249

Le Diwan

ديوان عبد الرحمن شكري

Genres

ليس الشعر لغوا تهذي به القرائح، فتتلقاه العقول في ساع كلالها وفتورها، فلو كان كذلك لما كان له هذا الشأن في حياة الناس.

لا، بل الشعر حقيقة الحقائق، ولب اللباب، والجوهر الصميم من كل ما له ظاهر في متناول الحواس والعقول، وهو ترجمان النفس، والناقل الأمين عن لسانها، فإن كانت النفس تكذب فيما تحس به أو تداجي بينها وبين ضميرها، فالشعر كاذب، وكل شيء في هذا الوجود كاذب، والدنيا كلها رياء، ولا موضع للحقيقة في شيء من الأشياء.

وقد يخالف الشعر الحقيقة في صورته، ولكن الحر الأصيل منه لا يتعداها، ولا يمكن أن يشذ عنها؛ لأنه لا حقيقة إلا بما ثبت في النفس واحتواه الحس، والشعر إذا عبر عن الوجدان لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى.

وما هذه الاستعارات والتشبيهات إلا أشياء تختلف في ظاهرها، ولكنها في كنهها واحدة لا خلاف بينها، فليس الجميل قمرا، ولا الزئير رعدا، ولا الكريم غماما، والشمس لا تنكدر لغياب الحبيب، ولا الليل ينجاب لحضوره، ولكن الغبطة بالصورة الحسناء كالغبطة بالليلة القمراء، والرهبة من زمجرة الأسود في غابها كالرهبة من جلجلة الرعود في سحابها، وتجدد الروض بعد انهمال المطر كتجدد الأمل بعد نوال المطر، وإن الشمس إن كانت تشرق بعد نأي الحبيب، فكأنها لا تشرق لأن عين المحب لا تنظر إلى ما يجلوه نورها، وإن تكشف لها فكأنما هو باد لغيرها، والليل إذا عسعس فما هو بساتر عن عين المحب منظرا يشتاق رؤيته بعد أن يمتعه بوجه حبيبه، فإنما هو من الدنيا حسبه، وهو الضياء الذي يبصر به قلبه.

فهذه معان مترادفة في لغة النفس، وإن اختلف نطقها في الشفاه؛ إذ إنه لا محل في معجم النفوس إلا للمعاني، فأما الألفاظ فهي رموز بين الألسنة والآذان.

وهل تبصر العين أو تسمع الأذن إلا بالنفس؟ أو تبلغ الحواس خبرا إذا كانت النفس ساهية والمدارك غير واعية؟

والشعر بهذه المثابة باب كبير من أبواب السعادة، بل إن السعادة - ما لم تعقها حوائل الحياة - لا تدخل إلى القلوب إلا من بابه، فإنه ما من شيء في هذه الدنيا يسر لذاته أو يحزن لذاته، وإنما تسر الأشياء أو تحزن بما تكسوها الخواطر من الهيئات، وتكيفها الأذهان من الصور، وآية ذلك أن الشيء الواحد بينما يكون مدعاة البهجة والرضى، إذ يكون في غير ذلك الوقت مجلبة للأسف والأسى وطريقا إلى الشجن والجوى، والشعر وحده كفيل بأن يبدي لنا الأشياء في الزمن الذي ترضاه خواطرنا، وتأنس به أرواحنا؛ لأنه سلطان متربع في عرش النفس، يخلع الحلل على كل سانحة تمثل بين يديه، ويغض الطرف عن كل ما لا يحب النظر إليه. والشعر أيضا مسلاة لمن شاء السلوى، وصدى تسمعه النفس في وحشة الوحدة، فتطمئن إليه كما يطمئن الصبي التائه إلى النداء في الوادي، ليأنس برجع صوته، أو يسمع من عساه يقبل لنجدته.

فقد سبقت مشيئة الفطرة بأن يعيش أبناء آدم جماهير وأمما مجتمعة، وأن يكونوا نوعا له غرائز كامنة في طبائع أفراده يقتضيها بقاؤه ودوامه، فوجب أن يجبل أبناؤه على الألفة ويذرءوا على التعاطف ودواعي الاجتماع، وقد درج نوع الإنسان على هذه الفطرة، فصرنا وليس يهنأ امرؤ منا بأن ينعم منفردا، ولن يطيق أحد أن يبتئس وحده، وما كان المعري يمدح نفسه، ولكنه قال قولا في شرار الناس، كما يصدق في خيارهم، إذ يقول:

ولو أني حبيت الخلد فردا

لما أحببت بالخلد انفردا

Page inconnue