248

Études sur la Muqaddima d'Ibn Khaldoun

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

Genres

ولا يكتفي ابن خلدون بهذه الدلائل العقلية والنقلية، بل يستشهد على هذه القضية بوقائع تاريخية؛ من فتنة طاهر في بغداد أيام الأمين والمأمون، إلى خروج التوبذري في سوس، ودعوة العباس في الغمارة، في العصر الذي عاش فيه المؤلف نفسه.

يعتقد ابن خلدون أن بعض هؤلاء الدعاة كانوا مخلصين في قيامهم، وكانوا يقصدون حقيقة إقامة الحق والنهي عن المنكر، غير أنهم لم ينجحوا في دعوتهم؛ لعدم معرفتهم ما تحتاج إليه مثل هذه الدعوات من العصبية.

غير أنه يرى - في الوقت نفسه - أن أكثر هؤلاء الدعاة كانوا موسوسين، أو مجانين، أو ملبسين، وهؤلاء الأخيرون كانوا «يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم، وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية، فيحسون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك، ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة، فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة، وتسوء عاقبة مكرهم» (ص161). (2)

بينما يقرر ابن خلدون - من جهة - ضرورة العصبية للدعوة الدينية - كما أسلفنا، يلاحظ من جهة أخرى نوعا من المشابهة بين تأثير الدين، وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية:

لأن الديانة تؤلف القلوب، وتوجهها إلى «وجهة واحدة»، وتذهب بالتنافس والتحاسد، وتؤدي إلى اتفاق الأهواء، وتحمل على التعاون والتعاضد (ص157).

وإذا تذكرنا ما قاله ابن خلدون عن الدور الذي تلعبه العصبية في حمل الناس على التعاون والتعاضد؛ فهمنا بكل جلاء أن عمل الدين في هذا الصدد يشبه عمل العصبية؛ ولهذا السبب يقول ابن خلدون بصراحة تامة: «إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على العصبية التي كانت لها من عددها» (ص158).

كما يقول: «إن الاجتماع الديني يضاعف قوة العصبية.»

فإذا حصل «الاجتماع الديني» في قوم من الأقوام ضمن لهم التغلب على من هم أوفر عددا، وأقوى عصبية منهم إذا ما فقد القوم بعدئذ هذا «الاجتماع الديني»، وبتعبير آخر: «إذا حالت صبغة الدين وفسدت» عند هؤلاء؛ زال التغلب الذي كان قد حصل بفضل ذلك الاجتماع، وبتأثير تلك الصبغة؛ عندئذ «ينتقض الأمر، فيصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين»؛ فتتغلب على «الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها، أو الزائدة القوة عليها»، بعد أن كانت الدولة المذكورة قد «غلبتهم بمضاعفة الدين لقوتها»، على الرغم من أنهم كانوا «أكثر عصبية وأشد بداوة منها» (ص158).

يستشهد ابن خلدون على ذلك بوقائع تاريخية عديدة كلها مستنبطة من تاريخ الإسلام، ويذكر على الأخص «ما وقع للعرب في صدر الإسلام» بالقادسية واليرموك، حيث غلبت جيوش المسلمين «جموع فارس وجموع هرقل»، مع أن عددهم كان بضعة وثلاثين ألفا، في حين أن جموع فارس كانت نحو مائة وعشرين ألفا بالقادسية، وجموع هرقل كانت - على ما قاله الواقدي - أربعمائة ألف باليرموك.

كما أنه يذكر ما حدث بين المصامدة وزنانة في دولة الموحدين: «لما كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحشا، وكان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي، فلبسوا صبغتها، وتضاعفت قوة عصبيتهم، فغلبوا على زناتة أولا فاستتبعوهم، وإن كانوا من حيث العصبية والبداوة أشد منهم. فلما خلوا من تلك الصبغة؛ انتفضت عليهم زناتة من كل جانب، وغلبوهم على الأمر، وانتزعوه منهم» (ص158). (3)

Page inconnue