La religion de l'homme
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Genres
3
وحول الفكرة نفسها يقول كلود روي، وهو واحد من الدارسين المهمين للفنون البدائية: «لا يمكن أن يدعى أي فن فنا متوحشا (=
Savage ) إلا بالقدر الذي نشارك فيه نحن بوهم الوحشية، ولا يمكن أن ندعو أي فن بدائيا إلا إذا نسينا صلته العميقة بكل من عبر بالرموز والصور عن مشكلاتنا الإنسانية المشتركة في الحياة والفكر. ورغم أن الأنتروبولوجيين هم أول من خطر ببالهم إطلاق اسم متحف الإنسان على متحفهم في مدينة باريس، وهو اسم جميل حقا، إلا أن الاسم نفسه ينطبق على كل متحف في العالم. ويمكننا أن نتخيل متحفا واحدا ضخما للإنسان يشتمل على التنوع اللانهائي للبشرية. في هذا المتحف لا يعتبر قناع من صنع قبيلة الدان أجمل من لوحة كورو المسماة امرأة باللون الأزرق، ولا تمثال برونزي صغير من ساردينيا صنع قبل الميلاد بألف سنة، أجمل من تمثال صنعه رودان في أيامنا. إن نوعية الحياة الإنسانية لا يمكن أن تقاس كميا بالآلات ولا بالأرقام، وما دام العمل الفني هو العمل الإنساني الذي يدوم، فإنه هو الذي يجسد لنا فن الحياة الذي خلقه لنا أناس لا نعرف عنهم شيئا بدونه.»
4
ويقول دارس مهم آخر لفنون ما قبل التاريخ، وهو أندرياس لوميل: «إن تعليل تلك النوعية العالية لفن الكهوف هو أمر يتأبى علينا، وبكل سر وسحر. ويفضل البعض عدم التفكير بهذه المسألة جملة وتفصيلا؛ لأنها تطرح على دارسي ما قبل التاريخ، وبشكل خاص على كل من يحمل أفكارا ساذجة عن التطور، أسئلة تصعب الإجابة عليها؛ فإذا كان الإنسان الأول «البدائي» قادرا على إنتاج مثل هذه الأعمال الفنية الرفيعة والبعيدة عن البساطة، بما توفر لديه من أدوات حجرية وعظمية فجة، فإنه لم يكن بدائيا بالمعنى الفني والفكري، بل لا بد أنه قد وصل في هذه المجالات ذروة لم يتم تجاوزها منذ ذلك الوقت. وهذا ما يقودنا إلى القول بأن التطور الفني والعقلي لا يتماشى بالضرورة مع التطور المادي للحضارة. ولا شك بأن قبولنا بهذا الرأي من شأنه تغيير نظرتنا السائدة إلى التطور الإنساني باعتباره خطا صاعدا في طريق مستقيم.»
5
لقد أدت هذه الرؤيا الجديدة لمسألة «البدائية» إلى إعادة النظر في المصطلح نفسه، ومحاولة استبدال مصطلح بديل به لا يوحي بفكرة التدني من الناحية التطورية، فاقترح بعض الباحثين مصطلح «الجماعات اللاكتابية» بدل «الجماعات البدائية»، واقترح آخرون «الجماعات الإثنية» أو «الجماعات الوطنية» وغيرها. ولكن مثل هذه المصطلحات الجديدة ما زالت موضع جدال بين العلماء، ولم يكتب لواحد منها حتى الآن الاستمرار والانتشار؛ ولذا فإنني سوف أحافظ هنا، ولأغراض هذا البحث، على مصطلح «البدائي» و«البدائية» بعد أن استبعدت المعاني السلبية التي ارتبطت به، وأشرت بما يكفي إلى الخصائص الإيجابية للثقافات التي تعودنا استخدام هذا المصطلح في وصفها. وقد أستخدم أيضا مصطلح «تقليدي» و«تقليدية»، وهو مصطلح انفرد به مؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد، دون أن يوافقه من الأنتروبولوجيين أحد. وملاءمة المصطلح لواقع الحال تأتي في رأيي من أن المجتمعات التي ندعوها «بدائية » هي مجتمعات محافظة إلى حد بعيد، وبطيئة النمو والتغيير إلى درجة تجعلها أشبه بالبؤرة الساكنة، مقارنة بالمجتمعات التي توضعت تاريخيا على الخط الرئيسي لاتجاه سير الحضارة، الذي انتهى بالمجتمع الصناعي الغربي الحديث. ولسوف أستخدم هذين المصطلحين حصرا للإشارة إلى هذه المجتمعات «البدائية» الحديثة والمعاصرة، والتي كانت موضوعا للدراسات الأنتربولوجية خلال القرن العشرين، أما الثقافات الأصلية لعصور ما قبل التاريخ، فسوف أطلق عليها اسم «ثقافات العصر الحجري»، وأميزها بشكل صارم عن الثقافات البدائية الحديثة، وهذا التمييز له في اعتباري كل مؤيد مشروع.
لقد اعتاد الأنتربولوجيون النظر إلى الثقافات البدائية الحديثة باعتبارها ممثلة لمجتمعات ما قبل التاريخ وأكثر شبها بها، وافترضوا أن الأنماط الثقافية البدائية القائمة اليوم (أو التي كانت قائمة إلى وقت قريب؛ لأن معظم المجتمعات البدائية قد تخطت بشكل أو آخر عتبة الحضارة الحديثة ولو من حيث الشكل فقط) تتطابق مع الأنماط الثقافية التي ميزت طفولة الجنس البشري، وأن البدائية الحديثة ليست إلا بقايا متحجرة من تلك العصور الغابرة. وبناء على هذا الافتراض أخذ الأنتروبولوجيون يعكسون معظم ما يجدونه لدى هذه الثقافات على المراحل الابتدائية للثقافة الإنسانية في عصورها الحجرية، في سعيهم للبحث عن البدايات والأصول. غير أن الدراسات المعمقة لفيض المعلومات التي تحصلت لدينا خلال القرن المنصرم، تظهر أن الثقافات البدائية ليست مستحاثات من العصر الحجري، بل هي ثقافات «تاريخية»، قد مرت بتاريخ لا يقل طولا عن تاريخ الشعوب المتمدنة، أوصلها إلى ما هي عليه الآن. ورغم بطء مسيرتها، فإن المجتمعات البدائية قد خضعت بالتأكيد إلى تغييرات جمة في اللغة والدين والعادات والتكنولوجيا، وتبادلت التأثير بشكل دائم مع بعضها ومع الثقافات «العليا»، بالغا ما بلغ من عزلتها؛ ولذا فإن مؤسساتها لا يمكن أن تعكس حقا المؤسسات الثقافية الأصلية. ولعل من دلائل التغيير الذي خضعت له المجتمعات البدائية، ذلك التعقيد الشديد الذي يميز بعض مؤسساتها، والذي لا يمكن مقارنته أحيانا بما لدى المجتمعات المتقدمة. فنظام القربى مثلا، لدى الأمريكيين من أهل المجتمع الصناعي المعقد، هو نظام شديد البساطة، ولا يقارن بنظام القربى الشديد التعقيد لدى سكان أستراليا الأصليين. وهناك أنظمة سياسية عالية التنظيم لدى بعض الشعوب الأفريقية، كما هو الحال في داهومي وأوغندا. وفيما يتعلق بالناحية الدينية، فإن تعقد الحياة الدينية لدى الثقافات البدائية لا يقارن أبدا بالحياة الدينية المسطحة لدى شعوب المجتمعات الصناعية الحديثة. يقول أحد الباحثين في الديانات الأفريقية: «إن الديانات الأفريقية التقليدية ليست أبدا ديانات بدائية؛ لأنها تجر وراءها آلاف السنين من التطور، شأنها في ذلك شأن غيرها. إنها ثمرة تفكير استمر قرونا مديدة، ونتاج تجارب أناس واجهوا قوى الطبيعة وجها لوجه. ويمكن للباحث أن يعثر في هذه الديانات على مؤثرات شرق أوسطية قديمة، منها على سبيل المثال الأسبوع ذو الأيام السبعة التي يحكم كلا منها أحد الكواكب السيارة السبعة.»
6
وفي الواقع، فلقد كان لدى رواد الأنتروبولوجيا الحديثة بعض الحق في توجههم إلى المجتمعات البدائية في معرض بحثهم عن الأصول والبدايات؛ وذلك بسبب قلة المعلومات التي كانت متوفرة حتى ذلك الوقت عن عصور ما قبل التاريخ. أما الآن، وبعد ازدياد معلوماتنا عن تلك العصور بما يكفي لأن تدرس بذاتها وبشكل مباشر، فإن الوثائق الجديدة المتوفرة لدينا هي التي يجب أن تستنطق وتستجوب أولا، في أي معرض للحديث عن طفولة الجنس الإنساني وثقافاته الأصلية، وبعد ذلك يمكن إجراء التقاطعات بين ما تعطيه هذه الوثائق من شهادات وبين معلوماتنا المباشرة عن المجتمعات البدائية. غير أن مما يؤسف له أن تزايد الوثائق المادية عن ثقافات العصر الحجري، قد رافقه أفول لنجم الأنتروبولوجيا النظرية ودراستها الطموحة ذات الطابع الشمولي، وتحول العلماء إلى الدراسات الميدانية ذات الطابع التفصيلي، والتي ينتج عنها تقارير ملأى بالمعلومات المدققة عن الحياة اليومية للجماعات المدروسة، كما غلب على هذه الدراسات توجهها إلى العلاقات والمظاهر المادية من دون الاهتمام بالوسط الفكري لتلك الجماعات. وهكذا لم تجد المعلومات المتزايدة عن ثقافات العصر الحجري الاهتمام الذي كانت ستلقاه لو أنها ظهرت قبل قرن من الآن؛ ففيما عدا الملاحظات التي يدونها علماء الآثار الذين يشعرون بضرورة وضع تفسيرات أولية للقاهم الأثرية في مواقع الإنسان القديم، وهي ملاحظات غير منتظمة في بنية شمولية، فإن الوسط الفكري للثقافات الأصلية لم يلق ما يستحقه من عناية واهتمام. ومع ذلك ينبغي أن نعترف بفضل عدد من الباحثين الذين قدموا مساهمات قيمة في محاولة فهم الحياة الروحية لثقافات العصور الحجرية، ومن أبرزهم لوروا غورهان في كتابه عن ديانات ما قبل التاريخ،
Page inconnue