Dirasat Fi Elm Allugha
دراسات في علم اللغة
Maison d'édition
دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع
Numéro d'édition
-
Genres
مقدمة
...
واجهة الكتاب:
ينتظم هذا الكتاب أشتاتا مؤتلفة من الدرس اللغوي. فيه -وإن لم تكن ذات موضوع واحد- تلتقي ويحتضن بعضها بعضا من البدء إلى النهاية. إنها من جهة تتناول قضايا أو مشكلات أثيرت وتثار في الأوساط اللغوية العربية قديمها وحديثها، وهي من جهة ثانية عولجت في هذا الكتاب علاجا يخضع لوحدة النظرة المنهجية التي تعتمد على الموضوعية في التحليل والمناقشة، وعلى الحوار مع الحقائق اللغوية ذاتها دون الالتجاء إلى أي مسلك خارجي من تأويل، أو افتراض، أو تفلسف ... إلخ. ومن هنا كان الائتلاف بين هذه الأشتات؛ لكونها خالصة العروبة، وخاضعة في النظر والدرس لمنهج واحد، هو منهج الوصف القائم على تسجيل الواقع في إطار سياقه وطبيعته، بالنظر الواعي والمعالجة اللغوية الصرفة.
بعض من مباحث الكتاب "وهي ثلاثة المباحث الأولى" له ذكر متناثر هنا وهناك في أعمال القدامى من اللغويين، ولكنه ذكر عارض في سياقات مختلفة، خال من لملمة جوانب الموضوع أو القضية وتجميعها لتشكل كلا متكاملا ينماز بحدوده، وخصوصياته، وموقعه. فرأينا أن نصنع صنعا آخر لتأليف هذه الجوانب والأبعاد، حتى نريح الذهن من الجري وراء هذه المتناثرات، ولإخضاعها لمنهج من الدرس اللغوي الحديث، حتى نرشد شباب الدارسين "وبعض شيوخهم" إلى كيفية تناول القديم في ضوء الحديث. ونكون بذلك قد ظفرنا بالحسنيين: رعاية القديم والحفاظ عليه وصقله أو تهذيبه، أو الحوار معه بفكر جديد، حتى يظهر في صورة أبهى وأجلى وأقرب منالا للشادين من الباحثين.
1 / 5
أما بقية مباحث الكتاب فهي جديدة تمام الجدة مادة ومنهجا، اقتضتها حركة التاريخ وظروف الحياة المتغيرة دائما وأبدا. وخضعت للدرس بذات النظرة الموضوعية القائمة على تحليل الواقع.
ويحمل الكتاب الحالي عنوان كتاب سابق طبع ونشر خمس مرات متتالية من عام ١٩٦٩م حتى أواخر السبعينيات، ثم توقفت إصداراته لأسباب مختلفة، ثم رأينا أن نصنع هذا الكتاب الذي بين أيدينا، ضاما بين جنباته ثلاثة البحوث المشار إليها سابقا، مع أربعة بحوث أخرى، فاكتمل عددها سبعة، ذات نسب قريب وعلاقة وثيقة، من حيث إنها جميعا تعرض لقضايا لغوية عربية.
وجدير بالذكر أن هذه المباحث السبعة نشرت كلها قبلا -بتفصيل أو إيجاز- في مجلات عربية ذات شهرة واسعة ومكانة عالية في الأوساط العربية وغير العربية، مثل: مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجلة كلية الآداب بجامعة الكويت، ومجلة الدارة السعودية ... إلخ.
المبحث الأول: الألف والواو والياء "واي" في اللغة العربية
"واي" هذه تدعى حروف العلة في التراث اللغوي العربي القديم. وقد عالجها العرب، علاجا تقليديا تعوزه الدقة والوضوح، إذ قد خلطوا في علاجها بين الرمز والصوت، الأمر الذي قاد إلى جمع من المشكلات في التحليل والوصول إلى نتائج حقيقية، وانصرفوا في جل مناقشاتهم إلى شيء من وظائفها الصرفية والنحوية، متناسين قيمها الصوتية التي من شأنها أن تفصح عن حقائقها ووظائفها في البنية اللغوية. ومن ثم كان البدء هنا بتحليل قيمها الصوتية في العربية الفصيحة، وقد أدى هذا التحليل إلى الكشف عن طبيعتها، وإلى تصنيف هذه القيم إلى المجموعة الصوتية المعينة التي تنتمي إليها، أهي أصوات صامتة Consonants أم حركات Vowels. ثم انطلق الدرس إلى بيان وظائف كل صوت "أو نوع منه" في البناء الصرفي والنحوي في اللغة.
1 / 6
المبحث الثاني: همزة الوصل
همزة الوصل مشكلة قديمة حديثة من حيث نطقها ورسمها وموقعها في البناء الصوتي الصرفي للغة العربية. وقد أجاد القدماء في حصر مواقعها وخواصها النطقية. ولكنهم لم يعرضوا بحال إلى وصفها في البنية اللغوية: أهي لبنة أساسية في هذا البناء، أم أنها مجرد انزلاق صوتي يسهل النطق بالساكن؟ وقد وقف البحث عند هذه النقطة الأخيرة وقفة متأنية، منتهيا إلى ما انتهى إليه الخليل من أنها "سلم اللسان" أي: تحريك صوتي يدرج اللسان منه إلى النطق بالساكن في أنماط معينة من الكلم العربي.
المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية
السكون اسم لرمز هو "o" في أكثر الروايات، ولحالة صوتية سالبة، وقد اختلف الدارسون في رمزه إلى أقوال شتى، تولى البحث الإفصاح عنها وصلاحية كل منها للدلالة على نطق سالب. ثم ركز البحث على بيان وظائف السكون "بوصفه غير متحقق نطقا" صرفيا ونحويا، الأمر الذي يسوغ ضمه إلى نظام الحركات. فهو -وإن كان عديما في النطق- ذو وظيفة واضحة في البناء اللغوي، شأنه شأن الحركات تماما.
المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية
عرضنا في هذا المبحث لبعض الخواص الصوتية التي تنماز بها العربية من غيرها من اللغات التي لنا معرفة مناسبة بها. وانصرف التركيز إلى مجموعة محدودة من هذه الخواص التي يغيب عن بعض الدارسين أهميتها وقيمتها في البنية اللغوية العربية. من ذلك مثلا: بيان الوظائف المنوعة للحركات على الرغم من قلتها العددية، فهي في جملتها ذات قيم صوتية، وصرفية نحوية، ودلالية كذلك، على خلاف ما يجري في كثير من اللغات. وأشرنا كذلك إلى انفراد العربية بمجموعة من الأصوات التي لا وجود لها في غيرها من اللغات كالضاد، أو يقل أو يندر وجودها في لغات أخرى، "كالهمزة والقاف".
1 / 7
ثم درجنا بعدُ إلى ظاهرة التفخيم في لغتنا، حيث بينا أن التفخيم لبعض الأصوات "الصاد والضاد والطاء والظاء" ذو قيمة صوتية وأخرى دلالية، كما يظهر مثل: في مقابلة "طاب" بكلمة "تاب". إنه تفخيم "فونيمي" Phonimic. وهناك أنواع أخرى من التفخيم المشروط، كما في حال: "القاف، والخاء، والغين ... " وغيرها.
المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة
بحث أعد لمؤتمر عقد في عمان بالأردن عام ١٩٧٤م وألقي هناك بالنيابة عنا. وهو يحاول معالجة مشكلة عدم إلمام التلاميذ في مرحلة التعليم الأولى باللغة الفصيحة، وغلبة العاميات على سلوكهم اللغوي. واتجه البحث في ذلك إلى محورين رئيسين.
أولهما: وجوب تقديم المادة العربية في صورة سهلة ميسرة خالية من التقعر والتعقيد، بمراعاة طاقة الناشئة ومحصولهم اللغوي.
ثانيهما: الاسترشاد بالعاميات، لا بوصفها كذلك، بل بالنظر فيها محاولين استخلاص ما يصلح منها للتواصل العربي الفصيح. ففي العاميات مفردات وتراكيب فصيحة، ولكنها تاهت وسط سيل المفردات والتراكيب العامية الصرفة، كما في أسماء الألوان مثلا "أحمر، أبيض، أسود ... إلخ". وهناك كثير من المفردات التي يمكن تفصيحها وردها إلى أصولها الفصيحة بشيء من الدرس والنظر من أهل الاختصاص.
المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة "بين طلاب الجامعات"
بحث ألقي في مؤتمر بجامعة الكويت عام ١٩٧٩م، لمناقشة ظاهرة منذرة بالخطر برزت إلى الوجود في السلوك اللغوي لطلاب الجامعات العربية، وبخاصة على مستوى التراكيب. وكان البدء في هذا العمل بتحديد مفهوم
1 / 8
المصطلحات الواردة في الموضوع. فعمدنا إلى تحديد هذه المفهومات، بشرح مفهوم "الخطأ" ومعايير الحكم بالخطأ أو الصواب. ثم تلا بيان مفهومنا للجملة أو التركيب. مع التركيز على خواصهما وخواص مكوناتهما: من اختيار للمفردات، وموقعها، وعلاقتها بعضها ببعض، والإعراب.
وتدرج البحث بعد إلى النقطة الأساسية، بتجميع أمثلة منوعة من الأخطاء في هذا الإطار، والقيام بتنميطها وبيان الخطأ في كل نمط منها، مستعينين في ذلك بأمثلة شائعة من الخطأ على ألسنة هؤلاء الطلاب وأقلامهم. وخرجنا من ذلك بنتيجة مفزعة، حيث تبين لنا أن الخطأ ليس في الإعراب ووجوهه فقط، بل امتد أمره إلى الخواص الأخرى للتراكيب من اختيار، وموقعية، وعلاقات داخلية بين مكونات الجملة. وأنهينا بحثنا بضرورة تقديم قواعد العربية في صورة نصوص كاملة، حتى لا يتركز العمل على وجه دون آخر من وجوه خواص التراكيب أو الجمل.
المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير
انطلقت في السنوات الأخيرة نداءات مخلصة إلى وجوب تعريب العلوم في الجامعات ونحوها من الهيئات والأوساط المعنية بهذه العلوم والتعامل معها نظرا وتطبيقا. ولكن هذه النداءات كانت في جملها نداءات فردية، ينقصها تحديد مفهوم "التعريب" تحديدا دقيقا.
فانصرف البحث في البدء إلى تحديد هذا المفهوم، فتبين لنا أن له أربعة مفهومات في الثقافة العربية، قديمها وحديثها على سواء. وأشرنا إلى أن المفهوم المناسب لسياقنا هذا هو "توظيف اللغة العربية" وحدها في كل الأعمال العلمية كَتْبًا وأداء منطوقا في المحاضرات وما إليها.
وقادتنا خبرتنا اللغوية والثقافية إلى تقرير أن القضية ليست قضية التعبير باللغة العربية، وإنما ينبغي أن يوجه نداء التعريب إلى تعريب الفكر أولا. علينا في كل حال وآن أن نفكر تفكيرا عربيا عند الانشغال بهذه العلوم
1 / 9
وغيرها، فكيفما نفكر يكن تعبيرنا. أما مجرد التعبير باللغة العربية دون التكفير بها وفيها، فلا غناء فيه، لأنه في هذه الحال لا يعدو أن يكون ترجمة لفكر أجنبي، وما أظن أن هذا هو المقصود، أو أنه يصل بنا إلى غاياتنا القومية. وختمنا بحثنا بوجوب إلقاء مسئولية التعريب بهذا المفهوم الذي اخترناه إلى هيئات علمية مُشكَّلة بمعايير دقيقة، وبين يديها خطة مرسومة للقيام بهذا العمل القومي الكبير.
1 / 10
المحتويات:
الصفحة الموضوع
١٣ المبحث الأول: الألف والواو والياء "واي في اللغة العربية".
١٠١ المبحث الثاني: همزة الوصل.
١٣٩ المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية.
١٩١ المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية.
٢١٥ المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة.
٢٥١ المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة "بين طلاب الجامعات".
٣٠٧ المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير.
1 / 11
المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية"
مدخل
...
المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية"
الألف والواو والياء "واي":
عندما انتوينا إخراج هذا المبحث إلى الناس كانت تجول بخاطرنا عدة مشكلات صرفية نحوية معينة تتعلق بما يسميه علماء العربية "حروف العلة"١. ثم تأكد لي بعدُ أن الموضوع لا يمكن أن يبحث بحثا علميا دقيقا دون التعرض لوجوهه الصوتية. وذلك في الحق هو ما تقرره الدراسات اللغوية الحديثة التي تنص على فشل أية دراسة صرفية أو نحوية لا تأخذ في الحسبان الجانب الصوتي للظاهرة المدروسة.
وقبل الدخول في أية تفصيلات يجدر بنا أن نشير إلى نقطتين مهمتين هما:
_________
١ تعرض الدكتور إبراهيم أنيس لحروف العلة في دراسة قيمة سماها: "بحث في اشتقاق حروف العلة". ونشرت هذه الدراسة بمجلة كلية الآداب. جامعة الإسكندرية. المجلد الثاني سنة ١٩٤٤.
وفي هذه الدراسة عالج الدكتور أنيس عددا من المشكلات التي تتعلق بهذه الحروف. ويمكن تلخيص أهم آرائه في هذه المشكلات فيما يلي:
١- من رأيه أن الياء والواو لا تكونان إلا أصليتين في الأفعال والأسماء المشتقة، إذ -كما تقول عبارة المؤلف- "لا نكاد نعثر على واو أو ياء ليست أصلا من أصول الكلمة" في هذين النوعين من الكلمات.
٢- الواو والياء كانتا في الأصل أحد الأصوات الثلاثة: اللام والنون والميم. وقد أدت عوامل التطور اللغوي إلى هذا الانقلاب، لما بين هذه الأصوات وبين الياء والواو من شبه صوتي.
٣- كل "من الواو والياء المحدثة من لام أو نون أو ميم قلبت في بعض الصيغ إلى صوت لين طويل: فتحة طويلة أو كسرة طويلة أو ضمة طويلة". وفي رأيه كذلك "أنه لا بد من تسكين الواو أو الياء" قبل هذا القلب. والواقع أن البحث يتركز في نقطة أساسية هي النقطة الثانية، أما النقطتان الأولى والثانية فقد اقتضتهما منا مناقشة النقطة الأساسية.
1 / 15
الأولى: أن المشكلات التي نشأت عن "واي" في اللغة العربية لا ترجع إلى طبيعتها بقدر ما ترجع إلى طريقة معالجتها والنظر فيها. أو بعبارة أخرى، نستطيع أن نقول إن هذه المشكلات لا ترجع في أساسها إلى الحقائق اللغوية التي تتضمنها "واي"، وإنما ترجع إلى طريقة اللغويين في تقعيد هذه الحقائق وتنظيمها. فعلماء العربية في دراسة "واي"، قد خلطوا أحيانا بين الصوت، والرمز الكتابي، كما خلطوا من وقت إلى آخر بين قيمتها الصوتية ووظائفها الصرفية والنحوية. كذلك خان بعضهم الحظ في تعرف القيم الصوتية المختلفة بدقة لكل رمز من هذه الرموز الثلاثة. يضاف إلى ما تقدم أن الأصوات التي يرمز إليها في العربية بالرموز "واي" أصوات تتعرض للتغير والتطور بصورة أكبر وأوضح مما يقع لغيرها من الأصوات:
١- اللغة العربية الفصيحة كما ينطقها الآن المتخصصون في هذه اللغة.
٢- النصوص الواردة عن علماء العربية من قدامى ومحدثين فيما يتعلق بموضوع البحث.
وبهذه المناسبة أيضا نرى لزاما علينا أن نتعرض لبعض المصطلحات الأساسية في هذه الدراسة، وأن نقدم لها نوعا من التحديد، حتى نعين القارئ على الفهم الدقيق، كما يتبين من السطور التالية:
واي: ثلاثة رموز عربية لمجموعة من الأصوات التي تلعب دورا مهما في اللغة العربية ونظمها الصوتية، والصرفية، والنحوية. وهذه الرموز لها أسماء، هي "بترتيب الرسم السابق": الواو، الألف، الياء. ومن المعروف أن هذه الأسماء ذاتها يطلقها علماء العربية أيضا على الأصوات التي يرمز إليها بالرموز الثلاثة السابقة.
لدينا إذن "بالإضافة إلى واي" ثلاثة أنواع من المصطلحات التي يجب أن نحددها جيدا وأن نفرق بين مدلولاتها حتى نعرف المقصود بكل نوع منها
1 / 16
تجنبا للخلط والاضطراب اللذين قد يقع فيهما بعض الباحثين بسبب عدم تحديد سابق للمراد بهذه المصطلحات وأمثالها.
هذه الأنواع الثلاثة هي: الرموز "والمفرد رمز"، والأصوات "والمفرد صوت"، والأسماء "والمفرد اسم".
فالرموز: هي العلامات الكتابية التي تستخدم في اللغة المعينة للدلالة على أصوات معينة. أو -قل- هي حيل أو وسائل كتابية تستخدم لتمثيل النطق وتصويره. مثال هذه الرموز في العربية "واي".
والأصوات: هي الآثار السمعية التي تصدر طواعية واختيارا عن تلك الأعضاء المسماة تجاوزا أعضاء النطق. وهذه الآثار تظهر في صور ذبذبات معدلة وموائمة لما يصاحبها من حركات الفم بأعضائه المختلفة. مثال هذه الأصوات في العربية: أصوات الواو، والألف، والياء.
أما الأسماء: فهي ألفاظ أو كلمات يستخدمها أصحاب اللغة المعينة لإطلاقها على أصوات معينة، وعلى رموز تستخدم في تصوير هذه الأصوات كتابة. مثال هذه الأسماء في العربية الألف والواو والياء.
وهكذا نرى أن هناك فرقا بين الرمز والصوت. فالرمز "كما قلنا": علامة كتابية تدرس وينظر إليها في إطار نظام الكتابة العادية أو الإملائية أو ما يسمى "الألفباء"، لا في إطار نظام الأصوات: والصوت أثر سمعي أو حدث نطقي، يدرس وينظر في إطار النظام الصوتي للغة المعينة The Phonetic system of a given language لا في نظام الألفباء لهذه اللغة.
وكثيرا ما يقع الخلط بين مفهومي هذين المصطلحين، لأسباب ثلاثة رئيسية، هي:
١- الجهل بالفرق بينهما أو عدم الاهتمام بهذا الفرق، أو الانخداع بالنظام الكتابي بتوهم أن ما يكتب هو ما ينطق، أو بتوهم أن الرمز الكتابي هو كل شيء في الموضوع.
1 / 17
٢- وحدة الاسم الذي يطلق على الرمز الكتابي والصوت معا، فالواو مثلا اسم يطلق في اللغة العربية على العلامة "و" وعلى الصوت أو الأصوات التي يرمز إليها بهذه العلامة. وهذان السببان يعدان -في نظرنا- من أهم أسباب اضطراب علماء العربية في معالجة حروف "واي".
٣- عدم تمثيل الرمز الكتابي للصوت المنطوق تمثيلا صادقا، في بعض الأحايين، أو عدم مطابقة المكتوب للمنطوق بالفعل. ويتضح هذان الأمران في كثير من اللغات الأجنبية، ففي الإنجليزية مثلا يرمز أحيانا للصوت "f" بالرمزين "ph"، ولصوت "s" بالرمز "c" إلخ. وأحيانا توجد الرموز في الكلمة المكتوبة على حين أن ليس لها مقابل صوتي كما في نحو ١night.
أما المصطلح "أسماء" فلا يختلط بالمصطلحين السابقين، وهو عادة أعم منهما، وبسبب هذا العموم سوف نتخذه أساسا للمناقشة التالية، والأسماء التي لدينا الآن ثلاثة. هي الألف والياء والواو: "واي".
وقبل أن نحاول تحديد القيم الصوتية لمدلولات هذه الأسماء، نرى من المفيد أن نعرض -في إيجاز- لنقطة مهمة تتعلق باستعمالها، وذلك بإلقاء الضوء على تطور مدلولاتها ومراحل هذا التطور في تاريخ العربية.
_________
١ night تكتب صوتيا nait. وعندنا من النوع الأول في العربية أمثلة كثير منها: "رمى" حيث كتب الصوت الأخير بالياء مع أن خاصة الصوت توجب كتابته بالفتحة الطويلة أو ما يسمى بألف المد. أم أمثلة النوع الثاني فقليلة، منها: وجود الألف في نحو رموا والواو في عمرو. وهناك نوع ثالث في العربية، يتلخص في عدم مقابلة الصوت المعين برمز كتابي كما في نحو "هذا"، حيث توجب الكتابة الصوتية وجود فتحة طويلة أي: ألف بعد الهاء، ولعلاج هذا النقص ونحوه ابتكر علماء الأصوات نظاما خاصا لتصوير الكلام المنطوق تصويرا دقيقا. هذا النظام هو ما يعرف بالكتابة الصوتية Phonetic transcription وفي هذا النظام يراعى تمثيل كل صوت برمز مستقل متفق عليه وعلى قيمته الصوتية، ومن البديهي أن هذا النظام لا يخضع لنظام الألفباء العادية.
1 / 18
الألف
المرحلة الأولى
...
الألف:
فكرة تاريخية ١:
الألف اسم لمدلولات عدة، مرت -في نظرنا- بمرحلتين تاريخيتين مختلفتين.
المرحلة الأولى:
كانت الألف تطلق في الأصل -بحسب التاريخ المعروف لنا- على الألف، أو على ما عرف في مرحلة تاريخية متأخرة نسبيا باسم "الهمزة"، أي: ذلك الصوت الذي ندعوه حديثا الوقفة الحنجرية glottal stop، والرمز الأصلي لهذا الصوت هو "ا" بدون رأس العين الصغيرة "ء" فوقه أو تحته ومعنى هذا أن الألف -اسما ورمزًا- لم تكن في المراحل الأولى ما يسمى أخيرا بالألف المد أو ما ندعوه في اصطلاحنا الفتحة الطويلة "aa"، كما في نحو: قال. ويكاد يكون من المؤكد أن الفتحة الطويلة "ألف المد" لم يكن لها علامة كتابية في هذه المرحلة، شأنها في ذلك شأن الحركات القصيرة كلها "الفتحة والكسرة والضمة"، والحركتين الطويلتين الأخريين، الضمة والكسرة "= واو المد ويائه: uu وii" كما تظهران في نحو: تقول وأبيع.
ولا يظنن ظان أن العرب في المراحل الأولى لم يكونوا يعرفون الهمزة بوصفها صوتا، أو أن الهمزة صوت حديث في اللغة العربية. إن الهمزة من أصوات العربية منذ التاريخ المعروف لنا. ولكن هذا الصوت لم يسم بالهمزة في المراحل الأولى، وإنما كان يسمى ألفا ورمزه "ا" كما سبق آنفا.
_________
١ نشر هذا الجزء التاريخي الخاص بالألف في مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء الثاني والعشرين سنة ١٩٦٧.
1 / 19
أما أن الألف هي اسم الهمزة "الوقفة الحنجرية" في الأصل فأدلته كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
١- من خواص الأصوات العربية أن قيمها الصوتية يعبر عنها دائما بصدر أسمائها. فالاسم "كاف" مثلا يعبر صدره وهو "ك" عن الصوت "ك". وكذلك الاسم "ألف" يعبر صدره صوتيا عما سمي أخيرا الهمزة. وفي هذا المعنى يقول ابن جني: "إن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه. ألا ترى أنك إذا قلت: جيم فأول حروف الحرف "جيم". وإذا قلت: دال فأول حروف الحرف "دال" وإذا قلت: حاء فأول ما لفظت به "حاء"، وكذلك إذا قلت: ألف، فأول الحروف التي نطقت بها همزة"١.
ويقول حفني ناصف: "للحروف العربية خواص لم تجتمع في غيرها من اللغات الأخرى. منها أن مسمياتها دائما في صدر أسمائها، فصدر كلمة ألف "ء" وصدر كلمة باء "ب" وصدر كلمة جيم "ج" وهكذا لآخر الحروف"٢.
٣- وأصرح من هذا وأوضح في هذا الشأن ما قرره ابن جني في مكان آخر، وروي مثله عن أبي العباس المبرد "وإن كانت هذه الرواية في معرض الاعتراض على المبرد في مشكلة أخرى تتعلق بالهمزة"، انظر فيما بعد.
_________
١ ابن جني: سر صناعة الإعراب، جـ١ ص٤٧.
٢ حفني ناصف: تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية ص٢٨، ط٢ سنة ١٩٥٨ وانظر ابن يعيش، شرح المفصل جـ١٠، ص١٢٦.
٣ انظر: حفني ناصف، المرجع السابق ص٤٠-٤٣.
1 / 20
يقول ابن جني: "إن أبا العباس كان يعد حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا، وجعل الباء أولها ويدع الألف من أولها ويقول: هي همزة" أي أن الألف نطقا ورسما هي ما عرف بالهمزة في فترات متأخرة. وهذا القول فيما يتعلق بهذه المنطقة هو ما رآه ابن جني نفسه حيث يقول: "اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة"١.
أما أن أبا العباس قد ترك الألف "الهمزة" ولم يذكرها في الأبجدية؛ فذلك لأنها -كما تقول عبارته التي رواها ابن جني- "لا تثبت على صورة واحدة، وليست لها صورة مستقرة، فلا أعتدها مع الحروف التي أشكالها محفوظة معروفة"٢.
وهنا نرى أن المبرد قد وقع في خطأ واضح إذ هو قد خلط -بعبارته هذه- بين مستويين: مستوى النطق ومستوى الكتابة. إنه يعلل تركه للهمزة وعدم ذكره لها في الألفباء بتغير صوتها وعدم استقرارها على حالة واحدة. والواقع أن الذي يتغير إنما هي الصورة الكتابية للهمزة لا نطقها. فمن المؤكد أن الهمزة تنطق سواء أكتبتها على ياء أم واو، وبالطبع حين تكتب على صورتها الأصلية وهي الألف. وقد أدرك ابن جني بثاقب نظره هذا الخطأ الذي وقع فيه أبو العباس، فاعترض عليه بعبارة تنم عن ذكاء وعمق في فهم الحقائق، حيث استطاع أن يتذوق ما لم يستطع المبرد تذوقه من معرفة الفرق بين النطق والكتابة. يقول: "أما إخراج أبي العباس الهمزة من جملة الحروف واحتجاجه في ذلك بأنها لا تثبت صورتها فليس بشيء. وذلك أن جميع هذه الحروف إنما
_________
١ ابن جني: المرجع السابق ص٤٦، وانظر أيضا: ابن يعيش، شرح المفصل جـ١٠ ص١٢٦. وإطلاق الألف على الهمزة نلحظه كثيرا في كتاب العين للخليل بن أحمد، من ذلك مثلا ما جاء هناك من أنه حين أراد تأليف الحروف أعمل فكره فلم يمكنه "أن يبتدئ التأليف من أول أب ت ث وهو الألف". فالألف هنا يقصد بها الهمزة. ومع ذلك كان يطلق المصطلح الآخر وهو "الهمزة" على هذا الصوت نفسه، كما يبدو في قوله: "وأما الهمزة فمخرجها من أقصى الحلق". انظر كتاب العين للخليل بن أحمد، تحقيق د. عبد الله درويش: جـ١ ص٥٢، ٥٨.
٢ ابن جني: المصدر السابق ص٤٦.
1 / 21
وجب إثباتها واعتدادها لما كانت موجودة في اللفظ الذي هو قبل الخط. والهمزة موجودة في اللفظ كالهاء والقاف وغيرها، فسبيلها أن تعتد حرفا كغيرها"١.
وإذا كان المبرد يعني بعبارته السابقة تغير الهمزة نطقا كذلك، كما في حالة التخفيف مثلا فنحن ندفع هذا الظن بأن التخفيف في الهمزة لهجة، وذلك أمر ثابت لديهم. جاء في مراح الأرواح وشرحه، أن الهمزة "قد تخفف، لأنها حرف ثقيل إذ مخرجه أبعد من مخارج جميع الحروف لأنه يخرج من أقصى الحلق فهو شبيه بالتهوع المستكره لكل أحد بالطبع، فخففها قوم وهم أكثر أهل الحجاز وخاصة قريش. روي عن أمير المؤمنين علي ﵁ أنه قال: "نزل القرآن بلسان قوم وليسوا بأصحاب نبر. ولولا أن جبريل نزل بالهمزة على النبي ﵇ ما همزتها" وحققها آخرون وهم تميم وقيس"٢.
وإذا ثبت أن التخفيف في الهمزة لهجة وجب علينا حينئذ أن ننظر إليه في إطار هذه اللهجة وحدها لا في إطار اللغة بعامة، حتى نتجنب الخلط الذي ينتج عن تداخل اللغات. وقد تنبه ابن جني إلى هذا الخلط في اعتراض له آخر وجهه إلى المبرد لتركه الألف "الهمزة" من الألفباء بسبب تغير صوتها، يقول: "وإنما كتبت الهمزة واوا مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف. ولو أريد تحقيقها ألبتة لوجب أن تكتب ألفا على كل حال. يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعا لا يمكن فيه تخفيفها ولا تكون فيه إلا محققة، لم يجز أن تكتب إلا ألفا، مفتوحة كانت، أو مضمومة، أو مكسورة، وذلك إذا وقعت أولا نحو أخذ، وإبراهيم. فلما وقعت موقعا لا بد فيه من
_________
١ ابن جني: المرجع السابق ص٤٨.
٢ النبر هنا معناه الهمز ويؤخذ من بقية الكلام أن كلمة "الهمز" "بمعنى الوقفة الحنجرية" كانت معروفة زمن علي بن أبي طالب. انظر مراح الأرواح في علم الصرف لأحمد بن علي بن مسعود وشرحه لابن كمال باشا ص٩٨ طبعة ١٩٣٧.
1 / 22
تحقيقها اجتمع على كتبها ألفا ألبتة. وعلى هذا١ وجدت في بعض المصاحف "يستهزأون" بالألف قبل الواو ووجد فيها أيضا "وإن من شيأ إلا يسبح بحمده" [الإسراء: ٤٤] بالألف بعد الياء، وإنما ذلك لتوكيد التحقيق"٢.
وهكذا يكشف لنا ابن جني العظيم في هذا الرد عن نقطة أخرى مهمة، لا في هذا المقام فحسب، بل في مناهج البحث اللغوي بعامة. ذلك أن عبارته السابقة تعني أننا في معاملتنا للهمزة نخلط بين لهجتين "بيئتين لغويتين" وبين مستويين كذلك: مستوى النطق ومستوى الكتابة. فنحن في النطق ننطق الهمزة وبذلك نتمشى مع اللهجة أو اللهجات التي تحققها، ولكننا في الكتابة نكتبها أحيانا على واو أو ياء "أما كتابتها بالألف فهو الأصل بالطبع" مراعين في ذلك تلك الصور التي تصير إليها الهمزة في لهجات التخفيف ومعناه أننا في النطق نتبع لهجة أو لهجات معينة، ولكننا في الكتابة نأخذ بحكم لهجة أو لهجات أخرى، تلك هي التي تخفف الهمزة.
وفي هذا العمل -في رأينا- خلط كبير تنتج عنه أحكام متناقضة أو متضاربة للظاهرة اللغوية الواحدة. أما سبب هذا الخلط فهو تعدد البيئة
_________
١ الإشارة بهذا إلى مضمون ما تقدم. وهو أنها إذا لم تقع في أول الكلمة يخففها الحجازيون ويحققها غيرهم. ولذلك توجد في بعض المصاحف محققة مكتوبة على ألف على طريقة غير الحجازيين. هذا التعليق من عمل المحققين لكتابة سر صناعة الإعراب لابن جني، وهو في رأينا تعليق مهم! انظر سر صناعة الإعراب ص٤٧.
٢ ابن جني، المرجع السابق ص٤٦-٤٧. وورد مثل هذا القول عن ابن يعيش في شرح المفصل جـ١٠ ص١٢٦، حيث يقول: "والصواب ما ذكره سيبويه وأصحابه من أن حروف المعجم تسعة وعشرون حرفا، أولها الهمزة وهي الألف التي في أول حروف المعجم وهذه الألف هي صورتها على الحقيقة، وإنما كتبت تارة واوا وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف ولو أريد تحقيقها لم تكن إلا ألفا على الأصل. ألا ترى أنها إذا وقعت موقعا لا تكون فيه إلا محققة لا يمكن فيه تخفيفها -وذلك إذا وقعت أولا- لا تكتب إلا ألفا نحو: أعلم، أذهب، أخرج، وفي الأسماء: أحمد، إبراهيم، أترجة ... وأمر آخر يدل على أن صورة الهمزة صورة الألف أن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه، ألا ترى أنك إذا قلت باء ففي أول حروفه باء، وإذا قلت ثاء ففي أول حروفه ثاء، وكذلك الجيم والدال وسائر حروف المعجم، فكذلك إذا قلت: ألف، فأول الحروف التي نطقت بها همزة، فدل ذلك أن صورتها صورة الألف".
1 / 23
اللغوية أو عدم وحدة مصدر المادة المدروسة. وفي ظننا أن هذا الخلط وأمثاله كان من أكبر عوامل التعقيد والاضطراب في قواعد اللغة العربية، أصواتها وصرفها ونحوها. فكثيرا ما يحدث أن يضع علماء العربية قواعد مختلفة "متباينة أو متناقضة" للظاهرة اللغوية الواحدة. وذلك سببه أن هذه الظاهرة قد تكون مختلفة الخواص من لهجة إلى أخرى، أو أنها ذات مسلكين مختلفين فيهما. وربما يكتفون -في أحيان كثيرة- بوضع القاعدة العامة لهذه الظاهرة طبقا لما لاحظوه من خواصها في لهجة معينة، ثم يحكمون بالشذوذ أو عدم الصحة أو التأويل على خواصها الأخرى التي تتميز بها في لهجة أو عدد آخر من اللهجات. وهذا العمل من اللغويين العرب أمر معروف مشهور ويشيع تطبيقه بصفة خاصة على قواعد النحو.
والبحث اللغوي الحديث يوجب علينا منذ البداية "فيما يوجب" أن نحدد البيئة اللغوية للظاهرة المدروسة تجنبا للأحكام المتباينة لهذه الظاهرة. ورائدنا في هذا السبيل هو أن وحدة الحكم على الظاهرة اللغوية المعينة يجب أن تبنى على أساس وحدة الظاهرة نفسها في الذات والصفات، أو الخواص. فإذا ما تعددت أو اختلفت هذه الخواص وجب تعدد الأحكام، طبقا للمبدأ الذي ينص على وجوب تعدد الأنظمة في معالجة الظاهرة أو الظواهر التي تختلف خواصها. أما أن تخضع هذه الخواص المختلفة كلها لحكم واحد فهو عمل تعسفي ويعرض الدراسة للتعقيد والاضطراب. وإذا كان هذا هو الواجب اتباعه في وضع قواعد اللهجة الواحدة "البيئة اللغوية الواحدة" فما بالك حين تتعدد اللهجات أو البيئات؟
إننا حين تتعدد اللهجات يجب أن نضع قواعدنا طبقا للموجود في كل لهجة على حدة. ومعناه أننا إذا كنا من محققي الهمزة وجب أن نعطيها أحكام التحقيق على كل المستويات. وهذا يوجب علينا كتابتها بالألف دائما "وهو علامتها الأصلية" بقطع النظر عن موقعها وعن حركتها أو حركات ما قبلها وما بعدها. وواضح مما تقدم أن ابن جني يميل إلى هذا الرأي، وهو ما تؤيده
1 / 24
حقيقة الصوت وماهيته. فالهمزة كما سنعرف فيما بعد -من الأصوات الصامتة ١Consonants، "أو ما تسمى بالحروف الصحيحة في مقابل حروف العلة في نظر العرب".
_________
١ الصوت الصامت "والجمع صوامت" هو ما يشار إليه بالمصطلح الإنجليزي Consonant، أي هو كل ما ليس "حركة" Vowel. ويسميه بعض الدارسين الصوت "الساكن" والتسمية بالساكن تسمية صحيحة مقبولة، إذ جرى العرف عليها منذ وقت ليس بالقصير. وقد حدد أصحاب هذا الاصطلاح ما يقصدون بهذا الاستعمال. ولكنا في هذا البحث "وأمثاله من كل ما نعرض فيه الألف والواو والياء" آثرنا استعمال المصطلح "الصامت" لسببين مهمين:
أولهما: أن الكلمة "ساكن" والجمع سواكن" قد تؤدي إلى لبس، إذ قد تؤخذ على أن المقصود بها هو الحرف المشكل بالسكون "على ما هي القاعدة العامة في البحوث الصرفية التقليدية"، على حين أن المراد هو كل صوت ليس حركة، سواء أكان مشكلا بالسكون أم بغيره من علامات الحركات.
ثانيهما: "وهذا هو المهم في هذا المقام بالذات" أن علماء العربية جروا على التوسع في مفهوم الكلمة "ساكن" "وما تصرف منها" بإطلاقها -خطأ- على حروف المد: "الألف، والواو، والياء" أو ما تسمى الحركات الطويلة. وهذا -كما ترى- إطلاق مضلل، وبخاصة في هذا البحث وغيره، مما يعرض لهذه الحروف الثلاثة التي لا يصح بحال إطلاق اسم الساكن عليها في أي موقع كانت، اللهم إلا إذا قصد بالساكن -على ضرب من التوسع- الحرف الخالي من علامات الحركات. على أن هذه الحالة ذاتها مسألة تتعلق بنظام الكتابة، لا بواقع النطق والحقيقة الصوتية. وهما مدار العمل في هذا البحث وفي غيره من كل دراسة صوتية. ومن الجدير بالذكر أن استعمال المصطلح "صامت" ليعني كل ما ليس حركة أو حرف مد استعمال قديم. لقد جاء هذا الاستعمال واضحا في عبارة لبعضهم يقول فيها: "إن الابتداء بالساكن إذا كان مصوتا أعني حرف مد ممتنع بالاتفاق. وأما الابتداء بالساكن الصامت أعني غير حرف المد فقد جوزه قوم. فهو هنا يستعمل المصطلح "الصامت" بمعنى كل صوت ليس بحركة، طويلة "أي حرف مد" كانت، كما هو واضح من النص أو قصيرة، كما يظهر من بقية كلامه وهو: "ولا شك أن الحركات أبعاض المصوتات، فكما لا يمكن الابتداء بالمصوت لا يمكن الابتداء ببعضه" شرح مراح الأرواح للمولى شمس الدين أحمد المعروف بديكنقوز، مطبعة الحلبي سنة ١٩٣٧ جـ٢، ص١٢٠". وهذا المصطلح نفسه "الصامت" يستعمله ابن سينا في معرض الكلام على حالتي الواو، والياء، حيث سماهما الواو والياء الصامتتين في نحو، "ولد، يلد"، والمصوتتين في نحو "أدعو، أرمي" وهي تسمية موفقة. وتقسيم موفق كذلك لحالتي الواو والياء، فالواو والياء، كما سنعرف في مكانه بالتفصيل إما صوتان صامتان "Consonants" أو كما يقال أحيانا: أنصاف حركات "Semi-vowels" وإما حركتان هما الضمة والكسرة الطويلتان، أو واو المد وياؤه، أو ما أشير إليهما هنا بالمصوتين، على =
1 / 25
وقد صرح علماء العربية أنفسهم بهذا المعنى فحكم الهمزة عندهم "كحكم الحرف الصحيح في تحمل الحركات"١، فهي إذن في أحكامها الصوتية والكتابية مثل الباء، والتاء ... وغيرهما من الصوامت، ومن ثم وجبت معاملتها معاملة هذه الأصوات من حيث كتابتها وتصويرها بالرسم فكما يكتب صوت الباء، والتاء، بالباء أو التاء دائما -أي: بقطع النظر عن موقعها الصوتي- وجبت كتابة الهمزة ألفا دائما كذلك٢.
أما إذا كنا من أصحاب التخفيف في الهمزة دائما "كأن يكون ذلك من خواص لهجة معينة" أو أحيانا "كما قد يحدث في بعض الصيغ أو المستويات الكلامية"، فالأمر حينئذ مختلف تماما. إننا في هذه الحالة يجب أن ندرس الموجود بالفعل. سواء أكان ذلك الموجود ياء أم واوا أم ألف مد، لأنا حينئذ لا نتعامل مع الهمزة، وإنما مع شيء مختلف عنها تماما من الناحية الصوتية في الأقل. إن التخفيف في نظرنا تخفيف لا همز. ويجب أن ينظر إليه دائما بهذه الصفة، لأنا في منهج الوصف نعني بالموجود أو بما هو كائن لا بما كان، أو بما يفترض أنه كان.
_________
= عادة العرب في ذلك، كما هو واضح من النص السابق لشارح المراح وكما هو نص على ذلك أيضا ابن جني في خصائصه "جـ٣ ص١٢٤"، وتنضم إليهما ألف المد في هذه الحالة الأخيرة. والتعبير "بصامت" ليعني كل صوت ليس بحركة تعبير دقيق إذ هو يصف خاصة من الخواص الأساسية لهذه الأصوات، وهي ضعف الوضوح السمعي إذا قيست بالحركات التي تتسم بقوة الوضوح السمعي نسبيا. ومن هذا نرى أيضا أن علماء العربية قد أجادوا في وصفهم حروف المد "الحركات الطويلة" بالحروف المصوتة، إشارة إلى ما فيها من وضوح سمعي، ولكن فاتهم أن يطلقوا هذا الوصف صراحة على الحركات القصيرة، إذ هي أبعاض الحركات الطويلة "= حروف المد"، فما أطلق على الكل يجوز تطبيقه على الجزء بداهة. على أن التوسع في إطلاق المصطلح "مصوت" ليشمل الحركات طويلها وقصيرها مفهوم من نص شارح المراح السابق "= الحركات أبعاض المصوتات" كما يفهم أيضا من كلام ابن سينا، عندما يقول مثلا: "والواو المصوتة وأختها الضمة ... " انظر في هذا الموضوع. أسباب حدوث الحروف لابن سينا، بتحقيق محب الدين الخطيب، مطبعة المؤيد ١٣٢٢هـ، ص١٣.
١ مراح الأرواح ص٩٨.
٢ وإنما تكتب بالألف بالذات لأنه صورتها الأصلية.
1 / 26
وفي الحق أن علماء العربية قد خلطوا في قواعد الهمزة "من تحقيق وتخفيف وقلب، وإبدال ... إلخ" خلطا واضحا. وأساس هذا الخلط أنهم يعدون التخفيف وإخوته عارضا يعرض للهمزة، وربما يعدونه الهمزة بادية في صور مختلفة. وكان من نتيجة ذلك وجود عدد ضخم من الأحكام المتضاربة التي تتعلق بها وأحوالها، ولسنا لذلك مع ابن جني في قوله: أما انقلاب الهمزة "في بعض أحوالها لعارض يعرض لها من تخفيف أو بدل فلا يخرجها من كونها حرفا، وانقلابها أول دليل على كونها حرفا"١ أي: حرفا مستقلا قائما بذاته هو همزة. فالهمزة -في رأينا- لم تقلب، وإنما الذي حدث هو أنها لم تنطق، وإنما نطق شيء آخر هو ياء، أو واو المد.
والذي عكر الصفو على ابن جني، وغيره من علماء العربية، هو اهتمامهم الكبير بالأصول الاشتقاقية للكلمات، وافتراضهم وجوب وجود هذه الأصول في كل الصيغ المتفرعة عنها. فوجود الهمزة في "خطيئة" مثلا كان يوجب وجودها في "خطايا". فعدم وجودها إذن إنما هو لعارض عرض لها، وقد تكلفوا هم بتوضيح هذا العارض وأمثاله في بحوثهم. على أن المسألة في حقيقتها أيسر من هذا بكثير: كلما وجدت الهمزة فهي همزة، وإلا فالموجود بالفعل هو الذي يؤخذ في الحسبان، أيا كانت صورته الصوتية.
كل ما تقدم خاص بالشق الأول من القضية، وهو أن الألف في الأصل هو الهمزة "الوقفة الحنجرية". أما الشق الثاني وهو أن الألف في المراحل الأولى لم يكن يعني ما يسمى ألف المد فيما بعد أو ما يسمى الآن الفتحة الطويلة "aa"، كما في نام مثلا، فسوف تتبين حقيقة الأمر فيه من المناقشة التالية التي سوف نتناول فيها المرحلة الثانية من مراحل استعمال "الألف" وتطور مدولاتها.
_________
١ ابن جني، المرجع السابق ص٤٨.
1 / 27