La religion, la science et l'argent
الدين والعلم والمال
Genres
فلفت حليم نظره إلى حيث أشار صديقه فتمشى قلبه في صدره لمنظر رآه بعيدا، ذلك أنه شاهد خمسة جياد عليهن خمس فتيات يركضن عليهن خببا، فطار نظره في الحال إلى التي تلبس ثوبا أبيض بينهن، فرآها تسير في الوسط وهي أخفهن حركة وجوادها أسرع خطى، فلبث شاخصا نحوها، أما صديقه فتركه في مناجاته ولم يزعجه هذه المرة بالمزاح الثقيل لأنه كان يعلم أن النفوس الحساسة المخلصة لا تطيق المزاح أحيانا في بعض الأشياء، ذلك أن المزاح سهم يخدش دائما وإن كان خدشه خفيفا، والرجل الكريم يغار على ما هو نفيس عنده ومحبوب أن يخدش حتى بوردة، ومن الغريب أن سؤالا واحدا كان في تلك البرهة يشغل فكر حليم وفكر صديقه معا، وهذا السؤال هو: هل تلتفت الفتاة إلى النافذة أم لا، إلا أن حليما كان يشك في التفاتها، وأما صديقه فإنه كان على يقين منه، ذلك لأنه رأى منها في البستان الذي شاهداها فيه مع رفيقاتها قبل وصولهما إلى هذه القرية ما لم يره حليم منها، وكانت عالمة أنهما سينزلان في ذلك المنزل، ولكن مع ذلك صدق ظن حليم وخاب ظنه هو، فمرت الفتاة مع رفيقاتها في الطريق البعيدة دون أن تلتفت إلى النافذة.
كان حليم شابا كريما، وكان قد صرف عمره في مطالعة الكتب وانتقاد أحوال الاجتماع، ومن سوء حظه لم تعرض في طريقه فتاة تريه خطأ ذلك الانتقاد، ولذلك كان حليم إلى تلك الساعة بلا حب، ولكن لا يجب أن يستدل بهذا القول على أن قلبه كان جامدا كالحجارة ولذلك لم يتحرك قبل الآن، كلا، إن قلب حليم كان بسلاسة الماء ولطف النسيم ولين الشمع، ولكنه لم يكن يجد في طريقه من تقدر أن تؤثر عليه وتحرك هذا القلب، فهل الذنب ذنبه في هذا الأمر أم ذنب الناس، وكيف تريدون من النار أن تشتعل إذا لم يكن هنالك حرارة للإشعال، أو من الحديد أن يجذب إذا لم يكن هنالك مغناطيس للجذب، وقد كان يقال له أحيانا: كيف يمكن أن تحب وتتزوج إذا بقيت بعيدا عن الناس كما أنت، هل الحب هواء يطير ويدخل في الأجسام ليأتيك وأنت بعيد عنه بين المحابر والألوان والأقلام، كلا، إذا فعاشر وساير إن رمت أن تحب، أما هو فقد كان يجيبهم باسما: إنني من الذين يقرأون الرسالة من العنوان ويعرفون الشجرة من الثمرة، فأنا في واد ونساؤكم وبناتكم في واد، على أنني لست ألوم النساء إذا لم يفهمن أخلاقي وعواطفي ما دام الرجال أنفسهم لا يفهمونها، فالانفراد عن هذه الهيئة الباطلة الكاذبة التي نعيش فيها غير مبالين بها ولا بمسراتها ولا بآمالها - لأنها تختلف عن مسراتنا وآمالنا - خير من الانضمام إليها وسريان عدواها إلينا.
ولذلك كان حليم يقابل السيدات بلا مبالاة ولا مجاملة كما يقابل الرجال، وبينما كنت ترى جميع الشبان في الحفلة يطوفون بكراسيهم أجمل السيدات والبنات ويبذلون جهدهم في خدمتهن كأنهم كلاب صيد لا شأن لهم في الجلسة إلا إحضار ما يطلبنه أو ندامى لا غرض لهم إلا بسطهن وتسليتهن - كنت ترى حليما جالسا في زاوية يضحك من أولئك وهؤلاء، ويتسلى بمراقبة الحركات الباردة والكلمات الشاردة والنظرات المجاهدة، وعند كل واحدة منها كان يضحك في نفسه ويقول: ما أكذبك أيها الإنسان.
ولكن لما قدم حليم في هذه المرة إلى هذه القرية قاصدا السياحة في المدن الثلاث ووجد في طريقه قبل الوصول إلى القرية تلك الفتاة بين رفيقاتها، تغير وجه المسألة في نظره، والغريب أن هذا الوجه قد تغير بلا سبب مغير أي من غير أن يحادث حليم هذه الفتاة ويختبر أخلاقها ليعرف ما وراء جمالها وهل هي أرقى من بنات بلده حقيقة لتستحق ميله وحبه، فهل ترى كان ذلك التغيير من تأثير السفر على الأخلاق لأنه يهيئها لقبول كل تأثير يعرض لها لأنها تكون في حاجة إليه في غربتها؟ أم ذلك لميل النفوس دائما إلى البعيد ونبذها القريب المألوف طبقا لقول العامة: «الدير القريب لا يشفي»؟ أم ذلك لأن عواطفه المضغوطة في قلبه قد وجدت هذه المرة منفذا ففاضت رغما عنها إذ طال بها عهد انتظار الحب وهو لا يأتي؟ أم ذلك لأن علم حليم بأن تلك الفتاة من إحدى المدن الثلاث قد جعل لها في نفسه مكانا سنيا في الحال فنظر إليها بعين الكمال بعد أن كان ينظر إلى بنات جنسها بعين النقص؟ أم ذلك لأن كهربائية حليم وكهربائية الفتاة قد اتحدتا لأول نظرة؛ لأنهما خلقا ليتحدا معا طبقا لاعتقاد بعض المتقدمين بأن الله يصنع النفوس أنصافا أنصافا وأن الحب هو عبارة عن وجود النفس نصفها الثاني المكمل لها؟
الفصل الثالث
المدن الثلاث
مدينة المال، مدينة العلم، مدينة الدين
وفي صباح اليوم الثاني استعد حليم ورفيقه صادق للدخول إلى المدن الثلاث، فنهض حليم إلى ثيابه يصلحها بتأنق خلافا للعادة، فنظر إليه صديقه وابتسم، فعبس حليم قليلا وقال له: يظهر أن صحبتك ستكون ثقيلة قليلا بعد الآن، فأجابه رفيقه: قل ما تشاء في ذمي ولومي ودعني أرى فيك ما لم أره قبل الآن، وهو اهتمامك بظاهرك، فقال حليم: وقد رام تغيير الحديث: بأي مدينة نبتدئ؟ فابتسم رفيقه وأجاب: هل من حاجة للسؤال فإننا سنبدأ بمدينة المال، ففهم حليم حينئذ أنه انتقل من الرمضاء إلى النار فأجابه ضاحكا ومتوردا خجلا: حقا إنك لا تستطيع ترك المزاح.
وما طلعت الشمس في ذلك النهار تبعث إلى الخليقة حرارتها المحيية ونورها المنعش حتى خرج حليم وصادق من القرية وقصدا المدن الثلاث، فوجدا في الطريق الزراع خارجين إلى حقولهم وبساتينهم، والرعاة يسوقون مواشيهم إلى مراعيها الخصيبة وفي مقدمتها ومؤخرتها الكلاب لحراستها وهم سائرون وراءها في أيديهم قصب رخيم الصوت ينفخون به نفخا يذكر السامع نفخ مزمار الرعاة في جبال لبنان وأوديته أو غناء الرعاة في عصر الإله أبولون لما نزل إلى الأرض وجعل نفسه راعيا وعلم الرعاة أناشيد الآلهة، ثم سارا بضع خطى فوجدا أعمى يستعطي جالسا تحت سياج بستان على الطريق ووراء السياج في داخل البستان رجل في يده كيس كبير يملأه من الثمار، والقلق باد على وجهه مما يدل على أنه يسرق تلك الأثمار، ثم بعد برهة شاهدا صيادا يطارد الطيور ليصطادها رغبة في لحمها ويترك بعد ذلك صغارها تنتظرها في أعشاشها حتى تموت بردا وجوعا، وبعيدا في رأس شجرة منفردة صبي لا يتجاوز عمره عشر سنوات ينصب قضبان دبق للطيور ليمسكها بها، وقريبا من هذه الشجرة رجلان كل منهما آخذ بخناق رفيقه وهما يتشاتمان ويتضاربان بحدة وجنون كأنهما كلبان يقتتلان على عظمة، وفي الجانب الآخر وراء جذع شجرة فتى يرافق فتاة لا هي أخته ولا هي نسيبته.
فلما شاهد حليم هذه المشاهد قال في نفسه باسما: نحن في واد والعصر الذهبي في واد، فإن هذه المصائب والقبائح تدل على أننا قرب مدن كالمدن المألوفة الاعتيادية.
Page inconnue