La religion : recherches préliminaires pour l'étude de l'histoire des religions
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Genres
فالواقع أن الحالات الثلاث التي يصورها «كونت» لا تمثل أدوارا تاريخية متعاقبة، بل تصور نزعات وتيارات متعاصرة في كل الشعوب، وليست كلها دائما على درجة واحدة من الازدهار أو الخمول في شعب ما، ولكنها تتقلب بها الأقدار بين بؤسى ونعمى، ونحوس وسعود.
بل نقول: إن هذه النزعات الثلاث متعاصرة متجاورة في نفس كل فرد، وإن لها وظائف يكمل بعضها بعضا في إقامة الحياة الإنسانية على وجهها، ولكل وحدة منها مجال يوائمها، ففي الوقت الذي نفسر فيه الحوادث العادية بأسبابها المباشرة، خارجية أو داخلية، فنقول: هلك فلان بضربة سيف أو بالشيخوخة أو المرض، لا يزال كل واحد منا يفسر الحوادث الشاذة الخارقة بالقضاء والقدر، أو بسبب غيبي مجهول.
بل نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقرر أن النظرة الوقوعية تقع في مبدأ الطريق لا في نهايته، وأنها تمثل مرحلة الطفولة النفسية، لا مرحلة النضج والكمال، ذلك بأن مبعثها الحاجة العاجلة وضرورة الحياة اليومية، وبأنها وظيفة الحس لا العقل، وبأنها من معدن القابلية والانفعال، لا من معدن الفاعلية والإنشاء.
أما نظرة التعليل بالمعاني العامة فإنها تنبثق في النفس على أثر ذلك، متى استيقظت ملكتا التجريد والتعميم في التصورات والأحكام، فلا يكتفي الذهن حينئذ بجمع الحوادث المترابطة في سلسلة متعاقبة، كما تجمع الأعواد في الحزمة، بل يحاول ربطها برباط معنوي تدور في فلكه، ويكون كالسلك الداخلي الذي ينتظم حبات العقد.
ونؤكد أن المعارف الإنسانية لا تستحق اسم العلم حتى تأخذ بنصيب قليل أو كثير من هذا التجريد والتعميم، الذي يضع كل مجموعة في نطاق يضبطها، تحت لقب مشترك يسهل به استحضارها ويكون لها بمثابة قانون كلي تعلل به جزئياته، بل العلوم الواقعية تسعى الآن جاهدة للاندماج برمتها في منظمة تنسقها وتخضع جميع ظواهرها لناموس واحد، وهذا هو ما يسمى بمبدأ «وحدة الوجود» بمعناه العلمي
Monisme Scientifiqus ، وسواء أبلغت العلوم هذا الهدف قريبا أو بعيدا أم لم تبلغه أبدا، فالذي لا شك فيه هو أن هذه النزعة إلى استنباط المعاني الكلية لم تفتر بل تزداد قوة.
بقيت النظرة الروحية، أو الدينية، وواضح أنها لا تولد في النفس إلا حينما يتسع أفقها، فتتجاوز الكون بظاهره وباطنه إلى ما وراءه، فهي أوسع النظرات مجالا، وأبعدها مطلبا.
وهكذا ينقلب الترتيب الذي تخيله الفيلسوف رأسا على عقب، وتعود الحاجات النفسية الثلاثة إلى أوضاعها الطبيعية المعقولة: حاجة الحس، فحاجة العقل، فحاجة الروح، وإن شئت قلت: حاجة الحس، فحاجة العقل القانع، فحاجة العقل المتسامي. (1-2) التدين نزعة خالدة
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو الوضع التقويمي لكل واحدة من هذه النزعات، وإنما هو دخولها جميعا في كيان النفس الإنسانية، فكما أننا لا نجد أمارة واحدة تدل على قرب زوال النزعة الاستقرائية، أو النزعة التعليلية، كذلك لا نرى أمارة واحدة تشير إلى أن فكرة التدين ستزول عن الأرض قبل أن يزول الإنسان. (2) شهادة العلماء
يقول سالمون ريناك: «ليس أمام الديانات مستقبل غير محدود فحسب؛ بل لنا أن نكون على يقين من أنه سيبقى شيء منها أبدا؛ ذلك لأنه سيبقى في الكون دائما أسرار ومجاهيل، ولأن العلم لن يحقق أبدا مهمته على وجه الكمال.»
Page inconnue