Études philosophiques islamiques
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Genres
والتنزيل في صراع مع التأويل وهو الصراع المشهور بين الفقهاء والصوفية. والمتكلمون في صراع مع الصوفية، وهو الصراع بين منطق العقل ومنطق الذوق، بين البرهان والكشف، ومحاولة الفلسفة الإشراقية من ناحية وحكمة الإشراق من ناحية أخرى الجمع بينهما.
3
وقد حاول المتأخرون كالمتقدمين «إحصاء العلوم» من أجل تحديد علاقة العلوم كلها بعضها ببعض في نسق علمي واحد؛ طبقا لمقاييس في التصنيف تدل على اتصال الإلهيات بالطبيعيات، وعلم الكلام وعلوم الفقه بالعلم المدني.
4
وننقل مادة كل علم وعلى أقصى تقدير نصف نشأته وكأننا غرباء عنه، متفرجون عليه أشبه بالمستشرقين من أصحاب البلاد سواء بسواء مع أننا جزء منه، ومسئولون عنه. توقف العلم لأننا انفصلنا عنه، وتخلينا عن مسئوليتنا تجاهه كجزء من التخلي عن المسئوليات العامة لرجال العلم ولعلماء الأمة وتركها في أيدي أولي الأمر. وكان من نتيجة ذلك أن توقفت العلوم بعد نشأتها وتطورها واكتمالها.
وفي كل علم نعرض لأمهات المسائل والخلاف حولها وكأننا لسنا طرفا فيها، وكأن الأمر لا يعنينا في قضايا المصير. ففي الكلام نعرض للخلاف بين المعتزلة والأشاعرة ولا نفضل التنزيه على التشبيه في التوحيد، ولا نؤثر العقل على النقل، ولا حرية الإرادة على الجبر والكسب في العدل. ولا نعطي الأولوية للعمل على الإيمان في الأسماء والأحكام ولا للاختيار على النص في الإمامة. فلا تزال الإمامة في قريش، أي في فئة لا تخرج منها. وهي اختيارات قديمة فرضتها ضرورات العصور القديمة إبان النزاع على السلطة منذ أيام الفتنة الأولى والتي حفظتها الكتب المدونة ويكررها الأساتذة في الجامعات الدينية والوطنية بالرغم من تغير الظروف والتي تحتم اختيارات بديلة؛ طبقا لحاجات عصرنا. ما زلنا نؤرخ للفرق بين الفرق دون محاولة للجمع بين الفرق ونحن ندعو إلى الوحدة الوطنية ونريد تأسيس الجبهات الوطنية بعيدا عن أحادية الطرف في الحكم وكوسيلة للخلاص.
وفي الفلسفة نكرر القسمة الثلاثية القديمة: المنطق والغيبيات والإلهيات دون أية محاولة لإعادة بناء المنطق الصوري القديم، وتحويله إلى منطق شعوري أو جدلي أو اجتماعي. ونكرر الطبيعيات القديمة ودرجاتها وترتيبها الصاعد من العناصر الأربعة إلى المعادن إلى النبات إلى الحيوان إلى النفس، والطبيعة ساقطة من وعينا القومي. ونكرر الإلهيات القديمة بإشراقياتها وفيضها وإعطائها الأولوية لله على العالم دون ما محاولة لإعادة بنائها لرد الاعتبار إلى العالم؛ من أجل القضاء على اغترابنا فيه والعودة إليه. ونثبت الضرورة الكونية في العالم التي تحتمها أحكام النجوم ودوائر الأفلاك، ونرى الطوالع لمعرفة مصائر البشر. ونرى المدينة الفاضلة متمثلة في الدولة الهرمية التي تأخذ القمة فيها كل شيء ويسلب عن القاعدة كل شيء. نعيد البناء القديم والإنسان والتاريخ فيه غائبان، وهما محورا التقدم في كل حضارة ولدى كل الشعوب.
5
ونعيد التصوف القديم ونكرره كعلم دون أن نحدد نشأته التاريخية الذاتية، وليس مصادره ومؤثراته الخارجية كما يفعل المستشرقون طبقا لمنهج الأثر والتأثر، فقد كان التصوف مجرد رد فعل تاريخي على تيار البذخ والترف ونتيجة للتكالب على العالم، والامتثال بين الفرق السياسية، كل منها تدعي أنها أولى بالحكم الشرعي، وتكفر الأخرى. كان التصوف حركة مقاومة سلبية بعد أن استحالت المقاومة الفعلية وبعد أن استشهد العديد من الأئمة من آل البيت في خروجهم على السلطان. لم تبق إلا محاولة الخلاص الفردي بعد أن استحال الخلاص الجماعي، وترك الدنيا بمن فيها على من فيها، بعد أن تكالب الناس عليها، والهروب إلى الله بعد أن استعصى العالم واستحالت السيطرة عليه. ولا نطرح سؤال: هل الموقف الآن هو كذلك؟ هل المقاومة ميئوس منها؟ هل ما زال الهروب إلى الله مطروحا؟ هل إنقاذ الجماعة قد انتهى إلى طريق مسدود؟ هل استشهد منا قادة المعارضة مثلما استشهد من آل البيت؟ ما زلنا ندرس التصوف، وندرسه كحركة خروج من العالم بينما العالم ينزلق من بين أيدينا، ويفر من بين أصابعنا، ويهرب فاقدين السيطرة عليه، ثم يأتي الغير كبديل عنا ليحل محلنا بحجة المساعدة والعون والتعاون المشترك والتنسيق المتبادل والمناورات المشتركة.
وفي كليات الشريعة في الجامعات الدينية وكليات الحقوق في الجامعات الوطنية نكرر النسق القديم في علم أصول الفقه ونبرز المدارس الأربعة وكأنها مختلفة متباينة دون أن نراها من منظور واحد وكمنهج واحد مع تأكيد كل مدرسة على أحد جوانبه. فالمالكية تعطي الأولوية للواقع على النص، والحنفية تعطي الأولوية للنص على الواقع، والشافعية تجمع بين الاثنين طبقا للضرورة والمصلحة وتغير الزمان والمكان، والحنبلية دعوة إلى العودة إلى الأصول بعد أن تشعب الفكر، وتضاربت مناهج الاستدلال، وتداخلت الأهواء والمصالح، وتشابكت العلل. كما نكرر النسق القديم في ترتيب الأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهو ترتيب كان يتفق مع روح العصر القديم؛ نظرا لقربه من الوحي وأولويته على الواقع. في حين أن روح العصر الحالي، واستنادا أيضا إلى روح الوحي الممثلة في أسباب النزول و«الناسخ والمنسوخ» تعطي الأولوية للواقع على الفكر. بالقبول من دليل المتكلمين وبالتالي يكون ترتيب الأصول الأربعة الذي يفرضه روح العصر: القياس، والإجماع، والسنة، والكتاب. وهو الترتيب الصاعد في مقابل الترتيب النازل القديم. الاستقراء في مقابل الاستنباط، القاعدة في مواجهة القمة. وإلا ففيم الشكاية من غلق باب الاجتهاد، وقلة الاعتماد على العقل، وغياب المنطق، وضياع إعمال النظر؟ القياس هو تجربة الفرد الخاصة وجهده العقلي الخالص. وهو قادر على الاستدلال إذا استكمل شروط الاجتهاد: العلم بمنطق اللغة والدراية بأسباب النزول الأولى والوعي بمصالح المسلمين الحالية، وهي أسباب النزول الثانية، أي ظروف قراءة النص حاليا. والإجماع تجربة إنسانية مشتركة بين علماء الأمة، نوع من الحوار الحر بين المفكرين والمنظرين وقادة الرأي دون ما خوف أو قهر أو استبداد بالرأي الواحد، أو إلهام يأتي، حتى ولو كان رأي الخليفة أو الإمام أو قاضي القضاة أو ساري العسكر. والسنة هي التجربة الفريدة لنموذج التحقق الأول في حياة مبلغ الوحي للاسترشاد بها كما هو الحال في المسيحية البدائية واليهودية الأولى، والمراحل الأولى في كل المذاهب الفكرية قبل أن تنالها عوامل التاريخ وصراعات القوى بالانحراف والتغيير أو الضياع. والكتاب هو تجارب الأمم والشعوب على مدى التاريخ، التراكم المعرفي الإنساني الشامل المتحقق مع مراجعة العقل والفطرة وكما تبدو في الحكم والأمثال والمأثورات والآداب الشعبية.
Page inconnue