بسم الله الرحمن الرحيم
لَبيد بن ربيعة العامريّ
اسمه ونسبه:
هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية .. وينتهي نسبه عند مُضَر. أبو جزاد كريم لُقِّبَ: بربيعةَ المقترين، وأمه تامرة بنت زنباع العبسية، إحدى بنات جذيمة بن رواحة.
واسم لبيد مشتق من قولنا لبد بالمكان إذا مكث به وأقام، ولم يذكر أن له ولدًا سوى بنتين، وله أخ أكبر من ضرسًا اسمه: (أربد)
نشأته:
نشأ شاعرنا لبيد يتيمًا في إثر مقتل والده في يوم ذي علق، تكفلّه أعمامه، وكان إذّاك يبلغ التاسعة من عمره، ولقي لديهم من الرخاء والسعة في العيش ما لم يتوقعه لنفسه.
ولم يدم له ذلك حيث وقع بين أسرتين من بني عامر خلاف شتت شملهما.
وحينما بلغ لبيد من الشباب ذروةً اندفع إلى مجالسة الملوك ومنادمتهم حبًا بما هم فيه وطموحًا لنيل حظوة لديهم، فكان أول من قصد النعمان بن منذر وله في مجالسته قصص نقلتها كتب الأدب.
ويبدو أن لبيدًا في هذه الفترة من حياته كان مقبلًا على لذائذ الحياة، يصيب منها ما أراد إلى أن ظهر الإسلام، فقد تبدلت حياته رأسًا على عقب وكان ممّن خف للإسلام، فدخل فيه وناصره وهاجر وحَسُن إسلامه.
1 / 5
ويذكر أبو فرج الأصفهاني أن لبيدًا كام ممن عُمِّرُوا طويلًا، فيقال: إنه عُمِّرَ مائة وخمسًا وأربعين سنة. أما وفاته، فقيل: إنه توفي في آخر خلافة سيدنا معاوية ﵁، وقيل: بل توفي في آخر عهد سيدنا عثمان ﵁.
ويقال إن لبيدًا هجر في آخر عمره الشعر إلى القرآن الكريم، فيروي ابن السلام في طبقاته قائلًا:
كتب عمر إلى عامله أن سَلْ لبيدًا والأغلب ما أحدثا من الشعر في الإسلام؟ فقال الأغلب:
أرجزًا سألت أم قصيدا
فقد سألت هينًا موجودا
وقال لبيد: قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران.
شيء من أخباره.
قيل: إنه وفد عامر بن مالك ملاعب الأسنة وكان يكنى: أبا البراء، في رهط من بني جعفر، ومعه لبيد بن ربيعة، ومالك بن جعفر وعامر بن مالك عم لبيد على النعمان، فوجودا عنده الربيع بن زياد العبسي وأمّه فاطمة بنت الخرشب، وكان الربيع نديمًا للنعمان مع رجل من تجار الشام يقال له: زرجون بن توفيل، وكان حريفًا للنعمان يبايعه، وكان أديبًا حسن الحديث والندام، فاستخفّه النعمان، وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي: متطبّب كان له، وإلى الربيع بن زياد فخلا بهم، فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاتهم فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم، وكانت بنو جعفر له أعداءً، فلم يزل بالنعمان حتى صدّه عنهم، فدخلوا عليه يومًا فرأوا منه جفاءً وقد كان يكرمهم ويقربّهم، فخرجوا غضابًا ولبيد متخلّف في رحالهم يحفظ متاعهم ويغدو بإبلهم كل صباح يرعاها.
1 / 6
فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فسألهم عنه، فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعًا، ولا سرّحت لهم لعيرًا أو تخبروني فيم أنتم؟
وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك وصدّ عنا وجهه.
فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول محضّ لا يلتفت إليه النعمان أبدًا؟ فقالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم. قالوا: فإنا نبلوك.
قال: وما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة؟ فقال: هذه التربة التي لا تذكي نارًا، ولا تؤهل دارًا، ولا تسرّ جارًا، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، وأقبح البقول مرعىً، وأقصرعا فرعًا، وأشدّها قلعًا، بلدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، فالقوا بي أخا عَبْس، أردّه عنك بتعس، وأتركه من أمره في لَبْس.
قالوا: نصبح ونرى فيك رأينا.
فقال عامر: انظرو إلى غلامكم هذه –يريد لبيدًا- فإن رأيتموه نائمًا فليس أمره شيء، إنما هو يتكلم بما جاء على لسانع، وإن رأيتموه ساهرًا، فهو صاحبه.
فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلًا، وهو يكرم وسطه حتى أصبح، فقالو: أنت والله صاحبه.
فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته، وألبسوه حلّة ثم إذا معهم وأدخلوه على النعمان، فوجوده يتغذّى ومعه الربيع بن زياد، وهما يأكلان لا ثالث لهما والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذِن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد في ذلك:
أكلّ يوم هامتي مقزّعه
1 / 7
يا ربّ هيجا هي خير مِنْ دعه
نحن بني أم البنين الأربعه
سيوف حَزّ وجفان مترعه
نحن خيار عامر بن صعصعه
الضاربون الهام تحت الخيضعه
والمطعمون الجفنة المدعدعه
مهلًا أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمعّه
وإنه يدخل فيه إصبعه
يدخلها حتى يواري أشجعه
كأنه يطلب شيئًا ضيّعه
فرفع النعمان يده من الطعام، وقال: خَبَّثت والله عليّ طعامي يا غلام، وما رأيت كاليوم.
فأقبل الربيع على النعمان، فقال: كذب والله ابن الفاعلة، ولقد فعلت بأمّه كذا وكذا.
فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة أهله والقريبة من أهله، وإن أمي من نساء لم يكنّ فواعل ما ذكرت.
وقضى النعمان حوائج الجعفريين، ومضى من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحًا حتى تبعث إلىّ من يجرّدني فيعلم من حَضَرك من الناس أنني لست كما قال لبيد. فأرسل إليه: إنك لست صانعًا
1 / 8
بانتفائك مما قال لبيد شيئًا ولا قادرًا على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك ..
ويُروى -في خبر آخر- أن لبيدًا كان من جوداء العرب، وكان قد آلى في الجاهلية ألا تهبّ صبا إلا أطعم، وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل قوم على مسج قومه فيطعمهم، فهبّت الصبا يومًا والوليد بن عقية على الموفة فصعد الوليد المنبر فخطب بالناس ثم قال: إن أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية ألا تهب صبًا إلا أطعم وهذ يوم من أيامه، وقد هبّت صبا فأعينوه، فأنا أول من فعل.
ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بَكْرَةٍ، وكتب إليه بأبيات قالها:
أرى الجزَّارَ يشحذ شفرتيه ... إذا هبَّت رياح أبي عقيل
أشم الأنف أصيد عامري ... طويل الباع كالسيف الصقيل
وَفَى ابن الجعفري بحلفتيه ... على العلات والمال القليل
بنحر الكُوم إذ سحبت عليه ... ذيول صبًا تجاوب بالأصيل
فلما بلغت أبياته لبيدًا قال لابنته: أجيبيه، فلعمري لقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر. فقالت ابنته:
إذَا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبَّتِها الوليدا
أشم الأنف، أروع عبشميًّا ... أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن ركبا ... عليها من بني حام قُعُودا
أبا وهب جزاك الله خيرًا ... نحرناها فأطعمنا الثريدا
فَعُد إنَّ الكريم له معاد ... وظني لا أبا لك أن تعودا
فقال: قد أحسنت لولا أنك استطعمته، فقالت: إن الملوك لا يُسْتَحْيَا من مسألتهم، فقال: وأنت يا بنيّةً في هذه أشعر.
1 / 9
شعره:
عُني بدراسة لبيد وشعره كثيرًا لدى كل من القدماء والمعاصرين، هذا وقد روى ديوانه أشياخ الرواة من القدماء كأبي عمرو الشيباني والأصمعي وغيرهما، ونشره من المعارين كثير حتى أتم جهودهم العلامة الدكتور إحسان عباس.
هذا وقد ضمت دفتا الديوان شعرًا بلغ إحدى وستين قصيدة ومقطعةً إلى جانب متفرقات وأشعار نسبت إليه.
وقد استغرقت هذه القصائد والمقطعات من الموضوعات الوصف والفخر والحماسة والرثاء والحكمة، وشيئًا من الغزل والهجاء.
أما معلقته فقد بلغت عدتها ثمانية وثمانون بيتًا نظمت على البحر الكامل وبروي الميم، وتنقسم المعلقة إلى ما يأتي:
(١ - ١١) وقوف على الأطلال ووصف للآثار والديار.
(١٢ - ١٩) وصف الطعائن ومشاهد الارتحال.
(٢٠ - ٢١) بيتان في الحكمة.
(٢٢ - ٥٢) وصف الناقة وتشبيهها بالأتان.
(٥٣) حلقة وصل بين الغرض السابق والغرض اللاحق.
(٥٤ - ٦١) حديث الشاعر عن نفسه ولهوها وأهوائها.
(٦٢ - ٧١) فخر الشاعر بنفسه.
(٧٢ - ٨٨) فخر الشاعر بقومه.
هذا وتعد المعلقة صورة ناضجة لشعر لبيد الذي انتثر في الديوان لما تضمنه من تنوع في الأغراض وجودة في الاعتناء حتى خرجت إلينا نموذجًا سامقًا للشعر في ذلك العصر، وعدّت بحق، معلقة من معلقات العصر الجاهلي ..
1 / 10
ونحن إذا قدمنا هذا الشاعر الكبير، فإننا نقدم لقارئنا العزيز هذا الديوان لعلّه يلقى لديه الفيول وتنظر إليه عينه بنظر الرضا، ويكون له أثر إيجابيّ في النفوس. والحمد لله أولًا وآخرًا.
حمدو أحمد طماس
1 / 11
حرف الباء
أَبني كِلابٍ كيف تُنْعى جعفر؟ [الكامل]
جاورت قبيلة غني بن أبي بكر بن كلاب فتعدى أحد الغنويّبن على ابن لعروة بن جعفر فقتله، ثمّ إن منيعًا الجعفري قتل واحدًا من الكلابيّين فأراد هؤلاء أن يبوء القتيل الثاني بالأولّ، فأبى الجعفريوان ذلك، فشبّت الحرب بين الحيّين وخُذل فيها بنو جعفر، فنزلوا على حكم جوّاب بن عوف سيّد بني أبي بكر بن كلاب فحكم بنفي الجعفريّين عن مواطنهم، فهاجروا منها ولحقوا ببني الحارث بن كعب في اليمن وأقاموا فيها حولًا، وقد غضب لبيد استياء من حكم جوّاب فقال يذكر الحكومة ويتهكّم به:
وَلَدَتْ بَنُو حُرْثانَ فَرْخَ مُحَرِّقٍ ... بِلوَى [الوَضيعة ِ مُرْتَجَ الأبْوابِ] (١)
لا تَسقِنِي بيَدَيْكَ إنْ لمِ [ألتَمِسْ] ... نَعَمَ الضَّجُوعِ بِغارَة ٍ أسْرابِ (٢)
تَهْدي أوائِلَهُنَّ كُلُّ طِمِرَّة ٍ ... جَرْداءَ مِثْلَ [هِرَاوَةِ] الأعْزابِ (٣)
_________
(١) بنو حرثان: قوم من قبيلة غنيّ.
محرّق: لقب أحد ملوك الحيرة. اللِّوى: حَوَاف الرمل وأطرافه .. مرتج: أي مغلق ومستعص وما بين ثوسين يروى بلفظ: [الوضيحة مُرخِي الأطناب]
(٢) الضجوع: أقوام من قبيلة غني. غارة الأسراب: أي تجيء سربًا في إثؤ سرب. وما بين قوسين يُروى بلفظ: [أغترف]
(٣) تهدي: أي تتقدّم. الطِمرَّة: الفرس المشرفة السريعة. الهراوة: العصاة. الأعزاب: الرعاة من الشباب. وما بين قوسين يُروى بلفظ: [هراءَة] وهي الأتان؛ فكأنّه شبّه فرسه بأنثى الحمار الوحشية.
1 / 13
وَمُقَطَّعٍ حَلَقَ الرِّحَالة ِ سابِحٍ ... بادٍ نَوَاجِذُهُ على الأظْرابِ (١)
يَخرُجْنَ مِن خَلَلِ الغُبارِ عَوابسًا ... تَحْتَ العَجاجَةِ في الغُبارِ الكَابي (٢)
وإذا الأسِنَّة ُ أُشْرِعَتْ لنُحورِها ... أبدينَ حَدَّ نَواجِذِ الأنْيابِ (٣)
يَحْمِلْنَ فِتْيانَ الوَغَى مِنْ جَعفرٍ ... شُعْثًا كأنَّهُمُ أُسُودُ الغابِ (٤)
وَمُدَجَّجينَ تَرى [المغاوِلَ] وَسْطَهمْ ... وذُبابَ كُلِّ مُهنَّدٍ قِرضابِ (٥)
يَرْعَوْنَ [مُنْخرِقَ اللَّديدِ] كأنَّهُمْ ... في العزِّ أسرَةُ حاجِبٍ وشِهَابِ (٦)
أبَني كِلابٍ كَيفَ تُنْفَى جَعْفَرٌ ... وبَنُو ضُبَيْنَة َ حاضِرُو الأجبابِ (٧)
قَتلوا ابنَ عُروة َ ثمَّ لَطُّوا دُونَهُ ... حتى [نُحاكِمَهُمْ] إلى جَوَّابِ (٨)
بَينَ ابنِ قُطْرَة َ وابنِ هاتِكٍ عَرْشِهِ ... ما إنْ يَجُودُ لِوَافِدٍ بِخِطَابِ (٩)
قَومٌ لَهُمْ عرفتْ معدٌّ فَضْلَها ... والحَقُّ يَعرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ
_________
(١) بادٍ نواجذه: أي إن أواخر أضراسه ظاهرة؛ لأنه مكشر مكلح. الأظراب: العقد في حديدة اللجام.
(٢) الكابي: هو التراب الذي لا يستقر على وجه الأرض.
(٣) أشرعت: سُدِّدت ووُجِّهَتٍ.
(٤) الغاب: جمع غابة.
(٥) المدجّج: الشاكي السيف. المغاول: جمع مغول وهي حديدة تجعل في السوط. الذباب: حد السيف. القرضاب: القطاع وما بين قوسين يُروى بلفظ: [المعابل] والمعابل: جمع معبلة وهي نصل طويل عريض.
(٦) حاجب وشهاب: سيدان من تميم، وما بين قوسين يروى بلفظ: [منعرج المسيل]
(٧) بنو ضبينة: قوم من غني. الأجباب: جمع جبّ، وهي البئر الواسعة.
(٨) لطوا دونه: أي ستروه. وما بين قوسين يروى بلفظ: [تحاكمتم].
(٩) ابن قُطرة وابن هاتك عرشه: ملكان معروفان. لا يجود يخطاب: أي لا يعبأ بمن يَفِد عليه لما به من تيه.
1 / 14
قومي بنو عامر [المنسرح]
وقال يصف رحلة الأحباب، ومناظر بقر الوحش والحمر والسيول، ويفتخر بقومه بني عامر:
طَافَتْ أُسَيْماءُ [بالرِّحَالِ] فَقَدْ ... هَيَّجَ مِنِّي خَيالُها طَرَبَا (١)
إحْدَى بَني جَعْفَرٍ بأرْضِهِمِ ... لمْ تُمْسِ مِنِّي نَوْبًا وَلا قُرُبَا (٢)
لَمْ أخْشَ عُلْوِيَّة ً يَمَانِيَة ً ... وكَمْ قَطَعْنا مِنْ عَرْعَرٍ شُعَبَا (٣)
جاوزنَ فلجًا فالحَزْنَ يُدْلِجـ ... ـنَ بالليلِ ومِنْ رَملِ عالجٍ كُشُبَا (٤)
مِنْ بَعدِ ما جاوَزَتْ شَقائِقَ فالدّهـ ... ـنَا وَغُلْبَ الصُّمَانِ والخُشُبَا (٥)
فصَدَّهُمْ مَنطِقُ الدَّجاجِ عنِ العَهـ ... ـدِ وضَرْبُ النّاقُوسِ فاجْتُنِبَا (٦)
هَلْ يُبْلِغَنِّي دِيارَها حَرَجٌ ... وَجْناءُ تَفْري النَّجَاءَ والخَبَبَا (٧)
_________
(١) الطَرَب: الحزن والاضطراب. وما بين قوسين يروى بلفظ: [بالركاب]
(٢) النوب: وهي المسافة التي تبلغ سيرًا ثلاثة أيام بلياليها. والقُرَب: هي المسافة البالغة يومًا وليلة.
(٣) عرعر: اسم لموضع معروف، الشُعَب: جمع: شعبة، وهو المكان الذي يصلح أن يكون مستقر الماء.
(٤) فلج: اسم لموضع في الجاهلية، ويبدو أنه صفة لأكثر من مكان. الحَزْن: الأرض الشديدة الغليظة. رمل عالج: صحراء رملية تمتد حتى الدهناء.
(٥) الشقيقة: هي الأرض الكائنة بين رملتين. الصمان: هي الأرض القاسية الصلبة. الخُشُب: جمع: خَشَاب، وهي الأرض الشديدة اليابسة ولا تمسك الماء.
(٦) العهد: هي الطريق المعروفة.
(٧) الحرج: الناقة الضامر. تفري النجاء: أي تمضي بقوة.
1 / 15
كأنَّهَا بِالغُمَيْرِ مُمْرِيَة ٌ ... تَبْعي بكُثْمَانَ جُؤذَرًا عَطِبَا (١)
قَدْ آثَرَتْ فِرْقَة َالبُغَاءِ وَقَدْ ... كانَتْ تُراعي مُلَمَّعًا شَبَبا (٢)
أتِيكَ أمْ سَمْحَجٌ تَخَيَّرَها ... عِلْجٌ تَسَرَّى نحَائِصًا شُسُبَا (٣)
فاخْتَارَ مِنْها مِثلَ الخَريدةِ لا ... تَأمَنُ مِنْهُ الحِذارَ والعَطَبَا (٤)
فلا تؤولُ إذا يؤولُ ولا ... تَقْرُبُ مِنْهُ إذا هُوَ اقتَرَبَا (٥)
فَهو كَدَلْوِ البَحريِّ أسْلَمَهَا الـ ... ـعَقْدُ وخانَتْ آذانُهَا الكَرَبَا (٦)
فَهو كَقِدْحِ المنيحِ أحْوَذَهُ [القَا ... نِصُ] يَنْفي عَنْ مَتْنِهِ العَقَبَا (٧)
[يا هَلْ تَرَى البَرْقَ] بِتُّ أرْقُبُهُ ... يُزْجي حَبِيًّا إذا خَبَا ثَقَبَا (٨)
_________
(١) الغمير: مكان سكنه ببلاد بني عقيل. ممرية: هي البقرة ذات اللبن. كثمان: جبل بني عقيل.
(٢) تراعي: أي ترعى. الملمَّع: هو القور الأبيض سائرةً، أما وجهه وقوائمه، فسوداء. الشَّبَب: أي المسنّ.
(٣) السمحج: هي الأتان الطويلة على الأرض. العلج: هو حمار الوحش، وقيل: كل جاف من الرجل، وقيل: كل حمار وحشٍ قوي سمين. تسرّى: أي اختار. النحائص: جمع نحيصة. وهي الأأتان التي لم تحمل في موعد الضراب. الشُسُب: أي الضامرة.
(٤) الخريدة: هي اللؤلؤة قبل أن تثقب.
(٥) تؤول: أي ترجع.
(٦) البحري: أي الريفي. أسلَمَها الهقد: أي أنها أفلتت. الكرب: هو حبل مصنوع من ليف.
(٧) المنيح: هو قدح لا نصيب له في الميسر. العقب: هو العصب الذي يُعْمَل منه الوتر، وما بين قوسين يُروى بلفظ: [الصانع]
(٨) أرقبه: أي أرصده. يزجي: أي يسوق. الحبيّ: السحاب. حبا: أي سَكَن. ثَقَبَ: أي أضاء بشدة ومنه النجم الثاقب وما بين قوسين يُروى بلفظ: [يا من يرى].
1 / 16
قَعَدْتُ وَحْدي لَهُ؛ وَقَالَ أبُو ... لَيلى: مَتى يَغْتَمِنْ فَقَدْ دأبَا؟ (١)
كأنَّ فِيهِ لَمّا ارتَفقْتُ لَهُ ... رَيْطًا ومِرباعَ غانِمٍ لَجِبَا (٢)
فَجادَ [رَهوًا إلى مداخِلَ فالصُّحْـ ... ـرَة ِ] أمْسَتْ نِعَاجُهُ عُصَبَا (٣)
فَحَدَّرَ العُصْمَ مِنْ عَمَايَة َ للسّهْـ ... ـلِ وَقضَّى بصاحَةَ الأرَبا (٤)
فَالماء يَجْلُو مُتُونَهُنَّ كَمَا ... يَجْلُو التّلاميذُ لُؤلؤًا قَشِبَا (٥)
لاقَى البَديُّ الكِلابَ فاعْتَلَجَا ... مَوْجُ أتِيَّيْهِمَا لِمَنْ غلبَا (٦)
فَدَعْدَعَا سُرَّة َ الرَّكَاءِ كَمَا ... دَعْدَعَ ساقي الأعاجمِ الغَرَبَا (٧)
فكُلُّ وادٍ هَدَّتْ حَوَالِبُهُ ... يَقْذِفُ خُضْرَ الدَّباءِ فالخُشُبَا (٨)
مالَتْ بهِ نَحْوَها الجَنُوبُ مَعًا ... ثمَّ ازْدَهَتْهُ الشَّمالُ فانْقَلَبَا
_________
(١) يَغْتَمن: أي سكن. دَأبَ: أي اعتمل وسعى.
(٢) الربط: هي الملاحف. المرباع: ربع الغنم من الغزو يُجْعَل لصاخب الجيس. اللجب: كثير الصوت.
(٣) الرهو: المطر الساكن الذي لا صوت له. وما بين قوسين يروى بلفظ: [رهوى إلى مناجل الصحراء]. ورهوى: اسم لموضع. والمناجل: اسم لمكان معروف آنذاك. الصحرة: كل أرض انفتقت عنها الجبال فبرزن.
(٤) العصم: الأوعال. عماية: جبل معروف في البحرين. صاحة: جبل من أطراف عماية. قَضَى الأرب: أي أفرغ كل ما فيه من ماء.
(٥) التلاميذ: هم الغلمان الصاغة. القَشِب: أي الجديد.
(٦) البديُّ والكرب: واديان يسيلان شتاءً. اعتلجا: أي تصارعا.
(٧) دعدعا: أي ملأ. الركاء: موضع. والسرّة: وسط الشيء ومعظمة. الغرب: القدح.
(٨) هدَّت: أي هددت. حوالبه: أي مسايله. الدباء: القرع. الخشب: هو الخشب اليابس المقطوع.
1 / 17
فقُلْتُ صَابَ الأعْراضَ رَيِّقُهُ ... يَسْقي بلادًا قَد أمْحَلَتْ حِقَبَا (١)
لِتَرْعَ مِنْ نَبْتِهِ أُسَيْمُ إذَا ... أنْبَتَ حُرَّ البُقُولِ والعُشُبَا (٢)
وَلْيَرْعَهُ قَوْمُهَا فَإنَّهُمُ ... من خَيرِ حيٍّ عَلِمتهمْ حسبَا
قَوْمي بَنُو عامِرٍ وَإنْ نَطَقَ الـ ... ـأعْداءُ فيهِمْ مَناطِقًا كَذبَا
بمِثْلِهِمْ يُجْبَهُ المُناطِحُ ذو العِ ... ـزّ وَيُعْطي المُحافِظُ الجَنَبَا (٣)
أصبحت أمشي .. [الطويل]
قال لبيد يذكر أعمامه وقومه بني جعفر بن كلاب ويأسى لفقدهم، وهي من أشعاره في فترة البعثة النبويّة؛ لأنّه يذكر فيها فَقَدَ عمّه أبي براء وعامر بن الطفيل:
أصْبَحْتُ أمْشي بَعْدَ سَلْمى بن مالكٍ ... وبَعْدَ أبي قَيسٍ وعُرْوَة َ كالأجَبّ (٤)
يَضِجُّ إذا ظِلُّ الغُرابِ دَنَا لَهُ ... حِذارًا على باقي السَّنَاسِنِ والعَصَبْ (٥)
وَبَعدَ أبي عمرٍو وذي الفضْلِ عامِرٍ ... وبَعدَ المُرَجَّى عُرْوَة َ الخَيرِ للكُرَبْ
وبعدَ طفيلٍ ذي الفعالِ تعلقَتْ ... بهِ ذاتُ ظُفْرٍ لا تُوَرَّعُ باللَّجَبْ (٦)
_________
(١) صاب: أي جاد. الأعراض: مجموعة أودية تقع في الحجاز. الريق: أول المطر. الحقب: السنون.
(٢) أُسَيم: مرخم من أُسَيماء، وأسيماء تصغير أسماء. حرّ البقول: كل ما لان منها ولم تكن له مرارة.
(٣) المناطح: المفاتل. المحافظ: هو الغيور الأبي دون حقه وعودته. الجنب: الانقياد.
(٤) سلملا بن مالك: هو عم لبيد الشاعر. أبو قيس: هو عامر بن الطفيل. الأجب: هو البعير ذو السنام المقطوع.
(٥) السناسن: جمع: سنسن، وهو رأس فقار الظهر.
(٦) اللّجب: الأصوات.
1 / 18
وبَعدَ أبي حَيّانَ يَوْمَ حَمُومَة ٍ ... أُتِيحَ لَهُ زَأوٌ فأُزْلِقَ عَنْ رَتَبْ (١)
ألَمْ تَرَ فيما يَذكُرُ النَاسُ أنّني ... ذكرْتُ أبا لَيلى فأصبَحْتُ ذا أرَبْ (٢)
فهوَّنَ ما ألْقَى وإنْ كُنْتُ مُثبتًا ... يَقيني بأنْ لا حيَّ يَنجو من العَطَبْ (٣)
أصدرتهم شتّى [الطويل]
وقال لبيد أيضًا يذكر أيّامه ومفاخرهـ ومقاماته بين أيدي الملوك:
أرَى النّفسَ لَجّتْ في رَجاءٍ مُكذِّبِ ... وَقَد جَرَّبتْ لوْ تَقْتَدي بالمُجَرَّبِ (٤)
وكائِنْ رَأيْتُ مِنْ مُلوكٍ وسُوقةٍ ... وَصاحَبْتُ مِن وَفدٍ كرامٍ ومَوكِبِ (٥)
وسانَيْتُ مِن ذي بَهْجَة ٍ ورَقَيْتُهُ ... عليهِ السُّمُوطُ عابِسٍ مُتغَضِّبِ (٦)
وفارَقْتُهُ والوُدُّ بَيني وبَينَهُ ... بحُسْنِ الثَّنَاءِ مِنْ وَرَاءِ المُغَيَّبِ
وَأبّنْتُ مِنْ فَقْدِ ابنِ عَمٍّ وخُلَّةٍ ... وفارَقتُ من عَمٍّ كريمٍ ومن أبِ (٧)
فبانُوا ولمْ يُحْدِثْ عليَّ سبيلهُمْ ... سِوَى أمَلي فيما أمامي ومَرْغَبي (٨)
_________
(١) يوم حمومة: يوم من أيام العرب، وهو اليوم الذي مات فيه معاوية. زأو الشيء: مقداره. أزلق: أي سقط.
(٢) أبو ليلى: صاحب الشاعر وصديقه. الأرب: الحاجة.
(٣) العطب: كناية عن الموت.
(٤) الرجاء المذب: أي الذي لا يُنَال.
(٥) كائن: أي كم. السوقة: كل الناس ما عدا الملك.
(٦) سانيت: لاطفت. السموط: هو التاج المرصع بالجواهر. عابس: أي عظيم في نفسه. متعصب: أي بالتاج.
(٧) الخُلّة: الرفيق والصديق.
(٨) بانوا: أي فارقوا. السبيل: الطريق.
1 / 19
فَأيَّ أوَانٍ لا تَجِئْني مَنِيَّتي ... بقَصْدٍ مِنَ المَعْرُوفِ لا أتَعَجَّبِ (١)
فَلَسْتُ بركْنٍ مِنْ أَبَانٍ وصاحَةٍ ... وَلا الخالداتِ مِنْ سُوَاجٍ وغُرَّبِ (٢)
قَضَيْتُ لُباناتٍ وسَلَّيْتُ حاجَة ً ... ونَفْسُ الفتى رَهْنٌ بقَمرَة ِ مُؤرِبِ (٣)
وفيتانِ صدقٍ قد غَدَوْتُ عَلَيْهِمُ ... بِلا دَخِنٍ وَلا رَجيعٍ مُجَنَّبِ (٤)
بِمُجْتَزَفٍ جَوْنٍ كأَنَّ خَفَاءَهُ ... قَرَا حَبَشِيٍّ في السَّرَوْمَطِ مُحْقَبِ (٥)
إذا أرْسَلَتْ كَفُّ الوَليدِ كِعامَهُ ... يَمُجُّ سُلافًا مِنْ رَحيقٍ [مًعَطّبِ] (٦)
فمَهْما نَغِضْ مِنْهُ فإنَّ ضَمَانَهُ ... على طَيّبِ الأرْدانِ غَيرِ مُسَبَّبِ (٧)
جَميلِ الأُسَى فِيما أتَى الدَّهرُ دونَهُ ... كريمِ الثَّنا حُلْوِ الشّمائلِ مُعجِبِ (٨)
تَرَاهُ رَخيَّ البَالِ إنْ تَلْقَ تَلْقَهُ ... كريمًا وما يَذّهَبْ بهِ الدَّهرُ يَذهبِ (٩)
_________
(١) القصد: أي المعتدل. المعروف: كل ما تطمئن النفس له.
(٢) أبان: جبل يقطعه وادْ اسمه: وادي الرمة. صاحة: طرف من جبل عماية بالبحرين. سواج: اسم لجبال معروفة. غرب: هو جبل تلقاء الستاء.
(٣) اللبانة: الحاجة. سليت: أي سهلت. قمره: أي غلبه في لعبة القمار.
(٤) الدخن: كل شواء أصابه دخان فتغير طعمه. الرجيع: بقية الشراب الذي يُحفظ ليومٍ تالٍ. المجنّب: الذي يُحفظ جانبًا.
(٥) الجون: الأسود. الخفاء: الجلد. والقرا: الظهر أيضًا. السَّرَومط: هي قطعة الحبل. المحقب: هو المشدود خلف عجز الدابة.
(٦) الوليد: الخادم. الكِعام: الرباط. يمجّ: أي يصب. السلاف: الخمر الحمراء الصافية. المعطَب: أي المطيّب. وما بين قوسين يروى بلفظ: [مقطّب]: أي ممزوج بغيره.
(٧) نَغِض: أي ننقص من شرب الماء. مسبّب: أي معاتب وملوم.
(٨) الشمائل: جمع شميلة، وهي الخصلة المحمودة.
(٩) رخي البال: أي هانئه.
1 / 20
يُثَبِّي ثَنَاءً منْ كَريمٍ وقَوْلُهُ ... ألا انْعَمْ على حُسنِ التحيّةِ واشَربِ (١)
لَدُنْ أنْ دعا ديكُ الصَّباحِ بسُحرَة ٍ ... إلى قَدْرِ وِرْدِ الخامِسِ المُتَأوِّبِ (٢)
من المُسْبِلينَ الرَّيْطَ لَذٍّ كأنَّمَا ... تشرَّبَ ضاحي جلدِه لَوْنَ مُذْهَبِ (٣)
وعانٍ فكَكْتُ الكَبلَ عنه، وسُدفةٍ ... سَرَيْتُ، وأصحابي هَدَيتُ بكوكبِ (٤)
سَرَيتُ بهِمْ [حتّى تغيَّبَ] نَجمُهُمْ ... وقال النَّعُوسُ: نَوَّرَ الصُّبحُ فاذهبِ (٥)
فلَمْ أُسْدِ ما أرْعَى وتَبْلٍ رَدَدْتُهُ ... وأنجَحْتُ بَعدَ اللّهِ من خيرِ مَطْلَبِ (٦)
وَدَعوَةِ مَرْهُوبٍ أجَبتُ، وطَعْنَةٍ ... رَفَعتُ بها أصواتَ نَوْحٍ مُسَلَّبِ (٧)
وغَيْثٍ بِدَكْداكٍ يَزينُ وهادَهُ ... نَبَاتٌ كَوَشْيِ العَبقَريِّ المُخَلَّبِ (٨)
أَربَّتْ عليهِ كلُّ وطفاءَ جَوْنَةٍ ... [هَتُوفٍ] متى يُنزِفْ لها الوَبلُ تسكُبِ (٩)
بذي بَهْجَةٍ كَنَّ المَقانِبُ صَوْبَهُ ... وزَيَّنَهُ [أطْرَافُ نَبْتٍ] مُشَرَّبِ (١٠)
جَلاهُ طُلُوعُ الشّمْسِ لمّا هَبَطْتُهُ ... وأشرَفتُ من قُضفانِهِ فوْقَ مَرْقَبِ (١١)
_________
(١) يثبي: أي يثني مرةً إثر مرة.
(٢) المتأوّب: العائد والراجع.
(٣) المسبل: الذي أرخى إزاره وأسدله. الريط: الأزر. المذهب: المخلوط بالذهب.
(٤) العاني: هو الأسير. الكبل: القيد. السدفة: ظلام الليل. الكوكب هنا بمعنى النجم.
(٥) ما بين قوسين يروى بلفظ: [حتى تغور]
(٦) أُسْدِ: أي لم أهمل. التبل: الثأر والذحل. أنجحت: أي أصبت وحزت.
(٧) النوح: الجماعة من النساء اللواتي يُنُحْن. المسلّب: هو لبس الأسود حدادًا.
(٨) الدكداك: كل ما ارتفع من الأرض واستوى. المخلّب: المخطط بالألوان.
(٩) أربّت: أي أقامت. الوطفاء: السحابة القريبة من الأرض. هتوف: أي تصدر صوتًا للرعد. وما بين قوسين يروى بلفظ: [هتون] أي الذي يسحَ مطرًا.
(١٠) البهجة: الحسن والزهر. المقانب: جمع: مقنب وهي جماعة الخيل وما بين قوسيت يروى بلفظ: [ألوان نور]
(١١) القضفان: هي الحبال الصغار. المرقب: قمة الجبل.
1 / 21
وصُحْمٍ صِيامٍ بَينَ صَمْدٍ ورَجْلةٍ ... وَبيضٍ تُؤامٍ بينَ مَيْثٍ ومِذنَبِ (١)
بَسَرْتُ نَداهُ لم تَسَرَّبْ وُحُوشُهُ ... بغَرْبٍ كجِذْعِ الهاجريِّ المُشذَّبِ (٢)
بمُطَّرِدٍ جَلْسٍ عَلَتْهُ طَريقَة ٌ ... لسَمْكِ عِظامٍ عُرِّضَتْ لمْ تُنَصَّبِ (٣)
إذا ما نَأى منّي بَرَاحٌ نَفَضْتُهُ ... وإنْ يدنُ مني الغَيبُ أُلجِمْ فأركَبِ (٤)
رَفيع اللَّبَانِ مُطْمَئِنًّا عِذارُهُ ... على خدِّ مَنحوضِ الغَرارَينِ صُلَّبِ (٥)
فلَمّا تَغَشَّى كُلَّ ثَغْرٍ ظَلامُهُ ... وألْقَتْ يَدًا في كافِرٍ مُسْيَ مَغرِبِ (٦)
تَجَافَيتُ عَنْهُ واتَّقاني عِنَانُهُ ... بشدٍّ منَ التّقريبِ عَجْلانَ مُلهَبِ (٧)
رِضَاكَ فإنْ تَضْرِبْ إذا مارَ عِطْفُهُ ... يَزِدْكَ وإنْ تَقْنَعْ بذلكَ يَدْأبِ (٨)
هَوِيَّ غُدافٍ هَيَّجَتْهُ جَنُوبُهُ ... حَثيثٍ إلى أذراءِ طَلْحٍ وتَنْضُبِ (٩)
_________
(١) الصُحْم: الحُمُر السوداء. صِيام: أي قيام. الصَمد: المكان الغليظ. الرجلة: مسيل الوادي. الميث: الأرض المبسوطة. المضنب: مجرى الماء.
(٢) بسر: أي رعى نبات غضًا قبل أت يأتيه أحد. والندى: النبات. الغرب: فرس الشاعر. الهاجري: المسوب إلى هجر. المشذّب: الذي شذّب ليفه.
(٣) مطّرد: صفة للفرس التي تهتز نشاطًا ومرحًا. جَلْسٍ: أي غليظة، سَمْك العظام: طولها.
(٤) البراح: الأرض المستوية. الغيب: المكان الذي يواري من يسير فيه.
(٥) رفيع اللبان: أي رفيع الصدر. عذر اللجام: ما وقع منه على خدّي الفرس.
(٦) الثغر: الطريق في الجبل. الكافر: الليل الذي يستر كل ما يقع عليه، والضمير في ألقت عائد على الشمس. مُسْي مَغرب: مساءَ مغرب.
(٧) تجافيت: أي ارتفعت. الشدّ: العدو الشديد. ملهب: أي شديد العدو مضطرم كالنار.
(٨) رضاك: أي يرضيك بعدوه. مار: تحرك أو سال عرقه. يدأب: يستمر في الجري.
(٩) الغداف: غراب أسحم ضخم الجناحين. جنوبه: أي ريح الجنوب. أذراء: جمع: ذرا، وهو المكان الذي يُستذرى به من الريح. الطلح والتنضب: نوعان من الأشجار.
1 / 22
فأصْبَحَ يُذْريني إذا ما احتَثَثْتُهُ ... بأزْواج مَعْلُولٍ مِنَ الدَّلوٍ مُعشِبِ (١)
وَيَوْمٍ هَوَادي أمْرِهِ لِشَمَالِهِ ... يُهَتِّكُ أخْطالَ الطِّرافِ المُطَنَّبِ (٢)
يُنيخُ المَخاضَ البُرْكَ والشَّمسُ حيَّة ٌ ... إذا ذُكِّيَتْ نِيرانُها لَمْ تَلَهَّبِ (٣)
ذَعَرْتُ قِلاصَ الثّلجِ تَحتَ ظِلالِهِ ... بمَثْنَى الأيادي والمنيحِ المُعَقَّبِ (٤)
وناجِيَةٍ أنْعَلْتُها وابْتَذَلْتُها ... إذا ما اسْجَهَرَّ الآلُ في كلّ سَبسَبِ (٥)
فَكَلَّفْتُها وَهْمًا فآبَتْ رَكِيَّة ً ... طَلِيحًا كألْواحِ الغَبيطِ المُذَأْأَبِ (٦)
متى ما أشأ أسْمَعْ عِرارًا بِقَفْرَة ٍ ... تُجيبُ زِمارًا كاليَراعِ المُثَقَّبِ (٧)
وخصْمٍ قِيامٍ بالعَراءِ كأنَّهُمْ ... قُرُومٌ غَيَارَى كُلَّ أزْهرَ مُصْعَبِ (٨)
عَلا المِسكَ والدّيباجَ فَوْقَ نحُورِهمْ ... فَراشُ المَسيحِ كالجُمانِ [المُثَقَّبِ] (٩)
_________
(١) احتثثته: أي أعجلته. معلول: المسقيّ مرة تلو مرة: الدلو: برج في السماء.
(٢) هودي الأمر: أوائله. الشمال: الريح الشمالية. يهتك: يقطع. الأخطال: الحبال. الطراف: كل بيت من أدم. المطنّب: المشدود بالحبال.
(٣) ينيخ المخاض: أي ينيخ الحوامل من النوق فتبرد من شدة البرد. الشمس حية: أي أنها بيضاء لم تغب. ذكيت: أي أوقدت.
(٤) قلاص الثلج: السحاب، مثنى الأيادي: كل ما فضل من لحم الجزور. المنيح المعقب: هو القدح المشدود بالعقب علامة عليه. والعقب: هو الوتر الذي يُشدّ به القدح.
(٥) الناجية: صفة للناقة السريعة.
(٦) الوهم: هو الطريق الواسعة. ركية: أي مهزولة. طليح: أي ضامرة. الذأأب: مركب ذو فرجة في مقدمته.
(٧) العرار: صوت ذكر النعام والزمار صوت أنثاها. اليراع: المزمار المقدود من القصب.
(٨) العراء: الأرض القفر. القروم: جمع قرم وهو الفحل.
(٩) المسبح: هو العرق. والفراش: ما يقطر من العرق. وما بين قوسين يروى بلفظ: [المحبّب].
1 / 23
نَشِينُ صِحَاحَ البِيدِ كُلَّ عَشِيَّةٍ ... بِعُوجِ السّراء عِندَ بابٍ مُحَجَّبِ (١)
شَهِدتُ فلَمْ تَنْجَحْ كَواذِبُ قوْلهم ... لَدَيَّ ولمْ أحفِلْ [ثَنا كلِّ] مِشْغَبِ (٢)
أصْدَرْتُهُمْ شَتَّى كأنَّ قِسِيَّهُمْ ... قُرُونُ صِوَارٍ سَاقِطٍ مُتَلَغِّبِ (٣)
فإن يُسهِلوا فالسَّهلُ حظّي وَطُرْقتي ... وإنْ يُحزِنوا أركبْ بهم كلَّ مركَبِ (٤)
الرزيّة [الكامل]
وقال يصف تغيّر الناس والأيّام ويذكر أخاه أربد، ويتحدّث عن مآثر ذاتيّة حقّقها في الأيّام الخوالي؛ وهذه رواية الطوسي للقصيد عن أشياخه وفيها -فيما يبدو- نقص بعد البيت الرابع، واضطراب في السياق، وسنثبتها كما وردت، ثمّ نثبت في أثرها القصيدة نفسها كما رواها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني:
قَضِّ اللُّبانَة َ لا أبَا لكَ واذْهَبِ ... وَالَحَقْ بأُسْرَتِكَ الكِرامِ الغُيَّبِ (٥)
ذَهَبَ الّذينَ يُعاشُ في أكنافِهمْ ... وبَقيتُ في خَلفٍ كجِلدِ الأجرَبِ (٦)
يَتَأكَّلُونَ [مَغَالَةً وخِيَانَةً] ... ويُعَابُ قائِلُهُمْ وإنْ لم يَشْغَبِ (٧)
_________
(١) صحاح البيد: هي الصحارى المستوية الملساء. السراء: شجر ضخم تصنع منه القسي العربية. المحجب: الملك.
(٢) ما بين قوسين يروى بلفظ: [مقالة].
(٣) الصوار: القطيع من اليقر. متلغّب: أي الذي ضعف بسبب الإعياء.
(٤) طُرْقتي: أي مذهبي ومنهجي. يجزنوا: من الحَزَنْ: وهي الأرض الوعرة الصلبة. يريد أنهم يتصعبون الأرض.
(٥) اللبانة: الوطر والحاجة. الغيّب: من غيّبه الموت.
(٦) الخلف: البقية.
(٧) المغالة: هو الوقوع في الأعراض والفحش. يشغب: يحيد عن القصد. وما بين قوسين يروى بلفظ: [خيانة وملاذة]
1 / 24
يا أَرْبدَ الخيرِ الكريمَ جدودُهُ ... خَلَّيتَني أمشي بِقَرْنٍ أعْضَبِ (١)
لَوْلا الإلَهُ وَسَعيُ صاحِبِ حِمْيرٍ ... وتَعَرُّضي في كلِّ جَوْنٍ مُصْعَبِ (٢)
لَتَقَيَّظَتْ عِلْكَ الحجازِ مُقيمَةً ... فجَنُوبَ ناصِفَةٍ لِقاحُ الحَوْأَبِ (٣)
ولَقَدْ دَخَلْتُ على خُمَيِّرَ بَيْتَهُ ... مُتَنَكِّرًا في مُلكِهِ كالأغْلَبِ (٤)
فأجازَني مِنْهُ بِطِرْسٍ ناطِقٍ ... وبكلِّ أطْلَسَ جَوْبُهُ في المنكِبِ (٥)
إنَّ الرَّزِيّةَ لا رَزِيَّةَ مِثْلُهَا ... فِقدانُ كلِّ أخٍ كضَوْء الكَوكَبِ (٦)
طرب الفؤاد [الكامل]
وهذه رواية الأصفهاني وفيها اختلاف كبير عمّا هي عليه عند الطوسي:
طَرِبَ الفُؤادُ ولَيْتَهُ لمْ يَطْرَبِ ... وعَناهُ ذِكْرَى خُلَّةٍ لَمْ تَصْقَبِ (٧)
سَفهًا وَلَوْ أنّي أطَعْتُ عَواذِلي ... فيما يُشِرْنَ بهِ بسَفْحِ المِذْنَبِ (٨)
لزجرْتُ قَلْبًا لا يَريعُ لزاجِرٍ ... إنَّ الغويَّ إذا نُهي لمْ يُعْتِبِ
فتَعَزَّ عَنْ هذا وَقُلْ في غَيرِهِ ... واذكرْ شَمائلَ مِنْ أخيكَ المنجبِ
_________
(١) الأعضب: الذي كُسِر أحد قرنيه.
(٢) الجون: الليل المظلم. المصعب: الشديد.
(٣) عِلْك: ضرب من صمغ الشجر كاللّبان يُمْضَغ فلا يذوب. ناصفة: اسم لموضع.
(٤) خُمَيّر: اسم ملك من الحبشة.
(٥) الطرس: الكتاب. الأطلس: أي الحبشي. الجوب: الترس.
(٦) الرزية: المصيبة، والموت.
(٧) تصقب: أي تجاور وتقترب.
(٨) المذنب: اسم لموضع.
1 / 25