Études philosophiques (Partie II): Sur la philosophie occidentale moderne et contemporaine
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
Genres
1 (1)
هل نحن جيل الإحياء نعيش عصر الإحياء ونقوم بدور الإحياء؟ في حقيقة الأمر لقد مررنا بعصر الإحياء، وهو معروف في أدبنا الحديث بهذا الاسم ممثلا في البارودي أولا ثم في شوقي في «نهج البردة». وكان القصد منه إحياء الآداب القديمة والنسج على منوال القصيدة العربية، وإحياء المعارك العربية القديمة. وما زلنا نقوم بذلك حتى الآن، نطبع المعلقات السبع ونشرحها ونتناقش في صحتها وانتحالها، ونعيد النظر في المناقضات بين جرير والفرزدق، ونهاجم الأدباء الشبان الذين خرجوا على القصيدة العمودية، وندعو إلى أدب القدماء حتى انتصر القدماء على المحدثين، واستولوا على أعنة الأدب فهاجر المحدثون إلى الخارج أو إلى الداخل ريثما يوافي القدماء الأجل؛ وبالتالي لم ينشأ الاتجاه نحو المستقبل في حاضرنا نظرا لسيطرة القدماء على المحدثين، وامتداد الماضي على الحاضر والمستقبل. لقد استطاع الإحياء ولا شك بعث الماضي، وبث العزة القومية في لحظات الضعف والهوان أمام الاستعمار والاحتلال، تجاوزا لمظاهر التخلف والانهيار الحضاري وباعثا للنهضة الحديثة. كما استطاع ربط الحاضر بالماضي عن طريق الأدب خاصة في الشعر، وتحقيق التواصل الحضاري، وتثبيت الهوية القومية في اللغة والأدب، وتحقيق التجانس في الزمان عبر التاريخ. كما استطاع شعراء الإحياء تأسيس إبداع الحاضر على إبداع الماضي، والتعبير عن تجارب العصر في قوالب الماضي كما هو الحال في شعر البارودي وشوقي وحافظ على اختلاف النسبة بينهم بين الماضي والحاضر إذ إنه أقرب إلى الماضي عند شوقي وأقرب إلى الحاضر عند حافظ ووسط بين الاثنين عند البارودي. وأخيرا استطاع شعراء الإحياء المساهمة في الحركة الوطنية، سواء في الثورة العرابية كما هو الحال عند البارودي أو في الثورة الوطنية كما هو الحال عند حافظ، ومن ثم أصبح الشعر منبرا للروح الوطنية ومعبرا لها. ومع ذلك فقد اقتصر الإحياء على الأدب عامة والشعر خاصة دون باقي مظاهر الإبداع الحضاري في الفلسفة والعلم. فسبق الشعر وتأخرت الفلسفة. ولم يحدث حتى الآن إبداع ذو شأن في العلم. كما استمرت فترة الإحياء مدة أطول مما ينبغي بل إنها لم تنته حتى الآن. فما زلنا ندعو إلى إحياء التراث، نشرا وتحقيقا وبعثا وقراءة، ونجد فيه أنفسنا وهو بيننا. يدل على ذلك رواج كتب التراث دون غيرها. كما أن الإحياء في حد ذاته أقرب إلى القديم منه إلى الجديد بدليل ثورة الأدباء الشبان على شعراء الإحياء بالرغم من إبداعهم وقدراتهم الشعرية، ووجود صور أدبية جديدة ليست عند القدماء مثل المسرحية والرواية. وما زالت تصور دعوات الإحياء وكأنها فيها خلاصنا من مآسينا الحاضرة وتظهر مجلات الإحياء وصحف الإحياء. بل إن هذه الدعوة بالرغم من حدودها ما زال واقعنا التقليدي بنزوعه نحو الماضي وباستخدام الأنظمة السياسية لهذا النزوع تدعيما لها، فإنها ما زالت تمثل خطرا على الأنظمة السياسية. فإذا ما كانت الأنظمة القائمة نسبة الحاضر فيها أكثر من الماضي، والدعوة إلى الجديد أقوى من الدعوة إلى القديم، وأنصار المحدثين فيها أكثر من أنصار القدماء أصبحت مهددة بدعوى الإحياء الذي يكون في هذه الحالة ردة إلى الماضي ودعوة إلى القديم. وإذا كانت الأنظمة القائمة نسبة الماضي فيها أكثر من الحاضر والدعوة إلى القديم فيها أقوى من الدعوة إلى الجديد وأنصار القدماء فيها أكثر من أنصار المحدثين استغلت الإحياء واستعملته تدعيما للنظام ضد دعاة الجديد، وأصبحت دعوة الإحياء نفسها دعوة للرجعية والتخلف. وفي حقيقة الأمر لقد تجاوز جيلنا عصر الإحياء، ولم يعد إحياء الآداب القديمة يحتل بالنسبة له تلبية لكل حاجاته وتحقيقا لكل مطالبه في العقلانية والعلمية والثورة. بل إن مكتسبات الإحياء ذاتها مثل تذوق القديم قد افتقدناها فأصبح الشبان اليوم لا يتذوقون القديم ويقلدون الجديد؛ ومن ثم انتهى الإحياء إلى قطيعة في جيلنا واقتصر بعث القديم على النشر والتحقيق والطبع دون تذوق أو فهم أو تطوير.
2 (2)
هل نحن جيل الإصلاح، نعيش في عصر الإصلاح ونقوم بدور الإصلاح؟ وهي المرحلة التي اشتهرت في حياتنا المعاصرة باسم الإصلاح الديني والتي نتحدث عنها دائما والتي نربط أنفسنا بها باستمرار إذا ما أعيتنا الحيل، وتخبطت بنا السبل، وأرادت الأنظمة السياسية أن تجد لها شرعية تاريخية من الماضي أو تحديثية من الحاضر خاصة أن البعض منها كون رصيدا له في جيلنا من مناهضة الاستعمار والاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني للبلاد، لكن الإصلاح ما زال حركة نسبية على مستوى العقائد وعلى مستوى الممارسة في سلوك الأفراد وفي النظم الاجتماعية والسياسية تجاوزها واقعنا بمراحل وهو الذي في حاجة إلى إحكام نظري وإلى عمل ثوري جذري. فالإصلاح يدعو إلى ملكية مقيدة أو ملكية دستورية أو نظام المستبد العادل في إطار النظم القائمة، وإلى العدالة الاجتماعية في إطار توزيع الدخل القائم على أساس أخلاقي ديني. كما سادته بعض الجوانب التقليدية المحافظة في العقائد مثل الهجوم على النزعة المادية في «الرد على الدهريين»، في حين أن المنطق الإسلامي، كما بدا في علم أصول الفقه، منطق مادي يبحث عن العلل المادية الفاعلة والمؤثرة في السلوك الفردي والاجتماعي، ويقوم على الدفاع عن مصالح الأمة. لم يحدث تفسير ثوري للعقائد يتفق مع متطلبات العصر مما جعل المصلحين يبدءون ثوارا وينتهون مرتدين كما هو الحال مع محمد عبده والثورة العرابية. لم تتحول الشريعة إلى أيديولوجية سياسية شاملة، وغلبت العبادات على المعاملات، والواجبات على الحقوق. كما سادت الحركة بعض الجوانب الصوفية كما هو الحال عند إقبال في «تجديد التفكير الديني في الإسلام» وعند محمد عبده في «رسالة الواردات»؛ وبالتالي لم يتم التغلب على التصوف كأحد مظاهر التخلف الاجتماعي في حياتنا المعاصرة. لم يستقل العقل كلية بل كان عمله محدودا في نطاق العقليات، ولكنه في الشرعيات ما زال في حاجة إلى وصي وهو النبي مما جعلنا ما زلنا ندعو للعقلانية واستقلال العقل. ونظرا لحدود حركة الإصلاح وتجاوز واقعنا لها، فإن مكتسبات الإصلاح ذاتها التي بدت للجيل الماضي قد ضاعت في هذا الجيل، وتسربت منجزاته من بين أيدينا، وانهارت تحت أقدامنا، واختفت نداءاته من وعينا فعدنا إلى مرحلة ما قبل الإصلاح وعيا وواقعا. انتهت العقلانية المحدودة التي كانت في العدل دون التوحيد، وتحولت إلى صوفية إلهامية. وساد التصوف على الأشعرية بعد أن ازدوجا في وعينا القومي منذ ألف عام منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس الهجري. وانتهى التجديد النسبي إلى محافظة وتقليدية، وسادت روح المحافظة كتيار أساسي وجذري في التاريخ على روح المعاصرة التي تعبر عن متطلبات جيل واحد. وخمدت الروح الثورية لمناهضة الاستعمار والتسلط وتحولت إلى نقيضها من موالاة للاستعمار وقبول لمظاهر الطغيان. وتفتتت الأمة وقضي على الوحدة الشاملة ابتداء من وحدة مصر والسودان، وحدة وادي النيل ، أو وحدة مصر والشام، أو وحدة المغرب العربي أو وحدة الأمة العربية أو الجامعة الإسلامية أو الجامعة الشرقية، وحلت محلها الروابط والمؤتمرات والجامعات الشكلية بل ومصالح المتجرين بالدعوات. توقفت الدعوة إلى العلم وسادت الخرافة وأعطيت الأولوية المطلقة للإيمان على العلم. وانتهت الدعوة إلى القوة والصناعة، وتحولت إلى الاعتماد على الغير واستيراد المصنوعات، وتوارت الصناعات الوطنية، وخبا من وعينا الاستقلال الوطني وعدم الانحياز للشرق أو للغرب، وقبلنا الدخول في سياسة الأحلاف ومناطق النفوذ والمعسكرات والتكتلات. فنحن إذن جيل الإصلاح الذي لم يتم، نشاهد نهاية الإصلاح وانقلابه إلى الضد مما يجعلنا في حاجة إلى إصلاح أكثر جذرية وشمولا وعمقا وتأثيرا، يبقى ويدوم، ويتأصل في نفوس الجماهير، وتحميه بسواعدها، يرضي جماهير المثقفين، ويشبع فيهم الطموح النظري، ويكون قادرا على تحدي الأيديولوجيات المعاصرة بإحكامه النظري وتأصيله التاريخي، وقدرته على تلبية مطالب العصر، والاستجابة لحاجاته، والتأثير في الناس، وتجنيدهم له. لقد تجاوزنا جيل الإصلاح حتى قبل أن ينتهي، هذا الجيل الذي تركناه وراءنا بأربعة أجيال.
3 (3)
هل نحن جيل النهضة، نعيش عصر النهضة، ونقوم بدور النهضة؟ لقد ظهر هذا المفهوم في حياتنا منذ رفاعة رافع الطهطاوي وتأسيسه لحركة النهضة الحديثة وبناء الدولة العصرية كما وضح ذلك في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية». وقد استطاعت النهضة ولا شك إرساء قواعد الإصلاح الشامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون. كما استطاعت أن تبني الدولة الحديثة صناعة وزراعة وتجارة، وأن تكون لها الكادر الفني المؤهل لها، وأن تستمر هذه الدولة حتى جيلنا. كما قامت على الولاء الوطني وإذكاء الروح الوطنية وتربية المواطنين على أن «حب الوطن من الإيمان»، لا فرق في ذلك بين البنين والبنات. كما قامت على الحرية والعدل والمساواة وانتشار هذه الأفكار مما سبب قيام حركة تنوير حديثة. ومع ذلك ظلت هذه الحركة نسبية في حياتنا دون أن تحدث أثرا فعالا مستمرا. ظلت في نطاق المثقفين، ولم تتحول إلى حركة جماهيرية عامة، وظلت قاصرة على أيديولوجية الصفوة. ظلت في إطار الدولة القائمة التي استفادت منها ولكنها سرعان ما انقلبت عليها دفاعا عن الحاكم الذي استبد. ظلت أشعرية في تصورها للعالم، ولم تستطع تأصيل نهضتها من خلال التنوير القديم الذي مثله الاعتزال، وكانت في كثير من الأحيان وعلى ما يبدو أثرا من آثار الغرب بوجه عام والثورة الفرنسية بوجه خاص؛ لذلك سرعان ما انتهت من حياتنا، وخبت من وجداننا القومي، حتى إن إيجابياتها ومكتسباتها وإنجازاتها قد تحولت إلى نقائضها. فقد تحولت النخبة المثقفة إما إلى طبقة حاكمة تركت الثقافة إلى الحكم، وتحولت إلى طبقة من الفنيين أو إلى مجموعات منعزلة لا أثر لها في الحكم، تعيش من الثقافة على هامش الدولة. ونادرا ما وجد المثقف المؤثر الذي سرعان ما يصطدم بالنظام وينتهي إما بالاستشهاد أو الهجرة إلى الداخل أو الهجرة إلى الخارج. انتهت النهضة الشاملة، وحدث انفصام بين التحديث والنهضة، وكلما زاد التحديث الخارجي قويت المحافظة الداخلية نظرا للجذور التقليدية التي تكمن وراء النهضة. كما انتهت الدولة الحديثة وتحولت إلى دولة تقوم على حكم الفرد، وحكومة العسكر، سوقا للأسواق العالمية، ومنحازة للغرب، تستجدي السلاح بعد أن كانت تصنعه، وتستورد التحديث بعد أن كانت من رواده. كما ضاع الولاء للوطن وحل محله الولاء للأجنبي. وانتهت مثل الحرية والعدالة والمساواة، وانقلبت إلى نقائضها مثل التسلط والظلم والتفاوت الطبقي. وظلت النهضة حاليا مجرد أمل يحدو البعض، وكلمة ترددها الألسن، وأصبح أقصى آمالنا أن نلحق بنهضة الأجيال السابقة مع أن واقعنا قد تجاوزها بمراحل بعد ضياع الأرض والثروات ويأس الجماهير وخوفها وضياع كرامة الفرد وإنسانيته.
4 (4)
هل نحن جيل العقلانية، نعيش عصر العقلانية، ونقوم بدور العقلانية؟ تتمثل الدعوة العقلانية في كل التيارات الفكرية الحديثة في حياتنا المعاصرة. فهي القاسم المشترك بين الإصلاح الديني والفكر العلماني والتيار الليبرالي. أحيانا يكون العقل مرتبطا بالدين، وتكون العقلانية فهما مستنيرا للدين، وتكون فيه الأولوية للعقل على النقل. وقد يضم العقل إلى الوجدان فيكون مثالية وجدانية مثل «الجوانية» تطويرا للإيمان الديني. وقد يرتبط العقل بالحس والمشاهدة والاستدلال والاستنباط والاستقراء والبحث عن العلل، فهو أساس التفكير العلمي. وقد يتوجه نحو التجربة الإنسانية فيكون دعوة إلى التأمل والتفكير وتحليل التجارب البشرية لمعرفة ماهياتها والواقع من خلالها. وما زالت الدعوة قائمة فينا حتى اليوم لإقامة مجتمع عقلاني، وتأسيس حياتنا العامة على العقلانية. وبالرغم من صحة الدعوة وصدقها على مستوى النظر إلا أنها أصبحت شماعة سهلة لتعليق كل أخطاء العصر على غيابها، ومفتاحا سحريا يحل كل أزمات العصر حتى تحولت إلى مجرد كلمة تتناقلها الألسن، وتتراشق بها الأفواه. دخلت في أجهزة الإعلام، وتحولت إلى شعارات فلسفية واجتماعية، ومقالات صحفية حتى فقدت أي أثر لها، وتحولت إلى تجارة ودعاية مثل كل الدعوات الحديثة. كما أنها اقتصرت على التوجيه العام دون أن تتحول إلى برامج تفصيلية وتخطيط لمظاهر الحياة العامة على أساس عقلاني. فماذا يعني الاقتصاد العقلاني؟ والسياسة العقلانية؟ والاجتماع العقلاني؟ والقانون العقلاني؟ والفن العقلاني؟ ولم تخل الدعوة من بعض تقليد للغرب دون أن تكون تأصيلا لعقلانية التراث وتطويرا لها. والعقلانية في نهاية الأمر ابتسار للنهضة لأن العقلانية أحد مظاهر النهضة، والنهضة أوسع منها وأشمل، ولا يمكن رد الكل إلى الجزء. ومع ذلك فقد ضاعت منا مآثر العقلانية ومنجزاتها في حياتنا الفكرية والسياسية. وتحولنا إلى الإشراقية والإلهامية والكشفية والمعارف اللدنية. وتحولنا من عقلاء إلى دراويش، ومن علماء إلى أولياء، ومن طلاب وأساتذة إلى مريدين ومشايح. وما زالت الدعوة قائمة تتكرر كل يوم ولا تؤدي إلى شيء. والعقل المبتسر من الواقع الحسي والنقد الاجتماعي والتغيير الفعلي والثورة الشعبية فإنه عقل فارغ صوري يؤدي إلى الهروب أكثر مما يؤدي إلى الاقتحام. إن مهمة جيلنا قد تجاوزت الدعوة إلى العقل والعقلانية نظرا لضرورة توجيه العقل إلى الماضي في نقد الموروث وإلى الحاضر في نقد المجتمع وإلى المستقبل في الإعداد للثورة.
5 (5)
هل نحن جيل التنوير، نعيش عصر التنوير، ونقوم بدور التنوير؟ والتنوير هو العمل الشامل للعقل، وامتداده في شتى نواحي الحياة، وأثر من آثار العقل، وأحد نتائجه، وتطبيق لمبادئه، وتوسيع لدائرة نشاطه، وتحقيق لمنجزاته. وقد كانت الدعوة إلى التنوير مواكبة للدعوة إلى العقل وأحد مظاهرها. وقد اشتدت بعد الهزائم العربية الأخيرة، وكثر الداعون لها بل ونشأت حركة تنوير فعلية عامة تضم كافة الاتجاهات الفكرية والوطنية في تاريخنا الحديث. وبالرغم من أهمية الدعوة وجدواها، والخروج بالعقل من المنهجية العلمية إلى الحياة العامة إلا أنها محدودة الأثر، مغلقة الحدود، تتمثلها مجموعة من الأفراد، وليست تيارا حضاريا عاما يعبر عن روح العصر أو حركة جماهيرية شعبية تحدد مسار التاريخ. هي رد فعل على هزائم العصر أكثر منها فعلا إراديا فرديا وجماعيا خاصة بعد هزيمة أيديولوجيات التقدم؛ الماركسية والناصرية والقومية التي سادت جيلنا وإحساسها بنقصها في عدم العقل والحرية. هي دعوة مجتثة الجذور عن الجماهير خاصة وأن كثيرا من دوائرها تتركز خارج العالم العربي في الغرب، حيث يسهل الدعوة إلى التنوير في العالم الثالث. ففي الغرب تكون الحرية وتتمركز جماعات الحرية حتى لقد اتهمت بتأييد الغرب لها إذ رآها الغرب بديلا وحليفا. هذا بالإضافة إلى غياب برامج مفصلة. ماذا يعني التنوير في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وكأنها مجرد دعوة ثقافية إصلاحية عامة؟ لم تتأصل الدعوة في تراثنا الاعتزالي الذي كان يقوم بمهمة التنوير في مواجهة الأشعرية التقليدية المحافظة. ومع ذلك فالدعوة إلى التنوير الشامل وإطلاق العقل من عقاله وتسليط نوره على النظم السياسية والاجتماعية والعادات والعرف والتقاليد والعقائد الموروثة، مرحلة تاريخية يمر بها كل مجتمع يتجه من التقليد إلى التحرر؛ فهي تجعل العقل والبرهان معيار الصدق، وتواجه الرأي بالرأي، ولا تواجه الرأي بالسيف، والفكرة بالمقصلة، والدليل بالاعتقال، والبرهان بالتعذيب. تحترم الآراء الأخرى، وتدافع عن حريات الآخرين. فحرية الفكر قيمة في ذاتها، أحد حقوق الإنسان. لا بد من تحول التنوير إلى نظرة إلى الحياة اليومية، ونظرة تقدمية إلى الأوضاع الاجتماعية حتى يتحول بعد ذلك إلى ثورة فعلية. ومع ذلك ضاعت منجزات التنوير النسبية، ووقع جيلنا في التعتيم والإظلام، فلا يحتكم إلى العقل، وتسيطر على حياته الإرادة المشخصة للحكام أو العرف والعادات والتقاليد. وتظهر المحافظة التقليدية كوريث وحيد للتاريخ. وقد تجاوز جيلنا التنوير كحركة ثقافية إلى التنوير كحركة اجتماعية نقدية تمهد للثورة وترسي قواعدها ، وتهيئ ظروفها، وتضع شروطها. فالتنوير في هذه الحالة يكون وعيا اجتماعيا لحركة التاريخ.
Page inconnue