حتى آثارها، أتراها؟
أوذاك الدهر الذي افتن في صو
غ صباها هو الذي قد محاها؟ •••
أيهذا الزمان، والعدم العا
تي، غريقين في سكون وصمت
أي عميق اللجات: ماذا بأيا
م صبانا؟ ماذا بهن صنعت؟
حدثيني أما تعيدين ما من
سكرات الغرام منا اختطفت؟
أوما تطلقينها من دياجي
ك؟ أما تبعثينها بعد موت؟ •••
أنت يا هذه البحيرة، ماذا
يكتم الموج فيك والشطآن
أيها الغابة الظليلة ردي
أنت، يا من أبقى عليها الزمان
وهو يسطيع أن يجدك حسنا!!
احفظي لا أصابك النسيان!!
قل حفظا أن تذكري ليلة م
رت وأنت الطبيعة الحسان •••
ليكن منك، يا بحيرة، ما ل
ج بك الصمت أو جنون اصطخابك
في مغانيك حاليات تراءى
ضاحكات على سفوح هضابك
في مروج الصنوبر الحو تهفو
سابغات الألياف حول شعابك
في نتوء الصخور، مشرفة الأعنا
ق، بيضا، تطل فوق عبابك •••
وليكن في العباب يهدر أموا
جا على شاطئيك مثل الرعود
في انتخاب الرياح تعول في الود
يان إعوال قلبي المفئود
في صدى الجدول الموقع أنا
ت حشاه بالجندل الجلمود
في شذاك السري ينشق منه
القلب ريا فردوسه المفقود؟! •••
وليكن في النسيم ما هب ساري
ه بجوب الشطآن نحوك جوبا
في جبين النجم اللجيني يلقي
فضة الضوء في مياهك ذوبا
وليكن في شتيت ما تسمع الأذ
ن، وفيما نراه عينا وقلبا
ليكن هاتف من الصوت يتلو: «قد أحبا وأخلصا ما أحبا»
ليالي الملاح التائه
1940
الإهداء
إلى الذين أطالوا التأمل في أسرار الكون وأرهقهم التيه في مجاهل الحياة ...
إلى العائدين بأنس أحلامهم إلى وحشة مضاجعهم بين اللهفة والحنين ...
إلى المتطلعين عبر الشاطئ المهجور في ارتقاب عودة الملاح التائه ...
إليهم جميعا أقدم وحي لياليه وأهدي بعضا من أشعاره وطرفا من حديث أسفاره.
علي محمود طه
أغنية الجندول في كرنفال فينسيا
تغريدة الموسيقار الأستاذ محمد عبد الوهاب
أين من عيني هاتيك المجالي؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال
أين عشاقك سمار الليالي؟
أين من واديك، يا مهد الجمال؟
موكب الغيد وعيد الكرنفال
وسرى الجندول في عرض القنال
بين كأس يتشهى الكرم خمره
وحبيب يتمنى الكأس ثغره
التقت عيني به أول مره
فعرفت الحب من أول نظره
أين من عيني هاتيك المجالي؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال •••
مر بي مستضحكا في قرب ساقي
يمزج الراح بأقداح رقاق
قد قصدناه على غير اتفاق
فنظرنا، وابتسمنا للتلاقي
وهو يستهدي على المفرق زهره
ويسوي بيد الفتنة شعره
حين مست شفتي أول قطره
خلته ذوب في كاسي عطره
أين من عيني هاتيك المجالي؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال •••
ذهبي الشعر، شرقي السمات
مرح الأعطاف، حلو اللفتات
كلما قلت له: خذ. قال: هات
يا حبيب الروح، يا أنس الحياة
أنا من ضيع في الأوهام عمره
نسي التاريخ أو أنسي ذكره
غير يوم لم يعد يذكر غيره
يوم أن قابلته أول مره
أين من عيني هاتيك المجالي؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال •••
قال: من أين؟ وأصغى، ورنا
قلت: من مصر، غريب ها هنا
قال: إن كنت غريبا فأنا
لم تكن فينيسيا لي موطنا
أين مني الآن أحلام البحيره
وسماء كست الشطآن نضره
منزلي منها على قمة صخره
ذات عين من معين الماء ثره
أين من فارسوفيا تلك المجالي؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال •••
قلت، والنشوة تسري في لساني:
هاجت الذكرى، فأين الهرمان؟
أين وادي السحر صداح المغاني؟
أين ماء النيل؟ أين الضفتان؟
آه لو كنت معي نختال عبره
بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره
حلم ليل من ليالي كليوبتره
أين من عيني هاتيك المجالي؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال •••
أيها الملاح، قف بين الجسور
فتنة الدنيا، وأحلام الدهور
صفق الموج لولدان وحور
يغرقون الليل في ينبوع نور
ما ترى الأغيد وضاء الأسره؟
دق بالساق وقد أسلم صدره
لمحب لف بالساعد خصره؟
ليت هذا الليل لا يطلع فجره!
أين من عيني هاتيك المجالي؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال •••
رقص الجندول كالنجم الوضي
فاشد، يا ملاح، بالصوت الشجي
وترنم بالنشيد الوثني
هذه الليلة حلم العبقري
شاعت الفرحة فيها والمسره
وجلا الحب على العشاق سره
يمنة مل بي، على الماء، ويسره
إن للجندول تحت الليل سحره •••
أين، يا فينيسيا، تلك المجالي؟
أين عشاقك سمار الليالي؟
أين من عيني أطياف الجمال ؟
موكب الغيد وعيد الكرنفال؟
يا عروس البحر، يا حلم الخيال!!
القمر العاشق
إلى ذات الغلالة الرقيقة النائمة تحت نافذتها المفتوحة في ليالي الصيف المقمرة.
إذا ما طاف بالشرفة
ضوء القمر المضنى
ورف عليك مثل الحل
م أو إشراقة المعنى
وأنت، على فراش الطه
ر، كالزنبقة الوسنى
فضمي جسمك العاري
وصوني ذلك الحسنا •••
أغار عليك من ساب
كأن لضوئه لحنا
تدق له قلوب الحو
ر أشواقا إذا غنى
رقيق اللمس، عربيد
بكل مليحة يعنى
جريء، إن دعاه الشو
ق، أن يقتحم الحصنا! •••
تحدر من وراء الغي
م، حين رآك، واستأنى
ومس الأرض في رفق
يشق رياضها الغنا
عجبت له، وما أعج
ب كيف استلم الركنا؟
وكيف تسور الشوك؟
وكيف تسلق الغصنا؟ •••
على خديك خمر صبا
بة أفرغها دنا
رحيق من جنى الفتن
ة لا ينضب أو يفنى
وفي نهديك طلسما
ن في حلهما افتنا
إلى كنزهما المعبو
د بات يعالج الردنا •••
أغار، أغار إن قب
ل هذا الثغر أو ثنى
ولف النهد في لين
وضم الجسد اللدنا
فإن لضوئه قلبا
وإن لسحره جفنا
يصيد الموجة العذرا
ء من أغوارها وهنا! •••
وكم من ليلة لما
دعاه الشوق واستدنى
جثا الجبار بين يدي
ك طفلا يشتكي الغبنا
أراد، فلم ينل ثغرا
ورام، فلم يصب حضنا
حوتك ذراعه رسما
وأنت حويته فنا! •••
عصيت هواه فاستضرى
كأن بصدره جنا
مضى بالنظرة الرعنا
ء يطوي السهل والحزنا
يثير الليل أحقادا
وصدر سحابه ضغنا
وعاد الطفل جبارا
يهز صراعه الكونا! •••
فردي الشرفة الحمرا
ء دون المخدع الأسنى
وصوني الحسن من ثور
ة هذا العاشق المضنى
مخافة أن يظن النا
س في مخدعك الظنا
فكم أقلقت من ليل!
وكم من قمر جنا!
كأس الخيام
هاتف الفجر الذي راع النجوم
وأطار الليل عن آفاقها
لم يزل يغري بنا بنت الكروم
ويثير الوجد في عشاقها •••
صيدح جن غراما بالسحر
أنطقته لهفة الروح المشوق
موثق القلب، وميعاد النظر
مهرجان النور في عرس الشروق •••
فرح الجنة في ألحانه
وصداه في السحاب العابر
أرسل السحر على ألوانه
من فم شاد، وقلب شاعر •••
يا له صوتا من الماضي البعيد
رائع الإيقاع فتان النغم
جدد الأشواق باللحن الجديد
وهو كالدنيا عريق في القدم •••
كم عيون نفضت أحلامها
حين نادى، غير حلم واحد
سلسلت فيه المنى أنغامها
وهي تشدو بالرحيق الخالد •••
كلما لألأ في الشرق السنا
دقت الباب الأكف الناحله
أيها الخمار! قم وافتح لنا
واسقنا، قبل رحيل القافله •••
خمرة العشاق لا زالت، ولا
جف من ينبوعها نهر الحياه
نضبت، في قدح العمر، الطلا
وهي في الأرواح تستهوي الشفاه! •••
كم شموس عبرت هذا الفضاء
وألوف من بدور ونجوم
والثرى بين ربيع وشتاء
ضاحك النوار وهاج الكروم •••
كل عنقود دموع جمدت
وقلوب فنيت فيها شعاعا
ما احتواها الفجر إلا اتقدت
جمرة تذكو حنينا والتياعا •••
لو أصابت ريشتيها وثبت
بجناحين من الشوق القديم
فاعذر الكأس إذا ما اضطربت
حببا يخفق في كف النديم •••
أيها الخالد في الدنيا غراما
أين نيسابور، والروض الأنيق؟
أين معشوقك إبريقا وجاما؟
هل حطمت الكأس؟ أم جف الرحيق؟ •••
هذه الكرمة والوادي الظليل
مثلما كانا، وهذا البلبل
حاضر أشبه بالماضي الجميل
لو يغنيه المغني الأول •••
اليد البيضاء في كل الغصون
زهرة تندى، ونور يشرق
والثرى من نفس الروح الحنون
مهجة تهفو، وقلب يخفق •••
كم تشهيت الحبيب المحسنا
لو سقي مثواك بالكأس الصبيب
وتمنيت، وما أحلى المنى
خطوات منه، والمثوى قريب •••
أترى أعطيته سر الخلود؟
أم حبوت الحسن سلطانا يدوم
عجبا، تخطئ أسرار الوجود
أيها الحاسب أعمار النجوم! •••
شفة الكأس التي أنطقتها
لم تدع من منطق الدنيا جوابا
حجب عن ناظري مزقتها
فرأيت العيش برقا وسرابا •••
ولمست الخافق الحي المنى
طينة تبكي بكف الجابل
تشتهي الرشفة مما علنا
وهي ملأى تحت ثغر الناهل •••
نسي الأنخاب من تهوى وأمسى
مثلما أمسيت يستسقي الغماما
واشتكت رقته في الأرض يبسا
وغدا الإبريق والكأس حطاما •••
لا، فما زالا، ولا زال الحبيب
أيها المفعم بالحب الوجودا
إن من غنيت بالأمس القريب
منحته ربة الشعر الخلودا •••
مر بي طيفكما ذات مساء
وأنا ما بين أحلامي وكأسي
استبدت بي أطياف الخفاء
وتغربت عن الدنيا بنفسي •••
صحت بالليل إلى أن أشفقا
فليقف نجمك ... ولينأ السحر
جدد العشاق فيك الملتقى
وحلا الهمس على ضوء القمر •••
فادخلا بين ضياء وغمام
حانة الأقدار والليل القديم
مجلسا يهفو به روح الغرام
كل نجم فيه ساق ونديم •••
وانهلا من سلسل النور المذاب؟
خمرة ليس لها من عاصر
قنع الصوفي منها بالحباب
وهي تنهل بكأس الشاعر •••
فارو يا شاعر عن إشراقها
إنما كأسك نور وصفاء
كيف طالعت على آفاقها
روعة الغيب وأسرار السماء؟ •••
كيف أبصرت الجمال المشرقا
بصر الفانين في حب الإلهء
وفتحت الأبد المستغلقا
عن ضمير الكون أو قلب الحياة؟ •••
أبروحانية الشرق العريق
أم ببوهيمية الفن الطليق
سبحت روحك في الكون السحيق
حيث لا يسمع طاف لغريق؟ •••
حيث أبصرت الذي لم تبصر
أعين مرت بهذا العالم
ذاك سر الشاعر المستهتر
وفتون الفيلسوف العالم •••
ذاك سر النغم المسترسل
والصفاء السلسل المطرد
روح شاد فنيت في الأزل
وتحدت شهوة المنتقد •••
صرخت آلامه في كوبه
فهوى يثأر من آلامه
إنما البعث الذي تشدو به
يقظة المفجوع في أحلامه! •••
إنما البعث المرجى للورى
غاية الحي التي لا تحمد
إنما تبعث في هذا الثرى
بعض ما يقطف أو ما يحصد •••
حسبها تعزية أنا سنحيا
في غد، مثل حياة الزهر
وسنطوي الأبد المجهول طيا
جدد الأطياف شتى الصور •••
حسبها تعزية أن نحلما
بأناشيد الصباح المنتظر
ونشق الأرض عن وجه السما
حيث نور الشمس أو ضوء القمر •••
ربما جدد أو هاج لنا
نبأ أو قصة من حبنا
نوح ورقاء أرنت حولنا
أو شجى قبرة مرت بنا •••
أو خطى إلفين في فجر الصبا
أترعا كأسيهما من ذوبه
أو صدى راع على تلك الربى
صب في الناي أغاني حبه •••
حلم مثلته في خاطري
فعشقت الخلد في هذا الرواء
أنكروه فحكوا عن شاعر
جن بالخمر وأغوته النساء •••
ولقد قالوا: شذوذ مغرب
وإباحية لاه لا يفيق
آه لو يدرون ما يضطرب
بين جنبيك من الحزن العميق •••
أولا يغدو الخليع الماجنا
من رأي عقبى الصباح الباسم؟
ورأى الحي جمادا ساكنا
بعد ذياك الحراك الدائم؟ •••
أولا يغرب في نشوته
شارب الغصة في اليوم الأخير؟
أولا يمعن في شهوته
مسلم الجسم إلى الدود الحقير؟ •••
قصة الزهد التي غنوا لها
عللتهم بالسراب الخادع
نشوة الشاعر، ما أجملها!
هي مفتاح الخلود الضائع!! •••
لو أصابوا حكمة ما اتهموا
وبكى لاحيك والمستهجن
فهو من دنياهم لو علموا
عبث مر، ولهو محزن!!
مصرع الربان
يا قاهر الموت كم للنفس أسرار؟
ذل الحديد لها، واستخذت النار
وأشفق البحر منها، وهو طاغية
عات على ضربات الصخر، جبار
حواك أحدوثة مثلى، وتضحية
لم تحوها سير، أو ترو أخبار
رماك في جنبات اليم محترب
خافي المقاتل، عند الروع فرار
ترصدتك مراميه ولو وقعت
عليه عيناك لم تنقذه أقدار
يدب في مسبح الحيتان منسربا
والغور داج، وصدر البحر موار
كدودة الأرض نور الشمس يقتلها
وكم بها قتلت في الروض أزهار
هوى بك الفلك إلا هامة رفعت
لها من المجد إعظام وإكبار
واستقبل البحر صدرا حين لامسه
كادت عليه جبال الموج تنهار
وغاب كل مشيد، غير قبعة
ذكرى من الشرف العالي وتذكار
ألقيتها، فتلقى الموج معقدها
كما تلقى جبين الفاتح الغار
ولو يرد زمان المعجزات بها
لانشق بحر لها، وارتد تيار
كأنها خطبة راعت مقاطعها
لها العوالم سماع ونظار
تقول: لا كان لي رب ولا هتفت
بذكره الحرب، إن لم يؤخذ الثار •••
يا ابن البحار وليدا في مسابحها
ويافعا يؤثر الجلى ويختار
ما عالم الماء؟ يا ربان، صفه لنا
فما تحيط به في الوهم أفكار!
وما حياة الفتى فيه؟ أتسلية
وراحة؟ أم فجاءات وأخطار؟
إذا السفينة في أمواجه رقصت
على أهازيج غناهن إعصار
وأشجت السحب موسيقاه، فاعتنقت
وأسدلت من خدور الشهب أستار
وأنت ترنو وراء الأفق مبتسما
كما رنا نازح لاحت له الدار
غرقان في حلم عذب تسلسله
من ذروة الليل أنواء وأمطار
يا عاشق البحر، حدث عن مفاتنه
كم في لياليه للعشاق أسمار
ما ليلة الصيف فيه؟ ما روايتها؟
فالصيف خمر، وألحان، وأشعار
إذا النسائم من آفاقه انحدرت
وضوأت من كوى الظلماء أنوار
وأقبلت عاريات من غلائلها
عرائس من بنات الجن أبكار
شغل الربابنة السارين من قدم
تجلى بهن عشيات وأسحار
يترعن كأسك من خمر معتقة
البحر كهف لها، والدهر خمار
وأنت عنهن مشغول بجارية
كأن أجراسها في الأذن قيثار
صوت الحبيبة قد فاضت خوالجها
ورنحتها من الأشواق أسفار
وا لهف قلبك لما اندك شامخها
والنوء مصطرع والموج هدار
بوغت بالقدر المكتوب فانسرحت
عيناك تقرأ، والأمواج أسطار
نزلتما البحر قبرا، حين ضمكما
رفت عليه من المرجان أشجار
نام الحبيبان في مثواه واتسدا
جنبا لجنب، فلا ذل ولا عار!! •••
مصارع للفدائيين يعشقها
مستقلون وراء البحر أحرار
منية كحياة، كلما ذكرت
تجددت لك في الأجيال أعمار
هي الفخار لشعب من خلائقه
خلق الرجال إذا هاجته أخطار
له البحار بما احتازت شواطئها
وما أجنته خلجان وأغوار
رواق مجد على جدرانه رفعت
للخالدين أماثيل وآثار
دخلت من بابه، واجتزت ساحته
وسرت فيه على آثار من ساروا
يتيه باسمك في أقداسه نصب
رخامه الدهر، والتاريخ حفار
نشيد إفريقي
عودة المحارب «إلى الذين قدسوا الحياة بحب الموت!»
ارقصي، يا نجوم، في الليل حولي
واتبعي، يا جبال، في الأرض ظلي
واصدحي، يا جنادل النهر، تحتي
بأناشيد مائك المنهل
وارفعي، يا ربا، إلي وأدني
زهرات من عشبك المخضل
ضمخي من عبيرها ونداها
قدما لم تطأك يوما بذل
هزأت بالجراح من مخلب اللي
ث وأنياب كل أفعى وصل
واحملي يا رياح، صوتي إلى الوا
دي وضجي بكل حزن وسهل
وانسمي، بالغرام، يا نسمة اللي
ل وكوني إلى الأحبة رسلي
إن في حومة القبيلة نارا
ضوأت لي على مضارب أهلي
رقصت حولها الصبايا وغنت
بأغاني شبابها المستهل
صوت إفريقيا ووحي صباها
ونداء القرون بعدي وقبلي
باسمها الخالد امتشقت حسامي
بيد تخفض الحظوظ وتعلي
وشربت الحميم من كل شمس
نارها تنضج الصخور وتبلي
وقهرت الحياة حتى كأني
قدر، تكتب الحتوف وأملي
يا عذارى القبيل أنتن للمج
د على عفة صواحب بذل
حسب روحي الظامي وحسب جراحي
رشفة من عيونكن النجل
وابتساماتكن فوق شفاه
بمعاني الحياة كم أومأت لي
حين ألقى زوجي على باب كوخي
وأناغي على ذراعي طفلي
وأنام الليل القصير لأجلو
صارمي في سنا الصباح المطل
حلم ليلة
إذا ارتقى البدر صفحة النهر
وضمنا فيه زورق يجري
وداعبت نسمة من العطر
على محياك خصلة الشعر
حسوتها قبلة من الجمر
جن جنوني لها وما أدري
أي معاني الفتون والسحر
ثغرك أوحى بها إلى ثغري!
حلم مساء أتاحه دهري
غرد فيه الحبيس في صدري •••
فنوليني فليس في العمر
سوى ليال الغرام والشعر
إني رأيت النذير في الإثر
تطلق كفاه طائر الفجر
فقربي الكأس، واسكبي خمري!
إلى راقصة
بعينيك ما يلهم الخاطرا
ويترك كل فتى شاعرا
فيا فتنة من وراء البحار
لقيت بها القدرض الساخرا
دعتني، فجمعت قلبي لها
وناديت ماضي والحاضرا
وأقبلت في موكب الذكريات
أحي الخميلة والطائرا
وساءلني القلب، ماذا ترى؟
فقلت: أرى حلما عابرا
أرى جنة، وأراني بها
أهيم بأرجائها حائرا
ملأت بتفاحها راحتي
وبت لكرمتها عاصرا
وذقت الحنان بها والرضا
يدا برة وفما طاهرا
فيا ليلة لم تكن في الخيال
أجدت لي المرح الغابرا
أفاءت على النيل سحر الحياة
وأحيت لشعري به سامرا
نسيت ليالي من قبلها
وكنت لها الوافي الذاكرا
سلي من أثارت بقلبي الفتون
وخلته محتدما ثائرا
بربك! من ألف الأصغرين
وعلق بالناظر الناظرا
إذا أطلق الضوء أطيافه
ولف بها خصرك الضامرا
وطوق نحرك لحظ العيون
وعاد بكرته حاسرا
ووقعت من خفقات القلوب
على قدميك الصدى الساحرا
وحدث كل فتى نفسه:
أرى الفن أم روحه القاهرا؟
تمثلته طيف إنسانة
ومثل فيك الصبا الناضرا!!
في الشتاء
ذكريني فقد نسيت، ويا
رب ذكرى تعيد لي طربي
وارفعي وجهك الجميل أرى
كيف هذا الحياء لم يذب
واسندي رأسك الصغير إلى
ثائر في الضلوع مضطرب
ذلك الطفل، هدهديه فما
ثاب من ثورة ومن صخب
وامنحي عيني النعاس على
خصلات من شعرك الذهبي
ظمئي قاتلي، فما حذري
موردي منك مورد العطب
ثرثري، واصنعي الدموع ولا
تحفلي إن هممت بالكذب
بي نزوع إلى الخيال وبي
للتمني حنين مغترب
وا عجبي منك، إن نسيت، وما
أسفي نافع ولا عجبي
لم أزل أرقب السماء إلى
أن أطل الشتاء بالسحب
موعدنا كان في أصائله
ضفة سندسية العشب
نرقب النيل تحت زورقنا
وخفوق الشراع عن كثب
وظلال النخيل في شفق
سال فوق الرمال كاللهب
كأسنا مترع وليلتنا
غادة من مضارب العرب •••
ويك! لا تنظري إلى قدحي
نظرات الغريب، واقتربي!
شفتاك النديتان به
فيهما روح ذلك الحبب
شهد المنتشي بخمرهما
أن هذا الرحيق من عنبي!!
هي
«إلى التي علمتني كيف أحب وكيف أكره.»
هي الكأس مشرقة في يديك،
فماذا أرابك في خمرها؟
نظرت إليها وباعدتها
كأن المنية في قطرها
أما ذقتها قبل هذا المساء
وعربدت نشوان من سكرها؟
حلا طعمها يوم كنت الخلي،
وكل الصبابة في مرها
سقيت بها من يد لم تكن
سوى الريح تنفخ في جمرها •••
تلفت! فهذا خيال التي
مرحت وغردت في وكرها
وغرفتها لم تزل مثلما
تنسمت حبك من عطرها
وقفت بها ساهما مطرقا
يحدثك الليل عن سرها
مكانك فيها كما كان أمس،
وذلك مثواك في خدرها
وآثار دمعك فوق الوساد،
وفوق المهدل من سترها
فهل ذقت حقا صفاء الحياة،
وذوب السعادة في ثغرها؟
إذا فتح الباب تحت الظلام
فكيف ارتماؤك في صدرها؟
وكيف طوى خصرها ساعداك
ومرت يداك على شعرها؟
وما هذه؟ رعشة في يديك؟
أم الكأس ترجف من ذكرها؟
وما في جبينك، يا ابن الخيال؟
سمات تحدث عن غدرها!! •••
لقد دنس الجسد الآدمي
حياة حرصت على طهرها
بكى الفن فيك على شاعر
تسائله الروح عن ثأرها
نزلت بها وهدة كم خبا
شعاع وغيب في قبرها
رفعت تماثيلك الرائعات
وحطمتهن على صخرها •••
فدع زهرة الأرض يا ابن السماء،
فأنت المبرأ من شرها
مراحك في السحب العاليات
وفوق المنور من زهرها
فمد جناحيك فوق الحياة،
وأطلق نشيدك في فجرها
بحيرة كومو
هيئي الكأس والوتر
تلك «كومو» مدى النظر
واصدحي، يا خواطري
طويت شقة السفر
ودنت جنة المنى
وحلا عندها المقر
قد بعثنا بها على
موعد غير منتظر
في مساء كأنه
حلم الشيخ بالصغر
البحيرات والجبا
ل توشحن بالشجر
وتنقبن بالغما
م وأسفرن بالقمر «والبرونات» غادة
لبست حلة السهر
نثرت فوقها الديا
ر كما ينثر الزهر
وعبرنا رحابها
فأشارت لمن عبر
هاكها قبلة، فمن
رام فليركب الخطر
فسمونا لخدرها
زمرا تلوها زمر
في زجاج محلق
لا دخان ولا شرر
يتخطى بنا الفضا
ء على السندس النضر
سلم يشبه الصرا
ط تسامى على البصر
فإلى النجم مرتقى
وإلى السحب منحدر
وحللنا بقمة
دونها قمة الفكر
بهج في كنوزها
للمحبين مدخر
بابل؟ أم بحيرة؟
أم قصور من الدرر؟
أم رؤى الخلد في الحيا
ة تمثلن للبشر؟
حبذا أمسياتها
وحنينا إلى البكر
ونزوعا إلى السفين
تهيأن للسفر
نسيت شغلها القلوب
وهللن للسمر
أوجه مثلما رنت
زهرة الصيف للمطر
أضحيانية السمات
هلالية الطرر
يتوهجن بالشبا
ب ويندين بالخفر
طلعة تسعد الشقي
وتعطي له العمر
تمنح الحظ من تشا
ء وتبقي، ولا تذر
إنما تنظر السما
ء إلى هذه الصور
لترى الله خالقا
مبدعا، معجز الأثر •••
شاعر النيل طف بها
غنها كل مبتكر
الثلاثون قد مضت
في التفاهات والهذر
فتزوذد من النعي
م لأيامك الأخر
أين وادي النخيل، أم
قاهرياته الغرر؟
لا تقل: أخصب الثرى
فهنا أورق الحجر!!
ها هنا يشعر الجما
د ويوحي لمن شعر!!
آه لولا أحبة
نزلوا شاطئ النهر
ورفات مطهر
وكريم من السير
لتمنيت شرفة
لي في هذه الحجر
أقطع العمر عندها
غير وان عن النظر
فلقد فاز من رأى
ولقد عاش من ظفر •••
يا ابنة العالم الجدي
د صلي عالما غبر
في دمي من تراثه
نفحة البدو والحضر
وأغان لمن شدا
ومعان لمن فخر
ما تسرين؟ أفصحي!
إن في عينك الخبر
الغريبان ها هنا
ليس يجديهما الحذر
نحن روحان عاصفا
ن وجسمان من سقر
فاعذري الروح إن طغى
واعذري الجسم إن ثأر!
نضبت خمر بابل
وهوى الكاس وانكسر
وهنا كرمة الخلو
د فطوبى لمن عصر
فيم، والنبع دافق ،
يشتكي الظامئ الصدر؟
ولمن هذه العيو
ن تغمرن بالحور؟
بتن يلعبن بالنهى
لعب الطفل بالأكر
هن أصفى من الشعا
ع وأخفى من القدر
ولمن توشك الثدى
وثبة الطير في السحر؟
كل إلف لإلفه
هم بالصدر وابتدر
عض في الثوب واشتكى
وطأة الخز والوبر
سمة الطائر المعذ
ب في قيده نقر
ولمن رفت المبا
سم واسترسل الشعر؟
ثمر ناضج الجنى
كيف لا نقطف الثمر
ما أبى الخلد آدم
أو غوى فيه أو عثر!
زلة تورث الحجى
وتري الله من كفر!
كأسنا ضاحك الحباب،
مصفى من الكدر •••
فاسكبي الخمر وارشفي
ه على رنة الوتر
وإذا شئت فاسقني
ه على نغمة المطر
فغدا يذهب الشبا
ب وتبقى لنا الذكر!
أفراح الوادي
عيد التتويج
ما بالرعاة! أثارهم فترنموا؟
هل طاف بالصحراء منهم ملهم؟
أم ضوأت سيناء في غسق الدجى
وجلا النبوءة برقها المتكلم؟
نظروا خلال سمائها وتأملوا
وتقابلت أنظارهم فتبسموا
إيه فلاسفة الزمان فأنتم
ببشائر الغيب المحجب أعلم
هذا النشيد الأسيوي معاده
نبأ تقر به الشعوب وتنعم
وطريقكم مصر، وإن طريقها
أثر من الوحي القديم ومعلم
ألا يكون الفجر هدي خطاكم
فدليلكم قبس الخلود المضرم
هو سحر مصر، وعرشها، ولواؤها
والصولجان، وتاجها المتوسم
وجبين صاحبها العزيز وإنه
نور على إصباحها متقدم
أوفى على الوادي بضاحك ثغره
وجه تباركه السماء وترأم
مسترسل النظر البعيد كأنه
ملك يفكر أو نبي يلهم
وكأنما الآمال عبر طريقه
أنفاس روض بالعشية ينسم
يتنظر الحقل المنور خطوه
والنهر، والجبل العريض الأيهم
فكأن روحا عائدا من «طيبة»
فيه شباب ملوكها يتبسم
هتف البشير به فماجت أعصر
وتلفتت أمم ودارت أنجم
هذا هو الملك الذي سعدت به
مصر، وهذا حبها المتجسم
لمن البنود على العباب خوافقا
لمن النسور على السحاب تحوم
لمن المواكب مائجات مثلما
أومت عصا موسى فشق العيلم
ولم الصباح كأنما أنداؤه
كأس تصفق أو رحيق يسجم
ولم اختلاج النيل فيه كأنه
شيخ يذكر بالشباب ويحلم
ولمن هتاف بالضفاف مردد
أشجى من الوتر الحنون وأرخم
ولمن عواصم مصر حالية الذرا
تغزو بوارقها النجوم وتزحم
ولم احتشاد سرائري وخواطري
ولمن شفاه بالدعاء تتمتم
إسكندرية، قد شهدت فحدثي
فاليوم قد وضح الحنين المبهم
هاتي املئي كأسي وغني واعصري
خمرا أعل بها ولا أتأثم
إن كنت أفق الملهمين وأيكهم
إني إذن غريدك المترنم
يا درة البحر التي لم يتسم
جيد البحار بمثلها والمعصم
جددت أعراس الزمان وزانها
ركب لفاروق العظيم ومقدم
ما عاد جبار الشعوب وإنما
قد عاد قيصرك الرشيد المسلم
في مهرجان لم يحط بجلاله
وصف ولم يبلغ مداه توهم
يوم الشباب ولا مراء وإنه
للشرق عيد والكنانة موسم
قد فتح التاريخ فيه كتابه
يصغي إليه ويشرئب المرقم
مولاي، أمل عليه أول آية
لشباب شعب خالد لا يهرم
هو من شبابك يستمد رجاءه
ويسود باسمك في الحياة ويحكم
فابعثه جيلا واثبا متقحما
إن الشباب توثب وتقحم
هز الفتى الأموي تحت إهابه
منه مضاء كالحسام مصمم
فمشى يطوح بالعروش كأنه «شمشون» في حلق الحديد يحطم
دون الثلاثين استثير فأجفلت
أمم وراء تخومه تتأجم
والمجد موهبة الملوك وإنما
تبني المواهب، والخلائق تدعم
ويضيق بالشعب الطموح يقينه
ويثير مرته الخيال فيعرم
قوت الشعوب وريها أحلامها
إن الخيال إلى الحقيقة سلم •••
يا عاقد التاج الوضيء بمفرق
كالحق معقده هدى وتبسم
أعظم بتاجك جوهرا لم يحوه
كنز ولم يحرز حلاه منجم
ميراث أول مالكين سما بهم
عرش أعز من الجبال وأضخم
نواب شعبك حينما طالعتهم
طاف الرحيق البابلي عليهم
هتفوا بمجدك واستخف وقارهم
أمل يجل عن الهتاف ويعظم
أقسمت بالدستور والوطن الذي
بك بعد ربك في العظائم يقسم
برا بوالدك العظيم وذمة
لجدودك الصيد الذين تقدموا
وتطلعت عبر المدائن والقرى
مهج يكاد خفوقها يتكلم
تصغي لصوتك في السحاب ورجعه
لحن على أوتارهن ينغم
خشعت له النسمات وهي هوازج
وتنصت العصفور وهو يهينم
وصغت سنابل مثلما أوحى لها
تأويل «يوسف» فهي خضر تنجم
يا صوت مصر، ويا صدى أحلامها
زد روعتي مما يهز ويفعم
ألقى المقادة في يديك وديعة
شعب لغير خطاك لا يترسم
فتلق تاجك من يديه فإنه
في الدهر عروته التي لا تفصم •••
فليهنأ الملك الهمام بعيده
وليعرض الجيش الكمي المعلم
مولاي، جندك ماثلون فأولهم
سيفا يقبل أو لواء يلثم
لما رأوك على جوادك قائما
وضعوا السيوف على الصدور وأقسموا
وكأن «إبراهيم» طيفك ماثلا
وكأنك الروح الشقيق التوأم
يا قائد الجيش المظفر ته به
إن الشعوب بمثل جيشك تكرم
الأرض تعرفه وتشهد أنه
سيل إذا لمع الحديد وقشعم
طوروس أم عكاء عن أمجاده
تروي؟ أم البيت العتيق وزمزم؟
أم حومة السودان، وهي صحيفة
السيف خط سطورها واللهذم؟
أم «مورة» الشماء يوم أباحها
والنار حول سفينه تتهزم؟
لولا قراصنة عليه تآمروا
لم يعل «نافارين» هذا الميسم
فاغفر لما صنع الزمان، فإنها
بؤسى تمر على الشعوب وأنعم
وانفخ به من بأس روحك سورة
يرمي سطاها المستخف فيحجم
فالرفق من نبل النفوس وربما
يلحى النبيل بفعله ويذمم
إنا لفي زمن حديث دعاته
نسك، ولكن السياسة تأثم
ووراء كل سحابة في أفقه
جيش من المتأهبين عرمرم •••
قالوا: فتى عشق الطبيعة واغتدى
بغرائب الأشعار وهو متيم
وطوى البحار على شراع خياله
يرتاد عالية الذرا ويؤمم
أنا من زعمتم، غير أني شاعر
أرضى البيان بما يصوغ ويرسم
إني بنيت على القديم جديده
ورفعت من بنيانه ما هدموا
الشعر عندي نشوة علوية
وشعاع كأس لم يقبلها فم
ولحون سلم أو ملاحم غارة
غنى الجبال بها السحاب المرزم
أرسلته يوم النداء فخلته
نارا وخلت الأرض خضبها الدم
ودعاه عرشك، فاستهل خواطرا
فأتيت عن خطراتهن أترجم
ورفعت رأسي للسماء وخلتني
أتناول النجم البعيد وأنظم
فاقبل نشيدي إن عطفت فإنه
صوت الشباب، وروحه المتضرم
وسلمت يا مولاي للوطن الذي
بك يستظل، ويستعز، ويسلم!
مهرجان الزفاف
سحر نطقت به وأنت المنطق
ولك الولاء ولي بعرشك موثق
يا أفق إلهامي ووحي خواطري
هذا نشيدي في سمائك يخفق
توحي إلي الشعر علوي السنا
مصر، ونور شبابك المتألق
وشوارد هز النجوم رويها
والكون مصغ والشعاع يصفق
في ليلة للنفس فيها هزة
ولكل قلب صبوة وتشوق
ريا الأديم كلجة مسجورة
يسري عليها للملائك زورق
غنى بها الشعر الطروب وأقبلت
بالزهر حورياته تتمنطق
وشدا الرعاة الملهمون كأنما
سيناء من قبس النبوة تشرق
هي من طوالعك الحسان، وإنه
أمل لمصر على يديك يحقق
مصر إذا سئلت فأنت لسانها
وجنانها، وشعورها المتدفق
فتلق فرحتها بعيدك إنه
عيد يهنئ مصر فيه المشرق •••
مولاي هل لي أن أقبل راحة
بيضاء تحيي المأثرات وتخلق
مرت على الوادي، فكل شعابه
عين مفجرة، وغصن مورق
وجلوتها للناظرين فأبصروا
برهان ربك ساطعا يتألق
لو رد فرعون وسحر دعاته
وتساءلوا بك مجمعين وأحدقوا
لقفت عصاك عصيهم فتصايحوا
لا سحر بعد اليوم، أنت مصدق
يا باعث الروح الفتي بأمة
تسمو بها آمالها وتحلق
أغلى الذخائر في كنوز فخارها
تاج يجمله بنورك مفرق
صاغته من آمالها ودمائها
وأجلهن دم الشباب المهرق
إن أنس، لا ينس اليمين ويومه
قلبي الطروب وجفني المغرورق
وهتاف روحي في خضم صاخب
خلت الفضاء الرحب فيه يغرق
القائد الأعلى، وتحت لوائه
حراس مصر الباسلون السبق
طافوا بساحتك الكريمة فيلقا
يحدوه من آمال مصر فيلق
وأنلتهم شرف المثول فقربوا
مهجا يحوطك حبها ويطوق
وضعوا الأكف على الكتاب وأقسموا
وسيوفهم من لهفة تتحرق
أوما لها الماضي، فجن حديدها
حتى تكاد بغير كف تمشق
ذكرت بك النصر المبين وفاتحا
يطأ الجبال الشامخات ويصعق
يا صنو إبراهيم، لو ناديته
بك لاستجاب وجاء باسمك ينطق
لك مصر، والسودان، والنهر الذي
يحيا الموات به، ويغنى المملق
عرش قوائمه التقى، وظلاله
عدل، وروحانية، وترفق
المسجد الأقصى يود لو انه
أسرى إليه بك الخيال الشيق
كم وقفة لك في الصلاة كأنما
عمر تحف به القلوب وتخفق
لما وقفت تلفت المحراب من
فرح، وأنت لديه حان مطرق
ويكاد من بهج يضيء سراجه
وجه عليه من الطهارة رونق
أحييت سنة مالكين سما بهم
في الشرق أوج حضارة لا يلحق
فانين في حب الإله، ولن ترى
بعد الألوهة ما يحب ويعشق
طهر عصمت به الشباب وإنما
شيم الملوك به أحق وأخلق
تغضي لرقتك النفوس مهابة
وتهم بالنظر العيون فتشفق
إن السيوف تهاب وهي رقيقة
وخلائق العظماء حين ترقق •••
ألقى البشير على المدائن والقرى
نبأ كصوت الوحي ساعة يطلق
عبر الضفاف الحالمات فمسحت
جفنا، وهب نخيلها يتأنق
فرح تمثل مصر فهي خواطر
صداحة، وسرائر تترقرق
اليوم آمنت الرعية أنها
أدنى لقلبك في الحياة وألصق
آثرتها، فحبتك من إيثارها
تاجا شعائره الولاء المطلق
ملكات مصر الرائعات، إذا بدا
كف تشير له، وعين ترمق
وحديث أرواح يضوع عبيره
ومن الطهارة ما يضوع ويعبق
يا صاحبي مصر، أظلكما الرضا
وجرى بيمنكما الربيع المونق
وفداء عرشكما المؤثل أمة
أمست خناصرها عليه توثق •••
يا شمس يا أم الحياة! تكلمي
فلقد يثاب على الكلام الصيدق
أأعز منا تحت ضوئك أمة
هي بالحياة وبالسيادة أخلق؟
إنا بنوك، وإن سئلت فأمنا
مهد الشموس وعرشهن المعرق
عرش لفاروق العظيم، يزينه
هذا الشباب العبقري المشرق
أميرة الشرق
نظمت هذه القصيدة في العام الأول لميلاد صاحبة السمو الملكي الأميرة المحبوبة «فريال».
يا بشير المنى، أحلم شباب
مر بالنهر، أم غرام جديد؟
أم شدا الأنبياء بالضفة الخضرا
ء أم قام للملائك عيد؟
مهرجان، ممالك الشرق فيه
دعوات، وفرحة، ونشيد
وهتاف بالشاطئين صداه
تتناجى به الملوك الصيد: •••
اسلمي يا أميرة الشرق واحكم
ملك الشرق، ما يشاء الخلود
يوم نادتك باسمك العذب «فريا
ل»: أبى! هلل الزمان السعيد
دمت، أيامك الحسان شباب
ولياليك كلهن سعود
سيرانادا مصرية
أغنية ليالي النيل «للسيرانادا» ذكر مأثور في الموسيقى الإيطالية، وقد اشتهرت في الأدب الأوروبي وخلدتها قصص الحب، وهي عبارة عن أغان ليلية يشدو بها العشاق على معازفهم تحت نوافذ معشوقاتهم ...»
دنا الليل فهيا الآن يا ربة أحلامي
دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي
تعالي، فالدجى وحي أناشيد وأنغام •••
سرت فرحته في الماء، والأشجار، والسحب
تعالي نحلم الآن، فهذي ليلة الحب •••
على النيل، وضوء القمر الوضاح كالطفل
جرى في الضفة الخضراء خلف الماء والظل
تعالي مثله نلهو بلثم الورد والطل •••
هناك على ربا الوادي، لنا مهد من العشب
يلف الصمت روحينا، ويشدو بلبل الحب •••
يطوف بنا على شط من الأضواء مسحور
شراع خافق الظل على بحر من النور
تناجيه نجوم الليل، نجوى الأعين الحور •••
وأنت على فمي ويدي، خيال خافق القلب
تعالي نحلم الآن، فهذي ليلة الحب •••
ليالي الصيف أحلام، تراءت للمحبينا
تغيب الخمر، والساقي، ويبقى سحرها فينا
وهذا كأسها الوهاج صداح بأيدينا •••
فهيا نشرب الليلة، من نبع الهوى العذب
تعالي نحلم الآن، فهذي ليلة الحب
الشواطئ المصرية
صيف عام 1934 على صخور المكس.
حياك أرضا، وازدهاك سماء
بحر شدا صخرا، وصفق ماء
يحبو شعابك في الضحى قبلاته
ويرف أنفاسا بهن مساء
متجدد الصبوات أودع حبه
شتى الأشعة فيك والأنداء
ولع بتخطيط الرمال كأنه
عرافة، تستطلع الأنباء
ومصور لبق الخيال، يصوغ من
فن الجمال السحر، والإغراء
نسق الشواطئ زينة وأدقها
صورا بريا صفحتيه تراءى
يجلو بريشته السماء، وإنما
زادت بريشته السماء جلاء
لا الصبح أوضح من مطالعه بها
شمسا، ولا أزهى سنا وضياء
كلا، ولا الليل المكوكب أفقه
بأغر بدرا، أو أرق سماء
يا رب زاهية الأصيل أحالها
أفقا أحم ولجة حمراء
وكأنما طوت السماء ونشرت
لهبا، وفجرت الصخور دماء
ولرب عاطرة النسيم، عليلة
طالعت، فيها الليلة القمراء
رقصت بها الأمواج تحت شعاعها
وسرت تجاذب للنسيم رداء
حتى إذا ران الكرى بجفونها
ألقت إليك بسمعها إصغاء
تتسمع النوتي تحت شراعه
يشدو، فيبدع في النشيد غناء
هزت ليالي الصيف ساحر صوته
فشجى الشواطئ واستخف الماء
وأثار أجنحة الطيور فحومت
في الأفق حيرى تتبع الأصداء
صور فواتن يا شواطئ صاغها
لك ذلك البحر الصناع رواء
فتنظريه على شعابك مثلما
رجع الغريب إلى حماه وفاء
كم ظل يضرب في صخورك موجه
مما أجن محبة ووفاء
عذرا، إذا عيت بمنطقة اللغى
فهو العيي المفحم الفصحاء
فخذي الحديث عليه واستمعي له
كم من جماد حدث الأحياء
وسليه، كيف طوى الليالي ساهدا
وبلا الأحبة فيك والأعداء
كم ليلة لك يا شواطئ خاضها
والهول يملأ حولك الأرجاء
والسفن مرهفة القلاع كأنما
تطأ السحاب، وتهبط الدأماء
حملت لمصر الفاتحين وطوحت
بالنيل منهم جحفلا، ولواء
ولو استطاع لرد عنك بلاءهم
وأطار كل سفينة أشلاء
أو كان يملك قدرة حشد الدجى
ونضا الرجوم، وجند الأنواء
ودعا غواربه الخفاف فأقبلت
فرمى بها قدرا، ورد قضاء
فاستعرضي سير الحياة ورددي
ما سر من أنبائهن، وساء
وخذي ليومك من قديمك أهبة
ومن الجديد تعلة ورجاء
إيه شواطئ مصر، والدنيا منى
تهفو إليك بنا صباح مساء
ناجيت أحلام الربيع، فأقبلت
وأشرت للصيف الوسيم، فجاء
يحبوك من صفو الزمان وأنسه
ما شئت من مرح الحياة، وشاء
وغدا تضيء على جبينك لمحة
طبع الخلود سماتها الغراء
وترف منه على ثغورك قبلة
أصغى النسيم لها، وغض حياء
فاستقبلي الصيف الجميل، وهيئي
للشعر فيك خميلة غناء
وتسمعي لحن الخيال، وأفردي
لي فوق مائك صخرة بيضاء
واستعرضي حور الجنان، وأطلقي
لغة السماء، وألهمي الشعراء
خيال
عشقنا الدمى وعبدنا الصور
وهمنا بكل خيال عبر
وصغنا لك الشعر، حب الصبا
وشدو الأماني، وشجو الذكر
تغنت به القبل الخالدات
وغنى بإيقاعها المبتكر
وجئنا إليك بملك الهوى
وعرش القلوب، وحكم القدر
بأفئدة، مثلما عربدت
يد الريح في ورقات الشجر
وأنت بأفقك ساجي اللحاظ
تطل على سبحات الفكر
دنوت، فقلنا: رؤى الحالمين،
فلما بعدت اتهمنا النظر
وحامت عليك بأضوائها
مصابيح مثل عيون الزهر
تتبعن خطوك عبر الطريق
كما يتحرى الدليل الأثر
يقبلن من قدميك الخطا
كما قبل الوثني الحجر •••
مشى الحسن حولك في موكب
يرف عليه لواء الظفر
تمثل صدرك سلطانه
كجبار واد تحدى الخطر
بنهدين، يستقبلان السماء
كأنهما يرضعان القمر
تساميت عن لغة الكاتبين
وروعة كل قصيد خطر
سوى شاعر في زوايا الحياة
دعته مباهجها فاعتذر
أكب على كأسه، وانتحى
صدى الليل، في اللحظات الأخر
رنا حيث ترقب أحلامه
خيالك في الموعد المنتظر!
التمثال
قصة الأمل الإنساني في أربعة فصول
الإنسان صانع الأمل، ينحت تمثاله من قلبه وروحه، ولا يزال عاكفا عليه يبدع في تصويره وصقله متخيلا فيه الحياة ومرحها وجمالها، ولكن الزمن يمضي ولا يزال تمثاله طينا جامدا وحجرا أصم، حتى تخمد وقدة الشباب في دم الصانع الطامح، وتشعره السنون بالعجز والضعف فيفزع إلى معبد أحلامه هاتفا بتمثاله، ولكن التمثال لا يتحرك، والحلم الجميل لا يتحقق، وهكذا تجتاح الليالي ذلك المعبد، وتعصف بالتمثال فيهوي حطاما، وهنا يصرخ اليأس الإنساني ويمضي القدر في عمله.
أقبل الليل، واتخذت طريقي
لك، والنجم مؤنسي، ورفيقي
وتوارى النهار خلف ستار
شفقي، من الغمام رقيق
مد طير المساء فيه جناحا
كشراع في لجة من عقيق
هو مثلي، حيران يضرب في اللي
ل ويجتاز كل واد سحيق
عاد من رحلة الحياة كما عد
ت، وكل لوكره في طريق!!
أيهذا التمثال هأنذا جئ
ت لألقاك في السكون العميق
حاملا من غرائب البر، والبح
ر ومن كل محدث، وعريق
ذاك صيدي الذي أعود به لي
لا وأمضي إليه عند الشروق
جئت ألقي به على قدميك الآ
ن في لهفة الغريب المشوق
عاقدا منه حول رأسك تاجا
ووشاحا، لقدك الممشوق! •••
صورة أنت من بدائع شتى
ومثال من كل فن رشيق
بيدي هذه جبلتك، من قل
بي، ومن رونق الشباب الأنيق
كلما شمت بارقا من جمال
طرت في إثره أشق طريقي
شهد النجم، كم أخذت من الرو
عة عنه، ومن صفاء البريق
شهد الطير، كم سكبت أغاني
ه على مسمعيك سكب الرحيق
شهد الكرم، كم عصرت جناه
وملأت الكئوس من إبريقي
شهد البر، ما تركت من الغا
ر على معطف الربيع الوريق
شهد البحر، لم أدع فيه من در
جدير بمفرقيك، خليق
ولقد حير الطبيعة إسرا
ئي لها كل ليلة وطروقي
واقتحامي الضحى عليها كراع
أسيوي، أو صائد إفريقي
أو إله مجنح يتراءى
في أساطير شاعر إغريقي •••
قلت: لا تعجبي فما أنا إلا
شبح لج في الخفاء الوثيق
أنا يا أم، صانع الأمل الضا
حك في صورة الغد المرموق
صغته صوغ خالق يعشق الفن
ويسمو لكل معنى دقيق
وتنظرته حياة، فأعيا
ني دبيب الحياة في مخلوقي!!
كل يوم أقول: في الغد، لكن
لست ألقاه في غد بالمفيق
ضاع عمري، وما بلغت طريقي
وشكا القلب من عذاب وضيق •••
معبدي! معبدي! دجا الليل إلا
رعشة الضوء في السراج الخفوق
زأرت حولك العواصف لما
قهقه الرعد لالتماع البروق
لطمت في الدجى نوافذك الص
م ودقت بكل سيل دفوق
يا لتمثالي الجميل، احتواه
سارب الماء كالشهيد الغريق
لم أعد ذلك القوي، فأحمي
ه من الويل والبلاء المحيق
ليلتي! ليلتي جنيت من الآثا
م حتى حملت ما لم تطيقي
فاطربي واشربي صبابة كأس
خمرها سال من صميم عروقي! •••
مر نور الضحى على آدمي
مطرق في اختلاجة المصعوق
في يديه حطامة الأمل الذا
هب في ميعة الصبا الموموق
واجما أطبق الأسى شفتيه
غير صوت عبر الحياة طليق
صاح بالشمس: لا يرعك عذابي
فاسكبي النار في دمي، وأريقي
نارك المشتهاة أندى على القل
ب وأحنى من الفؤاد الشفيق
فخذي الجسم حفنة من رماد
وخذي الروح شعلة من حريق
جن قلبي فما يرى دمه القا
ني على خنجر القضاء الرقيق!!
دعابة
حلفت بالخمر، والنساء
ومجلس الشعر، والغناء
ورحلة الصيف في أوروبا
وسحر أيامها، الوضاء
رفعت فيها لواء مصر
ورأس مصر إلى السماء
لم أنسكم قط أصدقائي
ولم يحل عنكم إخائي
أحبكم فوق كل حب
وهان في حبكم فنائي •••
فما تظنون في وفي
أربى هواه على الوفاء
إذا احتواه الصعيد ليلا
أو هينمت نسمة المساء
وتاهت «الأقصر» اختيالا
بالغيد في موسم الشتاء
صدفت عنها إلى وجوه
عرفت فيهن أصدقائي
أنتم، وهل لي سوى خيال
يجمعكم بي على التنائي
فانتظروني، ولا تظنوا ال
ظنون، واستمطروا ثنائي!
تاييس الجديدة
«ليلة أول أغسطس سنة 1939 بمدينة زيوريخ على شاطئ بحيرتها إذ احتفل بعيد سويسرا الوطني الأكبر بين المواكب الصاخبة المرحة وأنوار المشاعل والأسهم النارية وأضواء معرضها العظيم.»
روحي المقيم لديك؟ أم شبحي؟
لعبت برأسي نشوة الفرح!
يا حانة الأرواح، ما صنعت
بالروح فيك صبابة القدح
ما للسماء أديمها لهب؟
الفجر؟ إن الفجر لم يلح!
ولم البحيرة مثلما سجرت
أو فجرت من عرق منذبح!
نار تطير، وموكب صخب
من كل ساهي اللحظ منسرح
لولا ابتسامة جارتي، وفم
يدنو إلي بصدر منشرح
لحسبتها «روما» تمور لظى
في قهقهات الساخر الوقح
زهو تملكني، فأذهلني
ومن الذهول طرائف الملح
أأنا الغريب هنا وملء يدي
أعطاف هذا الأغيد المرح؟
خفقت على وجهي غدائرها
فجذبتها بذراع مجترح
لم أدر، وهي تدير لي قدحي،
من أين مغتبقي ومصطبحي
وشدا المغني، فاحتشدت لها
كم للغناء لدي من منح
عرضت بفاكهة محرمة
وعرضت، لم أنطق ولم أبح •••
يا رب، صنعك كله فتن
أين الفرار، وكيف مطرحي!
هذى الروائع، أنت خالقها
ما بين منجرد ومتشح «تاييس» لم تعبث براهبها
لكنه أشفى على البرح
ما بين أسرار مغلقة
وطروق باب غير منفتح
عرض الجمال له فأكبره
ورآك فيه فجن من فرح
أترى معاقبتي على قدر
لولاك لم يكتب ولم يتح؟! •••
إني عبدتك في جنى شفة
ويد، ووجه مشرق الوضح
ولو استطعت، جعلت مسبحتي
ثمر النهود، وجل في السبح
خمرة نهر الرين
ليلة 20 أغسطس مهداة إلى فتاة «برن».
كنز أحلامك، يا شاعر، في هذا المكان
سحر أنغامك طواف بهاتيك المغاني
فجر أيامك رفاف على هذي المجاني
أيها الشاعر، هذا الرين، فاصدح بالأغاني
كل حي وجماد ها هنا
هاتف، يدعو الحبيب المحسنا
يا أخا الروح، دعا الشوق بنا
فاسقنا من خمرة الرين، اسقنا •••
عالم الفتنة، يا شاعر؟ أم دنيا الخيال؟
أمروج علقت بين سحاب، وجبال؟
ضحكت بين قصور كأساطير الليالي
هذه الجنة، فانظر أي سحر وجمال!
يا حبيب الروح يا حلم السنا
هذه ساعتنا، قم غننا
سكر العشاق إلا أننا ...
فاسقنا من خمرة الرين، اسقنا •••
ليلة فوق ضفاف الرين حلم الشعراء
أليالي الشرق يا شاعر؟ أم عرس السماء؟
الدجى سكران، والأنجم بعض الندماء
أنصت الغاب، وأصغى النهر، من صخر وماء
فاسمع الآن البشير المعلنا
حانت الليلة، والفجر دنا
فاملأ الأقداح من هذا الجنى
واسقنا من خمرة الرين، اسقنا •••
ها هم العشاق قد هبوا إلى الوادي خفافا
أقبلوا كالضوء أطيافا وأحلاما لطافا
ملئوا الشاطئ همسا والبساتين هتافا
أيها الشاعر! هذا الرين! فاستوح الضفافا
الصبا، والحسن، والحب هنا
يا حبيبي هذه الدنيا لنا
فاملأ الكأس على شدو المنى
واسقنا من خمرة الرين، اسقنا! •••
يا ابنة «الآر» حديث الأمس ما أعذب ذكره
كان حلما أن نرى الرين وأن نشرب خمره
وشربنا فسكرنا، وأفقنا بعد سكره
ووقفنا لوداع، وافترقنا بعد نظره
أين أنت الآن؟ أم أين أنا؟
ضربت أيدي الليالي بيننا!
غير صوت طاف كالحلم بنا:
اسقنا من خمرة الرين، اسقنا
شاعر مصر
دعوت خيالي فاستجابت خواطري
وحدثني قلبي بأنك زائري
عشية أغرى بي الدجى كل صائح
وكل صدى في هدأة الليل عابر
أقول: من الساري؟ وأنت مقاربي
وأهتف بالنجوى، وأنت مجاوري
أحسك ملء الكون روحا وخاطرا
كأنك مبعوث الليالي الغوابر
ومثل لي سمعي خطاك، فخلتها
صدى نبأ من عالم الغيب صادر
سوى خطرات من بنان رفيقة
طرقت بها بابي فهبت سرائري
عرفتك، لم أسمع لصوتك نبأة
وشمتك، لم يلمح محياك ناظري
أرى طيف معشوق، أرى روح عاشق
أرى حلم أجيال، أرى وجه شاعر •••
إليك ضفاف النيل، يا روح حافظ
فجدد بها عهد الأنيس المسامر
وساقط جناها من قوافيك سلسلا
رخيما كأرهام الندى المتناثر
سرت فيه أرواح الندامى، وصفقت
كئوس على ذكر الغريب المسافر
نجي الليالي القاهريات: طف بها
خيالة ذكرى، أو علالة ذاكر
وجز عالم الأشباح، فالليل شاخص
إليك، وأضواء النجوم الزواهر
وطالع سماء في معارج قدسها
مرحت بوجدان من الشعر طاهر
وسلسلت من أندائها وشعاعها
جنى كرمة لم تحوها كف عاصر
تدفق بالخمر الإلهي كأسها
فغرد بالإلهام كل معاقر
على النيل روحانية من صفائها
ولألاء فجر عن سنا الخلد سافر
فصافح بعينيك الديار فطالما
مددت على آفاقها عين طائر
وخذ في ضفاف النهر مسراك، واتبع
خطا الوحي في تلك الحقول النواضر
حدائق فرعون بدفاق نهرها
وجنته ذات الجنى والأزاهر
وفي شعب الوادي، وفوق رماله
عصي نبي، أو تهاويل ساحر
صوامع رهبان، محاريب سجد،
هياكل أرباب، عروش قياصر
سرى الشعر في باحاتها روح ناسك
وترديد أنفاس، ونجوى ضمائر
وهمس شفاه تثمل الروح عنده
وتسبح في تيه من السحر غامر
هو الشعر، إيقاع الحياة وشدوها
وحلم صباها في الربيع المباكر
وصوت بأسرار الطبيعة ناطق
ولكنه روح، وإبداع خاطر
ووثبة ذهن، يقنص البرق طائرا
ويغزو بروج النجم غير محاذر
فيا درة لم يحوها تاج قيصر
ولا انتظمت إلا مفارق شاعر
تأله فيك القلب واستكبر الحجى
على دعة، من تحتها روح ثائر
إذا اعترض الجبار ضوءك شامخا
تلقيته كبرا ببسمة ساخر
لمست حديد القيد فانحل نظمه
وأطلقت أسرى من براثن آسر
وما زدت في الأحداث إلا صلابة
إذا النار نالت من كرام الجواهر
يزين بك العافي سقيفة كوخه
فتخشع حيرى نيرات المقاصر
أضاعوك في أرض الكنوز، وما دروا
بأنك كنز ضم أغلى الذخائر
وهنت على مهد الفنون، وطالما
سموت بسلطان من الفن قاهر
إذا افتقد التاريخ آثار أمة
أشرت بما خلدته من مآثر •••
سلاما، سلاما، شاعر النيل: لم يزل
خيالك يغشى كل ناد وسامر
وشعرك في الأفواه إنشاد أمة
تغنت بماض واستعزت بحاضر
هتفت بها حيا، فلا تأل خالدا
هتافك، وانفض عنك صمت المقابر •••
صداك، وإن لم ترسل الصوت، مالئ
سماع البوادي والقرى والحواضر
وذكراك نجوى البائسين، إذا هفت
قلوب، وحارت أدمع في المحاجر
يدل عليك القلب أنات بائس
ونظرة محزون، وإطراق سادر
وما أنت إلا رائد من جماعة
توالوا تباعا بالنفوس الحرائر
صحت باديات الشرق تحت غبارهم
على شدو أقلام ولمع بواتر
وفي القمم الشماء، من صرخاتهم
صدى الرعد في عصف الرياح الثوائر
يضيئون في أفق الحياة كأنهم
على شطها النائي منارة حائر
فيا شاعرا غنى فرق لشجوه
جفاء الليالي، واعتساف المقادر
لك الدهر، لا، بل عالم الحس والنهى
خميلة شاد آخذ بالمشاعر •••
فنم في ظلال الشرق، واهنأ بمضجع
ندي بأنفاس النبيين عاطر
ووسد ثراه الطهر جنبك وانتظم
لداتك فيه، فهو مهد العباقر
موت الشاعر
شعراء الشباب: خر عن الأي
كة شاد مخضبا بجراحه
مات في ثغره النشيد وجفت
خمرة الملهمين في أقداحه
ضفة النيل، وهي بعض مغاني
ه صحت تسأل الربى عن صداحه
أين منها صداه في ذروة الفج
ر، وهمس الأنداء حول جناحه
بوغتت بالصباح أخرس إلا
جهشة الشعر، أو شجي نواحه
نبأ جاءني، فأسلم عقلي
لضلال هددته بافتضاحه
لو رماه فم القضاء بسمعي
خلته بعض لهوه ومزاحه •••
فلسفتك الحياة يا حامل المصبا
ح، والأفق مائج بصباحه
صف لنا صرعة الذبال وماذا
قد أصاب الحكيم في مصباحه
شاطئ فوق صدره يفهق المو
ج، وتهوى الصدور تحت رياحه
ضل في جنح ليله زورقي الطا
في، وضاع المجداف من ملاحه
جزته أنت في خطا العاشق البا
سم، يهفو الحنين ملء وشاحه
قم، فقد أقبل الشتاء وأومت
سنبلات الوادي إلى أشباحه
أله من هتافك العذب داع
ينطق الواجمات من أدواحه؟
عبر النهر والنخيل إلى أن
جاء مثوى رقدت في صفاحه
حمل العهد عن قلوب الحزانى
فدعا المعولات من أرواحه
الثلاثون لم تكن عمرك السا
در في فتنة الصبا ومراحه
إنها خفقة الفؤاد، وسهد العي
ن، في حومة العلا وكفاحه
إنها قصة الصديق، ومأسا
ة شهيد مكلل بنجاحه!
الموسيقية العمياء
إذا ما طاف بالأرض
شعاع الكوكب الفضي
إذا ما أنت الريح
وجاش البرق بالومض
إذا ما فتح الفجر
عيون النرجس الغض
بكيت لزهرة تبكي
بدمع غير مرفض •••
زواها الدهر لم تسعد
من الإشراق باللمح
على جفنين ظمآني
ن للأنداء والصبح
أمهد النور: ما للي
ل قد لفك في جنح؟
أضئ في خاطر الدنيا
ووار سناك في جرحي! •••
أرى الأقدار، يا حسنا
ء، مثوى جرحك الدامي
أريها موضع السهم
الذي سدده الرامي
أنيلي مشرق الإصبا
ح هذا الكوكب الظامي
دعيه يرشف الأنوا
ر من ينبوعها السامي •••
وخلي أدمع الفجر
تقبل مغرب الشمس
ولا تبكي على يوم
ك أو تأسي على الأمس
إليك الكون فاشتفي
جمال الكون باللمس
خذي الأزهار في كفي
ك، فالأشواك في نفسي! •••
إذا ما أقبل الليل
وشاع الصمت في الوادي
خذي القيثار واستوحي
شجون سحابه الغادي
وهزي النجم إشفاقا
لنجم غير وقاد
لعل اللحن يستدنى
شعاع الرحمة الهادي! •••
إذا ما سقسق العصفو
ر في أعشاشه الغن
وشق الروض بالألحا
ن من غصن إلى غصن
أتتك خواطري الصدا
حة الرفافة اللحن
تغنيك بأشعاري
وترعى عالم الحسن! •••
إذا ما ذابت الأندا
ء فوق الورق النضر
وصب العطر في الأكما
م إبريق من التبر
دعوت عرائس الأحلا
م من عالمها السحري
تذيب اللحن في جفني
ك، والأشجان في صدري! •••
عرفت الحب يا حوا
ء أم ما زال مجهولا
ألما تحملي قلبا
على الأشواق مجبولا؟
صفيه، صفيه، فرحانا،
ومحزونا، ومخبولا!
وكيف أحس باللوع
ة عند النظرة الأولى؟ •••
ومن آدمك المحبو
ب؟ أو ما صورة الصب؟
لقد ألهمت، والإلها
م، يا حواء، بالقلب
هو القلب، هو الحب
وما الدنيا لدى الحب؟
سوى المكشوفة الأسرا
ر والمهتوكة الحجب؟ •••
سلي القيثار بين يدي
ك أي ملاحن غنى
وأي صبابة سالت
على أوتاره لحنا
حوى الآمال، والآلا
م، والفرحة، والحزنا
حوى الآباد، والأكوا
ن في لفظ وفي معنى! •••
تعالى الحسن، يا حسنا
ء، عن إطراق محسور!
أيشكو الليل في كون
من الأنوار مغمور!
وما جلاه من سوا
ه إلا توأم النور؟
وما سماه إذ نادا
ه غير الأعين الحور؟
النهر الظامئ
الموكب التاريخي السائر برفات الزعيم الخالد سعد زغلول إلى ضريحه الجديد.
طال انتظارك بين اليأس والأمل
يا كعبة المجد، حيي موكب البطل
هذا المآب المرجى شقة قصرت
وغربة عن ثراك الطهر لم تطل
يا لهفة القوم، هل ضجوا لرؤيته
وجددوا العهد من أيامه الأول؟
تدفق النهر من أقصى منابعه
لهفان يسبق لمع البارق العجل
يثور تياره العاتي فيسأله:
أي الأساطير من ماضي، خيل لي؟
وأي مضطرب في ضفتي مشت
فيه الملايين من ساع ومحتفل
أعودة الثائر المنفي من سفر
لا يبلغ الوهم منه مفرق السبل؟
بل الشهيد المسجى في لفائفه
ضنوا عليه بقبر الهانئ الجذل!
ما أشبه اليوم بالأمس الذي نسلوا
فيه على صعقات الحادث الجلل
هذا الرفات تراث المجد في وطن
لواؤه عن ركاز المجد لم يمل
أغلى الذخائر من ميراث نهضته
رفات مستشهد في الحق مقتتل
مشى إليك به التاريخ فاستلمي
معاقد الغار من فوديه، واقتبلي
حان اللقاء فما أعددت من كلم
وما ادخرت من الأشواق والقبل؟
فاستشرفي النصر واستدني مطالعه
هذا بشير الهدى والحب والأمل •••
عواهل النيل أم أشباحهم عبروا
من ضفة النهر ملء السهل والجبل
مروا خفافا على الوادي كأنهم
مواكب السحب البيضاء في الطفل
وفي أساريرهم ذكرى، وأعينهم
أسرار ماض على الأحقاب منسدل
يستغفرون ليوم مر، ما لهم
يد به، جل فرعون عن الغيل
ما كان من يسلب الموتى مضاجعهم
رب الصوالج والتيجان والدول
حيوا بأرواحهم سعدا ولو ملكوا
نبض الوتين مشوا في المشهد الحفل •••
يا صاحب الخلد كم للروح معجزة
وكم تمثل روح الخلد في رجل
لم ينته الوحي والسحر الحلال، ولم
تخل الحياة من الرواد والرسل
ومن دم الشهداء الباعثين به
جيلا من الحق أو دنيا من الأمل
ولم يزل لك صوت كلما شرعوا
لهاذم البغي ثناها على خجل
وطاف بالمدفع الداوي فأخرسه
والنار في صدره تصطك من وجل
لواؤك الضخم ما زالت مواكبه
تترى، وراياته حمراء كالشعل
يمشي على قدم جبارة هزأت
بالصخر والموج، والنيران، والأسل
هذا طريقك للبيت الذي ألفت
خطاك بالأمس، فاسلكه على مهل
انظر إليه، فما حالت معالمه
ما للزمان بما خلدت من قبل!!
أساله اليوم جرحا لو مضت حقب
لظل في جنب مصر غير مندمل
فليلق أروع ما أبدعت من خطب
جلالك الأبدي، المفرد المثل •••
وعش، كما أنت معنى في ضمائرنا
لا ينتهي وحيه يوما إلى أجل
وصورة سمحة الإشراق ملهمة
أرق من خطرات الشاعر الغزل
ذكراك في الدهر أعمار مخلدة
حياة محتشد الأمجاد متصل
يطالع الناس منها، أينما اتجهوا
شعاع كوكبك الوقاد في الأزل
مأساة رجل
ماذا تركت بعالم الأحياء
وأخذت من حب ومن بغضاء
لك بعد موتك ذكريات حية
جوابة الأشباح والأصداء
هتكت حجاب الصمت عنك وربما
هتكت غشاء المقلة العمياء
فرأت مخايل وادع متواضع
في صورة من رقة وحياء
متطامن النظرات إلا أنها
نفاذة لمكامن الأهواء
متفرسات في سكينة قانص
لم يخل من حذر وفرط دهاء
شيخ أطل على الشتاء وقلبه
متوقد كالجمرة الحمراء
مر الرفاق به، فشيع ركبهم
وأقام فردا في المكان النائي
وطوى الحياة كدوحة شرقية
أمست غريبة تربة وسماء
لبست جلال وحادها وترفعت
بالصمت عن لغو وعن ضوضاء
لم تنزل الأطيار فيء ظلالها،
أو تبن عشا، أو تحم بغناء
حتى إذا عرى الخريف غصونها
من وشي تلك الحلة الخضراء
عبرت بها صداحة في سجعها
لغة الهوى ورطانة الغرباء
وا رحمتا للنسر يخفق قلبه
بصبابة القمرية البيضاء
هي لمعة القبس الأخير وقد خبا
نجم المساء ورعشة الأضواء
وتوثب الروح الحبيس وقد شدا
ثملا بسحر الليلة القمراء
وجناية الحسن الغرير إذا رمى
فشريق دمع، أو غريق دماء
ومهاجر ضاقت به أوطانه
وتأثرته مخاوف الطرداء
لم تثنه شيخوخة مكدودة
دون السفار ولا صقيع شتاء
متطلب حق الحياة لخافق
أمسى مهيض كرامة وإباء
من كان في أمس يسوس أمورهم
ضنوا عليه بفرحة الطلقاء
يقضون باسم المال فيه كأنما
ضمنوا لمصر مصادر الإثراء
هلا قضوا لمقاصف ومصارف
مفغورة، منهومة الأحشاء
أكلت دم الفلاح ثم تكفلت
بحصاد حنطته، وجلد الشاء
حب بلوت به العذاب، ومثله
مقة السياسة وهي شر بلاء
عصفت بأحلام الرجال وسفهت
رأي اللبيب، ومنطق الحكماء
كم فوق ساحلها خطا مطموسة
كانت سبيل هداية ورجاء
وسفينة مهجورة، محطومة
حملت لها البشرى طيور الماء
أين اللواء؟ وربه؟ وجماعة
كانوا طليعة موكب الشهداء؟
وأخو يراع في الصفوف مدافع
بيدي حواري، وصدر فدائي؟
لم ينصفوا حتى ببعض حجارة
خرساء ماثلة لعين الرائي!
ومضوا، فما وجدوا كفاء صنيعهم
تمثال حب، أو مثال وفاء
تأبى السياسة غير لون طباعها
وتريد غير طبائع الأشياء
قالوا: أحب الإنكليز وزادهم
ود الحميم وموثق القرناء
ها قد أتى اليوم الذي صاروا به
أوفى الدعاة وأكرم الحلفاء
بتنا نغاضب من يغاضبهم ولا
نأبى رعايتهم على الضراء
رأي أخذت به وليس بعائب
ذمم الرجال مآخذ الآراء
لكن سكت، فقيل: إنك عاجز
عن رد عادية ودفع بلاء
صمت تحير فيه كل محدث
والصمت بعض خلائق الكرماء
في عالم ينسي الحليم وقاره
ويري البنين عداوة الآباء
وترى التوائم فيه بين عشية
متنافرات طبيعة ورواء
جهد الكرام به افترار مباسم
وتكلف في القول والإصغاء
صور عرفت لبابها ولحاءها
فكأنما خلقت بغير لحاء •••
قد كنت تخلص لي الوداد فهاكه
شعرا يصون مودة الخلصاء
يجد الرجال به على حسناتهم
مدحي، وعن هنواتهم إغضائي
فاصعد لربك فهو أعدل حاكم
وهو الكفيل برحمة وجزاء
وتلق من حكم الزمان وعدله
ما شاء من نقد ومن إطراء
صدى الوحي
بيانك من نبع الجمال المخلد
صدى الوحي في أسلوبه المتجدد
سرى لحنه في كل قلب كأنما
شدا الحب في ناي الربيع المغرد
غريبا على الأسماع وهو كعهده
قديم على ثغر الزمان المردد
إلى جبل النور انتهى سر وحيه
وما هو إلا ملهم اليوم والغد
فغن به الأجيال، واهتف بآيه،
ترنم شاد، أو تراتيل منشد
وأرسله سمحا من قريحة شاعر
يعيش بروح الصيدحي المجدد •••
عوالم شتى من جلال، وروعة
حواها فؤاد الكاتب المتعبد
ذكرت، وللذكرى حديث محبب
وقد زرته ليلا، على غير موعد
ولليل إصغاء، وللريح حوله
رفيف، كهمس الروح في ظل معبد
وقد هدأ المصباح، إلا مجاجة
من النور، في عيني أديب مسهد
ترامى وراء الأفق حينا، وتنثني
ببارقة من ذهنه المتوقد •••
فحييته همسا، فحيا، وصافحت
يداه يدي في رقة وتودد
وشاع جلال الصمت بيني وبينه
فأمعن إمعان الخيال المشرد
وأمسيت أرعاه، فلاحت لخاطري
ملائك بالنجوى تروح وتغتدي
تسر إليه القول في غير منطق
بأجنحة تهفو على غير مشهد
على صحف غر الحواشي كريمة
جرى قلم عف السريرة واليد
نبيل مرامي القول في كف كاتب
دعاه فلباه لأنبل مقصد
يخط لروحانية الشرق سيرة
هي الحق في دنيا الجمال المجرد
تمثلها في صورة قرشية
يشيع الرضا في طيفها المتجسد
يبث سناها الأرض حبا، ورحمة
ويطوي هداها سطوة المتمرد
حياة نمت مجد الحياة وغيرت
وجوه الليالي من وضيء وأربد
تنادى بها الراءون، فاعجب لما رأوا
جلال نبي، في تواضع مرشد
تسامى عن الدنيا وفيها لواؤه
يطوف بسلطان العزيز المؤيد
فما ضفر الأكليل يوما بمفرق
ولا حل منه التاج يوما بمعقد
أحب إليه حين يفترش الثرى
ويأوي لجذع النخلة المتأود
ويخصف نعليه، وطوع يمينه
مصاير هذا العالم المترغد
ويمضي إلى الهيجاء غرثان صاديا
فلله دنيا ذلك الساغب الصدي
ولكنه دين أفاء ظلاله
على ملأ من شيعة الله سجد
عفاة، كأن لم يملكوا قوت يومهم
وهم جبهة الملك العريض الموطد
محوا لفظة الأرباب من كلماتهم
فما عرفوا معنى مسود وسيد
هو المثل الأعلى ومبعوث أمة
بناها بناء المعجز المتفرد •••
محمد، ما شعري إليك وما يدي؟
وما الشعر من إبداعك المتعدد؟
ولكنه حوض الشفاعة ضمنا
على خير ميعاد وأعذب مورد
نماني إقليم نماك، وأطلعت
سماءك شمس أطلعت فجر مولدي
فإن أشد بالمجد الذي شدت ركنه
فما هو إلا ركن قومي وسؤددي
محمد: ما أرضيك بالشعر مدحة
فحسبك مرضاة النبي محمد
العشاق الثلاثة
«إلى أدعياء الحكمة والمعرفة.»
سرى القمر الوضاح بين الكواكب
يفكر فيما تحته من غياهب
فناداه من وادي الخليين هاتف
بصوت محب في الحياة مقارب
يقول له: يا روعة الحسن والصبا
وأجمل أحلام الليالي الكواعب
أنا العاشق الوافي إذا جنني الدجى
وراعيك بين النيرات الثواقب
ألا ليتني حر كضوئك أرتقي
عوالمك الملأى بشتى العجائب
ويا ليت لي كنز ابتساماتك التي
تبعثرها في الكون من غير حاسب! •••
فأصغى إليه الضوء في صفو جذلان
وأضفى على الوادي شعاع حنان
وجاس خلال السحب والماء والثرى
فلم ير في أنحائها وجه إنسان
فصاح به: يا صاحبي ضل ناظري
فأين ترى ألقاك أم كيف تلقاني؟
فأوما له إني هنا تحت شرفتي
وراء زجاجيها أخذت مكاني
أبى البرد أن أستقبل الليل قائما
وأن أنزل الوادي بحيث تراني
وحسب الهوى من عاشق لك وامق
تزود عيني من سنا ضوئك الحاني! •••
فألقى عليه الضوء نظرة حائر
وأعرض عنه بابتسامة ساخر
وقال له: يا صاحبي قد جهلتني
ويا رب شعر ساقه غير شاعر
أنا الموثق المكدود طالت طريقه
طريق أسير في رعاية آسر
تجاذبني طاحونة الشمس كلما
وقفت، وتمضي بي سياط المقادر
وما بسمتي إلا دموع من اللظى
قد التمعت في وجه سهمان حاسر
فدع عنك يا أعجوبة الحب عالمي
فقبلك لم يلق الأعاجيب ناظري! •••
وأمعن في تفكيره القمر الزاهي
فمر بأرض ذات عشب وأمواه
يناجيه منها عاشق ذو ضراعة
مناجاة صوفي لطيف إله
يقول له: يا مشهدي كل ليلة
جمال محيا رائع الحسن تياه
شبيه بهذا الضوء نور جبينه
على أنه في الناس من غير أشباه
وترسم لي الأشباح طيف خياله
فأدنو لضم أو للثم شفاه
تمنيت لو وسدت خدك راحتي
وصدرك خفاق، وجفنك ساهي •••
فرف على الوادي الشعاع طروبا
وناداه من بين الظلال مجيبا
أزح هذه الأغصان عنك لعلني
أصافح وجها، من هواك حبيبا
فجاوبه: يا قرة العين إنني
قد اخترت من شط الغدير كثيبا
إذا أتعبت عيني السماء تطلعا
وخالست لحظا للنجوم مريبا
ففي صفحات الماء نهزة عاشق
يراك على بعد المزار قريبا
خلوت به، أرعاك أوفى قسامة
وأوفر من سحر الجمال نصيبا! •••
فغاض ابتسام الضوء من فرط حيرة
وصاح: نجيي أنت حقرت سيرتي
هو الكون مرآتي، ومجلى مفاتني
وما لغدير أن يمثل صورتي
وما نظر العشاق إلا لعالم
يعظم في المعشوق كل صغيرة
أعيذ الذي شبهتني بجماله
أديم محيا مثل صماء صخرتي
أنا الفحمة البيضاء إن جنني الدجى
أنا الحمة السوداء، رأد الظهيرة
فدع عالم الأفلاك واقنع بلجة
وغازل من الأسماك كل غريرة! •••
وبينا يهيم الضوء في سبحاته
وقد غط هذا الكون في سخرياته
رأى شبحا في قرب نار كأنما
يودع طيفا غاب عن نظراته
يمد ذراعيه، ويرسل صوته
بلوعة قلب ذاب في نبراته
إلى القمر الساري محياه شاخص
كصاحب نسك غارق في صلاته
فحام عليه الضوء واستمهل الخطا
وأجرى سناه الطلق في قسماته
وصاح به: يا شيخ ما أنت قائل
تكلم! فإن الليل في أخرياته •••
فقال له: يا باعث الحب والمنى
سلمت وحيتك العوالم والدنى
شفيت جوى شيخ أحبك يافعا
وعاش بهذا الحب جذلان مؤمنا
وأفنيت عمري أرتقي عالي الذرا
إلى أن بلغت اليوم مثواي ها هنا
وأوقد ناري كي تراني وأنثني
لأطلق ألحاني، وأدعوك موهنا
وقيل: ضنين لا يجود بوصله
فهأنذا ألقاك يا ضوء محسنا
تساوت كلاب تنبح البدر ساريا
ونوام ليل أنكروا آية السنا! •••
فحدق فيه الضوء وارتد مغضبا
وقال له: أفنيت في سخفك الصبا
ولما ترح جفنا من السهد متعبا
وسخرية بالنار، أن تتقربا
كأن شعاعي في جفونك قد خبا
ومن عبث مثواك في هذه الربا
على حين لم تبلغ من النور مرقبا
وما كنت إلا الواهم المترقبا
وثالث عشاق بهم ضقت مذهبا
وكانوا لأمثال الخليين مضربا
فوا أسفاه، ما كنت في الدهر مذنبا
فأجزى بنجوى من تعشق أو صبا
وساق على حبي الدليل المكذبا
سل العاصي الهاوي من الخلد هل نبا
به الليل لما آثر الأرض واجتبى؟
أأبصر قبلي في الدجنة كوكبا
أضاء له الدرب السحيق المشعبا
وهل في سنا غيري تملى وشببا
بحواء واهتاج اليراع المثقبا
حويتهما روحا طريدا معذبا
فذاب حيائي منهما، وتصببا
وأورثني هذا الشحوب، وأعقبا
رأيت فما يدنو، ووجها تخضبا
وصدرا خفوقا فوق صدر توثبا
غرائز فيها الغي والنقص ركبا
تلمس في ضوئي الأثام المحببا
فيا شيخ دع هذا الوشاح المذهبا
تر الحمأ المسنون في الكأس ذوبا
طفا الراح فيه، والتراب ترسبا
وإن كلاب الأرض أشرف مأربا
ينير لها ضوئي الظلام لتجنبا
خطى اللص يستار الطريق المحجبا
فإن نبحت ضوئي، تسمعت معجبا
بأرخم لحن، رن في الليل مطربا
تحية مثن بي أهل مرحبا
بني آدم، إن لم يكن آدم الأبا
رجوت لكم من عالم الرجس مهربا
وآثرتكم بالكلب جدا مهذبا
وأجمل بالإنسان أن يتكلبا •••
ومال عن الأرض الشعاع وغربا
ووسوس في صدر الدجى فتألبا
زهر وخمر
1943
الإهداء
إلى صاحب القلم الشاعر، والبيان الساحر صديقي الكاتب الجليل الأستاذ أحمد حسن الزيات.
ذكرى أول لقاء على ضفاف المنصورة، منذ عشرين عاما في مستهل ربيع باسم.
علي محمود طه
ليالي كليوبترا
كليوبترا! أي حلم من لياليك الحسان
طاف بالموج فغنى وتغنى الشاطئان
وهفا كل فؤاد وشدا كل لسان
هذه فاتنة الدنيا وحسناء الزمان
بعثت في زورق مستلهم من كل فن
مرح المجداف يختال بحوراء تغني
يا حبيبي، هذه ليلة حبي
آه لو شاركتني أفراح قلبي! •••
نبأة كالكأس دارت بين عشاق سكارى
سبقت كل جناح في سماء النيل طارا
تحمل الفتنة والفرحة والوجد المثارا
حلوة صافية اللحن كأحلام العذارى
حلم عذراء دعاها حبها ذات مساء
فتغنت بشراع من خيالش الشعراء
يا حبيبي، هذه ليلة حبي
آه لو شاركتني أفراح قلبي! •••
وتجلى الزورق الصاعد نشوان يميد
يتهداه على الموج نواتي عبيد
المجاديف بأيديهم هتاف ونشيد
ومصلون لهم في النهر محراب عتيد
سحرتهم روعة الليل فهم خلق جديد
كلهم رب يغني وإله يستعيد
يا حبيبي، هذه ليلة حبي
آه لو شاركتني أفراح قلبي! •••
اصدحي، أيتها الأرواح، باللحن البديع
امرحي، يا راقصات الضوء، بالموج الخليع
قبلي، تحت شراعي، حلم الفن الرفيع
زورقا بين ضفاف النيل في ليل الربيع
رنحته موجة تلعب في ضوء النجوم
وتنادي بشعاع راقص فوق الغيوم
يا حبيبي، هذه ليلة حبي
آه لو شاركتني أفراح قلبي! •••
ليلنا خمر وأشواق تغني حولنا
وشراع سابح في النور يرعى ظلنا
كان في الليل سكارى، وأفاقوا قبلنا
ليتهم قد عرفوا الحب فباتوا مثلنا
كلما غرد كأس شربوا الخمرة لحنا
يا حبيبي، كل ما في الليل روح يتغنى
هات كأسي، إنها ليلة حبي
آه لو شاركتني أفراح قلبي! •••
يا ضفاف النيل بالله ويا خضر الروابي
هل رأيتن على النهر فتى غض الإهاب
أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب
سابحا في زورق من صنع أحلام الشباب؟
إن يكن مر وحيا من بعيد أو قريب
فصفيه، وأعيدي وصفه، فهو حبيبي!
يا حبيبي، هذه ليلة حبي
آه لو شاركتني أفراح قلبي! •••
أنت يا من عدت بالذكرى وأحلام الليالي
يا ابنة النهر الذي غناه أرباب الخيال
وتمنت فيه لو تسبح ربات الجمال
موجه الشادي عشيق النور، معبود الظلال
لم يزل يروي، وتصغي للروايات الدهور
والضفاف الخضر سكرى، والسنا كأس تدور
حلم لم تروه ليلة حب
فاذكريه، واسمعي أفراح قلبي!
ميلاد زهرة
إلى الطيور النائمة في أعشاشها قبيل فجر شتاء.
يا شعراء الروض أين البيان؟
أين أغاريد الهوى والحنان؟
قد ولدت في روضكم زهرة
يا حسنها بين الزهور الحسان!
حلم الفراشات، وحب الندى
وخمرة النحل، وسحر الأوان
قد بشر الأرض بها مرسل
مجنح من نسمات الجنان
والنور سر في ضمير الدجى
والفجر طيف لم يبنء للعيان
أبصرتها تهفو على غصنها
في وحشة الليل وصمت المكان
بيضاء، أو حمراء، تزهى بها
عرائس النرجس، والأقحوان
تظل تصغى، وتظل الربى،
والعشب، والجدول، والشاطئان
وليس منكم حولها هاتف
تسكب موسيقاه سحر البيان
هل ملت الخمرة أقداحكم؟
أم نضبت من خمرهن الدنان
قوموا انظروا الظل على مهدها
يرقص فيه القمر الأضحيان
لو تقدر الأنسام زفت لها
أربعة الفردوس في مهرجان
وأسمعت من خفق أنفاسها
صوت البشيرات، وشدو القيان •••
يا شعراء الروض كم زهرة
ميلادها من حسنات الزمان
حسبي من الدنيا على شدوكم
زهر، وخمر، ووجوه حسان
حانة الشعراء
هي حانة شتى عجائبها
معروشة بالزهر والقصب
في ظلة باتت تداعبها
أنفاس ليل مقمر السحب
وزهت بمصباح جوانبها
صافي الزجاجة راقص اللهب «باخوس» فيها وهو صاحبها
لم يخل حين أفاق من عجب
قد ظنها، والسحر قالبها،
شيدت منض الياقوت والذهب •••
إبريقه حلي من الدرر
يزهى به قدح من الماس
وكأن ما حوليه من صور
متحركات ذات أنفاس
تركت مواضعها من الأطر
ومشت له في شبه أعراس
منهن عازفة على وتر
متفجر بأرق إحساس
وغريرة حوراء كالقمر
تحنو على شفتيه بالكاس •••
أوتلك حانته؟ فوا عجبا!
أم صنع أحلام وأهواء؟
ومن الخيال أهل واقتربا «فينوس» خارجة من الماء!
في موكب يتمثل الطربا
ويميل من سحر وإغراء
وبكل ناحية فتى وثبا
متعلقا بذراع حسناء
يتوهجون صبابة وصبا
يتمثلون غريب أزياء •••
حمر الثياب تخال أنهمو
يفدون من حانوت قصاب!
جلسوا نشاوى مثلما قدموا
يترقبون منافذ الباب
يتهامسون، وهمسهم نغم
يسري على رنات أكواب
إن تسأل الخمار، قال: همو
عشاق فن، أهل آداب
لولا دخان التبغ خلتهمو
أنصاف آلهة وأرباب •••
من كل مرسل شعره حلقا
وكأنها قطع من الحلك
غليونه يستشرف الأفقا
ويكاد يحرق قبة الفلك
أمسى يبعثر حوله ورقا
فكأنه في وسط معترك
فإذا أتاه وحيه انطلقا
يجري اليراع بكف مرتبك
ويقول شعرا كيفما اتفقا
يغري ذوات الثكل بالضحك ••• «باخوس» يروي عن غرائبهم
شتى أحاديث وأنباء
قصص تداول عن صواحبهم
وعن الصبايا فتنة الرائي
وعن الخطيئة في مذاهبهم
بدأت بآدم أم بحواء
والملهمات إلى جوانبهم
يكثرن من غمز وإيماء
يعجبن من فعل الشراب بهم
ويلذن من سأم بإغفاء •••
وتلفتوا لما بدا شبح!
فنانة دلفت من الباب
سمراء بالأزهار تتشح
ألقت غلالتها بإعجاب
ومشت تراقصهم فما لمحوا
إلا خطى روح وأعصاب
وسرى بسر رحيقه القدح
في صوت شاجي اللحن مطراب
وشدا بجو الحانة الفرح
لإلهة فرت من الغاب •••
هي رقصة وكأنها حلم
وإذا «بفينوس» تمد يدا
الكأس فيها وهي تضطرم
قلب يهز نداؤه الأبدا:
زنجية في الفن تحتكم؟
قد ضاع فن الخالدين سدى!
فأجابت السمراء تبتسم:
الفن روحا كان؟ أم جسدا؟
يا أيها الشعراء ويحكم
الليل ولى والنهار بدا!
سارية الفجر
عبرت بي في صباح باكر
فتنة العين وشغل الخاطر
شعرها الأشقر فيه وردة
لونها من شهوات الشاعر
ورشيقات الخطى في وقعها
منبئاتي بشباب ساحر
وبعينيها رؤى حائرة
بين أسرار مساء غابر
صورت من حاضر العيش، ومن
أمسها، قصة حب عاثر •••
قلت، والفجر سنا ياقوتة
لألأت خلف السحاب الماطر:
هذه الساعة تسعى امرأة
حين لم يخفق جناح الطائر!
من تراها؟ وإلى أين؟ ومن
أي خدر طلعت أو سامر؟
تقطع الإفريز من ناحيتي
كأسير هارب من آسر
تتقي الأعين أن تبصرها
وهي لا تألو التفات الحائر
لا تبالي بلل الثوب، ولا
لفحة البرد الشفيف الثائر
أو تبالي قدماها خاضتا
مسرب الماء الدفوق الهامر •••
أنت، يا سارية الفجر، اسمعي
دعوة الروح البريء الطاهر
مر بي مثلك لم يشعرنني
غير إشفاق الحفي الناصر
وأنا الشاعر، قلبي رحمة
لفريسات القضاء الجائر
إن نأت دارك، يا أخت، فما
بعدت دار الغريب العابر
شاطريني ذلك المأوى، فما
أتقاضاك وفاء الشاكر
غرفة، آلهة الفن بها
تتلقاك لقاء الظافر
وتغنيك نشيدا مثله
ما تغنت لحبيب زائر •••
هات كفيك ولا تضطربي!
لا تخالي ريبة في ناظري!
سوف يئويك جدار ساخر
من أباطيل الزمان الساخر
سوف يحويك فراش صامت
لك فيه همسات الذاكر
سوف يطويك سكون لم يشب
صفوه لغو محب غادر
وأناديك، وأستدني يدا
لمست روحي، وهزت خاطري
وأحييك، وأستحيي فما
حقه قبلة رب غافر!!
أغنية الحب
قال الشاعر الألماني هنريخ هايني:
أيها الصحب هذا زمن الحب، فلنرفع الكؤوس، فالربيع المرح يجعلنا جميعا إخوانا، ها هو ذا الحب البهيج، وأنت أيتها الشمس، أتصوبين شعاعك؟ فلنذهب لنقطف فرحين الأعناب الناضرة.
وقلت في هذا المعنى:
يا رفاقي، هذه السا
عة من حلم الزمان
إن هذا زمن الح
ب، فضجوا بالأغاني
ارفعوا الأقداح ملأى
واشربوا نخب الحسان
فالربيع السمح يدعو
كم إلى أقرب حان! •••
الربيع المرح الجذ
لان يختال فخورا
إنه الحسن الذي يم
لأ بالحب الصدورا
كيف لا نقطف منه ال
ثمر الحلو النضيرا!
أنت، يا أيتها الشم
س، املئي الآفاق نورا! •••
يا رفاقي، قد دعانا
زمن الحب، فهيا
أطلع الروض جنى الكر
مة والزهر النديا
اقطفوا الأزهار منه
واعصروا الكرم الجنيا
يا رفاقي، قد دعانا
زمن الحب، فهيا!!
حديث قبلة
تسائلني حلوة المبسم:
متى أنت قبلتني في فمي؟
تحدثت عني، وعن قبلة
فيا لك من كاذب ملهم!
فقلت أعابثها: بل نسيت،
وفي الثغر كانت، وفي المعصم
فإن تنكريها فما حيلتي؟
وها هي ذي شعلة في دمي
سلي شفتيك بما حستاه
من شفتي شاعر مغرم
ألم تغمضي عندها ناظريك؟
وبالراحتين، ألم تحتمي؟
هبي أنها نعمة نلتها
ومن غير قصد، فلا تندمي!
فإن شئت أرجعتها ثانيا
مضاعفة للفم المنعم •••
فقالت، وغضت بأهدابها:
إذا كان حقا، فلا تحجم
سأغمض عيني كي لا أراك
وما في صنيعك من مأثم
كأنك في الحلم قبلتني
فقلت: وأفديك أن تحلمي!!
خمرة الشاعر
ربتي، ربة أشعا
ري، وحبي، وغنائي
هي حورية غاب
لم تبن للشعراء
وعروس من بنات ال
جن لم تبد لرائي
مثلها لم ير صيا
د على صفحة ماء
فتنة الشاعر في وح
دته كل مساء
غنت الأحلام في غر
فته لحن اللقاء
وسرت ترقص حولي
ه على خفق الهواء
ورفيف السحب والأن
جم والشهب الوضاء
ولغيري لم تكن تخ
طر في هذا الرواء
لا، ولم ترو كهذا ال
لحن في هذا الصفاء
وليالي الصيف منها
كأماسي الشتاء
بت أسقيها وتسقي
ني على محض الوفاء
خمرة ما قبلت غي
ر شفاه الأنبياء
خمرة في الغيب كانت
قطرات من ضياء
ختمت بالشفق الور
دي في أصفى إناء
جبلت فخارتاه
من صفاء ونقاء •••
حدثوا عنها، وما أح
لى حديث الندماء
قال منهم واحد في
غير زهو وادعاء:
هذه الخمرة كانت
لملوك أتقياء
عصروها من جنى الر
بات في فجر شتاء •••
ثم آلت لغلام
رائع جم الذكاء
شره النظرة، عربي
د، شديد الغلواء
عشق البحر وعاف ال
قصر مرفوع البناء
ومضى يضرب في الكو
ن على غير اهتداء
عاش كالقرصان يطوي
كل بحر وفضاء
بشراع صنعه إح
دى أعاجيب الخفاء
غزلا يملك بالشع
ر مقاليد النساء
كلما هام بأنثى
أو صبا بعد اشتهاء
وشكا الكأس إليه
طول هجر وجفاء
هم أن يشرب فارتد،
فأغضى في حياء
ضن بالقطرة منها،
وكذا شرع الولاء
ومضى جيل وجيل،
وهو مشبوب الدماء
ضاربا في العاصف الثا
ئر والريح الرخاء
وأتاه القدر السا
خر أو حكم القضاء
فدعا الربات واستص
رخ، من فرط عياء
فأتته ربة الشع
ر على رغم التنائي
قال إن مت فما أج
در مثلي بالرثاء
ورثاء منك يحيي
ني علي رغم الفناء
وحباها سره الخا
لد أو سر البقاء
هامسا، والنور في نا
ظره وشك انطفاء:
لك ما استودعت أو ما
صنت في هذا الإناء
لا تذودي عنه معشو
قك، يا بنت السماء
إنه ملاح بحر
ما له من نظراء
فيه أحيا، وبه أن
شر في البحر لوائي •••
هذه خمرة أشعا
ري، وحبي، وغنائي
في قصيد محدث، أو
في حديث القدماء
زهراتي
طال انتظاري ومضى موعدي
وأنت مثلي ترقبين المساء
كم لك عندي في الهوى من يد
يا زهراتي، أنت رمز الوفاء •••
يا زهراتي ، ويك لا تسأمي
ولا يرعك الزمن الدائر
لا تطرقي، وابتهجي، وابسمي
عما قليل يقبل الزائر •••
عما قليل سوف تلقينه
أجمل ما تصبو إليه العيون
يطرق بابي معلنا أنه
كل اصطبار في هواه يهون •••
أقول: هل أبطأ في خطوه
أم هل ترى أخطأ ميعاده؟
أم ضللته، وهو في لهوه
أرجاء حي قبل ما ارتاده؟ •••
تعللي مثلي، وقولي: لعل!
أم أنت لا تدرين سر الغرام؟
ما أنت إلا بسمات الأمل
إن خيم الصمت وساد الظلام •••
كم أخوات لك شاطرنني
فجر لقاء رائع المطلع
وكم مساء فيه سامرنني
وبتن فيه ساهرات معي! •••
يا حسنها فيهن من زهرة
ظنت جفوني بالكرى مثقلات
مست جبيني، وهي في حيرة
كأنما توقظني من سبات •••
ساهرة تخفق أوراقها
على فمي آنا، وآنا يدي
كأن أشواقي أشواقها
أو أنها صاحبة الموعد! •••
خلا بنا، يا زهراتي، المكان
وزايل الشرفة ضوء القمر
أليلة ما مر؟ أم ليلتان؟
ابقي معي حتى يلوح السحر •••
سألتك الحب وعهد الوفاء
يا زهراتي لا تملي البقاء
ما زال عندي أمل في اللقاء
وإن مضى اليوم، وحل المساء •••
خلف زجاج الباب طيف سرى
يدنو إلى بابي من السلم
خف له قلبي وما صورا
غير ذراعي شبح مبهم •••
أظل أرنو نحوه مرهفا
سمعي، وما يكذبني ناظري
يا حسرتا، ما لاح حتى اختفى
وزال مثل الحلم العابر •••
وكم خطى أحسستها في دمي
أقول: قد جاء وهذي خطاه
أصغي وأحصي درج السلم
لكنه يمضي، وينأى صداه •••
يا زهراتي كم حديث لنا
عن موعد في ليلة أو نهار
يعجب منا كل ما حولنا
أما سئمنا بعد طول انتظار؟ •••
ناشدتك الحب فإن تؤثري
جددت أسمارك في مخدعي
فانسي مواعيد الهوى، واذكري
أي فتى، في الحب، لم يخدع!
من قارة إلى قارة
طارق بن زياد في طريقه إلى الأندلس
ذاع حديث موانئ الغزو في بدء هذه الحرب، ولعل أعظم وأروع هذه الغزوات في الحروب القديمة بدأت من «طنجة» الميناء الأفريقي الذي خرج منه القائد العربي العظيم «طارق بن زياد» في أسطول يقل اثني عشر ألف محارب منذ أكثر من ألف ومائتي عام، وسار به إلى الصخرة الشماء التي نزل بها جيشه الفاتح، وسميت باسم ذلك القائد العظيم الذي أتاحت له عبقريته الحربية في هذه الغزوة نصرا منقطع النظير في أجمل وأغنى وأقوى بقاع القارة الأوروبية وهي الأندلس.
أشباح جن فوق صدر الماء
تهفو بأجنحة من الظلماء؟
أم تلك عقبان السماء وثبن من
قنن الجبال على الخضم النائي؟
لا، بل سفين لحن تحت لوائه
لمن السفين ترى، وأي لواء؟
ومن الفتى الجبار تحت شراعها
متربصا بالموج، والأنواء
يعلي بقبضته حمائل سيفه
ويضم، تحت الليل، فضل رداء
وينيل ضوء النجم عالي جبهة
من وسم «إفريقية» السمراء
ذهب ببوتقة السنا من ذوبه
مسحت محياه يد الصحراء
لون جلت فيه الصحارى سحرها
تحت النجوم الغر والأنداء
وسماء بحر ما تطامن موجه
من قبل لابن الواحة العذراء
بحر، أساطير الخيال شطوطه
ومسابح الإلهام، والإيحاء
ومدائن سحرية شارفنه
بنخيلها، وضفافها الخضراء
ومعابد شم، وآلهة على
سفن ذواهب بينهن جوائي
أبطال «يونان» على أمواجه
يطوون كل مفازة وفضاء
يتجاذبون الغار تحت سمائه
يتناشدون ملاحم الشعراء
ما زال يرمي «الروم» وهو سليلهم
ويديل من «قرطاجة» العصماء
حتى طلعت به فكنت حديثه
عجبا! وأي عجائب الأنباء
ويسائلون بك البروق لوامعا
والموج في الإزباد والإرغاء
من علم البدوي نشر شراعها!
وهداه للإبحار والإرساء!
أين القفار من البحار، وأين من
جن الجبال عرائس الدأماء؟ •••
يا ابن القباب الحمر ويحك! من رمى
بك فوق هذي اللجة الزرقاء؟
تغزو بعينيك الفضاء وخلفه
أفق من الأحلام والأضواء
جزر منورة الثغور كأنها
قطرات ضوء في حفاف إناء
والشرق، من بعد حقيقة عالم
والغرب، من قرب خيالة رائي
ضحكت بصفحته المنى وتراقصت
أطياف هذي الجنة الخضراء
ووثبت فوق صخورها وتلمست
كفاك قلبا ثائر الأهواء
فكأنما لك في ذراها موعد
ضربته أندلسية للقاء!
ووقفت والفتيان حولك، وانبرت
لك صيحة مرهوبة الأصداء:
هذي الجزيرة، إن جهلتم أمرها
أنتم بها رهط من الغرباء
البحر خلفي، والعدو إزائي
ضاع الطريق إلى السفين ورائي !! ... وتلفتوا فإذا الخضم سحابة
حمراء مطبقة على الأرجاء
قد أحرق الربان كل سفينة
من خلفه إلا شراع رجاء
ألقى عليه الفجر خيط أشعة
بيضاء فوق الصخرة الشماء •••
وأتى النهار وسار فيه طارق
يبني لملك الشرق أي بناء
حتى إذا عبرت ليال طوفت
أحلامه بالبحر ذات مساء
يرعى على الأفق المرصع قرية
أعظم بها للغزو من ميناء
مد المساء لها على خلجانها
ظلا، فنامت فوق صدر الماء!
راقصة الحانة
سرت بين أعينهم كالخيال
تعانق آلهة في الخيال
مجردة حسبت أنها
من الفن في حرم لا ينال
فليست تحس اشتهاء النفوس
وليست تحس عيون الرجال
وليست ترى غير معبودها
على عرشه العبقري الجلال
دعاها الهوى عنده للمثول
وما الفن إلا هوى وامتثال
فخفت له شبه مسحورة
علت وجهها مسحة من خبال
وفي روحها نشوة حلوة
كمهجورة منيت بالوصال
تراها وقد طوفت حوله
جلالها الصبا، وزهاها الدلال •••
تضم الوشاح وتلقي به
وفي خطوها عزة واختيال
كفارسة حضنت سيفها
وألقت به بعد طول النضال
تمد يديها وتثنيهما
وترتد في عوج واعتدال
كحورية النبع تطوي الرشاء
وتجذب ممتلئات السجال
محيرة الطيف في مائج
من النور يغمرها حيث جال
تخيل للعين فيما ترى
فراشة روض جفتها الظلال
وزنبقة وسط بلورة
على رفرف الشمس عند الزوال
تنقل كالحلم بين الجفون
وكالبرق بين رءوس الجبال
على إصبعي قدم ألهمت
هبوب الصبا ووثوب الغزال
وتجري ذراعين منسابتين
كفرعين من جدول في انثيال
كأنهما حولها ترسمان
تقاطيع جسم فريد المثال
أبت أن تمساه بالراحتين
ويرضى الهوى، ويريد الجمال!
ومن عجب، وهي مفتونة
تريك الهدى، وتريك الضلال
تلوى وتسهو كلهابة
تراقص، قبل فناء الذبال •••
وتعلو وتهبط مثل الشراع
ترامى الجنوب به والشمال
وتعدو كأن يدا خلفها
تعذبها بسياط طوال
وتزحف رافعة وجهها
ضراعة مستغفر في ابتهال
وتسقط عانية للجبين
كقمرية وقعت في الحبال
تبض ترائبها لوعة
وتخفق لا عن ضنى أو كلال
ولكنه بعض أشواقها
وبعض الذي استودعتها الليال!!
الشاعر
عبقري من النغم
رجعه الحب والألم
نبعه قلب شاعر
شارف النور في القمم
ورأى مولد الحيا
ة على شاطئ العدم
في رفيف من الندى
وحفيف من النسم
وإطار من السنا
جمع الكون وانتظم
ورآها وقد بدت
مثل حورية الحلم
هي سكرى تجردت
من ثياب ومن عصم
وهو لاه بخدرها
ثمل بالذي غنم
تعصر الكرم راحتا
ه لها، وهي تبتسم
فشدا أول الرعا
ة بشبابة القدم
قبل أن يسعد الغنا
ء بها راعي الغنم
خطرة من شبابه
ومضت، فاشتكى السأم •••
وإذا الشاعر المدل
ه يقظان لم ينم
أرقته صبابة
بين جنبيه تضطرم
يقطع الدهر وحده
ذاهلا تائه القدم
يسأل الليل، والكوا
كب، والسحب، والديم
ناح قيثاره الشج
ي بما رق وانسجم
وعلى خده جرت
عبرات من الندم
ذوب الحب قلبه
وبرى جسمه السقم
وجلا الغيب سره
بين عينيه وارتسم
فجرى في نشيده
أروع الشعر والنغم •••
فانظروا أي شاعر
هو في الحفل بينكم
ذلك المبدع الروا
ئع في صورة الكلم
ربة الحكمة اشتكت
ه إلى ربة القلم
نازعتها غرامه
وهو الخصم والحكم
فاسمعوا الآن شعره
وتملوه عن أمم
ضامر الجسم واسمه
يسع الكون بالعظم
وقصير، ومجده
باذخ كالضحى أشم
ذلك الشاعر الذي
فاز بالحب واتسم
خالد بالذي شدا
خالد بالذي نظم •••
ذلك «ناجي» وحسبه
أنه الشاعر العلم!
عاشقة
«قيلت على لسان فتاة تناجي معشوقها الذي يجهل أنها تهواه.»
يا حبيبي أقبل الليل وناداني الغرام
أي سر لمحب لم يصوره الظلام
كل نجم مهجة تهفو وعين لا تنام
وشعاع البدر معشوق به جن الغمام
يا حبيبي كل عيش ما خلا الحب حرام
وحرام، يا حبيبي •••
يا حبيبي غنت الفرحة في كل مكان
فهنا البلبل يشدو، وهناك العاشقان
غير أني أشتكي الوحشة في ظل التداني
إنما روحك في الكون وروحي توأمان
لا تدعني أقطع الأيام وحدي، وأعاني
فحرام، يا حبيبي! •••
يا حبيبي سئم الليل سكوتي واكتئابي
أنا أهواك، ولكن أنت لا تعلم ما بي
لحظة بين ذراعيك فقد طال عذابي
لحظة أمزج أنفاسك بالقلب المذاب
وأغني، ويغني لك حبي، وشبابي
وسلام، يا حبيبي
الكرمة الأولى
بالله من أنباك
باللون والطعم
وما جنت كفاك
يا غارس الكرم؟ •••
آدم أم حواء
أغراك بالغرس
يا شارب الصهباء
علا بلا كأس؟ •••
لو شربا منها
ما نسيا العهدا
أو حدثا عنها
ما هجرا الخلدا •••
صهباء ما كانت
من غرس إبليس
بل كرمة زانت
خلق الفراديس •••
تسمو بها الأرواح
عن عالم الإثم
شفافة الأقداح
في رقة الحلم •••
الكأس والقيثار
يا ربة الحسن
يا ربة الأشعار
غني بها غني •••
غني بها روحا
علوية الومض
لو أدركت نوحا
عشنا بلا أرض •••
عشنا كأحلام
في خاطر الأكوان
في عالم سام
لا يعرف الأحزان •••
هاتي اسقني هاتي
من دنها المختوم
أنسى بها الآتي
من عمري المحتوم
المدينة الباسلة
طلعوا جبابرة عليك، وثاروا
ووقفت أنت، وروحك الجبار
عصفوا ببابك، فاستبيح، فلم يكن
إلا جهنم هاجها الإعصار
حرب إذا ذكرت وقائع يومها
شاب الحديد، لهولها، والنار
لو قيل: أبطال العصور فمنهمو
لحماتك الإعظام والإكبار
أو عاد «هومير» وسحر غنائه
ورأى ملاحمهم وكيف تثار
وهمو حماة مدينة محصورة
دكت على حراسها الأسوار
نسي الذي غناه في «طروادة»
وشدا بهم، وترنم القيثار
كم من «أخيل» فيهم لكنه
رد المغير به، وفك حصار
لم تجر ملحمة بوصف كفاحه
لكن جرت بدمائه الأنهار
نادته من خلف الشواطئ أمة
هو عن حماها الذائد المغوار
إن يسألوا عنه، ففارس حلبة
لم يخل من وثباته مضمار
أو يقرءوا تاريخه، فصحيفة
إمضاؤه فيها علا وفخار
أو يبحثوا عن قبره، فمكانه
فيما يظل العشب والأزهار
فيما يغطي الثلج تحت ركامه
فيما تعري الريح والأمطار
هو مهجة فنيت بأرض معادها
ليتم غرس أو يطيب ثمار
هو موجة ذابت ببحر وجودها
كيما يثور بروحها التيار
في شاطئ وقف العدو إزاءه
يبغي العبور ودونه أشبار
ما زال يدفع عنه كل كتيبة
حتى تلاشى الجحفل الجرار
وهوى وفي شفتيه بسمة ظافر
أودى، وتم على يديه الثار
يزهى به تحت الحديد وبأسه
رأس يكلل مفرقيه الغار •••
يا ربة الأبطال، لا هان الحمى
وسلمت أنت، وقومك الأحرار
أأقول: أبناء الوغى أم جنة ؟
وأقول: آلهة، أم الأقدار؟!
يستنقذونك من براثن كاسر
ماجت به الآجام والأغوار
متربص السطوات تختبئ الربا
وتفر من طرقاته الأشجار
قهر الطبيعة صيفها وشتاءها
حتى أتاه شتاؤك القهار
مجد المدائن والقرى! إن الذي
أبدعته، فيه العقول تحار •••
عجبا أأنت مدينة مسحورة
أم عالم حاطت به الأسرار؟!
طرق محيرة يضل ويهتدي
فيها الكماة، وليس ثم قرار
عزت على قدم العدو كأنما
من زئبق صيغت بها الأحجار
ومنازل مشبوبة، وكأنها
للجن في وادي اللظى أوكار
وترى زبانية الجحيم ببابها
ضاقت بهم غرف، وناء جدار
يتصارعون بأذرع مخضوبة
والسقف فوق رءوسهم ينهار
يتنازعون بها الطباق خرائبا
دميت على أنقاضها الأظفار
ما زلت صامدة لهم حتى إذا
سهت العقول، وزاغت الأبصار
وتقبض المستقتلون، وعربدت
أيدي الرماة، وعرد البتار
وتقوض الحصن المنيع، ولم يكن
إلا جدار يحتويه دمار
وقسا عليك المرجفون وحدثوا:
أن ليس تمضي ليلة ونهار
أطبقت كالنسر المحلق، ما لهم
منه، ولا من مخلبيه فرار
وتفرستك قلوبهم فترنحوا
رعبا، وأنت الخمر والخمار
وخبت مدافعهم وذاب حديدهم
والثلج يعجب واللظى الموار •••
يا فتية «الفولجا» تحية شاعر
رقت له في شدوه الأشعار
ملاح وادي النيل إلا أنه
أغرته بالتيه السحيق بحار
أبدا يطوف حائرا بشراعه
يرمي به أفق، وتقذف دار
إني رفعت بكم مثالا رائعا
يوما إليه في العلا، ويشار
لشباب مصر وهم بناة حياتها
وحماتها إن حاقت الأخطار •••
وبمثل ما قدمتم وبذلتمو
تغلو الديار وترخص الأعمار
هذي مدينتكم، وذاك صراعها
رمز لكل بطولة وشعار
جئتم بكل عجيبة لم تحتفل
يوما بمثل حديثها الأمصار
تتحدث الدنيا بها وبصنعكم
وتحدث الأجيال والأدهار
أحقيقة في الكون أم أسطورة
هذا الصراع الخالد الجبار؟!
بعد مئة عام
ذكرى مرور مئة عام على وفاة محمد علي الكبير
من هذه الروح وهذا الجبين
يضيء في مصر منار السنين
أشعة من بسمات المنى
ومن رجاء كالصباح المبين
ومن قوى مشبوبة كاللظى
عارمة، لا تنثني، لا تلين
خطت بناء الملك ثم ارتقت
تبنى له المجد الرفيع المكين
أول بان أنت بعد الذي
شيده فرعون في الأولين
قد من الصخر تماثيله
حجارة خرساء ليست تبين
وأنت أطلعت منار الحجا
وشعلة العلم وفجر الفنون
بناء دنيا وحياة معا
عز به الشعب الغبين المهين
بعثته خلقا جديدا إلى
منزلة عزت على الطامحين
قالوا: الحضارات، فقلت: انظروا
أين كهذا الشعب في المحسنين
من قطنه يلبس هذا الورى
ومن يديه مغزل الناسجين
والمدفع الصخاب من صنعه
والحمم الحمر كرات المنون
قد ماجت الأرض براياته
وخوضت ملء البحار السفين
وجيشه منقذ إفريقيا
وحارس الشرق القوي الأمين
بهؤلاء السمر جبت الثرى
ودنت في سلطانك العالمين
ومن بنيك الصيد أبطاله
ومن كإبراهيم في الفاتحين؟
تاج البطولات على رأسه
مؤتلق والغار فوق الجبين •••
من زخرف الوادي وأجرى به
جداول التبر كماء معين؟
وأخضع النهر لسلطانه
وهو إله ساد في الأقدمين
ومن بنى تلك السدود التي
تختزن السحب ولا يمتلين؟
غوائث الأرض إذا أقلعت
حوامل الغيث الدفوق الهتون
ومن أتى الصحراء في دوها
بهذه الأسوار شم الحصون؟
يا عبقري الدهر إن الذي
صنعته معجزة الصانعين
مهندس أنت سما فنه
وعالم أوتي علم السنين
أدركت ما للفن من قوة
فدنت بالقوة فيما تدين
أبيات شعر أنا بناؤها
آجرها اللفظ السري الثمين
رسمتها بعض خطوط كما
يرسم أفق الكون للناظرين
يبدأ فيها الفكر لا ينتهي
وتسبح الأعين لا يلتقين
لسيد النيل وفاروقه
رفعتها في موكب الخالدين
مولاي، من جدك أنشودة
مزهرها التاريخ عذب الرنين
ألهمها والدك المجتبى
وأنت من أبنائه الملهمين
وأنت من روحيهما آية
كآية الله إلى المرسلين
وصورة مشرقة سمحة
إطارها الحب ونور اليقين
حلم ليلة الهجرة
يا شرق، ملء خاطري
سحر وملء ناظري
أوحي ليلك القدي
م أم رؤى الزواهر؟
يا شرق، أي ليلة
رائعة الدياجر
نجومها خلف الغما
م أعين المقادر
ترنو على جوانب ال
سماء للمهاجر
تمد من شعاعها
مثل جناح طائر
رعيا المحب للحبي
ب حف بالمخاطر
تقول: ههنا السرى،
ومن هنا فحاذر •••
يا شرق، أي ليلة
بعثتها من غابر
حقيقة تلوح لي،
أم ذاك حلم شاعر؟
أرى على صحيفة الز
مان حد باتر
تكمن في فرنده
جريمة لغادر
ومن بريقه تط
ل ألف عين فاجر
ملقى وراء صخرة
كانت ملاذ عابر
أوى إليها مفردا
غير أخ مناصر
والباديات حوله:
روع وهمس حائر
كأنما أنسامه
ن تمتمات ساحر
هو انتقالة الحيا
ة، وثبة الأداهر
شدا الرعاة باسمه
في الأعصر الغوابر
وأودعوه فرحة
صوادح المزاهر
زفوا به إلى الحيا
ة أجمل البشائر
لحن وفيه قسوة ال
عواصف الثوائر
وفيه ثورة على ال
عقائد الدواثر
يقتحم الذرا المني
عة اقتحام ساخر
يهزأ بالجيوش في
ألوية القياصر
يهدم كل فاسد،
يهزم كل جائر
ومن عجيب أمره
يبني بناء قادر! •••
يا شرق، سحرك القدي
م مالك مشاعري
هذي الطوالع الحسا
ن في الحلى النواضر
المطلقات بالنشي
د أرخم الحناجر
كأنهن جوقة ال
هواتف الطوائر
حيين مولد الربي
ع، والسنا المباكر
عرائس الخيال، هن،
أو بنات خاطري
ينثرن من أكفهن
أنضر الأزاهر
على طريق ملهم
مخلد المآثر
شرق، أي روعة
جلوتها لناظري
حقيقة تلوح لي،
أم ذاك حلم شاعر؟
ليلة عيد الميلاد
اسمعي أيتها الرو
ح! أفي الكون غناء؟
وانظري! هل في نواحي ال
أرض بالليل ضياء؟
لا تراعي إن يكن ق
صر عنك البشراء
فالنواقيس التي حي
تك، أشجاها القضاء
الشجى رجع صداها
والأسى، والبرحاء
والتراتيل من البي
عة نوح وبكاء
رددتهن الثكالى
واليتامى الشهداء
والمصابيح التي كا
ن بها يزهى المساء
خنقتها قبضة الشر
فما فيها ذماء
صبغوها بسواد
فهي والليل سواء
مأتم للنور قام ال
ويل فيه والشقاء
تحت ليل ما له بد
ء، ولا منه انتهاء
أيها المبعوث، لا ضن
ت برجعاك السماء
انظر الأرض ... فهل في ال
أرض حب وإخاء؟
نسي القوم وصايا
ك، أو ضلوا، وأساءوا!
وكما باعوك، يا من
قذ، بيع الأبرياء!! •••
ليلة الميلاد، والدن
يا دموع ودماء
في ربوع كان فيها
لك بالسلم ازدهاء
باسمه يشدو المغنو
ن، ويشدو الشعراء
أين ولت هذه الفر
حة؟ أم أين الصفاء؟
لم تصافحك من الأط
فال أحلام وضاء
رقدوا ، غير عيون
ريع منهن الفضاء
ترقب الآباء، هل عا
دوا؟ وهل حان اللقاء؟
بين أيدي أمهات،
بتن، والليل جفاء
في طوايا النفس يبكي
ن، وقد عز الرجاء!
ويحهم، أين تراهم،
هؤلاء الأشقياء؟
هم وراء الليل، أجسا
د، وأرواح هباء
ووجوه رسم الرع
ب عليها ما يشاء
خندقوا في مأزق المو
ت، وما منه نجاء
بين موج من سعير
يتوقاه الفناء
وجبال من ركام ال
ثلج يرسيها الشتاء
وحديد طائر يح
ذر مسراه الهواء
وعجيب! فيم للمو
ت يساق التعساء؟
في سبيل الخبز؟ والخب
ز اكتساب ورضاء!
في سبيل الحق؟ والح
ق لدى القوم طلاء
في سبيل المجد؟ والمج
د من البغي براء!
أو في المجزرة الكب
رى، تنال المجد شاء؟
كذب الباغي، وللسي
ف بكفيه مضاء
وخداع كل ما قا
ل، وزور، وافتراء!! •••
أيها الشرق الذي خ
صته بالروح السماء
هذه الروح التي شي
د بكفيها البناء
والتي من نورها العا
لم يجلى ويضاء
يا أبا الحكمة، لا ها
ن عليك الحكماء!
ناد «أوروبا» فقد ين
فعها منك النداء:
حانت الساعة، يا أخ
تاه، أم حق الجزاء؟
دنت بالقوة حتى
صرعتك الكبرياء
ارقصي في النار، أنت ال
يوم للنار غذاء
واشربي في حانة الشي
طان ما فاض الإناء
حانة للموت فيها
من دم القتلى انتشاء
نادمي من شئت فيها،
فالمنايا الندماء
وارفعي الكأس، وغني،
وعلى الدنيا العفاء؟ •••
يا قويا لم يهن يو
ما عليه الضعفاء
وضعيفا واسمه، يف
زع منه الأقوياء
وأنا المسلم، لا يج
حد عندي الأنبياء
أنت في القرآن: حب،
وجمال، ونقاء
عجب فديتك المث
لى! وفي القول عزاء!
ألهذا العالم الشري
ر؟ قد ضاع الفداء!
عام جديد
غن بالهجرة: عاما بعد عام
وادع للحق، وبشر بالسلام
وترسل، يا قصيدي، نغما
وتنقل بين موج وغمام
صوتك الحق، فلا يأخذك ما
في نواحي الأرض من بغي وذام
كن بشير الحب والنور إلى
مهج كلمى، وأكباد دوامي
هجرت أوطانها واغتربت
في مثالي من المبدأ سام
أنفت عيش الرقيق المجتبى
وأبت ذل الضمير المستضام
يا دعاة الحق: هذي محنة
تشعل الروح بمشبوب الضرام
هذه حرب حياة، أو حمام
وصراع الخير، والشر العقام
خاضها الإسلام فردا، وهدى
بيراع، وتحدى بحسام
هجرة كانت إلى الله، وفي
خطوها، مولد أحداث جسام
أخطأ الشيطان مسراها، فيا
ضلة الشيطان في تلك الموامي!
آب بالخيبة من غايته
وهو فوق الأرض ملعون المقام
صفحات من صراع خالد
ضمنت كل فخار ووسام
لم تتح يوما لجبار طغى
أو لباغ فاتك السيف عرام
بل لداع أعزل في قومه
مستباح الدم مهدور الذمام
زلزل العالم من أقطاره
بقوى الروح على القوم الطغام
وبنى أول دنيا حرة
برئت من كل ظلم وأثام
تسع الناس على ألوانهم
لم تفرق بين آري وسامي •••
حاطم الأصنام: هل منك يد
تذر الظلم صديعا من حطام؟
لم تطقها حجرا أو خشبا
ويطاق اليوم أصنام الأنام!!
وعجيب صنعهم في زمن
أبصر الأعمى به والمتعامي!
آدميون قزامى انتحلوا
منطق الآلهة الشم العظام
وتراهم مثلما تسمعهم
صور الوهم، وأحلام النيام
بشروا الناس بدنيا، ويحهم!
أي دنيا من دمار وحمام؟
تسلب الناس حجاهم، وترى
أمم الأرض قطيعا من سوام
قيل: للحق، وما أعجبه
في ادعاء لفقوه واتهام!
قيل: للخبز، فهل أطعمهم
حاتم الحرب سوى الموت الزؤام؟
أنت، يا أيتها الشمس، اطلعي
من وراء الليل والغيم الركام
سددي بالنار قوسا، واصرعي
مارد الشر بمشبوب السهام
ضلت الأرض بليل داهم
يحذر النجم دجاه المترامي
دميت أعيننا في جنحه
واشتكت حتى خفافيش الظلام •••
يا قلوبا ضمها الشرق على
مورد للحق والحب التؤام
وشعوبا جمعتها أمة
بين مصر، وعراق، وشآم
وبطونا من بقايا طارق
في البقاع الجرد، والخضر النوامي
ما شدا شعري بها إلا هفت
بالقباب البيض، أو حمر الخيام
كل روح بهدى من حبها
كل قلب بشعاع من غرام
تذكر القربى وتستدني بها
مشرق الآمال في مطلع عام
وترجي عودة المجد الذي
أعجز الباني، وأعيا المتسامي
من بيوت هاشميات البنى
وعروش أمويات الدعام
ونتاج من نهى جبارة
وتراث من حضارات ضخام
قل لها يا عام: لا هنت، ولا
كنت إلا مهد أحرار كرام
ذاك مجد لم ينله أهله
بالتمني، والتغني، والكلام
بل بآلام، وصبر، وضنى
ودموع، ودم حر سجام
قل لها: إن الرحى دائرة
والليالي بين كر وصدام •••
فاستعدي لغد إن غدا
نهزة السباق في هذا الزحام!
واجمعي أمرك لليوم الذي
يحمل البشرى لعشاق السلام!
سمر
بين كاتب وشاعر وخطيب
يا وحي شعري، أين أنت
في أي زاوية ركنت؟
هل رحت في إغماءة
أم بالمخدر قد حقنت؟
أم نمت، أم نام الزما
ن، أم اعتقلت أم انسجنت؟
أم خفت من قلم الرقي
ب فما أشرت وما أبنت؟
أم هل سقيت (كزوزة)
أم هل حسوت (البرمننت)
أم قد شربت زجاجة
من صنع بار (الكونتننت)؟
أم في خزانة (صالح)
تركوك سهوا فاختزنت؟
أم في البنوك لأزمة
حلت بأهلك قد رهنت؟
أم ذاك جندول الحبي
ب إلى لياليه حننت؟
وإلى عروس البحر هم
ت وفي شواطئها كمنت
أم زغت يوم الانتخا
ب ولست عضو «البرلمنت»
لم تدر ما نال الرئي
س أزاد صوتا أم (كرنت)
أنكرت ضجة معشر
لم ينصفوك وقد غبنت
أم طرت في جو الحلي
فة منجدا أبطال (كنت)
يا وحي كم من غارة
شعواء فيها قد شننت
أم ثرت للحق الطري
د، وبالبطولة قد فتنت
فسللت سيف مدافع
عن (كالماس) أو (كرنت)؟ •••
يا وحي شعري ما سكو
تك في الخطوب؟ ألا حزنت!
أفقدت رشدك أم شعو
رك بالحياة؟ إذن جننت!
عشرون يوما جاوز ال
تقدير فيها ما ظننت
يا وحي شعري مذ نأي
ت وهى بياني أو وهنت
بعد القصائد كالقلا
ع مشيدات (بالسمنت)
من كل بيت مشرق
يزري بقصر (اللابرنت)
أمسيت بعدك كل قا
فية نطقت بها لحنت
يا وحي شعري هل أسر
ت وأنت تهجم أم طعنت؟
أم غصت في لجج البحا
ر وفي مجاهلها دفنت؟
أبكي عليك بكاء (لا
مرتين) قبرا في (سرنت)
يا وحي شعري أين أنت؟
في أي زاوية ركنت؟
الشوق العائد
1945
إليها
من ليالي التي لم يهدأ الشوق عليها
من أماني التي كانت رؤى في ناظريها
من أغاني التي استلهمتها من شفتيها
من دموع مازجت أدمعها بين يديها
كل ما قد رق من شعري وما راق لديها
وهو ما ضم كتاب، هو منها وإليها
علي محمود طه
سؤال وجواب
تسائلني: وهل أحببت مثلي؟
وكم معشوقة لك أو خليله؟
فقلت لها وقد همت بكأسي
إلى شفتي راحتها النحيله:
نسيت، وما أرى أحببت يوما
كحبك، لا، ولم أعرف مثيله!
فقالت لي: جوابك لم يدع لي
إلى إظهار ما تخفيه حيله
وفي عينيك أسرار حيارى
تكذب ما تحاول أن تقوله •••
فقلت: أجل، عرفت هوى الغواني
لكل غاية، ولها وسيله
خبرت غرامهن قلى ووصلا
كثير الوعد لم يدرك قليله
قلوب قاسيات قنعتها
وجوه شاعريات نبيلة
إذا طالعنني أنسيت جرحي
وأن الحب لم يرحم قتيله
وجاذبني إلى اللذات قلب
شقي ضل في الدنيا سبيله
وعدت، كما ترين، صريع كأس
أنا الظمآن لم يطفئ غليله
فقالت: كيف تضعف؟ قلت: ويحي
وكيف أطاع «شمشون» «دليله»؟ •••
فقالت: ما حياتك؟ قلت: حلم
من الأشواق أوثر أن أطيله
حياتي قصة بدأت بكأس
لها غنيت، وامرأة جميله!!
الشوق العائد
اهدئي، يا نوازع الشوق، في قل
بي فلن تملكي لماض رجوعا
آه، هيهات أن يعود، ولو أف
نيت عمري، تحرقا وولوعا
آه، هيهات أن يعود، ولو ذو
بت قلبي صبابة ودموعا
فاهدئي الآن، يا لثورتك الهو
جاء جبارة تدك الضلوعا •••
رحمة، يا نوازع الشوق، لو نا
ديت ماضي ما وجدت سميعا
أسدل القلب دونه ألف ستر
عبرات ومثلهن نجيعا
رحمة، يا نوازع الشوق لو حا
ولت بعث الهوى فلن أستطيعا
كيف يحيا زهر ذوى في إناء
بات في قبضة الحياة صديعا •••
رحمة، يا نوازع الشوق، بالقل
ب فما يستطيع بعد نزوعا
إن تكوني أحببته فدعيه
ناعما بالكرى رضيا قنوعا
نسي الأمس أو سلا فتعالي
نجث صمتا من حوله وخشوعا
أو فكوني في حلمه الزهر والأن
غام والخمر والعروس الشموعا •••
أيها الزائر المعاود ما أل
قاك أحسنت بالمزار صنيعا
ما أرى في سمات وجهك إلا
شبحا رائعا وحلما وجيعا
يتوقاه ناظراي كأني
فيه ألقى آلام عمري جميعا
طال ليلي فما طويت هزيعا
منه إلا نشرت منه هزيعا •••
أيها الشوق، خل عنك ودعني،
وامض لا خادعا ولا مخدوعا
أين هذا الجمال أرعاه كالبر
ق خلوبا وأجتليه لموعا
أين هذا الخيال أسقاه كأسا
بيد منه فجرت ينبوعا
أين، لا أين! ما غنائي بالذك
رى وقد أصبح الوهوب منوعا! •••
عدت، يا شوق، لي وعادت ليالي
ك، ولكن وجدت قلبا صريعا
عدت من بعد لوعة أحرقته
وجفته على الرماد ضجيعا
وليال من الفراغ عوات
هرأته ثلوجهن صقيعا
عدت، يا شوق! فيم عدت؟ ربيع ال
عمر ولى! فهل تعيد الربيعا؟
جزيرة العشاق
«ذكريات رحلة في سبتمبر عام 1938 بين بركان الفيزوف وجزيرة كبرى والجرونا المشهورة بها.»
ليالي الصيف في كبري
أم الفتنة في البحر
وجنيات بحر الروم
أم دنيا من السحر
على شط من الأحلا
م والأنغام والزهر
تنفس جوه عطرا
يفضضه سنا البدر
أريج البرتقال به
ونفح العنب النضر
أم الآلهة العشاق بي
ن الموج والصخر
أهلوا تحت أشرعة
تقل عرائس الشعر
نشاوى الحسن والنور
وبعض النور كالخمر
تنهد حين أبصرهم
محب موغر الصدر
أقام الدهر موتورا
من الحرمان والهجر
بأنفاس تضيء الأف
ق بركانية الجمر
قصدناه على الليل
وجزناه مع الفجر
فلم تغمض له عين
تصيب النجم بالذعر
وبات الموج في فر
حواليه، وفي كر
فقالوا: قد دنا الموع
د أو آذن بالثأر
فعدنا مثلما جئنا
من العبر إلى العبر
ويممنا بجوف الصخر
دهليزا من التبر
سرى زورقنا في ما
ئه الغافي سرى السر
ترامى حولنا الأضوا
ء أطواقا من الدر
فمن زرق، إلى صفر،
إلى خضر، إلى حمر
كأن الشمس حين رأت
صباها أول الدهر
زهاها العري فاستحيت
عيون الناس في البر
فجاءته محجبة
على تياره تسري
ونضت من غلائلها
وألقتها على الصخر
وخانت عينها سنة
فنامت، وهي لا تدري!
طاقة زهر
إلى المودعة الجميلة
زهراتك الحمر التي أسلمتها
بيدي مودعة يمين مودع
لما وصلت إلى المصيف حملتها
كالطفل نام على ذراع المرضع
أمشي بها فوق الرمال كأنني
أمشي بطيف في الظلام مقنع
مضمومة الورقات طي غلالة
وسمت بطابع ذوقك المترفع
محجوبة كأميرة شرقية
في هودج أستاره لم ترفع
حتى إذا أويتها بعد السرى
وخلعت عنها لبسة المتمنع
هشت لآنيتي وأشرق لونها
وترددت أنفاسها في مضجعي
ومضت تخالسني حيي لحاظها
لا تشتكي سهرا وفرط تطلع
هي أنت، أحلام تغازل ناظري
وتصب حلو حديثها في مسمعي
هي أنت، أطياف تعانق مهجتي
وتفر حين تحس حرقة أضلعي
أمست تعابثني وملء شفاهها
من مغرياتك بسمة لتولعي •••
ومكرت مكرك يا حبيبة وانقضى
ليلي، وأنت لدي ساهرة معي
أرسلتها عينا علي رقيبة
تأتيك بالخبر العجيب الممتع
تحصي حراكي إن مشيت لشرفتي
وتعد خطوي إن رجعت لموضعي
شهدت بأني مذ تركتك حائر
متفرد بصبابتي في مخدعي!!
أحلام عاشقة
يا للعذوبة، يا حبي
بي، حين أهبط للنهر
كي أستحم وأنت تم
عن في مفاتني النظر •••
لوددت لو أني أما
مك قد جلوت محاسني
بغلالة مبتلة
كشفت جميع مفاتني •••
أهوى إلى الماء الهبو
ط وأشتهي أن أتبعك
وأشد ما أهواه من
ه صعودنا، وأنا معك •••
بيدي من سمكاته
حمراء رائقة الجمال
فتعال لي أنظر إلي
ك! تعال وانظر لي تعال!
امرأة وشيطان
لحاك الله يا دنيا خلوبا
فأنت الغادة البكر العجوز
المعري
أقسمت لا يعص جبار هواها
أبد الدهر وإن كان إلها
لا ولا أفلت منها فاتن
قربته واحتوته قبضتاها
قيل عنها: إنها ساحرة
تتحدى سطوة الجن سطاها
وعجوز بالصبا موعودة
وبعمر الدهر موعود صباها
حذقت علم الأوالي ووعت
قصص الحب ومأثور لغاها
قيل: لا يذهب عنها كيدها
غير شيطان ولا يمحو رقاها
ورووا عنها أحاديث هوى
آثم يغرب فيها من رواها
وأساطير ليال صبغت
بدماء سفكتهن يداها
يذكر الركبان عنها أنها
سرقت من كل حسناء فتاها
وقتيل بين عيني زوجه
كل معشوق دعته فعصاها
كلما التذت وصالا من فتى
سحرته وهو في حضن هواها
واحتوته في أصيص زهرة
يسرق الأنفاس من طيب شذاها
زهرات مثلت عشاقها
بعيون غارقات في كراها
فإذا ما الليل أرخى ستره
أطلقت أشباحهم في منتداها
مهجا خفاقة ملتاعة
وعيونا ظامئات، وشفاها
تستعيد الأمس في لذاتها
ولياليها، وأشواق رؤاها
تتلوى بينهم مشبوبة
شهوة، يلتهم الليل لظاها
عبر الشيطان يوما أفقها
فرأى، ثم فنونا ما رآها
أي واد رائع أحجاره
تحذر الريح عليهن سراها
أي قصر باذخ في قمة
تحسب الأنجم من بعض ذراها
ودروب حولها ملتفة
كأفاع سمرت في منحناها
وبروج لحمام زاجل
هو بالأقدار يهفو من كواها
ظنها من عبقر ناحية
أخطأت عيناه بالأمس صواها
فهوى من حالق يرتادها
طرقات زخرف الفن حصاها
ورنا حيث رنا فاهتاجه
منظر الزهر الذي زان رباها
أصص من ذهب تحسبها
بعثرت فيها الدراري سناها
كلما مست يداه زهرة
عطفته لقطاف شفتاها
فجنى ما شاء حتى لم يدع
في أصيص زهرة إلا جناها
وانتشى من عطرها فانتثرت
مثل حبات من الماس يراها
عجبا ما لمست غير الثرى!
أي نور شاع فيها فزهاها؟
نظرة، أو خطرة، واختلجت
فعرته هزة مما عراها
واستحالت بين عينيه دمى
حية تستبق الباب خطاها
فك عنها السحر فارتدت إلى
عالم الحس وخفت قدماها
ورنا الشيطان في آثارها
سابحا في دهشة طال مداها
يا لها! كيف استقرت ثم فرت!
لحظة مرت ولكن ما وعاها!
ودنا الليل، ورنت صدحة
نبهته، حين لا يبغى انتباها
فإذا مائدة حافلة
بالأباريق ترامى طرفاها
ملؤها الخمرة نورا وشذا
نسمت وائتلقت فخارتاها
وصحاف كتهاويل الرؤى
تجد الأنفس فيها مشتهاها
وإذا مقصورة من حوله
خالها تنبض بالروح دماها
وقفت غانية في بابها
قد تعرت غير فضل من حلاها
يا لها من فتنة قد صورت
في قوام امرأة راع صباها
طلعت في هالة من خضرة
وعيون يترقرقن مياها
ثم نادت: «يا أحباي انهضوا
واغنموا الليلة حتى منتهاها»
وتلاشى الصوت لا رجع صدى
لا، ولا ثم مجيب لنداها
فعرتها رعدة، فالتفتت،
فرأته، فتلقاها وجاها
أبصرت وجها كوجه المسخ لم
يتقنع، شاه هذا الوجه شاها
ورأت كفيه يندى منهما
أرج الزهر فأجت نظرتاها
عرفت ما اجترحته يده
أولا يعرف من داس حماها؟
يا لهذا المسخ! دوت ومشت
صيحة ينذر بالويل صداها
فانثنى الشيطان عنها صارخا
أتراها تتحدى؟ من تراها؟
فبدت في شفتيها آية
من مبين السحر، أوما فمحاها
فدنت ترمقه فاختلجت
عينه، حين أشارت بعصاها
بدلت تلك العصا جمجمة
ريع لما شرعتها فاتقاها
هي من ملكة جن من تصب
يخترمه بالمنايا محجراها
فتنحى غاضيا مبتئسا
وتنحت والأسى يلجم فاها
وسجى بينهما الصمت الذي
يتغشى الأرض إن حان رداها
والتقت عيناهما فاستروحا
راحة من قبلها ما عرفاها
عرفت من هو فاستخذت له
ورأى من هي فاستحيا قواها
قال: أختاه، اغفري لي نظرة
اشتهت كل جمال واشتهاها
واغفري لي شرة عارمة
في دمي، لو أتأبى ما أباها
يا لهذا الدم! ما عنصره؟
كل ما في النار من وقد لظاها
فأجابت: زهراتي ردها
إن تقل حقا ولا تبغ أذاها
قال: لا أذكر إلا حلما
لحظة ضل بها عقلي، وتاها
أهي جسم؟ أهي روح؟ إن تكن
لا يرد الروح إلا من براها
فأحست هول ما يجهله
فاستحت منه وأغضى ناظراها
صاح: غفرانك لا تبتئسي
اطلبي ما شئت مني ما خلاها
أأنا من تتخطى قدمي
مسبح الشمس فيربد ضحاها
أأنا من يطفئ النجم فمي
وأرد الأرض غرقى في دجاها
وتمس القمم الشم يدي
فيرى منحدرا لي مرتقاها
وأجيء الأرض من محورها
فإذا بي يتدانى قطباها
وأصد الريح عن وجهتها
فتجوب الكون لا تدري اتجاها
أأراني عاجزا عن درك ما
تتمنى امرأة؟! عزت مناها!
آه، ما أضعف سلطاني، وما
كنت إلا بغروري أتباهى!!
قالت: الآن سلاما زائري
ورضا نفسي إن رمت رضاها
أيها الشيطان، ما أعظم ما
قلته، ما قلت لغوا أو سفاها
زهراتي تلك، ما كانت سوى
شهوات، جسمي الطاغي نماها
قهرتني، واستذلتني بها
غيرة، ينهش قلبي عقرباها
وأنانية أنثى لم تطق
فاتنا تملكه أنثى سواها
قد صنعت الحق، قد عاقبتني
فارحم المرأة في ذل هواها
فدنا منها، فألفت وجهه
غير ما كان، لقد ألفت أخاها!
قربت بينهما روح الأسى
فاجتبته بعد حقد واجتباها
واستهلت دمعة من عينها
دمعة رفت وشفت قطرتاها
ضمنت كل عذاب وضنى
كل ما في النفس من بث أساها
ورآها فتندت عينه
رحمة، فاحتال يخفي من بكاها
وبكى الشيطان! يا لامرأة
أبكت الشيطان لما أن رآها!!
هي وهو
صفحات من حب
منها
وحيدة! ويحي! بلا راحة
ما بين موج طاغيات قواه
تجري بي الفلك كأرجوحة
حيرى بأقيانوس هذي الحياة
أبحث عنه، وسدى ما أرى
أين حبيبي؟ أين سارت خطاه؟
لم يهدني نجم إليه، ولم
يبسم لي الحظ فألقى سناه
وليس لي من موجة برة
تحملني في إثره كي أراه
من شاطئ الراحة لم يدن بي
إليه أفق لا يرى منتهاه!
هناك في الشاطئ وا فرحتا
أعز إنسان صفا لي هواه
منتظرا لي، شاخصا، باسما
تشير بالآمال لي راحتاه
لكنما هيهات، كيف السرى
وأين من عصف الرياح النجاة؟
أصار حتما أن يرى زورقي
محطما قد مال بي جانباه؟
وهل فضاء البحر أو غوره
مهما تناءى وارتمت لجتاه
يكفي مداه أن توارى به
جميع آلامي؟ أيكفي مداه؟ •••
نمت زهرة في غضون الخريف
كحلم من الماء والخضرة
كزنبقة في زهى حلة
ربيعية الوشي محمرة
تبث المراعي نورا يشف
ويجلو الطهارة في النظرة
كأني بها قدحا مترعا
به مزج السم بالخمرة
لها وهج الحب في قبلة
على شفة شبه مفترة
ألا إنها هي بقيا الهوى
وآخر ما فيه من نضرة
ألا إنها هي صهباؤه
وآخر ما فيه من قطرة
تميت وتحيي فيا للحياة
وللموت إلفين في زهرة! •••
إن أنا قاومت هياج العباب
مصطرعا والأفق داجي السحاب
ولم تدع كفي إلى زورقي
زمامه حرا وخضت الصعاب
فسوف يلقيه خفي القضا
محطما فوق الصخور الصلاب
وإن أقوى ساعد عاجز
أن يمسك المجداف دون اضطراب
إن عاند الأمواج فهو الذي
يحفر في اليم حفير التباب
وهو الذي يسعى إلى حتفه
في هوة مفغورة في العباب
فليلق بالمجداف من كفه
وليترك الموج طليق الرغاب
وليمض بالزورق ما يشتهي
إلى القضاء الحتم دون ارتياب
وليبلعه الموج في جوفه
فلا مفر اليوم مما أصاب
طال كفاحي، ويح نفسي فما
طول كفاحي غير طول العذاب! •••
أطل الخريف بأعقاب ليل
دجي الظلام بكي السحب
وآخر ما في الربا زهرة
عداها من الصيف وقد اللهب
غدت وحدها في أديم عفا
من النور والورقات القشب
كحارسة الميت ليست تريم
مكانا به وقفت تضطرب
تساقط من حولها أدمعا
غصون تطالعها عن كثب
جرى الغيث، من ورقات بها
إلى أخر شاحبات، صبب
تحدر مختنقا فوقها
بلا نبأة قطره المنسكب •••
فيا من لها زهرة «الجورجين»
من الزائر الحائر المقترب؟!
جناح لآخر ما في الفراش
ومن رحمة بقيت أو حدب
مضى الصيف وانقطعت إثره
أغاريد كن مثار الطرب
نأى طيرها عانيا واختفى
غرام أتى ... وغرام ذهب
إليها
لا تتركي زورقنا المجهدا
يجري به اليأس ويمضي العذاب
لا تسلمي مجدافه للردى
فالشاطئ الموعود وشك اقتراب
سيان أرغى الموج أم أزبدا
لن نحني الرأس أمام الصعاب
هذي يدي! مدي إليها يدا
نقتحم النوء ونطو العباب! •••
نادى بروحي منك روح شرود:
لبيك، يا ربانتي الهاتفه
شرائع الناس بهذا الوجود
أعجز من أن تقهر العاطفه
وددت لو حطمت هذي القيود
وجئت ألقاك على العاصفه
يضيء وجهينا بريق الرعود
فننثني بالبسمة الخاطفه! •••
وحدك أنت الآن؟ إنا هنا
روحان شبا في ظلال الكفاح
شراعنا الخفاق لن يسكنا
لليأس مهما مزقته الرياح
ونجمنا ما زال طلق السنا
يطالع الأفق ويلقى البطاح
إذا الغواشي السود مرت بنا
ألقى لنا الضوء ومد الجناح •••
حبك ربان الهدى والسلام
ما لان للأخطار أو أذعنا
لا تنزعي من قبضتيه الزمام
ولا يرع قلبك هذا الضنى
كم ثار نوء وتدجى ظلام
وهذه أنت، وهذا أنا
إنا بلونا الهول باسم الغرام
جنبا لجنب، ورجونا المنى •••
ثقي بملاحك في المأزق
إني أنا ابن الموج والعاصفات
الشعرات البيض في مفرقي
تنبيك عن أيامي الخاليات
آثار عمر مرعد مبرق
تعصف فيه أروع الحادثات
ما كدرت من روحي المشرق
تلك الليالي القلب المظلمات •••
حبيبتي من أي قلب حزين
وأي روح عبقري الألم
وأي واد للأسى أو معين
فجرت لحنا من أرق النغم؟
وصفت فيه زهرة «الجورجين»
حارسة الميت بوادي العدم
وخلتها كالكأس ذات الرنين
براقة فيها الردى يبتسم؟! •••
بكيت بالدمع السخين الذريف
على غرام خلته قد مضى
وأبصرت عيناك ظل الخريف
يجلل الأرض ويغشى الفضا
تخضب كفاه النضير الوريف
ورسا، وتدمي الزنبق الأبيضا
وتخرس الطير بليل شفيف
يروع فيه القلب أن ينبضا! •••
هذا الخريف الجهم تمشي خطاه
على الربيع الذابل المحتضر
كآبة تحجب أفق الحياة
سحابة تخنق ضوء القمر
أختاه! هذا الحب غض صباه!
أي عذاب صاغ هذي الصور؟
لم يبرح الشاطئ، إني أراه
كعهده في الموعد المنتظر! •••
كان حديث القدر المبهم
مثار هذا الخاطر المفزع
برغم قلبي، صحت: لا تقدمي!
وكان ما كان، فلم تسمعي
أشفقت أن تشقي وأن تألمي
معي، فناشدتك أن ترجعي
لكن أبى الحب فلم نأثم
وكان أن أبقى، وتبقي معي! •••
أكان حلما أم قضاء دعا؟
ماذا يفيد العاشقين الحذر؟
شئنا فلم نقدر وعدنا معا
يا أخت روحي ذاك حكم القدر!
لم ندخر جهدا ولا أدمعا
ولا دما، ما نحن إلا بشر!!
ما أمجد الحب وما أروعا
إذا تحدى العاشقان الخطر! •••
الحب ما زال، وهذا سناه
يلهب حتى الجذوة الخامدة
تذوي الأزاهير وتذوي الشفاه
وهو ربيع الأنفس الواجدة
قلوبنا منه تصيب الحياة
وتستمد النضرة الخالدة
إذا أضعناه فوا رحمتاه
لنا، وبؤسى لليد الجاحدة!
ثلج ونار
أأيتها النار هذا المساء
قسا برده فانهضي واستفيقي
أيا نار كفاي أثلج منه
فهلا بعثت بدفء الحريق! •••
أما فيك بعد حياة تشب؟
أما فيك من جذوة تلهب؟
أمقرورة؟ أم غفا وانطوى
على نفسه اللهب المتعب؟ •••
أأجلس، يا نار، وحدي هنا
أراعيك وهنا وأستطلع؟
خذي ملء شدقيك هذي الرسائل
إن كان فيهن ما يشبع! •••
خذيها! كليها! ولا تمهلي
فمنها الوقود ومنك الأجيج
ويا من لها كلمات حوت
من الحب كل جميل بهيج! •••
أتبقين حقا على ما بها؟
متى أنت أبقيت شيئا؟ متى!
وماذا أرجي بهذا الدعاء
وكيف تلبين ! وا حسرتا! •••
أجائعة أنت؟ يا للشراهة
ما عفت غير بلى أو رماد
تشهيت كل طعام، وما
تذوقت شيئا كطعم المداد؟ •••
ومن لي بزادك؟ لم يبق ما
يلوك لسانك أو يعلك
أأيتها النار، ويك اصبري
أجئك بكل الذي أملك •••
بقرباني القدسي الأخير
أزاهير كن رقاقا لطافا
أزاهير تزهى بها باقة
ذوت نضرة وأصابت جفافا •••
ألا كم تألقن فوق الغصون
زواهر في روعة واتقاد
بكفي هاتين جمعتهن
من كل روض ومن كل واد •••
فوا رحمتا أي عمر قصير
لهن، وأي شباب ذوى
وأي حياة كحلم سرى
سرى البرق لألأ ثم انطوى! •••
أحقا فرغت؟ إذن ما سعارك
لم يبق، يا نار، ما ينهش
أهذي القصاصة؟ لا! إنني
أضم عليها يدا ترعش! •••
أكانت سوى قطعة غضنت
من الورق اليابس الأصفر
مهلهلة غير مقروءة
حوت قصة الحب في أسطر! •••
ضننت بها ضن معتزة
وتحت الوسادة أودعتها
أقبلها مئتي مرة
إذا جن شوقي فأطلعتها •••
فيا للشراهة؟ ماذا أرى؟
لسانك في ثورة واهتياج
يكاد إلي من المصطلى
بجمرك أن يتخطى السياج! •••
خسئت فرديه! ماذا يروم؟
ألم يبق، يا نار، ما يطعم؟
أهذي القصاصة؟ يا للحريق
ويا للبلى! شد ما يؤلم!
نار ونار
حبيبة قلبي هي النار لا
تشبي لظاها، ولا تستثيري
دعيها ولا توقظي جمرها
فما النار أحنى من الزمهرير
فدى راحتيك فؤاد يلذ
له، في هواك، عذاب السعير
أنيليهما دفء ثغري الحنون
وصونيهما رحمة من زفيري! •••
قسا البرد! كيف؟ أيقسو عليك؟
ووا عجبا كيف يرضى المساء؟
وكم جئته بأرق الغناء
وأشرقت فيه بوحي السماء؟
أأختاه أي عذاب طغى
عليك، وأي ضنى أو شقاء
ضرعت إليك فلا تسلمي
ودائعنا للردى والعفاء! •••
فما هن بعض مداد جرى
ولا هن أختاه بعض الورق
ولكنهن شغاف الفؤاد
وذوب السواد ونور الحدق
وأحلام دنيا وأشواقها
لروحين بعد الضنى والرهق
أفاءا إلى أيكة ينظران
جمال المساء وسحر الشفق! •••
أحس بقلبك لذع الأسى
وفي وجنتيك لهيب الدموع
وأسمع صيحة مستقتل
يصارعه اليأس بين الضلوع
وألمح في جانب المصطلى
وجوها زواها الأسى والخشوع
محدقة فيه، محنية
عليه، ويا للظى كم يروع! •••
لهن لياليك أو ذكرياتي
جئن بأجنحة من ضياء
تسمعن صوتك تحت الظلام
فجبن الثرى وطوين الفضاء
تمسح كفيك راحاتهن
على قبل من شفاه ظماء
ويسكبن في أذنيك الدعاء
وفي قلبك الغض نور الرجاء •••
ألا، يا عرائس وادي الخيال،
بآلهة الرحمة المنصفه
ألا ادفعن هذا الردى المشرئب
وأمسكن هذي اليد المضعفه
وأنقذن هذا الغرام الشهيد
فقد كادت النار أن تلقفه
رسائل، أنبل ما سطرت
يد الحب أو رددته شفه! •••
وصن أزاهر ما نورت
بهن الغصون لغير الشفاه
ولا نسمت غير روح الهوى
ولا غير أنفاسه أو شذاه
أزاهر هن رؤى ليلة
هي العمر أو هي كل الحياه
تمثلها الحب في باقة
إلهية جمعتها يداه •••
ألا يا عرائس وادي الخيال
ألا ابعثن روح الرضا والسلام
ألا احكمن بيني وبين التي
تثور بعاشقها المستهام
تفارقه وتطيل الفراق
وتسأله أين عهد الغرام
فإن قال: ضيعته، أسرعت
إلى النار توقظ فيها الضرام •••
ألا، يا عرائس، هلا استمعت
لأختي ربة هذا القصيد!
أغرد روح بهذا الصفاء
وردد قلب كهذا النشيد!
يقول: أنا الحب لا تلق بي
إلى النار إني قوي شديد
وما أنا بعض رماد لها
ولا أنا بعض حطام بديد •••
أنا الجوهر الفرد لا ماستي
تذوب، ولا نورها ينفد
منحت الخلود وأعطيته
لمن يلهم الشعر أو ينشد
تخر العروش وتهوي الشموس
ولي عرشي الخالد الأيد
هو القلب أعظم ما صورت
يد الله ما نازعتها يد •••
ألا، يا عرائس وادي الخيال،
ألا قربي يدها قربي
حبيبة قلبي نسيت النوى
ودعوى البريئة والمذنب
وأنسيت حتى كأن لم يكن
على الأمس ما كان أو مر بي!
حديث القصاصة رد الهوى
لقلبي، فشبيه أو ألهبي!!
يوم الملتقى
هذي سماؤك أنغام وأضواء
غناك «داود»، أم حياك «سيناء»
أم النبيون قد أزجت سفائنهم
موعودة، من ليالي النيل قمراء
أم طالعتك من السحر القديم رؤى
يشدو بهن الثرى، والريح، والماء
أم جاء «طيبة» من أربابها نبأ
أم أن كهانها بالوحي قد جاءوا
أم سار «عمرو » بنور الفتح فائتلقت
به زبرجدة في الشط خضراء
ماجت خمائل بالبشرى وأودية
فهن فاكهة تندى وصهباء •••
يا مصر، ذلك يوم الملتقى، وعلى
صباحه قدم الرسل الأجلاء
أسرت إليك بهم روح وعاطفة
وكم إليك بسر الروح إسراء
دعا، فلبوه، صوت من عروبتهم
كما يلبي هتاف الأم أبناء
لا بل أهاب بهم يوم صنائعه
من أمرها الناس أموات وأحياء
إن لم تصن فيه أيديهم تراثهمو
فقد تبدد، والأيام أنواء
طاحت بناصية الضعفى، وسخرها
كما يشاء الأشداء الألباء
أحرار دهر هم المستيقظون لها
ومن غفوا فهمو الموتى الأرقاء •••
بني العروبة، دار الدهر واختلفت
عليكمو غير شتى وأرزاء
مضى بضائقتيها الأمس، وانفسحت
أمام أعينكم للمجد أجواء
اليوم شيدوا كما شادت أبوتكم
شرقا دعائمه كالطود شماء
دستوره وحدة مثلى، وشرعته
بالحق ناطقة، بالحب سمحاء
لكم بحاضركم من دهركم نهز
فيها لغابركم بعث وإحياء
شدوا على العروة الوثقى سواعدكم
لا يصدعنكمو بالخلف مشاء
لم تنأ بغداد عن مصر، ولا بعدت
لبنان، والمسجد الأقصى، وشهباء
أي التخوم تناءت بين أربعها
لها من الروح تقريب وإدناء
أرض عليها جرى تاريخنا، وجرى
دم به كتب التاريخ آباء
مبارك غرسه، منه بأندلس
والقادسية، واليرموك أجناء
خوالد النفح لم يذهب بنضرتها
حر، وقر، وإصباح، وإمساء •••
إيه بني الشرق! فالأبصار شاخصة
لما تعدون، والآذان إصغاء
يستطلع الشرق ما يجري به غده
يا شرق إن غدا هدم وإنشاء
بصيحة السلم لا يأخذك إغراء
فللمطامع إغراء وإغواء
تفتحت صحف الأيام وانبعثت
أقلامها، وصغت كتب وأنباء
وطأطأت أمم مقهورة، ورنا
أنصار حق على الجلي أوداء
مستهم الحرب مس المرمضين بها
فما تشكوا، ولا شكوا، ولا راءوا
في عالم الغد ماذا قد أعد لهم
وما ترى أمم في الحرب غلباء
خطت مواثيق للإنسان واشترعت
بناء دنيا لها الإحسان بناء
إني أخاف عليها أن تضيعها
يد مبرأة للسلم، بيضاء
في ساعة من خمار النصر سامرها،
لما جرى من عهود الأمس، نساء
فقد شراعك لا تسلم أزمته
لغير كفك إن الريح هوجاء •••
يا شرق، مجدك إن لم ترس صخرته
يداك أنت، فقد أخلته أهواء
يا شرق، حقك إن لم تحم حوزته
صدور قومك، لم تنقذه آراء
والكون ملحمة كبرى جوانبها
دم، ونار، وإعصار، وظلماء
أكان عندك هذا الموت يصنعه
بكفه آدم العاصي، وحواء
من ذات أجنحة يخشى مسابحها
غول، ونسر، وتنين، وعنقاء
شأت خطاها بساط الريح وانطلقت
والأرض من هولها سوداء حمراء
تعلو وتنقض وشك اللمح صاعقة
يكاد منها يصيب النجم إعماء
وزاحفات من الفولاذ قد هصرت
من ثقلهن لصدر الأرض أحناء
إن صعدت، فالجبال الشم هاوية
أو عربدت، فالصخور الصم أشلاء
لم يخل من شرها ماء ويابسة
أو تنج من غدرها غاب وصحراء
يا شرق، يومك لا تخطئ سوانحه
فليس تغفر بعد اليوم أخطاء •••
في عهد «فاروق» طاب الملتقى، وعلى
جناته لقي القرب الأحباء
حمى العروبة أعراقا، ومد لها
خصبا لها فيه إنبات وإزكاء
وباركتها سماء من مآثره
فهيا لكل صنيع منه لألاء
عباقر الشرق هم آباؤه، وهمو
ملوكه الصيد، والشم الأعزاء
يا عصبة «الوحدة الكبرى» وعصمتها
هذي طوالعكم جلواء غراء
وددت لو شدت بالأسماء شادية
بها ربوع حبيبات وأرجاء
وما أسمي فتى شتى مناقبه
إن المناقب للفتيان أسماء
المصطفى وحواريوه إن ذكروا
فالشرق منبهة، والغرب أصداء
وكلكم عن حمى أوطانه بطل
مستقتل قرشي الروح فداء •••
بالله إن جئتم الوادي وناسمكم
ثراه، فهو أزاهير وأنداء
وطاف بالذكريات الأمس واستبقت
بالدمع عين، وبالأشواق حوباء
فاقضوا حقوق إخاء تستجير به
أخت لكم في صراع الدهر عزلاء
طعامها من فتات العيش مسغبة
وريها منه إيلام وإشقاء
أحلها ذهب الشاري، وحرمها
عصر به حرر القوم الأذلاء
حربان أثخنتاها أدمعا ودما
تنزو بها مهجة كلمى وأحشاء
هذي «فلسطين» أو هذي روايتها
ماذا تقولون إن لم يحسم الداء؟
تطلعت لكم ولهى أليس لها
على يديكم من العلات إبراء؟
حملتم العهد فيها عن أبوتكم
إن البنين لحمل العهد أكفاء
الأيام
أيتها الأيام، ما تصنعين
بذلك العبء الذي تحملين
غبنت، يا أيام، لم يلتمس
عذرك حتى المستضام الغبين
يلومك الناس على ما به
جرى يراع الغيب فوق الجبين
وقال من قال: لقد أولعت
بالشر، فالطبع لئيم لعين
عدوة أنت لمن خانه
حظ، وإن كنت الصديق المعين
لحاك من أخطأ في رأيه
كأنما أنت التي تفكرين
ومن أساء الصنع في عيشه
كيف تسيئين ولا تحسنين؟
ولامك الضليل في دهره
فمنك لا منه الضلال المبين!
حتى أخو الحرمان في حبه
كأنما أنت الحبيب الضنين
وأنت لا شكوى ولا آهة
مما ترى عيناك أو تسمعين
لمست ضعف الناس في عالم
قويه لا يرحم المضعفين •••
أخذت بالحسنى أراجيفهم
والضعف لا يشفع للمرجفين
وأنت، يا أيام، من رحمة
لهم تصلين، وتستغفرين
وأنت، يا أيام، كل الرضا
تولينهم من كنزه كل حين
فمن مرير علقم كالوزين
حلاوة في عيشهم تسكبين
وتنبتين الرفق في أنفس
غليظة قاسية لا تلين
أنا الذي أدري بما تصنعين
إن ضقت بالعمر الذي تفسحين
لديك ما يمحو عذابي، وما
يرقأ دمعي، وهو هام سخين
لديك ما يغني همومي، وما
يبرئ قلبي وهو دام طعين
لديك ما يشعرني راحة
إن عقني الود وخان اليمين
لديك ما ينصفني سلوة
إن ظلم الحب وجار الحنين
لولاك لم أنس فنائي، ولم
أحلم بأني خالد في السنين
بين الحب والحرب
بعد خمس جئتني، يا ذكرياتي
والأماني بين موت وحياة
بعد خمس، يا لها في السنوات
حملت كل ذنوب الكائنات
صاح فيها زحل بالظلمات
فطوت نجمي وسدت طرقاتي
ورمت شملي ببين وشتات
والصبا نشوان والحب مؤاتي
فاحفظيها في المآسي الخالدات
أو دعيها واذكري لي خطراتي
أرجعي لي بعض أحلامي، وهاتي
صفو أنغامي، وردي صدحاتي •••
حدثي ليلة خضنا «الأبيضا»
في سكون خفته أن ينبضا
ودجى كالسخط من بعد الرضا
قد دعونا نجمه أن يغمضا
جثم الرعب عليه فنضا
لججا سودا وظلا مقبضا
كلما عود ثقاب أو مضا
دفع «النيل» وأرغى، ومضى
ينذر الركب فماجوا ركضا
وادعى منهم خبيث عرضا
أن نجما «هتلريا» مغرضا
شع نارا وتوارى في الفضا •••
ذكرياتي كيف أقبلت إليا؟
كيف جزت البر والبحر القصيا؟
كيف خضت الكون لجا دمويا
وشواظا طاغي النار عتيا؟
ذكرياتي جددي هذا الرويا
وابعثيه نغما عذبا شجيا
ما عجيب أن ترديه عليا
بل عجيب أنني لا زلت حيا
أتلقاك، وكأسي في يديا
ونشيدي ضارع في شفتيا
طاف بي شاديك يدعوني مليا:
أيها الملاح، حان الوقت، هيا؟ •••
حان أن ننشر خفاق الشراع
يا سفيني ويك! هيا! لا تراعي
قد تدانى البحر من بعد امتناع
وغدت «فينيسيا» قيد ذراع
هذه الجنة، يا ويح الأفاعي!
نفثت في زهرها سم الخداع!!
آه، دعني من أحاديث الصراع
ضاع عمري! ويح للعمر المضاع
فالتمس نهزة حب ومتاع
تحت أفق صادح صافي الشعاع
يا شراعي، طف بهاتيك البقاع
وتهيأ للقاء ووداع! •••
أيها البحر! سفيني ما عراها؟
رنحتها نبأة رق صداها
أوحقا قربت من منتهاها
هذه المحنة وانجاب دجاها؟
أغدا تستقبل الدنيا مناها
حرة تشدو بمكنون هواها؟
وأرى حرية عز حماها
لم يضع عقباه من مات فداها؟
أيها الشرق! تأمل!! أتراها؟
أنت من داراتها أين سناها؟
ذدت عنها وتقدمت خطاها
يوم قالوا: خسر الحرب فتاها! •••
أي بشرى زفها أرخم لحن؟
من تراه ذلك الطيف المغني؟
مس قلبي صوته إذ مس أذني
ألحب، أم لسلم، أم تمني؟
يا بشير السلم، لا يكذبك ظني
أنا ظمآن إلى الشدو، فزدني
عبرت بي الخمس في صمت وحزن
أي خمس بعدها تمتد سني؟
صاح قلبي: إن تدعني لست مني
افتح الباب ونح القيد عني
آه، دعني أبصر العالم دعني
قد سئمت اليوم في أرضي سجني! •••
ما ثوائي في مكان، ما ثوائي!
هو ذا الفجر فهبوا أصدقائي!
افتحوا نافذتي عبر الفضاء
افتحوها لأرى لون السماء
في ظلال السلم أو نور الصفاء
حن قيثاري لشعري وغنائي
فانشدوني بين أمواج الضياء
وانشدوا فوق «البحيرات» لقائي
لا تقولوا: كيف يشكو من بقاء
شاعر في موطن حالي الرواء؟
قد ظلمتم دعوتي، يا أصدقائي
وجهلتم ما حياة الشعراء!! •••
يا ابنة «الإيزار» حييت، سلاما
وغراما، لا عتابا، لا ملاما
هذه الحرب التي راعت ضراما
شبها طاغ بواديك أقاما
ذقت في الغربة وجدا وسقاما
أتراها لم تطب مصر مقاما؟
مصر كانت لمحبيها دواما
لم تضع عهدا ولم تخفر ذماما
فاذكري في الغد أحبابا كراما
إن ألمت بك ذكراها لماما
واذكري بعض لياليها القدامى
في ضفاف حملت عنك الهياما •••
في ضفاف كل ما فيها جميل
تنبت الحبذ، وتنمي وتنيل
يخطر الفجر عليها والأصيل
بين صفصاف، وحور، ونخيل
يد «هاتور» على كل جميل
تنشر النوار في كل سبيل
و«أزوريس» على الشط الظليل
يعصر الخمر، ويسقي السلسبيل
هذه مصر ديارا وقبيل!
ألها في هذه الدنيا مثيل؟
عجبا لي، وعجيب ما أقول!
كيف يدعوني غدا عنها الرحيل؟!
إلى الطبيعة المصرية
خواطر حزينة
لم أنت، أيتها الطبي
عة، كالحزينة في بلادي؟
لولا أغاريد ترس
ل بين شادية وشادي
وخيال ثور حول سا
قية يراوح أو يغادي
وقطيع ضأن في المرو
ج الخضر يضرب بالهوادي
لحسبت أنك جنة
مهجورة من عهد عاد
هجروك، لا كنت العقي
م ولست منجبة القتاد
عجبا وماؤك دافق
ونجوم أرضك في اتقاد
حسن يروع طرازه
ويمل في نسق معاد
أرنو إليه ولا أحس
بفرحة لك في فؤادي
حسناء، ساذجة الملا
مح، في إطار من سواد
دمن يقال لها: قرى
غرقى أباطح أو وهاد
الطين فيها واليرا
ع أساس ركن أو عماد
يأوي لها قوم يقا
ل لهم جبابرة الجلاد
وهم ضعاف أوثروا
بشقائهم بين العباد
المكثرون الزاد لم
يتمتعوا بوفير زاد
لهم الغراس ورعيه،
ولغيرهم ثمر الحصاد •••
لو كنت في الغرب الصنا
ع لكنت قبلة كل هادي
وافتن فيك الفن بال
روح المحرك للجماد
وتفجر المرح الحبي
س بكل ناحية ووادي
ولقلت: أبتدر الشدا
ة غداة فخر أو تنادي
هذي الروائع فيك لم
تخلق لغيرك، يا بلادي!
خمرة الآلهة
هاتها كأسا من الخمر التي
سكرت آلهة الفن بها
اسقنيها وتفيأ ظلتي
وترنم بأغاني حبها
هذه النكهة من صهبائها
شبع الروح وري الجسد
عربد الشاعر من لألائها
وهي كنز في ضمير الأبد
هاتها في كل يوم حسن
نفحة الوحي وإشراق الخيال
وأدرها نغما في أذني
فاض من بين سحاب وجبال
هاتها سحر الوجوه النضرات
هاتها خمر الشفاه الملهمات
والعيون الشاعريات اللواتي
شعشعت بالنور آفاق حياتي
ذقتها كالحلم في ريق عمري
قبلة عذراء من ثغر حيي
وتسمعت لها في كل فجر
وهي تنهل بإلهامي الوضي
هاتها جلواء، يا توأم روحي
فبها أبصر للخلد الطريقا
لو خلا من كرمتيها فلك نوح
أخطأ الجودي، أو بات غريقا
ما أراها أخطأت في وهمنا
عالم الغابة أو مهد الجدود
وأراها خلقة في دمنا
يوم كنا بعض أحلام القرود
جدنا الأعلى على كبرته
لم تشنه نظرة المنتقص
هو ما زال على فطرته
ضاحكا خلف حديد القفص
ذاقها مذ كان في الغاب لعوبا
يتغذى من ثمار الشجر
فمضى يحلم نشوان طروبا
بحفيد في مراقي البشر
يا لها من قطرة فوق شفه
غيرت مجرى حياة العالم
في خيال مرح أو فلسفه
أبصر الدنيا بعيني آدم
فلسفته حين مست قلبه
فاشتهى الفن وعلم المنطق
وأرته وأنارت دربه
وهو في سلمه لم يرتق
أيها الحالم، غررت بنا
وكفى سكرك ما جر علينا
عد بنا للغاب أو هات لنا
عهدها، أحبب به اليوم إلينا
أوترضى بالذي ما كنت ترضى
أي دنيا من عذاب وشقاء
ورقي أهلك العالم بغضا
بين نار، وحديد، ودماء
شوه العلم رؤى الكون القديم
ومحا كل مسرات الدهور
أو أرض جوفها نار جحيم؟
وفضاء كل ما فيه أسير؟
أسرة الشمس اشتكت من أيدها
كيف لا يشكو الأسارى المرهقون؟
لو أطاقوا أفلتوا من قيدها
فإذا هم حيث شاءوا يشرقون
إن يكن قد أصبح البدر الوضيء
حجرا، والنجم غازا وحديد
فسلاما، أيها الجهل البريء
وعزاء، أيها الكون الجديد
يا حبيبي، دع حديث الفلسفات
طاب يومي فتفيأ ظلتي
أترع الكأس، وناولني، وهات
قبلة تنقذني من ضلتي
أو فقم للغاب من غريدها
نسمع الروح الطليق المرحا
ونعب الخمر من عنقودها
واترك الدن، وخل القدحا
الغرام الذبيح
من وحي الجسد
كم ليلة حمراء خلت ظلامها
يد مارد سلت خضيب حسام
وكأن كل سحابة في أفقها
شبح الخطيئة فوق عرض دامي
وكأن أنجمها نوافذ حانة
شرب الدخان بها بريق الجام
وكأن أنوار المدينة تحتها
سرج الغواية في طريق حرام
همد الهواء بها فجهد حراكه
هبوات نار في نفيث قتام
وكأنما اختنق الفضاء فكل ما
فيه صريع أو وشيك حمام •••
ألفيتني جسدا تسارق روحه
قبل عواصف ضرجت بأثام
أجتاحها وأضج من لذعاتها
فكأنها بدمي نقيع سمام
وعلى يدي مسمورة مخمورة
ألتذ كالمقرور حر ضرام
متضائل الأفكار مهدور القوى
متزايل الأهواء والأحلام •••
هي من ترى؟ هي هن، هن جواذبي
بأنيق ثوب، أو رشيق قوام
الشاردات العائدات مع الضحى
الطاردات وراء كل ظلام
هن اللواتي إن صحوت فإنني
منهن طالب مهرب وسلام
أخمدت فوق شفاههن شبيبتي
وذبحت بين عيونهن غرامي!
امرأة
أقبلت أم أمعنت في الإعراض
إني بحبك، يا جميلة، راضي
والله ما أعرضت بل جنبتني
شطط الهوى، وسموت عن أغراضي
ألقاك لست أراك إلا فتنة
علوية الإشراق والإيماض
كم رحت أغمض ناظري من دونها
فأراه لا يقوى على الإغماض
وذهبت ألتمس السلو وأطلقت
نفسي زمام جوادها الركاض
يجتاز نار مفازة مشبوبة
ويخوض برد جداول ورياض
ولقيت غيرك غير أن حشاشتي
لم تلق غير الوقد والإرماض
واعتضت باللذات عنك فلم تجد
روحي كلذة حلمك المعتاض
وأطعت ثم عصيت، ثم وجدتني
بيديك لا عن ذلة وتغاضي
لكن لأنك إن خطرت تمثلت
دنياك تسعى لي بأروع ماضي!
نداء القلب
من المجموعة الأولى لأغاني الحب عند قدماء المصريين.
حبيبة قلبي نأت دارها
ولم تنأ عني وعن ناظري
أرى وجهها مشرقا بالجمال
يطل من الشاطئ الآخر
هو النهر يفصل ما بيننا
مدلا بتمساحه الغادر
توسد رملته شاخصا
إلي وما كنت بالخائر
إليها على رغمه فلأخض
غوارب تياره الثائر
إذا ما تقاذفني موجه
وسال علي بدني الضامر
مضيت كأني على مائه
أنيل الثرى قدمي عابر
لقد حال يابسة ماؤه
بسلطان هذا الهوى الساحر
وصيرني سحر هذا الهوى
وبي قوة القادر الظافر
ألا إن سلطان هذي المياه
ليعنو لسلطانها القاهر
فاروس الثاني
نبأ، في لحظة أو لحظتين،
طاف بالدنيا وهز المشرقين
نبأ ، لو كان همس الشفتين
منذ عام، قيل: إرجاف ومين!
وتراه أمة بالضفتين
أنه كان جنين «العلمين»
موسليني! أين أنت اليوم؟ أين؟
حلم؟ أم قصة؟ أم بين بين؟ •••
قصر «فينيسيا» إليك اليوم يهدي
لعنة «الشرفة» في قرب وبعد
عجبا! يا أيهذا المتحدي
كيف ساموك سقوط المتردي؟
إمبراطورك في هم وسهد
صائحا في ليله لو كان يجدي:
أين، يا «فاروس»، وليت بجندي؟
أين وليت بسلطاني ومجدي؟ •••
اعتزلت الحكم؟ أم كان فرارا
بعد أن ألفيت حوليك الدمارا
سقت للمجزرة الزغب الصغارا
بعد أن أفنيت في الحرب الكبارا
يا لهم في حومة الموت حيارى
ذهبوا قتلى، وجرحى، وأسارى
يملئون الجو في الركض غبارا
وقبورا ملئوا وجه الصحارى •••
أعلى «الصومال» أم «آديس بابا»
ترفع الرواية، أم تبني القبابا
أم على «النيل» ضفافا وعبابا
لمحت عيناك للمجد سرابا
فدفعت الجيش أعلاما عجابا
ما لهذا الجيش، في الصحراء، ذابا؟
بخرته الشمس فارتد سحابا
حين ظن النصر من عينيه قابا •••
يا أبا «القمصان» جمعا وفرادى
أحمت قمصانك السود البلادا؟
لم آثرت من اللون السوادا؟
لونها كان على الشعب حدادا
جئت بالأزياء تمثيلا معادا
أي شعب عز بالزي وسادا
إنه الروح شبوبا واتقادا
لا اصطناعا بل يقينا واعتقادا •••
موسليني! قف على أبواب روما
وتأملها طلولا ورسوما
قف تذكرها على الأمس نجوما
وتنظرها على اليوم رجوما
أضرمت حولك في الأرض التخوما
تقتفي شيطانك الفظ الغشوما
أوكانت تلك «روما» أم «سدوما»
يوم ذاقت بخطاياك الجحيما؟ •••
هي ذاقت من يد الله انتقاما
لأثام «خالد» عاما فعاما
يوم صبت فوق بيروت الحماما
لم تذر شيخا ولم ترحم غلاما
من سفين يملأ البحر ضراما!
ذلك الأسطول كم ثار احتداما
أين راح اليوم؟ هل رام السلاما؟
أم على الشاطئ أغفى ثم ناما؟ •••
أي عدوان زري المظهر
بدم قان ودمع مهدر
حين طافت بحمى (الإسكندر)
أجنح من طيرك المستنسر
تنشر الموت بليل مقمر!
يا لمصر! أترى لم تثأر
بيد المنتقم المستكبر؟
أترى تذكر؟ أم لم تذكر؟! •••
موسليني! لست من أمس بعيدا
فاذكر «المختار» والشعب الشهيدا
هو روح يملأ الشرق نشيدا
ويناديك، ولا يألو وعيدا:
موسليني! خذ بكفيك الحديدا
وصغ القيد لساقيك عتيدا
أو فضع منك على النصل وريدا
فدمي يخنقك اليوم طريدا!!
هزيمة الشيطان
من وحي الهجرة
ألا ما لهذا الليل تدجى جوانبه
على شفق دام تلظى ذوائبه؟!
وما ذلك الظل المخوف بأفقه
يطل فترتد ارتياعا كواكبه؟!
أأيتها الأرض انظري، ويك! واسمعي!
توثب فيك الشر حمرا مخالبه
أرى فتنة حمراء يلفظها الثرى
دخانا تغشي الكائنات سحائبه
وأشتم من أنفاسها حر هبوة
كأن هجير الصيف يلفح حاصبه
أرى قبضة الشيطان تستل خنجرا
توهج شوقا للدماء مضاربه
تسلل يبغي مقتلا من «محمد»
لقد خيب الباغي وخابت مآربه
تقدم سليل النار! ما الباب موصد!
فماذا توقاه، وماذا تجانبه
تأمل! فهل إلا فتى في فراشه
إلى النور تهفو في الظلام ترائبه؟!
يسائلك الأشياع زاغت عيونهم
وأنت حسير ضائع اللب ذاهبه:
ترانا غفونا أم ترى عبرت بنا
نفاثة سحر خدرتنا غرائبه؟!
وما زال منا كل أشوس قابضا
على سيفه لم تخل منه رواجبه
ترى كيف لم تبصر غريمك ساريا
وأين ترى يمضي؟ وتمضي ركائبه؟
تقدم، وجس في الدار وهنا؟ فما ترى؟
لقد هجر الدار النبي وصاحبه!!
يحثان في البيداء راحلتيهما
إلى جبل يئوي الحقيقة جانبه
فقف، وتنظر حائرا نصب غاره
تحداك فيه ورقه وعناكبه •••
لتعلم أن الحق روح وفكرة
يذل لها الطاغي وتعنو قواضبه
فطر، أيها الشيطان، نارا أو انطلق
دخانا، فأخسر بالذي أنت كاسبه!
خسئت! ولو لم يعصم الحق ربه
طوى الأرض ليل ما تزول غياهبه
موكب الوداع
هذا الرحيق، فأين كأس الشاعر
قد أوحش الأحباب ليل السامر!
لم، يا حياة، وقد أحلك قلبه
لم تؤثريه هوى المحب الشاكر!
أخليت منه يديك حين حلاهما
من ذلك الأدب الرفيع الباهر
لو عاش، زادك من غرائب فنه
ما لا يشبه حسنه بنظائر
وظفرت من تمثيله وغنائه
بأدق مثال وأرخم طائر
أمل محا المقدار طيف خياله
وتخطفته يد الزمان الجائر
وأصار فرحتنا بمقبل يومه
مأساة ميت في الشباب الباكر
متوسدا شوك الطريق، ملثما
بجراحه، مثل الشهيد الطاهر
ردوا المراثي، يا رفاق شبابه،
لن تطفئوا بالدمع لوعة ذاكر
هذا فتي نظم الشباب وصاغه
وحيا تحدر من أرق مشاعر
جعل الثلاثين القصار مدى له
والخلد غاية عمره المتقاصر
غنوه بالشعر الذي صدحت به
أشواقه لحن الحبيب الزائر
غنوه بالشعر الذي خفقت به
أنفاسه لحن الحبيب الهاجر
تلك القوافي الشاردات حشاشة
ذابت على وتر المغني الساحر
فتسمعوا أصداءها في موكب
للموت محتشد الفواجع زاخر
مشت الطبيعة فيه بين جداول
خرس، وأدواح هناك حواسر
ولو استطاعت نضدت أوراقها
كفنا له، والنعش غض أزاهر
ودعت سواجع طيرها فتألقت
أمما تخف إلى وداع الشاعر •••
يا ابن الخيال تساءلت عنك الذرى
والشهب بين خوافق وزواهر
وشواطئ «محجوبة» شارفتها
فوق العواصف والخضم الهادر
أيرى جناحك في السماء كعهده
متوشحا فلق الصباح السافر
أيرى شراعك في العباب كعهده
متقلدا حلق السحاب الماطر
هدأ الصراع وكف عن غمراته
من عاش في الدنيا بروح مغامر
وطوى البلى إلا قصيدة شاعر
أبقى من المثل الشرود السائر
شعر تمثل كل حس مرهف
لا رصف ألفاظ ورص خواطر
ودمى مفضحة الطلاء كأنها
خشب المسارح موهت بستائر
تتمثل التاريخ في أزيائه
بين المصفق وابتسام الساخر
من صنع نظامين جهد خيالهم
مسح الزجاج من الغبار الثائر
متخلفين عن الزمان كأنهم
أشباح كهف أو ظلال مساخر •••
يا قوم، إن الشعر روحانية
وذكاء قلب في توقد خاطر
نظر «الضرير» به فأدرك فوق ما
لمست يد الآسي وعين الناظر
متعرفا صور الخلائق سابرا
أعماق أرواح وغور سرائر
هذي عروس الزنج ليلته التي
أومت بكف حليت بأساور
والنجم أشواق، فمهجة عاشق،
وذراع معتنق، ووجنة عاصر
الشعر موسيقى الحياة موقعا
متدفقا من كل عرق فائر
عشاق بابل لو سقوا برحيقه
لم يذكروها بالرحيق الساكر
وتنصتت أقداحهم لمغرد
مرح يصفق بالبيان الساحر
أوكان كلم برجها بلسانه
والقوم شتى ألسن وحناجر
لم نشك من عوج اللسان ووحدت
لهجات هذا العالم المتنافر!
صاحب الأهرام
هل كنت بين الموت والميلاد
إلا حياة مآثر وأيادي؟
وهل استطبت على الرفاهة والصبا
إلا نهار ضنى، وليل سهاد؟
وكفاح أيام، وعرك شدائد،
بجميل صبر، أو طويل جهاد؟
متواضعا، مترفعا، ترقى الذرا
في مثل صمت الكوكب الوقاد
يلقي أشعته هناك وها هنا
ويضيء في الأغوار والأنجاد
أهرامك المثلى نتاج قرائح
خلاقة موصولة الإمداد
دنيا من الفكر الطليق، وعالم
رحب الجوانب، شاسع الآماد
تهدي الحيارى المدلجين كأنها
في شاطئ الوادي منارة هادي
قم، يا فتى الأهرام، وانظر رفقة
يتنظرون خطاك في الميعاد
ويسائلون بك العشي كدأبهم
هذا الندي! فأين صدر النادي؟
يا لهف، ما علموا بأنك مزمع
سفر الحياة ورحلة الآباد
يا لهف، ما ظفروا كما عودتهم
عند الوداع بنظرة وتنادي
دخلوا عليك البيت جسما ضارعا
متفردا، والموت بالمرصاد
والفكر صحو والجبين شعاعة
ألاقة، والروح في إيقاد
والشمس بين سحابتين تدجتا
رمق يصارع حينه ويرادي
في شاطئ قاني المياه كأنها
مصبوغة بدم النهار الفادي
هي صورة لك، والمساء مقارب،
والروح ركب، والمنية حادي
والقلب في كف القضاء فراشة
رفافة، والعمر وشك نفاد
عجبا أيشكو قلبه من قلبه
كنز الرضا، والخير، والإسعاد!
وتخونه الأنفاس وهو رحابة
كم نفست عن أمة وبلاد؟
وإذا أتى الأجل النفوس فلا تسل
عن صحة الأرواح والأجساد •••
أأبا بشارة لا يرعك بعاده
مصر اجتبته فلا ترع ببعاد
آثرتها بهواك، يا لغرامها!
هي مصر مهد الموت والميلاد
حفظت لوالدك الصنيع المجتبى
ورعت فتاه البر في الأولاد
ورأت نجيبك فاستفاض حنانها
لسميه المرجو في الأحفاد
ذكرت بيتمك يتمه فتفجرت
حبا، وقبلت الرجاء البادي
لبنان نازعها هواك وما أرى
لبنان إلا من ضفاف «الوادي»
الأرز فيه والنخيل كلاهما
أعشاش حب أو خمائل شادي
أرض العروبة لا تخوم ولا صوى
ما مصر غير الشام أو بغداد
وأخوة بالمسجدين وجيرة
من آل «طارق» أو «بني عباد» •••
قسما بأمساء الندي، ومجلس
متألق بالرفقة الأمجاد
وجمال أسحار، وطيب أصائل
بالذكريات روائح وغوادي
ومحبة للخير صفو مزاجها
مرضاة نفس أو عزاء فؤاد
ألا استمعت إلى رفاقك ليلة
والنار في مهج وفي أكباد
جمد المداد على شبا أقلامهم
فصريرها نوح ولحن حداد
وا حسرتا! أي الرثاء أصوغه
لوفاء حق محبتي وودادي؟
أرثيك للأمم التي شاطرتها
كرب الخطوب وفرحة الأعياد
وأذعت دعوتها وجزت بصوتها
في المغربين شوامخ الأطواد
ووصلت بين قريبها وبعيدها
رحم العروبة أو عهود الضاد
قم حدث القراء عما شعته
في العالم المتنافر المتعادي
وصف الممالك والشعوب كما ترى
ببراعة الوصافة النقاد
تطوي الغمائم والخضارم والثرى
وتجول بين حواضر وبوادي
بفطانة الصحفي وهي بصيرة
تغزو وتفتح مغلق الأسداد
يا ربما نبأ أثار بوقعه
ما لا تثير ملاحم الأجناد
وهدى قبيلا أو أضل جماعة
لسبيل غي أو سبيل رشاد
وا لهف نفسي كم تمنيت المنى
يوم السيوف تقر في الأغماد
هل كنت تبصر من حضارة عصرها
إلا نثير حجارة ورماد؟ •••
إن السلام الحق ما آثرته
والأرض غرقى في دم وسواد
والناس ما زالوا كما خلفتهم
صرعى الهوى وفرائس الأحقاد
شرق وغرب
1947
ألحان وأشعار في منزل ريتشارد فاجنر
يا للطريق الضيق الصاعد بين ربوتين
كأنما خط على قدر خطى لعاشقين
الشجرات حوله كأنها أهداب عين
كعهده بصاحب الدار ظليل الجانبين
نبأه الصدى المرن عن قدوم زائرين
في فجر يوم ماطر شق حجاب ديمتين
كأنما ينزل منه الوحي حبات لجين
فانتبهت خميلة تهز عش طائرين
وشاع في الغابة همس من شفاه زهرتين
من الغريبان هنا؟ وما سراهما، وأين؟! •••
ماذا قدومهما والغيث مدرار
لا صاحب الدار طلاع ولا الدار
هذي البحيرة وسنى، حلم ليلتها
لما تفق منه شطآن وأغوار
والأرض تحت سحاب الماء أخيلة
مما يصوره عشب ونوار
والصبح في مهده الشرقي ما رفعت
عن ورده من نسيج الغيم أستار
حتى الجبال فما لاحت لها قمم
ولا شدا لرعاة الضأن مزمار
فمن هما القادمان؟ الريح صاغية
لوقع خطوهما والأرض أبصار!
أعاد من زمن الأشباح سامره
فالليل والغاب أشباح وأسمار؟
أم البحيرة جنياتها طلعت
فهب موج يناديها وتيار!
أم راصدا كوكب ضلا سبيلهما
لما خبت من نجوم الليل أنوار
أم صاحبا سفر مال الضنى بهما
حوتهما جنة للفن معطار
أم عاشقان ترى؟ أم زائران هما؟
وهل مع الفجر عشاق وزوار؟ •••
وأمسك الغيث كما لو كان يصغي مثلنا
واعتنقت حتى وريقات الغصون حولنا
كأنما تخشى النسيم أو تخاف الغصنا
وانبعث اللحن الشجي من هنا ومن هنا
يثور في إيقاعه قيثارة وأرغنا
كأن جنا في السماء يشعلون الفتنا
كأن أربابا بها يحاكمون الزمنا
يا صاحب الإيقاع ما تعرف ما هجت بنا
الفجر؟ أم ثارت على الشمس بوارق السنا؟
ما لك قد غنيته هذا النشيد المحزنا
غنيته آلهة أم أنت غنيت لنا؟ •••
ما ذلك الصوت شاجي اللحن سحار
يجريه نبع من الإلهام زخار
فيه تنفس فوق السحب آلهة
وآدميون فوق الأرض ثوار
وفيه تهمس أرواح وأفئدة
منهن عان، ورحمن، وجبار
له مذاق، له لون، له أرج
خمر أباريقها شتى وأثمار
أشتفه وأنادي كل ناحية
من المغني وراء الغاب يا دار؟
السمفونية هذي! أم صدى حلم
كما تجاوب خلف الليل أطيار!
أعاد للمعزف المجهور صاحبه
فعربدت في يديه منه أوتار!
أظل أصغي وما من شرفة فتحت
ولا أزاح رتاج الباب ديار
حتى الحديقة لفت كوخ حارسها
بصمتها، فهما نبت وأحجار
تواضعت بجلال الفن ما ارتفعت
مثل البروج لها في الجو أسوار
تصغي إلى همسات الريح شيقة
كأنما همسات الريح أخبار! •••
هنيهة ثم سمعنا هاتفا مرددا
يقول: قم «يا سجفريد» فالصباح قد بدا
عرائس الوادي ألم تضرب لهن موعدا؟
ماذا! قم انفض الكرى، ونم كما شئت غدا
واخطر على الغابة منضور الصبا مخلدا
خذ سيفك السحري صيغ جوهرا وعسجدا
قد لقي التنين منه في العشية الردى
صوت مع الريح سرى ... وللسكون أخلدا
فأمسكت صاحبتي يدي وحاطت بي يدا
تقول: لم أسمع كهذا اللحن أو هذا الصدى
قلت: ولا بمثله شاد على الدهر شدا •••
قد باح بالنغم الموعود قيثار
فالفجر أحلام عشاق وأسرار
صحا يفصل رؤياه ويعبرها
موج على الشاطئ الصخري ثرثار
وزحزحت ورق الصفصاف حانية
على البحيرة أعشاب وأزهار
تسائل الماء: هل غنته أو عبرت
شهب به مستحمات وأقمار؟
يا صاحب اللحن إن الغاب مصغية
فأين من «سجفريد»: السيف والغار
ما زال فوق ندي العشب مضجعه
ومن يديه على الأغصان آثار
هذا النشيد، نشيد الحب، تعزفه
له عرائس، مثل الورد، أبكار
بعثتهن من الأنغام أجنحة
هزيزهن مع الأفلاك دوار
في صدر قيثارة أودعته نغما
مزاجه الماء والإعصار والنار
تفضي بما شئت من أسرار عالمها
فيه ليال وأيام وأقدار
حتى الطبيعة من ناس وآلهة
تمازجت فهي ألحان وأشعار!
فلسفة وخيال
نهزة أهدت الخيال إلينا
ودعتنا لموعد فالتقينا
ها هنا تحت ظلة الغابة الشج
راء سرنا، والفجر يحنو علينا
وقطفنا من زهرها، وانثنينا
فجنينا تفاحها بيدينا
ومرحنا بها سحابة يوم
وبأشجارها نقشنا اسمينا •••
ها هنا يا ابنة البحيرات والأو
دية الخضر والربى والجبال
صدح الحب بالنشيد فلبي
نا نداء الهوى وصوت الخيال
وتبعنا على خطى الفجر موسي
قى من العشب والندى والظلال
وسمعنا حفيف أجنحة ته
فو بها الريح من كهوف الليالي •••
قلت لي والحياء يصبغ خديك:
أنار تمشي بها أم دماء؟
ملء عينيك يا فتى الشرق أحلا
م سكارى وصبوة واشتهاء
وعلى ثغرك المشوق ابتسام
ضرجته الأشواق والأهواء
أوحقا دنياك زهر وخمر
وغوان فواتن وغناء؟ •••
قلت: يا فتنة الصبا حفلت دن
ياك بالحب والمنى والأغاني
ما أثارت حرارة الجسد المش
تاق إلا مرارة الحرمان
إن أجسادنا معابر أروا
ح إلى كل رائع فتان
أنا أهوى روحية العالم المن
ظور لكن بالجسم والوجدان •••
ما تكون الحياة لو أنكر الأح
ياء فيها طبائع الأشياء!
أنا أهواك كالفراشة صاغت
ها زهور الثرى وكف الضياء
أنا أهواك فتنة صاغها الم
ثال من طينة ومن إغراء
أنا أهواك بدعة الخلد صيغت
من هوى آدم ومن حواء •••
أنا أهواك من آثام وطهر
حلم إغفاءتي وصحو غرامي
أنا أهواك تبدعين يقيني
من نسيج الظنون والأوهام
أنا أهواك دفء قلبي وينبوع اش
تهائي، وشرتي، وعرامي
وحنانا مجسدا إن طواني ال
ليل وسدت صدره آلامي •••
عجبا! ما حقائق الكون إلا
لمحات الخيال والتفكير
قبل أن تشرق النجوم على الأر
ض أضاءت بذهن رب قدير
وتجلت في حلمه بنظام
من بديع التكوين والتصوير •••
أطلقي نفسك السجينة ملء ال
غاب، ملء الفضاء، ملء العباب
واحلمي بالحياة من نغم الخل
د وخمر الهوى وزهر الشباب
ها هنا عشنا على الشاطئ المس
حور نبنيه من غصون الغاب
ونخط البستان أحلام طفل
صقلته مواهب الأرباب •••
خطرة، ثم أطرقت في حياء
وأدارت في جانب الغاب عينا
وانثنت بابتسامة فدعتني
ثم قامت تمشي هناك الهوينا
وتلاقت عيوننا فتدانت لي،
وجن الحنان في شفتينا
فاعتنقنا في قبلة قد أذابت
جسدينا، ومازجت روحينا
على حاجز السفينة
حنت على حاجز السفينة
ترنو إلى الرغو والزبد
كأنها الفتنة السجينة
تمضي بها لجة الأبد
نبت بها ضجة المكان
يزينها الصمت والجلال
والبحر من حولها أغاني
والسحب والريح والجبال
ساهرة وحدها تطل
بملتقى النور والظلام
لا تسأم الصمت أو تمل
تهامس الشهب والغمام
تصغي إلى الموج والرياح
في معزل شاق كل عين
كأنها نجمة الصباح
مطلة من سحابتين
هفهافة الثوب في بياض
يكاد عن روحها يشف
لأي ذكرى وأي ماض
يسري بها خاطر ويهفو
وما وراء العباب تبغي
وأي سر لها تبدى
وأي لحن إليه تصغي
بروحها الحالم استبدا
عجبت للبحر ما عراه
يود لو مس ناظريها
يتاخم النجم في علاه
وينثني جاثيا لديها
وهائم في الفضاء صب
مجنح لا يبين طيفا
كم ود لو من ضنى وحب
هوى على صدرها وأغفى
كم بث من أنة وألقى
بهمسة ضائع صداها
يا ويحه لا يحير نطقا
فكيف تلقي له انتباها
أنفاسه عن جواه تغني
عليلة خفقها اضطراب
كآهة في فم المغني
جريحة لحنها العذاب
يدنو، ويرتد في حياء
يجاذب الثوب والشعر
وكلما كل من عياء
أثاره الوجد فاستعر
يضمها راعشا، ويمضي
مباعدا، وهو ما ابتعد
كأنه بالحنين يقضي
لبانة الروح والجسد
والقمر الطالع الصغير
أزاح عن وجهه السحابا
وقد جرى ضوءه الغرير
يستشرف الأفق والعبابا
المرح العابث الطروب
لما دعا باسمه الشروق
نادت به موجة لعوب
إلي ... يا أيها المشوق
طال على المنتأى طروقي
وطال مسراك في السماء
فنم على صدري الخفوق
واحلم بما شئت من هناء
وأنسني وحشة الليالي
بقبلة منك يا حبيبي
لكنه مر لا يبالي
ولج في صمته العجيب
مذ أبصرته انثنى ومرا
قالت، ومن دمعها مسيل:
لأنت مثل الرجال طرا
يا أيها الخائن الجميل
وهبتك الغض من شبابي
سكران من خمر أمسياتي
فأين تمضي على العباب
من صوت حبي وذكرياتي
ومن هي الغادة التي
تنسل من مخدعي إليها
أعندها مثل فتنتي
أم أنني أفتري عليها
اذهب إليها ودع ذمامي
فديتك، واسلم على التنائي
اذبح على صدرها غرامي
واملأ لها الكأس من شقائي
واله مع الغيد والعذارى
وغن بالكأس والوتر
وانقع من الغلة الأوارا
واقطف من اللذة الثمر
أبوك، والطبع لا يحول،
ورثته خلقة وخلقا
يا أيها القلب الملول
من قبضتي لن تنال عتقا
مطارد أنت باشتياقي
ما جبت أرضا وجزت بحرا
مقيد أنت في وثاقي
وإن رأتك العيون حرا
لأنت مهما كبرت طفلي
يا ابن الهوى البكر والألم
خطاك مسبوقة بظلي
وإن تعلقت بالقمم
سأحفظ العهد منك دوما
وأقطع العمر في انتظارك
وسوف تأوي إلي يوما
تبكي، وأبكي إلى جوارك
ضراعة من عذاب أنثى
مشت على المائج الغضوب
صغا لها الليل واستحثا
سواكن الريح للهبوب
وحدقت في الدجى نجوم
غيرى، تغامزن بالخبر
وغمغمت نجمة رءوم
أما يرى ضوءه القمر؟!
أما يرى ذلك الصبيا
يؤلب البحر والظلاما؟
فيا له فاتنا خليا
يزور العشق والغراما!
كم ليلة بعد ألف ليلة
لم تروها عنه شهرزاد
وكم عناق له وقبلة
في كذبة لفظها معاد
فاستوعب الضوء ملء حسه
مفاتن الناس والطبيعة
مرددا في قرار نفسه
ما أبشع الغيرة الوضيعه
وارتعش الضوء ثم أضفى
من حوله الصفو والسكينه
وابتسمت نفسه فألفى
خطاه في جانب السفينه
فراعه ذلك الجمال
جمالها الصامت الحزين
فشاقه الشعر والخيال
وهزه الوجد والحنين •••
فقال: يا روعة المساء
وفتنة اللب والبصر
قد آذن الليل بانقضاء
وأنت موصولة السهر
أيتها الملكة الكسيره
أيتها الربة الخجولة
أيتها الطفلة الكبيره
لن تبرحي عالم الطفولة!
أعلم ما تكتمين عني
وإن تلثمت بالخفاء
خمس ليال وأنت مني
متبوعة الظل باشتهائي
قد كنت أزهى بما عرفت
من فتن الحسن والدلال
لكنني الليلة اكتشفت
أروع ما شمت من جمال
عشقت فيك الهوى وذله
في زهوة الحسن والشباب
وذلك الصمت، ما أجله
في عالم اللغو والكذاب
هاربة أنت يا فتاتي
من ثورة الشك والريب
هربت من ضجة الحياة
فكيف من نفسك الهرب!
بها ابدئي أولا فسلي
وردك من شوكه الأثيم
لا البعد يجدي ولا التسلي
كطعنك الغدر في الصميم
هنيهة لم يطل مداها
تروع بالصمت والشحوب
لم يبلغ الليل منتهاها
إلا على روعة المغيب
والتفت الضوء للوداع
يهمس في رقة ووجد
يا ربة الحسن لا تراعي
فلترعك الكائنات بعدي •••
يا ليل، يا موج، يا رياح
أيتها السحب والظلال
أيتها الغور والبطاح
أيتها الشهب والجبال
في الجو، في الماء، في الثرى
صوني لها العهد والودادا
ردي على عينها الكرى
وأبعدي الفكر والسهادا
وأنقذيها من الجوى
يا عاشقاتي على الزمان
بكل ما فيك من قوى
وكل ما في من حنان!!
اعتراف
إن أكن قد شربت نخب كثيرا
ت وأترعت بالمدامة كأسي
وتولعت بالحسان؛ لأني
مغرم بالجمال من كل جنس
وتوحدت في الهوى ثم أشرك
ت على حالتي رجاء ويأس
وتبذلت في غرامي فلم أح
بس على لذة شياطين رجسي
فبروحي أعيش في عالم الف
ن طليقا والطهر يملأ حسي
تائها في بحاره لست أدري،
لم أزجي الشراع أو فيم أرسي
لي قلب كزهرة الحقل بيضا
ء نمتها السماء من كل قبس •••
هو قيثارتي عليها أغني
وعليها وحدي أغني لنفسي
لي إليها في خلوتي همسا
ت أنطقتها بكل رائع جرس •••
كم شفاه بهن من قبلاتي
وهج النار في عواصف خرس
ووساد جرت به عبراتي
ضحك يومي منه وإطراق أمسي •••
أيهذي الخدور! أنوارك الحم
راء كم أشعلت ليالي أنسي
أحرقتهن! آه لم يبق منه
ن سوى ذلك الرماد برأسي!
البحر والقمر
تساءل الماء فيك والشجر
من أين يا «كان» هذه الصور؟
البحر والحور فيه سابحة
رؤى بها بات يحلم القمر!
أطل والضوء راقص غزل
دعاه قلب، وشاقه بصر
يهمس فيما يراه من فتن
آلهة هؤلاء أم بشر؟
يقفز من لجة إلى حجر
كأنما مس روحه الضجر
معربدا لا يريم سابحة
إلا ومنه بثغرها أثر
من كل حواء مثلما خلقت
يعجب منها الخرير والوبر
ألقته عنها رقائقا ونضت
جسما تحامى نداءه القدر
في حانة ما علت بها عمد
ولا استوى في بنائها حجر
جدرانها الماء، والسماء لها
سقيفة، والنسائم الستر
خمارها منشد، وسامرها
حور تلوى، وفتية سكروا
لم تبق في الشط منهم قدم
قد خوضوا في العباب وانتثروا
وشيعوا العقل حينما شربوا
وودعوا القلب حيثما نظروا
والسابحات الحسان حولهم
كأنهن النجوم والزهر
يزيد سيقانهن من بهج
لون عجيب الرواء مبتكر
يضيء وردا وخمرة وسنا
ذوب من المغريات معتصر
تغاير الموج إذا طلعن به
وثار من حولهن يشتجر
بهن يلتف مرتقى ويرى
ينشق عنهن فيه منحدر
منفتلات قدودهن كما
ينفتل الغصن آده الثمر
ملوحات بأذرع عجب
تحذرهن النهود والشعر
والضوء فوق الخصور منهمر
والماء تحت الصدور مستعر
ما زلن والبحر في توثبه
يرغي كما راع قلبه خطر •••
قد جاوز الليل نصفه فمتى
تؤم فيه أصدافها الدرر
فليصخب البحر ولتئن به
رماله، وليثرثر الشجر
ولتعصف الريح فوق مائجه
ولينبجس من غمامه المطر
أقسمن لا ينتحين شاطئه
وإن ترامى بمائه الشرر
حتى يرى وهو فضة ذهب
تمازج الليل فيه والسحر!
تحت الشراع
بين الشرق والغرب
مسراك نور وأنسام وأنداء
فاخفق شراعي، وطر، يصدح لك الماء
يا أيها القلق الحيران كم أمل
تشدو به موجة في البحر عذراء
يحدوك بالنغم السكران أرغنها
في مسبح ماؤه زهر وصهباء
أما ترى البحر يبدو في مفاتنه
لكل حب جديد فيه أجواء؟
وفجره صائد طارت بمهجته
حورية في فجاج اليم شقراء؟
وليله مرقص تغشاه غانية
في مطرف أسود وشاه لألاء؟
شتى مواكب من حور وآلهة
لها التفات إلى الماضي وإصغاء
تهزها بقديم الشوق أشرعة
مرنحات تغنيهن أنواء •••
يقودهن على الأمواج في مرح
ملاح واد له بالتيه إغراء
ما بين عينيه سال البرق مبتسما
واستضحكت قلبه مزن وهوجاء
زوته عنها السنون السبع واختلفت
عليه من بعدها نعمى وبأساء
مغربا في ديار من عشيرته
بها الأحبة حساد وأعداء
وقيل: كفته عن دنيا شوارده
بيضاء من شعرات الرأس غراء •••
لا يا غرامي، وهذا الفن ملء دمي
بالنار والصبوات الحمر مشاء
ما أفلتت من يدي غيداء عاصية
إلا وعادت إليها وهي سمحاء
وذاك شاطئنا المسحور تزحمه
من ذكرياتك أطياف وأصداء
على الصخور الحواني من مشارفه
ربات وحي، وأشواق، وأهواء
أقمن منتظرات، ما شكون ضنى
وقد تعاقب إصباح وإمساء
حتى رأتني على بعد مطوقة
مجروحة الصوت، ولهى اللحن، سجواء
همت تغني فكانت نبأة وصدى
صحت لوقعهما دوح وأفياء:
عرائس الشعر قد عاد الحبيب، وفي
عينيه سهد وتعذيب وإضناء
آب المغامر من دنيا متاعبه
أما له راحة منها وإغفاء؟
دعيه يحلم بأن البحر في دعة
والريح ناعمة، والأرض قمراء
وأنها في ظلال السلم نائمة
وأنها جنة للحب غناء
وقربي كأسه واصغي لمزهره
يسمعك أشجى نشيد زفه الماء •••
وقيل: «لبنان» سحر الشوق، فاندفعت
سفينة وهفت بالشوق دأماء
أوحى له الشرق أنا من أحبته
وأننا في الهوى أهل أوداء
فقربتنا وشفت عن بشاشته
به قرى كربوع الخلد شجراء
في كل منحدر منها ومرتفع
مسحورة النبع، ريا النبت، جلواء
فعلقت بمغانيه نواظرنا
وقبلت نسمات «الأرز» حوباء
واستقبلتنا طيور في مناقرها
شدو، وزيتونة للشرق خضراء
ترقص الموج إن مسته أجنحها
كقلب آدم إذ مسته حواء
في ساحل من خرافات وأخيلة
بهن «لبنان» رواح وغداء
لاحت على سفحه بيروت فاتنة
صبية، وهي مثل الدهر شمطاء
توسدت صخرة الآباد والتفتت
ترعى سفائن من راحوا ومن جاءوا
أتلك بيروت؟ أم من بابل صور
معلقات، لها بالسحر إيحاء!
شغل العباقرة الشادين من قدم
مجددين لهم في المجد أسماء
وأومأت بالهوى «عالي» فاعتنقت
من حولنا ثم أظلال وأضواء
قامت تنسق من ماء ومن شجر
فكل ناحية زهر وأجناء
كأنما نبئت من «عشتروت» لقا
فازينت فهي سيقان وأثداء
تقول: يا ربة الحسن انظري وصفي:
أفوق واديك مثلي اليوم حسناء؟
عالي، رفقا بأبصار مدلهة
لها إلى الحسن بالألباب إفضاء
عالي، إنا نشاوي من هوى وأسى
إنا محبون، يا عالي، أنضاء
وحان بعد وداع من فرادسها
وقد جرت بخطى الشمس المليساء
فاغرورقت بدموع الوجد أعيننا
وأشفقت من وجيب القلب أحناء
وسار عنها شراع حائر قلق
له إلى الغرب بالأسفار إيماء •••
يا بحر ما بك؟ هل مستك عاصفة؟
أم استخفك إزباد وإرغاء؟
أشاقك الغرب، أم شفتك موجدة
لما خبت من ربوع الشرق أسناء؟
هذي السماء صفاء، والدجى قمر
للحسن فيه وللعشاق ما شاءوا
يا بحر ما بك ما بي! مصر ما بعدت
ولي إليها بهذا الشعر إسراء
عجبت والعصر حر كيف في يدها
هذا الحديد له حز وإدماء!
أقسمت لا رجعت بي فيك جارية
إن لم تجئ عن جلاء القوم أنباء
وأن مصر بحرياتها ظفرت
فأهلها اليوم أحرار أعزاء
أقسمت، إلا إذا نادت بفتيتها
فهب مستقتل عنها وفداء
لحن من فينا
في اهتزاز العصب الثائر والروح المعنى
طالعته بالهناء الليلة الأولى فغنى
ورأى من حوله الأرض سلاما فتمنى
ليس يدري، أشدا من فرح أم ناح حزنا
قلت: من أي بلاد؟ قيل: لحن من فينا! •••
يا فينا سلسلي الأنغام سحرا
في حنايا النفس لا جو المكان
أوحقا أنت ذي؟ أم أنت ذكرى
أم رؤى تمرح في دنيا الأغاني
وبنان هزت الأوتار سكرى
أم شفاه لمست روح الزمان؟ •••
يا فينا جددي الآن مسرات الليالي
روحك الراقص لم يحفل بأرض وقتال
طربا ما زال يشدو بين موج وجبال
بأساطير، وأحلام، وفن، وخيال
هو روح النغم الهائم في دنيا الجمال •••
يا فينا هل على غابك للشمل اجتماع
أم على فجرك ناي، فيه للراعي ابتداع
أم على أفقك من نور العشيات التماع
أم على مائك تحت الليل للحب شراع
آه من أمس! وما جر على النفس الوداع! •••
يا فينا أسمعي الدنيا وهاتي
قصة الغابة والفلس الكبير
أين بالدانوب شدو الذكريات
وصدى العشاق في الليل الأخير
رحلوا عنك بأحلام الحياة
غير قلب في يد الحب أسير!
أندلسية
حسنك النشوان والكأس الروية
جددا عهد شبابي فسكرت
حلم أيام وليلات وضية
عبرت بي في حياتي وعبرت
أنا سكران وفي الكأس بقية
أي خمر من جنى الخلد عصرت
آه، هاتي قربي الكأس إليه
واسقنيها أنت يا أندلسيه •••
لا تقولي أي صوت ملهم
قاد روحينا، فجئنا، والتقينا
دمك المشبوب فيه من دمي
روح ماض بالهوى يهفو إلينا
أخت روحي! قربيها من فمي
إن شربنا أو طربنا ما علينا
آه هاتيها من الحسن جنية
واسقنيها أنت يا أندلسية •••
كانت النظرة أولى نظرتين
ثم صارت لفظة ما بيننا
والهوى يعجب من مغتربين
لم يقل: أنت ... ولا قالت ... أنا
وسبحنا فوق واد من لجين
تحت أفق من غمام وسنا
أتملأها سمات عربية
وأنادي أنت يا أندلسية •••
صحت يا للشمس في ظل المغيب
تثلم الزهر وأوراق الشجر
خلتها بين محب وحبيب
قبلة عند وداع وسفر
فانثنت تنظر للوادي العجيب
صورا يذهبن في إثر صور
وبسمعي همسة منها شجية
وبروحي أنت يا أندلسية •••
ونزلنا عند شط من نضار
وانتحينا خلوة بعد زحام
قلت والليل بأعقاب النهار:
ألك الليلة في لحن وجام؟
ما على مغتربي أهل ودار
إن أدارا ها هنا كأس مدام
آه هاتيها كخديك نقيه
واسقنيها أنت يا أندلسيه •••
واحتوتنا بين لحن مطرب
حانة مثل أساطير الزمان
صورت جدرانها بالذهب
فتن العشق وأهواء الحسان
قالت: اشرب قلت: لبيك اشربي
ملء كأسين فإنا ظامئان
خمرة رومية أو بابليه
اسقنيها أنت يا أندلسيه •••
هتفت بي ويداها في يدي
تدفع الكأس بإغراء وعجب
أي قيثار شجي غرد
خلته ينطق عن أسرار قلبي!
قلت: طفل من قديم الأبد
يمزج الألحان من خمر وحب
ملء كأس في يديه ذهبيه
فاسقنيها أنت يا أندلسيه •••
ومضى الليل ونادى بالرواح
كل خال وتعايا كل صب
وخبا المصباح إلا كأس راح
نوره ما بين إيماض ووثب
قد تحدى وهجه ضوء الصباح
فبقينا حوله جنبا لجنب
نتساقاها على الفجر نديه
وأغني أنت يا أندلسيه •••
يا عروس الغرب يا أندلسية
بعدت دارك والصف دنا
أين أحلام الليالي القمرية
والبحيرات مطيفات بنا
اذكري بين الكئوس الذهبية
حانة، يا ليتها دامت لنا
حين أدعوك صباحا وعشيه
اسقنيها أنت يا أندلسيه
الوردة الصفراء
قالت تعاتبني: أراك منعتني
من قطف هذي الوردة الصفراء
وبسحر هذا اللون كم غنيتني
وهتفت بالشقراء والصهباء
قلت: اغفري لي يا حبيبة نظرتي
إني أعيذ الحسن من أهوائي
أخشى ظنون الناس فيك، وأتقي
سمة الضنى والغيرة الحمقاء
وأذود عن عينيك ذكرى ليلة
شابت، ونجم شاحب الأضواء
في لون خديك اقطفي ما شئته
من زهرة أو كوكب وضاء
قالت: أتمنعني الذي أحببته
في نظرة لك وادكار وفاء
في عرضك الماضي ونبشك ما ذوى
من ذكريات شبيبة هوجاء
وبسخرياتك بي، وبسمتك التي
تلقى بها المفضوح من إغوائي
وشحوب وجهك إن أرقت صبابة
حيران بين قطيعة ولقاء!
راكبة الدراجة
تمهلي فراشة الصباح
أسرفت في الغدو والرواح
ماذا ارتياد الطرق الفساح
والوثب فوق العشب والصفاح
بين الروابي الخضر والبطاح
بالشعر المهدل السباح
كالموج تحت العاصف المجتاح
والنهد وهو مطلق السراح
يخفق بين الصدر والوشاح
والساق خلف الساق في كفاح
في حلقة طاغية الجماح
تدور مثل البارق اللماح
تود لو طارت مع الرياح
وحلقت في كبد الصراح
بلطف هذا الجسد الممراح
وخفة في روحك الصداح
تكاد تغني الطير عن جناح!
يا لهواء عابث مفراح
سكران، لا من خمرة الأقداح
بل من صباك، والصبا كالراح
يرفع طرف الثوب في مزاح
لا يستحي من لائم ولاحي
قد آذن الفخذين بافتضاح
ونم عن خميلة التفاح
فوق كثيب الورد والأقاحي!
أخشى على حسنهما الوضاح
عين اشتهاء ويد اجتراح
بل صرت أخشى ثورة الأرواح
في مثل هذا الحرم المباح
وددت لو بالروح أو بالراح
صنتهما حتى عن الصباح!
إلى أبناء الشرق
دعوها منى واتركوه خيالا
فما يعرف الحق إلا النضالا
بني الشرق! ماذا وراء الوعود
نطل يمينا ونرنو شمالا
وما حكمة الصمت في عالم
تضج المطامع فيه اقتتالا
زمانكمو جارح لا يعف
رأيت الضعيف به لا يوالى
ويومكمو نهزة العاملين
ومضيعة الخاملين الكسالى
خطا العلم فيه خطى صائد
توقى المقادر منه الحبالا
توغل في ملكوت الشعاع
وصاد الكهارب فيه اغتيالا
وحزبها فهي في بعضها
تحطم بعضا وتلقي نكالا
رمى «دولة الشمس» في أوجها
فخرت سماء ودكت جبالا
مدائن كانت وراء الظنون
ترى النجم أقرب منها منالا
كأن «سليمان» أخلى القماق
م أو فك عن جنهن اعتقالا
وأوما إليها فطاروا بها
مدى اللمح ثم تلاشت خيالا •••
ففيم وقوفكم تنظرون
غبار المجلي يشق المجالا
وحتام نشكو سواد الحظوظ
ومن أفقنا كل فجر تلالا؟
ألسنا بني الشرق من يعرب
أصولا سمت وجباها تعالى؟
أجئنا نسائل عطف الحليف
ونرقب منه الندى والنوالا؟
نصرناه بالأمس في محنة
تمادى الجبابر فيها صيالا
سبحنا إليه على لجة
من النار لم نذك منها ذبالا
فكيف تناسى حواريه
غداة السلام وأغضى ومالا؟
أرد الحقوق لأربابها
وأعفاهم من طلاب سؤالا؟
ورفت على الأرض حرية
تألق نورا وتندى ظلالا؟
نبي الحقيقة، كم قلت لي
بربك قل لي وزدني مقالا
رأيتك أندى وأحنى يدا
على أمم جشمتك النزالا
فما لك تقسو على أمة
سقتك الوداد مصفى زلالا
وعدت الشعوب بحق المصير
فما لك تقضي وتملي ارتجالا
أتغصب من أهلها أرضهم
وتسلم للغير نهبا حلالا؟
أليست لهم أرضهم حرة
يسودون فيها الدهور الطوالا؟ ••• «فلسطين» ما لي أرى جرحها
يسيل ويأبى الغداة اندمالا
تنازعها حيرة الزاهدين
وتنهشها شهوات تقالى
أعزت أساتك أدواؤها؟
هو الحق! ما كان داء عضالا!
هو الحق إن رمتم عالما
يشف صفاء ويزكو جمالا
أقيموا عليه موداتكم
وإلا فقد رمتموه محالا
فيا للبريئة ماذا جنت
فتحمل ما لا يطاق احتمالا
هي الشرق، بل هي من قلبه
وشائج ماض تأبى انفصالا
وتاريخ دنيا وأمجادها
بنى ركنها «خالد» ثم عالى
وعى الحق «للمصطفى» دعوة
لنصرتها والعوادى توالى
تبارى لها المسلمون احتشادا
وهب النصارى إليها احتفالا
من الشام والأرز والرافدين
وأقصى الجزيرة صحبا وآلا •••
و«إفريقيا» ما لإسلامها
يسام عبودية واحتلالا؟!
على «تونس» وبمراكش
تروح السيوف وتغدو اختيالا
ألم تخب في الأرض نار الحروب
ويلق الطغاة عليها وبالا؟
ألم يتغير بها الحاكمون؟
ألم تتبدل من الحال حالا
هم العرب الصيد لا تحسبن
بهم ضعة أو ضنى أو كلالا
نماهم على البأس آباؤهم
قساورة وسيوفا صقالا •••
بناة الحضارة في المشرقين
ذرى يخشع الغرب منها جلالا
ألا أيها الشامخ المطمئن
رويدا فإن الليالي حبالى
وما لك تنسى على الأمس يوما
به كاد ملكك يلقى زوالا
فتقذف بالنار «سورية»
وترمي «بلبنان» حربا سجالا
شباب «أمية» طوبى لكم
أقمتم لكل فداء مثالا
دعتكم «دمشق» فما استنفرت
سوى عاصف يتخطى الجبالا
وفي ذمة المجد من شيبكم
دم فوق أروقة الحق سالا!
بني الشرق كونوا لأوطانكم
قوى تتحدى الهوى والضلالا
أقيموا صدوركمو للخطوب
فما شط طالب حق وغالى •••
فزعت لكم من وراء السقام
وقد جلل الشيب رأسي اشتعالا
وما إن بكيت الهوى والشباب
ولكن ذكرت العلا والرجالا!!
يوم فلسطين
فلسطين لا راعتك صيحة مغتال
سلمت لأجيال وعشت لأبطال
ولا عزك الجيل المفدى ولا خبت
لقومك نار في ذوائب أجبال
صحت باديات الشرق تحت غبارهم
على خلجات الروح من تربك الغالي
فوارس يستهدي أعنة خيلهم
دم العرب الفادين والسؤدد العالي
بكل طريق منه صخر منضر
وكل سماء جمرة ذات إشعال
هو الشرق لم يهدأ بصبح ولم يطب
رقادا على ليل رماك بزلزال
غداة أذاعوا أنك اليوم قسمة
لكل غريب دائم التيه جوال
قضى عمره، جم المواطن - واسمه
مواطنها - ما بين حل وترحال
وما حل دارا فيك يوما، ولا هفت
على قلبه ذكراك من عهد إسرال
محا الله وعدا خطه الظلم لم يكن
سوى حلم من عالم الوهم ختال
حمته القنا كيما يكون حقيقة
فكان نذيرا من خطوب وأهوال
وفتح بين القوم أبواب فتنة
تطل بأحداث وتومي بأوجال
أراد ليمحو آية الله مثلما
أراد ليمحو الليل نور الضحى العالي
فيا شمس كفي عن مدارك واخمدي
ويا شهب غوري في دياجير آجال
ويا أرض شقي من أديمك وارجعي
كما كنت قبل الرسل في ليلك الخالي
ضلالا رأوا أن يسلو الشرق مجده
وما هو بالغافي، وما هو بالسالي
ألا يا ابنة الفتح الذي نور الثرى
وطهر دنيا من طغاة وضلال
وأكرم قوما فيك كانوا أذلة
فحررهم من بعد رق وإذلال
لك الشرق، يا مهد القداسة والهدى،
قلوبا تلبي في خشوع وإجلال
لك الشرق، يا أرض العروبة والعلا،
شعوبا تفدي فيك ميراث أجيال
وما هو من مستعمر جاء بالهوى
ولا هو من مستثمر جاء بالمال
هو الشرق ألقى عن يديه قيوده
فلا تحسبيه في قيود وأغلال
سليه، تهج ما بين عينيك أرضه
مخالب نسر أو براثن رئبال
سليه، يمج ما بين سمعيك أفقه
زئير أسود أو زماجر أشبال
سليه الدم المهراق يبذله غاليا
ويضرب به في الحق أروع أمثال •••
ألا أيها الشادي الذي أطرب الورى
بحلو حديث عن حقوق وآمال
وقال لنا: في عالم الغد جنة
غزيرة أنهار وريفة أظلال
سمعنا، خدعنا، وانتبهنا، فحسبنا
لقد ملت الأسماع قيثارك البالي
ويا أيها الغرب المواعد لا تزد
كفى الشرق زادا من وعود وأقوال
شبعنا وجعنا من خيال منمق
ومنه اكتسينا، ثم عدنا بأسمال
فلا تندب الضعفى وتغصب حقوقهم
فتلك إذا كانت، شريعة أدغال!!
من الأعماق
حيتك في الشرق آمال وأحلام
وقبلتك جراحات وآلام
واستقبلتك على الوادي وضفته
عروبة وثبت فرحى وإسلام
وحقبة من جهاد أشرقت وهفت
بها ليال من الذكرى وأيام
تعانق العائد المنفي في بلد
حماه للحر إعزاز وإكرام
ديار «فاروق» من يلجأ لساحتها
فقد حمته من الأحداث آجام
يطيب للعربي المستجير بها
معاشه ويرق الماء والجام
ويحطم القلم العاني بحومتها
أصفاده، ويفك القيد ضرغام •••
يا أيها البطل الصنديد جئت بما
تحدثت عنه أدهار وأقوام
هزت «فلسطين» أنباء يطير بها
برق على جنبات الليل بسام
عادت لها ذكريات الأمس وانبعثت
بها صحائف من نور وأقلام
وأنفس قرشيات يطربها
صوت يرن به رمح وصمصام
نصت على الليل آذانا تغازلها
من صوتك الجهوري العذب أنغام
قد أقسمت لا ينال الدار مغتصب
حتى وإن شرقت بالنار أعلام
في الله، في الحق، في الإسلام كل دم
يسيل فيها، وجرح ليس يلتام
ظنوك أقصيت عنها فهي نائمة
وكيف! هل في ربوع القدس نوام!
وتلك أطماعهم في كل ناحية
السيف منهن فوق الخلق قوام
قالوا: غدرت ولم أفهم لمنطقهم
حكما، ولكنما للقوم أحكام
أفي دفاعك عن أهل وعن وطن
غدر؟ إذن فجهاد الظلم إجرام!
قالوا: هو الحق ما نسعى لنصرته
يا بؤسه كم هوان أهله ساموا
يا شرق يا شرق لا تخدعك دعوتهم
واقبض يدا، فحديث الحق أوهام
أكان غير عيون الزيت دافقة
من قلبك الغض يجريهن سجام
وكان غير أنابيب يحوط بها
ضلوع صدرك قهار وظلام
قد قسموك مطارات وما عملوا
إلا لحرب لها في الكون إضرام
أكنت غير الفدا في غير تضحية
إن هم عليك بسرب للردى حاموا
يا شرق سل «بالحسيني» الذي صنعوا
واسمع لحقك، لا يخدعك هدام
سلهم عن الشرف الموعود كم غدروا
به؟ كم اجترحت في السلم آثام
وأنت يا أيها الفادي عروبته
اسلم فديتك، لا غبن ولا ذام
جهادك الحق مظلوما ومغتربا
وحي لكل فتى حر وإلهام
على النيل
من ابن الشمال إلى ابن الجنوب
أخي! إن وردت النيل قبل ورودي
فحي ذمامي عنده وعهودي
وقبل ثرى فيه امتزجنا أبوة
ونسلمه لابن لنا وحفيد
أخي! إن أذن الفجر لبيت صوته
سمعت لتكبيري ووقع سجودي
وما صغت قولا أو هتفت بآية
خلا منطقي من لفظها وقصيدي
أخي! إن حواك الصبح ريان مشرقا
أفقت على يوم أغر سعيد
أخي! إن طواك الليل سهمان سادرا
نبا فيه جنبي واستحال رقودي
أخي! إن شربت الماء صفوا فقد زكت
خمائل جناتي وطاب حصيدي
أخي! إن جفاك النهر أو جف نبعه
مشى الموت في زهري وقصف عودي
فكيف تلاحيني وألحاك؟ إنني
شهيدك في هذا ... وأنت شهيدي!
حياتك في الوادي حياتي، فإنما
وجودك في هذي الحياة وجودي •••
أخي! إن نزلت الشاطئين فسلهما
متى فصلا ما بيننا بحدود؟
رماني نذير السوء فيك بنبأة
فجلل بالأحزان ليلة عيدي
وغامت سمائي بعد صفو وأخرست
مزاهر أحلامي ومات نشيدي
غداة تمنى المستبد فراقنا
على أرض آباء لنا وجدود
وزف لنا زيف الأماني علالة
لعل بنا حب السيادة يودي
أخوتنا فوق الذي مان وادعى
وما بيننا من سيد ومسود
إذا قال: «الاستقلال» فاحذره ناصبا
فخاخ «احتلال» كالدهور أبيد
وكم قبل مناني، على وفر ما جنى
بحربين، من زرعي وضرع وليدي
فلما أتاه النصر هاجته شرة
فهم بنكراني ورام جحودي
ألا سله، ماذا بعد سبعين حجة
أأنجز من وعد؟ أفك قيودي؟
يبدلني قيدا بقيد كأنه
مدى الدهر فيها مبدئي ومعيدي
أخي! وكلانا في الإسار مكبل
نجر على الأشواك ثقل حديد
إذا لم تحررنا من الضيم وحدة
ذهبنا بشمل في الحياة بديد
وما مصر والسودان إلا قضية
موحدة في غاية وجهود
سئمنا هتاف الخادعين بعالم
جديد، ولما يأتنا بجديد
وجفت حشاشات وعدن بمائه
فلما دنا ألفت سراب وعود
وطال ارتقاب الساغبين لناره
على عاصف يرمي الدجى بجليد
إذا يدنا لم تذك نار حياتنا
فلا ترج دفئا من وميض رعود
إذا يدنا لم تحم نبع حياتنا
سرى ريه سما بكل وريد
سيجريه ما شاءت مطامع قومه
ويحبسه ما شاء خلف سدود
وكيف ينام المضعفون وحولهم
ظماء نسور أو جياع أسود؟ •••
أخي! هل شهدت النيل غضبان ثائرا
يرج من الشطآن كل مشيد!
جرى من مصبيه شواظا لنبعه
على نفثات من دم وصديد
وجنات نخل واجمات كواسف
وأسراب طير في الفلاة شريد
لدى نبأ قد ريع من حمله الصدى
وضج له الموتى وراء لحود
جنوبك فيه والشمال تفزعا
لتشتيت أهل وانقسام صعيد
أحال ضياء الصبح حولي ظلمة
بها الحزن إلفي والهناء فقيدي
وسعر أنفاسي فأطلقت نارها
على الظالم الجبار صوت وعيد
أرادك مفصوم العرى وأرادني
بهدم إخاء كالجبال مشيد
ليأكلنا من بعد شلوا ممزقا
كطير جريح في الشباك جهيد
تحايل شيطان الأساليب لم يدع
مجالا لشيطان بهن مريد •••
على النيل يا ابن النيل أطلق شراعنا
وقل للياليه الهنية: عودي
وأرسل على الوادي حمائم أيكه
برنة ولهى أو شكاة عميد
وقل: يا عروس النبع هاتي من الجنى
ودوري علينا بالرحيق وجودي
وهبي عذارى النخل فرعاء وارقصي
بخضر أكاليل وحمر عقود
ألا يا أخي واملأ كئوس محبة
مقدسة موعودة بخلود
إذا هي هانت فانع للشمس نورها
وللقمر الساري بروج سعود
وقل: يا سماء النيل ويحك أقلعي
ويا أرض بالشم الرواسخ ميدي
وغيضي عيون الماء! أو فتفجري
لظى، وإن اسطعت المزيد فزيدي!
مصر
هوى لك فيه كل ردى يحب
فديتك! هل وراء الموت حب؟
فديتك مصر، كل فتى مشوق
إليك، وكل شيخ فيك صب
ويحلم بالفدى طفل فطيم
وكل رضيعة في المهد تحبو
أراك وأينما وليت وجهي
أرى مهجا لوجهك تشرئب
وأرواحا عليك محومات
لها فوق الضفاف خطى ووثب
عليها من دم الفادين غار
له بيديك تضفير وعصب
حمتك صدورها يوم التنادي
ووقتك الليالي وهي حرب
إذا رامتك عادية وشقت
فضاءك غيلة ورماك خطب
دعت بالنهر فهو لظى ووقد
وبالنسمات فهي حصى وحصب
وبالشجر المنور فهو غيل
وكل غصونه ظفر وخلب
حقائق عن يد الإيمان ترمي
صواعق ومضها رجم وشهب
لها في مهجة الجبار فتك
وفي عينيه إيماض وسكب
صنائع كالغنائيات يشدو
بها شرق، ويلقي السمع غرب
ويبعث في الحياة على صداها
فراعن أو حواريون عرب
أهلوا بالصباح فثم ركب
تموج به الضفاف وثم ركب
بأرواح مجنحة نشاوى
إليك بكل جارحة تدب
لقد بعثت من الأحقاب مصر
أجل بعثت، وهب اليوم شعب
توحد في الزعامة فهو فرد
وأفرد بالأمانة فهو صلب! •••
فيا لك مصر! ما لجلال أمس
علته غبرة وطوته حجب
وأبهم فهو رجع صدى وطيف
بعيد ليس يستجليه قرب
ذوت ريا ملامحه وحالت
مناقبه فهن أذى وثلب
أكان دم الفدائيين صدقا
وأصبح وهو بعد الأمس كذب
فيهدم ما بنى ويقال: شادوا
وتصدع وحدة ويقال: رأب؟
علام إذن أريق بكل واد
فأورق مجدب وأنار خصب؟
وجاد به شباب عبقري
وولدان كفرخ الطير زغب؟
أحقا ما يقال: شيوخ جيل
على أحقادهم فيه أكبوا
وكانوا الأمس أرسخ من جبال
إذا ما زلزلت قمم وهضب
فما لهم وهت منهم حلوم
لها بيد الهوى دفع وجذب
أأرحام مقطعة وأرض
تعادي فوقها أهل وصحب
وأسواق تباع بها وتشرى
ضمائر هن للأهواء نهب
يطوف بها النفاق وفي يديه
صحائف أفعمت زورا وكتب
يكاد الليل أن ينسى دجاه
إذا نشرت ويأخذ منه رعب
تعالوا يا بني قومي تعالوا
إلى حق وحسب الشعب حسب
هو الدستور منه جنى قطفنا
ونهر حياتنا ملآن عذب
فما للشرب والجانين ثاروا
عليه بعد ما طعموا وعبوا
فأهدر مرة وأبيح أخرى
وعيب، وما له عيب وذنب
إذا ما الأكثرية فيه فازت
تحركت الدسائس وهي إلب
وإن هي حوربت عنه وذيدت
تحدث باسمه فرد وحزب
عجائب لم تقع إلا بمصر
وأحداث لهن يطيش لب
تعالوا يا بني قومي إليه
فما في حكمه قسر وغصب
وما هو أسطر كتبت ولكن
معان في القلوب لهن علب
تحررت الشعوب فكل شعب
طليق والمجال اليوم رحب
وهبت في نواحي الأرض دنيا
لحق يجتبى ومنى تلب
أنلعب والزمان يقول: جدوا
ونرقد والحياة تصيح هبوا؟
فلا تقفوا بحريات شعب
وآمال له للمجد تصبو
فما تثني خطى شعب طموح
زعازع في ظلام الليل نكب
إذا عصفت تلقاها بصدر
وراء ضلوعه نار تشب •••
سألتكمو اليمين وحب مصر
ألم يخفق لكم بالحب قلب؟!
إذا عبس الزمان لمصر أومت
إلى «الفاروق» وهي رضى وحب
فقبلها وظللها هواه
وندى قلبها والعيش جدب
وباسمك أيها الملك المفدى
تقشع غمة ويزول كرب
وباسمك لا يضام لمصر حق
وباسمك لا يضار بمصر شعب
وباسمك من عضال الداء تشفى
وباسمك كل داء يستطب
بحق علاك وهو هدى ونور
وحق هواك وهو علا وكسب
إليك توجهت بالروح مصر
وأنت لمصر بعد الله رب
لقاء ودعاء
لقاؤكما قد كان حلم زماني
وعهدكما للشرق فجر أماني
ولا عهد إلا للعروبة والعلا
لقلبين في كفين يعتنقان
تحدثني عيني، وقد سرتما معا
حبيبين سارا، أم هما أخوان
ويسألني قلبي، وقد لاح موكب
من الأحمر اللجي أشرق داني
على ملكي من شراع ولجة
تطامن في صفو له وأمان
تناسمه بين العشيات والضحى
سرائر من أرض الحجاز حواني
وأفئدة من أرض مصر مشوقة
شواخص في الثغر المشوق رواني
إلى أفق فيه من الروح هزة
وفيه من الوحي القديم معاني
أتسأل يا قلبي وأنت بجانبي؟
وكيف؟ ألم تعلم من الخفقان
وأنت الذي تصغي، وأنت الذي ترى
وتنطق مني خاطري ولساني
ومنك الذي أوحى إلي فهزني
وفجر شعري من سماء بياني
أنال جلال اليوم منك، فخلته
رؤى يقظة؟ بل ذاك رأي عيان
هو الملك الفاروق في موقف الهدى
تسير إليه الفلك دون عنان
يؤم بها رب الجزيرة مصره
وما هي إلا فرحة وأغاني
هما عاهلا الشرق العريق وركنه
هما حصنه الواقي من الحدثان
هما الحب والإيمان والمجد والندى
تمثل في آياتها ملكان! •••
سلاما «طويل العمر» مصر تبثه
بأعذب ما رفت به شفتان
وللنيل أمواج يثبن صبابة
بأفراح دور فوقه ومغاني
تجلى طرازا في لقائك مفردا
رفارف خضرا في ظلال جنان
يحيي بك الشعب الحجازي شعبه
وفيك يحيي «القبلة» الهرمان
تساءل فيها الصاحبان وقد بدت
مخاضرها من لؤلؤ وجمان
وآفاقها «مكية» النور والشذى
يضئن بأقمار بهن حسان
جلاها المساء القاهري صباحة
تغاير في لألائها القمران «سعودية» الإشراق تزهى بنورها
مطالع «فاروقية» اللمعان
أفي مصر؟ أم بطحاء مكة يومنا؟
هنا وطن أم ها هنا وطنان
وتلك قطوف النيل دانية الجنى
أم أن قطوفا «للرياض» دواني
هوى لك يا «عبد العزيز» أصارها
وما اختلفت في صورة ومكان
وأنت أخو «الفاروق» دارك داره
على الرحب، والداران تلتقيان
فإن تذكر الأوطان والأهل عندها
فما مصر إلا موطن لك ثاني
وما هي إلا أمة عربية
موحدة في فكرة ولسان •••
أينصت لي الضيف العظيم هنيهة
ويسمع لي الفاروق صوت جناني؟
يقولون: نار الحرب في الغرب أخمدت
فما لي أرى في الشرق سحب دخان!
مشت بالشتاء الجهم فوق تخومه
برعد حسام والتماع سنان
بإيران صيحات، وفي الشام ضجة،
وفي القدس جمر موشك الثوران
وفي الساحل الغربي من «آل طارق»
جريحا إباء في دم غرقان
طماعية فيه أزالت قناعها
وما سترت وجها لها ببنان
رمت عن يد قفازها وتحفزت
مخالب ضار أو براثن جاني
فإن قيل: هذا «مجلس الأمن » فاسألوا
علام تضج الأرض بالشنآن
وفيم دعاة السلم طال حديثهم
على غير معنى من رضى وأمان
وأبهم حتى بان كالظل طامسا
وداور حتى راغ في الدوران
أرى اليوم مثل الأمس صورة غاصب
وإن حورت في صبغة ودهان •••
إليكم ملوك الشرق كم عن مقالة
تثاني حيائي والوفاء دعاني
أشدت بما شدتم فرادى، وكلكم
يفاخر جيل بالذي هو باني
أناشدكم والشرق بين مطامع
تهدده في حوزة وكيان
فهلا جمعتم أمره واستعنتم
بكل فتى بالطيبات معان
أرى حلفاء الأمس لم يحفلوا به
وما زال من خلف الوعود يعاني
وما قر في ظل السلام بحقه
ولا فاز من حرية بضمان
وتلك أمانيه على عتباتهم
مطرحة في ذلة وهوان
أنقنع من حق و«جامعة» له
بجمع يدبر الرأي حول خوان
وليس لها من قوة غير ألسن
وأقلام كتاب وسحر بيان
وماذا يفيد الرأي لا سيف عنده
وماذا يصيب القول يوم طعان
على البأس فابنوا ركنها وتأهبوا
بمستقتل من حولها متفاني
تلاقى به رايات كل شعوبه
وأسيافهم من صلبة ولدان
كأمواج بحر زاخر متلاطم
ينابيعه شتى ذرى ورعان
ضمنت بكم مجد العروبة خالدا
على كر دهر واختلاف زمان
عودة المحارب
أتدري الريح من ملكت زمامه
تشق الغرب أو تطوي ظلامه؟
هفت للشرق فاختلجت جناحا
به، واستقبلت لثما غمامه!
وقيل: دنا وحوم، فاشرأبت
ضفاف النيل تستهدي حيامه
وعانقه الصباح على رباها
غضيض الطرف لم ينفض منامه
يضيء بورده الأزلي أفقا
تظلله الرعاية والسلامه
وواكبه على «سيناء» برق
بعين الملهمين رنا فشامه
تمثل إذ تألق ذكريات
وأمجادا مشهرة مسامه
لمحترب من الأبطال فاد
يخاف الدهر أن يلقى عرامه
حواري على كفيه قلب
أبى غير الشهامة والكرامة
نحيف من شراة الخلد يحمي
تراث الشرق أو يرعى ذمامه
كسته خشونة غير الليالي
وسلت عزمه وجلت حسامه
أشد على قواضبها مراسا
وأنفذ من مضاربها همامه
أقام على الفلاة طريد ظلم
وذيد، فما أطاق بها مقامه
وبايع في شبيبته المنايا
فعادت منه وادرأت حمامه!
أحلوا قتله وتطلبوه
دما حرا وروحا مستهامه
تنسي الحرب كل فتى هواه
ولا ينسى الكمي بها غرامه
زئير الليث يطرب مسمعيه
وتشجيه برنتها الحمامه
ووثب الخيل أفراس الأماني
إلى خطر تعشقه ورامه
يصف البيض والسمر العوالي
ويرقب من فم الصبح ابتسامه
ويفرك راحيته دما ونارا
يغني حبه ويدير جامه
كذلك رأى الحياة فما اجتواها
ولا عرف الملالة والسآمه
مفازع للردى إن لاح فرت
وراء خطاه وارتدت أمامه! •••
أخا الهجاء كيف شهدت حربا
يذكر هولها يوم القيامه
وكيف رأيت بعد الحرب سلما
تملأ بالضغينة واللآمه
وقالوا: عالم قد جملوه
فلم يعد الشناعة والدمامه
تناثرت الممالك فيه حتى
لتعجز أن تبين لها حطامه
متاهات تضل بها الليالي
ولا يدري بها فلك نظامه
فلسطين الشهيدة في دجاه
مفزعة الخواطر مستضامه
أقام المستبد على حماها
فعاث بها وأفردها طغامه
وجاء بآبق لفظته دار
وأفاق يحملها أثامه
أباح له على كيد جناها
وشاطره على خبث مدامه
وعلمه الرماية واجتباه
فسدد في مقاتله سهامه!
نديم الأمس سقاه بكأس
أحس لهيبها ورأى ضرامه
رمى الشيطان عن فخارتيها
وعض على نواجذه ندامه
ألا لا يمرح الباغون فيها
فلن ينسى لها الحق انتقامه
محال أن تطيب لهم حياة
عليها، أو تدوم لهم إقامه
عروبتها على الأدهار أبقى
وأثبت من رواسخها دعامه
أتهدأ وهي في الغمرات تأسو
جريحا؟ أو تشد له ضمامه؟
ومفتيها الأمين ومفتديها
وراء تخومها يشكو هيامه؟
فتى أحرارها ما غاب عنها
ولا منع الخيال بها لمامه
كأمس، كعهدها، لم يغف عينا
بليل أقسمت ألا تنامه
يؤلفها على الأحداث صفا
جسور النفس جبار العرامة
جهاد في العروبة واحتشاد
له التاريخ قد ألقى زمامه •••
أخا الصبوات هل شفت الليالي
جراح القلب أو روت أوامه؟
حللت بسوريا بعد اغتراب
وقد كاد الجلاء يتم عامه
فقلت: تحية الزمن المعادي
لمقتتل أطال به صدامه
وأشرقت الكتائب عن لواء
يد الشهداء لم تترك عصامه
لأصهب من أسود الحرب يمشي
بأصهب تمسك الدنيا لجامه
حواك جلالة فحنيت رأسا
ولم تخفض لجبارين هامه
طريق المجد كم أثر عليه
لأهوال لقيت، وكم علامه!
وكم جبل هبطت برأس واد
يعز الجن أن ترقى سنامه
حميت الغاصبين خطى إليه
فصان عراقه وحمى شآمه
بجيش من «بني عدنان» فاد
ترى نسرا به وترى أسامه
يروعك «خالد» فيه وتلقى «عبيدة» وهو في سيف ولامه
كأن الفاتحين من الأوالي
على أسيافهم رفعوا خيامه! •••
حماة الشرق، كم في الغرب باغ
عليه، أذاقه بطشا وسامه
وكم أيد عليه مجردات
مخالب كاسر يبغي التهامه
ذئاب حول جنته تعاوى
كأن بها إلى دمه نهامة
فهزوه صوارم مشرعات
تشق بكل معترك زحامه
هو السيف الأصم إذا تغنى
صغا متجبر ووعى كلامه
أعدوا حده لصراع دهر
صريع الوهم من يرجو سلامه!
بطل الريف
لا السيف قر ولا المحارب عادا
ويح البشير! بأي سلم نادى؟
الأرض من أجساد من قتلوا بها
تجني العذاب وتنبت الأحقادا
فاض السحاب لها دما - مذ شيعت
شمس النهار - فخالطته سوادا
رأت الحداد به على أحيائها
أتراهمو صبغوا السماء حدادا؟
ود الطغاة بكل مطلع كوكب
لو أطفئوه وأسقطوه رمادا
وتخوفوا ومض الشهاب إذا هوى
وبروق كل غمامة تتهادى
ولو انهم وصلوا السماء بعلمهم
ضربوا على آفاقها الأسدادا
لولا لوامع من نهى وبصائر
تغزو كهوفا أو تؤم وهادا
لم يرق عقل أو ترق سريرة
وقضى الوجود ضلالة وفسادا
راع الطغاة شعاعه فتساءلوا
من نص هذا الكوكب الوقادا؟
إن تجهلوا فسلوا به آباءكم
أيام شع عدالة ورغادا
هل أبصروا حرية إلا به
أو شيدوا لحضارة أوتادا
حملت سناه لهم يد عربية
تبني الشعوب وتنسج الآبادا
هي أمة بالأمس شادت دولة
لا تعرف العبدان والأسيادا
جرتم عليها ظالمين بعدكم
وعديدكم تتخايلون عتادا
ومنعتموها من مواهب أرضها
ماء به تجد الحياة وزادا
في المغرب الأقصى فتى من نورها
قدحت به كف السماء زنادا
سلته سيفا كي يحرر قومه
ويزيل عن أوطانه استعبادا
ما بالكم ضقتم به وحشدتم
من دونه الأسياف والأجنادا
أشعلتموها ثورة دموية
لا تعرفون لنارها إخمادا
حتى إذا أوهى القتال جلادكم
ومضى أشد بسالة وجلادا
جئتم إليه تهادنون سيوفه
وسيوفه لم تسكن الأغمادا
وكتبتمو عهدا - بحد سيوفكم -
مزقتموه ولم يجف مدادا •••
الأهل أهلك، يا أمير، كما ترى
والدار دارك قبة وعمادا
أنى نزلت بمصر أو جاراتها
جئت العروبة أمة وبلادا
مدت يديها، واحتوتك بصدرها
أم يضم حنانها الأولادا
ولو استطاعت رد ما استودعتها
ردت عليك المهد والميلادا
وأتتك بالذكر الخوالد طاقة
كأجل ما جمع المحب وهادى
ماذا لقيت من الزمان بصخرة
قاسيت فيها غربة ووحادا
وبلوت من صلف الطغاة وعسفهم
فيها الليالي والسنين شدادا
جعلوا البحار، ومثلهن جبالها،
سدا عليك وأوسعوك بعادا
دعهم! فأنت سخرت من أحلامهم
وأطرتهن مع الرياح بدادا
عشرين عاما، قد حرمت عيونهم
غمض الجفون، فما عرفن رقادا
يتلفتون وراء كل جزيرة
ويسائلون الموج والأطوادا
من أي واد ... موجة هتفت به
ومضى، فحملها السلام، وعادا
لو أنصفوا قدروا بطولة فارس
لبلاده بدم الحشاشة جادا
نادى بأحرار الرجال فقربوا
مهجا تموت وراءه استشهادا
يدعو لحق أو لإنسانية
تأبى السجون وتلعن الأصفادا
شيخ الفوارس حسب عينك أن ترى
هذي الفتوح وهذه الأمجادا «الريف» هب منازلا وقبائلا
يدعو فتاه الباسل الذوادا
حن الحسام لقبضتيك، وحمحمت
خيل تقرب من يديك قيادا
وعلى الصحارى من صداك ملاحم
تشجي النسور وتطرب الآسادا
أوحت إلى العرب الحداء، وألهمت
فرسانهم تحت الوغى الإنشادا
عبد الكريم انظر حيالك هل ترى
إلا صراعا قائما وجهادا
الشرق أجمعه لواء واحد
نظم الصفوف وهيأ القوادا
لم يترك السيف الجواب لسائل
أو ينس من مترقب ميعادا
سالت حلوق الهاتفين دما، وما
هزوا لطاغية الشعوب وسادا
فصغ البيان به، وأنطق حده
يسمع إليك، مكررا ومعادا
كذبت مودات الشفاه ولم أجد
رغم العداوة كالسيوف ودادا •••
لهجت قلوب بالذي صنعت يد
شدت لجرح المسلمين ضمادا
حملت ندى ملك، ونخوة أمة
صانت بها شرفا أشم تلادا
وحمت عزيزا لا يقر، وأمنت
حرا يقاسي الجور والإبعادا
فاد من الغر الكماة مجاهد
تتنازع الآلام منه فؤادا
جارت عليه الحرب ثم تعقبت
في السلم تحت جناحه أكبادا
زغب صغار مثل أفراخ القطا
وحرائر بتن السنين سهادا
هو من رواسي المجد إلا أنه
عصف الزمان بجانبيه فمادا
رجل رأى شرا، ففادى قومه
وأحس عادية، فهب، ورادى
ظلموا هواه إذ أحب بلاده
ما كان ذنبا أن أحب ففادى!
إندونيسيا
سحائب حمر؟ أم سماء تضرم؟
أم الشمس يجري فوق صفحتها الدم؟
على مشرق الإصباح من «إندونيسيا»
سيوف تغني أو حتوف ترنم
وفوق رباها يزحف الموت ضاحكا
على جثث منهن يروى ويطعم
فراديس شرق ذيد عنهن أهله
وهن لأهل الغرب نهب مقسم
يدار بها ماء الجماجم مثلما
يدار على الشرب الرحيق ويسجم
وفي أرضها أو أفقها صوت محنق
كأن صداه الغيب، لو يتكلم!
تميد الصحارى والجبال لوقعه
وتشفق أنواء، ويفرق عيلم
وترتد حتى الشهب عن سبحاتها
فلا ثم آفاق، ولا ثم أنجم
وفيم تضيء الشمس أو يشرق السنا
إذا الأرض غشاها ضلال ومأثم
وأصبح فيها المضعفون وحظهم
من العيش ما يقضي القوي ويبرم
أذلاء إن ناموا، أرقاء إن صحوا
يباع ويشرى فيهم ويسوم
يسمون ثوارا إذ ما تجهموا
لمغتصب، أو من عذاب تألموا!
لأية إنسانية ذلك الوغى؟
وفيم أحلوه لقوم وحرموا؟
رويدا بناة الكون، ما تلك ثورة
على الحق، بل روح على الجور ينقم
وما هي إلا منكمو رجع صيحة
على الأمس كانت كالمزامير تنغم
هو الشرق ثارت روحه فهو لجة
من النار تذكيها رياح تهزم
ينادي بعهد بين يوم وليلة
أضيع، وحق يستباح ويهضم
وحرية موءودة، طال شوقها
إلى النور، يطويها ظلام مخيم
مكبلة الكفين، مغلولة الخطى
تداس، ويؤبى أن يبوح لها فم!
سلاما، سلاما، سيد السلم والوغى
جلالك موفور، وعهدك مكرم
ويعنو إليك الجن والإنس طاعة
كأنك فيهم عن «سليمان» تحكم
وبين يديك الأرض تلقي زمامها
وفي راحتيك السبعة الخضر تسلم
ولم تبق في الكون السحيق رحابة
لغيرك، أو يبعد به عنك مغنم
فما لك بالأسطول والجيش واثبا
على أمة عزلاء بالسلم تحلم؟
وتنقض مثل النسر فوق سمائها
بأجنحة تغزو النجوم وتزحم
ألاقيت في أجوائها غير طيرها
على نسمات في الغصون تهينم؟
وأبصرت إلا أمة من «محمد»
تنازعها «الميكاد» غصبا و«ولهم»
ملايين ممن كرم الله خلقهم
يراد بهم أن يمسخوا أو يحطموا!
أنل هذه الدنيا رضاك، وحسبنا
من الدهر هذا البارق المتبسم
سراب من الأوهام نسقى بلمعه
وطيف برؤياه نسر وننعم
ودعنا بمعسول المنى ووعودها
نذق من نعيم العيش ما نتوهم
ونبدع لهذا الكون في الوهم صورة
تمثل منه بعض ما كنت تزعم!
فإنا شعوب من سلالة «آدم»
لنا في مراقي العلم والفن سلم
لنا خطرة تهوى الخيال، ونظرة
طموح، وقلب بالمحاسن مغرم
على أننا نبني على الحق والهدى
مآثر لا تبلى ولا تتهدم
ونرعى مواثيق الوفاء، كما رعت
أوائلنا، لسنا على البذل نندم!
من الصين حتى ساحل الغرب عالم
به المسلمون الأولون تقدموا
بنوه حضارات ضخاما، ولم يزل
له أثر في الكون أسمى وأضخم
نظام من الشورى وعهد من الرضا
أياديه شتى، حسنيات وأنعم
سل العام إن أوفى عليك هلاله
ففي ضوئه للحق هدي ومعلم
لعلك إن يمسسك من نوره سنا
يلن منك قلب بالحديد ملثم
وينبئك أنا لا نطيق على الأذى
مقاما، وأنا أمة ليس تظلم
على الحق نجزي من جزانا بحقنا،
فإن لم يكن ... فالشر بالشر يحسم!
في صفوف المجاهدين
ردوا على الوادي ربيع نهاره
آب الزعيم اليوم من أسفاره
جاب البحار إليكم حتى إذا
نصل الدجى ألقى عصا تسياره
هذا الذي قدر الإله حياته
لينقل التاريخ في أدواره
الأعزل المنفي فارق قيده
ورمى بآسره وذل إساره
عجبا يخاف مطارد بجزيرة
ضرب الوجود بها وراء بحاره
فيجشم المنفى البعيد بصخرة
في مائج متلثم بخطاره
تخشى أساطيل الغزاة عبوره
ويروع وحش البحر صمت قراره
سير من الأمجاد لم يسمع بها
حتى أتحن فكن من أخباره
تلك البطولة لم تكن يوما ولم
يطلع بها زمن على حضاره
قم حدث التاريخ غير مكذب
يا من غدا التاريخ من آثاره
أنت المصاول عن حماك فصف لنا
حرب الفدائيين من أنصاره
والأرض كيف تصد عن رحمائها
والكون كيف يضيق عن أحراره
والغاصب السفاح من أنيابه
يجري الدم القاني ومن أظفاره
يا من شدوتم بالسلام رويدكم «داود» لما يشد في مزماره
تحت الرماد وميض نار، فالدجى
والبرق، بعض دخانه وشراره
ردوا السلام إلى الحوادث تشهدوا
أن المآمن هن من أخطاره
حمل البشير قميصه بيمينه
ودم الجناية صارخ بيساره
هذا ضياء العدل بدد ظلمهم
كالليل بدده الضحى بمناره •••
سعد أهل به وسعد جاءكم
بالحق أبلج في سماء دياره
فاستقبلوه كعهدكم وتخيروا
لجبينه العالي مضفر غاره
قالوا: نفيت! فهل نفى عنك الهوى
ظلم سقيت الأمس كأس عقاره
لا تلح من كفروا بدعوتك التي
وضحت وخل أذى المسيء وداره
آثامهم فزعت بخالقهم فدع
لله حكم الله في كفاره
والله لو لمسوا فؤادك لانثنوا
جزعين مما لامسوا من ناره
ومحا سناه ظلام أنفسهم وما
حملن من ذل النكوص وعاره
الشعب مثل البحر إن يغضب فما
تقف السدود الشم في تياره
ورجاله الأبطال، ويح رجاله
لم يهدءوا والظلم في تهداره
خاضوا الحتوف فما انثنت عزماتهم
عن قاهر الوادي وعن جباره
طلعوا على حصن الظلام فزحزحوا
أحجاره ومشوا إلى أغواره
قذفوا به غضب السرائر فانظروا
للحصن يسقط في يدي ثواره
أمسى ورايات الجهاد خوافق
حمر منشرة على أسواره
شهيد ميسلون
هب الكمي على النفير الصادح
مهلا! فديتك، ما الصباح بواضح
أي الملاحم بين أبطال الوغى
فجأتك بالشوق الملح البارح
فقضيت ليلك لا هدوء ولا كرى
ووثبت في غسق الظلام الجانح
والشرق من خلف الجبال غمامة
حمراء ترعش في وميض لامح
سلت حراب البرق فوق سمائه
هوجاء تنذر بالقضاء الجائح
هي صيحة الوطن الجريح وأمة
هانت على سيف المغير الطامح
قرنت بحظك حظها فتماسكت
ترعى خطاك على ربى وأباطح
في موكب الفادين مجد «أمية»
بجوانح مشبوبة وجوارح
لو قستهم بعدوهم وسلاحه
أيقنت أنهم فريسة جارح
الخائضون الفجر بحر مصارع
السابحون على السعير اللافح
الناهضون على السيوف وتحتها
شتى جماجم في التراب طرائح
الرابضون على الحصون خرائبا
مهجا تضرم في حطام صفائح
صرعى ولو فتشت عن أجسادهم
ألفيت، ما ألفيت غير جرائح
يا «ميسلون» شهدت أي رواية
دموية، ورأيت أي مذابح
ووقفت مثخنة الجراح بحومة
ماجت بباغ في دمائك سابح
تتأملين «دمشق» يا لهوانها!
ذات الجلالة تحت سيف الفاتح!
جرت حديد قيودها وتقدمت
شماء من جلادها المتصايح
نسيت أليم عذابها وتذكرت
في «ميسلون» دم الشهيد النازح
من هب في غسق الظلام يحوطها
بذراع مقتتل وصدر مكافح
وتسمعت صوتا فكان هتافه
يا للحبيب من المحب البائح!
أماه! خانتني المقادر فاغفري
قدري، وإن قل الفداء فسامحي! ••• «فيحاء» إن نصت حواليك القرى
أعلامها، وازينت بمصابح
وتواكب الفرسان فيك وأقبلوا
بالغار بين عصائب ووشائح
وشدا الرعاة الملهمون وأغرقوا
أبهاء ليلك في خضم مفارح
أقبلت بين صفوفهم متقربا
بأزاهري، مترنما بمدائحي
حيث الشهيد رنا لمطلع فجره
ورأى الغمائم في الفضاء الفاسح
وتلفتت لك روحه فتمثلت
وجه البطولة في أرق ملامح
حيث الربى في «ميلسون» كأنما
تهفو إليه بزهرها المتفاوح
وكأنما غسلته «بغدادية»
بدموع ملك في ثراك مراوح
أسعى إليه بكل ما جمعت يدي
وبكل ما ضمت عليه جوانحي
وهو الجدير بأن أحيي باسمه
في الشرق كل مناضل ومنافح
من كل حر، نافض مما اقتني
يده، ووهاب الحشاشة مانح
أو كل فاد بالحياة عشيره
لا القول في خدع الخيال السانح •••
قل للدعاة المحسنين ظنونهم
بالغرب: ماذا في السراب لماتح؟
لا تغرينكم وعود محالف
يطأ الممالك بادعاء مصالح
تمضي السنون وأنتم من وعده
تتقلبون على ظهور أراجح
والله لو حسر القناع لراعكم
قبر أعد لكم وخنجر ذابح
من كل مصاص الدماء منوم
يدعى بمنقذ أمة ومصالح! •••
يا «يوسف» العظمات غرسك لم يضع
وجناه أخلد من نتاج قرائح
قم لحظة وانظر «دمشق» وقل لها:
عاد الكمي مع النفير الصادح
ودعاك يا بنت العروبة فانهضي
واستقبلي الفجر الجديد وصافحي!
سوريا وعيد الجلاء
تحية واعتذار
هنأت باسمك تحت الشمس أحرارا
يندى هواك على هاماتهم غارا
دمشق! يا بلد الأحرار، أي فتى
لم يمتشق فيك سيفا أو يخض نارا
ذودا عن الوطن المعبود، من دمه
للمجد يبنيه آطاما وأسوارا
زكت «أمية» في أعراقه وجرت
دما يروي الثرى أو يغسل العارا
عيد الجلاء أسميه وأعرفه
يوم تبارك أنداء وأسحارا
جلا عن الشرق ليل البغي حين جلا
عروبة فيك تلقى الأهل والدارا
لولا مصاب دهى الوادي فشب به
نارا، وهاج النسيم العذب إعصارا
وروع الأمة الغلباء في رجل
شدته قوسا، وسلت منه بتارا
من النوابغ أعمار إذا قصرت
مد النبوغ لهم في الخلد أعمارا
أحرار مملكة في الرأي ما أثموا
سماهم الغاصب الظلام ثوارا
ثاروا على القيد حتى انحل، واقتحموا
على الطواغيت حصن الظلم فانهارا •••
لولاه كان إليك البرق راحلتي
أطوى به الجو آفاقا وأقطارا
وجئت «فيحاء» أزجي الشعر مفتقشدا
تحت الصفائح مقداما ومغوارا
والمفتدون، شراة الخلد، قل لهم
ما ينظم المدح ألحانا وأشعارا!
في عالم الذكرى
محمد صبري أبو علم باشا
ألقاك في عالم الذكرى وتلقاني
رغم الفراق بهذا العالم الفاني
أرنو إلى وجهك الضاحي فيشرق لي
عن صفحتي مرح في الخلد جذلان
وأجتلي لمحات العبقرية في
عينين حدثتا عن روح فنان
لأنت حي برغم الموت، أسمعه
كعهده، وأراه ملء وجداني
عذب البيان، سري اللفظ مازجه
ما في طباعك من حسن وإحسان
يذكي الشيوخ بأحلام الشباب وكم
أذكي بحكمتهم أحلام شبان
أصغي إليك، عميق الفكر، ملتمعا
في منطق جهوري الصوت رنان
كالغيث يلمع في الآفاق بارقه
وفي الثرى منه زاهر، فوق أفنان
عف الضمير حوى الدنيا بنظرته
فلم ترعه بأشكال وألوان
مقيد بعريق من خلائقه
لا خوف بطش ولا زلفى لسلطان
كالنهر يقتلع الأسداد، منطلقا
حرا، ويجري حبيسا بين شطآن
يعطي الحياة لأقوام وينشرها
شتى روائع في حقل وبستان
تمثل الحق يرمي كل شائبة
عنه، ويغرق فيه كل بهتان
حامي القضاء وراعي العدل، في بلد
لا يأمن العدل فيه سطوة الجاني
ورافع الصرح لاستقلاله، عجبا!
صنع السماء ترى؟ أم صنع إنسان؟
صبري! أحقا طواك الموت؟ كيف؟ وما
هذي المواكب من قاص ومن داني
كالأمس ضجت فهل أسمعت هاتفها
صدى هتافك في جنات رضوان؟
قم بشر الحق واخطب في كتائبه
يا صاحب الخلد هذا يومك الثاني! •••
يا واهب الثورة الكبرى يفاعته
حين الشباب رؤى غيد وألحان
وصاحب العهد لم يطرح أمانته
كهلا يصاول عن أهل وأوطان
وقف على مصر هذا القلب متقدا
بحبها، من لهذا المدنف العاني
قد استبدت به، حتى استبد به
عادي الردى، وهو لا واه ولا واني
يا للشهيد صريعا ملء حومته
سيفا خضيبا وجرحا من دم قاني! •••
هذي الصحائف من مجد ومن شرف
هيهات يسلمها دهر لنسيان
ذخائر الوطن الغالي يرتلها
على مسامع أجيال وأزمان
فيها أغان لعشاق قد افتقدوا
أوطانهم، وأناشيد لفرسان
أحرار مملكة أرسوا دعائمها
على أساس من الشورى وأركان
لم يرهبوا سوط جلاد ولا حفلوا
بسيف باغ ولا أصفاد سجان
ولا أقاموا على ذل وإن ذهبوا
على دموع وآلام وأشجان
همو البناة وإن لم يذكروا يدهم
فيما يرى الجيل من مرفوع بنيان
لا تسألن الضحايا عن مآثرهم!
وسائل الأثر الباقي: من الباني؟ •••
ذكراك ما سنحت للفكر، أو عبرت
بالقلب، إلا وهاجت نار أحزان
فزعت منها إلى الأوهام أسألها
أأربعون مضت؟ أم مر عامان؟
قد أذهل الخطب شعري عن شوارده
وأنسيت كلماتي شدو أوزاني
فجئت أجريه دمعا في يدي رجل
قد صاغه الله من حق وإيمان
هذا الذي باركت مصر زعامته
وقبلت جرحها في قلبه الحاني!
الأمير المجاهد
رزء العروبة فيك والإسلام
رزء النهى وفجيعة الأقلام
هو مأتم الأحرار في متوثب
بصفوفهم مستقتل مقدام
أأبا المثاليين صوتك لم يزل
في الشرق وحي يراعة وحسام
ونداء فاد تسأل الدنيا به
أصريع حرب أم شهيد سلام؟
لخلاص دار أو فكاك عشيرة
خضت الحياة كثيرة الآلام
واجتزت جسر العمر بين عواصف
هوج وموج مزبد مترامي
وشهرتها حربا على مستعمر
متجبر، أو غاصب ظلام
تلقى ببسمتك العريضة نارها
في موكب من ذائدين كرام
متفرقين على البعاد منازلا
متجمعين على هوى ووئام
كالبحر ماج وفي غواربه التقى
سيل الربى وشوامخ الأعلام
وقفوا الحياة على الجهاد وقربوا
دعة النفوس وصحة الأجسام
إرث الجدود الصيد أنت وهبته
قلما يصاول دونه ويحامي
وشباب مهدور الدماء مجاهد
في الله عن عرب وعن إسلام •••
الشاعر الغريد نازح جنة
مسحورة الأفنان والأكمام
أفياؤها ظلل الدهور، وأرزها
أعلام آلهة على آطام
قامت على جبل أشم، سماؤه
مسرى البيان ومسبح الإلهام
تهدي إليه بكل مغرب كوكب
أشواق نضوي لوعة وغرام
أم تحن إلى لقاء نجيبها
وأب، هو الوطن المشوق الظامي
يتساءلان متى الإياب؟ ويومه
يوم الرحيل، ولات حين مقام •••
مرت «جنيف» بخاطري فتمثلت
صور الشهيد كأنهن أمامي
متوحدا في غربة، متوقدا
بصبابة، متفردا بسقام
شيخ يدب على عصاه، وقلبه
متوثب الآمال والأحلام
يطوي الثمانين الوضاء مليئة
بمواكب للذكريات ضخام
وجلائل للمأثرات مواثل
وجحافل للحادثات جسام
هيهات ما أوهت قواه ولا ثنت
من خطوه عن غاية ومرام
هيهات ما نالت على إرهاقها
من قلبه في نضرة ووسام
هيهات ما شابت بمر مذاقها
فيه حلاوة روحه البسام
طلق الجبين على ندي شمائل
كالفجر بين أشعة وغمام •••
يا ابن الإمارة نافضا من إرثها
يده لنصرة مبدأ وذمام
حيث الغنى والجاه فتنة معشر
عن قومهم متخلفين نيام
صف كيف أبصرت الحياة وأنت في
عز الملوك وهيبة الحكام
ورأيت دنيا المالكين بعالم
متخون، متلون، هدام
تومي إليك قصورهم وكأنها
عين مقرحة وقلب دامي
ومشيت تنذر والوغى متسعر
والأرض غرقى في دم وضرام
في حومة من قاهرين تربصوا
بالمضعفين منافذ الأيام
عنت الشعوب لسيفهم فتألبوا
يتنازعون مصاير الأقوام
يأبى يراعك أن يفارق راحة
خلقت لرد تحية وسلام
بيضاء ملهمة البنان مزاجها
فيض من الأضواء والأنغام
أخذت خناق الظلم فاستخذى لها
وارتد يستر وجهه بلثام
وتعقبته تهز قبضة ثائر
فإذا الحديد بها صديع حطام
وإذا الحصون الشامخات حجارة
منثورة، والنار سحب قتام
وإذا المجاهد تحت غار جهاده
طهر اليدين مخضب الصمصام
روح يهز الشرق من أعماقه
وسنا يمزق عنه كل ظلام
ويد تعانقه برغم منية
وفم يقبله برغم حمام
مصرع سياسي
كم شهيد فيك مهدور الدماء
لا تراعي! أنت أم الشهداء
كل غال من متاع ودم
لك يا مصر، وما عز الفداء
إيه يا مصر، خذي ما شئته
ولداعي المجد منا ما يشاء
قيل: أودى «بأمين» قاتل
كيف يودي ببنيك الأمناء
كيف يودى بفتى من خلقه
كل معنى من سماح ووفاء
كمن الغدر له، ثم رمى
عن يد عسراء شعواء الرماء
صاعدا يرقى على سلمه
درج المجد ومرموق العلاء
دمه المسفوك حب وندى
ومزاج من حياء وإباء
ورحيق عطر من نفحه
يثمل الأعداء قبل الأصدقاء
وهوى للوطن الحر الذي
خر في حومته بعض ذماء
لو أتاه نبأ عن قتله
قال: وهم وأحاديث افتراء •••
فتنة حمراء شبت نارها
شهوات ينتحين الأبرياء
عربدت هوجاء واستشرت قوى
واستبدت بعقول الضعفاء
باطل، إن مرت الريح به
طار عن صاحبه وهو هباء
وإذا ما لمح النور جرى
وتخفى تحت جنح من مساء
لا تقولوا: طائش في رأيه
إنما الرأي من الغدر براء
إنما الناس لهم آراؤهم
وهمو الأحرار فيها الطلقاء
وعلى ود وبر وهدى
لهمو فيها فراق ولقاء
غير ما مس دما فاجهر به
وتحد الحاكمين الأقوياء
واذكر الأوطان لا تأخذ بما
يكتب الحقد ويمليه العداء
ليس من مصر ولا من أهلها
مزهق الأرواح أو مجري الدماء •••
يا زعيم الشعب هذي محنة
فوق ما يحمل طوق الزعماء
ليست الأولى وقد كنت لها
غرضا، منه لك الروح وقاء
قدر الله، وما قدره
ليس يعفى منه سكان السماء
من يكن مثلك في إيمانه
كيف أدعوه لصبر أو عزاء
إنني أرثي لمصر رجلا
مصر منا فيه أحرى بالرثاء!
أرواح وأشباح
1942
الإهداء
إلى صاحب تاييس وسافو وأفروديت والزنبقة الحمراء صديقي الكاتب الكبير أحمد الصاوي محمد.
تحية لأدبه وحبه.
علي محمود طه
هذه الأرواح والأشباح
بقلم علي محمود طه
هذه الأرواح، تهيم أشباحها ويدور حوارها في صفحات هذا الكتاب، يعيش بعضها في عالم الحقيقة، ويضطرب البعض الآخر بين عالمي الأساطير والخرافات، لم أسع إليها عن عمد، ولم ألقها مصادفة، ولكني تبينتها صورا يتمثلها خيالي، وحديثا يتردد في خطرات نفسي، فوجدت مطابقة بينها وبين أشخاص قرأت لهم وسمعت عنهم، ورأيت اتفاقا ومواءمة بين ما نزعوا إليه في عالم الروح وما صنعوه في عالم المادة؛ فعرضت للطبائع والغرائز والأهواء، واستعرضت الوقائع والآثار والأسماء، فأيقنت أن كلا يكاد يكون المعني بهذا الحوار، المتسقة طبائعه وغرائزه على هذا الغرار.
وحبب لي هذا الجو الإغريقي الساحر، وأساطيره الغادية الشادية، أني وأنا أتمثل هذه الأرواح صورا، وأستلهمها إحساسا وفكرا، خيل لي أن روحي قد انسرقت من طيفها فيما يشبه أحلام اليقظة، أو لحظات الشرود الإلهي، مأخوذة بما ترى، مشفقة مما تسمع، وكأني بها وراء سحابة في عالمها الذي سبق لها أن عاشت فيه عند بعثها الأول، ووجدت نفسي في طريق أفلاطون ومثله العليا، فتنفست في هذا الجو طليقا حرا لا تقيدني بيئة أو عقيدة، ولا يحد من حريتي حذر أو اتهام، وأرسلت بصري في هذا الطريق الصاعد البعيد فلم يصل إلى مداه، وبدأت البصيرة عملها من حيث انتهى البصر، فإذا أبواب سحرية موصدة، وراءها خفايا وأسرار، وقضايا وأقدار، وإذا بي عند ختام قصيدتي لا أزال في ذات الطريق لم أصل إلى غاية، ولم أوف على نهاية.
وفي عالم الأسرار والأقدار سمعت حوارا يجري بين حوريات، من صواحب الفن ورباته، هن: سافو، وبليتيس، وتاييس، ورأيت بينهن إلها عجيبا فذا يحكم بينهن، ويقضي فيهن، وجدت «هرميس» الذي لا مشبه له بين آلهة الإغريق، في تعدد صوره، وتنوع مذاهبه، وتنافر طبائعه، وتناقض وظائفه، إله عجيب شاذ، لائق حقا بالمهمة الموكل بها في هذه القضية، ومن غيره إله له في الروحيات والماديات؟ له في التجارة والكسب، وله في الخداع والدهاء، له في الجد والعبث، وله في الشعر والغناء، يجمع بين النزعات العليا، والرغبات السفلى، يلهم الشعراء، ويرعى القطعان، ثم هو بعد ذلك وقبله، لص أو إله للصوص؟
من غيره إله متناقضات حقا، يحكم بين صاحبات الفن ورباته؟ والحياة لا تلذ لهن إلا بهذا التناقض، ولا يرين لها جمالا إلا من خلال أمزجتهن الرقيقة المتقلبة.
لم يكن غير «هرميس» ليحكم بين هذه الأرواح العابثة، اللاهية، المرحة الغاوية، المتألمة المعذبة، اللطيفة المتكبرة، ولم يكن لهن غير هذا الإله القوي العجيب، الخبير بالمرأة حقا، الذي يعرف جمالها ودلالها، ويدرك سرها الذي رآه ووعاه في «أفروديت» ربة العشق وإلهة الصبابة. ولم يكن لهن غير إله مرح، قادر، ماكر، يتعقب الحوريات ويلعب معهن، وتتحدى قوته العمالقة ويعبث مكره بالآلهة. وما رأيك في إله سرق ليلة مولده خمسين ثورا من قطيع الأوليمب السماوي، وجد بينها في كهف «بيلوس» متلبسا بإثمه؟ ثم هو بعد ذلك قاتل العملاق «أرجوس» وقائد «هيراكليس» إلى عالم الظلمات.
وهذه «سافو» ربة الشعر الغنائي والأماديح والأناشيد التي يراها «سوينبرن» أعظم شاعرة عرفها التاريخ، والتي اضطربت حياتها في محيط اللذات والآلام، أحبت الرجال ثم اجتوتهم، ووصمت بهذا اللون المريض من العشق، حتى قيل: إنها كانت تعد في «لسبوس» كاهنة الرذيلة، ثم هي هذه المحبة الوامقة التي انتحرت من أجل معشوقها الملاح الميتيليني «فاون» الذي كان بعطر «فينوس» أجمل الرجال!!
هذه المرأة الواقعية، ما سر شذوذها المزعوم؟ وما سر صاحبتها «بليتيس» الخرافية؟ السر هو ما يعلل به العلماء هذا الانحراف الجنسي، هو الشعور العميق بالازدراء والامتهان من الجنس الآخر، هو الخيبة الشديدة في الحب، والإخفاق الأليم فيه، يصدم العصب الإنساني فيهزه هزا عميقا عنيفا يختل له نظامه، وهذا ما يتجلى في حوار الشاعرتين، وما يعبران عنه بالذات في مقطع «دنيا النساء».
أما «تاييس» تلك الراقصة الفاتنة اللعوب، التي لا تستقيم حياتها الخاصة بغير الرجال وغير موداتهم، والتي لا ينمو فنها ولا يتفتح ولا يزدهر، إلا في أجواء محبتهم وإعجابهم وتحت أشعات أبصارهم وبين رفيف شفاههم وقلوبهم، هذه المرأة الذكية القلب لم يكن لها غير أن تدافع عن الرجال؛ لأن الحياة كما تعرفها وكما خبرتها لا معنى لها بدونهم، ولا بهجة فيها إلا بهم، وإن عطفت على بنات جنسها في بعض أقوالها، فذلك من البديهيات التي لا خلاف عليها.
فإن كان ثمت فرق محسوس بين نزوع هذه الأرواح في السماء، وبين صنيع أصحابها في الأرض، فهو الذي تقضي به طبائع الأشياء، ويستقيم به المنطق، فكل روح قد سمعت بحديث الخير والشر، وتأثرت به وطبعت على ما هيئت له وهي في صحبة الآلهة قبل حلولها في أطيافها الأرضية، وهيهات أن ندرك في أقوالها مدى عنفها ولينها، وحبها وبغضها، وسخطها ورضاها، وسلامها وخصامها، وهي روح مجرد في العالم المعقول، كما نرى ذلك ونلمسه في أفعالها، وهي مزاج من روح وجسه في العالم المنظور، وهذه الأطياف الأرضية، سجون أرواحنا، مثار الأهواء الآثمة، ومستقر الغرائز الدنيا.
الشخصيات
هرميس:
ابن الإله جوبيتر، وزوج أفروديت إلهة الصبابة، ووالد هرما أفروديت الفتاة العجيبة الشاذة المعروض تمثالها في متحف اللوفر بباريس، وهو رسول آلهة الإغريق، إله البلاغة والموسيقى والوحي، ومبتكر جميع الفنون، ومخترع القيثارة في طفولته، وتروي الأساطير حوادث كثيرة عن رجولته ومغامراته الغرامية، وقد أقام له الإغريق شتى المعابد في كثير من أنحاء اليونان وجزائرها كما نصب له الرومان أجمل التماثيل وقيل: إنه المكلف بقيادة الأرواح الآثمة إلى الجحيم.
سافو:
شاعرة إغريقية، ولدت في القرن السادس قبل الميلاد، وأنشأت مدرسة لها في جزيرة «لسبوس»؛ لتعليم الفتيات الشعر والموسيقى وكانت لسبوس في ذلك العهد أشد جاذبية من أثينا لرجال الأدب والفن وأحفل منها بمباهج الحياة، ومرادا فاتنا للهو والقصف، وقد تغنت سافو في شعرها بالحب والجمال والأهواء العنيفة المضطربة بين الفتون والمرح، واشتهرت بين بنات جنسها بالمذهب السافي في ملذات الحب.
تاييس:
راقصة أثينية، غير القديسة التي وضع فيها أناتول فرانس قصته المشهورة، ولدت قبل الميلاد بأربعة قرون. وكانت فاتنة مرحة أكثر ما تكون المرأة فتنة ومرحا حتى أسكرت بأنوثتها شبان أثينا، وكانت صاحبة فن في حياتها وغواية لكثير من أرباب الخيال وأفذاذ الرجال، ومن عشاقها الشاعر الأثيني «مناندر» وقد تسلطت على الإسكندر الأكبر. وصحبته في فتوحاته الآسيوية وقيل: إنها التي قدمت إليه المشعل الذي أحرق مدينة «برسبوليس»، وفي رواية أنها هبطت مصر وأغوت بطليموس بجمالها حتى تزوج منها.
بليتيس:
هي الشاعرة الخرافية التي خلقها إبداع الشاعر الفرنسي «بيير لويس»، وأفرد كتابا لأشعارها المزعومة باسم «أغاني بليتيس»، وهي مجموعة من الشعر الغنائي الذي يتحدث بالغزل المكشوف، والحب الملتهب، ويرمز إلى رغبات الجنس المكبوتة، وهي صورة محرفة من الشاعرة سافو، وقد ولدت في القرن السادس قبل الميلاد على شاطئ «الملاس» بالقرب من «بانفلي»، ثم انتقلت في صباها إلى «لسبوس»، حيث قضت حياتها في الحب والبؤس والتهتك، وكانت معاصرة لسافو ومن صواحباتها الحبيبات.
الأرفسي:
نسبة إلى شاعر إغريقي كان يحرك الجماد والنبات بقوة شعره وسحر غنائه، ويروى أنه أبرع من عزف على القيثار، وكانت لألحانه خوارق المعجزات حتى قيل: إن مدينة «سيبا» بنيت بسحر إيقاعه، وقيل: إنه أخضع الوحوش الضارية لنغماته، فكانت تقبل من كهوفها على أصدائها وترقد تحت قدميه مصغية إليه، وفي الأساطير أنه أحب «يوريدس» وكانت فتاة بارعة الجمال فتزوجها، وفي ليلة العرس لدغتها أفعى في أثناء رقصها فماتت لساعتها، وجن «أرفيوس» حزنا عليها، فاقتحم أرض الفناء وأخذ يوقع على قيثاره أمام «بلوتو» ملك الموت، أشجى أنغامه المتفجرة لوعة وحزنا، فتأثرت زوجته «برسيفون» من أنغامه وعطفت زوجها عليه، فوعدها بإعادة «يوريدس» إليه، على أن يخرج من أرض الموت دون أن يلتفت وراءه، وخرج «أرفيوس» وقلبه يتنصت بين جنبيه لواقع أقدام حبيبته، فلما لم يسمعها نظر خلفه فرآها، ولكنها لم تلبث أن تلاشت من عينيه وتبددت بين ذراعيه الممتدتين للقائها!
الأليمب:
مقر آلهة الإغريق وسماء وحي شعرائهم.
السامري:
بعد خروج موسى ببني إسرائيل من مصر، واجتيازهم البحر في طريق الأرض المقدسة، واعد موسى ربه في طور سيناء، فذهب إلى مواعدته وسبق قومه الذين تخلفوا عنه في البرية زهاء ثلاثين يوما، ولما طالت غيبته دبت فيهم الحيرة وتولاهم القلق، فانبرى منهم السامري فصنع لهم عجلا من الذهب يسمع له خوار عجب، وقد فتن بنو إسرائيل بهذا المعبود الجديد، فباتوا يغنون ويطربون، وقامت أجمل فتياتهم ترقص حوله على ضوء النيران، ونسي القوم مقالة موسى لهم عند وداعه.
مانا:
أعظم آلهة الطابو وأشدهم انتقاما، والطابو معناها المقدس، وهي عقيدة بعض قبائل السود المنتشرين على شاطئ العاج الإفريقي وبعض جزر الشرق النائية، ومن الإيمان بها حلول روح القدس في جسد فتاة بارعة الجمال، يسمونها «عذراء الطابو» إذا مسها أحد بشر غضبت أرواح آلهتهم، فثارت البراكين وطغت البحار وعصفت الرياح ولعلعت البروق انتقاما لهذه العذراء المقدسة.
هاواي:
من جزائر المحيط الهادي، اشتهرت بجوها الشرقي الساحر وطبيعتها البدائية الفاتنة، وموسيقاها الفطرية المترجمة عن أرق العواطف وأحب خلجات الحياة.
موسوي:
إشارة إلى قصة النبي موسى في أرض مدين، وقد مر بمورد للماء مغطى بحجر ثقيل، تقف دونه فتاتان بأغنامهما على استحياء دون أن تستطيعا الورود من زحام الرجال، فخف موسى لنجدتهما وقدم فرفع غطاء البئر بيديه وقرب الماء لهما وسقى الغنم، وأعجبت به إحدى الفتاتين واسمها صفورة، فدعته لمرافقتها إلى والدها الشيخ، وكان ذلك وتزوج موسى منها.
الشاعر
إلى قمة الزمن الغابر
سمت ربة الشعر بالشاعر
يشق الأثير صدى عابرا
وروحا مجنحة الخاطر
مضت حرة من وثاق الزمان
ومن قبضة الجسد الآسر
وأوفت على عالم لم يكن
غريبا على أمسها الدابر
نمت فيه بين بنات السديم
وشبت مع الفلك الدائر
تلقن سيرتها في الحياة
وتنطق بالمثل السائر
وترسم أسماء ما علمت
من القلم المبدع القادر
مشاهد شتى وعتها العقول
وغابت صواها عن الناظر
وجود حوى الروح قبل الوجود
وماض تمثل في حاضر
تبدى لها، فانجلى شكها
وثابت إلى وعيها الذاكر
وأصغت، فمرت على سمعها
رواية ميلادها الغابر
هو البعث، فاستمعوا واقرءوا
حديث السماء عن الشاعر!
في السماء
يمر روح جميل، هو فنان آذنته الكلمة بالبعث في عالم الأرض، وقد صحبه هرميس ملك الوحي، حتى يجوز به أقطار السماء، فيمران في طريقهما بحوريات انطلقن في سمرهن، في انتظار بعثهن، فيدور حديثهن الآتي:
سافو :
عجبت! من الملك العابر؟
ومن ذلك الشبح الطائر؟
أهلا علينا فما سلما
ولا صافح الناظر الناظر
وللريح حولهما زفة
كما صدح المزهر الساحر
أفي عالم الأرض بعث جديد؟
أم الوهم مثله الخاطر؟
تاييس :
نعم هو روح جميل الإهاب
ينيل الرياح جناحي ملك
وذلك هرميس يسري به
سرى النور في سبحات الفلك
عرفناه ... لا شك ... هذا فتى
سيسلكه الفن فيمن سلك
غدا تملأ الأرض ألحانه
ويبقى صداها إذا ما هلك!
بليتيس :
إلى الأرض؟ فليمض هذا الشقي
ألا ولتفض كأسه بالشجون
جزاء لما غض من أمرنا
ومر كأن لم تلاق العيون
أراه، ولما يزل بيننا
أصابته لوثة أهل الفنون
لئن صح ما كان من أمره
فيا شقوة الأرض مما يكون
تاييس :
حنانك، يا أخت، لا تغضبي
فما اختال زهوا ولا استكبرا
لقد كف عينيه برق الحياة
فمر بنا دون أن يبصرا
لنا مثله في غد غشية
إذا ما حللنا رحاب الثرى
إذا كان في الأرض هذا الشقاء
فلا كان بعث ولا قدرا
بليتيس :
أرى في حديثك معنى الرضا
وأسمع فيه هتاف الحنان
فهلا ذكرت له إخوة
حديثهم ملء سمع الزمان
أصاروا الفنون رموز الأثام
واستلهموا الشر سحر البيان
وأغروا بحواء ما لقنوا
وما حذقوا من طريد الجنان •••
ألم تسمعي بفتى شاعر
يحملها عبء أوزاره
ترشفها خمرة فانتشى
فألقمها مر أثماره؟
أنالته أجمل أزهارها
فأهدى لها شر أزهاره؟
إذا كنت يا أخت لم تسمعي
خذي فاقرأي بعض أشعاره..
الحية الخالدة
(تاييس تفتح كتابا وتقرأ من قصيدة الحية الخالدة.) «وفي قصيدة تدور حوادثها حول الفن بين الرجل والمرأة وأثر الغريزة فيه، يتكلم شاعر فنان اتخذ فتاة حسناء نموذجا حيا لفنه، فأغوته بمفاتن جسدها، ودفعته بحماسة في غمار ملذات لا يلبث أن يفيق منها، وقد رأى مدى انهيار روحه وفنه، والموقف كله شذوذ واضطراب، وكله عنف وضعف، وهو تصوير لهذه الحية الخالدة التي يشتهيها الفنانون والشعراء رغم لدغاتها ...».
ولفت ذراعين كالحيتين
علي، وبي نشوة لم تطر
وقد قربت فمها من فمي
كشقين من قبس مستعر
أشم بأنفاسها رغبة
ويهتف بي جفنها المنكسر
تبينت في صدرها مصرعي
وآخرة العاشق المنتحر!! •••
أفي حلم أنا أم يقظة؟
ومن هذه المرأة الخاطئة؟
هو الحب؟ ... لا ... بل نداء الحياة
تلبيه أجسادنا الظامئة
يخف دمي لصداه الحبيب
وتدفعني القدرة الهازئة
كأني ببحر بعيد القرار
طوى أفقه وزوى شاطئه •••
أرى ... ما أرى؟ جسدا عاريا
تضج به الشهوة الجائعة
أرى ... ما أرى؟ حدقي ساحر
تؤجان بالنظرة الرائعة
أرى ... ما أرى؟ شفتي غادة
ترفان بالقبلة الخادعة
تساقطني ثمرا! ما أرى؟
أرى حية الجنة الضائعة •••
بعينك أنت، فلا تنكري
صفات أنوثتك الشاهدة
تمثلت شتى جسوم وكم
تجددت في صور بائدة
نعم، أنت هن ... نعم ... ما أرى؟
أرى الكل في امرأة واحدة
لقد فنيت فيك أرواحهن
وها أنت أيتها الخالدة •••
لقد كنت وحي رخام يصاغ
فأصبحت لحما يثير الدماء
وكنت فتى ساذجا لا أرى
سوى دمية صورت من نقاء
أنيل الثرى قدمي عابر
يعيش بأحلامه في السماء
فأصبحت شيئا ككل الرجال
وأصبحت شيئا ككل النساء! •••
وكنت أميرة هذي الدمى
وصورة حسن عزيز المنال
وكنت نموذج فن الجمال
أحبك للفن لا للجمال
أرى فيك ما لا تحد النهى
كأنك معنى وراء الخيال
فجردتني رجلا أشتهي
وجردت أنثى تشهى الرجال •••
دعيني حواء أو فابعدي
دعيني إلى غايتي أنطلق
أخمر ونار؟ لقد ضاق بي
كياني، وأوشك أن أختنق
أرى ... ما أرى؟ لهبا؟ بل أشم
رائحة الجسد المحترق!
فيا لك أفعى تشهيتها
ويا لي من أفعوان نزق ...
المرأة والفن
(بليتيس تضع يدها على صفحة الكتاب في غضب وتمنع تاييس من القراءة.)
بليتيس :
كفانا، فقد جن هذا الفتى
وجاوز حد الكلام المباح
نكاد نحس اختلاج النجوم
ونسمع مضطربا في الرياح
مريض الغريزة، فتاكها
حبته الطبيعة أمضى سلاح
سقته الشياطين يحمومها
فمج الرحيق وذم الصباح •••
تأثم بالفن حتى غوى
وما الفن بالمرأة الخاطئة
هو الدم واللحم ما يشتهي ...
هو الخمر والمتعة الطارئة
وكم في الرجال سعار الوحوش
إذا لمسوا الجثة الدافئة
فلا تذكري فن هذا الفتى
بل الحيوانية الخاسئة
رأى جسم حواء فاشتاقه
فهاجت به النزوة المسكرة
سبى روحها، فاشتهى جسمها
فثارت بعزة مستكبرة
سما جسمها وتأبى عليه
فجرد في وجهها خنجره
وهم بها، فالتوى قصده
فأرسل صيحته المنكرة •••
ألم ينسم الخلد من عطرها؟
ألم يعبد الحسن في زهرها؟
ألم يقبس النور من فجرها؟
ألم يسرق الفن من سحرها؟
شفت غلة الفن حتى ارتوى
وإن دنس الفن من طهرها
وهامت على ظمأ روحها
وكم ملئوا الكأس من خمرها •••
على مذبح الحب من قلبها
سراج يسبح من لألأه
منار يجوب الدجى لمحه
فتلقى السفين به مرفأه
يبث الحرارة برد الشتاء
ويلهب شعلته المطفأة
وتمشي الحياة على نوره
وما نوره غير عين امرأة! •••
خطيئتها قصة الملهمين
وإغراؤها الفرح المفتقد
بأرواحهم يرتقون الخلود
على سلم من متاع الجسد
ولو لم تكن لهوى فنهم
صريع الظلام قتيل الجمد
وما الفن إلا سعير الحياة
وثورتها في محيط الأبد •••
لهيب إذا الروح مرت به
تضاعفت الروح في ناره
يطيق القوي لظى جمره
ويعشو الضعيف بأنواره
رمت فيه حواء آثامها
فذابت على صم أحجاره
لقد قربت جسدا عاريا
وقلبا يضن بأسراره
الأصل والمثال
أمن صنعة الله هذا الجمال؟
نعم، ومن الفن هذا المثال!
على معرض مرمري الدمى
ترامى أشعته والظلال
تماثيل من جسد فاتن
تأبى على شهوات الرجال
حبته الطبيعة أسرارها
ولاقى الحقيقة فيه الخيال
ثورة
سافو :
لقد أخذتنا شجون الحديث
وكم في حديث الفتى من شجون
سمرنا به وجهلنا اسمه
وما حظه من رفيع الفنون؟
أمن ربة الشعر إلهامه؟
أم الوتر «الأرفسي» الحنون؟
أم المرمر الغض يجلو به
رفيف الشفاه ولمح العيون؟
بليتيس :
هبي وحيه من سماء الأولمب
وآلهة الحكمة الغابرين
فما هو بالملك المستعز
ولكنه الآدمي المهين
وما الآدمية بنت السماء
ولكنها بنت ماء وطين
يريد لها الفن أفق النجوم
فيقعدها جسم عبد سجين!
سافو :
وما فنه! ما أراه سوى
أداة مطامعه الواسعه
غدا يستغل غرام الحسان
سبيلا إلى الشهرة الذائعه
يصيب بهن خلود اسمه
وهن قرابينه الضائعه
تمنيت لو أطلقتنا السماء
ويا حبذا لو بعثنا معه ...
انتقام
بليتيس :
ألا حبذا الأرض مغدى لنا
وإن بشرتها المنايا بنا
وما الأرض بالمنزل المستطاب
ولكنه ثأر أترابنا
لنشرب من دم هذا الفتى
مصفى الرحيق بأكوابنا
ونجعل من حشرجات الرجال
تحية شاد لأنخابنا
سافو :
ونسلب ما رزقوا من حجى
ونهدم ما رفعوا من قباب
ونبني لهم نصبا خالدا
يكون على الدهر رمز العقاب
تطوف به لعنات السماء
وترصده مثلات العذاب
تاييس :
ولكن أرى غير ما قلتما
وما الغدر في الرأي كل الصواب
إذا خلت الأرض من طيرهم
فمن ذا يحيي الجمال القسيم
ومن يطلق الحب من وكره
على خطرات الغناء الرخيم؟
وفيم نرقش هذا الجناح
ونصقله ببنان النعيم؟
طيور السماء! حذار الوقوع
على حطب في الثرى أو هشيم؟
دنيا النساء
(بليتيس تخاطب تاييس في ألم وغضب.)
بليتيس :
أيغريك بالحب سود اللحى
غلاظ الشفاه، العراض الطوال؟
كأن الهوى صنع أيديهم
فمن غيرهم كل عيش محال؟
إذا شئت كان لنا عالم
يحوط الأنوثة فيه الجلال
حمت رقة الجنس رباته
فليس بها حاجة للرجال!
لكل اثنتين هوى واحد
تلاقى على سره مهجتان
وعش يضمهما في المساء
وروض به في الضحى يعبثان
وفي ركن خدرهما مغزل
وفوق الأريكة قيثارتان
وتحت الوسادة أقصوصة
لقلبين لم يروها عاشقان
تاييس :
وماذا ترى صنع العاشقان؟
وما ذكريات الليالي الحسان؟
حديثك، إن لم يكن بدعة
فحلم جرى في قديم الزمان
وصيحة مخفقة في الهوى
معربدة الروح، سكرى اللسان
أعيذ الأنوثة هذا الهوان
وفيها الدهاء القوي الجنان!
الكيد العظيم
(تاييس مسترسلة في كلامها.)
تاييس :
لنا الكيد إن خذلتنا القوى
أحابيل شتى وفن عجاب
نلقاه عن ملكات الزمان
أقاصيص لم يرو عنها كتاب
وقد نستعير صفاء النمير
وقد نستمد صراع العباب
وقد نسحب الليل فوق القلوب
ونغري العيون بقوس السحاب
نساقطهم من غواياتنا
أزاهر تندى بماء الشباب
إذا لألأت فوق موج الشعور
أثارت بهم ظمأ للسراب
بألوانها الحمر جمر الغضا
وفي نفحها لفحات العذاب
هو الفن لا ترتوي روحه
بأشهى من الأرجوان المذاب •••
هو الحسن فتاننا العبقري
هو الحب سلطاننا القاهر
ممثلهم ... لعبة في يديه
ومثالهم إصبع فاجر
وألحانهم من فحيح العروق
يصعدها الوتر الساخر
ورسامهم صنم مبصر
فإن جمعوا فهم الشاعر! •••
قلوب مدلهة بالجمال
ترى فيه معبودها الملهما
هو الرجل القلب، لا غيره
فأودعنه القبس المضرما
أنمن به الشرس المستخف
وأيقظن فيه الفتى المغرما
إذا ما اقتحمتن هذا السياج
فقد خضع الكون واستسلما!
سافو :
ولكن حذار ففي طبعنا
ليان يسمونه بالوداعه
وفيهم جراءة مستأسد
تحدى المنية باسم الشجاعه
تاييس :
وهمت، فذلك هزل الرجال
وفن أجزنا عليهم خداعه
نذيب به صلب أعصابهم
وفي رقة العود سر المناعه
شيطان الشاعر!
سافو :
أطلنا الأحاديث عن عالم
ملثمة أرضه بالخفاء
جعلناه مطمح أحلامنا
كأنا شقينا بسكنى السماء
طوانا على حبه شاعر
كثير المجانة نزر الحياء
أثار الملائك في قدسها
وأوقع في سحره الأبرياء
بليتيس :
عجبت له كيف جاز السماء
وغرر بالملأ الطاهر
أيمرح في الكون شيطانه
بلا وازع وبلا زاجر؟
دعي الوهم «سافو» ولا تحقري «بليتيس» معجزة الشاعر
فما نتقيه بحياتنا
إذا هو ألقى عصا الساحر (وكانت تسمع ضجة كلما ارتفعت روح الشاعر في معارك السماء.)
تاييس : «بليتيس» هل هو ذاك الخيال
المجنح بين حواشي الغيوم؟
عشية صاح بأترابنا
وقد أخطأته قسي الرجوم؟
وقيل: لنا ملك عاشق
يسري الهموم ببنت الكروم،
يجوب السماء إذا ما انتشى
يعربد بين خدور النجوم؟
بليتيس :
أعاجيب شتى لهذا الفتى
وأعجب منها الذي تذكرين
كأن أحاديثه بيننا
أساطير آلهة غابرين
إذا كان للفن هذا الصيال
فوا رحمتا للجمال الغبين
وددت لو اني في إثره
درجت على الأرض في الدارجين
تاييس :
أتغوين بالشعر شيطانه؟
خيالية أنت، أم شاعرة؟
بليتيس :
بل الشعر آسره المستبد
فيا ليت لي روحه الآسرة
ويا ليت لي وثبات الخيال
وقوة أربابه القاهرة
لصيرته مثلة في الحياة
وسخرية البعث في الآخرة!
الفن الشهيد
تاييس :
صفي لي «بليتيس» هذا الأمل
وماذا ابتدعت له من حيل!
بليتيس :
أدله هذا الفتى بالجمال
وأسمعه من رقيق الغزل
وأورثه جنة بالرحيق
وأحرمه رشفات القبل
إلى أن تحرق أعصابه
ويصرعه طائف من خبل •••
وأحفر بعد الردى قبره
هناك على قمة الهاويه
وأغرس في قلبه زهرة
من الشر رواية ناميه
سقتها سموم شرايينه
ورفت بها روحه العاتيه
تخف إليها قلوب الرجال
وترجع بالشوكة الدامية •••
إذا جنها الليل لاحت به
كعين من اللهب المضطرم
تثور الشياطين من عطرها
كمجمرة الساحر الملتثم
إذا استافها الرجل العبقري
تحول كالحيوان الوخم
تضج البلاهة من حوله
وينظر كالصنم المبتسم!
تاييس :
هبي الشعر أولاك من ملكه
سماء الألوهة ذات البروج
ونص المعاني عن جانبيك
فمنها السرى، وإليك العروج
فما تصنعين إذا ما بعثت
واحدة من بنات الزنوج
ألم تقرئي قصة «السامري»
وما صنع القوم بعد الخروج؟
جنون الحياة!
نبا منطق الوحي في سمعهم
وخف عليه رنين الطرب
ومدوا العيون إلى فتنة
تجسد في حيوان عجب
ترامى بأحضانه غادة
أفاد صباها شبوب اللهب
جنون الحياة وأهواؤها
أنوثتها وبريق الذهب! •••
فأين من القوم سحر البيان
وصيحة «موسى» قبيل الوداع؟
هم الناس لا يعشقون الخيال
إذا لم يكن حافزا للطماع
هم الناس لا يعبدون الجمال
إذا لم يكن نهزة للمتاع
هم الناس لا يألفون الحياة
إذا لم تكن معرضا للخداع
معرض الحياة!
تماثيله بعض أجسامنا
وقد صاغها العبقري الصناع
ولوحاته صور العاريات
إذا مزق الفن عنها القناع
أبالشعر تغوين هذا الفتى؟
وهمت إذن وجهلت الطباع!
أليست له صبوة الآدمي
وشهوة تلك الذئاب الجياع؟
فزع وعتاب
بليتيس (في فزع من حديث صاحبتيها عن بعثها زنجية) :
رجعت لنفسي فلا تغضبا
وكفا العتاب ولا تسهبا
لقد رعتماني بهذا المزاح
وأبدعتما نبأ مغربا
سرت بي من ذكره رعدة
كأني لبستث به الغيهبا «أتاييس» لا كنت بنت الزنوج
ولا شمت أما بهم أو أبا!
السحر الأسود
بليتيس (ضاحكة من فزع بليتيس قائلة لها في معابثة) :
وصمت الخليقة في بعثهم
كأنهم الحدث المنكر
وما أخطأ الطيف ألوانه
ولكنه اللهب الأحمر
أبوهم، كما زعموا، آدم
وحواء أمهم المعصر
لهم أعين تتملى الجمال
وأفئدة بالهوى تشعر •••
لهم نارهم في أقاصي الدجى
وأبياتهم في أعالي الكهوف
وسحر الطبيعة في عريها
إذا هتك الفجر عنها الشفوف
وناي يقسم فيه الربيع
ويسكب شجو المساء الهتوف
ورقص يمثل قلب الحياة
إذا ما استخف بنقر الدفوف •••
تفرد فنهم بالخفاء
وصيغ بفطرتهم واتسم
يعيش جديدا بأرواحهم
وإن عاش فيهم بروح القدم
له بأس «مانا» وإيحاؤه
إذا اضطربت روحه بالألم
ورقة «هاواي» في شدوها
إذا جاش خاطرها بالنغم
رقية!
(سافو وتاييس تشيران إلى بليتيس إشارات السحرة وتنطقان بصوت واحد):
ألا فليكن لك من فنهم
سمو اللظى وعتو الجبال
ألا فليكن لك من سحرهم
فنون تعطل سحر الخيال
ألا فليكن لك من نارهم
وشاح مؤلهة بالجمال
إلى الأرض فانتقمي للنساء
وكوني بها محنة للرجال ...
عودة
(الملك وقد عاد في طريقه إلى حيث الحوريات بعد أن ودع الفنان على أفق الأرض.)
هرميس :
سلام لكن عذارى السماء
الحوريات :
سلام لهرميس روح الإله
هرميس :
أرى ومضة الشر في جوكن
وأسمع صوتا كأني أراه
يلاحقني في رحاب السماء
ويرتج في مسمعي صداه: «لقد فارق البشر غر الوجوه
وشاع الذبول بورد الشفاه!»
الحوريات :
أجل، أيها الملك المجتبى
صدقناك فاغفر عذاب الضمير
لقد مر كالطير من قربنا
فتى في رعاية رب خطير
رآنا فأعرض عنا، ولم
يحيي السماء بروح قرير
تخايل عجبا بأوهامه
وأمعن في شره المستطير
هرميس :
ظلمتن هذا الغلام البريء
وقد غض من ناظريه الحذر
أهل بقلب كفرخ القطا
يرفرف تحت جناح القدر
رآكن فيه وحيا به
فلم أدر حاجته للنظر!
الحوريات :
وكيف تكلم قلب الفتى
وما هو إلا سليل البشر؟
ابن السماء
هرميس :
هو ابن السماء ولكنه
من النقص تركيبه والتمام
صناع الطبيعة، بل صنعها،
فمنها دمامته والوسام
يسف إلى حيث لا ينتهي
ويسمو إلى قمة لا ترام
ويسقى بكأس إلهية
مرنقة بالهوى والأثام •••
نقيضان شتى فما يستقر
على غضب منهما أو رضاء
تحدى الحياة وآلامها
ببأس الجبابرة الأعلياء
يزيد عتوا على نارها
ويلمع جوهره من صفاء
وينشق عن نضرة قلبه
وإن طمرته ثلوج الشتاء
هو المرح الشارد المستهام
شرود الفراشة عند المساء
حبته الألوهة روحا يرى
وينطق عنها بوحي السماء
يحس الخيال إذا ما سرى
ويلمس ما في ضمير الخفاء
ويبتدر النجم في أفقه
فيرشفه قطرة من ضياء •••
أرته السماء أعاجيبها
وروته من كل فن بديع
فضن بلألاء هذا الجمال
وخاف على كنزه أن يضيع
أبى أن يبدده ناظراه
فأطبق جفنيه ما يستطيع
فإن شارف الأرض نادت به
ففتح عينا كعين الربيع
الفنان الأول
هنالك حيث تشب الحياة
وحيث الوجود جنين العدم
وحيث الطبيعة جبارة
تشق الوهاد وتبني القمم
وحيث السعادة بنت الخيال
ولذتها من معاني الألم
وحيث الطريدان شجا الكئوس
ومجا صبابتها من قدم
رنا، والطبيعة في حليها
وحواء عارية كالصنم
فمن أين سار وأنى سرى
تصدته مقبلة من أمم
هنالك أول قلب هفا
وأول صوت شدا بالنغم
وأول أنملة صورت
وخطت على اللوح قبل القلم
فما لك حواء أغويته
وأعقبته حسرات الندم
لقد كان راعيك المجتبى
فأصبح راميك المتهم
ولولاك ما ذرفت عينه
ولا شام بارقة فابتسم
وعاش كما كان آباؤه
يغني النجوم ويرعى الغنم!
الفنان الأعمى
لأجلك يشقى بلمح العيون
ويصرع بالنظرة العابره
لود إلى الأرض لو لم يصخ
أو ارتد بالمقلة الحاسره
وكم من فتى عزها سمعه
وغض على حذر ناظره
عصاها، فنادت، فلم يستمع،
فحلت به لعنة الفاجره •••
له مقلتان على ما وعى
من الألق الطهر مختومتان
ففي عقله حركات الزمان
مصورة، وحدود المكان
وفي قلبه أعين ثرة
بها النار طاغية العنفوان
وفي كل خاطرة نيزك
يشق سناه حجاب الزمان
إذا ما هوت ورقات الخريف
أحس لها وخزات السنان
وإن سكبت زهرة دمعة
فمن قلبه انحدرت دمعتان
ومن عجب شدوه للربيع
وقد يخطئ الطير شدو الأوان!
وقيثارة الريح ما لحنها
سوى الريح في جفوة أو حنان •••
عوالم جياشة بالمنى
ودنيا بأهوائها تضطرب
من اللا نهاية ألوانها
مشعشعة بالندى المنسكب
ففيها الصباح، وفيها المساء،
وبينهما الشفق الملتهب
تطوف بها صدحات الطروب
وتسهو بها أنة المكتئب!
حنان
الحوريات (يخاطبن هرميس) :
لك الحب فيما أتاحت لنا
سريرتك السمحة الطاهره
ومن ملك مثل هذا الحديث
طمأنينة المهج الحائره
عطفت على قلب هذا الفتى
قلوبا على فنه ثائره
وصورته ملكا ناقما
على آدميته الجائره!!
هرميس :
أجل هو ذاك ولو زدتكن
لزدتن عطفا على فنه
وما ذنب روح نمته السماء
إذا ضج في الأرض من سجنه
تعلق مهواه فوق النجوم
وحوم وهنا على كنه
لينعم في ظله لحظة
ويملأ عينيه من حسنه
له ولع بخدور النجوم
إذا ما تخلص من طيفه
ويا رب ليل كوادي الخيال
دعته الحقيقة من جوفه
فسار يضم صدور الغمام
ويستضحك النور في سدفه
وغاب كأعجوبة في الدجى
تحار الأساطير في وصفه! (هرميس ينظر إلى غمائم بيضاء قريبة وكأنما يترقب شيئا عندها.)
على الأرض شيطانه الحائم
وفي الكون وجدانه الحالم
مضى سابحا في عباب الأثير
كما يسبح النظر الساهم
يدور فلا أفق ينتهي
إليه، ولا كوكب هائم
وحيث هو الآن فيمن أرى
هناك على سره جاثم
سافو :
هناك!
بليتيس :
هناك! كأني أراه!
هرميس (مشيرا بيده) :
نعم خلف هذا الغمام الرقيق
إذا ما عطفتن ناديته
عسى الآن من روعه أن يفيق
ألا أيها الروح مني السلام
وأنت بحب العذارى خليق
عرائس أحلامك الماثلات
وما أنا إلا ملاك صديق! (صمت ... الحوريات يبدو عليهن القلق، ويترقبن في لهفة حديث هرميس.)
هرميس :
لقد طلع الفجر، يا شاعري
وكادت تزول نجوم الصباح
وحان الرواح فودع خباءك
وادن أحدثك قبل الرواح
الشاعر :
أتهتف بي أنت؟ أم هن؟ أم
نذير الردى والقضاء المتاح؟
بليتيس :
تراك سمعت أحاديثنا؟
الشاعر :
لقد نقلتها إلي الرياح!
عجبت لحورية في السماء
ويأخذ أهل السماء العجب
أتحلم بالأرض مخمورة
من الدم، راقصة في اللهب!؟
وتغري بي الموت، لا جانيا،
ولكنها ثورة من غضب
برئت من الإثم حوريتي
فردي الظنون وخلي الريب!
حواء
أأبغض حواء وهي التي
عرفت الحنان لها والرضا؟
وباع بها آدم خلده
ولو لم يكن لتمنى القضا؟
ورثت هواها، فرمت الحياة
وحبب لي العالم المبغضا
أراها على الأرض طيف النعيم
وحلم الفراديس فيما مضى!
وكانت حياتي محض اتباع
فصارت طرائف من فنها
وكان شبابي صمت القفار
ورجع الهواتف من جنها
فعادت ليالي الصبا والهوى
أرق المقاطع في لحنها
وأفرغت بؤسي في حضنها
وأترعت كأسي من دنها
وكم ذكريات لها عذبة
أعيش عليها وأحيا بها
لها في دمي خلجات الحياة
كأني خلقت بأعصابها
مسامرتي حين يمضي الشباب
وتهتف روحي بأحبابها
وتخلو بي الدار عند الغروب
وأجلس وحدي على بابها!
بدت شبه عابسة فانثنيت
وقد زايل الشمس لألاؤها
وخلت الحياة وضوضاءها
تموت على الأرض أصداؤها
وكف عن الهمس حتى النسيم
وأمسك عن لعب ماؤها
وناديت، فالتفتت لا تجيب
ولكن دعاني إغراؤها
ومرت إزائي فتابعتها
بقلبي، وعيني إلى أمها
رأيت مفاتنها غير تلك
وإن لم يخلدن في جسمها
وأبصرت من حولها الكائنات
جوانح تهفو إلى ضمها
ويحنو الصباح على ثغرها
وقد جن شوقا إلى لثمها
يسائلني القلب عن أمرها
وأسأله أنا عن سرها
ويعطفني في الهوى ضعفها
وأنسى بأني في أسرها
وتبدي لي الأنجم الوامقات
رفيف الأماني على ثغرها
فأحسب أن اهتزاز الحياة
صدى حبها ورؤى سحرها
لكذبتها تستحب الحياة
ويصفو الزمان بتغريرها
ويأخذني الشك في قولها
فتقنعني بأساريرها
وتعصف بي شهوة للجدال
فتسكتني بمعاذيرها
غفرت لها كل أخطائها
سوى دمعتين لتبريرها!
أحاول أفهمها مرة
فأعيا بها وبتفكيرها
أمخلوقة هي؟ أم ربة
تسير الخلائق في نيرها؟
وما سحرها؟ ألتكوينها؟
وما حسنها؟ ألتصويرها؟!
تقول الطبيعة: بنتي! وما
أحس لها بعض تأثيرها! •••
أعند الطبيعة هذا الدلال؟
وفي دفئها مثل هذا الحنان؟
إذا قيل لي: هاك ملك الثرى
ودنيا الشباب، وعمر الزمان
فما لذتي بالذي نلته،
وما نشوتي برحيق الجنان،
كرعشة روحي وهزاتها
وصدري على صدرها واليدان! •••
وغنت فأسمعني صوتها
صدى الروح في خلجات البدن
عميقا كأنفذ ما في الحياة
وأبعد ما في قرار الزمن
فأحسست كيف تطيش العقول
وتسهو القلوب وتصحو الفتن
وقال لها الحسن: يا ربتي!
فقالت له: «كل شيء حسن»!! •••
رآها على النبع بعض الرعاة
مصورة في إطار الغصون
فقالوا: أحلم تراه العيون؟
أفي الغاب حورية؟ من تكون؟
ومس مزاهرهم حبها
فرفت بها خالدات اللحون
وباتت تعانق أحلامهم
وقد كاد يرقص حتى السكون •••
ولاحت بمرأى لعيني فتى
طوى البحر ليس له من قرار
تفتح عن صدرها موجتان
وينشق في الفجر عنها المحار
رآها فجن غراما بها
وغنى بها الليل بعد النهار
وقالوا: تعشق جنية
فتى شاعر تائه في البحار! •••
قضى الله أن تغوي الخالدين
وتغري بالمجد عشاقها
لقيت على بابها الفاتحين
وغار الفتوح وأبواقها
وكل مدل عصي القياد
دعته الصبابة فاشتاقها
سلا مجده الضخم في قبلة
تذل وتسعد من ذاقها!
أماني شتى تمثلن لي
بكل وضيء الصبا ناعم
مبعثرة، حولها في التراب ،
بقايا الدمى في يد الحاطم
تمر بها وهي في ضحكها
وما ذرفت دمعة النادم
فيا لك من طفلة فذة
ورحماك سيدة العالم!
بليتيس (مخاطبة سافو) :
يحاول بالشعر إغراءنا
سافو :
لنؤمن واحدة واحدة!
بليتيس :
هو الموقف الضنك ما يتقيه
تاييس :
كما يتقي باشق صائده
سافو :
متى كان صبا عطوف الفؤاد
وهذي قصائده الجاحدة؟
ألا ذكريه بمثاله
ونادي بحيته الخالدة
قلوب الشعراء
الشاعر (محدثا سافو) :
ظلمت الفنون وأربابها
وما كنت حوريتي ظالمه
قلوب تلذ بتعذيبها
غرائز عاتية عارمه
ترنحها سكرات الهوى
وتوقظها الفتن النائمه
صحت من خمار ملذاتها
تعنف أهواءها الآثمه •••
ألا ما لأختيك؟ ما تبغيان؟
أقلبي والخنجر المنتضى؟
خذاه! اقتلاه! ولا ترحماه!
فليس له بعد أن ينبضا
أذيقاه ما شئتما واغرسا
به الشر ملتهبا مرمضا
فلن تنبتا فيه إلا السلام
والحب والزهر الأبيضا! •••
إناء من النور طافت به
يد الحب غارسة الزنبق
تغاديه هاتفة في الدجى
وراقصة في الضحى المشرق
بأجنحة كرؤى الخالدين
لغير الصبابة لم تخفق
وقلبي من قدح في السماء
ومن نبع آلهة يستقي!!
الطيف الآدمي
سافو (في تهكم) :
أتخشى لقانا سليل السماء
أتحذرنا أم تخاف الضياء؟
الشاعر (يهم بالظهور فيحسن أن له جسدا وأنه لم يعد روحا مجردا) :
محدثتي ما أحب اللقاء
لقد حال جسمي دون اللقاء
وكنت تخلصت من طيفه
فلفته حولي يد في الخفاء
كأني أهذي بأضغاث حلم
أو إني ضللت طريق السماء!!
تاييس :
بليتيس ... سافو ... الفرار!! الفرار!
فقد لبس الروح طيف البشر
أتبصره جسدا عاريا؟
ونقربه؟ تلك إحدى الكبر!
هرميس :
على رسلكن فقد عاقبته
بأقوالكن بنات القدر
تاييس :
لقد عاقبته بأشعاره
فيا ليته ما هذى أو شعر (الحوريات يلتفتن إلى الملك وقد سمعن الشاعر يصرخ في مخبئه.)
هرميس :
أتصرخ؟ ويحك إن السماء
لتأخذها صرخات الألم
من الغيم، يا شاعري، فالتمس
دثارك واخصف به من أمم
وخذ من جناحي ما تتقي
به في السماء عثار القدم
وأقسم ما رمت غير الحنان
وإني زعيم بهذا القسم
الرجل!
(يسمع صوت من وراء غمامة قريبة تنشق عن الشاعر في موقف اضطراب!) (سافو تنظر إليه في دهشة بينما تاييس وبليتيس متجهتان إلى هرميس.)
سافو :
بليتيس! تاييس!
الحوريتان :
ماذا؟
سافو :
انظرا ...
فثمت أعجوبة تظهر
هرميس :
تعال فتى الشعر ...
تاييس :
يا للسماء!
أبالشعر أم بالفتى تسخر؟
سافو :
أهذا هو الآدمي العظيم؟
بليتيس :
ألا شد ما يخدع المنظر
تاييس :
تصورته من أحاديثه
فتى لوسامته يؤثر
هرميس :
تريدينه صورة أم فتى
تهلل فيه الحجى وابتسم؟
سافو :
رأيت الرجولة كل الجمال
هو الرجل الفرد في المزدحم
تراه على النبع يعلي الغطاء
ويدلي الدلاء ويسقي الغنم
ويحدو العذارى إلى دارهن
حيي الخطى «موسوي» القدم
هرميس :
لشد الذي قلته، يا ابنتي
كلاما توهج منه الحنين
تعالي هنا والثمي جبهة
هزأت بها وهي حلم السنين
بليتيس (تدنو من الشاعر وتلمس بيدها صدره وتمر بها على وجهه) :
أمن خمل السحب هذا الدثار؟
ومن حمأ الأرض هذا الجبين؟
هرميس :
دعي طيفه وانظري روحه
ففيها الصبا والجمال المبين
بليتيس :
هل الرجل الروح؟
تاييس :
لا، إنه
محيا ترقرق فيه الوسام
وعينان بالسحر تستأثران ...
سافو :
خيال لعمرك هذا الكلام!
محيا وعينان؟ ما في الرجال
سوى كل أصيد سبط القوام
ذراعاه تستدرجان الخصور
وفي شفتيه حديث الغرام!
الملك (محدثا نفسه في قلق وذهول) :
تنزهت عن شبهة عالمي
ولا رابني فيك ما أسمع
عهدت البراءة فيمن تظل
فما لي من ريبة أفزع
وأبدعت خلقا ولكنني
أراه إلى عبث ينزع
سبى السحر أجمل أرواحه
فأنطقهن بما يخدع •••
أفي عالم الروح تفشو الظنون
وينطق روح بهذا الكلم؟
أسائل نفسي ... أشيطانة
توسوس لي؟ أم ملاك أثم؟
أم الشك آذنني بالصراع؟
أم حل بي غضب المنتقم؟
صوت السماء (في موج من الأنغام الشجية) :
بل البعث آذنهن الغداة
فلا تلحهن لا تتهم
البعث الأول
هي الآدمية طافت بهن
وتلك غرائزها والطباع
غدا تدرج الروح في طيفها
وما الطيف للروح إلا قناع
سترقد في غورها الذكريات
وتوقظهن السنون السراع
وتمشي لحاضرها في الحياة
بمصباح ماض خفي الشعاع
وكم نبأة كالحديث الجديد
وما هو إلا القديم السماع
من الخير والشر إلهامها
مقادر تجري بهن اليراع
فدع للسماء تصاريفها
فقد أذن البعث بعد انقطاع
الملك (مخاطبا الشاعر وقد أخذ طريقه في السماء) :
وداعا، صديقي ...
الشاعر (في حيرة وذهول) :
إلى أين تمضي؟
الملك (ملوحا بيده) :
إلى الملتقى، فالوداع!
الشاعر (ملوحا بيده والحوريات ينظرن إليه في عطف وابتسام) :
الوداع!
أغنية الرياح الأربع
1943
أغنية الرياح الأربع
بقلم علي محمود طه
نظمها شاعر مصري عاش قبل الميلاد بما يقرب من ألفي عام، ونوه بكشفها ونقلها إلى الفرنسية العلامة الجليل الأب دريتون عام 1942، وأتمها وقدم لها شاعر مصري محدث بعد الميلاد بما يقرب من ألفي عام، محاولا أن يتخيل قصتها وأن يهيئ لها جوا مسرحيا يترسل فيه الحوار التمثيلي بروح ذلك العهد البعيد الذي نظمت فيه.
القاهرة، 1943
تمهيد
زمن الرواية:
في عهد الأسرة التاسعة المصرية، أي: منذ أكثر من أربعة آلاف عام.
مكانها:
بدأت وقائعها في ميناء بيبلوس من أعمال فينيقيا (بيروت الآن)، وكانت آشور العظيمة تبسط سلطانها السياسي إذاك على فينيقيا والكلدان وميزوبوتاميا وأرض كنعان. ولبيبلوس حديث ذائع في التاريخ المصري سواء السياسي أو الديني أو الأدبي ... تقرأه في رسائل تل العمارنة التي وجدت من عهد الملك أخناتون. وفيما أشار إليه «برستد» من نصوص قصيدة «ملاح السفينة المحطمة»، وفي النصوص الدينية لقصة الإله أوزريس إله الخصب والخير عندما قتله أخوه «ست» إله الجدب والشر، وأودع جثته صندوقا ألقاه في اليم فحمله التيار إلى ميناء بيبلوس، حيث استقر في جذع شجرة تعرفت عليها إيزيس بسحرها، وتوصلت بفتنتها إلى اقتلاعها والإبحار بها إلى مصر.
وتنتهي وقائع القصة في شاطئ مصر غربي ميناء «رافيا» أول الثغور المصرية من جهة الشرق (رفح الآن).
الأشخاص:
باتوزيس:
المغني المتجول. شاعر مصري. صاحب فن ورب خيال، يعيش ليومه قبل غده.
أزمردا:
القرصان الفاتن. رجل فينيقي. أنيق البزة. رياضي الجسم. خلاب الحديث.
حروازا:
سوداء الشعر. تمثل جمال الشرق.
مريتا:
سوداء الشعر والعينين. تميل إلى الرقص والغناء والمرح، تمثل طابع الغرب.
ويشافا:
شقراء أوروبية في صورتها وتكوينها وزيها. تمثل الشمال.
أسميتا:
زنجية هيفاء. تمثل الجنوب.
أرسطفان :
صاحب الحانة. رجل يوناني مادي النزعة بين الكهولة والشيخوخة.
أنتجونا:
زوجة أرسطفان. شابة يونانية جذابة الطلعة، خيالية.
ماتوكا:
عبد أسود رئيس خدم سفينة القرصان أزمردا.
حرشاف:
بحار فينيقي.
داريوس:
بحار يوناني.
سرنبال:
بحار إسباني.
إمرا:
امرأة أشورية صديقة حرشاف.
نفراي:
امرأة أشورية صديقة داريوس.
أزيرو:
عملاق فينيقي من الشذاذ الأفاقين.
شيلا:
خليلة أزيرو.
سمارا:
خليلة قديمة لأزيرو.
النكرات المسرحية:
جماعة من البحارة الإغريقيين والشماليين والشرقيين غانيات وبنات هوى، جوقة من الفتيات الراقصات مختلفات الأعمار يمثلن عرائس الأمواج، جماعة من العبيد السود يعملون في سفينة القرصان أزمردا.
الفصل الأول
حانة «الملاح التائه» حانة صغيرة أنيقة، مزدانة بالقناديل الزجاجية الملونة، رفعت على جدرانها صور تمثل مغامرات العشاق في العصور الأولى. ذات باب عريض مواجه لرصفة البحر بميناء «بيبلوس». أرسطفان الخمار وزوجته أنتجونا في صدر الحانة منهمكان في تجفيف الأقداح وصفها بعناية، وقد أخذ ظل المساء يمتد على الشاطئ.
أنتجونا :
يا للمساء الجميل
أرسطفان :
لأنت أجمل منه
أنتجونا :
أرسطفان النبيل
لسانه لم يخنه
قول بغير دليل
لا يصفح القلب عنه
أرسطفان :
فم عن التقبيل
إن صنته لم أصنه! (وقد مال عليها يقبلها ثم يربت على خدها وهو يقول):
أسرعي، يا أنتجونا، أسرعي
قد طوى المغرب أطراف النهار
سوف لا يبقي هنا من موضع
قادة السفن ورواد البحار
وهمو في كل زي مبدع
قد خلت منه حوانيت التجار
أنتجونا :
دع حديث الزي بالله دع
أنت تذكي، في دمي، شعلة نار
أوترضى أن أرى في المرفع
بإزاري ذاك أو ثواب معار؟
أرسطفان :
أقصري، يا أنتجونا، واسمعي
لك مني، في غد، أغلى إزار؟
أنتجونا (وقد زمت شفتيها) :
في غد تنسى وعسرا تدعي
وسراويلك ملأى بالنضار!
أرسطفان :
تبا لها شراهة النساء
تغري بهن أقبح الأشياء
يحلمن في الصباح والمساء
بالحلي والجوهر والأزياء (يمر في هذه اللحظة باتوزيس وهو يتأمل ما حوله فيسترعي انتباهه منظر الحانة، فيقف ببابها ويعتمد قيثاره ويسترسل في الإنشاد):
باتوزيس :
هيمان هيمان، يا غرامي
ظمآن ظمآن للمدام
مشرد اللب ليس يدري
تعاقب النور والظلام
هيمان من حانة لأخرى
بلا قرار ولا زمام
يشد قيثاره ويشدو
للنجم، للريح، للغمام!
يخطب ود الكئوس حينا
وود شرابها الكرام
يلقي أغانيه ويلقى
مباذل القوم بابتسام
أذناه لا تسمعان إلا
تصفيق راح وضحك جام
عيناه لا تبصران إلا
مطالع الحسن والوسام
هيمان ظمآن، يا غرامي
أرسطفان (إلى باتوزيس) :
كثيرون مثلك مروا بنا
فردوا الزبائن عن بابنا
وبثوا السآمة في شربنا
ففرج ببعدك عن كربنا!
باتوزيس :
يا أيها السيد لا تقصني
ولا تكن من رحمة موئسي
إن صفرت كفاي من درهم
فما أنا بالرجل المفلس
أرسطفان :
وما يكون لون هذا الغنى؟
غنى الخيال؟
باتوزيس :
بل غنى الأنفس!
غنيت بالنفس فلم أحتفل
بالزائلين: الزاد والملبس
عندي كنور الفن وهاجة
فهات لي كأسا، وخذ، واقبس
لو كنت في «طيبة» يوما معي
رأيت باتوزيس في المجلس
يسقيك من خمرة كهانها
مصرية عذراء لم تمسس
على رخيم الشدو في رفقة
من الكرام الطيبي المغرس
أنتجونا :
من طيبة أنت؟
باتوزيس :
أجل
أنتجونا :
حبذا
مغداي في شتائها المشمس!
باتوزيس (بعاطفة) :
لكنت، يا سيدتي، أغتدي
إليك في خمائل السندس
بكل ما اختارت وما جمعت
إلهتي من زهر اللوتس
وقل أن يهدى لهذا الصبا
والحسن كنز النهر الأقدس!
أنتجونا :
أيها المنشد الغريب فتى أنت معجب
منك عن طيبة الغناء جميل محبب
باتوزيس (غناء) :
حبذا النهر والشراع به الريح تلعب
بين شطين كالزبرجد، والماء مذهب
راح ملاحه الشجي يغني فيطرب
وعلى الأفق والحقول نشيد وموكب
أيها الزارعون، ما تنبت الأرض طيب
اقطفوا زهر أوزريس ومن خمره اشربوا! (أنتجونا في شبه حلم لذيذ، تنظر إلى زوجها وقد كفت يدها عن الأقداح، وهي تقول):
أنتجونا :
هذا النشيد الجميل
يشدو بنجوانا
ملاح وادي النيل
بالأمس غنانا
وهز بالترتيل
موجا وشطآنا
باتوزيس :
أي صدى هزني
وأي حلم عجاب
هل لي إلى موطني
يا ربتي من إياب؟
يا ربتي رددي
هذا النداء الجميل
اليوم أم في غد
أرى ضفاف النيل؟!
أنتجونا :
يا للفتى دمعه
يجري على القيثار
أرسطفان ادعه
فالليل عيد البحار
وشدوه وقعه
تحلو به الأسمار
أرسطفان :
ذكرت مراحنا، يا أنتجونا
وأيام الصبابة والتمني
وليلات «بطيبة» ساحرات
رؤاها لم تغب، في الدهر، عني
أنتجونا :
وظلتنا على خضر الروابي
وزورقنا على الموج المغني
أرسطفان :
وشدو رعاتها في كل فجر
على جرس القطيع المطمئن
أنتجونا :
وترجيع الحمائم وهي تهفو
حوائم بالنخيل المرجحن
أرسطفان :
ديار من بني فرعون طالت
بأس من حضارتها وركن
إذا أبوابها فتحت أطلت
عجائب لم تجل يوما بظن
تنسي صنع آشور وتجلو
روائع ملهمات كل فن (أرسطفان يملأ قدحا ويضعه على المائدة، أنتجونا ترفعه وتقدمه إلى باتوزيس، وهي تقول):
أنتجونا :
اشرب، وغن الآن، يا شاعري
واقض هنا الليل مع السامر
وهات لحن البلد الساحر
مصر التي ما برحت خاطري
باتوزيس (يشرب القدح دفعة واحدة، وينحني شكرا وهو يغني) :
خمرة طيبية أم بابلية
هذه نفحة روح قدسية
منحة الحسن بكفي أريحية
تمنح الرحمة قلب البشرية
لك، يا أجمل ربات البرية،
دعوة صادرة من أصغريه! (تسمع ضجة من بعيد تقترب، فيقف باتوزيس بباب الحانة متطلعا وهو يقول):
أرى ساحة الميناء شتى مشاعل
تبث سماء البحر شتى مفاتن
ربابنة السفن المواخر أقبلوا
يحيون عيد الماء، عيد السفائن
يلوحون من أقصى الطريق بموكب
تصايح فيه كل نشوان ماجن
ألا حبذا عيد البحار وحبذا
شرابي فيه أو شجي ملاحني!
أنتجونا :
أرسطفان انظر جمال الموكب
واسمع لذياك النشيد المطرب
أراهم من بعد كأنهم
في مرقص يلهون أو في ملعب
كل فتى ضم فتاة ومشى
يخطر في زهو المحب المعجب
أنظر إليهم ...
أرسطفان :
أنتجونا، ما أرى
غير خليط هائج مؤلب
من الرجال العابثين، بينهم
أخ الأثام والغرام القلب
وبائعات الحب في أسواقهم
من النساء جامعات الذهب!
حبيبتي، أخشى عليك سكرهم
في حانتي، فاجتنبيهم واذهبي
أنتجونا :
مم تخاف؟ فتنة أم غيرة؟
تظن بي سوءا؟ أما وثقت بي؟
أرسطفان :
أصغي إلي الآن، يا صغيرتي
وامضي إلى مخدعك المحبب
أنتجونا :
كلا! سأبقى ها هنا
أرسطفان :
بل اذهبي
ولا تثيري غضبي
أنتجونا :
بل اغضب!!
أرسطفان (يأخذ بيد زوجته مشيرا لها إلى باب خلفي ) :
هذا طريقك، فاذهبي بأمان
سار الهتاف على طريق الحان
إني أخاف عليك وسوسة الطلا
في كأس عربيد الصبا، نشوان
وهب المخاطر عمره، فشبابه
أحلام كأس أو خيال غواني
وأخاف نظرة جارح متربص
تخفي حلاه حبائل القرصان
غزلا، إذا ساق الحديث حسبته
رب الخيال وشاعر الوجدان
يغوي إناث الجن لا يعيا بها
حيلا، ويقنصها بطرف بنان
أرسى سفينته هناك كأنها
مقصورة العشاق في بستان
ملعونة الحجرات، كل أثاثها
قيد الضحية أو سياط الجاني
إن يدع زائرة لها فسبيلها
سوق الرقيق وعالم النسيان
عن قنص جارية وخطف أميرة
كم عند قرصان البحار أغاني! (تخرج أنتجوتا من الباب الخلفي كأنها متضايقة.)
أرسطفان :
وأنت، يا باتوزيس، هيا
املأ فضاء المساء شدوا
وابعث أغانيك مفرحات
آنا، وآنا يسلن شجوا
وإن علت ضجة السكارى
فاله مع الشاربين لهوا
ولا تضق بالسباب صدرا
وظن ما ينطقون لغوا (يقترب موكب الملاحين وهم ينشدون نشيدهم حتى يدخلوا الحانة بأزيائهم البهجة، وهم مستمرون في نشيدهم ويأخذون أماكنهم.)
الجميع :
نحن قادة السفين
نحن سادة البحار
لا يعزنا السفار
أو يهزنا الخطار
عيدنا من الجمال،
والجلال، والفخار
نحن سادة البحار
البحار
أحد البحارة :
البحار مهدنا
الجميع :
والسفين مجدنا
أحد البحارة :
قد عشقناها شراعا خافقا
بحار آخر :
أينا لم يك يوما عاشقا؟
الجميع :
لابنة الماء عروس الجاريات
عيدها أجمل أعياد الحياة
أي عيد مثله في الكائنات!
أحد البحارة :
غادة عشاقها في كل ثغر
تعشق المجهول والوجه الغريبا
بحار آخر :
تحمل الأشواق من بحر لبحر
الجميع :
وهي لا تؤثر بالقرب حبيبا
أحد البحارة :
عن أبيها ورثت حب الصراع
يوم لاقى الأرض غضبان عتيا
بحار آخر :
طفلة ترقص في ظل الشراع
بحار آخر :
وتقود الموج والنوء العصيا
الجميع :
إنها بنت البحار
البحار (الجميع يصفقون ويهللون.)
سرنبال :
أيها الخمار عجل بأباريق المدام
هاتنا من خمرة الشرق أفاويق الغرام (أرسطفان يسرع بالأقداح والأباريق.) (الجميع يملئون أقداحهم ويرفعونها وهم ينشدون مع الإعادة وبالطرق على الموائد.) (أحدهم يغني الشطر الأول والجميع يرددون الشطر الثاني.)
الجميع :
غنوا الكأسا
يا أصحابي
حيوا الشمسا
في الأكواب
سرنبال (وهو يتأمل الحانة) :
بالله ما أجمل هذي الحانة
وضيئة جدرانها مزدانة
بالصور الرائعة الفتانة
تمثل الصبوة والمجانة
حرشاف :
صاحبها الملاح في البحر شرد
داريوس :
وربما يعود آخر الأبد
سرنبال :
لا! بل حسا شرابه حتى نفد
داريوس :
فهام في اللجة يعصر الزبد
حرشاف :
بل عبثت جنية برأسه
سرنبال :
فظنها إحدى بنات جنسه
حرشاف :
يا ويحه مانفعه بنفسه
وهو أسير حبه وكأسه؟
سرنبال :
أغاص في البحر أم قدح الخمر
حرشاف :
أم أبحر الشعر من حيث لا يدري؟
داريوس :
يا أيها الخمار، قل ودلنا
من صاحب الحانة؟ أين؟ قل لنا
أرسطفان (دهشا) :
من صاحب الحانة؟ من هذا؟ أنا!
داريوس :
أنت؟ عجيب أن نراك بيننا
حرشاف (ضاحكا) :
انظر إلى وجهك في المرآة
وصف لنا عجيبة الحياة
داريوس :
من أي غاب، يا وحيد القرن
سرنبال :
وما اسمك الصحيح؟ لا تكني!
أرسطفان (مبتسما) :
أرسطفان
حرشاف (ممسكا بشعرات شارب أرسطفان) :
علم مغلوط
صحته وشكله المضبوط
تنبئ عنه هذه الخيوط
سرنبال :
أرسطفان أنت أخطبوط
داريوس :
حرشاف هذي شعرات مضحكه
سرنبال :
يلفهن بيد مرتبكه
داريوس :
في شارب يرعد مثل السمكه
حرشاف :
إلي، يا داريوس، هات الشبكه! (ضحك متواصل.)
أرسطفان (هامسا متضرعا) :
باتوزيس هيا غني
ذدهم عني بصدى لحن! (يرتقي باتوزيس مائدة ويشير إلى أرسطفان فيناوله قدحا فيرفعه عاليا، وهو ينشد.)
باتوزيس :
جددوا، يا أيها الصحب، مسرات الزمان
إن هذي ليلة الحب فضجوا بالأغاني
ارفعوا الأقداح ملأى، واشربوا نخب الحسان! (الرجال يرفعون أقداحهم والنساء يصفقن رافعات الأقداح.)
حرشاف :
للصواحب الحسان
إمرا :
للشباب
نفراي :
للغزل!
سرنبال :
للقدود
داريوس :
للخدود
حرشاف :
للثغور
باتوزيس :
للقبل!
داريوس :
للعيون
حرشاف :
للفتون
سرنبال :
للجنون
باتوزيس :
للأمل!
إمرا (واقفة رافعة قدحها) :
نخب صاحبي الجميل كل شارب نهل! (يميل عليها حرشاف فيقبلها والجميع يهتفون):
الجميع :
تحيا القبل يحيا الغزل
حرشاف (رافعا قدحه مشيرا إلى إمرا) :
ونخب عينيك، يا جميله
داريوس :
يا أظرف الغانيات طرا
نفراي (وهي تجذبه) :
تغيظني أم تريد حيله؟
داريوس :
إني أحيي صنيع إمرا
نفراي :
قول توقعت أن تقوله!
داريوس :
نفراي لا شك أنت غيرى!
نفراي (ساخرة) :
غيرى؟ أمن هذه الهزيلة؟
داريوس أنت امتلأت خمرا
داريوس :
بل أنت نفراي! أنت سكرى
نفراي :
داريوس ما لك عين
تطيق وهج ضيائي
انظر لوجهي قليلا
ولا تذب من حياء
أي الجميلات مني
أحق بالإطراء «بيبلوس» تعرف سحري
وفتنتي وروائي
إذا خطرت الهوينا
والعاشقون ورائي
من كل ساب جميل
جم الصبا والثراء
لو نال تقبيل ثغري
أتى بملك السماء
لكن صدقتك حبي
وأنت، في البحر، ناء
داريوس ما لك عهد
لأنت زير نساء (ثم تثب فجأة واقفة ملقية بمعطفها نازعة وشاحها، وتبدأ في رقصة خلابة مثيرة تشرئب إليها الأعناق، وتتردد صيحات الإعجاب. ثم تنتهي رقصتها فتقف حانية رأسها، مضمومة اليدين على صدرها، بين التصفيق والهتاف، وتلمع الفتنة في عيني داريوس فينحني مقبلا قدميها مادا ذراعيه لضمها، وهو يصيح):
داريوس :
هيا اهتفوا، أيها الرجال
لربة الحسن والدلال
نفراي معبودة الجمال (في أذن إمرا.)
داريوس يحنو عليها
يبحث عن شفتيها
إمرا :
قد خر بين يديها
مقبلا قدميها (ويحتضنها داريوس وينزل بها وهي مغمضة العينين موسدة رأسها صدره، وهو يناجيها):
داريوس :
ضعي هنا رأسك، يا حبيبتي
لشد ما أهواك، يا جميلتي
ارني إلي، واغفري خطيئتي
أنا الغيور، فاصفحي عن غيرتي (ويقبلان بعضهما.)
حرشاف :
والآن، يا أيها النساء هيا إلى الرقص والغناء (وفجأة يدخل أزمردا الحانة بزيه العجيب ومشيته المهيبة دون اكتراث بالجميع، فيسترعي منظره الأنظار، ويأخذ مكانه بانحراف في آخر الحانة بينما ينظر إليه باتوزيس من طرف خفي، وهو يقول لنفسه):
باتوزيس :
من ذلك الوجه يبين نصفه؟
هذا فتى ما غاب عني وصفه
جبينه، وعينه، وأنفه
أذاك أزمردا ترى! أم طيفه؟
يا للعين لم يصبه حتفه
حيا أراه والصبا يحفه
والخمر في الأقداح تستخفه
داريوس :
أيها الخمار هيا
أترع الكاس وناول
حرشاف :
لا تدع في الدن شيا
واسقنا من خمر بابل (ويسري المرح في جو الحانة من جديد ويسرع أرسطفان بأباريق الخمر فيهتف سرنبال):
سرنبال :
أيها الشادي، أما تسمعنا لحنا شجيا؟
نفراي :
غننا، يا شاعر الحب، قصيدا عبقريا
داريوس :
قصة مصرية الألحان وزنا ورويا
إمرا :
أو نشيدا أسيويا
حرشاف :
أيها المصري هيا (يعتمد باتوزيس قيثاره ويأخذ في الإنشاد حينا والغناء حينا آخر ويشترك معه الجميع في بعض أبياتها):
باتوزيس :
يروي لكم، في الشعر، باتوزيس
أجمل ما يروى
من قصص أوحت به إيزيس
يعجب من يهوى
ويستثير الوجد والشجوا
فيما مضى، من غابر الأيام كان فتى ملاح
نهاره أو ليله أحلام بالغيد والأقداح
مستغرقا في اللهو والأفراح
جن بآشورية هيفاء معبودة الحسن
كانت لها سفينة في الماء أميرة السفن
شراعها أعجوبة الفن
وليلة مر فغناها أغاني الحب
فاستمهلت تصغي، فحياها تحية القلب
فأومأت تدعوه من قرب
وعلمته القنص والأسفار في الغرب والشرق
فطوفا في قاصيات البحار أو لجة العشق
عامين مرا كسنا البرق
وليلة في الشاطئ الفضي أسرى إلى القنص
بينا دنت من شعب الأرض سفينة اللص
تدب في خوف وفي حرص
وخدعتها رنة الصوت من هاتف بالباب
يصيح في حشرجة الموت يا رحمة الأرباب
هذا غريق في ثنايا العباب
وأوقعتها نخوة الإحسان في قبضة القرصان
ولم يزل عاشقها الولهان من سالف الأزمان
يسأل عنها الريح والخلجان
وقال راو: حدثوا عنه في قصتي نوح
إن إلها زوجت منه في عالم الروح
فأنجبت آلهة الريح!
فإن سمعتم في صدى الأمواج أو لحن شاديكم
أغنية تهفو على الأثباج حيرى تغاديكم
فهي لها، وهي تناديكم!
حرشاف :
يا للفاجر يا للغادر
داريوس :
أين نراه! أو نلقاه؟
باتوزيس :
سل إله الريح عنه إن أردت الثأر منه!
هو في كل مكان جاثم إن تفتقده
وهو في كل زمان إن تسل عنه تجده
وتراه بيننا الآن وإن لم تعتقده
مثل للشر مهما يطوه الدهر يعده
إمرا :
أنقضي هذه الليلة أسرى هذه الحانه؟
وفي بيبلوس ألوان من اللذات فتانه
حرشاف :
هلموا، أيها الإخوان، فالليلة حسانه
نفراي :
وهذي الغرف الحمراء بالإغراء ملآنه
داريوس :
ومعشوقاتنا ينظرن من آن إلى آنه
سرنبال :
هلموا قبل أن يهجر طير الفجر أوكانه
حرشاف :
ويجري الشفق الأول فوق الماء عقيانه
داريوس :
ويدعو صاحب الفلك إلى الدفة سفانه
باتوزيس :
فلنرفع الأكواب
ولندر الأنخاب
سرنبال :
في صحة الإغراء
نفراي وإمرا :
والغرف الحمراء
حرشاف :
بل نخب باخوس
داريوس :
وحور بيبلوس
الجميع (ينشدون في صوت واحد، وهم يغادرون الحانة) :
فليحي باخوس ولتحي بيبلوس
حرشاف (وهو يأخذ بذراع إمرا) :
فواتن الدنيا هيا بنا هيا (ويغادر الجميع، ما عدا أزمردا، وقد ألقوا بنقودهم، ثمن الشراب، على الموائد فيسرع أرسطفان إلى جمعها مبتهجا.)
باتوزيس (إلى أرسطفان متعمدا تجاهل أزمردا) :
إلي بجرعة قد جف حلقي
وأوهى المعزف الشادي بناني
أرسطفان (يملأ قدحا ويسرع به إلى باتوزيس ضاحكا مرحا) :
إليك إليك، باتوزيس، فاشرب
معتقة مختمة الدنان
لقد أبدعت في شدو ولهو
كما أبدعت في نظم الأغاني!
أزمردا (للخمار مشيرا إلى باتوزيس) :
وهات له بثانية فإني
طربت كأن آلهة تغني
لقد غناك طيبي نبيل
أراه كأنه لم ينأ عني
تحدر من ضفاف النيل حتى
أتى آشور في ثوب المغني (مشيرا لباتوزيس.)
أباتوزيس هات الكأس هيا
تعال، تعال، وادن الآن مني
سمعتك في الطريق فجئت أصغي
إليك، وأنت في سبحات فن
وأزمردا صديقك لم تخنه
فراسته، وصوتك لم يخني! (باتوزيس يتصنع الدهشة والفرح معا، يحمل قدحه ويخف به إلى أزمردا وهو يقول):
باتوزيس :
يا لفجاءات الفرح! ويا لنشوة القدح!
أأنت أزمردا؟ أحقا أنت؟ أم أنت شبح؟ (مشيرا إلى ثياب أزمردا.)
هذا الجلال! ما أرى؟ أرى نفائس الحلل
كأنها أسطورة يبرز لي منها بطل
أقول: من هذا الأمير في صدارة الذهب؟!
وهذه الجواهر المضوئات كالشهب!
أزمردا :
ولا تقول: بل فتى عرفته على الزمن
كنا معا نعمل في البحر ونقتاد السفن!
باتوزيس (رافعا قدحه) :
نخب الثراء العظيم
نخب الصديق القديم
أزمردا (رافعا قدحه) :
نخب الغناء الرخيم
ونخب ضيفي الكريم
باتوزيس :
ضيفك! ما تعني؟ وماذا تريد
تضيفني أنت الثري العتيد
ولم أكن غير مغن شريد
في أي قصر أو بناء مشيد؟
تقيم في هذا المكان السعيد؟!
أزمردا :
أقيم في قصر؟ وفيم القصور
وطوع سلطاني هذي البحور
أؤم فيها حاليات الثغور
مبتهج الآصال نضر البكور
على شراع قرمزي جسور
منطلقا يغزو سماء النسور
ولا يني بين الصبا والدبور
يثير أهواء الحسان الحور
حتى ترى في ظله المنشور
يحملها إلى الغد المقدور!
باتوزيس :
سرك، يا صاح، عرفت مكمنه
سفينك الراسي وعيش القرصنه
يا للثراء، ويحه، ما ألعنه!
أزمردا :
ألا تزال، يا فتى، مهذارا
محدثا أو منشدا ثرثارا
تلفق الألحان والأشعارا
تتهم السفين والبحارا
وتخلق القراصن ابتكارا
في صورة تكسو الرجال عارا؟
باتوزيس :
عارك لن يمحى ولن يوارى!
أذاكر أنت أزمردا منعمة
بيضاء كالشمس في أبهى مطالعها؟
إذا مشينا على الميناء ترمقها
خلسا، وعيناك نار في مدالعها
خدعتني عن خطاها وهي واثبة
مثل الغزالة تلهو في مراتعها
حتى ظفرت بها غدرا وطرت بها
مثل الرياح أضلت خطو تابعها
قنصتها قنص جبار وما شفعت
لديك حتى الدوامي من مدامعها
يا بؤسها، وهي في الأسواق عارية،
ويا لها بين شاريها وبائعها!
معروضة الجسم تلتف العيون بها
تكاد تنفذ من أخفى مقاطعها
كأنها دمية المثال يفحصها
نقاده ليروا أخطاء صانعها
كأنها الشاة والقصاب ينقذها
بمثل ما جس لحما في أضالعها
رواية كلما مرت يجددها
قرصان بحر ويحيي من وقائعها
فاذكر مصائب آباء بما اجترحت
يداك، أو أمهات في فواجعها
واذكر فتاتك إن صرت الغداة أبا
وكان مثلك مقدورا لطالعها!
أزمردا :
أراك كما فارقتك الأمس شاعرا
على الدهر عربيدا، من الناس ساخرا
ترامى بك الحانات تشدو بمزهر
تغني السكارى والنساء العواهرا
حوانيت لهو أنت فيها فراشة
تظل على أضوائها العمر حائرا
وسادك كرسي عتيق بحانة
إذا ضافك الخمار وامتن آجرا
ومن عجب تزري على الجاه والغنى
وتسأل بي هذي الحلى والجواهرا
وتهزأ بي بين السكارى وما أرى
بهم غير فتاك يلص المواخرا
باتوزيس :
وغدرك أزمردا! تكلم فإنني
أرى منك وحش الغاب أنقى أظافرا!
أزمردا :
رويدك، باتوزيس، ما كنت غادرا
وما كنت إلا أسيويا مغامرا
أبيع الصبايا الهائمات على الطوى
لأمنحن العيش ريان ناضرا
وأخدع فيهن الرجال وربما
نسلن نجوما أو ولدن عباقرا
وأغشى بهن الدور عالية الذرى
لأجعل منهن الإماء حرائرا
وآلهة فوق الشعوب يسمنها
مقادة ربات يقدن المقادرا
فخل خيال الفن للساعة التي
يدين لك المال النهى والخواطرا
هو المال غفار الخطيئات فالتمس
به خالقا يعفو ويبطش قادرا
باتوزيس :
أيها الساحر دعني كف هذا السحر عني
أي أنغام من السحر مرنات بأذني
كدت أن تبلغ ما لم تبلغ النشوة مني
كدت ألقي في يد الشر بسيفي ومجني
لا علينا الآن من هذا التحدي والتجني
لك سلطانك في البحر، ولي كأسي ولحني!
أزمردا :
ولك الخيال العبقري يصوغ آلهة الرياح
مترنمات بالعشي مغنيات بالصباح
تحتال تذكرهن في قصص من الكذب الصراح
قصص تنمق لا إزيس بهن تعلم أو بتاح!
وتروح تغمزني، وأنت تجد في قول المزاح!
باتوزيس :
ويك أزمردا دع الظن ولا
تحسب القصة من هزل الحياة
كنت في «طيبة» من عام مضى
وتسمعت لأخبار الرواة
فتيات أربع يظهرن في
كل عام صورا مختلفات
رائعات يتخطرن على
هذه الأمواج مثل النسمات
أزمردا :
حبذا هن، ألا صفهن لي
كيف يطلعن؟ وفي أي الجهات؟
باتوزيس :
فوق شط رمله من ذهب
لؤلؤي الماء دري الحصاة
من يحزهن يحز ملك الثرى
ومقاليد البحار الطاغيات
أزمردا :
آه، لو يسنحن لي كنت إذن
سيد البحر ورب الغزوات!
كنت، باتوزيس، أحبوك الغنى
ومسرات العصور الخاليات
باتوزيس :
يا لأطماعك أزمردا، أفي
ملكوت الريح؟ قف! بعض الأناة!
أزمردا :
أوأنت باتوزيس تؤمن بالقوى المتجسدات؟
وبهذه الأرواح في صور الإناث مصورات؟
أوأنت تؤمن!
باتوزيس :
كيف لا! والروح كبرى المعجزات
نحيا كآلهة بها ونعيش من بعد الممات
أزمردا :
هذي الرواية من نسيج الوهم أو صنع الخيال
أوأنت تؤمن؟
باتوزيس :
لست أومن بالخديعة والضلال
آمنت بالروح القوي يهد طاغية الرجال
ويصب صاعقة السماء على العتي من الجبال
أزمردا :
لم يكن عهدي بباتوزيس نشوان يجادل
ولقد أغمدت سيفي، وهو لا زال يناضل
أنت ضيفي، فقم الآن، ودع هذي المباذل
وتهنأ بالكرى العذب وصل ما أنت واصل
من ذوات القرط والشف وربات الخلاخل
وليكن حلمك حوريات آشور وبابل
باتوزيس (مغضبا) :
لك عذري، يا أخا الود، فما أنت بقائل؟
أزمردا :
يا أيها الفتى الرقيق، لا تكن معاندي
أنت أخي، فلا تربك، يا أخي، مقاصدي
ذكرت عهدنا القديم والوفاء شاهدي
فراعني أني أراك في هوان شارد
تقتات كالهرة من سواقط الموائد
تعال في سفينتي، وكن أخي وساعدي
واستقبل الدنيا وغن للغنى المواعد
وذق مباهج الحياة عذبة الموارد
دع الخيال واطرح توافه العقائد
وخض ملاحم الرجال، واقتحم، وجالد!
باتوزيس :
قل لي: مساء الخير، يا صديقي
ولنفترق كل إلى طريق! (وفجأة تعلو ضجة بباب الحانة حيث يبدو «أزيرو» متعلقة بذراعه «شيلا» ومن ورائه جماعة من الرجال والنساء بينهن «سمارا»، ويأخذ أزيرو مكانه مواجها لأزمردا وهو يقبل شيلا فيندفع رجل من الجماعة إليه):
أزيرو :
إليك عني الآن؟ ما تروم؟
الرجل :
أطلب حقي، أيها الزعيم!
أزيرو :
أها هنا حقك، يا لئيم؟
الرجل (بصوت جهوري) :
أنا اللئيم؟ بل أنا الملوم!
أزيرو :
إلام تهذي أيها المحموم
غدا أراك
الرجل (مهددا بيده) :
موعد محتوم!!
أزيرو (وهو يلعب بسفيه علامة التهديد) :
ألا تعيش، يا فتى، إلى الصباح؟
الرجل (وقد تقلص وجهه) :
ألا أعيش؟
أزيرو (متوعدا ساخرا) :
لا تخف ولا ترع!
الرجل (في استخفاف) :
ممن أخاف؟ منك!
أزيرو (مشيرا لسيفه) :
بل من السلاح
الرجل (في شراسة) :
عفوا أزيرو نحن في الهوى شرع
هذا سلاح لم يعد للكفاح
غدا غناء أو بكاء وفزع!
أحد الجماعة :
يا للشقي قد نجا بنفسه
شيلا :
كيف أزيرو لم تطح برأسه
أزيرو :
لا لن أمد إصبعا للمسه
غدا أراه
أحد الجماعة :
راقدا في رمسه!
شيلا (مصفقة) :
أرسطفان هيئ الشرابا
سمارا :
املأ لنا الصحاف والأكوابا
أزيرو :
فاكهة وخمرة عجابا (ويسرع أرسطفان بالأقداح بادئا بأزيرو وشيلا واضعا أمامهما صحفتين من العنب والتين، ويمر بالجميع موزعا الأقداح فيرفعونها وهم يهتفون):
الجميع :
نخب الزعيم نشرب ونلعب ونطرب
شيلا :
هيا اشربوا هيا اطربوا
أزيرو (يقبلها ثم يهمس في أذنها ويخرج من صدارته شيئا وهو يهتف) :
شيلا أغمضي ناظريك واقتربي
عندي كنز إليك أهديه (تغمض عينيها وتقرب وجهها منه فيضع في عنقها عقدا مصاغا من دنانير ذهبية صغيرة، والجميع ينظرون بلهفة بينما تنهض سمارا من مكانها في غيظ وكمد):
شيلا (وهي تتحسس عنقها) :
ماذا أزيرو وضعت في عنقي؟
عقد؟
أزيرو :
أجل، يا حبيبتي، تيهي
أجمل عقد رأيته، وأرى
جيدك أمسى أحب ما فيه
شيلا (إلى سمارا وهي تتأمل العقد) :
هاك انظريه!
سمارا (في خبث) :
نظرت ... وا عجبي!
بعض نحاس وبعض تمويه (مشيرة إلى عنق شيلا.)
لو كان هذا أحب ما فيه
ما بات من درهم يساويه
شيلا (غاضبة) :
لو كنت مثلك، يا سمارا، لاختفيت عن العيون
سمارا (وهي تشير إلى أزيرو) :
لو كان لي رجل لكنت ... ولست أعلم ما أكون!
لكن سرقت وهكذا يسبى الرجال ويسرقون
شيلا (صارخة في سمارا) :
ويحك، يا سارقة الجيوب!
سمارا (وهي تشيح عنها) :
أشرف من سارقة القلوب!
شيلا :
أأنت، يا عدوة الجمال
سمارا (في حدة) :
بل أنت، يا خاطفة الرجال
أسطى من القرصان في السفينه
كيدك، يا قرصانة المدينه!! (وينهض أزيرو حانقا فيصفع سمارا ويدفع بها بقوة بين قدمي أزمردا وهي تتشج بكاء، فيرفعها أزمردا ويجلسها على كرسيه بينما يتقدم أزيرو منه صائحا):
أزيرو :
تنح عنها، أيها القرصان!
أزمردا (بصوت رائع) :
ومن تكون، أيها السكران؟ (فيستل أزيرو سيفه وفي لمحة خاطفة يجرد أزمردا سيفه، ويضرب به سيف أزيرو فيكسره ويقف أزيرو عاجزا.)
أزيرو (مدمدما) :
قد خنتني!
أزمردا (في عنف وهو ينزع قلنسوته) :
بل خانك الجنان
انظر لوجهي أيها الجبان! (وتتردد صيحة من جوانب الحانة.)
أزيرو (وهو ممتقع الوجه.) :
أزم ... ردا أزم ... ردا
أزم ... ردا (ويتراجع الرجال والنساء متلاصقين خوفا وهم يرددون هذا الاسم في رعب وفزع، بينما يغمد أزمردا سيفه ويتناول قلنسوته، ويشير إلى باتوزيس فيهرع إليه طائعا، ويسير إلى جانبه كالمسحور، وهما يغادران الحانة تتبعهما سمارا بين هذه الصيحات والهمسات!)
الفصل الثاني
المنظر الأول
أزمردا، سفينته الصغيرة الأخاذة المنظر راسية في الصباح في مكان غربي ميناء «رافيا» على شاطئ غريب منبسط متألق الرمال. فيه زهرات برية مختلفة الألوان ونبت جميل وشجرات صغيرة من النخيل والزيتون، منتشرة بينها بعض الصخور وعلى الأفق تبدو أشباح سحاب وجبال. أزمردا وماتوكا يتأملان في دهشة الشاطئ.
ماتوكا :
سيدي! ما أرى الغداة إزائي؟
أزمردا :
شاطئ ضاحك الثرى والماء
ماتوكا :
فيه نبت، وفيه زهر جميل،
وظلال تموج في أضواء
أزمردا :
كالذي تذكر القوافل عنه
كل عام في مستهل الشتاء
ملتقى العابرين من أرض كنعان
إلى مصر أو حمى سيناء
ماتوكا :
أي روح خفية، أي ريح
حملتنا بأجنح في الخفاء؟
نشرت ذلك الشراع وأمت
ذلك الشاطئ العجيب الرواء
أزمردا (وكأنه لم يسمع كلام ماتوكا) :
نحن في أول الطريق إلى مصر
وهذي عجيبة الأنباء
ماتوكا (تاركا أزمردا متوجها إلى البحر منحنيا يبحث بين الأصداف) :
يا لهذي الرمال تلمع والأصداف
فيها كثيرة اللألاء
فلأفتشن فيهن عن درة عصماء
ولتحسن الحظوظ لقائي!
أزمردا :
يا ماتوكا الزم الحذر نحن في موقف الخطر
تطمع الآن في اللآلئ، يا هزوة القدر!
ماتوكا (وهو مستمر في بحثه) :
منك، يا سيدي، عرفت متى ألزم الحذر
وتعلمت سيدي كيف لا يقنع البشر!
أنا، في البحر، باحث عن يتيم من الدرر
مثلما أنت باحث عن يتيماتك الأخر!
الصبايا المرنحات من الدل والخفر!
أزمردا :
أيها الغر، لا تغرك براقة الحجر
جف حلقا من الظما ذاك برق بلا مطر (ويستمر ماتوكا في عمله غير مصغ إلى كلام سيده فينصرف أزمردا عنه ويجلس على صخرة، وهو يقول):
عشت عمري بذلك البحر ألقى
فيه شتى الرياح والأنواء
غير أني لم ألق مثل رياح
الأمس! يا للعواصف الخرساء!
أهي تلك التي تحدث باتوزيس
عنها في مجلس الصهباء؟
فتيات الرياح، آلهة الموج
المغني، عرائس الدأماء؟
قصص من خرافة أول الناس
بها كل حادث بقضاء
وأساطير «طيبة»، ربة السحر،
ومهد الخيال والإغراء
وعجيب رقادنا لا نحس الفلك
تجري ولا هدير الماء
أترى باتوزيس دبر أمرا
فسقاني واشتط في إسقائي!
ورآني أغط في النوم فانساب
خفيفا كالحية الرقطاء
ثم حل الشراع، وانتزع المرساة،
مستلهما مهب الهواء
لا ... فأين العبيد أم أين ماتوكا
الشديد الحرص القوي الدهاء
لا ... فما زال باتوزيس صريع الكأس
نهب الأحلام والأهواء
هو في مخدعي كما بات، يهذي
بالسكارى، وبالطلا والغناء
فليكن منشد السفينة أحتال
به في مواقف الإغواء
كلما أطبقت فخاخي على صيد
غرير من نافرات الظباء
غاشيات الأسواق في كل ميناء،
ومنهن صاحبات الخباء
كان عيد البحار موسم صيدي
في ديار بالمغريات ملاء
عدت منها صفر اليدين بيوم
لم أفق فيه من خمار المساء
فلتكن وجهتي إلى الغرب علي
ظافر من غنيمتي بلقاء! (ثم يقف أزمردا متطلعا إلى الأفق البعيد متأملا صفاء السماء، وهو يقول):
يا عين ما أجمل هذا الصباح
يثير في نفسي قوي الطماح
للصيد، والكأس، وحب المراح (تبدو في هذه اللحظة أربع فتيات جميلات كأنهن قادمات إلى نزهة على الساحل، وهن يتمخطرن صفا واحدا متماسكات الأيدي فيما يشبه الرقص الموسيقي الموقع، فيشيع في نفسه الرجاء ويفرك كفيه مبتهجا، وهو يقول):
يا عين، ما هذي الوجوه الصباح
وهذه القامات مثل الرماح
طوالع الحسن، الصبايا، الملاح (لنفسه)
حبائلي، لا يخطئنك النجاح
وهل يتاح الصيد لي؟ هل يتاح؟ (الفتيات وقد اقتربن من مكان أزمردا وهن مبتهجات باليوم الجميل ومنظر الميناء، وينظرن إلى أزمردا وهو يحني رأسه قليلا ويشير بيديه تحية لهن):
أزمردا :
عمن صباحا، أيها الحسان
الفتيات :
وعم صباحا، أيها الربان
أزمردا :
أمبحرات؟ حبذا الأوان
فالبحر صفو كله أمان
حتى الرياح مسها الحنان
أو عطفتها للكرى الشطآن
سفينتي، يا حسن، لو تزان
بكن أو يسعدها الزمان (أزمردا يتوجه إليهن باسما بعد أن أتم كلامه، فيبتسمن له ويقفن كأنما يتفرجن على سفينته الراسية بينا يختلسن النظرات منه ومن زيه الغريب الجميل):
حروازا :
أيها الربان، لسنا مؤذنات برحيل
نحن ما جئنا إلى الشاطئ نسعى لسبيل
مريتا :
إنها تسلية النفس، وإرضاء الميول
بين نور الأفق الضاحك والبحر الجميل
أزمردا :
حبذا أنتن، في الشاطئ، تخطرن مليا
يا أرق الحور، يا أجمل من رف عليا
حبذا هذا الحديث العذب منكن إليا (إلى حروازا):
خبريني أنت، يا حسناء، يا أخت الثريا
صوتك الساحر يسري نغما في أذنيا
وبعيني فتون من سنا هذا المحيا
أترى تسكن هذا الوادي الخصب النديا؟
حبذا الدار التي تمنحنها العيش الرضيا
خبريني، أين ألقى ذلك المغنى الوضيا
لأحييه إذا ما جئت صبحا وعشيا
حروازا :
يا أخا الرقة والزي العجيب
أنت لا شك غريب ها هنا
إن تسل عن مرفإ النيل القريب
فاتجه غربا على هذا السنا
مريتا :
أو تسل عن ذلك الوادي الخصيب
فهو مغنى الأنس، أو روض المنى
ويشافا :
نلتقي فيه على شط حبيب
كل عام ما دعا الشوق بنا
أسميتا :
ما لنا من منزل فيه رتيب
مصر من أطرافها دار لنا! (ثم يعدن إلى خطراتهن الأولى متماسكات الأيدي فيما يشبه الرقص الموقع، متجهات في طريقهن الأول مبتعدات عن أزمردا.)
أزمردا (هاتفا بعد تفكير خاطف كأنما كان يدبر في نفسه أمرا) :
هذه اللحظة الجميلة حلم البحر،
حلم السفائن الراقصات
سرت وامرحن، أو تغنين ماشئتن،
وانعمن بالصبا والحياة
وليكن يومكن، يا فتياتي،
يوم عيد لهذه الكائنات
ويشافا (ناظرة خلفها) :
رجل معجب وأعجب منه
زيه المذهب الجميل الشيات! (ويظهر ماتوكا في هذه اللحظة مقبلا من الشاطئ فيرى الفتيات الأربع ولا يصدق ما يراه، وينظر إلى أزمردا فيراه واقفا في مكانه شاخصا إلى الفتيات وكأنه مأخوذ وحين يرى ماتوكا إزاءه يقول):
ماتوكا :
آذنني بوجهك الظهور
فغاب عني الأنس والحبور
وأنت، يا أسود، يا مغرور (مشيرا إلى الفتيات وهن يبتعدن.)
تظهر من حيث يغيب النور!
ماتوكا (شاخصا حيث يشير أزمردا) :
أأبصر حور البحر يمرحن، أم ترى
هو الشاطئ المسحور، أم أنا أحلم؟
أزمردا :
بل الواقع المرئي حور فواتن
دعاهن لهو أو دعاهن مأثم
تحايلت أدعوهن حتى حسبتني
أخا صبوة أو شاعرا يترنم
وسددت سهمي في الصميم فصده
خيال خفي، أو جلال ملثم
رأيت قوى فيهن لم أر مثلها
كآلهة علوية تتكلم
ماتوكا :
أمنك تعلمت الجراءة والسطا
وألقاك أزمردا تهم فتحجم؟
أزمردا :
رويدك، ما توكا، فما تلك خطتي
ولا أنا ممن يستثار فيهجم
ولي قدرة ليست تعف، وجرأة
يخاف سطاها القسور المتأجم
وأشتف أهواء النفوس بنظرة
تذوق الطلا في الدن، وهو مختم
ولكنني أحتال بالشعر والهوى
وأستلهم الحسن الخيال وألهم
ويا رب صيد نفرته ضراوة
وأسلسه في القيد لفظ منغم
ماتوكا :
ولكن قواهن العجيبات!
أزمردا :
لا ترع
فللمنطق الخلاب أقوى وأعظم (مشيرا إلى لسانه.)
بقطعة هذا اللحم يمضغها الفم
أزلزل أركان الجبال وأحطم
ماتوكا :
وإن هن حاولن الفرار!
أزمردا :
حبائلي
تسد على الريح الفضاء وتدهم
أتفلت من كفي قنائص أربع؟
لهن جميعا لي متاع ومغنم!
ماتوكا :
أثرت فضولي بالكلام فما ترى
وقوفك ترنو نحوهن وتبسم؟
أزمردا :
لأمضي في آثارهن وأتقي
خطاهن حتى يظهر المتكتم
أراهن لا أبدو، وأسمع لا أرى
كأني خيال ضائع الظل مبهم!
ماتوكا :
وما تتقي؟
أزمردا :
إن النساء غرائز
تحس دبيب الوهم إذ يتوهم
ماتوكا :
وما تبتغي؟
أزمردا :
أسرارهن وإنها
مفاتيح باب خلفه الحظ يجثم
ماتوكا (وهو يلف طيلساته على كتفه بقوة) :
إليهن أزمردا! إليهن لا تقف!
أآلهة الشر انظري كيف أقدم! (وينطلق أزمردا في أثر الفتيات.)
المنظر الثاني
بقعة خضراء تشبه الواحة ذات شجر ونبات خلف صخرة بيضاء تحجبها عن البحر، وعن الأنظار، يهبط إليها الفتيات دون أن يشعرن بتعقب أزمردا لهن وقد اختفى وراء الصخرة مطلا عليهن من فجوة صغيرة، فيراهن وقد أخذن يخلعن غلائلهن الشفافة ويلقينها على العشب بينما تنشد حروازا:
حروازا :
إلى صخرتنا البيضاء بين الماء والخضره
تعالي، يا مريتا، وارقصي رقصتك الحره
على ترنيمة اسميتا، وشدو الموج للصخره
وغني أنت ويشافا بصوت ساحر النبره
أغاني الرياح على حوافي الأعين الثره
وأنت، عرائس الأمواج، قد أفشى الهوى سره
ونادتك شفاه من زهور الأرض مفتره
فهبي من وراء البحر، أو فانطلقي عبره
وغني معنا لحن الندى الرفاف بالزهره
وتلعاب السحاب إذا أثار البرق أو غره (وفجأة تتردد من فضاء البحر ضحكات مطربات، وتثب عرائس الأمواج شاديات راقصات مرسلات الشعور شبه عاريات، يتحلين بضفائر الورد والأصداف البراقة ويملأن جوانب المكان، بينما يأخذن جميعهن في الرقص التوقيعي، وهن ينشدن):
عرائس الموج
نحن الحبيبات
لنا على المرج
للهو ميقات •••
إن يطلع الفجر
تفتح الأصداف
ويصدح البحر
في موكب زفزاف •••
لبيك قد جئنا
بالجسم والروح
فسلسلي اللحنا
آلهة الريح •••
عشاقنا ناموا
عن فجرنا الوهاج
والأفق أنغام
والشط والأمواج •••
ما متعوا النفسا
بطلعة الحور
أو ملئوا الكأسا
من خمرة النور (وينتهين من إنشادهن بانتهاء مريتا من رقصتها فتتقدم ويشافا وتبدأ أغنيتها):
ويشافا :
أنا أخت الصبا
أن بنت الشمال
أنا روح الصبا
أنا حلم الخيال •••
طوقت ساعدي
بحر «إيجا» الجميل
واحتوت باليد
شط مصر الظليل •••
أتشهى الرقاد
وأحب المرح
من يجئ بالوداد
جئته بالفرح •••
ليس يشكو الملال
من صفا لي هواه
إن ريح الشمال
هي ريح الحياه
الفتيات (ينشدن) :
ساءلت آلهتي، فكانت لي الرياح وكنتها
وهي الحياة، كما سألت إلهتي أعطيتها
أحيا بها أبد الزمان، وفي يدي ملكوتها
حروازا (تتقدم وهي تغني) :
أنا ريح الشرق أو بنت الضياء
أنا من تمنح أنفاس الشروق
بيدي أفتح طاقات السماء
عن ذرى ولألاء يروق
أصحب الشمس إلى ضحوتها
وهي تسعى يسبي ويداها في يدي
هيأت لي الشمس في ساحتها
منزل الحب وعيش الرغد
كم ترى يشغفني حب الطعام
مثل «آبيس» اشتهاء وهياما
نهم يغري بمضغ والتهام
مثل «سيت» حين يشتاق الطعاما
أنا بنت الشرق، أو روح سناه
أنا ريح الشرق، أو ريح الحياة
الفتيات (ينشدن) :
ساءلت آلهتي، فكانت لي الرياح وكنتها
وهي الحياة، كما سألت إلهتي أعطيتها
أحيا بها أبد الزمان، وفي يدي ملكوتها
مريتا :
أنا ريح الغرب
بنت الآباد
أنا همس القلب
أنا رجع الشادي
أنا رمز الحب
في هذا الوادي
أنا التي أعبر الصحراء فوق خطى
من ذكريات وأحلام وأشواق
أنا التي اتخذت روحي لها وطنا
أجساد آلهة عانين عشاق
لم أرن يوما ورائي، غير ناظرة
إلا لضوء بأفق الغرب خفاق
يهتاجني موجه والشمس سابحة
في مثل بحر من النيران ألاق
مضى حبيبي ولم أبرح لعودته
على الربى بفؤاد جد مشتاق
والليل يرخي على شعري جدائله
فوق الرمال، وزاد البرد إرهاقي
وقد سندت بكفي جبهتي، وهوت
قيثارتي من يدي من طول إطراقي
من قبل ما كان في الوادي وضفته
ملكان مختلفا عهد وميثاق
الفتيات (ينشدن) :
ساءلت آلهتي، فكانت لي الرياح وكنتها
وهي الحياة، كما سألت إلهتي أعطيتها
أحيا بها أبد الزمان، وفي يدي ملكوتها
أسميتا (تتقدم وتغني) :
أنا بنت الجنوب، ريح الحياة
أنا زنجية تسوق الماء
أنا حب الثرى، وحلم النبات
فيه أحيا وأبعث الأحياء
أنا سر الحياة والكائنات
إن ريح الجنوب ريح الحياة
الفتيات (ينشدن) :
ساءلت آلهتي، فكانت لي الرياح وكنتها
وهي الحياة، كما سألت إلهتي أعطيتها
أحيا بها أبد الزمان، وفي يدي ملكوتها (وتسرع الفتيات وهن يتضاحكن في ارتداء غلائلهن وقد سارت عرائس الموج إلى البحر، فيغادر أزمردا مكانه ويدخل عليهن فجأة فتشرئب العيون إليه وهو في زيه الفاتن الرائع فيشيع الصوت بينهن، وهو يقول):
أزمردا :
أيها الفاتنات، أيتها الأرواح، أنتن يا رياح السماء
يا جميلات، هل لكن بأن تقبلن مني تحيتي وولائي؟
ما تراها أسماؤكن، ومن واهب هذي الصفات الأسماء
من تراه؟ ومن حباكن هذا البأس والملك واسع الأرجاء؟
حروازا :
قد ولدنا من قبل أن يبعث الناس لعيش مقدر وهلاك
مريتا :
ووجدنا من قبل أن يوجد الأرباب، من قبل دورة الأفلاك
ويشافا :
قبلما يغتدي إلى الصيد قناص ويهوي طير صريع شباك
قبلما تعلق الحبال بثور أوثقته، فما له من فكاك
أسميتا :
قبلما لامس الهوى جسم «ماتريت»، ومسته قبلة المشتاق
مريتا :
قبلما ضمها ذراع محب، واحتوتها أحضانه لعناق
حروازا :
قبلما أشبعت رغاب إله، أزلي، مصور، خلاق
منحتني إلهة الريح سلطاني هذا، فسدت في الآفاق!!
أمردا (إلى حروازا) :
يا ربة الحسن تعالي معي
سفينتي في ذلك الموضع
ألقي عليها نظرة وارجعي
هلا نزلت الآن؟ هيا معي!
حروازا :
لا ... إن لي سفينتي مهيأه
تجري إلى الثغر تؤم مرفأه
حيث أعدت لي فيه منشأه
منشورة قلوعها مضوأه
مأمونة على المدى سبيلها
ألف ذراع لو علمت طولها
أرقى بها معارج السماء
للشمس في منزلها الوضاء
أزمردا (قائلا لنفسه) :
أأقول: قد ضهبت محاولتي سدى؟
هيهات إن وسائلي لن تنفدا!
أيتها الربات، إن تجهلنني فمعذرة
لقاؤكن قسمة الآلهة المقدرة
عرفتكن بالوجوه والخطى المعبرة (مشيرا لحروازا.)
ألست حروازا ابنة المطالع المنورة؟
حبيبة المشرق أو أنفاسه المعطرة (إلى ويشافا.)
ألست ويشافا ابنة الشواطئ المنضرة؟
طيف الشمال، روحه القوية المؤثرة (إلى مريتا.)
ألست أنت، يا مريتا، الفتنة المصورة؟
حلم المساء، ربة المغارب المعصفرة (إلى اسميتا.)
وأنت، يا اسميتا، ابنة الينابع المفجرة
إلهة الغابة، عذراء الجبال المقمرة
حروازا :
عقولنا مما رويت، يا فتى، منبهرة
مريتا :
لا شك أنت من وراء الكون روح محضرة
أسميتا :
إن لم تكن مشعوذا أوتي علم السحرة!
أزمردا (إلى الفتيات) :
يا جميلات، يا فواتن، يا أظرف ما مثلت صفات السماء
يا أرق المسميات بأحلى
ما جرى في الشفاه من أسماء
فليزدكن من شباب وحسن
كل صبح مجدد ومساء
ورعت خطوكن آلهة الوادي
على الأفق، والثرى، والماء
يا حريات بالذي ما تراءى
لعيان، ولا جرى بسماع
ما السفين المجنحات تناهى
طرفاها بألف ألف ذراع
كالتي صفقت لكن مجاديف
وحيت بقرمزي شراع
جمعت من عجائب البر والبحر،
ومن كل لذة ومتاع
كل ما في سفينتي طوع أيديكن،
من كل جوهر وثياب
من شفوف وردية نسجتهن
العذارى عرائس الأرباب
من يواقيت، من يتيم لآل
ما رأتها في الحلم عين كعاب
من طيوب بكفها قطرتها
ملكات الجمال من كل غاب
ويشافا :
كم مرحنا بشراع وسبحنا بسفين
أسميتا :
وسمعنا من خيال وعرفنا من يقين
مريتا :
أينا تؤثر بالجوهر والدر المصون؟
حروازا :
أينا تؤثر بالطيب وبالثوب الثمين؟
ويشافا :
أيها يصلح لي عندك يا رب الفتون؟
أيها الفاتن بالرقة واللفظ المبين
أزمردا (إلى ويشافا) :
أيها القادمة الحسناء من خضر البقاع
أنت، يا من طوقت «إيجة» منها بذراع
واحتوت أطراف مصر بين رفاف الشعاع •••
أنت، يا باعثة البهجة في قلب الصديق
لك عندي كل فتان من الثوب أنيق •••
يبرز الفتنة من ساقيك والقد الرشيق
لك عندي مزهر صنع أساطير الشمال
وحي موسيقاه بوهيمية بنت خيال
وهو لحن فاض من بين سحاب وجبال •••
شعرك المرسل، يا شقراء، ما أبلغ سحره
إن تحلى من أواني الحبيبات بزهرة
وزهت في مفرقيه من بحار الشرق دره •••
لك عندي تحت ضوء الأفق الشرقي حجره
ووساد عبقري إن غفت عيناك فتره
حشوه ريش نعام لم ير الصائد وكره
حروازا :
وأنا، ماذا ترى أعددت لي
من طيوب، وشفوف، وحلي
أيها الشادي الرقيق الغزل
أزمردا (إلى حروازا) :
يا أسيوية أنت، يا غيداء، يا بنت الضياء
يا من وهبت الشرق أنفاسا مسلسلة النقاء
يا من تفتح عن عيون الماء طاقات السماء •••
أنفاسك الذهبية النشوى بصهباء الشروق
لم لا يناسمهن عطر في إناء من عقيق
مزجته ساحرة بسر الحب في زمن سحيق •••
أحرى بلبتك الجميلة، يا جميلة، عقد ماس
لصفاء روحك أو لذاتك في أشعته انعكاس
ما في كنوز الأرض منه، وما لجوهره جناس •••
أحرى بإصبعك الرهيفة خاتم، بل خاتمان
تومي بأحكام المقادير فيهما ياقوتتان
ما ختمت بهما متوجة على عرش الزمان •••
أحرى بقامتك الرشيقة مطرف ضافي الذيول
رسمت عليه يد الهوى أحلام فاتنة قتول
شهب وأزهار، وليس لها أفول أو ذبول •••
فإذا احتوتك سفينتي نلت الذي أبدعته
وطعمت من ثمر من الكرم الجني جمعته
وشربت من قدح بخمر إلهتي أترعته
حروازا :
يا أخواتي، هل رأيتن فتى في حسنه
ما ضرنا ألا نكون عند حسن ظنه
مريتا :
أختاه، ما أحذر غير سحره وفنه
حروازا :
لا تحذري، إني أرى الطيبة ملء عينه
يكاد قلبه يضيء في بياض سنه
ويشافا :
أسمعت ألطف من عبارته
حروازا :
ورأيت أجمل من إشارته
ويداه تعبث في صدارته؟
مريتا :
أغراك، يا حواء، سبط القوام
انتظري حتى يتم الكلام
أزمردا (إلى مريتا) :
أخت «يا هو»، إلهة الصحراء
يا جمال الطبيعة العذراء
أيهذي الصبية الحية الأشواق، ذات الغلالة السوداء
لك عندي قيثارة لحنها الذكرى، وأصداؤها حفيف المساء
يسمع الطير صوتها فيلبي وتلبي الوحوش في البيداء •••
أنت، يا من ترفرفين على الوادي بأنفاسك العذاب النديه
أنت، يا من تراقصين على النبع ظلال الأصائل العسجديه
حق هذا الشهر المكلل شف نسجت وشيه يد الأبديه
خالدات سمات حسنك فيه رائعات آياته السرمديه •••
حق هذا الحصر النحيل إزار من نضار مقدس وجمان
حق تين الأذنين قرطان من در بحار مسحورة الخلجان
حق هذا الفم الرقيق سلاف عصرت من حدائق النسيان
قبلما قبلت خطاك ربى الوادي وقامت عليه مملكتان
الفتيات (ويشافا ومريتا وحروازا) :
إنا نرى الفاتنا
ينسي فتاة الجنوب!
أما يرى أختنا
تكاد شوقا تذوب؟
الوقت قد فاتنا
واليوم وشك الذهوب
أزمردا (إلى أسميتا) :
حييت، يا بنت جبال القمر
يا من تطلين على المنحدر
فيضحك البرق ويبكي المطر
ويتغنى بالحياة الشجر •••
حييت، يا فرعاء
يا ربة السحر
يا من تسوق الماء
من منبع النهر
يا نشوة الملاح
في الليلة القمراء
يا فتنة الفلاح
في الضفة الخضراء •••
عقيصة الشعر
حق لها حق
ذوب من العطر
لم يحوه حق •••
مزاجه النور
في شفتي زهره
كم ودت الحور
من ذوبه قطره •••
عبيره يغري
آلهة الغاب
بالرقص للجمر
والجسد الصابي •••
جيدك ما أحلاه
في لونه الفتان
يسحر لو حلاه
عقد من المرجان •••
حباته الحمر
تذكو بها الأشواق
لم ينمها بحر
بل مهج العشاق •••
يا سحر ما يبدي
ذراعك الوهاج
تزهى به عندي
أسورة من عاج
ما في الثرى منه
جوهره الفرد
إفريقيا عنه
تسأل والهند
حروازا :
يا أخواتي، حان وقت الوداع
انتصف اليوم ومال الشعاع (متلفتة إلى أزمردا.)
إلى غد ... ألقاك، يا صاحبي
في موكب الشمس وظل الشراع
مريتا :
فلنبق حروازا إلى أن نرى
حواشي الظل تلف الطريق
فالقيظ يلقي جمره والثرى
مفازة في هبوات الحريق
حروازا :
وددت لكني أخشى السرى
وحدي، والمشرق ناء سحيق!
أزمردا :
كما شئت فاتنة المشرق
ولكن عديني ...
حروازا :
غدا نلتقي! (وبينما تنسق حروازا ثوبها إيذانا بالرحيل تنتحي مريتا بويشافا وأسميتا جانبا، وهي تقول):
مريتا :
يواعدها وحدها!
أسميتا :
وهي لا تفكر في ذلك المزلق
ويشافا :
لعل بها صبوة
أسميتا :
صبوة؟
مريتا :
وما هي والآدمي الشقي
ويشافا :
ولم لا، وفي وجهه مسحة
من الجاذبية والرونق؟!
أسميتا :
وفي صوته رنة حلوة
من الحب ساحرة المنطق
مريتا :
أتلقاه لا تتقي غيه؟
أسميتا :
وكيف؟ أآلهة تتقي!؟
مريتا :
عصمة نحن في السماء وفي الأرض كالبشر
يتساوى ابن آدم - وإله - إذا شعر
إن أحبا فلا خلاف ولا فرق في الأثر
ويشافا :
يا مريتا، تقدمي وخذي موقف الحذر
أسميتا :
فلنحل دون شره أختنا منه في خطر! (ولا تكاد تتم هذه العبارة حتى تهم حروازا بالانصراف وقد وضعت يدها في يد أزمردا، وهي تقول):
أيها السيد الرقيق، وداعا ... إلى اللقاء!
ويشافا :
أمهلي ...
مريتا :
بل تريثي نحن في موقف سواء
ما علينا ولم تحل بعد إشراقة السماء
إن مضينا إلى السفينة في موكب الضياء
ورأينا كنوزها وظفرنا بما نشاء!
أزمردا :
حبذا هذه السماحة منكن والرضاء
حبذا في سفينتي ذلك الود والصفاء!
حروازا (وقد سحبت يدها من أزمردا) :
أو تذهبن؟
مريتا (بعد تردد) :
لحظة قبل أن يقبل المساء!
حروازا :
أو تذهبن وحدكن؟
مريتا :
وما عنك من غناء!
حروازا :
أتصدقن قوله؟
مريتا :
أتشكين؟
حروازا :
لا مراء
أزمردا (مندفعا في خبث) :
أسفا ربتي فما قلت زورا ولا ادعاء
حروازا :
هات برهانك المبين ومنا لك الوفاء! (يخرج أزمردا من صدارته ياقوتة كبيرة ذات بريق أخاذ ويقدمها إلى حروازا بين نظرات الإعجاب.)
أزمردا (بصوت مؤثر) :
إليك، إليك، يا حسناء، سحر العين واللب
ورمز المجد، والسلطان، والفتنة، والعجب
خذي ياقوتة حمراء تحوي صورة القلب
هدية ربة الربات من عاشقها الصب!
حروازا (وهي تتأملها مشدوهة) :
كلون الدم
مريتا (وهي تحدق فيها) :
والغيرة
أسميتا (وهي تلمسها) :
والشهوة
ويشافا (وهي تتنهد) :
والحب!
أزمردا (في حماسة) :
خذيها وافتني الأرباب، يا معبودتي، واسبي
ألا ولتملكي العالم من شرق إلى غرب
مريتا :
وكيف أراك لم تحرز بها العالم إحرازا؟
أزمردا :
هو السر الذي ألهمته وحيا وإعجازا
فهذا جوهر ضنت به الربات إعزازا
ولم يخلق لغير إلهة تسمى «بحروازا»
مريتا :
أعندك غيره؟
أزمردا :
عندي وطوبى للذي فازا
ويشافا :
يواقيت؟
أسميتا :
وبالأسماء؟
أزمردا (وهو يشير بيديه إشارات رائعة) :
إسهابا وإيجازا!
ألهمتني السماء أين أراكن فطوفت في البحار القصيه
ولببلوس باسم إيزيس أبحرت بروح من القضاء خفيه
ونقلت الكنين من كنز أوزريس والتاج والعصا العسجديه
ويواقيته ولؤلؤه المنظوم حتى القيثارة السحرية
ثم قادت سفينتي حيث أنتن وقادت أقدامكن إليه
وبأسمائكن آلهة الريح سرى صوتها على شفتيه
إن ألفا من الهدايا لحروازا وكل خصت بألف هديه (وهو يمد يديه لهن.)
يا مريتا، ويا ويشافا، ويا اسميتا، ألا ضعن أيديا في يديه
سرن بي الآن للسفينة، للكنز، وخذن الودائع القدسية!! (وتقبل الفتيات الأربع على أزمردا ويسرن به كالمسحورات متجهات إلى السفينة.)
الفصل الثالث
مخدع القرصان أزمردا في مقدم سفينته، حجرة أنيقة وثيرة الأثاث، معلق فوق السرير بها سيف لماع رائع، وبحوائطها حلقات من حبال، وسياط متنوعة، يجاورها بهو السفينة وهو رحب مزدان بقناديل زجاجية، وبه أثاث متواضع. باتوزيس مضطجع على السرير بمخدع الربان، والنوافذ الصغيرة حوله مسدلة الستائر غير نور منبعث من شعاع الضحى يتخللها من كوة صغيرة، يدخل ماتوكا حاملا مائدة طعام بعد أن يطرق الباب.
باتوزيس (وهو يتقلب في وساده) :
من ها هنا عندي؟
ماتوكا :
عبدك ماتوكا!
باتوزيس :
من أنت؟ من؟ عبدي!
ماتوكا (وهو يتقدم بالمائدة في دهشة واضطراب) :
عبدك ماتوكا!
حييت، يا سيدي
وطاب هذا النهار
لم آت في موعدي
بوجبة الإفطار
باتوزيس :
ماذا جرى، يا ترى
أكاد لا أفهم
ماتوكا :
إن الذي قد جرى
أعجب لو تعلم
قد حملتنا الرياح
ونحن صرعى الكرى
وما رأينا الصباح
إلا بهذا الثرى!
باتوزيس :
أي ثرى؟
ماتوكا :
شاطئ تضحك فيه الرمال
نسيمه دافئ وماؤه سلسال •••
يعرفه من سناه ربابن البحر
أول ما نلقاه من طرفي مصر!
باتوزيس :
مصر؟
ماتوكا :
أجل: مصر!
ونحن فيها الآن
من دوننا ثغر
من دونه يومان
باتوزيس (مشيرا إلى المائدة) :
ما زلت مربوكا من هذه الأحلام
ما تلك ما توكا؟
ماتوكا :
مائدة من طعام
مائدة حافلة كثيرة الإغراء
جاءت بها قافلة تدلف من سيناء •••
من كل روض بهيج فاكهة ناضجه
وكل لحم نضيج وبقلة طازجه •••
وإن تشأ فالرحيق مهيأ محضر
من كل لون عتيق شميمه يسكر •••
طوف كالكوكب
على توالي السنين
من شاطئ المغرب
إلى بحار الصين •••
بين السنا والندى
وفي الرياح الهوج
والحر يذكي الصدى
والقر يذرو الثلوج •••
تحية الإخوان
في بكر الصيف
من سيدي الربان
لسيدي الضيف!
باتوزيس :
والسيد أزمردا هل قام من النوم الآنا؟
ماتوكا :
هو عند الشاطئ يستقصي
نبأ ويسائل ركبانا •••
إن شاء سيدي أمر
أرفع هاتيك الستر (ويمضي ماتوكا في رفع الستائر بإشارة من باتوزيس فيغمر نور الضحى المخدع، باتوزيس يحملق فيما حوله فيروعه منظر السيف المتألق بشعاع النهار.)
باتوزيس (مشيرا إلى السيف) :
ما ذلك الشيء أرى؟
يكاد يبهر النظر
أحلية نادرة
أم ذاك من ماض أثر
ماتوكا (متباهيا) :
بل ذاك سيف سيدي
وعونه على الخطر
حديثه ملء البحور
والثغور والجزر
هو الردى إذا مشى
فكل كائن خبر
باتوزيس :
وما السياط هذه؟؟
ألسنة من الشرر
ماتوكا (في حماسة) :
يلين لذعها الحديد
أو يفتت الحجر!
تخرس أو تنطق من
تشكو الكلام والحصر!
باتوزيس :
وهذه الحبال؟
ماتوكا (مترسلا في حماسته) :
هن من حبائل القدر!
تلتف بالسوق الرقاق
والمعاصم النضر
ولا ترق للدموع ضارعا بها الحور!
باتوزيس (مشمئزا) :
كفاك ماتوكا كفاك
فالحديث لا يسر!
قرب إلي الكأس أو
هذا النضيج والثمر! (ماتوكا يسرع بالمائدة فيضعها أمام باتوزيس وقد جلس في السرير، وهو يقلب أنواع الشراب فيختار لونا ويملأ به قدحه ويشربه ويأكل قطعة من النضيج.)
باتوزيس (شبه مسرور) :
طيبة هذي السلاف والطعام طيب
إني على موثق أزمردا وعهدي أشرب
قل لي ماتوكا أأنت للجنوب تنسب؟
إن بلادا أنجبتك للكرام تنجب
ماتوكا (شبه متألم) :
أي البلاد هذه أذكرها لسيدي؟
جهلت من أين أنا وأين كان مولدي!
درجت في هذا الوجود والخفاء موجدي
كأنما أمسي يأتي بعد يومي وغدي
ما للعبيد في مصاير الحياة من يد
وليس ماتوكا الرئيس غير عبد أسود
حباه أزمردا الحياة جمة الترغد (وقد تغيرت لهجته إلى العنف.)
وبث في روحه روح قضاء مرصد
يصول بالسوط إذا شاء وبالمهند
ويفتدي سيده، دمي فداء سيدي!
باتوزيس :
حباك أزمردا الحياة؟ عبث مضلل!
أنت أسير بطشه، بسحره مغلل
سبتك منه قوة تصرع أو تقتل
أنت وأزمردا سواء والأصول تعدل
ألست إنسانا تحس مثله وتعقل؟
تفعل ما يوحي به الضمير أو لا تفعل؟
كيف تعيش لا رجاء في غد تؤمل؟
يرعاك أزمردا وأنت في قواك ترفل
فإن مرضت أو هرمت أنت منه مهمل
انظر إلى الأطيار في أجوائها تنقل
سيدة تصعد ما شاءت هنا وتنزل
موطأ لها السحاب والثرى مذلل
تبني الحياة في الوكون حرة وتنسل
لها الضياء والفضاء والنمير السلسل
هي الحياة حرة في طائر تمثل
حقك لا من به عليك أو تفضل
ماتوكا :
يا سيدي، أنى لي الكون الذي تخيل؟
أنى لمثلي ذاك العالم؟ إني أجهل!
سفينتي هي الحياة، والغد المؤمل
قد طاب لي في ظلها العيش وطاب المنزل
ومن كساء سيدي الربان هذا المخمل
ومن شرابه أعل هانئا وأثمل
أي حياة لي من هذي الحياة أجمل! (ثم ينحني ويغادر الحجرة بالمائدة ويظل باتوزيس مبهوتا ثم يعاوده الكسل، فيتمدد على الفراش بينما يدخل إلى البهو أزمردا ومعه الفتيات الأربع وهو يحييهن باسما، وبينما هن يتأملن البهو ومنظره والصور وجلود الحيوانات المعلقة على جوانبه، يعتذر إليهن أزمردا ليعد الكنز ويختفي من باب صغير وهن منشغلات عنه يتهامسن):
ويشافا (متعجبة) :
أهذه السفينة الموعودة
حاملة العجائب المنشودة؟!
مريتا (حائرة) :
ماذا أرى؟ طاقاتها مسدودة!
أسميتا :
وراؤها كنوزه المرصودة!
حروازا :
تمهلي! سوف نرى وعوده
والفتن الرائعة المشهودة!
مريتا :
أحس بصوتك المهموس هزات من العطف
حروازا :
لقد جاء ببرهان
مريتا :
وهل ياقوتة تكفي!
حروازا :
أيغريني ترابي بهذا الوضع والوصف؟
مريتا :
لقد أغراك حروازا بأمر ظاهر الزيف
ويشافا :
وكدت على ذراعيه من الفتنة أن تغفي
حروازا (مبتسمة) :
حزرت حديثكن هناك حين غضضت من طرفي
مريتا ... لا يغرنك ما أظهرت من ضعف
فهذا عبث مني وبعض اللهو
مريتا :
والظرف
حروازا :
أردت به لأعرف ما يسر لنا وما يخفي!
أسمتيا :
وكيف إذا تحدانا؟
ويشافا :
ونحن على شفا جرف؟
حروازا (في قوة واعتداء) :
أآلهة تخاف الناس؟ هذا منتهى السخف!
مريتا :
وإن لم ينفع اللين؟
حروازا :
أخذت الأمر بالعنف!
إذا واجهته فاصمدن من حولي ومن خلفي! (ويسمعن أصواتا بالحجرة المجاورة فيخفضن من أصواتهن، ويستمعن حينا إلى مصدر الصوت وينظرن حينا آخر إلى محتويات المكان، ثم يميل بعضهن على بعض وهن يتهامسن قلقات بينما يدخل أزمردا من باب خلفي على باتوزيس في المخدع وهو شديد الاضطراب الممزوج بالفرح هامسا في انفعال):
أزمردا :
هن هنا! هن! باتوزيس أما
تسمع أصواتهن بالباب؟
هن هنا هن باتزيس أفق
اخرج عليهن غير هياب!
أعد قيثارك، استثر نغما
يروض حتى الوحوش في الغاب
حتى تراهن بين شادية
وبين رقاصة بأكواب!
يكاد قلبي لما ظفرت به
يطير من فرحة وإعجاب
باتوزيس (وهو ينهض من الفراش مبهوتا) :
من هن أزمردا أثرت نفسي
ورعت أوهامي وهجت حسي؟
أزمردا (مشيرا بأصبعه على فمه) :
لا ترفع الصوت وقل بهمس
فهن يسمعن خفيض الجرس
آلهة الرياح حلم الأمس
لقيتهن في شروق الشمس
بين الغياض والصخور الملس
يرقصن في غلائل الدمقس
ما زلت أحتال بغير يأس
حتى تسمعن لضعف الجنس
وجئن في ابتهاجة وأنس
باتوزيس :
بل هذه تخيلات الكأس!
ما هن إلا من بنات الإنس
وقعن في تدبيرك الأخس
ويحك أزمردا وويح نفسي
أحسب أن اليوم يوم نحس!
أزمردا (ملاطفا) :
تنكر ما شمت بعيني رأسي؟
مسك باتوزيس أي مس!
باتوزيس :
وهب أنهن كما قلته فماذا بآلهة تصنع؟
أزمردا :
أسخرهن قوى ينتظمن شراعي ما قادني المطمع
أسيرات بأسي أو صاحباتي أرسو كما شئت أو أقلع
وأغزو بهن منيع الثغور وأجني الثراء وأستمتع
باتوزيس :
أتطمع في ملكوت السماء؟
أزمردا :
هو المرء ما عاش لا يقنع
باتوزيس :
خلقنا غرائز منهومة
فليست تروى ولا تشبع!
أزمردا :
تعال معي واتبع حكمتي
فدون سعادتنا إصبع!
باتوزيس :
ألم يكف ما حزته من غنى
وما تقتني من غريب النساء؟
أضاقت بمنسرك الكائنات
فحاولت تخطف حتى الهواء؟
أزمردا :
ليضحكني منك هذا الحديث
خيال بديع وقول هراء
دليل الحياة اغتصاب المتاع
وما الزهد إلا دليل الفناء
تمتع بأوفر ما تستطيع
ولا تقتصد واغتصب ما تشاء
باتوزيس (صائحا) :
يا لمساء الحانة اللعينه
قد قادني لهذه السفينه
أزمردا (ملاطفا في ثورة نفس ضارعا) :
ما هذه الخفة والرعونه
كفى صياحا والزم السكينه
أو لا فدع هيئتك الرزينه
وأكثر الضحك وزد رنينه
وهات من وادي الهوى لحونه
مسحورة، مخمورة، مجنونه!
باتوزيس (ضارعا) :
سألتك الآلهة الحزينه
لا تؤذ هذي المهج المفتونه
فإنها بريئة مسكينه
أزمردا :
أنت فتى لم يطرح مجونه
يسألني الرحمة والمعونه
ولو رأى الخمرة في قنينه
لباع دنياه بها ودينه!
دع عنك هذي المثل الأفينه!
ولا تضع فرصتك الثمينه!
باتوزيس (غاضبا) :
عهدي، يا قرصان، لن أخونه
ما كنت أزمردا، ولن أكونه!!
أزمردا :
أجننت باتوزيس ويحك! لا تثر هذا النزاع
أنسيت حلو حديثنا، والكأس ضاحكة الشعاع
ورواة طيبة عن بنات الريح آلهة البقاع
فيم التشاؤم، والتنكر، والتغير، والخداع؟
ولم الصياح إذا دعوتك للروية والسماع؟
أتريد تسمعهن صوتك؟ لا رجاء ولا انتفاع!
أحكمت أمري، والعبيد هنا على أهب الصراع
بإشارة تهوي السياط وسيف أزمردا الشجاع
إني عرضت عليك أجمل ما ادخرت من المتاع
لكن أبيت وخانني فيك الغرائز والطباع
فاسلم بنفسك باتزيس! ولا سلام ولا وداع!
عما قليل يهتف الداعي وينطلق الشراع!! (ويسرع باتوزيس بمغادرة الحجرة بينما يرتفع صوت من البهو المجاور، هو صوت القلق المستحوذ على الفتيات وأزمردا داخل عليهن.)
حروازا :
ما هذه الضجة والصياح
نسمع والرؤية لا تتاح
كأنما تقتتل الأشباح
من حولنا أو تثب الأرواح!
أزمردا :
معذرة، أيتها الملاح
فخادمي قد هزه المراح
فانزلقت من تحته الألواح
وانتثرت من كفه الأقداح
فضج واستخفه الصياح!
مريتا :
والكنز؟
أزمردا :
بعد لحظة يتاح
ويشافا :
ياقوته ودره اللماح؟
أزمردا :
والذهب المقدس الصراح!
أسميتا :
عما قليل تظلم البطاح
ويصعب الغدو والرواح
أزمردا :
هنية حتى تجيء الراح (ويظهر ماتوكا في مخدع سيده حائرا وهو يشير إلى أزمردا دون أن تراه الفتيات، فيسرع إليه أزمردا وحروازا تقول له):
حروازا :
أسرع فقد راح بنا المراح
ماتوكا (لأزمردا) :
إن السجينة في غيابة قبوها
ليست تكف تمردا وصياحا
قطعت عصابتها فجئت أذودها
فهوت تحطم في يدي المصباحا
لولا العناية طار بعض شراره
وطوى السفينة شعلة واجتاحا
أزمردا :
زدها عذابا ...
ماتوكا :
سيدي عذبتها
فأبت وقد ملئت دما وجراحا
أزمردا :
إن لم تكف عن الصياح فألقها
في اليم ...
ماتوكا :
أخشى صوتها الفضاحا
يعلو فيملأ زائراتك ريبة
أو يستخف لنجدة ملاحا
أزمردا :
والحل ماتوكا؟
ماتوكا :
تعال معي لها
فلربما أبدت رضى وسماحا (ويسرع ماتوكا بأزمردا إلى قبو السفينة وحين يختفي خيالهما يظهر باتوزيس فجأة من مخبئه خلف باب المخدع، ويدخل على الفتيات الأربع متفرسا فيهن متلفتا وراءه من الخوف.)
حروازا (وقد بوغتت برؤية باتوزيس) :
من أنت، أيها الفتى وكيف جئت ها هنا!
باتوزيس (هامسا) :
لا وقت للسؤال من أنت هنا، ومن أنا!
أنتن في سفينة القرصان ... لا وقت لنا ...!
حروازا :
ومن يكون!
باتوزيس :
قاتل يملأ شره الدنا
بل هو أزمردا ...
حروازا :
وما تراه صانعا بنا؟
باتوزيس :
أراه صانعا بكن؟! ويحكن إن دنا!
حروازا :
هون عليك، لا تخف أذى، ولا تخش ضنى
آلهة الرياح نحن فارتقب صنيعنا
ولا يرعك إن رأيته يحوم حولنا
ويشافا :
ومن تكون، يا فتى إنا نراك محسنا!
باتوزيس :
من بني مصر باتزيس الشجي المعذب
شاعر، واسمه هناك مغن ومطرب
مريتا :
من بني مصر باتزيس؟
أسميتا :
إلى أين تذهب؟
باتوزيس :
أنا، في هذه الحياة، شريد مغرب
أين؟ لا أين أذهب! أنا في التيه أضرب!! (وتسمع وقع أقدام أزمردا وهو قادم من أقصى السفينة متجها إلى مخدعه.)
باتوزيس :
هذه خطاه ...
مريتا :
قد أتى!
حروازا :
بل اسمعي
مريتا :
أهو قريب من هنا؟
باتوزيس (مشيرا) :
في المخدع!
حروازا (وقد رأت باتوزيس يتحرك من مكانه) :
أخائف؟
باتوزيس :
بل ثابت في موضعي!
مريتا :
أنت شجاع
باتوزيس (وهو يتأهب للقاء خصمه) :
ربتي تشجعي! (وبينما أزمردا في مخدعه يسرع في تقلد سيفه، يدخل عليه ماتوكا ويقف خلفه مبهوتا فيلتفت إليه أزمردا ويدرك أن وراءه شيئا.)
أزمردا :
ما لي أراك واجما مرتاعا
ماتوكا :
يا سيدي عفوك لن تراعا
لكن ...
أزمردا :
تكلم، زدتني صداعا
ماتوكا :
إن سمارا خانت الأتباعا
كما أمرت، سيدي، مطاعا
فتحت دون بابها المصراعا
فأفلتت وانسرقت خداعا
كأنها الظل امحى وضاعا
أزمردا (خائفا) :
وأين تمضي؟ أتشق القاعا؟
أم تستحيل بيننا شعاعا؟
أسرع متوكا، ولتكن شجاعا
اطووا الحبال وانشروا الشراعا
وأتوا إلي ها هنا سراعا! (ويدخل أزمردا من باب المخدع على الفتيات فيرى باتوزيس بينهن وهن متحفزات وفي عيونهن بريق الغضب، فيفهم الموقف ويقف صامتا واضعا يده على مقبض سيفه.)
باتوزيس (ساخرا) :
أقبلت أزمردا وليس تحية
للزائرات، ولا علي سلام!
أزمردا :
صه، يا أجير العاهرات، فإنما
قرب الحرائر من خطاك حرام!
باتوزيس :
أتسب ضيفك أو صديقك جهرة؟
عجبا؟ فأين الود والإكرام؟
أزمردا (صارخا) :
ضيفي؟
حروازا :
أتنكر؟
أزمردا :
بل وأغسل إثمه
بدمائه
باتوزيس (ساخرا) :
لو تغسل الآثام
انظر عيون الزائرات فإنها
رصد عليك ولعنة وضرام
أزمردا (صارخا) :
دعهن ...
باتوزيس :
بل دعهن أنت ...
أزمردا (مستخفا) :
أجل وما
تبغيه؟
باتوزيس :
ما لي باسمهن كلام!
أزمردا (إلى الفتيات) :
قسما بكن فما أردت خيانة
بل عطف آلهة بكن يشام!
ما رمت إلا أن تكن صواحبي
باتوزيس :
ما كل شيء في الحياة يرام
حروازا :
لم لم تضارحنا، وكيف دعوتنا
للكنز؟
مريتا :
أوزوريس والإلهام
أزمردا :
هذي طباع الآدمي، وهذه
أطماعه
باتوزيس (ساخرا) :
فرض عليه لزام!
مريتا :
بل حيلة القرصان أنت أردتنا
صيدا يباع فراؤه ويسام
حروازا :
وبكم تسومني إذا ما بعتني
والسوق حولك ضجة وزحام
ويشافا (مدنية إليه بوجهها) :
انظر جمالي ...
أسمتيا (تدور حول نفسها) :
بل تأمل فتنتي ...
باتوزيس (صائحا طربا) :
يا للرشاقة كلكن غرام!
مريتا :
أوكنت تطمع أن تسخرنا قوى
لسفينة يحدو بها الإجرام؟
أزمردا :
خير لكن الصمت
حروازا (وهي تواجهه) :
قل خير لنا
بيديك تسليم!
مريتا :
أو استسلام!
باتوزيس (ساخرا) :
أوثقت أزمردا بهن؟
أزمردا :
كما ترى
ثقتي بموتك ...
باتوزيس (متصنعا الملاطفة) :
ما يفيد الذام
أزمردا (وهو يجرد سيفه ويهم بطعن باتوزيس) :
قادتك باتوزيس آخر خطوة
للموت! خذها ما علي ملام!
حروازا (تحول بذراعها دونه) :
قف ...
أزمردا (حانقا) :
لا ...
حروازا :
حذار ...
أزمردا (محاولا الاندفاع) :
بل ابعدي
ردي ذراعك ...
حروازا (بصوت رائع وهي تلوح بقبضتها في وجه أزمردا) :
لا يرد حمام!
يا أيها النفس الأثيمة أقصري
وقفي مكانك خانك الإقدام! (وتقف مريتا وويشافا وأسميتا وراء حروازا وهن ينفخن، فإذا بقوة هائلة كالعاصفة تدفع أزمردا وماتوكا وعبيده إلى الوراء، وتقع السياط من أيدي الرجال وهم يرجفون رعبا وتتجمد ذراع أزمردا وتتقلص أصابعه حول مقبض سيفه وجسده يهتز بعنف كأنه يصارع جبارا لا يرى، ويسقط السيف من يده فيحاول استرداده جاثيا فلا يستطيع وهو يهدر):
أزمردا :
ماذا أحس؟ ما أرى! ماذا أصاب مسمعي
أنفاسكن تلك؟
باتوزيس :
بل هبة ريح زعزع
حروازا :
خدعتنا
أزمردا :
لم أخدع
حروازا :
أي كلام تدعي!
سوف ترى نهاية بمثلها لم يسمع!!
أزمردا (وقد خفت صوته) :
أهكذا أنتن، يا للهول! يا لمصرعي!
لم أدر قبل اليوم ما سر الرياح الأربع
إذا تألبن على سفينة بموضع
فيا لكن من قوى تخضع من لم يخضع!!
إلي ماتوكا إلي
ماتوكا (وهو لا يستطيع حراكا) :
سيدي!
أزمردا :
أنت معي ...
أين الرجال؟ ...
ماتوكا (وقد حبس صوته) :
هم ...
أزمردا :
أما
ترى؟ إلي أسرع ...
أسرع إلي
ماتوكا (باكيا) :
لا أطيق ...
أزمردا (وهو يركع متخاذلا) :
آه ما عدت أعي! (وتترقرق الدموع في عين أزمردا فيذهل بأتوزيس لما يراه فيحدق وكأنه لا يصدق):
باتوزيس :
ويحك أزمردا أفي عينيك بعض أدمع؟
أحقا ذي دموعك أم خداع الخوف والألم
أتبكي، أيها التمساح
أزمردا (بصوت خافت) :
لا تشمت ولا تلم
صديقي أنت باتوزيس أنقذني من العدم
ألا صفحا فهذي ساعة التكفير والندم!! (وينظر إلى الفتيات ضارعا، وهو يقول):
هذي الدموع وجدتها فوجدت إنسانيتي
أنتن أرجعتن لي ما عز من أمنية
هذا الشعور حرمته عمري، فيا لسعادتي
أحسست أني الآن إنسان لأول مرة
وهي الحياة بها التقيت على لقاء منيتي!
مريتا (متأثرة) :
وإذا عفونا عنك!
أزمردا (إلى مريتا) :
يا للنبل، يا للرحمة
أحسنت لي، ومحوت مني الآن كل خطيئة
فلأفنين العمر في الإحسان باسم إلهتي
حروازا :
بعض هذا الحنان ما تاب لكن خر عجزا فراح ينطق كذبا
إنه في مفازع الموت يحتال ليلقى سلما ويرتد حربا
أزمردا (ضارعا) :
رحمة ربتي فما أستطيع الآن قولا ولست أملك عتبا
يا ابنة الشرق! أنت أيتها الحسناء يا من ملأت قلبي حبا
لم يعد بعد ما أخاف فأخفي عنك حبي ما كان حبي ذنبا
إن يكن حان مصرعي فعديني بعد موتي وتلك آخر رغبى
امنحيني بعض العزاء ولا تلقي بجسمي في اليم أفقدك غصبا
وسديه عشب المكان الذي فيه التقينا، ففيه أمسيت صبا
عندما قبلت محياك عيناي وضمت صبابتي منك قلبا
فإذا ما سريت فجرا فمسي جسدا مقفرا من الروح جدبا
عانقيه ظلا أحبك روحا كشعاع الصباح، ريان، عذبا
واسحبي فوقه الظلال ومدي ورقا ناضر الأفانين رطبا
وإذا أبلت الليالي كياني، فاسكبي فوقه الغمائم سكبا
أو فذريه في الفضاء كما شئت وأنى سريت شرقا وغربا
إنها ميتة ألذ من العيش فلا تحرمي محبك قربا!! (وتسمع ضجة وصيحات تتردد بها جوانب السفينة، وإذا بسمارا ممزقة الثياب دامية اليدين شاحبة الوجه تظهر هاربة من الباب ووراءها عبدان يتبعانها في أيديهما السياط، وهي تلوذ بالفتيات الأربع فيحطن بها منصرفات عن أزمردا دون انتباه.)
حروازا :
من أنت، أيتها الفتاة؟
سمارا :
أنا المكبلة السجينه
وأنا ضحية ذلك الوحش الذي تتأملونه
باتوزيس :
هذي سمارا بنت ببلوس وحسناء المدينه
بالأمس أنقذها ولم أفطن لخدعته المشينه
سمارا :
باسم الوفاء تبعته طوعا إلى هذي السفينه
وكر الخيانة والأذى، ومباءة الشر اللعينه
وظننته رجلا فكان النذل مبتدعا فنونه (تشير إلى جراحها.)
أنقذنني بالله، وانظرن الجراحات الثخينه (حروازا وقد انشغلت بالفتاة دون أزمردا فينفك عنه سحرها الذي كان مسلطا عليه بتأثير ذراعها، ويشعر بالدماء تجري في عروقه فيمد ذراعه في غفلة عنهن ويتناول سيفه، ويهم واقفا ووراءه العبيد وقد تبدلت هيئته وبدا الشر في عينيه، وهو يصيح):
أزمردا :
هيا رجالي أذن الكفاح
باتوزيس (صائحا وقد شرع العبيد يتقدمون) :
إلى الوراء، أيها الوقاح
دماؤكم أول ما تباح!
أزمردا :
لا تسمعوا فقوله مزاح
سكران قد هيج له جماح!
باتوزيس (وقد رأى أزمردا هاجما بسيفه) :
ما أنت، يا قرصان، والسلاح
رأسك أزمردا به يطاح!
حروازا (وقد رفعت ذراعها في وجه أزمردا فيقف بغتة) :
هذا هو القرصان، يا أرواح
قناعه عن وجهه يزاح
أزمردا (وهو يحاول الحركة فلا يستطيع) :
خير لكن الصمت لا الصياح
حروازا :
ماذا تقول؟
أزمردا (في عنف) :
أقلع الملاح ...!
حروازا :
طغيت واستشرى بك الطماح
مريتا، ويشافا، أسميتا (في غضب وثورة ملوحات بأيديهن مهددات) :
يا لص!
يا مفضوح!
يا فضاح! (حروازا والفتيات مندفعات إلى جانب باتوزيس رافعات أيديهن وقد بدأت العاصفة من جديد):
الفتيات :
حق عليك الموت، يا سفاح
نحن الردى والقدر المتاح
لنا الفضاء الرحب والجناح
نطير لا يعزنا السراح
حروازا :
إن نغرق الفلك فلا جناح
سفينة القرصان تستباح
هيا بنا ... اعصفن، يا رياح! (وتعصف الرياح والأربع بالسفينة فتتخبط الأبواب وتطير الستائر وتسقط الصور من جوانب البهو ويتكفأ العبيد، صارخين محاولين الهرب من الأبواب ويقع أزمردا جاثيا، بينما تثبت الرياح الأربع في خفة من جانب السفينة الموشكة على الغرق ومعهن باتوزيس وسمارا.)
باتوزيس يرثي أزمردا
عثرنا على هذه القصيدة التي يرثي فيها باتوزيس أزمردا، وقد هبطت الفتيات الأربع به في مكان من ساحل البحر، مذهولا مما مر به، وهو متجه بعينيه إلى فضاء البحر وأمواجه مشيرا غلى مكان السفينة الغارقة والفتيات حوله ينظرن حيث يشير، وهو ينشد:
أثر ليس يلمح
وخيال مجنح
وشراع محطم
حوله الموت يسبح
مغرقا لا تهزه
نسمة أو ترنح
يحتويه مزمجر
مظلم الغور أفيح
غرقت تلكم السفي
نة وانفض مسرح
ما لربانها الطموح!
أما عاد يطمح؟
ويحه وهو ذاهل
أغبر الوجه أكلح
يتكفا رجاله
حوله وهو يضبح
بعد ما كان بينهم
يتغنى ويمرح
غره السيف مصلتا
بالمنايا يلوح
لا يبالي إذا رمى
كيف يفري ويذبح
خالني إذ دعوته
دعوة الخير أمزح
عاش لو قدر النصي
حة أو كان ينصح
يحسن الشر بالغري
زة والخير يقبح
صاحب الأمس، لا رحي
ق، ولا كأس تصدح
فاشرب اليوم من إنا
ئك بالموت يطفح
أمن البحر مخلبي
ك، وشط، وأبطح
وعذارى كأنهن
الأقاح المفتح!
محصنات تصيدهن
وتغوي وتفضح
أيها الصقر، لا تغ
ر، فللريح أجنح!
يتلقاك بأسها
صامدا لا يزحزح
هن من رحمة السما
ء مقادير تسنح
فإذا الطائر السجي
ن طليق مسرح
وإذا الصائد الغشو
م صريع مطرح
من دم الغدر قلبه
سائل العرق ينضح
فامض لا فرحة بمو
تك! ما الموت يفرح
قد عفا عنك هالكا
قدر ليس يصفح!
Page inconnue