La religion de l'homme
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Genres
لقد كان من الضروري أن نتوقف هذه الوقفة الطويلة نسبيا عند أفكار فريزر كما بسطها في غصنه الذهبي؛ لما كان لآرائه من تأثر كبير في حقل دراسة الدين وأصوله. ورغم أن كتاب فريزر، الذي اكتملت أجزاؤه الاثنا عشر في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لم يؤثر كثيرا على علم الأنتروبولوجيا، إلا أنه يعتبر أعظم آثار المدرسة التطورية طرا، وكان له سلطان على الدراسات الكلاسيكية وعلى الآداب والفنون في الثقافة الغربية المعاصرة. وقد كان للغصن الذهبي تأثير مباشر على مدرسة التحليل النفسي، وبشكل خاص فقد أثر كتابه الآخر
Totem and Exogamy (1910م) على كتاب فرويد الشهير
Totem and Taboo (1913م)، الذي يعتبر إلى جانب كتابيه الآخرين
The Future of an Illusion
و
Civilization and its Discontent
بمثابة مساهمة فرويد الخاصة في المدرسة التطورية، وربما آخر إنجازاتها الكبيرة.
إن التمييز الحاد الذي وضعه فريزر بين السحر والدين، يأتي نتيجة لفهمه الخاص للدين ولما هو ديني؛ فلقد أوضح منذ البداية أنه لا يرى دينا إلا عندما يرى طقوسا تتوسل إلى كائنات روحية فوق طبيعانية تتحكم في مظاهر الطبيعة، وأن الدين لم يبتدئ في تاريخ الإنسان إلا مع ظهور الآلهة المشخصة. وقد قاده ذلك، كما هو متوقع، إلى اعتبار كل معتقد وطقس سابق على ذلك، بمثابة معتقد سحري وطقس سحري لا يمت إلى الدين بصلة. ولكن استقصاءنا عبر الفصول السابقة، قد قادنا إلى رؤية مختلفة تماما لعلاقة الدين بالسحر، فكما أشرت باقتضاب وفي أكثر من موضع، فإن الدين لم ينشأ عن السحر؛ لأنه لا فرق بين السحر والدين عند منابت وجذور الثقافة الإنسانية، وليس الذي يدعوه فريزر سحرا إلا شكلا أصليا وأوليا من أشكال الدين، سابقا على ظهور الشخصيات الإلهية في المعتقدات الدينية للإنسان؛ فالساحر الذي يتوسط بين الأسباب ونتائجها، لا يعتمد مبدأ ميكانيكية الطبيعة وخضوع عملياتها لقوانين ثابتة، كما يرى فريزر ومن يردد مثل أفكاره إلى الآن، بل على مبدأ القوة السارية الذي يربط عالم الظواهر، ويكمن خلف تسلسل الأحداث في الطبيعة. والقوى التي يعتمد عليها الساحر هي قوى دينية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
إن أي مخلوق منتصب على قائمتين، وذي دماغ يعادل وزنه ما للغوريلا والشيمبانزي، لن يمكنه التصديق، اعتمادا على تجربته المباشرة مع الطبيعة، بأن تقليد حادث ما يمكن أن يؤدي إلى وقوعه. ومع ذلك، فقد رأينا أن الإنسان الأول كان يقلد في حركات طقسية سقوط الطرائد صرعى حرابه قبل التوجه إلى حقل الصيد، ورأينا أن الإنسان البدائي يقلد صوت سقوط المطر بأدوات طقسية متنوعة استجلابا للمطر، فكيف توصل الإنسان إلى ابتكار هذه الممارسات التي تتعارض من حيث الظاهر مع كل تجاربه العملية؟ في الحقيقة، لقد طور الإنسان منذ عصور وعيه المبكرة مفهوم السببية تدريجيا، من خلال مراقبته للعمليات الجارية من حوله؛ فالحرارة تسبب الحريق، والماء يطفئ النار، والسحاب ينزل المطر ... إلخ، إلا أن ما يميز مفهوم السببية عند الإنسان القديم عن مفهومه عند الإنسان الحديث، هو أن الإنسان الحديث يعزو الأثر الذي ينتقل بين السبب والنتيجة إلى خصائص كامنة في طبيعة الأشياء، أما الإنسان القديم فيرى أن العنصر الفاعل وراء السببية هو قوة تنقل الأثر من السبب إلى النتيجة، وتتوسط بين طرفي الحادث. من هنا فإن طقس المحاكاة الديني أو السحري، هو إجراء يهدف إلى التأثير في القوة من أجل دفعها إلى إحداث النتيجة المطلوبة، وهو يشبه فعل الصلاة أو تقريب القرابين في الأديان التي تجزأت فيها القوة الأصلية إلى عدد من القوى الإلهية المشخصة. وفي الواقع، فإن ظهور الآلهة المشخصة في تاريخ الدين هو الذي أدى إلى استقلال السحر عن الدين، حيث توجهت طقوس الدين إلى الآلهة، وبقيت طقوس السحر تدور حول المفهوم القديم للقوة السارية، بعد أن ابتعد هذا المفهوم عن بؤرة الحياة الدينية، وتحول إلى إحساس بقوى غامضة مؤثرة في الطبيعة.
غير أن التحول من طقوس التأثير في القوة وما تقوم عليه من معتقدات، إلى طقوس التضرع والصلوات وتقريب القرابين إلى الآلهة، لم يتم إلا ببطء شديد، وبقيت طقوس التأثير في القوة التي ندعوها سحرية قائمة بقوة في قلب الديانات التي تقوم على الإيمان بالآلهة المشخصة، ويمكن في هذا المجال إيراد الكثير من الأمثلة.
Page inconnue