Études philosophiques islamiques
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Genres
لم يبق إذن إلا طريق الشرعية، والعمل من خلال النظم القائمة، فلا الإسلام سر نخفيه ولا الدعوة له جريمة نخشاها. ليس المطلب الحصول على سلطة بدلا من السلطة القائمة، ولو أن ذلك مطلب شرعي لكل تيار في إطار الشرعية وبناء على اختيار الأمة بأسلوب ديموقراطي حر، بل الهدف توحيد فرق الأمة وعلى رأسها الحركة العلمانية القصيرة النظر الغير مرتبطة ارتباطا عضويا بتراث الأمة وتاريخها وثقافتها الوطنية، والحركة السلفية التي تؤثر الصورة على المضمون، والشعار على الواقع. فلا مضمون بلا صورة (الحركة العلمانية) ولا صورة بلا مضمون (الحركة السلفية). قد لا يكون للنظم القائمة مصلحة في التغيير، ومع ذلك فالتغيير أبقى عليها من الوقوف ضده، والتمسك بالإسلام كدرع يحمي مصالح الأمة خير من الوقوع في إسلام بلا أمة أو في أمة بلا إسلام. وأن يتم ذلك من خلال رؤية تاريخية، ومشروع طويل يتحقق في عدة أجيال. وليحكم اليوم من يشاء. فما ضاع خلال قرون طويلة لا يعود إلا بجهود عدة أجيال بناء على خطة محكمة ورؤية تاريخية يتمثل بعضها في الآتي: (1) مشروع إعادة بناء التراث
لما كان التراث ما زال حاضرا في وجدان الأمة، مؤثرا فيها، يمدها بقيمها ، ويحدد تصوراتها، ويوجه سلوكها، فإنه حتى الآن ما زال وحدة واحدة، كلا شاملا، خليطا متنافرا، به ما يضر (النزعات الصوفية والإشراقية والحرفية) أكثر مما ينفع (النزعات العقلانية العلمية الواقعية). فمهما حاولت الحركة العلمانية أن تدعو إلى العقلانية والعلمية والتقدم والحرية والديموقراطية فإن دعوتها ستصطدم لا محالة بميراث ألف عام من التصوف. والأشعرية أرسخ وأعمق في وجدان الناس من دعوات المعاصرين. وطالما أن هذا الموروث لم «يتصرف» بعد فإنه سيظل المنبع الأول الذي يغذي الحركات السلفية. مشروع إعادة بناء التراث إذن هو إقامة نهضة شاملة تلي حركة الإصلاح الديني في القرن الماضي وتطورها. وعلى هذا النحو نضمن التغيير من خلال الانقطاع حتى نأمن الردة (تركيا، بولندا). كما نأمن رد فعل الحركة السلفية والعودة الى المنبع بلا مصب وتقوية الجذور بلا ثمار. كما نأمن من إزدواجية ثقافة الأمة، وشق وحدة الصف، وضياع وحدة الثقافة الوطنية وتشتتنا بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي.
فإذا كنا قد عشنا المحافظة الدينية (الأشعرية المزدوجة بالتصوف) خلال ألف عام، من القرن الخامس حتى الخامس عشر فإننا عشنا العقلانية التحررية (المعتزلة والفلاسفة) حوالي ثلاثمائة عام من القرن الثاني حتى القرن الخامس، وظل جناحا المحافظة والتقدم غير متعادلين في وجداننا القومي، فصرنا نتعثر أو نعرج وكأننا نسير على ساق واحدة، أو كالأعور يرى العالم بعين واحدة. كل المرجو الآن هو مجرد التحول من الأشعرية والتصوف إلى المعتزلة والفلاسفة من أجل ضغط الألف عام من المحافظة الدينية وزيادة الثلاثمائة عام من العقلانية التحررية حتى يأتي جيل تتعادل فيه الكفتان، وهنا يبدأ المجتمع في النهوض والسير على ساقين متساويتين، والنظر إلى العالم بعينين اثنتين. ويتم ذلك عن طريق إعادة الاختيار بين البدائل طبقا لظروف العصر: المجتمع المهزوم المتخلف، المغايرة لظروف القدماء، المجتمع المنتصر المتقدم الراغب في الدفاع عن العقيدة الجديدة ضد الهجمات عليها. التراث فيه نقل وعقل، جبر وحرية، تشبيه وتنزيه، إيمان وعمل، إمامة بالنص والتعيين، وإمامة بالبيعة والاختيار، إشراقية وعقلانية، تصوف وفقه، أثر ورأي. فإذا كان القدماء قد اختاروا الأول نظرا لظروفهم فإننا نختار الثاني نظرا لظروفنا، فالتنزيه لدينا أولى من التشبيه، والحرية دون الجبر، والعقل دون النقل، والعمل له الأولوية على الإيمان، والبيعة والاختيار لا النص والتعيين، عقل الفلاسفة دون إشراق الصوفية، ورأي الفقهاء والمصلحة لا النص والأثر ... إلخ . وهنا يصبح التراث دافعا على التقدم وليس معوقا له، جزءا من تاريخنا وحاضرنا واختيارا لمستقبلنا. ونكون مسئولين عنه ولسنا نقلة له، نطوره ولا نروج له «كالحمار يحمل أسفارا». ويكون للإسلام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي دلالة في حياتنا المعاصرة دون الإسلام الشعائري الفقهي المظهري، وأن يتحول هذا المشروع، مشروع إعادة بناء التراث إلى برامج علمية مفصلة في الجامعات ومعاهد البحث العلمي بل وفي أجهزة الإعلام كرافد أساسي في ثقافتنا الوطنية. ويدخل كجزء من برامج التعليم، ويكون لكل مادة تعليمية رؤية تراثية حتى العلوم الطبيعية والرياضية، الطب والكيمياء والصيدلة والحيوان والنبات، والهندسة والحساب والفلك والجبر والموسيقى حتى يحدث الإبداع دون النقل. ولا يكفي في ذلك نشر التراث وجمعه وعرضه وشرحه، بل استيعابه والوعي بمنطلقاته ودوافعه وبواعث خلقه.
1 (2) حرية الفكر
كي يكون للتراث الإسلامي دور في تطور فكر الأمة والدخول في تحديات عصرها؛ فإن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بحرية الفكر، فالصراعات قبل أن تكون اجتماعية سياسية اقتصادية هي صراعات فكرية بالأساس. وبالتالي يكون الفكر هو مرآة المجتمع، يقرأ فيه كل فرد مكوناته وواقعه. ولا يمكن أن تحدث رؤية أو يتحقق سلوك إلا بحرية الفكر، وإلا كان الصراع همجيا خالصا. وتتحقق حرية الفكر على النحو الآتي: (أ)
ضرورة اجتهادات الأمة كلها بجميع فرقها. فلا أحد يحتكر الحق ودونه الباطل. ثم يحدث حوار مفتوح بين جميع الفرق والاجتهادات؛ حتى يمكن أن تتوحد إن لم يكن على مستوى الأطر النظرية فعلى الأقل على مستوى البرامج العملية، فتعدد النظر ووحدة العمل أحد الدروس الفقهية القديمة. (ب)
عدم دخول الدولة كطرف في الحوار، تناصر فريقا دون فريق، تكفر فريقا وتعلن عن إيمان فريق. الدولة سلطة تنفيذية خالصة أما النظر والتشريع فمن شأن المفكرين أي فقهاء الأمة . (ج)
الحوار بين الحركة الإسلامية والحركة العلمانية، وهما الجناحان الرئيسيان في فكر الأمة. الأول يدافع عن الأصول والثاني يجتهد في الفروع، الأول يحرص على الجذور والثاني يقتطف الثمار. وطالما لم تتوحد الحركتان سيظل الشقاق في الأمة والخصام في وجدانها ويغيب الحوار، ويظهر العنف، والسباق نحو السلطة. (د)
حرية التفكير والتنظيم العلني الشرعي للحركة الإسلامية التي لاقت أشد صنوف العذاب والاضطهاد من الثورة العربية حتى أصبح بينهما ثأر لا يمحوه إلا الدم. فالفكر الإسلامي فكر شرعي، والتنظيم الاجتماعي القانوني للحركة الإسلامية تنظيم تاريخي، لم يغب مرة واحدة، بل إن الحكم الإسلامي حكم شرعي بنص القرآن وبضرورة التاريخ وبعد استيلاء الحركة العلمانية على مقاليد الحكم. (ه)
تكوين الجمعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية المستقلة التي تبدأ بالحوار وتطرح جميع الموضوعات دون خوف أو رهبة، حتى ما يظنه الناس على أنه من المقدسات أو المحرمات (التابو) كالدين، والسلطة، والجنس. وطالما قامت النهضات بل ووحدة الأمم من خلال الجمعيات والمنتديات، ويصحب ذلك حرية الاستيراد والتصدير للكتب والمجلات الثقافية على الصعيد العربي والإسلامي. فلا بقاء لنظام يخشى حرية الكلمة. (3) المحافظة على مقاصد الشريعة
Page inconnue